زبده التفاسیر

اشارة

سرشناسه : کاشانی، فتح الله بن شکرالله، - ق 988

عنوان و نام پديدآور : زبده التفاسیر/ تالیف فتح الله بن شکرالله الکاشانی الشریف الکاشانی؛ تحقیق موسسه المعارف الاسلامیه

وضعيت ويراست : [ویرایش 2؟]

مشخصات نشر : قم: موسسه المعارف الاسلامیه، 1423ق. = 1381.

مشخصات ظاهری : ج 7

فروست : (بنیاد معارف اسلامی؛ 137، 138، 139، 140، 141، 142، 143)

شابک : 964-7777-02-7(دوره) ؛ 964-7777-03-5(ج.1) ؛ 964-7777-04-3(ج.2) ؛ 964-7777-05-1(ج.3) ؛ 964-7777-06-x(ج.4) ؛ 964-7777-07-8(ج.5) ؛ 964-7777-08-6(ج.6) ؛ 964-7777-09-4(ج.7)

وضعیت فهرست نویسی : فهرستنویسی قبلی

يادداشت : چاپ قبلی: بنیاد معارف اسلامی، 1378 (5 ج.)

يادداشت : عربی.

یادداشت : کتابنامه

موضوع : تفاسیر شیعه -- قرن ق 10

شناسه افزوده : بنیاد معارف اسلامی

رده بندی کنگره : BP96/5/ک 2ز2 1381

رده بندی دیویی : 297/1726

شماره کتابشناسی ملی : م 81-26543

مقدّمة التحقيق

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الحمد للّه ربّ العالمين، و الصلاة و السلام على سيّد المرسلين، محمّد و على آله الطيّبين الطاهرين.

التفسير في اللغة:

قال ابن منظور: «فسر الشي ء يفسره بالكسر، و يفسره بالضم، فسرا، و فسّره:

أبانه. و التفسير مثله. ابن الاعرابي.

التفسير و التأويل و المعنى واحد: و قوله عزّ و جلّ: وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً.

الفسر: كشف المغطّى.

و التفسير: كشف المراد عن اللفظ المشكل.

و التأويل: ردّ أحد المحتملين إلى ما يطابق الظاهر ...» «1».

و قال الراغب الأصفهاني: «الفسر: إظهار المعنى المعقول، و منه قيل لما ينبئ عنه البول: تفسرة، و سمّي بها قارورة الماء، و التفسير في المبالغة كالفسر.

و التفسير قد يقال فيما يختص بمفردات الألفاظ و غريبها، و فيما يختصّ بالتأويل، و لهذا يقال: تفسير الرؤيا و تأويلها.

قال عزّ و جلّ: وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً «2».

و قال الرازي: «الفسر: البيان» «3».

______________________________

(1) لسان العرب: مادة «فسر».

(2) معجم مفردات ألفاظ القرآن: مادة «فسر»، و الآية: 33 من سورة الفرقان.

(3) مختار الصحاح: مادة «الفسر».

زبدة التفاسير، مقدمة، ص: 6

التفسير في الاصطلاح:

و إذا فالتفسير في اللغة مأخوذ من الفسر: و هو: إظهار المعنى، و كشف الغطاء و البيان.

و منه التفسرة: و تعني ما يستدلّ بها على غيرها مما يرتبط بها. أي هي اسم لعملية الكشف عن الخفي بما هو ظاهر لوجود العلاقة بينهما.

و لفظ التفسير كغيره من الألفاظ التي أصبح لها معنى خاص في اصطلاح العلماء، فهو (التفسير) اسم لعلم من أهم العلوم و المعارف الاسلامية، و أكثرها أثرا في حياة الأمّة الفكرية و التشريعية و الاجتماعية و غيرها من مجالات الحياة.

و من استقراء التعاريف التي أوردها العلماء في كتبهم و تحديدهم لهوية هذا العلم و أهدافه، نجد التقارب بين معناه في الاصطلاح، و معناه في اللغة.

و قد عرّفه العلماء بعبارات يختلف بعضها عن بعض أحيانا، كما عرّفه البعض منهم بما عرّف به التأويل، فلم يفرّق

بينهما، بينما فرّق فريق آخر من العلماء بين التفسير و التأويل تفريقا حدّيا، بل و اعتبر بعضهم عدم التفريق بينهما جهلا بالتفسير و بعلوم القرآن.

و قال السيوطي ناقلا عن الراغب تعريفه للتفسير: «و قال الراغب: التفسير أعم من التأويل، و أكثر استعماله في الألفاظ و مفرداتها، و أكثر ما يستعمل التأويل في المعاني و الجمل، و أكثر ما يستعمل في الكتب الإلهية، و التفسير يستعمل فيها و في غيرها» «1».

و قال أبو طالب التغلبي: «التفسير بيان وضع اللفظ، إمّا حقيقة، أو مجازا، كتفسير الصراط بالطريق، و الصّيّب بالمطر، و التأويل تفسير باطن اللفظ؛ مأخوذ من

______________________________

(1) الإتقان في علوم القرآن 4: 167.

زبدة التفاسير، مقدمة، ص: 7

الأوّل، و هو الرجوع لعاقبة الأمر، فالتأويل إخبار عن حقيقة المراد، و التفسير إخبار عن دليل المراد، لأنّ اللفظ يكشف عن المراد، و الكاشف دليل؛ مثاله قوله تعالى:

إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ «1»، تفسيره أنّه من الرصد، يقال: رصدته رقبته، و المرصاد (مفعال) منه، و تأويله التحذير من التهاون بأمر اللّه و الغفلة عن الأهبة و الاستعداد للعرض عليه؛ و قواطع الأدلّة تقتضي بيان المراد منه، على خلاف وضع اللفظ في اللغة» «2».

و قال الأصبهاني في تفسيره: «اعلم أنّ التفسير في عرف العلماء: كشف معاني القرآن، و بيان المراد؛ أعم من أن يكون بحسب اللفظ المشكل و غيره، و بحسب المعنى الظاهر و غيره، و التأويل أكثره في الجمل، و التفسير إمّا أن يستعمل في غريب الألفاظ نحو البحيرة و السائبة و الوصيلة، أو في وجيز يتبين بشرح، نحو:

أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ «3»، و إمّا لكلام متضمّن لقصة لا يمكن تصويره إلّا بمعرفتها، كقوله: إِنَّمَا النَّسِي ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ «4»، و

قوله: وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها «5»» «6».

و قد عرّفه الشيخ أبو علي الفضل بن الحسن الطبرسي بقوله: «التفسير: كشف المراد عن اللفظ المشكل» «7».

و عرّفه السيّد أبو القاسم الخوئي بقوله: «التفسير هو إيضاح مراد اللّه تعالى من كتابه العزيز، فلا يجوز الاعتماد فيه على الظنون و الاستحسان، و لا على شي ء لم

______________________________

(1) سورة الفجر، الآية: 14.

(2) الإتقان في علوم القرآن 4: 167- 168.

(3) سورة البقرة، الآية: 43 و 83 و 110.

(4) سورة التوبة، الآية: 37.

(5) سورة البقرة، الآية: 189.

(6) الإتقان في علوم القرآن 4: 168.

(7) مجمع البيان: 1/ 39.

زبدة التفاسير، مقدمة، ص: 8

يثبت أنّه حجّة من طريق العقل، أو من طريق الشرع للنهي عن اتباع الظنّ، و حرمة إسناد شي ء إلى اللّه بغير إذنه» «1».

أمّا الشهيد الصدر فقد عرّف التفسير بقوله: «فتفسير الكلام- أي كلام- معناه الكشف عن مدلوله، و بيان معناه الذي يشير إليه اللفظ» «2».

و بعد أن عرّف الشهيد الصدر التفسير عرض اتجاهين لتعريف التفسير و تحديد دلالته.

الاتجاه الأوّل: و هو الاتجاه السائد عند الأصوليين الذي لخصه بقوله رحمه اللّه:

«... و بتعبير آخر أن من أظهر معنى اللفظ يكون قد فسّره، و أمّا حيث يكون المعنى ظاهرا و متبادرا بطبيعته، فلا إظهار و لا تفسير.

و سيرا مع هذا الاتجاه، لا يكون التفسير إلّا اظهار أحد محتملات اللفظ، و إثبات أنّه هو المعنى المراد، أو إظهار المعنى الخفي غير المتبادر، و إثبات أنّه هو المعنى المراد، بدلا من المعنى الظاهر المتبادر، و أما ذكر المعنى الظاهر المتبادر من اللفظ، فلا يكون تفسيرا.

و هذا الرأي يمثّل الرأي السائد عند الأصوليين» «3».

أمّا الرأي الثاني فهو الرأي الذي تبناه هو رحمه اللّه

بقوله: «و لكن الصحيح: هو أن ذكر المعنى الظاهر قد يكون في بعض الحالات تفسيرا أيضا، و إظهارا لأمر خفي، كما أنّه في بعض الحالات الاخرى لا يكون تفسيرا؛ لأنّه يفقد عنصر الخفاء و الغموض، فلا يكون إظهارا لأمر خفي أو إزالة لغموض» «4».

و بعد هذا العرض لمفهوم التفسير، و تعريفه في اللغة و الاصطلاح يتضح لنا

______________________________

(1) البيان في تفسير القرآن: 421.

(2) علوم القرآن: 66.

(3) علوم القرآن: 66- 67.

(4) علوم القرآن: 67.

زبدة التفاسير، مقدمة، ص: 9

معنى التفسير و أهمّيته في الفكر الاسلامي، فهو عبارة عن بيان المحتوى القرآني الذي يحتاج إلى بيان، و كشف المراد منه، سواء أ كان ذلك بيان معنى لمفردة لفظية أو جملة.

و بيان المحتوى القرآني و مراد اللّه تعالى من كتابه، مسألة من أهم المسائل، و أكثرها أثرا في حياة الامّة الاسلامية.

تحدّث الوحي عن مسألة البيان القرآني بقوله: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ* ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ «1»، و بقوله: ... وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ «2».

و هكذا يوضّح القرآن أن بيان ما كان غامضا من القرآن، لا يتضح إلّا ببيان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و هو من مهامه، و أنّ اللّه سبحانه قد بيّنه له، و كشف غوامضه.

قال الشيخ الطوسي في تفسيره لقوله تعالى: ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ

«و البيان إظهار المعنى للنفس بما يتميّز به من غيره، بان الشي ء يبين، إذا ظهر، و أبانه غيره، أي أظهره بيانا و إبانة، و نقيض البيان الإخفاء و الإغماض.

و قال قتادة: ثمّ إنّ علينا بيانه، معناه: إنّا نبيّن لك معناه إذا حفظته» «3».

مناهج التفسير:

للمفسّرين ثلاث مناهج في تفسير القرآن

الكريم، هي ما يلي:

الأوّل: تفسير القرآن بالمأثور فقط. فقد ذهب عدّة من المفسّرين إلى أنّه

______________________________

(1) القيامة: 17- 19.

(2) النحل: 44.

(3) التبيان 1: 196- 197.

زبدة التفاسير، مقدمة، ص: 10

ليس باستطاعتنا الوصول إلى كنه معاني آيات القرآن، لأنّ في القرآن محكما و متشابها، و خاصّا و عامّا، و مطلقا و مقيّدا، و نصّا و ظاهرا، و ظاهرا و باطنا. فأنّى للعقل البشريّ الناقص استكناه مغزى الآيات القرآنيّة؟ و ليس أبعد من عقول الرجال من تفسير القرآن، كما جاء في الرواية. و أنّ تعيين معنى بالضبط لآية من آي القرآن، و أنّه مراد للّه عزّ و جلّ، بحاجة إلى دليل و حجّة شرعيّة، و أنّى لنا ذلك؟

فالواجب إذن تفسير القرآن بالأحاديث المأثورة من دون اعتماد على العقل و مستنبطاته. و من هؤلاء العلّامة المحدّث السيّد هاشم البحراني قدّس سرّه في تفسيره البرهان، و السيوطي في تفسيره الدرّ المنثور.

الثاني: التفسير بالرأي. و هو تفسير القرآن اعتمادا على العقل و ما يتوصّل إليه الفكر البشري في توضيح آية و تفسيرها، مستعينا في ذلك بالقرائن و الشواهد و ملابسات الآية. و كان هذا دأب عدّة من المفسّرين في صدر الإسلام.

و قد أثار هذا النوع من التفسير النقاش الحادّ آنذاك، فبين مسوّغ له لا يراه ممنوعا منه شرعا، و بين منكر له يراه غير مسموح به شرعا، و أنّه يؤول إلى تفسير كلام اللّه تعالى بما لا يحرز رضاه به. و في الروايات المنع الأكيد و النهي الشديد عنه،

فقد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: «من فسّر القرآن برأيه فليتبوّأ مقعده من النار» «1».

الثالث: تفسير القرآن بالقرآن. و في هذا النوع من التفسير يستعين المفسّر في شرح آية و

تفسيرها بآية اخرى مشابهة لها في الحكم و الملابسات، لكنّها أكثر وضوحا و شمولا من الاولى. و هذا من باب تطبيق الأشباه و النظائر بعضها على بعض. خذ لذلك مثالا:

قال تعالى: نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ

______________________________

(1) إتحاف السادة المتّقين 1: 257، و 4: 526.

زبدة التفاسير، مقدمة، ص: 11

وَ الْإِنْجِيلَ مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَ أَنْزَلَ الْفُرْقانَ «1». فقوله تعالى: لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يفسّره قوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً إلى قوله: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ ... «2». أي: أنّ ما بين يديه هو التوراة و الإنجيل.

من يفسّر القرآن؟

إن الحديث عن منهج التفسير في مدرسة أهل البيت، و الطرق و الأساليب التي توصل إلى معرفة القرآن، و الكشف عن معانيه، يقودنا إلى مسألة مهمة و أساسية تتعلّق بفهم القرآن، و اكتشاف معانيه السامية و أحكامه العظيمة في مختلف المجالات الفكرية و التشريعية و التربوية و غيرها، و هذه المسألة هي: «من المخوّل بفهم القرآن و تفسيره؟».

و للجواب عن هذا السؤال، نعرض أهم النظريات التي تحدّث عن ذلك:

1- النظرية التي ترى أنّ القرآن لا يفسره إلّا الرسول صلّى اللّه عليه و آله باعتباره المخاطب به، و هو وحده يدرك ما فيه من معان و مضامين، و هو مذهب الحشوية و المجبّرة، كما ذكر الشيخ الطوسي ذلك.

2- النظرية القائلة أنّ القرآن لا يفسّره إلّا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و الأئمّة من أهل البيت عليهم السّلام باعتبارهم هم الحجّة على الخلق بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله، و وفق هاتين النظريتين يتوقّف دور العقل و الاجتهاد في فهم القرآن.

3- النظرية التي تذهب

إلى أن القرآن خطاب عربي مبين، و أن كلّ من عرف

______________________________

(1) آل عمران: 3.

(2) المائدة: 44- 47.

زبدة التفاسير، مقدمة، ص: 12

لغة العرب يستطيع أن يفهم القرآن.

4- النظرية التي تذهب إلى أن القرآن خطاب إلهي موجه إلى البشرية جميعها، بلغة عربية فصيحة، و بالاعتماد على العنصر اللغوي و أدوات علمية اخرى نستطيع أن نفهم القرآن وفق ظهوره اللغوي، كما نستطيع أن نستنبط الكثير من معانيه عن طريق العقل و التدبر، غير أنّ هناك بعض المعاني و المفاهيم التي يحتاج الناس في بيانها إلى الرسول صلّى اللّه عليه و آله أو الإمام الذي ورث علوم الرسول صلّى اللّه عليه و آله فلا بدّ فيها من الرجوع إليه؛ فهو المرجع من بعده و أنّ بيانه هو الحجة عند الخلاف في فهم القرآن، و بذا يكون فهم القرآن و الاستنباط منه عملا علميا جائزا لغير النبي و الإمام صلوات اللّه عليهما، إذا كان قد توفرت لديه الوسائل العلمية التي تؤهله لفهم القرآن، و هذه النظرية هي النظرية العلمية السائدة لدى مفسري و فقهاء الشيعة الإمامية، و في ذلك تحدّث الشيخ الطوسي مبينا بطلان النظريات الاولى و الثانية و الثالثة، و إثبات النظرية الرابعة، و قد صرّح بذلك عند تفسيره الآية الكريمة: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً «1».

قال: هذه الآية الكريمة تدلّ على أشياء:

أحدها: على بطلان التقليد، و صحة الاستدلال في اصول الدين لأنّه حثّ و دعاء إلى التدبر، و ذلك لا يكون إلّا بالفكر و النظر.

الثاني: يدلّ على فساد مذهب من زعم أن القرآن لا يفهم معناه إلّا بتفسير الرسول صلّى اللّه عليه و آله من الحشوية و

المجبّرة؛ لأنّه تعالى حثّ على تدبره ليعملوا به. «2»

______________________________

(1) النساء: 82.

(2) التبيان في تفسير القرآن 3: 270.

زبدة التفاسير، مقدمة، ص: 13

و نخلص من دراسة هذا الرأي و غيره «1»، أنّ المنهج الشيعي الإمامي في التفسير يثبّت مبدأ أن القرآن يمكن أن يفسّره غير النبي أو الإمام، يفسر ما لم يرد فيه بيان من النبي صلّى اللّه عليه و آله أو الإمام عليه السّلام من بعده، و أن المأثور الثابت الصحة هو المرجع و المقياس في التفسير و التأويل.

هذه خلاصة ما أردنا توضيحه في هذه العجالة، و هي إشارة عابرة إلى بعض ما يتعلّق بالتفسير من المسائل المطروحة قديما و حديثا، و تحقيق هذه المسائل و دراستها علميّا بحاجة إلى تفصيل لسنا بصدده فعلا. و المطالع الكريم يمكنه الاستزادة في ذلك بمراجعة ما كتب حول هذا الموضوع مبسوطا.

______________________________

(1) كرأي الشهيد محمد باقر الصدر في دروسه الاصولية. انظر: دروس في علم الأصول:

المجلد الأوّل، الحلقة الثانية، الدليل الشرعي 216.

زبدة التفاسير، مقدمة، ص: 14

ترجمة المؤلّف

اسمه

المولى فتح اللّه بن المولى شكر اللّه الشريف الكاشاني «1».

ولادته و نشأته

لم يذكر محلّ ولادته و لا تاريخها، و لا كيفيّة نشوئه، و لكن الظنّ الغالب- بقرينة أنّه من مدينة كاشان، و مقبرته أيضا في هذا البلد- أنّه ولد في كاشان، و نشأ فيها أيضا.

و الجدير بالذكر أنّه قدّس سرّه كان حييّا جدّا، متعفّفا عمّا في أيدي الأثرياء و ذوي المناصب العظيمة و الجاه الكبير، زاهدا، ورعا. و لم يكن حريصا على حطام الدنيا، و لا من الّذين يتحذلقون في الكلام، و يتملّقون و يتشدّقون بأفواههم في مدح الظّلام، و الفسقة و اللئام، طمعا في أخذ الصلات و الجوائز. و ذكر في لباب الألقاب «2» أنّ هذا هو السبب الأصلي في عدم اشتهار المؤلّف بين عامّة النّاس، و خفاء ذكره.

الإطراء و الثناء عليه

1- قال العلّامة الخبير الميرزا عبد اللّه أفندي الأصفهاني- من أعلام القرن الثاني عشر- في كتابه رياض العلماء «3»: فاضل نبيل، و عالم كامل جليل، فقيه،

______________________________

(1) نسبة إلى مدينة كاشان- معرّبها: قاسان-، من المدن القديمة الواقعة في وسط إيران.

و أهلها شيعة إماميّة- كمدينة قم و سبزوار و طبرستان- منذ أقدم الأيّام.

(2) ص: 81.

(3). 4: 318.

زبدة التفاسير، مقدمة، ص: 15

متكلّم، مفسّر، نبيه. و هو من علماء دولة السلطان شاه طهماسب الصفوي و من بعده أيضا من الملوك الصفويّة، و كان من تلامذة علي بن الحسن الزواري «1» المفسّر المشهور، و يروي عن الشيخ علي الكركي بتوسّطه، و له مؤلّفات جياد سيّما في التفسير، فإنّ له فيه يدا طولى.

2- قال السيّد محسن الأمين العاملي رضى اللّه عنه في أعيان الشيعة «2»: محدّث، جليل، مفسّر، فاضل، من علماء دولة الشاه طهماسب الصفوي، و تلاميذ عليّ بن الحسن الزواري.

3- قال عمر رضا كحّالة في معجم المؤلّفين «3»: محدّث، مؤرّخ، فقيه،

مفسّر، أخذ عن ابن الحسن الزواري.

4- قال عادل نويهض في معجم المفسّرين «4»: مفسّر، محدّث، له اشتغال بالتاريخ، من فقهاء الشيعة الإماميّة.

5- قال الشيخ عبّاس القمّي رحمه اللّه في الفوائد الرضويّة «5»- بتعريبنا-: محدّث كامل، عالم جليل، مفسّر، فاضل، شارح كتاب نهج البلاغة، و الاحتجاج للطبرسي ...

6- قال الملّا حبيب اللّه الكاشاني في لباب الألقاب «6»: تشهد مؤلّفاته بأنّه كان: عالما، فاضلا، جامعا للمعقول و المنقول، و فقيها كاملا في اللغات و الأدبيّات و الأصول.

______________________________

(1) عالم، فاضل، مفسّر، له مؤلّفات، منها: تفسير القرآن بالفارسيّة، و شرح نهج البلاغة، و ترجمة كشف الغمّة فرغ منها سنة 938 ه، و غيرها. انظر الفوائد الرضويّة: 275.

(2). 8: 393.

(3). 8: 51.

(4). 1: 417.

(5) ص 345.

(6) ص 81.

زبدة التفاسير، مقدمة، ص: 16

مشايخه و تلاميذه

قال الشيخ آقا بزرگ الطهراني في طبقات أعلام الشيعة «1»: هو تلميذ المفسّر الجليل أبي الحسن عليّ بن الحسن الزواري الّذي كان تلميذ المحقّق الكركي «2».

و يروي أيضا عن ضياء الدين محمد بن محمود، عن المقدّس الأردبيلي، كما ذكره الحسين بن حيدر بن قمر المجاز عن الشاه مرتضى في 1005 ه. يروي عنه الشاه مرتضى بن الشاه محمود الكاشاني والد المحقّق الفيض ... انتهى.

و المحقّق الأردبيلي قدّس سرّه توفّي عام 993 ه، أي: بعد المؤلّف بخمسة أعوام.

مؤلّفاته و آثاره القيّمة

للمترجم له عدّة مؤلّفات في التفسير و غيره، نذكرها فيما يلي:

1- ترجمة القرآن بالفارسيّة، قال في الذريعة: «ترجمة القرآن بالفارسيّة للمفسّر المولى فتح اللّه بن شكر اللّه الكاشاني، و هذه الترجمة قد كتبت على هامش القرآن» «3».

2- تنبيه الغافلين و تذكرة العارفين. شرح نهج البلاغة باللغة الفارسيّة. هكذا

______________________________

(1) أعلام القرن العاشر: 177.

(2) هو: نور الدين عليّ بن عبد العالي، مروّج المذهب و الملّة، و شيخ المشايخ الأجلّة، محيي مراسم المذهب الأنور، شيخ الطائفة في زمانه، و علّامة عصره و أوانه، العالم الربّاني، و الفقيه الصمداني. مؤلّفاته: جامع المقاصد في شرح القواعد، الرسالة الجعفريّة، صيغ العقود و الإيقاعات، نفحات اللاهوت في لعن الجبت و الطاغوت، شرح الشرائع، شرح الألفيّة، رسائل في الرضاع و الخراج و أقسام الأرضين. توفّي في يوم الغدير سنة 940 ه.

(3) الذريعة 4: 127 رقم (603)

زبدة التفاسير، مقدمة، ص: 17

ذكره في الروضات «1» و كشف الحجب «2» و لباب الألقاب «3» و الذريعة «4»، و ذكر السيّد محسن الأمين العاملي «5» رحمه اللّه في ثبت مؤلّفاته شرح نهج البلاغة، و تنبيه الغافلين و تذكرة العارفين على حدة. و كذا ذكر في هديّة العارفين «6» و معجم

المؤلّفين «7».

و في الذريعة أنّ الكتاب طبع بطهران سنة (1313 ه) مع فهرس لطيف. و أوّل الشرح: الحمد للّه الّذي هدانا لهذا و ما كنّا لنهتدي لولا أن هدانا اللّه.

3- خلاصة المنهج. مختصر من منهج الصادقين، فارسيّ كأصله.

و في الذريعة «8» أنّه طبع في سنة (1275 ه)، و أنّ نسخته موجودة في الخزانة الرضويّة و غيرها.

4- زبدة التفاسير. و هو هذا الكتاب الّذي بين يديك، نزفّه إلى المكتبة الإسلاميّة و تراثها العلميّ الزخّار، و سيأتيك الكلام عنه.

5- شرح الاحتجاج للطبرسي رحمه اللّه. قال في الذريعة: «كشف الاحتجاج في ترجمة احتجاج الطبرسي، للمولى الأديب المفسّر الملّا فتح اللّه بن شكر اللّه القاساني، المتوفّى 988، كتبه للشاه طهماسب الصفوي، فارسيّ سلس، أوّله:

افتتاح اين مقال همايون فال عديم المثال، كه حسن فصاحت و جمال بلاغتش بزيور بدايع مناقب آل أطهار ...» «9».

______________________________

(1) روضات الجنّات 5: 345.

(2) كشف الحجب: 358 رقم (2014). و في ص: 143 رقم (710) انّه ترجمة نهج البلاغة.

(3) لباب الألقاب: 81.

(4) الذريعة: 4: 447 رقم (1992)

(5) أعيان الشيعة 8: 393.

(6) هديّة العارفين 1: 815.

(7) معجم المؤلّفين 8: 51.

(8) الذريعة 7: 233 رقم (1130)

(9) الذريعة 18: 7 رقم (416)

زبدة التفاسير، مقدمة، ص: 18

6- منهج الصادقين في إلزام المخالفين. ذكر في الذريعة «1»: أنّ اسم الكتاب:

منهج الصادقين في تفسير القرآن المبين و إلزام المخالفين، و أنّه مطبوع، و ذكر في خطبته أنّه أورد كثيرا من الأخبار العامّة إلزاما لهم. و قد فرغ من بعض أجزائه- يعني: سورة الأنفال- سنة أربع و ثمانين و تسعمائة.

و في الروضات: «تفسير كبير مشهور بالفارسيّة، يقرب من مائة و سبعين ألف بيت، بل يدخل في حيّز مائة و ثمانين كما نقل عن

تصريح مؤلّف الكتاب، و وضعه في خمس مجلّدات، قد تعرّض فيه لحجج كلّ طائفة من الآيات القرآنيّة، و أورد فيه النكات العربيّة و نحوها أيضا، جيّدة الفوائد».

و هذا الكتاب من أهمّ مؤلّفات المترجم له، و طبع مرّات عديدة، منها الطبعة الحديثة في عشرة أجزاء. و هو تفسير جيّد لطيف، مشهور لدى المتكلّمين باللغة الفارسيّة، يستفيد منه العلماء و عامّة الناس.

و هذه مؤلّفات المترجم له في تفسير القرآن الكريم. و هو يدلّ على عناية اللّه تعالى بشأن المترجم له و توفيقه إيّاه لكتابة هذه الكثرة في التفسير. و إن دلّ هذا على شي ء فإنّما يدلّ على مدى اهتمامه بالكتاب الكريم، و عمله الجادّ، و مثابرته العظيمة في هذا المضمار.

هذا ما وصل إلينا من مؤلّفات المترجم له قدّس سرّه و ذكره أصحاب المعاجم.

أضف إلى ذلك أنّه رحمه اللّه استنسخ كتاب الاستبصار للشيخ الطوسي قدّس سرّه تامّا مع مشيخته، و فرغ من كتابته في ثامن شعبان سنة 973، كما في طبقات أعلام الشيعة «2».

______________________________

(1) الذريعة 23: 193 رقم (8605)

(2) طبقات أعلام الشيعة- أعلام القرن العاشر-: 177.

زبدة التفاسير، مقدمة، ص: 19

وفاته و مدفنه

توفّي رحمه اللّه في عام 988 ه، كما ذكرت ذلك غالبيّة المصادر الّتي ترجمت له، عدا الكنتوري في كشف الحجب و الأستار «1»، و كذا في مشيخة السيّد حسين بن حيدر بن قمر الكركي فقد ذكر فيها أنّه توفّي سنة 997 ه.

و دفن خارج بلد كاشان- كما في لباب الألقاب-.

و رثاه بعضهم بقطعة مليحة في تاريخ وفاته بالفارسيّة، و هي:

مفتي دين متين كاشف قرآن مبين واقف سرّ قدر عالم أسرار قضا

هادي وادي تفسير كه در حلّ كلام خاطرش بود ز اسرار يقين پرده گشا

ملكي ذات و فلك مرتبة

فتح الإسلام كه بد از قوّت أو رأيت إسلام بپا

قدوه أهل فقاهت كه بمصباح دروس همه را بود بارشاد بحقّ راهنما

كرد پرواز بشهباز سبك جنبش عزم دل وسعت طلبش تا كه از اين تنگ فضا

فقها را چه ملاذى بجز آن قدوه نبودبهر تاريخ نوشتند ملاذ الفقها

و «ملاذ الفقهاء» يطابق 988 بحساب الحروف الأبجديّة، و هو تاريخ وفاته رضى اللّه عنه فرحمه اللّه تعالي برحمته الواسعة، و تغمّده بمغفرته، و أفاض على تربته المقدّسة شآبيب الرحمة و الرضوان، و أنار مرقده بأنوار القرآن.

التعريف بالكتاب

تفسير ثمين، ألّفه رحمه اللّه بعد تفسيريه الفارسيّين؛ منهج الصادقين، و خلاصة المنهج.

و قد وفّقه اللّه سبحانه و تعالى أن يفسّر كلّ القرآن من أوّله إلى آخره، و فرغ

______________________________

(1) ص 208 رقم 1066. حين ذكره خلاصة المنهج للمؤلّف رحمه اللّه، و الجدير بالذكر أنّه لم يذكر زبدة التفاسير.

زبدة التفاسير، مقدمة، ص: 20

منه سنة 977 ه. و هو تفسير- في أغلب الموارد- بالمأثور، ينهج فيه نهج الشيخ الطوسي و الطبرسي قدّس سرّهما في تفسيريهما؛ التبيان، و مجمع البيان، فيذكر شأن نزول الآيات، و يردفه بروايات الخاصّة و العامّة الواردة في تفسير الآية، و قد ذكر رحمه اللّه في مقدّمته أنّه اعتمد على التفاسير الأربعة التالية:

1- التبيان للشيخ الطوسي.

2- مجمع البيان للطبرسي.

3- أنوار التنزيل للبيضاوي.

4- الكشّاف للزمخشري.

و ذكره الشيخ آقا بزرگ الطهراني في الذريعة 12: 23 رقم 135.

النسخة المعتمدة في التحقيق

اعتمدنا في عملنا على النسخ المخطوطة المحفوظة في خزانة مكتبة آية اللّه المرعشي النجفي رحمه اللّه في قم، و المودعة تحت الأرقام: 242، 289، 1652، 2175، و الّتي بمجموعها تمّ هذا التفسير الثمين.

تمّت كتابة النصف الأوّل منه في ثاني شهر صفر سنة 1070 ه على نسخة المؤلّف، و فرغ محمد بن نظام الدين المدعوّ ب «أمين» في العشر الأوّل من شعبان سنة 1073 ه من كتابة سورة مريم إلى آخر التفسير على نسخة المؤلّف أيضا.

أمّا المجلّد الثاني فقد كتبه حسن بن ميرزا بيك الرونجي و فرغ منه يوم الاثنين 14 محرّم سنة 1072 ه، و كتب عبد الوهّاب بن تاج الدين حسن بن شمس الدين النصف الثاني من الكتاب و فرغ منه يوم الثلاثاء 19 ذي الحجّة سنة 1171 ه.

و كان مجموع صفحات الكتاب 1520 صفحة، احتوت كلّ

صفحة على 26 سطرا بقياس 5/ 21 10 سم.

زبدة التفاسير، مقدمة، ص: 21

منهج التحقيق

إنّ أهمّ ما قمنا به في تحقيق هذا السفر يتلخّص في ثلاث نقاط:

1- استنساخ الكتاب من أوّله إلى آخره و من ثمّ مقابلته مع النسخ المخطوطة، و بعد ذلك قابلنا الكتاب مع أربعة تفاسير، هي: التبيان للشيخ الطوسي قدّس سرّه، مجمع البيان للطبرسي قدّس سرّه، الكشّاف للزمخشري، أنوار التنزيل للبيضاوي، و ذلك لأنّ المؤلّف رحمه اللّه ذكر في مقدّمة الكتاب أنّه اعتمد على هذه التفاسير و أنّه اختار منها ما استجوده. و ينقل غالبا عين عباراتها، و في بعض الأحيان يتصرّف فيها بتقديم و تأخير أو تلخيص، فرأينا من الأفضل مقابلتها عليها.

و كانت النسخة كثيرة الأغلاط جدّا، و فيها سقط كثير، و تحريف الكلمات و الألفاظ بما يشوّه قراءتها، و يلتبس الأمر على المطالع، فصحّحناها على تلك التفاسير، و ألحقنا السقط بمحلّه، و شواردها بأوابدها.

2- كلّ كلمة مستغلقة بحاجة إلى تفسير فسّرناها، و كلّ لفظة غير مأنوسة أيضا أوضحناها، و الأبيات الشعريّة الّتي استشهد بها المؤلّف رحمه اللّه، إن عثرنا على قائلها نسبناها إليه، و إن كانت بحاجة إلى توضيح أوضحناها. و البلدان و الأصقاع المذكورة في المتن أيضا ترجمناها. و القراءات المختلفة الّتي ذكرها المؤلّف مجملة بيّنّاها في الهامش، و غير ذلك من التعليقات و التهميشات الّتي يقف عليها المطالع الكريم إن شاء اللّه تعالى.

3- كلّ ما نسب المؤلّف رحمه اللّه كلاما إلى مصنّف، أو رواية إلى الجوامع الحديثيّة، أو نقل كلاما عن كتاب، أشرنا لمصدره في الهامش.

شكر و تقدير

نحمده تعالى غاية الحمد و نشكره أن منّ علينا بتحقيق هذا السفر القيّم

زبدة التفاسير، مقدمة، ص: 22

و طبعه و نشره، و لولا توفيقه سبحانه لما تيسّر لنا نشر العلوم الاسلاميّة و مفاهيم أهل البيت عليهم

السّلام.

و نشكر السادة الأفاضل الّذين بفضل جهودهم الشريفة خرج هذا الكتاب بحلّته القشيبة هذه، و نخصّ بالذكر منهم فضيلة العلّامة حجّة الإسلام و المسلمين الميرزا محمود الزنجاني حيث أخذ على عاتقه القسط الأوفر في تحقيق هذا الكتاب يعاضده الأساتذة: فارس حسّون كريم، محمود البدري، محمد آغا اوغلو.

و في الختام نسأل اللّه العليّ القدير أن يجعل عملنا هذا خالصا لوجهه الكريم.

السيّد إسماعيل المهري مؤسسة المعارف الاسلامية 20 جمادى الثانية 1423 ه. ق ذكرى ولادة الصدّيقة فاطمة الزهراء عليها السّلام

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 5

الجزء الأول

مقدمة مؤلف

اشارة

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

و به ثقتي و اعتمادي، و عليه توكّلي الحمد للّه الّذي نزّل «1» القرآن هدى للناس و بيّنات، و تبيانا لكلّ شي ء و كشّافا للمعضلات، و مجمعا لبيان الأصول الدينيّة و جامعا لفروع الشرعيّات، و وسيلة إلى الفوز بأرفع الدرجات في روضات الجنّات، و نجاة عن المهالك في نيران الدركات.

و الصلاة و السلام على رسله الهادين و أنبيائه المرسلين أفضل الصلوات و أكمل التسليمات، خصوصا على من ختم به النبوّة و الرسالة أعني الرسول الهاشمي التهامي و النبيّ المكّي الأمّيّ محمد سيّد الأنام و خير البريّات، و آله الّذين هم كشّاف المجملات و المتشابهات بصوائب التأويلات، بعد أن نصّوا بالإمامة بالبراهين المحكمات.

أمّا بعد، فيقول أصغر العباد جرما و أعظمهم جرما ابن شكر اللّه فتح اللّه الشريف غفر اللّه تعالى ذنوبهما، و ستر عيوبهما، بنبيّه النبيه المنيف، و وليّه الوليه العريف: إنّ أعظم العلوم قدرا، و أسناها شرفا، و أجلّها نفعا، علم تفسير القرآن، إذ هو إمام العلوم الدينيّة، و مأخذ القواعد الشرعيّة، و مبنى الأحكام الإلهيّة، من تصدّى للتكلّم فيه و تعاطى معانيه فاز بالسعادات السرمديّة، و المراتب

الأبديّة.

و قد روي عن قتادة في قوله عزّ و جلّ: وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً «2» قال: هو علم القرآن.

______________________________

(1) في هامش الخطّية: «اعلم أن التنزيل هو نزول الآي آنا فآنا، و الإنزال نزولها دفعة واحدة، و لهذا لم يقل: أنزل، مقام: نزّل. منه».

(2) البقرة: 269.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 6

و عن ابن مسعود أنّه قال: إذا أردتم العلم فأثيروا القرآن، فإنّ فيه علم الأوّلين و الآخرين.

و

عن رجاء بن حيوة قال: كنّا يوما أنا و أبي عند معاذ بن جبل، فقال: من هذا يا حيوة؟ فقال: هذا ابني رجاء. فقال معاذ: هل علّمته القرآن؟ قال: لا. قال: فعلّمه القرآن، فإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: ما من رجل علّم ولده القرآن إلّا توّج أبواه يوم القيامة بتاج الملك، و كسيا حلّتين لم ير الناس مثلهما، ثمّ ضرب بيده على كتفي فقال: يا بنيّ، إن استطعت أن تكسو أبويك يوم القيامة حلّتين فافعل.

و

صحّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم من رواية العامّ و الخاصّ أنّه قال: إنّي تارك فيكم ما إن تمسّكتم به لن تضلّوا: كتاب اللّه، و عترتي أهل بيتي، و إنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض.

و

روي عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه أنّه قال: من قال في القرآن بغير علم فليتبوّء مقعده من النار.

و غير ذلك من الأخبار الّتي دلّت على فضائله، و لعلّي أن أرقم بعضها في ضمن مقدّمة هذا التفسير.

و أنا بعد أن وفّقت لإتمام تفسير «منهج الصادقين» و تفسير «خلاصة المنهج» باللسان الأعجميّ على أحسن البيان، و أتمّ النظام، طالما أحدّث نفسي أن أثلّثهما بتفسير و سيط بالعربيّة الّتي

هي أفصح اللغات، ليستفيد العرب أيضا من معاني القرآن من غير ملال و كلال، و يكون ذلك سببا للغفران، و وسيلة إلى الفوز بالرضوان، إلّا أنّ قلّة بضاعتي يقعدني عن الإقدام، و يمنعني عن الانتصاب في هذا المقام، فبعد الاستخارة صممت عزمي على الشروع فيما قصدته، و الإتيان بما أردته، بعون اللّه و حسن توفيقه، و سمّيته «زبدة التفاسير»، و التقطت أكثره من «الكشّاف» و «أنوار التنزيل» و «مجمع البيان» و «جامع الجوامع».

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 7

و التزمت أن أكشف فيه عن وجوه اللغات و النكات و التركيبات قناعها، و أبيّن فيه أسباب نزول الآيات و ارتباطها، و ذكر فضائل السور و خواصّ الآي اللّاتي لها مزيّة شرف على الأخرى، و أذكر فيه من القراءات العشر المتواترة، و أوضح معانيه على نهج مذهب الأئمّة الهادين صلوات اللّه عليهم أجمعين، و أشير إلى بطلان مذاهب مخالفيهم الضالّين، و أدرج فيه مختصرا من القصص، و شرذمة من الأحاديث النبويّة، و الروايات المأثورة عن الأئمّة عليهم الصلوات و التحيّة، و ما توفيقي إلّا باللّه، عليه توكّلت و إليه أنيب.

و لنذكر قبل الشروع في التفسير و البيان مقدّمات لا بدّ من معرفتها لمن أراد الخوض في علم القرآن.

المقدّمة الاولى في عدد آي القرآن، و الفائدة في معرفتها

اعلم وفّقك اللّه تعالى أنّ عدد أهل الكوفة أصحّ الأعداد، و أعلاها اسنادا، لأنّه مأخوذ عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه، فنقتصر في هذا التفسير عليه.

و عدد أهل المدينة منسوب إلى أبي جعفر يزيد بن القعقاع القارئ، و شيبة بن نصاح، و إسماعيل بن جعفر. و أهل البصرة منسوب إلى عاصم بن أبي الصباح الجحدري، و أيّوب بن المتوكّل. و هما لا يختلفان إلّا في آية واحدة في «ص»:

فَالْحَقُّ وَ الْحَقَّ

أَقُولُ «1»، عدّها الجحدري، و تركها أيّوب. و أهل مكّة منسوب إلى مجاهد بن جبر، و إلى إسماعيل المكّي. و قيل: لا ينسب عددهم إلى أحد، و وجد

______________________________

(1) ص: 84.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 8

في مصاحفهم على رأس كلّ آية ثلاث نقط: ... و أهل الشام منسوب إلى عبد اللّه بن عامر.

و الفائدة في معرفة آي القرآن أنّ القارئ إذا عدّها بأصابعه كان أكثر ثوابا، لأنّه قد شغل يده بالقرآن مع قلبه و لسانه، و بالحريّ أن يشهد له يوم القيامة، فإنّها مسئولة.

و

قد ورد في الأسانيد الصحيحة أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال لبعض النساء حين التلاوة: اعقدن بالأنامل، فإنّهنّ مسئولات و مستنطقات. و كان أقرب إلى التحفّظ، فإنّ القارئ لا يأمن السهو.

و

قد روي عن عبد اللّه بن مسعود، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّه قال: تعاهدوا القرآن، فإنّه وحشيّ.

و قال حمزة بن حبيب- و هو أحد القرّاء السبعة-: العدد مسامير القرآن.

المقدّمة الثانية في ذكر أسامي القرّاء المشهورين في الأمصار

أمّا المدنيّ:

فأبو جعفر يزيد بن القعقاع، و ليس من السبعة. و ذكر أنّه قرأ على عبد اللّه بن عبّاس، و على مولاه عبد اللّه بن عيّاش بن أبي ربيعة المخزومي، و هما قرءا على أبيّ بن كعب، و قرأ أبيّ على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم. و له رواية واحدة.

و نافع بن عبد الرحمن، و قرأ على أبي جعفر، و منه تعلّم القرآن، و على شيبة ابن نصاح و على عبد الرحمن بن هرمز الأعرج، و هما قرءا على ابن عبّاس. و له ثلاث روايات؛ رواية ورش عثمان بن سعيد، و رواية قالون عيسى بن مينا، و رواية

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 9

إسماعيل بن

جعفر.

و أمّا المكّي: فهو عبد اللّه بن كثير لا غير، و هو قرأ على مجاهد، و قرأ مجاهد على ابن عبّاس. و له ثلاث روايات؛ رواية البزّي، و رواية ابن فليح، و رواية أبي الحسين القوّاس.

و إذا اجتمع أهل مكّة و المدينة قيل: حجازي.

و أمّا الكوفي:

فأوّلهم عاصم بن أبي النجود بهدلة، فإنّه قرأ على أبي عبد الرحمن السلمي، و هو قرأ على عليّ بن أبي طالب عليه السّلام. و له روايتان؛ رواية حفص بن سليمان البزّاز، و رواية أبي بكر بن عيّاش.

ثمّ حمزة بن حبيب الزيّات، فقرأ على جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام. و له سبع روايات؛ رواية العجلي عبد اللّه بن صالح، و رواية رجاء بن عيسى، و رواية حمّاد ابن أحمد، و رواية خلّاد بن خالد، و رواية أبي عمرو الدوري، و رواية محمد بن سعدان النحوي، و رواية خلف بن هشام.

ثمّ أبو الحسن عليّ بن حمزة الكسائي، فقرأ على حمزة. و له ستّ روايات؛ رواية قتيبة بن مهران، و رواية نصير بن يوسف النحوي، و رواية أبي الحارث، و رواية أبي حمدون الزاهد، و رواية حمدون بن ميمون الزجّاج، و رواية أبي عمرو الدوري.

ثمّ خلف بن هشام البزّاز، و ليس من السبعة.

و أمّا البصري: فأبو عمرو بن علاء. و له ثلاث روايات؛ رواية شجاع بن أبي نصير، و رواية العبّاس بن الفضل، و رواية اليزيدي يحيى بن المبارك.

و من البصرة: يعقوب بن إسحاق الحضرمي، و ليس من السبعة. و له ثلاث روايات؛ رواية روح و زيد و رويس.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 10

و إذا اجتمع أهل الكوفة و البصرة قيل: عراقي.

و أمّا الشامي: فهو عبد اللّه بن عامر اليحصبي لا غير «1»،

و هو قرأ على عثمان بن عفّان. و له روايتان؛ رواية ابن ذكوان، و رواية هشام بن عمّار.

المقدّمة الثالثة في أنّ القرآن كان على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم مجموعا مؤلّفا مرتّبا على ما هو عليه الآن

استدلّ على ذلك السيّد الأجلّ المرتضى علم الهدى أبو القاسم عليّ بن الحسين الموسوي قدّس سرّه في كتابه «الموضح عن وجه إعجاز القرآن» «2» بأنّ القرآن كان يدرس و يحفظ جميعه في ذلك الزمان، حتى عيّن جماعة من الصحابة في حفظهم له، و أنّه كان يعرض على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم و يتلى عليه، و أنّ جماعة من الصحابة مثل:

عبد اللّه بن مسعود، و أبيّ بن كعب، و غيرهما، ختموا القرآن على النبيّ عدّة ختمات، و كلّ ذلك يدلّ بأدنى تأمّل على أنّه كان مجموعا مرتّبا غير مبتور و لا مبثوث.

ثمّ قال قدّس سرّه: فمن خالف ذلك من الحشويّة و غيرهم لا يعتدّ بخلافهم، لإسناد قولهم إلى أخبار ضعيفة ظنّوا صحّتها، فلا يرجع إلى مثلها عن المعلوم المقطوع على صحّته.

______________________________

(1) في مجمع البيان (1: 12) ... لا غير و قرأ على المغيرة بن أبي شهاب المخزومي، و قرأ المغيرة على عثمان بن عفّان ...

(2) لم يطبع هذا الكتاب إلى الآن، و لم نجده ضمن مجموعة رسائل السيّد المرتضى «قدّس سرّه».

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 11

المقدّمة الرابعة في أنّ القرآن مصون عن الزيادة و النقصان

أمّا الزيادة فمجمع على بطلانه، و أمّا النقصان فيه فقد روى جماعة من أصحابنا و قوم من حشويّة العامّة أنّ في القرآن تغييرا و نقصانا، و الصحيح من مذهب أصحابنا خلافه، و هو الّذي نصره المرتضى علم الهدى قدّس سرّه، و استوفى فيه الكلام غاية الاستيفاء.

المقدّمة الخامسة في ذكر بعض ما جاء من الأخبار المشهورة في فضل القرآن و أهله

أنس بن مالك، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال: أهل القرآن هم أهل اللّه و خاصّته.

و

عنه أنّه قال صلّى اللّه عليه و آله و سلم: أفضل العبادة قراءة القرآن.

و

عنه أنّه قال صلّى اللّه عليه و آله و سلم: القرآن لا غنى دونه، و لا فقر بعده.

عبد اللّه بن عبّاس، عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال: أشراف امّتي حملة القرآن و أصحاب الليل.

عبد اللّه بن مسعود، عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلم و سلم قال: إنّ هذا القرآن مأدبة اللّه، فتعلّموا من مأدبته ما استطعتم. إنّ هذا القرآن حبل اللّه، و هو النور المبين، و الشفاء النافع، عصمة لمن تمسّك به، و نجاة لمن تبعه، لا يعوجّ فيقوّم، و لا يزيغ فيستعتب، و لا تنقضي عجائبه، و لا يخلق عن كثرة الردّ، فاتلوه فإنّ اللّه يأجركم على تلاوته بكلّ حرف عشر حسنات، أما إنّي لا أقول: الم و لكن «ألف» عشر، و «لام» عشر،

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 12

و «ميم» عشر.

الحارث بن الأعور، عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال في حديث طويل: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم يقول: إنّها ستكون فتن. قلت: فما المخرج منها يا رسول اللّه؟ قال:

كتاب اللّه، فيه خبر ما قبلكم، و نبأ ما بعدكم، و حكم ما بينكم، هو الفصل ليس بالهزل، هو

الّذي لا تزيغ به الأهواء، و لا تشبع منه العلماء، و لا يخلق عن كثرة ردّ، و لا تنقضي عجائبه، هو الّذي من تركه من جبّار قصمه اللّه، و من ابتغى الهدى في غيره أضلّه اللّه، هو الحبل المتين، و هو الصراط المستقيم، هو الّذي من عمل به اجر، و من حكم به عدل، و من دعا إليه دعا إلى صراط مستقيم.

عاصم بن ضمرة، عن عليّ عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: من قرأ القرآن حتى يستظهره و يحفظه أدخله اللّه الجنّة، و شفّعه في عشرة من أهل بيته كلّهم قد وجبت لهم النار.

عبد اللّه بن عمر، عنه عليه السّلام قال: يقال لصاحب القرآن: اقرأ و ارق، و رتّل كما كنت ترتّل في الدنيا، فإنّ منزلك عند آخر آية تقرؤها.

و

عنه أنّه قال صلّى اللّه عليه و آله: من قرأ القرآن فرأى أنّ أحدا اعطي أفضل ممّا اعطي فقد حقّر ما عظّمه اللّه، و عظّم ما حقّره اللّه.

و

عنه أنّه قال صلّى اللّه عليه و آله: من قرأ القرآن فكأنّما أدرجت النبوّة بين جنبيه إلّا أنّه لا يوحى إليه.

أبو سعيد الخدري، عنه عليه السّلام قال: حملة القرآن في الدنيا عرفاء أهل الجنّة يوم القيامة.

و

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: من دخل في الإسلام طائعا، و قرأ القرآن ظاهرا، فله في كلّ سنة مائتا دينار من بيت مال المسلمين، إن منع في الدنيا أخذها يوم القيامة وافية أحوج ما يكون إليها.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 13

و

عن البراء بن عازب، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: زيّنوا القرآن بأصواتكم.

قال حذيفة بن اليمان: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله: اقرؤا القرآن بلحون

العرب و أصواتها، و إيّاكم و لحون أهل الفسق و أهل الكتابين، و سيجي ء قوم من بعدي يرجّعون بالقرآن ترجيع الغناء و الرهبانيّة و النوح، لا يجاوز حناجرهم، مفتونة قلوبهم و قلوب الّذين يعجبهم شأنهم.

علقمة بن قيس، قال: كنت حسن الصوت بالقرآن، فكان عبد اللّه بن مسعود يرسل إليّ فأقرأ عليه، فإذا فرغت من قراءتي قال: زدنا من هذا فداك أبي و أمّي، فإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم يقول: إنّ حسن الصوت زينة للقرآن.

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله: إنّ لكلّ شي ء حلية، و حلية القرآن الصوت الحسن.

عبد الرحمن بن السائب، قال: قدم علينا سعد بن أبي وقّاص، فأتيته مسلّما عليه، فقال: مرحبا يا ابن أخي، بلغني أنّك حسن الصوت بالقرآن. قلت: نعم، و الحمد للّه. قال: فإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم يقول: إنّ القرآن نزل بالحزن، فإذا قرأتموه فابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا، و تغنّوا به، فمن لم يتغنّ بالقرآن فليس منّا.

و تأوّل بعضهم «تغنّوا به» بمعنى استغنوا به. و أكثر العلماء على أنّه تزيين الصوت و تحزينه.

إلى غير ذلك من الروايات المأثورة و الأحاديث المنقولة.

فالآن وقت الشروع بحمد اللّه و حسن توفيقه في إتمامه.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 15

(1) سورة فاتحة الكتاب

[سورة الفاتحة (1): الآيات 1 الى 7]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (1)

الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (3) مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ (4) إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ (5)

اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (6) صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَ لا الضَّالِّينَ (7)

مكّيّة عند عبد اللّه بن عبّاس و قتادة، و مدنيّة عند مجاهد. و قيل: أنزلت مرّتين: مرّة بمكّة، و مرّة بالمدينة.

سبع آيات بلا خلاف، إلّا أنّ قرّاء

أهل مكّة و الكوفة و فقهاءهما و ابن مالك و الشافعي عدّوا بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ آية من فاتحة الكتاب. و خالفهم قرّاء المدينة و البصرة و الشام و فقهاؤها و مالك و الأوزاعي. و لم ينصّ أبو حنيفة فيه بشي ء، فظنّ أنّها ليست من السورة عنده، فعدّوا أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ آية. و سئل محمد ابن الحسن عنها، فقال: ما بين الدفّتين كلام اللّه.

و لنا أحاديث كثيرة من العامّة و الخاصّة أنّها من السورة.

و منها: ما روي عن ابن عبّاس أنّه قال: من ترك بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 16

فقد ترك مائة و أربع عشرة آية من كتاب اللّه.

و روى أبو هريرة أنّه قال: فاتحة الكتاب سبع آيات، أولاهنّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

و

عن الصادق عليه السّلام أنّه سئل عن قوله تعالى: سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي «1» قال: هي سورة الحمد، و هي سبع آيات، منها: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

و

عن أمّ سلمة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم قرأ الفاتحة وعدّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ آية، و من أجلهما اختلف في أنّها آية برأسها أو بما بعدها.

و اتّفق أصحابنا كلّهم على أنّها آية من سورة الحمد و من كلّ سورة، و أنّ من تركها في الصلاة بطلت صلاته، سواء كانت فرضا أو نفلا، و أنّه يجب الجهر بها فيما يجهر فيه بالقراءة، و يستحبّ الجهر بها فيما يخافت فيه بالقراءة.

و في جميع ما ذكرناه خلاف بين فقهاء الامّة. و لا خلاف في أنّها بعض آية من سورة النمل «2». و كلّ من عدّها آية جعل من قوله: صِراطَ الَّذِينَ إلى آخر السورة آية، و من

لم يعدّها آية جعل صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ آية، و قال: إنّها افتتاح للتيمّن و التبرّك. كذا في المجمع «3».

و أيضا يؤيّد قولنا أنّ الوفاق ثبت بين جميع المسلمين على إثباتها في المصاحف، مع المبالغة في تجريد القرآن حتى لم يكتب: آمين.

و تسمّى: «فاتحة الكتاب»، لافتتاح المصحف بكتابتها.

و «امّ القرآن»، لأنّها مفتتحه و مبدؤه، فكأنّها أصله و منشؤه، و العرب تسمّي كلّ متقدّم لأمر إذا كانت له توابع تتبعه: امّا، و لذلك تسمّى أساسا. أو لأنّها تشتمل

______________________________

(1) الحجر: 87.

(2) النمل: 30.

(3) مجمع البيان 1: 18.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 17

على ما فيه من الثناء على اللّه، و التعبّد بأمره و نهيه، و وعده و وعيده، أو على جملة المعاني من الحكم النظريّة و الأحكام العمليّة الّتي هي سلوك الطريق المستقيم و الاطّلاع على مراتب السعداء و منازل الأشقياء. و لما روي عن ابن عبّاس أنّ لكلّ شي ء أساسا- و ساق الحديث إلى أن قال:- و أساس القرآن الفاتحة، و أساس الفاتحة بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

و «السبع المثاني»، لأنّها سبع آيات بلا خلاف، و تثنّى بقراءتها في كلّ صلاة فرض و نفل، و قيل: لأنّها نزلت مرّتين.

و «الوافية»، لأنّها لا تنصّف في الصلاة.

و «الكافية»، لأنّها تكفي عمّا سواها، و لا يكفي ما سواها عنها. و يؤيّد ذلك

رواية عبادة بن الصامت عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم: امّ القرآن عوض عن غيرها، و ليس غيرها عوضا عنها.

و «الشفاء»، لما

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم: فاتحة الكتاب شفاء من كلّ داء.

و «الصلاة»، لوجوب قراءتها في الصلاة المفروضة، و استحبابها في المندوبة. و لما

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و

آله و سلم قال: قال اللّه عزّ و جلّ: قسّمت الصلاة بيني و بين عبدي نصفين، فنصفها لي و نصفها لعبدي، فإذا قال العبد: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ يقول اللّه: حمدني عبدي. فإذا قال: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يقول اللّه: أثنى عليّ عبدي.

فإذا قال العبد: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ يقول اللّه عزّ و جلّ: مجّدني عبدي. فإذا قال: إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ قال: هذا بيني و بين عبدي، و لعبدي ما سأل. فإذا قال:

اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ ... إلخ، قال: هذا لعبدي، و لعبدي ما سأل. أورده مسلم ابن الحجّاج في الصحيح «1».

و سورة «الحمد و الشكر»، لاشتمالها عليهما.

______________________________

(1) صحيح مسلم 1: 296 ح 38.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 18

و «تعليم المسألة»، لأنّ اللّه تعالى علّم فيها عباده آداب السؤال، فبدأ بالثناء، ثمّ بالإخلاص، ثمّ بالدعاء.

عن أبي امامة، عن أبيّ بن كعب، قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: أيّما مسلم قرأ فاتحة الكتاب اعطي من الأجر كأنّما قرأ ثلثي القرآن، و اعطي من الأجر كأنّما تصدّق على كلّ مؤمن و مؤمنة.

و

في طريق آخر عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّه قال: كأنّما قرأ القرآن.

و

روى غيره، عن أبيّ بن كعب أنّه قال: قرأت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم فاتحة الكتاب، فقال: و الّذي نفسي بيده ما أنزل اللّه في التوراة، و لا في الإنجيل، و لا في الزبور، و لا في القرآن مثلها، هي امّ الكتاب، و هي السبع المثاني، و هي مقسومة بين اللّه و بين عبده، و لعبده ما سأل.

و

بإسناد محمد بن مسعود العيّاشي: عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّه قال لجابر

بن عبد اللّه الأنصاري: يا جابر، ألا اعلّمك أفضل سورة أنزلها اللّه تعالى في كتابه؟ قال: فقال له جابر: بلى، بأبي أنت و امّي يا رسول اللّه علّمنيها. قال: فعلّمه الحمد أمّ الكتاب، ثمّ قال: يا جابر، ألا أخبرك عنها؟ قال: بلى، بأبي أنت و امّي فأخبرني. قال: هي شفاء من كلّ داء إلّا السام. و السام: الموت «1».

و

عن سلمة بن محرز، عن جعفر بن محمد الصادق عليه السّلام قال: من لم يبرأه الحمد لم يبرأه شي ء.

و

روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: إنّ اللّه عزّ و جلّ قال لي:

يا محمد: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ «2». فأفرد الامتنان عليّ بفاتحة الكتاب، و جعلها بإزاء القرآن، و أنّ فاتحة الكتاب أشرف ما في كنوز

______________________________

(1) تفسير العيّاشي 1: 20 ح 9.

(2) الحجر: 87. زبدة التفاسير، ج 1، ص: 19

العرش، و أنّ اللّه خصّ محمدا، و شرّفه بها، و لم يشرك فيها أحدا من أنبيائه ما خلا سليمان عليه السّلام، فإنّه أعطاه منها بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ألا تراه يحكي عن بلقيس حين قالت: إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ «1». ألا فمن قرأها معتقدا لموالاة محمد و آله، منقادا لأمرها، مؤمنا بظاهرها و باطنها، أعطاه اللّه عزّ و جلّ بكلّ حرف منها حسنة، كلّ واحدة منها أفضل من الدنيا بما فيها من أصناف أموالها و خيراتها. و من استمع إلى قارئ يقرؤها كان له قدر ثلث ما للقارى ء، فليستكثر أحدكم من هذا الخير المعرّض له، فإنّه غنيمة لا يذهبنّ أوانه، فتبقى في قلوبكم الحسرة.

و

عن ابن

عبّاس: بينا نحن عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم إذا أتاه ملك فقال: أبشر بنورين أوتيتهما لم يؤتهما نبيّ قبلك: فاتحة الكتاب، و خواتيم سورة البقرة، لن تقرأ حرفا منهما إلّا أعطيته. و في رواية أخرى: لن يقرأ أحد حرفا منهما إلّا اعطي ثواب شهيد.

و

عن حذيفة بن اليمان أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال: إنّ القوم ليبعث اللّه عليهم العذاب حتما مقضيّا، فيقرأ صبيّ من صبيانهم في الكتاب: الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فيسمعه اللّه تعالى، فيرفع عنهم بذلك العذاب أربعين سنة.

و لمّا كان من آداب تلاوة القرآن، و وظائف قراءة الفرقان، أنّ القارئ إذا أراد أن يشرع في القراءة يستعيذ باللّه من الشيطان ليأمن من وسوسته أثناء القراءة، كما قال اللّه تعالى: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ «2». فينبغي أن يشار أوّلا إلى تبيين معنى الاستعاذة قبل الشروع في تفسير فاتحة الكتاب.

فاعلم أنّ القرّاء اتّفقوا على التلفّظ بالتعوّذ قبل التسمية، و اختلفوا في كيفيّته.

______________________________

(1) النمل: 29- 30.

(2) النحل: 98.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 20

فيقول ابن كثير و أبو عمرو: أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم. و نافع و ابن عامر و الكسائي: أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم، إنّ اللّه هو السميع العليم. و حمزة:

نستعيذ باللّه من الشيطان الرجيم. و أبو حاتم: أعوذ باللّه السميع العليم من الشيطان الرجيم.

فمعنى الاستعاذة: الاستجارة. و العوذ و العياذ: اللجأ. فمعنى أستعيذ:

أستجير، و معنى أعوذ: ألجأ.

و الشيطان في اللغة: هو كلّ متمرّد من الجنّ و الإنس و الدوابّ، و لذلك جاء في القرآن: شياطين الإنس و الجنّ. و وزنه فيعال من: شطنت الدار، أي: بعدت.

و قيل: هو فعلان من: شاط يشيط،

إذا بطل. و الأوّل أصحّ، لأنّه جاء في الشعر شاطن بمعناه، و لقولهم: تشيطن.

و الرجيم: فعيل بمعنى مفعول، من الرجم و هو الرمي.

و ملخّص معناها: أنّي أستجير باللّه، أو ألجأ إلى اللّه من شرّ الشيطان، أي:

البعيد من الخير، المفارق أخلاقه أخلاق جميع جنسه. و قيل: المبعد من رحمة اللّه.

و الرجيم أي: المطرود من السماء، المرميّ بالشهب الثاقبة. و قيل: المرجوم باللعنة.

إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ لجميع المسموعات الْعَلِيمُ بجميع المعلومات.

و روي عن ابن عبّاس أنّ اللّه سبحانه أمر رسوله بالاستعاذة أوّلا، ثمّ أمره أن يفتتح الكلام باسمه السامي على هذا الوجه.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الباء متعلّق بمحذوف تقديره: بسم اللّه أقرأ، لأنّ الّذي يتلوه مقروء، و كذلك يضمر كلّ فاعل ما يجعل التسمية مبدأ له، و ذلك أولى من أن يضمر «أبدأ»، لصريح دلالته على ما يشرع فيه. و الباء للاستعانة. و قيل:

للمصاحبة، و المعنى: متبرّكا باسم اللّه أقرأ، كالباء في قوله: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ «1»

______________________________

(1) المؤمنون: 20.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 21

أي: مع الدهن، و كذلك قول الداعي للمعرس: بالرفاء و البنين، معناه: أعرست ملتبسا بالرفاء و البنين.

و إنّما قدّر المحذوف متأخّرا لأنّهم يبتدؤن بالأهمّ عندهم، و يدلّ على ذلك قوله: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَ مُرْساها «1»، و قوله: إِيَّاكَ نَعْبُدُ فإنّه أهمّ و أدلّ على الاختصاص، و أدخل في التعظيم، و أوفق للوجود، لأنّ وجوده تعالى مقدّم على كلّ ما سواه، فينبغي أن يكون اسمه في اللفظ كذلك. و هذا و ما بعده إلى آخر السورة مقول على ألسنة العباد ليعلموا كيف يتبرّك باسمه، و يحمد على نعمه، و يسأل من فضله.

و إنّما كسرت الباء و من حقّ الحروف المفردة أن تفتح ك «واو» العطف لاختصاصها

بلزوم الحرفيّة و الجرّ، بخلاف الكاف و الواو و اللام «2»، فكسرت لمشابهتها بلام الأمر و لام الجرّ داخلة على المظهر في لزوم الحرفيّة، و إن كانت الفتحة أولى بهما، ليتميّز لام الأمر عن لام التأكيد، فإنّهما يدخلان المضارع، و لام التأكيد مفتوح على أصله. و لام الجرّ يدخل المظهر و المضمر، فإذا دخل على المظهر يكون مكسورا ليتميّز عن لام الابتداء، فإنّهما يدخلان المظهر، و مفتوحا إذا دخل على المضمر، لأنّ لام الجرّ يدخل على المضمر إذا كان متّصلا، و لام الابتداء يدخل على المضمر إذا كان منفصلا، فيتحصّل التمييز بين لام الجرّ و لام الابتداء في المضمر بنفس المضمر، و لا يحتاج إلى الكسر.

و إنّما قيل: بسم اللّه، و لم يقل: باللّه، لأنّ التبرّك و التيمّن و الاستعانة بذكر اسمه، أو للفرق بين اليمين و التيمّن.

و أصل الاسم «سمو» عند البصريّين، فهو من الأسماء الّتي حذفت أعجازها

______________________________

(1) هود: 41.

(2) أي: لام الابتداء.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 22

لكثرة الاستعمال، و بنيت أوائلها على السكون، و أدخل عليها مبتدأ بها همزة الوصل، لأنّ من دأبهم أن يبتدؤا بالمتحرّك و يقفوا على الساكن. و يشهد له تصريفه على: أسماء، و أسامي، و سمّى، و سمّيت. و مجي ء «سمى» ك «هدى» لغة فيه.

و القلب بعيد غير مطّرد. و اشتقاقه من «السموّ» لأنّه رفعة للمسمّى و شعار له. و من «السّمة» عند الكوفيّين. و أصله: و سم، حذفت الواو و عوّضت عنها همزة الوصل ليقلّ إعلاله. و ردّ: بأنّ الهمزة لم تعهد داخلة على ما حذف صدره في كلامهم. و في لغاته: سم و سم.

و الاسم غير المسمّى، لأنّه يتألّف من أصوات متقطّعة غير قارّة، و يختلف باختلاف الأمم

و الأعصار كالعربيّ القديم و الجديد، و يتعدّد تارة كالألفاظ المترادفة، و يتّحد أخرى كالأسماء المشتركة، و المسمّى لا يكون كذلك.

و لم يكتب الألف على ما هو وضع الخطّ لكثرة الاستعمال. و طوّلت الباء عوضا عنها. و عن عمر بن عبد العزيز أنّه قال لكاتبه: طوّل الباء، و أظهر السينات، و دوّر الميم.

و «اللّه» أصله إله، فحذفت الهمزة و عوّض عنها حرف التعريف، و لذا قيل في النداء: يا اللّه بقطع الهمزة، كما يقال: يا إله، إلّا أنّه مختصّ بالمعبود بالحقّ، فإنّ الإله في أصله لكلّ معبود ثمّ غلب على المعبود بحقّ. و معناه: أنّه الّذي يحقّ له العبادة لا غير.

و اشتقاقه من أله إلاهة و الوهة و الوهيّة، بمعنى عبد، و منه: تألّه، أي: صار إلها، و استأله أي: استعبد.

و قيل: من أله إذا تحيّر، إذ العقول تتحيّر في معرفته. و أصله: ولاه، فقلبت الواو همزة لاستثقال الكسر عليها. أو من: ألهت إلى فلان، أي: سكنت إليه، لأنّ القلوب تطمئنّ بذكره، و الأرواح تسكن إلى معرفته. أو من: أله، إذا فرغ من أمر نزل

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 23

عليه. و آلهه غيره: أجاره، إذ العائذ يفزع إليه و هو يجيره. أو من: أله الفصيل، إذا أولع بامّه، إذ العباد مولعون بالتضرّع إليه في الشدائد.

و قيل: أصله: لاه، مصدر: لاه يليه ليها ولاها، إذا احتجب و ارتفع، لأنّه تعالى محجوب عن إدراك البصر، و مرتفع على كلّ شي ء و عمّا لا يليق.

و قيل: إله ك: إعاء و إشاح، فإنّ أصلهما وعاء و وشاح. و يردّه الجمع على آلهة دون أولهة.

و قيل: هو اسم غير صفة، لأنّك تصفه فتقول: إله واحد، و لا تصف به فلا

تقول: شي ء إله. و الأظهر أنّه وصف في أصله، لكنّه لمّا غلب عليه بحيث لا يستعمل في غيره و صار كالعلم- مثل الثريّا و الصعق- اجري مجراه في إجراء الوصف عليه، و امتناع الوصف به.

و قيل: أصله «لولاها» بالسريانيّة، فعرّب بحذف الألف الأخيرة و إدخال اللام عليه، و فخّم لامه إذا انفتح أو انضمّ ما قبله. و حذف ألفه لحن.

و «الرحمن» فعلان من: رحم، كغضبان من: غضب. و الرحيم فعيل منه كعظيم. و في الرحمن تأكيد من المبالغة ما ليس في الرحيم، و لذلك قيل: الرحمن بجميع الخلق، و الرحيم بالمؤمنين خاصّة.

و

رووا عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: الرحمن اسم خاصّ بصفة عامّة، و الرحيم اسم عامّ بصفة خاصّة.

و ما روي عن عكرمة أنّه قال: الرحمن برحمة واحدة، و الرحيم بمائة رحمة، فهو مقتبس من

قول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم: إنّ للّه عزّ و جلّ مائة رحمة، و أنّه أنزل منها واحدة إلى الأرض فقسّمها بين خلقه، بها يتعاطفون و يتراحمون، و أخّر تسعا و تسعين لنفسه، يرحم بها عباده يوم القيامة.

و

روي أنّ اللّه قابض هذه إلى تلك فيكملها مائة يرحم بها عباده يوم القيامة.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 24

و لا يخفى أنّ الرحمن أبلغ من الرحيم، لأنّ زيادة البناء تدلّ على زيادة المعنى، كما في: قطع و قطّع، و كبار و كبّار. و زيادة المعنى في الرحمن بالنسبة إلى معنى الرحيم تارة باعتبار الكمّيّة، و اخرى باعتبار الكيفيّة. فعلى الأوّل قيل: يا رحمن الدنيا، لأنّه يعمّ المؤمن و الكافر، و رحيم الآخرة، لأنّه يخصّ المؤمن. و على الثاني قيل: يا رحمن الدنيا و الآخرة و رحيم الدنيا، لأنّ النعم الاخرويّة كلّها

جسام، و أمّا النعم الدنيويّة فجليلة و حقيرة.

و تقديم الرحمن على الرحيم، و القياس يقتضي الترقّي من الأدنى إلى الأعلى، إمّا لاختصاص إطلاقه عليه سبحانه كاختصاص لفظة «اللّه» به، لقوله تعالى: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ «1» فصار كالعلم من حيث إنّه لا يوصف به غيره، لأنّ معناه: المنعم الحقيقي البالغ في الرحمة غايتها، و ذلك لا يصدق على غيره، لأنّ ما عداه مستفيض بلطفه و إنعامه، و لأنّ الرحمن دلّ على جلائل النعم و أصولها، و ذكر الرحيم ليتناول ما خرج منها، فيكون كالتتمّة و الرديف له. و إمّا لتقدّم رحمة الدنيا.

و الرحمة في اللغة: رقّة القلب، و انعطاف يقتضي التفضّل و الإحسان، و منه:

الرحم، لانعطافها على ما فيها، و أسماء اللّه تعالى إنما يؤخذ باعتبار الغايات الّتي هي أفعال دون المبادئ الّتي تكون انفعالات.

روي عن علي بن موسى الرضا عليه السّلام أنّه قال: إنّ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أقرب إلى اسم اللّه الأعظم من سواد العين إلى بياضها.

و

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّه قال: إذا قال المعلّم للصبيّ: قل: بسم اللّه الرحمن الرحيم، كتب اللّه براءة للصبيّ، و براءة لأبويه، و براءة للمعلّم.

و عن ابن مسعود: من أراد أن ينجيه اللّه من الزبانية التسعة عشر فليقرأ:

______________________________

(1) الإسراء: 110.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 25

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ فإنّها تسعة عشر حرفا، ليجعل اللّه كلّ حرف جنّة من واحد منهم.

و اعلم أنّ تخصيص تسميته سبحانه بهذه الأسماء دون سائر صفاته الاخرى ليعلم أنّ المستحقّ لأن يستعان به في مجامع الأمور هو المعبود الحقيقي الّذي هو مولى النعم كلّها؛ عاجلها و آجلها، جليلها و حقيرها، فيتوجّه بالتوجّه التامّ إلى جناب القدس،

و يتمسّك بحبل التوفيق، و يشغل سرّه بذكره، و الاستمداد به عن غيره، و يتشوّق بأن يحمد المنعم الحقيقي الّذي أعطى جميع نعم العاجلة و الآجلة، و يقول:

الْحَمْدُ لِلَّهِ الحمد هو الثناء باللسان على الجميل الاختياري من نعمة و غيرها. و التعريف فيه للجنس، و معناه الاشارة إلى ما يعرفه كلّ أحد من أنّ الحمد ما هو. و قيل: للاستغراق، إذ الحمد في الحقيقة كلّه له، إذ ما من خير إلّا هو موليه بوسط أو بغير وسط. و فيه إشعار بأنّه تعالى قادر حيّ مريد عالم، إذ الحمد لا يستحقّه إلّا من كان هذا شأنه.

و المدح هو الثناء على الجميل مطلقا، تقول: حمدت زيدا على علمه و كرمه، و لا تقول: حمدته على حسنه، بل مدحته. و قيل: هما أخوان.

و أمّا الشكر فعلى النعمة خاصّة، قولا و عملا و اعتقادا. فالحمد باعتبار المورد أخصّ من الشكر، و باعتبار المتعلّق أعمّ.

و لمّا كان الحمد أشيع للنعمة و أدلّ عليها، لخفاء الاعتقاد، جعل رأس الشكر و العمدة فيه، كما

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلم: الحمد رأس الشكر.

فالمعنى في كونه رأس الشكر: أنّ الذكر باللسان أجلى و أوضح و أدلّ على مكان النعمة، و أشيع للثناء على موليها من الاعتقاد و عمل الجوارح. و نقيض الحمد الذمّ، و نقيض الشكر الكفران.

و إنّما عدل ب الْحَمْدُ عن النصب الّذي هو الأصل في كلامهم، على أنّه من

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 26

المصادر الّتي تنصب بأفعال مضمرة، كقولهم: شكرا و عجبا و نحو ذلك، إلى الرفع على الابتداء، للدلالة على ثبات المعنى و استقراره و استمراره، دون تجدّده.

و حدوثه في نحو قولك: أحمد اللّه حمدا، و منه قوله تعالى:

قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ «1» رفع السلام الثاني للدلالة على أنّ إبراهيم عليه السّلام حيّاهم بتحيّة أحسن من تحيّتهم، لأنّ الرفع دالّ على ثبات معنى السلام دون تجدّده. فمعنى الْحَمْدُ لِلَّهِ

الثناء الحسن الجميل، و المدح الكامل الجزيل، للمعبود المنعم لجلائل النعم.

رَبِّ الْعالَمِينَ المربّي و المالك و المنشئ للخلائق و الأمم. و هو في الأصل بمعنى التربية، و هي تبليغ الشي ء إلى كماله شيئا فشيئا، ثمّ وصف به للمبالغة كالصوم و العدل. و قيل: هو نعت من: ربّه يربّه فهو ربّ. و لم يطلق الربّ إلّا في اللّه وحده، و يقيّد في غيره فيقال: ربّ الدار، و ربّ الضيعة، و كقوله تعالى: ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ «2».

و العالم اسم لما يعلم به، كالخاتم و القالب، غلب فيما يعلم به الصانع، و هو كلّ ما سواه من الأجسام و الجواهر و الأعراض، فإنّها- لإمكانها و افتقارها إلى مؤثّر واجب الوجود لذاته- تدلّ على وجوده. و إنّما جمعه ليشمل ما تحته من الأجناس المختلفة. و غلّب العقلاء منهم فجمعه بالياء و النون، و إن كان اسما غير صفة، لدلالته على معنى العلم، فهو بمنزلة سائر أوصافهم.

و قيل: اسم وضع لذوي العلم من الملائكة و الثقلين، و تناوله لغيرهم على سبيل الاستتباع.

و قيل: عنى به الناس هاهنا، فإنّ كلّ واحد منهم عالم، من حيث إنّه يشتمل على نظائر ما في العالم الكبير من الجواهر و الأعراض، يعلم به الصانع كما يعلم بما

______________________________

(1) هود: 69.

(2) يوسف: 50.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 27

أبدعه في العالم، و لذلك سوّى بين النظر فيهما و قال: وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ فَلا تُبْصِرُونَ «1». و فيه دليل على أنّ الممكنات كما هي مفتقرة إلى المحدث حال

حدوثها فهي مفتقرة إلى المبقي حال بقائها.

و وجه إيثار هذه الصفة بين صفات اللّه تعالى بعد الحمد: أنّ العارف لمّا رأى نعم اللّه تعالى على غيره واضحة، كما شاهد آثارها على نفسه لائحة، عرف أنّه ربّ الخلائق أجمعين، فينبغي أن يقول بعد ذلك: ربّ العالمين، و لمّا رأى شمول فضله للمربوبين، و عموم رزقه للمرزوقين، فبالحريّ أن يقول بعده: الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

و قد مضى تفسيرهما.

قال الرمّاني «2»: إنّه سبحانه ذكر في البسملة العبوديّة فوصل ذلك للتنبيه بذكر النعم الّتي يستحقّ بها العبادة، و هاهنا ذكر الحمد فوصله بذكر ما يستحقّ الحمد من النعم، فليس فيه تكرار.

و اعلم أنّ العارف إذا رأى بعض العباد حامدا شكورا، و بعضهم كنودا كفورا، علم أن وراءهم يوما يثاب فيه الشكور و يعاقب فيه الكفور، فلزمه أن يقول بعد هذه الأوصاف الجميلة و النعوت الجليلة: مالِكِ يَوْمِ الدِّينِ قرأه عاصم و الكسائي و يعقوب، و يعضده قوله عزّ و جلّ: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً «3». و قرأ الباقون:

«ملك»، لقوله تعالى: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ «4»، و لقوله: مَلِكِ النَّاسِ «5»، و لما فيه من التعظيم.

______________________________

(1) الذاريات: 21.

(2) حكاه عنه الطبرسي في مجمع البيان 1: 23.

(3) الانفطار: 19.

(4) غافر: 16.

(5) الناس: 2.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 28

و المالك هو المتصرّف في الأعيان المملوكة كيف شاء، و اشتقاقه من الملك.

و الملك هو المتصرّف بالأمر و النهي مشتقّ من الملك. و يوم الدين يوم الجزاء، و منه:

كما تدين تدان.

و أضاف اسم الفاعل إلى الظرف إجراء له مجرى المفعول به على الاتّساع، كقولهم: يا سارق الليلة أهل الدار، تقديره: يا سارق متاع أهل الدار في الليل.

و معناه: مالك الأمور يوم الدين، على طريقة جعل

المتوقّع الّذي لا بدّ من وقوعه بمنزلة الواقع، و مثل ذلك قوله تعالى: وَ نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ «1». أو: له الملك في هذا اليوم، على وجه الاستمرار. و على التقديرين تكون الإضافة حقيقيّة معدّة لوقوعه صفة للمعرفة، و إنّما تكون غير حقيقيّة إذا أريد باسم الفاعل الحال أو الاستقبال، فكان في تقدير الانفصال، كقولك: زيد مالك الساعة أو غدا، و لمّا كان هاهنا بمعنى الماضي أو الاستمرار فكانت إضافة حقيقيّة تصلح أن تكون وصفا للمعرفة.

و قيل: الدين: الشريعة. و قيل: الطاعة. و المعنى: يوم جزاء الدين. و تخصيص اليوم بالإضافة إمّا لتعظيمه، أو لتفرّده تعالى بنفوذ الأمر فيه.

و هذه الأوصاف- الّتي هي كونه سبحانه ربّا مالكا للعالمين، لا يخرج منهم شي ء من ملكوتيّته و ربوبيّته، و كونه منعما بالنعم المتواترة الباطنة و الظاهرة، و كونه مالكا للأمر كلّه في الدار الآخرة، بعد الدلالة على اختصاص الحمد في قوله:

الْحَمْدُ لِلَّهِ فيها دلالة باهرة على أنّ من كانت هذه صفاته لم يكن أحد أحقّ منه بالحمد و الثناء، بل لا يستحقّه على الحقيقة سواه، فإن ترتّب الحكم على الوصف يشعر بعلّيته له. و إذا وصل العارف الطالب إلى هذا المقام علم أنّ له خالقا و رازقا رحيما، يحيي و يميت، و يبدئ و يعيد، و هو الحيّ الّذي لا يشبهه شي ء، و الإله الّذي

______________________________

(1) الأعراف: 44.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 29

لا يستحقّ العبادة سواه.

و لمّا صار الموصوف بهذا الوصف كالمدرك بالعيان، و المشاهد بالبرهان، فكأنّ المعلوم المميّز بتلك الصفات العظام صار عيانا، و المعقول مشاهدا، و الغيبة حضورا، فقال: يا من هذا شأنه و هذه صفاته إِيَّاكَ نَعْبُدُ أي: نخصّك بالعبادة في كلّ الحالات وَ إِيَّاكَ نَسْتَعِينُ

و نخصّك بطلب المعونة في جميع المهمّات. فتقديم المفعول إنّما هو لقصد الاختصاص، و لهذا قال ابن عبّاس: معناه: نعبدك و لا نعبد غيرك.

و اعلم أنّ «إيّا» ضمير منفصل للمنصوب، و الكاف و الهاء و الياء اللاحقة به في «إيّاك» و «إيّاه» و «إيّاي» لبيان الخطاب و الغيبة و التكلّم، و لا محلّ لها من الإعراب، كالتّاء في «أنت» و الكاف في «أ رأيتك»، إذ هي حروف عند المحقّقين، و ليست بأسماء مضمرة كما قاله بعضهم. و من عادة العرب التفنّن في الكلام، و العدول من أسلوب إلى آخر تنشيطا للسامع، فإنّ لكلّ جديد لذّة، و يسمّى هذا التفاتا. و هو قد يكون من الخطاب إلى الغيبة، و من الغيبة إلى الخطاب، و من الغيبة إلى التكلّم، كقوله تعالى: حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ «1»، و قوله: وَ اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ «2». و الفائدة المختصّة به في هذا الموضع قد ذكرت آنفا.

و العبادة أقصى غاية الخضوع و التذلّل، و منه: طريق معبّد أي: مذلّل، و لهذا لا تحسن إلّا للّه سبحانه الّذي هو مولى أعظم النعم.

و قدّمت العبادة على الاستعانة ليتوافق رؤوس الآي، و ليعلم منه أنّ تقديم الوسيلة على طلب الحاجة أدعى إلى الإجابة.

و الضمير المستكنّ في الفعلين للقارى ء و من معه من الحفظة و حاضري

______________________________

(1) يونس: 22.

(2) فاطر: 9.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 30

زبدة التفاسير ج 1 49

الجماعة، أو له و لسائر الموحّدين، فأدرج عبادته في تضاعيف عبادتهم، و خلط حاجته بحاجتهم لعلّها تقبل ببركتها و يجاب إليها، و لهذا شرعت الجماعة. و كرّر الضمير للتنصيص على أنّه المستعان لا غير.

و أطلقت الاستعانة ليتناول كلّ

مستعان فيه. و الأحسن أن يراد الاستعانة به و بتوفيقه على أداء العبادة، لتلاؤم الكلام و أخذ بعضه بحجزة بعض، فيكون قوله:

اهْدِنَا بيانا للمطلوب من المعونة، كأنّه قيل: كيف أعينكم؟ فقالوا: اهْدِنَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ و على الأوّل يكون هذا إفرادا لما هو المقصود الأعظم.

و الهداية دلالة بلطف، و لذلك يستعمل في الخير، و قوله تعالى: فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ «1» على التهكّم و الاستهزاء. و أصلها أن يتعدّى باللام أو ب «إلى»، كقوله: يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ «2» وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «3» فعومل معاملة اختار في قوله: وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ «4».

و السراط- بالسين- الجادّة، من: سرط الشي ء إذا ابتلعه، لأنّه يسترط المارّة إذا سلكوه، و بالصاد من قلب السين صادا لأجل الطاء، و هي اللغة الفصحى. و قرأ قنبل عن ابن كثير و رويس عن يعقوب بالسين، و حمزة بالإشمام، و الباقون بالصاد.

و الصراط المستقيم هو الدين الحقّ الّذي لا يقبل اللّه عن العباد غيره. و إنّما سمّي الدين صراطا لأنّه يؤدّي لمن يسلكه إلى الجنّة، كما أنّ الصراط يؤدّي لمن يسلكه إلى مقصده. و المعنى المراد من اهْدِنَا: زدنا هدى بمنح الألطاف، كقوله تعالى:

وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً «5». و رووا عن أمير المؤمنين أنّ معناه: ثبّتنا.

______________________________

(1) الصافّات: 23.

(2) الإسراء: 9.

(3) الشورى: 52.

(4) الأعراف: 155.

(5) محمد: 17.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 31

و هداية اللّه تنوّع أنواعا لا تحصى، لكنّها تنحصر في أجناس مترتّبة.

الأوّل: إفاضة القوى الّتي بها يتمكّن العبد من الاهتداء إلى مصالحه، كالقوّة العقليّة، و الحواسّ الباطنة، و المشاعر الظاهرة.

و الثاني: نصب الدلائل الفارقة بين الحقّ و الباطل، و الصلاح و الفساد، و إليه أشار بقوله: وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ

«1»، و قوله: فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى «2».

و الثالث: الهداية بإرسال الرسل، و إنزال الكتب، و عناه بقوله: وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا «3»، و قوله: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ «4».

و الرابع: أن يكشف على قلوبهم السرائر، و يريهم الأشياء كما هي بالوحي أو الإلهام و المنامات الصادقة، و هذا مختصّ بالأنبياء و الأولياء، و إليه أشار بقوله:

أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ «5»، و بقوله: وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا «6».

ثمّ أراد أن يبيّن سبحانه أنّ الصراط المستقيم هو طريق المؤمنين فقال على سبيل البدليّة: صِراطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ و هو في حكم تكرير العامل، فكأنّه قال: اهدنا صراط الّذين أنعمت عليهم. و فائدة هذا البدل التوكيد، لما فيه من التثنية و التكرير، و الإشعار بأنّ الصراط المستقيم بيانه و تفسيره: صراط من خصّهم اللّه بعصمته، و أمدّهم بخواصّ نعمته، و احتجّ بهم على بريّته من الأنبياء و الأولياء

______________________________

(1) البلد: 10.

(2) فصّلت: 17.

(3) الأنبياء: 73.

(4) الإسراء: 9.

(5) الأنعام: 90.

(6) العنكبوت: 69.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 32

و الصدّيقين و الشهداء و الصالحين، و هم الّذين ذكرهم اللّه تعالى في قوله: وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ «1» فيكون ذلك شهادة لصراطهم بالاستقامة على آكد الوجوه، كما تقول: هل أدلّك على أكرم الناس فلان؟ فيكون ذلك أبلغ في وصفه بالكرم من قولك: هل أدلّك على فلان الأكرم؟ لأنّك بيّنت كرمه مجملا أوّلا، و مفصّلا ثانيا، و أوقعت فلانا تفسيرا للأكرم فجعلته علما في الكرم، فكأنّك قلت: من أراد رجلا جامعا للكرم فعليه بفلان، فهو المعيّن لذلك لا غير.

و

أطلق الإنعام ليشمل كلّ إنعام. و الإنعام: إيصال النعمة، و هي في الأصل الحالة الّتي يستلذّها الإنسان، فأطلقت لما يستلذّه من النعمة.

و قرأ حمزة «عليهم» بضمّ الهاء و إسكان الميم، نظرا إلى أصله المفرد و هو «هم». و كذلك: لديهم، و إليهم. و قرأ يعقوب بضمّ كلّ هاء قبلها ياء ساكنة، في التثنية و الجمع المذكّر و المؤنّث، نحو: عليهما، و فيهما، و عليهم، و فيهم، و عليهنّ، و فيهنّ. و قرأ الباقون «عليهم» و أخواتها بالكسر أمنا من اللبس. و أهل الحجاز و صلوا الميم انضمّت الهاء قبلها أو انكسرت.

و نعم اللّه- و إن كانت لا تحصى، كما قال تعالى: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها «2»- تنحصر في جنسين: دنيويّ، و أخرويّ.

و الأوّل قسمان: موهبي، و كسبي. و الموهبي قسمان: روحانيّ، كنفخ الروح فيه، و إشراقه بالعقل و ما يتبعه من القوى كالفهم و الفكر و النطق. و جسمانيّ، كتخليق البدن و القوى الحالّة فيه، و الهيئات العارضة له من الصحّة و كمال الأعضاء.

و الكسبيّ كتزكية النفس عن الرذائل، و تحليتها بالأخلاق الحسنة، و تزيين البدن بالهيئات المطبوعة، و حصول الجاه و المال.

______________________________

(1) النساء: 69.

(2) النحل: 18.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 33

و الثاني: أن يعفو ما فرط عنه، و يرضى عنه، و يبوّئه في أعلى علّيّين مع الملائكة المقرّبين أبد الآبدين.

و المراد هنا هو القسم الأخير و ما يكون وصلة إلى نيله، فإنّ ما عدا ذلك يشترك فيه المؤمن و الكافر.

و روي عن ابن عبّاس أنّ المراد من الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ هم الّذين كانوا أتباع موسى و عيسى و مطيعين لأوامرهما و نواهيهما. و يؤيّد ذلك قوله عزّ و جلّ بعد ذلك بدلا

منه: غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ يعني: اليهود، لقوله تعالى: مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ «1» وَ لَا الضَّالِّينَ يعنى: النصارى، لقوله تعالى: قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً « «2»». و المعنى: أنّ المنعم عليهم هم الّذين سلموا من غضب اللّه و الضلال. و يحتمل أن يكون صفة له، و إن كان «غير» لا يقع صفة للمعرفة و لا يتعرّف بالإضافة إلى المعرفة، لأنّ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ لا تعيين فيه، كقوله:

... و لقد أمرّ على اللّئيم يسبّني ...

و لأنّ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ و الضَّالِّينَ خلاف المنعم عليهم، فليس في «غير» إذن الإبهام الّذي أبى له أن يتعرّف، فتعيّن تعيّن الحركة من غير السكون.

و المعنى: أنّهم جمعوا بين نعمة العصمة و بين السلامة من غضب اللّه و الضلالة. و قال الحسن: إنّ اللّه تعالى لم يبرئ اليهود عن الضلالة بإضافة الضلال إلى النصارى، و لم يبرئ النصارى عن الغضب بإضافة الغضب إلى اليهود، بل كلّ واحدة من الطائفتين مغضوب عليهم و ضالّون، إلّا أنّ اللّه يخصّ كلّ فريق بسمة يعرف بها و يميّز بينه و بين غيره بها و إن كانوا مشتركين في صفات كثيرة.

و قيل: المراد بالمغضوب عليهم و الضالّين جميع الكفّار، و إنّما ذكروا بالصفتين

______________________________

(1، 2) المائدة: 60 و 77.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 34

لاختلاف الفائدتين.

و يتّجه أن يقال: المغضوب عليهم العصاة، و الضالّون الجاهلون باللّه تعالى، لأنّ المنعم عليهم من وفّق للجمع بين معرفة الحقّ لذاته و الخير للعمل به، فكان المقابل له من اختلّ إحدى قوّتيه العاقلة و العاملة، و المخلّ بالعمل فاسق مغضوب عليه، لقوله تعالى في القاتل عمدا: وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ «1»، و

المخلّ بالعلم جاهل ضالّ، لقوله تعالى: فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ «2».

و اعلم أنّ الغضب عبارة عن ثوران النفس لإرادة الانتقام، فإذا أسند إلى اللّه تعالى أريد به المنتهى و الغاية على ما مرّ «3». فمعنى غضب اللّه: إرادة الانتقام منهم و إنزال العقاب بهم، و أن يفعل بهم ما يفعله الملك إذا غضب على من تحت يده.

و محلّ «عليهم» الاولى نصب على المفعوليّة. و محلّ «عليهم» الثانية رفع على الفاعليّة، و «لا» مزيدة لتأكيد ما في «غير» من معنى النفي، فكأنّه قال: لا المغضوب عليهم و لا الضّالين، و لذلك جاز: أنا زيدا غير ضارب، كما جاز: أنا زيدا لا ضارب، و إن امتنع: أنا زيدا مثل ضارب. و أصل الضلال الهلاك، و منه: وَ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ «4» أي: أهلكها. و الضلال في الدين هو الذهاب عن الحقّ.

و أعجب بضلالة أهل الخلاف أنّهم يقولون: «آمين» في آخر الفاتحة مع أنّهم لم يثبتوه في المصاحف، و يتركون البسملة في أوّلها و أوائل سائر سور القرآن مع أنّهم يثبتونها في مفاتيح جميع السور! و ماذا إلّا الضلال بعد الحقّ، فهم خارجون عن الصراط المستقيم، داخلون في غضب اللّه، و آيسون عن رحمة الرحمن الرحيم، مستوجبون السخط و العذاب الأليم، كاليهود و النصارى و سائر أهل الجحيم.

______________________________

(1) النساء: 93.

(2) يونس: 32.

(3) في ص: 24.

(4) محمّد: 8.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 35

(2) سورة البقرة

[سورة البقرة (2): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (1) ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ (2) الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3)

مدنيّة إلّا آية، و هي قوله تعالى: وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ «1» الآية، فإنّها نزلت بمنى في حجّة الوداع.

و هي عند الكوفيّين مائتان و ستّ و ثمانون آية.

أبيّ، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم: من قرأ سورة البقرة فصلوات اللّه عليه و رحمته، و اعطي من الأجر كالمرابط في سبيل اللّه سنة لا تسكن روعته. قال: يا أبيّ، مر المسلمين أن يتعلّموا سورة البقرة، فإنّ تعلّمها بركة، و تركها حسرة، و لا يستطيعها البطلة. قلت: يا رسول اللّه، ما البطلة؟ قال: السحرة.

و

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم: من قرأ البقرة و آل عمران جاء يوم القيامة تظلّانه على رأسه مثل الغمامتين أو مثل الغيابتين.

و

روى سهل بن سعد قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: إنّ لكلّ شي ء سناما و سنام القرآن سورة البقرة، من قرأها في بيته نهارا لم يدخل في بيته شيطان ثلاثة أيّام، و من قرأها في بيته ليلا لم يدخل في بيته شيطان ثلاث ليال.

______________________________

(1) البقرة: 281.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 36

و

سئل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم: أيّ سور القرآن أفضل؟ قال: البقرة؛ قيل: و أيّ آي البقرة أفضل؟ قال: آية الكرسي.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم اختلف في هذه الحروف المقطّعة المفتتح بها السور،

فورد عن أئمّتنا عليهم السّلام أنّها من المتشابهات الّتي استأثر اللّه بعلمها و لا يعلم تأويلها غيره.

و

روت العامّة عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: إنّ لكلّ كتاب صفوة و صفوة هذا الكتاب حروف التهجّي.

و عن الشعبي: أنّ للّه في كلّ كتاب سرّا، و سرّه في القرآن حروف التهجّي في أوائل السور.

و قال الأكثرون في ذلك وجوها:

منها: أنّها أسماء للسور يعرف كلّ سورة بما افتتحت به.

و منها: أقسام أقسم اللّه تعالى بها، لكونها مباني كتبه،

و معاني أسمائه و صفاته، و اصول كلام الأمم كلّها.

و منها: مفاتيح أسماء اللّه عزّ و جلّ و صفاته، لقول ابن عبّاس في «الم»: معناه: أنا اللّه أعلم، و المر معناه: أنا اللّه أعلم و أرى، و المص معناه: أنا اللّه أعلم و أفصل. و الكاف من كهيعص من كافي، و الهاء من هادي، و الياء من حكيم، و العين من عليم، و الصاد من صادق.

و منها: أنّ كلّ حرف منها يدلّ على مدّة قوم و آجال آخرين بحساب الجمل، كما قاله أبو العالية متمسّكا بما

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم لمّا أتاه اليهود تلا عليهم «الم» البقرة فحسبوه و قالوا: كيف ندخل في دين مدّته إحدى و سبعون سنة؟! فتبسّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم، فقالوا: فهل غيره؟ فقال: المص و الر و المر. فقالوا: خلطت علينا فلا ندري بأيّها نأخذ،

فإنّ تلاوته إيّاها بهذا الترتيب عليهم و تقريرهم على استنباطهم

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 37

دليل على ذلك.

و منها: أنّ المراد بها أنّ هذا القرآن الّذي عجزتم عن معارضته من جنس هذه الحروف الّتي تتحاورون بها في خطبكم و كلامكم، فإذا لم تقدروا عليه فاعلموا أنّه من عند اللّه، لأنّ العادة لم تجر بأنّ الناس يتفاوتون في القدر هذا التفاوت العظيم.

و عند المحقّقين أنّ هذه الفواتح و غيرها من الألفاظ الّتي يتهجّى بها أسماء مسمّياتها حروف الهجاء الّتي ركّبت منها الكلم. و حكمها أن تكون موقوفة كأسماء الأعداد، تقول: ألف لام ميم، كما تقول: واحد اثنان ثلاثة، فإذا وليتها العوامل أعربت فقيل: هذه ألف، و كتبت لاما، و نظرت إلى ميم.

ثمّ إنّه سبحانه ذكرها مفردة و ثنائيّة و

ثلاثيّة و رباعيّة و خماسيّة، إيذانا بأنّ المتحدّى به مركّب من كلماتهم الّتي أصولها كلمات مفردة و مركّبة من حرفين فصاعدا إلى خمسة، و تنبيها على أنّ المتلوّ عليهم كلام منظوم ممّا ينظمون به كلامهم، فلو كان من عند غير اللّه لما عجزوا من أوّلهم إلى آخرهم- مع تظاهرهم و قوّة فصاحتهم- عن الإتيان بما يدانيه، و إشعارا بأنّ أوّل ما يقرع الأسماع مستقلّ بنوع من الإعجاز، فإنّ النطق بأسماء الحروف مختصّ بمن خطّ و درس، فأمّا من الامّي الّذي لم يخالط الكتاب فمستبعد مستغرب خارق للعادة كالكتابة و التلاوة، سيّما و قد راعى في ذلك ما يعجز عنه الأديب الأريب الفائق في فنّه، و هو أنّه إذا تأمّلت ما أورده اللّه تعالى في الفواتح من هذه الأسماء وجدتها نصف أسامي حروف المعجم أربعة عشر اسما إن لم تعدّ الألف فيها حرفا برأسها، و هي: الألف و اللام و الميم و الصاد و الراء و الكاف و الهاء و الياء و العين و الطاء و السين و الحاء و القاف و النون، في تسع و عشرين سورة على عدد حروف المعجم إذا عدّ فيها الألف.

ثم إذا نظرت في هذه الأربعة عشر وجدتها مشتملة على أنصاف أنواع

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 38

الحروف. بيان ذلك: أنّ فيها من المهموسة نصفها: الصاد و الكاف و الهاء و السين و الحاء، و من المجهورة نصفها: الألف و اللام و الميم و الراء و العين و الطاء و القاف و الياء و النون، و من الشديدة نصفها: الألف و الطاء و الكاف و القاف، و من الرخوة نصفها: اللام و الراء و الميم و الصاد و الهاء و العين و

السين و الحاء و الياء و النون، و من المطبقة نصفها: الصاد و الطاء، و من المنفتحة نصفها: الألف و اللام و الميم و الراء و الكاف و الهاء و العين و السين و الحاء و القاف و الياء و النون، و من المستعلية نصفها:

القاف و الصاد و الطاء، و من المنخفضة نصفها: الألف و اللام و الميم و الراء و الكاف و الهاء و الياء و العين و السين و الحاء و النون، و من حروف القلقلة نصفها: القاف و الطاء.

ثم إذا استقريت الكلم و تراكيبها رأيت الحروف الّتي ألغى اللّه ذكرها من هذه الأنواع المعدودة مكثورة بالمذكورة «1»، فسبحان الّذي دقّت في كلّ شي ء حكمته! و قد علمت أنّ معظم الشي ء و جلّه ينزّل منزلة كلّه، و هو المطابق للطائف التنزيل و اختصاراته، فكأنّ اللّه عزّ و جلّ عدّد على العرب الألفاظ الّتي منها تراكيب كلامهم إشارة إلى ما ذكرت من التبكيت لهم و إلزام الحجّة إيّاهم.

و ممّا يدلّ على أنّه تعمّد بالذكر من حروف المعجم أكثرها وقوعا في تراكيب الكلم، أنّ الألف و اللام لمّا تكاثر وقوعهما فيها جاءتا في معظم هذه الفواتح مكرّرتين، و هي فواتح سورة البقرة، و آل عمران، و الروم، و العنكبوت، و لقمان، و السجدة، و الأعراف، و الرّعد، و يونس، و إبراهيم، و هود، و يوسف، و الحجر.

و أنّه ذكر ثلاث مفردات، و هي: «ق» «ن» «2» «ص» في ثلاث سور، لأنّها توجد في الأقسام الثلاثة: الاسم و الفعل و الحرف.

و أربع ثنائيّات، و هي: «طه» و «يس» و «طس» و «حم» لأنّها تكون في

______________________________

(1) أي مغلوبة بالكثرة، أي المذكورة غالبة على غير المذكورة، و

منه: كاثرة، أي غالبة بالكثرة.

(2) و هي في مفتتح سورة القلم: ن وَ الْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 39

الحرف بلا حذف ك «بل»، و في الفعل بحذف ك «قل»، و في الاسم بغير حذف ك «من»، و بحذف ك «دم» في تسع سور، لوقوع الثنائي في كلّ واحد من الأقسام الثلاثة على ثلاثة أوجه: الفتحة و الضمّة و الكسرة. ففي الأسماء: من و إذ و ذو. و في الأفعال: قل و بع و خف. و في الحروف: إن و من و مذ.

و ثلاث ثلاثيّات، و هي: «الم» و «الر» و «طسم» لمجيئها في الأقسام الثلاثة في ثلاث عشرة سورة، فإنّ سور الم ستّ، و الر خمس، و طسم اثنان، تنبيها على أنّ اصول الأبنية المستعملة ثلاثة عشر، عشرة منها للأسماء، و ثلاثة للأفعال.

و رباعيّتين، و هما: المص و المر.

و خماسيّتين، و هما: كهيعص و حم عسق تنبيها على أنّ لكلّ منهما أصلا كجعفر و سفرجل، و ملحقا كقردد و حجنفل. و لم تعدّ بأجمعها في أوّل القرآن، لما فيه من إعادة التحدّي، و تكرير التنبيه، و المبالغة فيه.

و لمّا كانت أبنية المزيد لا تتجاوز عن السباعيّة ذكر من الزوائد العشرة الّتي تجمعها «اليوم تنساه» سبعة أحرف منها تنبيها على ذلك.

و قيل في مفتتح هذه السورة: إنّ الألف من أقصى الحلق و هو مبدأ المخارج، و اللام من طرف اللسان و هو وسطها، و الميم من الشفة و هي آخرها، جمع بينها تنبيها على أنّ العبد ينبغي أن يكون أوّل كلامه و أوسط كلامه و آخر كلامه ذكر اللّه.

و قيل: إنّ الألف إشارة إلى اللّه، و اللام إلى جبرئيل، و الميم إلى محمد.

فيكون المعنى: أنّ اللّه سبحانه نزّل بواسطة جبرئيل إلى محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلم.

ذلِكَ الْكِتابُ و هو مصدر سمّي به المفعول للمبالغة، أو فعال بني للمفعول كاللباس، ثم اطلق على المنظوم عبارة قبل أن يكتب لأنّه ممّا يكتب. و أصل الكتب الجمع، و منه: الكتيبة.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 40

و قيل: «ذلك» إشارة إلى «الم» إن أوّل بالمؤلّف من هذه الحروف أو فسّر بالسورة أو القرآن، فإنّه لمّا تكلّم به و تقضّى أو وصل من المرسل إلى المرسل إليه صار متباعدا فأشير إليه بما يشار به إلى البعيد. و تذكيره متى أريد ب «الم» السورة لتذكير الكتاب، فإنّه خبره أو صفته الّذي هو هو. أو إلى الكتاب، فيكون صفته.

و المراد به الكتاب الموعود إنزاله بقوله: إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا «1»، أو في الكتب المتقدّمة.

فإن جعلت هذه الحروف المقطّعة أسماء اللّه أو القرآن أو السور كان لها حظّ من الإعراب، إمّا الرفع على الابتداء، أي: المؤلّف من هذه الكلمات متحدّي به، أو الخبر، أي: هذا المتلوّ المتحدّى به مؤلّف من هذه الكلمات، أو النصب بتقدير فعل القسم و نزع الخافض على طريقة: اللّه لأفعلنّ بالنصب، فإنّ أصله أقسم باللّه، فنزع الخافض و اعمل فعل القسم فيه، أو الجرّ على إضمار حرف القسم.

و إن أبقيتها على معانيها، فإن قدّرت بالمؤلّف من هذه الحروف كان في حيّز الرفع بالابتداء أو الخبر على ما مرّ. و إن جعلتها مقسما بها يكون كلّ كلمة منها منصوبا بنزع الخافض، أو مجرورا بتقدير حرف الجرّ على اللغتين في: اللّه لأفعلنّ، و تكون جملة قسميّة بالفعل المقدّر له.

و إن جعلتها أبعاض كلمات أو أصواتا منزّلة منزلة حرف التنبيه، لم يكن

لها محلّ من الإعراب، كالجمل المبتدأة و المفردات المعدودة.

و قال في جوامع البيان: إن جعلت الم اسما للسورة ففيه وجوه:

أحدها: أن يكون الم مبتدأ، و ذلِكَ مبتدأ ثانيا، و الكتاب خبره، و الجملة خبر المبتدأ الأوّل. فيكون المعنى: أنّ ذلك هو الكتاب الكامل الّذي يستأهل أن يسمّى كتابا، كأنّ ما سواه من الكتب ناقص بالإضافة إليه، كما تقول:

______________________________

(1) المزّمّل: 5.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 41

هو الرجل، أي: الكامل في الرجوليّة.

الثاني: أن يكون الكتاب صفة، فيكون المعنى: هو ذلك الكتاب الموعود.

و الثالث: أن يكون التقدير: هذه الم، فتكون جملة، و ذلِكَ الْكِتابُ جملة اخرى.

و إن جعلت الم بمنزلة الصوت كان ذلك مبتدأ، و الكتاب خبره، أي: ذلك الكتاب المنزّل هو الكتاب الكامل، أو الكتاب صفته و الخبر ما بعده، أعني: قوله:

لا رَيْبَ فِيهِ أي: ذلك الكتاب لا شكّ في حقيقته.

و الريب مصدر: رابه يريبه، إذا حصل فيه الريبة. و حقيقة الريبة قلق النفس و اضطرابها، سمّي به الشكّ لأنّه يقلق النفس و يزيل الطمأنينة. و

في الحديث: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإنّ الشكّ ريبة، و الصدق طمأنينة» «1».

و «لا ريب» مبنيّ لتضمّنه معنى «من»، منصوب المحلّ على أنّه اسم «لا» النافية للجنس العاملة عمل «إنّ»، لأنّها نقيضها، و لازمة للأسماء لزومها. و «فيه» خبره على الظاهر، و لم يقدّم كما قدّم في قوله تعالى: لا فِيها غَوْلٌ «2»، لأنّه لم يقصد تخصيص نفي الريب به من بين الكتب كما قصد ثمّة، بل المراد نفي الريب عنه، و إثبات أنّه حقّ و صدق لا باطل و كذب، كما كان المشركون يدّعونه، فلو أولي الظرف حرف النفي لقصد إلى ما يبعد عن المراد، و هو أنّ كتابا

آخر فيه الريب لا فيه. و حقيقة المعنى أنّه من وضوح دلالته بحيث لا ينبغي أن يرتاب فيه، إذ لا مجال للريبة فيه بعد النظر الصحيح في كونه وحيا بالغا حدّ الإعجاز، لا أن أحدا لا يرتاب فيه، ألا ترى إلى قوله تعالى: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا ... «3» الآية؟

______________________________

(1) جامع الجوامع 1: 22- 23.

(2) الصافات: 47.

(3) البقرة: 23.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 42

و المشهور الوقف على «فيه». و بعض القرّاء يقف على «لا ريب». فلا بدّ لمن يقف عليه أن ينوي خبرا. و نظيره قوله: لا ضَيْرَ «1». و التقدير: لا ريب فيه، فيه هُدىً لِلْمُتَّقِينَ فعلى الثاني يكون هُدىً مبتدأ و فِيهِ خبره. و على تقدير الوقف على فِيهِ يكون هُدىً خبر مبتدأ محذوف على تقدير: هو هدى، أو منصوبا على الحال.

و الأولى أن يقال: إنّها أربع جمل مستأنفة متناسقة يقرّر اللاحقة منها السابقة، و لذلك لم يدخل العاطف بينها. ف الم جملة دلّت على أنّ المتحدّى به هو المؤلّف من جنس ما يركّبون منه كلامهم. و ذلِكَ الْكِتابُ جملة ثانية مقرّرة لجهة التحدّي بأنّه الكتاب المنعوت بغاية الكمال. و لا رَيْبَ فِيهِ ثالثة تشهد على كماله، إذ لا كمال أعلى ممّا للحقّ و اليقين. و هُدىً لِلْمُتَّقِينَ بما يقدّر له جملة رابعة تؤكّد كونه حقّا لا يدور الشكّ حوله.

و الهدى مصدر على «فعل» كالسّرى، و هو الدلالة الموصلة إلى المطلوب، لأنّه جعل مقابل الضلالة في قوله: لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ «2». و لأنّه لا يقال: مهديّ إلّا لمن اهتدى إلى المطلوب. و قد يوضع المصدر الّذي هو «هدى» موضع الوصف الّذي هو «هاد» للمبالغة.

و المتّقي في

الشريعة هو الّذي يقي نفسه تعاطي ما به العقاب من فعل أو ترك.

و سمّاهم عند مشارفتهم لاكتساء لباس التقوى: متّقين،

كقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم: من قتل قتيلا فله سلبه،

و قوله تعالى: وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً «3» أي: صائرا إلى الفجور، فكأنّه قال: هدى للصائرين إلى التقى. و لم يقل: هدى للضالّين، لأنّ الضالّين

______________________________

(1) الشعراء: 50.

(2) سبأ: 24.

(3) نوح: 27.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 43

فريقان: فريق علم بقاؤهم على الضلالة، و فريق علم مصيرهم إلى الهدى، فلا يكون هدى لجميعهم.

و

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّه قال: جماع التقوى في قوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ ... «1» الآية.

و قيل: التقوى أن لا يراك اللّه حيث نهاك، و لا يفقدك حيث أمرك. و قيل: المتّقي الّذي اتّقى ما حرّم عليه، و فعل ما أوجب عليه. و قيل:

هو الّذي يتّقي بصالح أعماله عذاب اللّه.

و سأل عمر بن الخطّاب كعب الأحبار عن التقوى، فقال: هل أخذت طريقا ذا شوك؟ قال: نعم. قال: فما عملت فيه؟ قال: حذرت و تشمّرت. فقال كعب: ذلك التقوى.

فنظمه بعض الناس فقال:

خلّ الذنوب صغيرها و كبيرها فهو التقى و اصنع كماش فوق أرض الشوك يحذر ما يرى

لا تحقرنّ صغيرة إنّ الجبال من الحصى و اعلم أنّ للتقوى ثلاث مراتب:

الاولى: التوقّي عن العذاب المخلّد بالتبرّي عن الشرك، و عليه قوله تعالى:

وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى «2».

و الثانية: التجنّب عن كلّ ما يؤثم به من فعل أو ترك حتى الصغائر، و هو المتعارف باسم التقوى في الشرع، و هو المعنيّ بقوله تعالى: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا «3».

______________________________

(1) النحل: 90.

(2) الفتح: 26.

(3)

الأعراف: 96.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 44

و الثالث: أن يتنزّه عمّا يشغل سرّه عن الحقّ، و يقطع عمّا سواه في جميع الأحوال. و هو التقوى الحقيقي المطلوب بقوله تعالى: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ «1». و قد فسّر قوله: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ على الأوجه الثلاثة.

قال صاحب الكشّاف و الأنوار «2» ما حاصله: إنّ هذه الجمل الأربع بعد أن رتّبت هذا الترتيب الأنيق، و نظمت هذا النظم العجيب، لم تخل كلّ واحدة منها من نكتة ذات جزالة، ففي الاولى الحذف و الرمز إلى الغرض بألطف وجه و أحسنه، و هو بيان أنّ هذا الكتاب المتحدّى به مؤلّف من هذه الحروف المتداولة بين الناس.

و في الثانية ما في التعريف من الفخامة. و في الثالثة ما في تقديم الريب على الظرف حذرا عن إيهام الباطل كما مرّ. و في الرابعة الحذف و وضع المصدر الّذي هو «هدى» موضع الوصف الّذي هو «هاد»، و إيراده منكّرا للتعظيم، و تخصيص الهدى بالمتّقين باعتبار الغاية، و تسمية المشارف للتقوى متّقيا إيجازا و تفخيما لشأنه. زادنا اللّه اطّلاعا على أسرار كلامه، و تبيينا لنكت تنزيله، و توفيقا للعمل بما فيه.

و قوله عزّ اسمه: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ إمّا أن يكون مجرورا بأنّه صفة للمتّقين، أو منصوبا أو مرفوعا على المدح على تقدير: أعني الذين، أو: هم الّذين يؤمنون. و إمّا أن يكون منقطعا عمّا قبله مرفوعا على الابتداء، و خبره «أُولئِكَ عَلى هُدىً»، فيكون الوقف على «هُدىً لِلْمُتَّقِينَ» تامّا. و على التقادير، تخصيص الإيمان بالغيب، و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة بالذكر، إظهار لفضلها على سائر ما يدخل تحت اسم التقوى.

و اعلم أنّ الإيمان في اللغة عبارة عن التصديق، مأخوذ من الأمن، كأنّ المصدّق آمن المصدّق

من التكذيب و المخالفة. و عدّي بالباء فقيل: آمن به، لأنّه

______________________________

(1) آل عمران: 102.

(2) الكشّاف 1: 37، أنوار التنزيل 1: 50.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 45

ضمّن معنى، أقرّ و اعترف. و يجوز أن يكون من قياس: فعلته فأفعل، فيكون «آمن» بمعنى: صار ذا أمن في نفسه بإظهار التصديق.

و حقيقة الإيمان في الشرع هو التصديق و الاعتراف بما علم بالضرورة أنّه من دين محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلم، من المعرفة باللّه و صفاته و برسله و بجميع ما جاءت به رسله، و من ذلك البعث و الجزاء و غيرهما من أحوال المعاد. فمن أخلّ بالاعتقاد وحده فمنافق، و من أخلّ بالإقرار فكافر. و العمل لا يكون جزء الإيمان على الأصحّ، فمن أخلّ به فهو مؤمن فاسق.

و الغيب مصدر وصف به للمبالغة، كالشهادة في قوله تعالى: عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ «1».

و المراد به الخفيّ الّذي لا يدركه الحسّ، و لا يقتضيه بديهة العقل. و هو قسمان: قسم لا دليل عليه، و هو المعنيّ بقوله تعالى: وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ «2». و قسم نصب عليه دليل، كالصانع و صفاته و اليوم الآخر و أحواله، و هو المراد به في الآية.

هذا إذا جعلته صلة للإيمان و أوقعته موقع المفعول. و إن جعلته حالا على تقدير: ملتبسين بالغيب، كان بمعنى الغيبة و الخفاء. و المعنى: أنّهم يؤمنون غائبين عنكم، لا كالمنافقين الّذين إذا لقوا الّذين آمنوا قالوا آمنّا، و إذا خلوا إلى شياطينهم قالوا إنّا معكم.

و قيل: المراد بالغيب القلب. و المعنى: يؤمنون بقلوبهم، لا كمن يقولون بأفواههم ما ليس في قلوبهم.

فالباء على الأوّل للتعدية، و على الثاني للمصاحبة، و على الثالث للآلة.

______________________________

(1)

الأنعام: 73.

(2) الأنعام: 59.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 46

ثمّ عطف سبحانه على الإيمان- الّذي هو أشرف من الأعمال البدنيّة، لابتناء صحّتها عليه- ذكر الصلاة الّتي هي رأس العبادات البدنيّة و أفضلها، فقال:

وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ أي: يواظبون عليها لأدائها، من قولهم: قامت السوق إذا نفقت، و أقمتها إذا جعلتها نافقة، فإذا حوفظ عليها كانت كالنافق الّذي يرغب فيه، و إذا أضيعت كانت كالكاسد المرغوب عنه.

أو يتشمّرون لأدائها من غير فتور و لا توان، من قولهم: قام بالأمر و أقامه إذا جدّ فيه و تجلّد. و ضدّه: قعد عن الأمر و تقاعد.

أو يؤدّونها، عبّر عن الأداء بالإقامة لاشتمالها على القيام، كما عبّر عنها بالقنوت و الرّكوع و السجود و التسبيح.

أو يعدّلون أركانها و يحفظونها من أن يقع زيغ و اعوجاج في أفعالها، من قولهم: أقام العود إذا قوّمه.

و هذا أظهر من الأوّلين، لأنّه أشهر، و إلى الحقيقة أقرب و أفيد، لتضمّنه التنبيه على أنّ الحقيق بالمدح من راعى حدودها الظاهرة من الفرائض و السنن، و حقوقها الباطنة من الخشوع و الإقبال بقلبه على اللّه، لا المصلّون الّذين هم في صلاتهم ساهون.

و الصلاة فعلة من: صلّى إذا دعا، كالزكاة من: زكّى، كتبتا بالواو على لفظ المفخّم. و إنّما سمّي الفعل المخصوص بها لاشتمالها على الدّعاء. و قيل:

أصل «صلّى» حرّك الصّلوين، لأنّ المصلّي يفعله في ركوعه و سجوده.

و قيل من: صلّيت العود، إذا ليّنته بالنار، لأنّ المصلّي لأن قلبه و ذهب قساوته بها.

ثم عطف على ذلك العبادة الماليّة الّتي هي الإنفاق، للجمع بين العبادات البدنيّة و الماليّة، فقال: وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ الرزق في اللغة: الحظّ، قال اللّه

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 47

تعالى: وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ «1». و

بإجماع الإماميّة الرزق: ما صحّ أن ينتفع به، و ليس لأحد منعه شرعا.

و هذه الآية دالّة على أنّ الحرام لا يكون رزقا، لأنّه تعالى مدحهم بالإنفاق ممّا رزقناهم، و المنفق من الحرام لا يستحقّ المدح بالإنفاق، فلا يكون رزقا.

و أسند الرزق إلى نفسه للإعلام بأنّهم ينفقون الحلال المطلق الّذي يستأهل أن يسمّى رزقا من اللّه، و «من» للتبعيض، فكأنّه يقول: و يخصّون بعض المال الحلال بالتصدّق حذرا لشوب «2» الإسراف المنهيّ عنه. و يجوز أن يراد به الزكاة المفروضة لأقرانه بالصلاة. و يجوز أن يراد هي و غيرها من الصدقات و النفقات في وجوه البرّ.

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم: و ممّا علّمناهم يبثّون.

و منه قيل: معناه: و ممّا خصصناهم به من أنوار المعرفة يفيضون. و الأولى حمل الآية على عمومها. و تقديم المفعول للاهتمام به، و المحافظة على رؤوس الآي.

[سورة البقرة (2): الآيات 4 الى 5]

وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4) أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5)

و بعد ذكر أحوال المؤمنين على العموم مدح اللّه سبحانه مؤمني أهل الكتاب- كعبد اللّه بن سلام و أضرابه- على الخصوص، كتخصيص ذكر جبرئيل و ميكائيل بعد الملائكة، تعظيما لشأنهم، و ترغيبا لغيرهم، و تعريضا لأهل الكتاب، فقال:

وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يعني: القرآن بأسره و الشريعة بجميعها.

و الإنزال نقل الشي ء من أعلى إلى أسفل، و هو إنّما يلحق المعاني بتوسّط لحوقه الذوات الحاملة لها. و يحتمل أنّ نزول الكتب الإلهيّة على الرسل، بأن يتلقّفه

______________________________

(1) الواقعة: 82.

(2) كذا في الخطّية، و لعلّ الصحيح: من شوب.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 48

الملك من اللّه تعالى تلقّفا روحانيّا،

أو يحفظه من اللوح المحفوظ، فينزل به فيلقيه على الرسول.

و إنّما عبّر عنه بلفظ المضيّ و إن كان بعضه مترقّبا تغليبا للموجود على ما لم يوجد، أو تنزيلا للمنتظر منزلة الواقع، و نظيره قوله تعالى: إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى «1»، فإنّ الجنّ لم يسمعوا جميعه، و لم يكن الكتاب حينئذ كلّه منزلا.

وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يعنى سائر الكتب السابقة، و الإيمان بها إجمالا فرض عين، و بالأوّل تفصيلا، لأنّا متعبّدون بتفاصيله، بخلاف الشرائع السالفة.

وَ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ إيقانا زال معه ما كان اليهود و النصارى عليه من أنّ الجنّة لا يدخلها إلّا من كان هودا أو نصارى، و أنّ النار لن تمسّهم إلّا أيّاما معدودة، و اختلافهم في نعيم الجنّة أهو من جنس نعيم الدنيا أو غيره؟ و في دوامه و انقطاعه.

و في تقديم الصلة و بناء «يوقنون» على «هم» تعريض لمن عداهم من أهل الكتاب بأنّ اعتقادهم في أمر الآخرة غير مطابق و لا صادر عن إيقان.

فهذه الآية معطوفة على «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ»، فمؤمنو أهل الكتاب داخلون معهم في جملة المتّقين دخول أخصّين تحت الأعمّ. و يحتمل أن يراد بهم الأوّلون بأعيانهم. و وسّط بالعاطف الجامع ليدلّ على أنّهم الجامعون بين الإيمان بما يدركه العقل، و الإتيان بما يصدّقه من العبادات البدنيّة و الماليّة، و بين الإيمان بما لا طريق إليه غير السمع. و كرّر الموصول فيها تنبيها على بيان السبيلين.

و اليقين إتقان العلم بنفي الشكّ و الشبهة عنه نظرا و استدلالا، و لذلك لا يوصف به علم القديم و لا العلوم الضروريّة.

______________________________

(1) الأحقاف: 30.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 49

و الآخرة تأنيث الآخر، صفة الدار بدليل قوله تعالى: تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ

«1» فغلبت في الموصوف كالدنيا. و عن نافع أنّه خفّفها بحذف الهمزة و إلقاء حركتها على اللام.

و لمّا وصف المتّقين بهذه الصفات بيّن ما لهم عنده تعالى فقال: أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الجملة في محلّ الرفع بالخبريّة إن كان «الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ» مبتدأ، و إلّا استئناف فلا محلّ لها، فكأنّه نتيجة الأحكام و الصفات المتقدّمة، أو جواب سائل قال: ما للموصوفين بهذه الصفات اختصّوا بالهدى؟

و نظيره: أحسنت إلى زيد صديقك القديم حقيق بالإحسان، فإنّ اسم الإشارة هاهنا كإعادة الموصوف- أعني: المتّقين- بصفاته المذكورة، و هو أبلغ من أن يستأنف بإعادة الاسم وحده، لما فيه من بيان المقتضي و تلخيصه، فإنّ ترتّب الحكم على الوصف إيذان بأنّه الموجب له.

و معنى الاستعلاء في قوله: «على هدى» تمثيل تمكّنهم من الهدى و استقرارهم عليه بحال من اعتلى الشي ء و ركبه، و ذلك إنّما يحصل باستفراغ الفكر و إدامة النظر فيما نصب من الحجج، و المواظبة على محاسبة النفس في العمل.

و نكّر «هدى» للتعظيم، فكأنّه أريد به ضرب لا يبلغ كنهه.

و معنى «من ربّهم» أنّهم منحوه و أعطوه من عنده، و هو اللطف و التوفيق على أعمال البرّ.

و في تكرير «أولئك» تنبيه على أنّهم تميّزوا بكلّ واحدة من الخصلتين- اللّتين هما الفلاح و الهدى- عن غيرهم. و وسّط العاطف لاختلاف مفهوم الجملتين، فإنّ كونهم على هدى غير كونهم من أهل الفلاح، بخلاف قوله:

______________________________

(1) القصص: 83.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 50

زبدة التفاسير ج 1 99

أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ «1»، فإنّ التسجيل بالغفلة و التشبيه بالبهائم شي ء واحد، فكانت الجملة الثانية مقرّرة للأولى، فلا تناسب العطف.

و «هم» سمّاه البصريّون فصلا، و الكوفيّون

عمادا. و فائدته الدلالة على أنّ المذكور بعده خبر لا صفة، و اختصاص المسند بالمسند إليه.

و المفلح: الفائز بالمطلوب، كأنّه الّذي انفتحت له وجوه الظفر. و المفلج بالجيم مثله. و هذا التركيب و ما يشاركه في الفاء و العين- نحو: فلق و فلذ و فلى- يدلّ على الشقّ و الفتح. و تعريف المفلحين للدلالة على أنّ المتّقين هم الّذين بلغك أنّهم المفلحون في الآخرة، أو الإشارة إلى ما يعرفه كلّ أحد من حقيقة المفلحين و خصوصيّاتهم.

فتأمّل كيف نبّه سبحانه على اختصاص المتّقين بنيل ما لا يناله أحد من وجوه شتّى: بناء الكلام على اسم الإشارة للتعليل مع الإيجاز، و تكريره، و تعريف الخبر، و توسيط الفصل، لإظهار قدرهم، و الترغيب في اقتفاء أثرهم. و قد تشبّث به الوعيديّة في خلود الفسّاق من أهل القبلة في العذاب. و ردّ: بأنّ المراد بالمفلحين الكاملون في الفلاح، و يلزمه عدم كمال الفلاح لمن ليس على صفتهم، لا عدم الفلاح أصلا.

[سورة البقرة (2): الآيات 6 الى 7]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (6) خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ غِشاوَةٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (7)

و لمّا قدّم ذكر أوليائه و خالصة عباده بصفاتهم الّتي أهّلتهم لإصابة الزلفى

______________________________

(1) الأعراف: 176.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 51

عنده، و بيّن أنّ الكتاب هدى و لطف لهم خاصّة، قفّى على أثره بذكر أضدادهم، و هم العتاة الأشقياء من الكفّار الّذين لا ينفع فيهم الهدى، و لا يغني عنهم الآيات و النذر، فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ يا محمد أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ أي: سواء عليهم إنذارك و ترك إنذارك. و الإنذار: التخويف من عقاب اللّه تعالى. و

لم يعطف قصّتهم على قصّة المؤمنين كما عطف في قوله: إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ وَ إِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ «1» لتباينهما في الغرض، فإنّ الاولى سيقت لذكر الكتاب و بيان شأنه، و الاخرى مسوقة لشرح تمرّدهم و انهماكهم في الضلال.

و «إنّ» من الحروف الّتي شابهت الفعل المتعدّي في عدد الحروف، و البناء على الفتح، و لزوم الأسماء، و إعطاء معانيه، و دخولها على اسمين، و لذلك عملت عمله الفرعي و هو نصب الجزء الأوّل و رفع الثاني، إيذانا بأنّه فرع في العمل. و فائدة «أن» تأكيد النسبة و تحقيقها.

و تعريف الموصول إمّا للعهد، و المراد به ناس بأعيانهم كأبي لهب و أبي جهل و الوليد بن المغيرة و أحبار اليهود، أو للجنس يتناول كلّ من صمّم على الكفر.

و الكفر لغة: ستر النعمة، و أصله الكفر بالفتح، و هو السّتر. و منه قيل للزارع و الليل: كافر، و لكمام الثمرة: كافور. و في الشرع: إنكار ما علم بالضرورة مجي ء الرسول به.

و «سواء» اسم بمعنى الاستواء وصف به كما يوصف بالمصادر، و هو خبر «إن»، و «أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ» مرفوع على الفاعليّة، كأنّه قيل: إنّ الّذين كفروا مستو عليهم إنذارك و عدمه. و الفعل إنّما يمتنع الإخبار عنه إذا أريد به تمام ما وضع له، أما لو اطلق و أريد به اللفظ أو مطلق الحدث المدلول عليه ضمنا على الاتّساع

______________________________

(1) الانفطار: 13- 14.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 52

فهو كالاسم في الإضافة و الإسناد، كقوله تعالى: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا «1»، و قوله:

يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ «2»، و قولهم: تسمع بالمعيدي خير من أن تراه، و مثل: «ضرب» فعل ماض.

و إنّما عدل هاهنا عن المصدر

إلى الفعل لما فيه من إيهام التجدّد، و حسن دخول الهمزة و «أم» عليه لتقرير معنى الاستواء عليه و تأكيده، فإنّهما جرّدتا عن معنى الاستفهام لمجرّد الاستواء، كما جرّدت حرف النداء عن الطلب لمجرّد التخصيص في قولهم: اللّهمّ اغفر لنا أيّتها العصابة، فإنّ حرف النداء يستعمل للنداء و الاختصاص، و قد سلب عنه معنى النداء و بقي معنى الاختصاص، و «أيّتها العصابة» تفسير للنون في «لنا» كأنّه قال: اللهمّ اغفر للعصابة.

و إنّما اقتصر عليه «3» دون البشارة لأنّه أوقع في القلب و أشدّ تأثيرا في النفس، من حيث إن دفع الضرّ أهمّ من جلب النفع، فإذا لم ينفع كانت البشارة بعدم النفع أولى.

و اعلم أنّه سهّل الثانية و فصل بالألف ب ج «4»، و أبدل الثانية ألفا أو سهّلها بلا فصل ج، و سهّل الثانية بلا فصل د، و خفّفهما مع الفصل أو سهّل الثانية مع الفصل ل، و قصر و حقّق م ن ش.

و قوله لا يُؤْمِنُونَ جملة مفسّرة لإجمال ما قبلها فيما فيه الاستواء، فلا

______________________________

(1) البقرة: 91.

(2) المائدة: 119.

(3) أي: على الإنذار.

(4) هذه الحروف رموز لأوائل أسامي القرّاء، و الظاهر بمراجعة كتب التفاسير أن «ب» لابن عامر، و «ج» لأهل الحجاز، و «د» لأهل المدينة، و «ل» أو «ك» لأهل الكوفة أو الكسائي، و «م» لأبي عمرو، و «ن» للحلواني، و «ش» لورش. و يحتمل غير ذلك، لاختلاف القرّاء في قراءة الهمزتين المجتمعتين في كلمة واحدة، فليراجع كتب التفسير و القراءات.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 53

محلّ لها، أو حال مؤكّدة، أو بدل عنه، أو خبر ل «إن» و الجملة قبلها اعتراض.

و فائدة الإنذار في حقّهم بعد علم اللّه تعالى بأنّه لا ينجع: إلزام الحجّة،

و حيازة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم فضل الإبلاغ، و لذلك قال: سَواءٌ عَلَيْهِمْ و لم يقل: عليك. و في الآية إخبار بالغيب إن أريد بالموصول أشخاص بأعيانهم، كأبي جهل و أضرابه، فهي من المعجزات.

و احتجّت الأشاعرة بهذه الآية على جواز التكليف بالممتنع، لأنّ اللّه سبحانه أخبر عن الكفّار بأنّهم لا يؤمنون و أمرهم بالإيمان، و هو ممتنع، لأنّه معلوم العدم، لعلم اللّه أنّ الكفّار يستمرّون على كفرهم فلو آمنوا لزم انقلاب علم اللّه جهلا و خبره كذبا، و شمل إيمانهم الإيمان بأنّهم لا يؤمنون، فيجتمع الضدّان.

و أجيب: أنّ فرض العلم بعدم الإيمان هو بعينه فرض المعلوم الّذي هو عدم الإيمان، لأنّ شرط العلم مطابقته للمعلوم، و حينئذ يكون امتناع الإيمان المفروض العدم امتناعا لا حقا بسبب الفرض، و هو لا يؤثّر في إمكان الإيمان الثابت للكفّار لذاته، بمعنى أنّه غير راجع له، لأنّ ما بالذات لا يتصوّر ارتفاعه عنها بسبب عارض من فرض و غيره، و التكليف بالفعل إنّما هو مشروط بإمكانه الذاتي و هو متحقّق.

و الحاصل: أنّ العلم تابع للمعلوم، و أنّ التابع لا يكون علّة للمتبوع، و لو صحّ هذا الدليل لزم نفي قدرته تعالى، لأنّه عالم بجميع المعلومات، فإذا كان ما علم وجوده واجبا و ما علم عدمه ممتنعا و كلاهما غير مقدور للّه لم يبق مقدور أصلا، و ذلك باطل اتّفاقا. و يمتنع تكليف الضدّين في الإخبار عن المكلّفين بالإيمان بأنّهم لا يؤمنون، لجواز ورود الإخبار حال غفلتهم.

و لمّا أعرضوا عن الحقّ عنادا و لجاجا و عتوّا و استكبارا، و تمكّن ذلك الإعراض في قلوبهم حتى صار كالطبيعة لهم، شبّههم اللّه تعالى بالوصف الخلقي المجبول عليه، فقال:

خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ عَلى سَمْعِهِمْ وَ عَلى أَبْصارِهِمْ

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 54

غِشاوَةٌ. و هذا كما يقولون: فلان مجبول على كذا و مفطور عليه، يريدون أنّه بليغ في الثبات عليه.

و قيل: المراد به تمثيل حال قلوبهم بقلوب البهائم الّتي خلقها اللّه تعالى خالية عن الفطن، أو قلوب أشخاص مقدّر ختم اللّه عليها، أي: لو قدّر و فرض ختم اللّه على قلوب لكانت قلوبهم مماثلة لها.

أو الختم في الحقيقة فعل الشيطان أو الكافر، لكن لمّا كان صدوره عنه بإقداره تعالى إيّاه و تمكينه عليه أسند إليه الفعل إسناد الفعل إلى المسبّب.

أو المراد أن أعراقهم لمّا رسخت في الكفر و استحكمت بحيث لم يبق طريق إلى تحصيل إيمانهم سوى القسر و الإلجاء، ثم لم يقسرهم اللّه إبقاء على غرض التكليف الّذي من شأنه الاختيار، عبّر عن تركه بالختم، فإنّه سدّ لإيمانهم. و فيه إشعار على رسوخ أمرهم في الغيّ، و تناهي انهماكهم في الضلال و البغي.

أو يكون ذلك حكاية لما كانت الكفرة يقولون: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ «1» تهكّما و استهزاء بهم.

أو يكون ذلك في الآخرة، و إنّما أخبر عنه بالماضي لتحقّقه و تيقّن وقوعه.

و يشهد له قوله تعالى: وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَ بُكْماً «2».

أو المراد بالختم و سم قلوبهم بسمة تعرفها الملائكة فيبغضونهم و ينفرون عنهم. و على هذا المنهاج كلامنا فيما يضاف إلى اللّه تعالى من طبع و إضلال و نحوهما.

و لا يجوز إسناد الختم في هذه الآية، و الطبع في قوله: أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ

______________________________

(1) فصّلت: 5.

(2) الإسراء: 97.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 55

عَلى قُلُوبِهِمْ وَ

سَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ «1» و الإضلال في قوله: يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ «2» و الإقساء في قوله: وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً «3» و الإغفال في قوله: وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ «4»، إلى اللّه تعالى على الحقيقة، لمنافاته التكليف الّذي مناطه الاختيار، و لعدم فائدة الأمر و النهي، و لاستلزامه القبح على اللّه، و اللّه يتعالى عن فعل القبيح علوّا كبيرا. و أيضا كيف يتخيّل خلق القبيح و قد وردت الآية ناعية على الكفّار شناعة صفتهم و سماجة حالهم، و نيط بذلك الوعيد بعذاب عظيم؟ و بواقي الأدلّة و البراهين على هذا المطلوب أحلناها إلى علم الكلام خوفا من الإطناب.

و قال في الكشّاف: «لا ختم و لا تغشية ثمّ على الحقيقة، و إنّما هو من باب المجاز. و يحتمل أن يكون من كلا نوعيه، و هما: الاستعارة و التمثيل. أمّا الاستعارة فأن تجعل «قلوبهم»، لأن الحقّ لا ينفذ فيها و لا يخلص إلى ضمائرها من قبل إعراضهم عنه و استكبارهم عن قبوله و اعتقاده، و «أسماعهم»، لأنّها تمجّه و تنبو عن الإصغاء إليه و تعاف استماعه، كأنّها مستوثق منها بالختم، و «أبصارهم»، لأنّها لا تجتلي آيات اللّه المعروضة و دلائله المنصوبة كما تجتليها أعين المعتبرين المستبصرين، كأنّما غطّي عليها و حجبت بينها و بين الإدراك. و أما التمثيل فأن تمثّل حيث لم يستنفعوا بها في الأغراض الدينيّة الّتي كلّفوها و خلقوا من أجلها بأشياء ضرب حجاب بينها و بين الاستنفاع بها بالختم و التغطية» «5».

و قوله: وَ عَلى سَمْعِهِمْ معطوف على «قلوبهم»، لقوله تعالى:

______________________________

(1) النحل: 108.

(2) الرعد: 27.

(3) المائدة: 13.

(4) الكهف: 28.

(5) الكشّاف 1: 48.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 56

وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ «1»،

و للوفاق على الوقف عليه، و لأنّهما لمّا اشتركا في الإدراك من جميع الجوانب جعل ما يمنعهما من خاصّ فعلهما الختم الّذي يمنع من جميع الجهات، و إدراك الأبصار لمّا اختصّ بجهة المقابلة جعل المانع لها من فعلها الغشاوة المختصّة بتلك الجهة. و كرّر الجارّ ليكون أدلّ على شدّة الختم في الموضعين، و استقلال كلّ منهما بالحكم.

و توحيد «السمع» للأمن عن اللبس، و اعتبار الأصل، فإنّه مصدر في أصله و المصادر لا تجمع، أو على تقدير مضاف مثل: و على حواسّ سمعهم.

و الأبصار جمع بصر، و هو إدراك العين، كما أنّ البصيرة نور القلب و هو ما به يستبصر و يتأمّل. و قد يطلق مجازا على القوّة الباصرة و على العضو. و كذا السمع.

و يجوز أن يراد بهما في الآية العضو، لأنّه أشدّ مناسبة للختم و التغطية، و بالقلب ما هو محلّ العلم، و قد يطلق و يراد به العقل و المعرفة، كما قال اللّه تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ «2». و إنّما جاز إمالة الألف مع الصاد لأنّ الراء المكسورة تغلب المستعلية، لما فيها من التكرير.

و الختم و الكتم أخوان، لأنّ في الاستيثاق من الشي ء بضرب الخاتم عليه كتما له و تغطية لئلّا يتوصّل إليه و لا يطّلع عليه. و الغشاوة الفعالة من: غشاه إذا غطّاه، بنيت لما اشتمل على الشي ء كالعصابة و العمامة. و «غشاوة» مرفوع بالابتداء عند سيبويه، و بالجارّ و المجرور عند الأخفش.

ثم وعدهم لما يستحقّونه فقال: وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ العذاب كالنكال بناء و معنى. و أصله الإمساك و المنع، و منه: الماء العذب، لأنّه يقمع العطش و يردعه، ثمّ اتّسع و اطلق على كلّ ألم

شديد و إن لم يكن نكالا، أي: عقابا يردع الجاني عن المعاودة، فهو أعمّ منهما. و قيل: اشتقاقه من التعذيب الّذي هو إزالة العذب.

______________________________

(1) الجاثية: 23.

(2) ق: 37.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 57

و العظيم نقيض الحقير، و الكبير نقيض الصغير، فكما أنّ الحقير دون الصغير فالعظيم فوق الكبير، و يستعملان في الجثث و الأحداث جميعا تقول: رجل عظيم جثّته أو خطره.

و معنى التنكير في «غشاوة» و «عذاب عظيم» أن على أبصارهم غشاوة ليس ممّا يتعارفه الناس، و هو التعامي عن الآيات، و لهم من الآلام العظام نوع لا يعلم كنهه إلّا اللّه.

[سورة البقرة (2): الآيات 8 الى 16]

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ (8) يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ ما يَخْدَعُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (9) فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (10) وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ (11) أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ (12)

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا كَما آمَنَ النَّاسُ قالُوا أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَ لكِنْ لا يَعْلَمُونَ (13) وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ (14) اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ (16)

و لمّا افتتح سبحانه بذكر الّذين أخلصوا دينهم للّه، و واطأت فيه قلوبهم

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 58

ألسنتهم، و وافق سرّهم علنهم، و فعلهم قولهم، ثمّ ثنّى بطريق التقابل و التضادّ بالّذين محضوا الكفر ظاهرا و باطنا،

قلوبا و ألسنة، فثلّث بالّذين آمنوا بأفواههم و لم تؤمن قلوبهم، و أبطنوا خلاف ما أظهروا، و هم الّذين قال فيهم: مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى هؤُلاءِ وَ لا إِلى هؤُلاءِ «1» و سمّاهم المنافقين، و كانوا أخبث الكفرة و أبغضهم إليه و أمقتهم عنده، لأنّهم خلطوا بالكفر تمويها و تدليسا، و بالشرك استهزاء و خداعا، و لذلك أنزل فيهم: إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ «2» و وصف حال الّذين كفروا في آيتين، و حال الّذين نافقوا في ثلاث عشرة آية هي أشأم الأعداد عرفا، فنعى عليهم فيها خبثهم و مكرهم، و فضحهم و سفّههم، و استجهلهم و استهزأ بهم، و سجّل بطغيانهم و عمههم، و دعاهم صمّا و بكما و عميا، و ضرب لهم الأمثال الشنيعة، فعطفهم على قصّة الّذين كفروا كما تعطف الجملة على الجملة فقال: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ.

النّاس أصله أناس، لقولهم: إنسان و إنس و أناسي، فحذفت الهمزة و عوّض عنها حرف التعريف، و لذلك لا يكاد يجمع بينهما. و هو اسم جمع، إذ لم يثبت فعال من أبنية الجمع. مأخوذ من إنس، لأنّهم يستأنسون بأمثالهم، أو: آنس، لأنّهم ظاهرون مبصرون، و لذلك سمّوا: بشرا، كما سمّي الجنّ جنّا لاجتنانهم. و اللام فيه للجنس، و «من» موصوفة، إذ لا عهد، و كأنّه قال: و من الناس ناس يقولون. و قيل:

للعهد، و المعهود هم الّذين كفروا، و «من» موصولة يراد بها ابن أبيّ رأس المنافقين و أصحابه، فإنّهم من حيث إنّهم صمّموا على النفاق دخلوا في عداد الكفّار المختوم على قلوبهم، و اختصاصهم بزيادة زادوها على الكفر لا يأبى دخولهم تحت هذا

______________________________

(1) النساء: 143.

(2)

النساء: 145.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 59

الجنس، فإنّ الأجناس تتنوّع بزيادات يختلف فيها أبعاضها، فتكون الآية تقسيما للقسم الثاني.

و اختصاص الإيمان باللّه و باليوم الآخر بالذكر تخصيص لما هو المقصود الأعظم من الإيمان، و ادّعاء منهم كذبا بأنّهم احتازوا الإيمان من المبدأ و المعاد، و أحاطوا بأوّله و آخره، و كشف عن إفراطهم في الخبث و تماديهم في الغيّ و الفساد، لأنّهم كانوا يهودا و إيمان اليهود باللّه ليس بإيمان، لقولهم: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ «1» و كذلك إيمانهم باليوم الآخر، لأنّهم يعتقدون أنّ الجنّة لا يدخلها غيرهم، و أنّ النار لن تمسّهم إلّا أيّاما معدودة، و غيرها، و يرون المؤمنين أنّهم آمنوا بمثل إيمانهم، فكان قولهم: «آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالْيَوْمِ الْآخِرِ» خبثا مضاعفا و كفرا ذا وجهين، لأنّ قولهم هذا لو صدر عنهم لا على وجه النفاق فهو كفر لا إيمان، فإذا قالوه على وجه النفاق، خديعة للمؤمنين و استهزاء بهم، و أروهم أنّهم مثلهم في الإيمان الحقيقي، كان خبثا إلى خبث، و كفرا إلى كفر.

و في تكرير الباء ادّعاء الإيمان منهم بكلّ واحد على الأصالة و الاستحكام، و القول هو التلفّظ بما يفيد، و يقال بمعنى المقول، و للمعنى المتصوّر في النفس المعبّر عنه باللفظ، و للرأي و المذهب مجازا.

و المراد باليوم الآخر من وقت الحشر إلى ما لا ينتهي، أو إلى أن يدخل أهل الجنّة الجنّة، و أهل النار النار، لأنّه آخر الأوقات المحدودة الّتي لا حدّ للوقت بعده.

ثمّ أنكر سبحانه ما ادّعوه و نفى ما انتحلوا إثباته، فقال: وَ ما هُمْ بِمُؤْمِنِينَ و كان أصله: و ما آمنوا، ليطابق قولهم في التصريح بشأن الفعل دون الفاعل، لكنّه عكس تأكيدا و مبالغة في التكذيب،

لأنّ إخراج ذواتهم من عداد المؤمنين أبلغ من نفي الإيمان عنهم في ماضي الزمان، و لذلك أكّد النفي بالباء.

______________________________

(1) التوبة: 30.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 60

و أطلق الإيمان على معنى أنّهم ليسوا من الإيمان في شي ء.

و هم في هذا القول يزعمون أنّهم يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا. الخدع أن توهم صاحبك خلاف ما تخفيه من المكروه لتزلّه عمّا هو بصدده. و أصله الإخفاء، و منه: المخدع للخزانة. و المخادعة تكون بين اثنين. و خداعهم مع اللّه ليس على ظاهره، لأنّه لا يخفى عليه خافية، و لأنّهم لم يقصدوا خديعته، بل المراد إمّا مخادعة رسول اللّه على حذف المضاف، أو على أن معاملة الرسول معاملة اللّه من حيث إنّه خليفته، و هذا مثل أن يقال: قال الملك كذا، و إنّما القائل وزيره أو خاصّته الّذين قولهم قوله. و يؤيّده قوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ «1» إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ «2». و إما أن صورة صنيعهم مع اللّه- من إظهار الإيمان، و استبطان الكفر، و صنع اللّه معهم في إخفاء حالهم، و إجراء أحكام الإسلام عليهم، و هم عنده أخبث الكفّار و أهل الدّرك الأسفل من النار، استدراجا لهم، و امتثال الرسول و المؤمنين أمر اللّه في إخفاء حالهم، و إجراء أحكام الإسلام عليهم، مجازاة لهم بمثل صنيعهم- صورة صنيع المتخادعين.

و يحتمل أن يراد ب «يخادعون» يخدعون، لأنّه بيان ل «يقول»، إلّا أنّه أخرج في زنة «فاعل» للمبالغة، فإنّ الزنة لمّا كانت للمغالبة، و الفعل متى غولب فيه فاعله كان أبلغ منه إذا جاء بلا مقابلة معارض، استصحبت ذلك، لأنّه يزيد قوّة الداعي دفعا لمعارضته. و للمبالغة المذكورة قرأ نافع و ابن كثير

و أبو عمرو: وَ ما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ و غيرهم يقرءون: يخدعون، لأنّ المخادعة لا تتصوّر إلّا بين اثنين.

و كان غرضهم في إظهار الإيمان مع كفر الباطن أن يدفعوا عن أنفسهم ما يتطرّق بالكفرة من النوائب الصادرة عن المسلمين، و أن يفعل بهم ما يفعل بالمؤمنين

______________________________

(1) النساء: 80.

(2) الفتح: 10.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 61

من الإكرام و الإعطاء، و أن يختلطوا بالمسلمين فيطّلعوا على أسرارهم و يذيعوها إلى معانديهم، و غير ذلك من المقاصد و الأغراض. و المعنى أنّ دائرة الخداع راجعة إليهم، و ضررها يحيق بهم و لا يعدوهم إلى غيرهم، و أنّهم في ذلك خدعوا أنفسهم لمّا غرّوها بذلك، و خدعتهم أنفسهم حيث حدّثتهم بالأماني الباطلة، و حملتهم على مخادعة من لا يخفى عليه خافية.

و النفس ذات الشي ء و حقيقته، ثم قيل للروح، لأنّ نفس الحيّ بها، و للقلب، لأنّه محلّ الروح، و للدّم، لأنّ قوامها به، و للماء، لفرط حاجتها إليه، و للرأي في قولهم: فلان يؤامر نفسه، إذ الأمر ينبعث عنها. و المراد بالأنفس هاهنا ذواتهم.

و يجوز أن يراد قلوبهم و دواعيهم و آراؤهم، أي: هم إنّما يخدعون ذواتهم و قلوبهم و آراءهم.

وَ ما يَشْعُرُونَ لا يحسّون بذلك، لتمادي غفلتهم، فإنّ الشعور علم الإنسان الشي ء علم حسّ، و مشاعر الإنسان حواسّه. جعل اللّه لحوق و بال الخداع و رجوع ضرره إليهم في الظهور كالمحسوس الّذي لا يخفى إلّا على مؤوف الحواسّ.

ثم فسّر علّة عدم شعورهم بخدعهم أنفسهم في القول المذكور فقال: فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أستعير المرض الّذي هو يعرض البدن فيخرجه عن الاعتدال الخاصّ به و يوجب الخلل في أفعاله للأعراض النفسانيّة الّتي تخلّ بكمالها، كالجهل و سوء الاعتقاد و الغلّ

و الحسد على رسول اللّه و المؤمنين، و غير ذلك ممّا هو فساد و آفة، لأنّها مانعة عن نيل الفضائل، أو مؤدّية إلى زوال الحياة الحقيقيّة الأبديّة، شبيهة بالمرض، كما استعيرت الصحّة و السلامة في نقائض ذلك. فالمراد به هنا ما في قلوبهم من الكفر و الحقد و الحسد على رسول اللّه و المؤمنين. و يجوز أن يراد في الآية كلا المعنيين، فإن قلوبهم كانت متألّمة تحرّقا على ما فات عنهم من الرئاسة،

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 62

و حسدا على ما يرون من إثبات أمر الرسول و استعلاء شأنه يوما فيوما، و نفوسهم كانت مؤوفة «1» بالكفر و سوء الاعتقاد و معاداة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم و نحوها.

فَزادَهُمُ اللَّهُ مَرَضاً بسبب ما ينزل على رسوله من الوحي، فيكفرون و يزدادون كفرا إلى كفرهم، فكأنّه سبحانه زادهم ما ازدادوه، فأسند الفعل إلى المسبّب، كما أسنده إلى السورة في قوله: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ «2» لكونها سببا، أو أراد: كلّما زاد اللّه رسوله نصرة على الأعداء و تمكّنا و تبسّطا في البلاد و استعلاء لشأنه يوما فيوما، فزادهم اللّه غمّهم بما زاد في إعلاء أمره و اعتلاء ذكره، فازدادوا غلّا و حسدا، أو ازدادت قلوبهم ضعفا و جبنا حين شاهدوا شوكة المسلمين، و إمداد اللّه لهم بالملائكة، و قذف الرعب في قلوبهم. أو زاد اللّه غمّ قلوبهم التي كانت متألّمة تحرّقا على ما فات عنهم من الرئاسة بما زاد في إعلاء أمره و ارتفاع ذكره.

و هذا عذاب لهم في الدنيا وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة، أي: مؤلم، يقال:

ألم فهو أليم، كوجع فهو وجيع. وصف به العذاب للمبالغة على طريقة قولهم: جدّ جدّه. و

ذلك العذاب المؤلم لهم بِما كانُوا يَكْذِبُونَ أي: بسبب كذبهم. و «ما» مصدريّة. و الكذب هو الخبر عن الشي ء على خلاف ما هو به. و في هذا إشارة إلى قبح الكذب، و أنّ لحوق العذاب الأليم من أجل كذبهم.

و قرأها عاصم و حمزة و الكسائي، و قرأ الباقون «يكذّبون» من: كذّبه، لأنّهم يكذّبون الرسول بقلوبهم. أو من «كذّب» الّذي هو للمبالغة أو التكثير، فيكون لازما. و فيه مبالغة إمّا باعتبار الكيف أو الكمّ، مثل: بيّن الشي ء و موّتت البهائم. أو من: كذّب الوحشي، إذا جرى شوطا و وقف لينظر ما وراءه، فإنّ المنافق متحيّر متردّد.

______________________________

(1) أي أصابتها آفة.

(2) التوبة: 125.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 63

ثم عطف على «يكذبون» قوله: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ و يجوز أن يكون معطوفا على «يقول»، لأنك لو قلت: و من الناس من إذا قيل لهم لا تفسدوا، صحّ الكلام. و الفساد خروج الشي ء عن حال استقامته و كونه منتفعا به، و نقيضه الصلاح. و كان فساد المنافقين في الأرض بميلهم إلى الكفّار، و إفشاء أسرار المسلمين إليهم، و إغرائهم عليهم بتهييج الحروب و الفتن، فإنّ ذلك يؤدّي إلى فساد ما في الأرض من الناس و الدوابّ و الحرث، و منه إظهار المعاصي، و الإهانة بالدّين، فإنّ الإخلال بالشرائع و الإعراض عنها ممّا يوجب الهرج و المرج، و يخلّ بنظام العالم. و القائل هو اللّه تعالى، أو الرسول، أو بعض المؤمنين. و قرأ الكسائي بإشمام الضمّ الأوّل. و إسناد «قيل» إلى «لا تفسدوا» و «آمنوا» و «آمنّا» باعتبار إسناده إلى اللفظ، كأنّه قيل: و إذا قيل لهم هذا القول و هذا الكلام، فلا يرد كيف صحّ أن يسند

«قيل» إلى «لا تفسدوا»، و كذا إلى «آمنّا» و «آمنوا»، و إسناد الفعل إلى الفعل ممّا لا يصحّ؟

و قوله: قالُوا إِنَّما نَحْنُ مُصْلِحُونَ جواب ل «إذا»، و ردّ للناصح على سبيل المبالغة. و المعنى: أنّه لا يصحّ مخاطبتنا بذلك، فإنّ شأننا ليس إلّا الإصلاح، و انّ حالنا متمحّضة عن شوائب الفساد، لأنّ «إنّما» يفيد قصر ما دخله على ما بعده.

و إنّما قالوا ذلك لأنّهم تصوّروا الفساد بصورة الصلاح، لما في قلوبهم من المرض، كما قال اللّه تعالى: أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً «1».

ثم ردّ اللّه لما ادّعوه أبلغ ردّ بقوله: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْمُفْسِدُونَ وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ و أبلغيّته للاستئناف به، و تصديره بحرفي التأكيد، أعني: «ألا» المنبّهة على تحقّق ما بعدها، فإنّ همزة الاستفهام الّتي للإنكار إذا دخلت على النفي أفادت تحقيقا،

______________________________

(1) فاطر: 8.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 64

و نظيره: أَ لَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ «1»، و «إنّ» المقرّرة للنسبة، و تعريف الخبر، و توسيط الفصل، و الاستدراك بقوله: وَ لكِنْ لا يَشْعُرُونَ

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا هذا من تمام النصح و الإرشاد، فإنّ كمال الإيمان بمجموع الأمرين: الإعراض عمّا لا ينبغي، و هو المراد بقوله: «لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ»، و الإتيان بما ينبغي، و هو المعنيّ بقوله: آمنوا. كَما آمَنَ النَّاسُ في حيّز النصب على المصدر، و «ما» مصدريّة، أي: آمنوا إيمانا كإيمان الناس. و اللام للعهد، أي: كإيمان أصحاب رسول اللّه، و هم ناس معهودون، أو عبد اللّه بن سلام و أضرابه، أي: كما آمن أصحابكم و إخوانكم. أو للجنس، فإنّ اسم الجنس كما يستعمل لمسمّاه مطلقا، يستعمل لما يستجمع المعاني المقصودة منه و المخصوصة به، و لذلك يسلب

عن غيره فيقال: زيد ليس بإنسان. و المراد: الكاملون في الانسانيّة- أي: المؤمنون، كأنّهم الناس على الحقيقة، و من عداهم كالبهائم في فقد التمييز بين الحقّ و الباطل- العاملون بقضيّة العقل.

و على التقادير: قالُوا في جواب الناصح: أَ نُؤْمِنُ كَما آمَنَ السُّفَهاءُ الاستفهام للإنكار، و اللام مشار بها إلى الناس، كما تقول لصاحبك: إنّ زيدا قد سعى بك، فيقول: أو قد فعل السفيه؟ و إنّما سفّهوهم لاعتقاد فساد رأيهم، أو لتحقير شأنهم، فإنّ أكثر المؤمنين كانوا فقراء و منهم موال كصهيب و بلال، أو لعدم المبالاة بمن آمن منهم إن فسّر «الناس» بعبد اللّه بن سلام و أشياعه. و السفه خفّة و ضعف في الرأي يقتضيهما نقصان العقل، و الحلم يقابله.

فردّ اللّه تعالى قولهم و جهّلهم بقوله: أَلا إِنَّهُمْ هُمُ السُّفَهاءُ وَ لكِنْ لا يَعْلَمُونَ فإنّ الجاهل بجهله على خلاف ما هو الواقع أعظم ضلالة و أتمّ جهالة من المعترف بجهله، فإنّه ربّما يعذر و تنفعه الآيات و النذر.

______________________________

(1) القيامة: 40.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 65

و إنّما فصلت هذه الآية ب «لا يعلمون» و الّتي قبلها ب «لا يشعرون» لأنّه أكثر طباقا لذكر السفه، فإنّ الفساد يدرك بالحسّ فناسب «لا يشعرون»، أي: لا يحسّون، و إنّ خفّة العقل و الرأي يدرك بالعقل فناسبت «لا يعلمون». و لأن الوقوف على أمر الدين و التمييز بين الحقّ و الباطل ممّا يفتقر إلى نظر و تفكّر، و أمّا النفاق و ما فيه من الفتن و الفساد من التغاور و التحارب و التناحر فإنّما يدرك بأدنى تفطّن و تأمّل فيما يشاهد من أقوالهم و أفعالهم، فهو كالمحسوس و المشاهد، و لأنّه قد ذكر السفه فكان ذكر العلم معه أحسن.

ثم بيّن

سبحانه ما كانوا يعاملون مع المؤمنين و الكفّار فقال: وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا أي: صادفوهم، من اللقاء بمعنى المصادفة؛ يقال: لقيته و لاقيته إذا صادفته و استقبلته، و منه ألقيته: إذا طرحته، فإنّك بطرحه جعلته بحيث يلقى. قالُوا آمَنَّا كما آمنتم باللّه و رسوله.

وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ من: خلوت بفلان و إليه إذا انفردت معه، أو من خلاك ذمّ أي: عداك و مضى عنك، و منه: القرون الخالية. و المراد ب «شياطينهم» الّذين ماثلوا الشيطان في تمرّدهم، و هم المظهرون كفرهم، و إضافتهم إليهم للمشاركة في الكفر، أو كبار المنافقين. و القائلون صغارهم. و النون عند سيبويه إمّا أصليّة من: شطن، إذا بعد، فإنّه بعيد عن الصلاح، و إمّا زائدة من: شاط، إذا بطل، كما مرّ «1» في الاستعاذة.

و المعنى: إذا فارقوا المؤمنين و انفردوا مع رؤسائهم من الكفّار أو المنافقين الّذين أمروهم بالتكذيب أو مضوا إليهم قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ أي: إنّا مصاحبوكم و موافقوكم على دينكم. خاطبوا المؤمنين بالجملة الفعليّة، و الشياطين بالجملة الاسميّة المؤكّدة ب «إنّ» لأنهم قصدوا بالأولى دعوى إحداث الإيمان، و بالثانية

______________________________

(1) في ص 20.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 66

تحقيق ثباتهم على ما كانوا عليه.

و قوله: إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ تأكيد لما قبله، لأنّ المستهزئ بالشي ء المستخفّ به مصرّ على خلافه. و يجوز أن يكون بدلا منه، لأنّ من حقّر الإسلام فقد عظّم الكفر، أو استئنافا، فكأنّ الشياطين قالوا لهم لمّا قالوا إنّا معكم: إن صحّ ذلك فما لكم توافقون المؤمنين و تدّعون الإيمان؟ فأجابوا بذلك.

و الاستهزاء السخريّة و الاستخفاف، يقال: هزأت و استهزأت بمعنى، كأجبت و استجبت. و أصله الخفّة من الهزء و هو القتل السريع، يقال: هزأ فلان إذا

مات على مكانه، و ناقة تهزأ، أي: تسرع و تخفّ.

اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ يجازيهم على استهزائهم بإنزال الهوان و الحقارة بهم.

سمّي جزاء الاستهزاء باسمه، كما سمّي جزاء السيّئة سيّئة في قوله: وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «1»، إمّا لمقابلة اللفظ باللفظ، أو لكونه مماثلا له في القدر، أو يرجع اللّه وبال الاستهزاء عليهم، فيكون كالمستهزئ بهم، من باب إطلاق اسم السبب الّذي هو الاستهزاء على المسبّب الّذي هو وبال الاستهزاء. أو يعاملهم معاملة المستهزئ. أمّا في الدنيا فبإجراء أحكام المسلمين عليهم، و استدراجهم بالإمهال و الزيادة في النعمة على التمادي في الطغيان. و أمّا في الآخرة فبأن يفتح لهم و هم في النار بابا إلى الجنّة، فيسرعون نحوه فإذا صاروا إليه سدّ عليهم الباب، و ذلك قوله: فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ «2».

و إنّما استؤنف به و لم يعطف ليدلّ على أنّ اللّه تعالى تولّى مجازاتهم على أبلغ الوجه بحيث استهزاؤهم ليس باستهزاء، و لا يؤبه له في مقابلته، لما ينزل بهم عن النكال، و يحلّ بهم من الهوان و الذلّ، و لم يحوج المؤمنين إلى أن يعارضوهم بذلك.

______________________________

(1) الشورى: 40.

(2) المطفّفين: 34.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 67

و لم يقل: اللّه مستهزئ بهم، ليطابق قولهم، إيماء بأن الاستهزاء يحدث حالا فحالا، و يتجدّد حينا بعد حين، و هكذا كانت نكايات اللّه فيهم، كما قال: أَ وَ لا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ «1»، و ما كانوا في أكثر أوقاتهم من تهتّك أستار و تكشّف أسرار.

وَ يَمُدُّهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ من: مدّ الجيش و أمدّه، إذا زاده و ألحق به ما يقوّيه و يكثره. و كذلك مدّ الدّواة و أمدّها: زادها ما يصلحها.

و منه: مددت السراج و الأرض، إذا استصلحتهما بالزيت و السماد. و مدّه الشيطان في الغيّ و أمدّه: إذا وصله بالوساوس حتى يتلاحق غيّه و يزداد انهماكا فيه، لا من المدّ في العمر، فإنّه يعدّى باللام ك: أملى له. و يدلّ عليه قراءة ابن كثير: و يمدّهم.

و المعنى: أنّه يمنعهم ألطافه الّتي يمنحها المؤمنين، و يخذلهم بسبب كفرهم و إصرارهم، فتبقى قلوبهم متزايدة الرّين و الظلمة كتزايد الانشراح و النور في قلوب المؤمنين. أو مكّن الشيطان من إغوائهم، و لم يمنعه منهم قسرا و إلجاء، فزادهم طغيانا، فأسند ذلك الزائد إلى اللّه سبحانه، لأنّه مسبّب عن فعله بهم من منع الألطاف بسبب إصرار كفرهم، إسناد الفعل إلى المسبّب.

و الطغيان: الغلوّ في الكفر، و مجاوزة الحدّ في العتوّ. و أصله تجاوز الشي ء عن مكانه. قال اللّه تعالى: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ «2».

و أضاف الطغيان إليهم لئلّا يتوهّم أنّ إسناد الفعل إليه سبحانه على الحقيقة، بل يدلّ على أنّ الطغيان و التمادي في الضلال ممّا اقترفته نفوسهم و اجترحته أيديهم، و أنّ اللّه بري ء منه، ردّا لاعتقاد الكفرة القائلين: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا «3»،

______________________________

(1) التوبة: 126.

(2) الحاقّة: 11.

(3) الأنعام: 148.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 68

و نفيا لو هم من عسى يتوهّم عند إسناد المدّ إلى ذاته لو لم يضف الطغيان إليهم أن الطغيان فعله، فلمّا أسند المدّ إليه على الطريق الّذي ذكر أضاف الطغيان إليهم ليميط الشبهة و يقلعها، و يدفع في صدر من يلحد في صفاته. و مصداق ذلك: أنّه حين أسند المدّ إلى الشياطين أطلق الغيّ و لم يقيّده بالإضافة في قوله: وَ إِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِ «1». و العمه مثل العمى، إلّا أنّ

العمه في الرأي و البصيرة خاصّة، و هو التحيّر و التردّد لا يدري صاحبه أين يتوجّه، و العمى في البصر.

أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى اختاروها عليه و استبدلوها به.

و أصله بذل الثمن لتحصيل ما يطلب من الأعيان، ثم أستعير للإعراض عمّا في يده محصّلا به غيره، سواء كان من المعاني أو الأعيان، ثم اتّسع فيه فاستعمل للرغبة عن الشي ء طمعا في غيره. و الضلالة: الجور عن القصد و فقد الاهتداء؛ يقال: ضلّ منزله، فاستعير للذهاب عن الصواب في الدين. و المعنى: أنّهم أخلّوا بالهدى الّذي جعل اللّه لهم بالفطرة الّتي فطر الناس عليها محصّلين الضلالة الّتي ذهبوا إليها، أو اختاروا الضلالة و استحبّوها على الهدى.

ثم رشّح للمجاز بقوله: فَما رَبِحَتْ تِجارَتُهُمْ فإنّه لمّا استعمل الاشتراء في معاملتهم أتبعه ما يشاكله، تمثيلا لخسارتهم. و الربح: الفضل على رأس المال.

و التجارة: طلب الربح بالبيع و الشراء. و أسند الخسران إلى التجارة و هو لأربابها على الاتّساع، لتلبّسها بالّذي هو له في الحقيقة و هو الفاعل، أو لمشابهتها إيّاه من حيث إنّها سبب الربح و الخسران.

وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ لطرق التجارة، فإنّ المقصود منها سلامة رأس المال و الربح، و هؤلاء قد أضاعوا الطلبتين معا، لأنّ رأس مالهم كان الفطرة السليمة و العقل الصرف، فلمّا اعتقدوا هذه الضلالات بطل استعدادهم و اختلّ عقلهم، و لم

______________________________

(1) الأعراف: 202.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 69

يبق لهم رأس مال يتوسّلون به إلى درك الحقّ و نيل الكمال، فبقوا خاسرين آيسين عن الربح فاقدين للأصل.

[سورة البقرة (2): الآيات 17 الى 18]

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ (17) صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ (18)

و لمّا جاء

بحقيقة حالهم عقّبها بضرب المثل الّذي يصوّر المعقول في صورة المحسوس، زيادة في التوضيح و التقرير، فإنّه أوقع في القلب و أقمع للخصم الألدّ، لأنّه يريك المتخيّل محقّقا و المعقول محسوسا، و لهذا أكثر اللّه في كتبه ذكر الأمثال، و فشت في كلام الأنبياء. و الحكماء، قال اللّه تعالى: وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ «1»، و من سور الإنجيل سورة الأمثال، فقال سبحانه:

مَثَلُهُمْ كَمَثَلِ الَّذِي اسْتَوْقَدَ ناراً.

و المثل في الأصل بمعنى النظير و الشبيه؛ يقال: مثل و مثل و مثيل، كشبه و شبه و شبيه، ثم شاع في القول السائر الممثّل مضربه بمورده: مثل. و هذا سمّي عند علماء البيان بالاستعارة التمثيليّة، و لا يضرب إلّا ما فيه غرابة، و لذا حوفظ عليه و حمي من التغيير، ثم استعير لكلّ حال أو قصّة لها شأن و فيها غرابة، مثل قوله تعالى: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ «2» و قوله: وَ لِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى «3».

و الاستيقاد طلب الوقود و السعي في تحصيله، و هو سطوع النار و ارتفاع

______________________________

(1) العنكبوت: 43.

(2) الرعد: 35.

(3) النحل: 60.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 70

لهبها. و النار جوهر لطيف مضي ء حارّ محرق. و النور ضؤها وضوء كلّ نيّر، و هو نقيض الظّلمة. و اشتقاقها من: نار ينور نورا إذا نفر، لأنّ فيها حركة و اضطرابا.

و «الّذي» بمعنى: الّذين، كما في قوله: وَ خُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا «1»، إن جعل مرجع الضمير في «بنورهم»، أو قصد جنس المستوقدين، أو أريد الجمع الّذي استوقد. على أنّ المنافقين لم يشبّه ذواتهم بذات المستوقد، بل شبّهت قصّتهم بقصّة المستوقد. و نحوه قوله: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ

أَسْفاراً «2»، و قوله: يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ «3»، فلا يلزم تشبيه الجماعة بالواحد. و المعنى: حالهم العجيبة الشأن و قصّتهم كحال الّذي استوقد نارا.

فَلَمَّا أَضاءَتْ ما حَوْلَهُ أي: النار ما حول المستوقد إن جعلتها متعدّية.

و يحتمل أن تكون غير متعدّية مسندة إلى ما حوله، و التأنيث للحمل على المعنى، لأن ما حول المستوقد أشياء و أماكن، أو إلى النار و «ما» موصولة في معنى الأمكنة نصب على الظرف، أو مزيدة و حوله ظرف. و تركيب الحول للدوران. و قيل للعام:

حول، لأنّه يدور.

و قوله: ذَهَبَ اللَّهُ بِنُورِهِمْ جواب «لمّا»، و الضمير ل «الّذي»، و جمعه للحمل على المعنى. و على هذا إنّما قال: بنورهم، و لم يقل: بنارهم، لأنّه المراد من إيقادها، أو استئناف أجيب به اعتراض سائل يقول: ما بالهم شبّهت حالهم بحال مستوقد انطفأت ناره؟ فقيل له: ذهب اللّه بنورهم. أو بدل من جملة التمثيل على سبيل البيان. و الضمير على الوجهين للمنافقين. و الجواب محذوف كما في قوله

______________________________

(1) التوبة: 69.

(2) الجمعة: 5.

(3) محمد: 20.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 71

تعالى: فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ «1»، للإيجاز و أمن الإلباس، كأنّه قيل: فلمّا أضاءت ما حوله خمدت فبقوا متحيّرين متحسّرين على فوت الضوء.

و إسناد الإذهاب إلى اللّه تعالى إمّا لأنّ الإطفاء حصل بسبب خفيّ أو أمر سماوي كريح أو مطر، أو للمبالغة، و لذلك عدّي الفعل بالباء دون الهمزة، لما فيها من معنى الاستصحاب و الاستمساك، يقال: ذهب السلطان بماله إذا أخذه، و ما أخذه اللّه و أمسكه فلا مرسل له، فهو أبلغ من الإذهاب. و لذلك عدل عن الضوء الّذي هو مقتضى قوله: «فَلَمَّا أَضاءَتْ» إلى النور، فإنّه لو قيل: ذهب

اللّه بضوئهم، احتمل ذهابه بما في الضوء من الزيادة و بقاء ما يسمّى نورا، و الغرض إزالة النور عنهم رأسا، ألا ترى كيف قرّر ذلك و أكّده بقوله: وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ لا يُبْصِرُونَ فذكر الظلمة الّتي هي عدم النور بالكلّية، و جمعها، و وصفها بأنّها ظلمة خالصة لا يتراءى فيها شبح أصلا. و «ترك» في الأصل بمعنى: طرح و خلّى، و له مفعول واحد، و إذا ضمّن معنى «صيّر» تعدّى إلى مفعولين، و جرى مجرى أفعال القلوب، كقول عنترة «2»:

فتركته جزر السّباع ينشنه ...

أي: طعمة السباع يأكلنه. و منه قوله تعالى: «وَ تَرَكَهُمْ فِي ظُلُماتٍ». أصله:

هم في ظلمات، ثم دخل «ترك» فنصب الجزأين. و الظلمة مأخوذة من قولهم: ما ظلمك أن تفعل كذا؟ أي: ما منعك؟ لأنّها تسدّ البصر و تمنع الرؤية. و ظلماتهم:

ظلمة الكفر، و ظلمة النفاق، و ظلمة يوم القيامة. أو ظلمة الضلال، و ظلمة سخط اللّه، و ظلمة العقاب السرمد. أو ظلمة شديدة كأنّها ظلمات متراكمة بعضها فوق بعض.

______________________________

(1) يوسف: 15.

(2) ديوان عنترة: 26. و عجز البيت: يقضمن حسن بنانه و المعصم.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 72

و مفعول «لا يبصرون» من قبيل المطروح المتروك غير المنويّ المقدّر، و كأنّ الفعل غير متعدّ. و المعنى: لا يكون لهم بصر.

مثّل اللّه سبحانه في هذه الآية إظهار إيمانهم- من حيث إنّه يحقن الدماء، و يحفظ الأموال و الأولاد، و يوجب مشاركتهم المسلمين في المغانم و الأحكام- بالنار الموقدة للاستضاءة، و ذهاب أثره و انطماس نوره بإهلاكهم و إفشاء حالهم بإطفاء اللّه تعالى إيّاها و إذهاب نورها. أو هذه الآية مثل ضربه اللّه تعالى لمن أتاه ضربا من الهدى فأضاعه، و لم يتوصّل به إلى نعيم

الأبد، فبقي متجبّرا متحسّرا، تقريرا و توضيحا لما تضمّنته الآية الاولى. و يدخل تحت عمومه هؤلاء المنافقون، فإنّهم أضاعوا ما نطقت به ألسنتهم من الحقّ باستبطان الكفر و إظهاره حين خلوا إلى شياطينهم، و من آثر الضلالة على الهدى المجعول له بالفطرة، أو ارتدّ عن دينه بعد ما آمن.

و لمّا سدّوا مسامعهم عن الإصغاء إلى الحقّ، و أبوا أن ينطقوا به ألسنتهم، و يتبصّروا الآيات بأبصارهم، جعلوا كأنّهم صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ أي: إيفت «1» مشاعرهم الّتي هي أصل الإحساس و الإدراك، و انتفت قواهم، كقوله:

صمّ إذا سمعوا خيرا ذكرت به و إن ذكرت بسوء عندهم أذنوا

أصمّ عن الشي ء الّذي لا أريده و أسمع خلق اللّه حين أريد

و إطلاقها عليهم على طريقة التمثيل لا الاستعارة، إذ من شرطها أن يطوى ذكر المستعار له، بحيث يمكن حمل الكلام على المستعار منه لولا القرينة، كقول زهير:

لدى أسد شاكي السّلاح مقذّف* له لبد أظفاره لم تقلّم و هاهنا و إن طوى ذكره لحذف المبتدأ لكنّه في حكم المنطوق به. هذا إذا جعلت

______________________________

(1) أي: صارت مشاعرهم ذات آفة.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 73

الضمير للمنافقين، فتكون الآية نتيجة التمثيل. و إن جعلته للمستوقدين فهي على حقيقتها. و المعنى: أنّهم لمّا أوقدوا نارا، فذهب اللّه بنورهم و تركهم في ظلمات هائلة، أدهشتهم بحيث اختلّت حواسّهم و انتقصت قواهم.

و الصم أصله صلابة من اكتناز الأجزاء، و منه قيل: حجر أصمّ و قناة صمّاء، سمّي به فقدان حاسّة السمع، لأنّ سببه أن يكون باطن الصماخ مكتنزا لا يكون فيه تجويف يشتمل على هواء يسمع الصّوت بتموّجه. و البكم الخرس.

و العمى عدم البصر عمّا من شأنه أن يبصر، و قد يقال لعدم البصيرة. و قوله:

فَهُمْ لا يَرْجِعُونَ معناه: لا يعودون إلى الهدى بعد أن باعوه و ضيّعوه، أو عن الضلالة بعد أن اشتروها، تسجيلا عليهم بالطبع، أو بقوا متحيّرين جامدين في مكانهم لا يبرحون، و لا يدرون أ يتقدّمون أم يتأخّرون؟ و كيف يرجعون إلى حيث ابتدأوا منه؟ و الفاء للدلالة على أنّ اتّصافهم بالأحكام السابقة سبب لتحيّرهم و احتباسهم.

[سورة البقرة (2): الآيات 19 الى 20]

أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ فِيهِ ظُلُماتٌ وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ مِنَ الصَّواعِقِ حَذَرَ الْمَوْتِ وَ اللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ (19) يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَ إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (20)

ثمّ ضرب مثلا آخر لحالهم عطفا على «الَّذِي اسْتَوْقَدَ» ليكون كشفا لحالهم بعد كشف، و إيضاحا غبّ إيضاح، فإنّه كما يجب على البليغ في مظانّ الإجمال

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 74

و الإيجاز أن يجمل و يوجز، فكذا الواجب عليه في موارد التفصيل و الإشباع أن يفصّل و يشبع، فقال مزيدا «1» للكشف و الإيضاح: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ على تقدير مضاف، أي: مثلهم كمثل ذوي صيّب، لقوله: يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ و «أو» في الأصل للتساوي في الشكّ، ثم اتّسع فيها فأطلقت للتساوي من غير شكّ، مثل:

جالس الحسن أو ابن سيرين، و من ذلك قوله: «أو كصيّب». و معناه: أن قصّة المنافقين مشبهة بهاتين القصّتين، و أنّهما سواء في صحّة التشبيه بهما، و أنت مخيّر في التمثيل بهما، أو بأيّتهما شئت.

و الصيّب فيعل من الصوب، و هو النزول من عال، يقال للمطر و السحاب ذي الصوب، و الآية تحتملهما. و تنكيره لأنّه أريد نوع من المطر شديد. و تعريف السماء

للدلالة على أنّ الغمام مطبق آخذ بآفاق السماء كلّها، فإنّ كلّ أفق منها يسمّى سماء، كما أنّ كلّ طبقة منها سماء. و يؤيّده ما في الصيّب من المبالغة من جهة الأصل و البناء و التنكير. و قيل: المراد بالسماء السحاب، فاللام لتعريف الماهيّة.

و المعنى: مثلهم كمثل قوم أخذهم المطر النازل من السحاب.

فِيهِ ظُلُماتٌ وَ رَعْدٌ وَ بَرْقٌ إن أريد بالصيّب المطر. فظلماته ظلمة تكاثفه بتتابع القطر، و ظلمة غمامه مع ظلمة الليل. و جعل الصيّب مكانا للرعد و البرق لأنّهما في أعلاه و منحدره ملتبسين به. و إن أريد به السحاب فظلماته سحمته و تطبيقه مع ظلمة الليل. و ارتفاعها بالظرف وفاقا، لأنّه معتمد على موصوف.

و الرعد صوت يسمع من السحاب. و اشتهر بين علماء المعقول أنّ سببه اضطراب أجرام السحاب و اصطكاكها إذا حدتها الريح. و البرق ما يلمع من السحاب، من: برق الشي ء بريقا. و كلاهما مصدر في الأصل، و لذلك لم يجمعا.

و جاءت هذه الأشياء منكّرة لأنّ المراد أنواع منها، فكأنّه قيل: في الصيّب

______________________________

(1) في الخطّية: مزيّة، و الظاهر أنّها تصحيف: مزيدا.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 75

ظلمات داجية، و رعد قاصف، و برق خاطف، فأصحاب الصيّب المنعوت بهذه الصفات الهائلة يَجْعَلُونَ أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ و الضمير راجع إلى أصحاب الصيّب. و المضاف و إن حذف لفظه و أقيم الصيّب مقامه لكن معناه باق، فيجوز أن يعوّل عليه. و هذه الجملة استئناف، فكأنّه لمّا ذكر ما يؤذن بالشدّة و الهول قيل:

فكيف حالهم مع مثل ذلك؟ فأجيب بها. و إنّما أطلق الأصابع موضع الأنامل للمبالغة.

و يتعلّق قوله: مِنَ الصَّواعِقِ ب «يَجْعَلُونَ»، أي: من أجلها يجعلون.

و الصاعقة: قصفة رعد هائل معها نار لطيفة حديدة، لا

تمرّ بشي ء إلّا أتت عليه، أي: أهلكته، من الصّعق و هو شدّة الصوت. و قد تطلق على كلّ هائل مسموع أو مشاهد. و يقال: صعقته الصاعقة إذا أهلكته بالإحراق أو شدّة الصوت. و بناؤها أن يكون صفة لقصفة الرعد، أو للرعد، و التاء إمّا للمبالغة، كما في الراوية بمعنى كثير الرواية للشعر و غيره، أو مصدر كالعافية و الكاذبة.

و قوله: حَذَرَ الْمَوْتِ نصب على العلّة، أي: يضعون أناملهم في آذانهم لخوف أن يموتوا بهذه الأصوات الشديدة الهائلة لأجل الصواعق، أو بالإحراق.

و الموت زوال الحياة. و في الكشّاف: «الموت فساد بنية الحيوان؛ و قيل: عرض لا يصحّ معه إحساس معاقب للحياة» «1». فهو يضادّها، لقوله: خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ «2». و ردّ بأنّ الخلق بمعنى التقدير، و الأعدام مقدّرة.

وَ اللَّهُ مُحِيطٌ بِالْكافِرِينَ لا يفوتونه كما لا يفوت المحاط به المحيط، لا يخلّصهم الخداع و الحيل. و الجملة اعتراضيّة لا محلّ لها.

و لمّا ذكر الرعد و البرق على ما يؤذن بالشدّة و الهول فكأنّ قائلا قال: فكيف

______________________________

(1) الكشّاف 1: 85.

(2) الملك: 2.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 76

حالهم مع مثل ذلك البرق؟ فقيل: يَكادُ الْبَرْقُ يَخْطَفُ أَبْصارَهُمْ فهو استئناف ثان. و «كاد» من أفعال المقاربة، وضعت لدنوّ الخبر من الوجود لعروض سببه، لكنّه لم يوجد إمّا لفقد شرط أو لعروض مانع. و «عسى» موضوعة لرجائه، ف «كاد» خبر محض، و لهذا جاءت متصرّفة، بخلاف عسى. و خبرها مشروط فيه أن يكون فعلا مضارعا، تنبيها على أنّه المقصود بالقرب، من غير «أن»، ليؤكّد القرب بالدلالة على الحال. و قد تدخل عليه حملا لها على عسى، كما تحمل عليها بالحذف من خبرها، لمشاركتهما في أصل معنى المقاربة. و الخطف: الأخذ

بسرعة.

و قوله: كُلَّما أَضاءَ لَهُمْ مَشَوْا فِيهِ وَ إِذا أَظْلَمَ عَلَيْهِمْ قامُوا استئناف ثالث، كأنّه جواب لمن يقول: كيف يصنعون في حالتي خفوق البرق و خفيته؟ فأجيب بذلك. و «أضاء» إمّا متعدّ و المفعول محذوف بمعنى: كلّما نوّر لهم ممشى شرعوه، أو لازم بمعنى: كلّما لمع لهم مشوا في مطرح نوره. و كذلك أظلم، فإنّه جاء متعدّيا منقولا من ظلم الليل، و يشهد له قراءة «أظلم» على البناء للمفعول. و إنّما قال مع الإضاءة: كلّما، و مع الإظلام: إذا، لأنهم حراص على المشي، فكلّما صادفوا منه فرصة اغتنموها، و لا كذلك التوقّف. و معنى قاموا: وقفوا و ثبتوا، و منه: قامت السوق إذا ركدت، و قام الماء: إذا جمد.

وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَذَهَبَ بِسَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ أي: و لو شاء أن يذهب بسمعهم بقصيف الرّعد و أبصارهم بوميض البرق لذهب بهما، فحذف المفعول لدلالة الجواب عليه. و لقد كثر حذفه في «شاء» و «أراد» حتى لا يكاد يذكر إلّا في الشي ء المستغرب، كقوله:

فلو شئت أن ابكي دما لبكيته و كقوله تعالى: لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا «1».

______________________________

(1) الأنبياء: 17.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 77

و «لو» من حروف الشرط دالّة على انتفاء الأوّل لانتفاء الثاني، ضرورة انتفاء الملزوم عند انتفاء لازمه. و فائدة هذه الشرطيّة إبداء المانع لذهاب سمعهم و أبصارهم مع قيام ما يقتضيه من البرق و الرعد. و قوله: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ تقرير لهذه الشرطيّة و دليل عليها، فإنّ المشيئة فرع القدرة.

و لمّا كان إسناد مشيئة اللّه تعالى بالأمور «1» القبيحة، و نسبة إرادته إلى الأفعال السيّئة- كإيجاد الكفر و المعاصي في العباد، على ما هو مذهب الأشاعرة- ضروريّ

البطلان، لاستلزامه رفع الاختيار الّذي هو مناط التكليف الشرعي، و عموم قدرة اللّه تعالى على الأشياء لا يستلزم أن يكون كلّها في تحت مشيئته و إرادته كما لا يخفى، فما قال البيضاوي: «إنّ فائدة هذه الشرطيّة التنبيه على أنّ تأثير الأسباب في مسبّباتها مشروطة بمشيئة اللّه تعالى، و أنّ وجودها مرتبط بأسبابها واقع بقدرته، و قوله: إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ كالتصريح به و التقرير له» «2» أمر غير معقول.

و «الشي ء» ما يصحّ أن يوجد، و هو يعمّ الواجب و الممكن، أو ما يصحّ أن يعلم و يخبر عنه، فيعمّ الممتنع. و لمّا كان مشروطا «3» في حدّ القادر أن لا يكون الفعل مستحيلا فالمستحيل مستثنى في نفسه عند ذكر القادر على الأشياء كلّها، فكأنّه قيل: إنّ اللّه على كلّ شي ء مستقيم- أي: قابل لتأثيره فيه- قدير. و نظيره:

فلان أمير على الناس، أي: على من وراءه منهم، و لم يدخل فيهم نفسه و إن كان من جملة الناس. و يختصّ هاهنا بالممكن، بدليل أنّ القدرة لا يمكن أن يتعلّق إلّا بشي ء ممكن، كما قال سيبويه في كتابه: «إنّ الشي ء يقع على كلّ ما أخبر عنه من

______________________________

(1) كذا في الخطّية، و لعلّ الصحيح: إلى الأمور.

(2) أنوار التنزيل 1: 102.

(3) في الخطّية: مشروط، و الصحيح ما أثبتناه.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 78

قبل أن يعلم أذكر هو أم أنثى» «1». و هو مذكّر أعمّ العامّ- كما أنّ اللّه أخصّ الخاصّ- يجري على الجسم و العرض و القديم، تقول: شي ء لا كالأشياء أي: معلوم لا كسائر المعلومات، و على المعدوم و المحال.

و القدرة: هو التمكّن من إيجاد الشي ء. و قيل: صفة تقتضي التمكّن، و قيل:

قدرة الإنسان هيئة بها

يتمكّن من الفعل، و قدرة اللّه تعالى عبارة عن نفي العجز عن الأشياء الممكنة. و القادر: هو الّذي إن شاء فعل، و إن لم يشأ لم يفعل. و القدير:

الفعّال لما يشاء على ما يشاء، و لذلك قلّما يوصف به غير الباري تعالى. و اشتقاق القدرة من القدر، لأنّ القادر يوقع الفعل على مقدار قوّته، أو على مقدار ما تقتضيه مشيئته.

و في الكشّاف و الأنوار: «الظاهر أنّ التمثيلين المذكورين من جملة التمثيلات المؤلّفة، و هو أن تشبّه كيفيّة منتزعة من مجموع تضامّت أجزاؤه و تلاصقت حتى صارت شيئا واحدا، بأخرى مثلها، كقوله تعالى: مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها «2» الآية، فإنّه تشبيه حال اليهود في جهلهم بما معهم من التوراة بحال الحمار في جهله بما يحمل من أسفار الحكمة. و الغرض منهما تمثيل حال المنافقين من الحيرة و الشدّة بما يكابد من انطفأت ناره بعد إيقادها في ظلمة، أو بحال من أخذته السماء في ليلة مظلمة مع رعد قاصف و برق خاطف و خوف من الصواعق.

و يمكن جعلهما من قبيل تمثيل المفرد، و هو أن تأخذ أشياء فرادى فتشبّهها بأمثالها، كقوله: وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ وَ لَا الظُّلُماتُ وَ لَا النُّورُ وَ لَا الظِّلُّ وَ لَا الْحَرُورُ «3». فيشبّه في الأوّل ذوات المنافقين بالمستوقدين، و إظهارهم الايمان

______________________________

(1) كتاب سيبويه 1: 14.

(2) الجمعة: 5.

(3) فاطر: 19- 21.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 79

باستيقاد النار، و ما انتفعوا به من حقن الدماء و سلامة الأموال و الأولاد و غير ذلك بإضاءة النار ما حول المستوقدين، و زوال ذلك عنهم على القرب بإهلاكهم و إفشاء حالهم، و إبقاؤهم في الخسار الدائم و العذاب السرمد بإطفاء نارهم

و الذهاب بنورهم.

و يشبّه في الثاني أنفسهم بأصحاب الصيّب، و إيمانهم المخالط بالكفر و الخداع بصيّب فيه ظلمات و رعد و برق، من حيث إنّه و إن كان نافعا في نفسه لكنّه لمّا وجد في هذه الصورة عاد نفعه ضرّا، و نفاقهم حذرا عن نكايات المؤمنين بجعل الأصابع في الآذان من الصواعق حذر الموت، و تحيّرهم لشدّة الأمر و جهلهم بما يأتون و يذرون، بأنّهم كلّما صادفوا من البرق خفقة انتهزوها فرصة مع خوف أن تخطف أبصارهم، فخطوا خطى يسيرة، ثم إذا خفي و فتر لمعانه بقوا متقيّدين لا حراك بهم» «1».

[سورة البقرة (2): الآيات 21 الى 22]

يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (21) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً وَ السَّماءَ بِناءً وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (22)

و لمّا عدّد فرق المكلّفين و ذكر خواصّهم و مصارف أمورهم أقبل عليهم بالخطاب على سبيل الالتفات، هزّا للسّامع و تنشيطا له، و اهتماما بأمر العبادة و تفخيما لشأنها، و جبرا لكلفة العبادة بلذّة المخاطبة، فقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا

______________________________

(1) الكشّاف 1: 80، أنوار التنزيل 1: 103- 104، و النصّ للثاني.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 80

رَبَّكُمُ «يا» حرف وضع لنداء البعيد، و أمّا نداء القريب فوضع له «أي» و «الهمزة»، ثم استعمل «يا» في مناداة من سها و غفل و إن قرب، تنزيلا له منزلة من بعد، فإذا نودي به القريب المفاطن فذلك للتأكيد المؤذن بأنّ الخطاب الّذي يتلوه معنيّ به جدّا. و قد ينادى به القريب تنزيلا له منزلة البعيد، لجلال عظمة المنادى و نهاية حقارة المنادي، كقول الداعي: يا اللّه يا ربّ،

و هو أقرب إليه من حبل الوريد. و هو مع المنادى جملة مفيدة، لأنّه نائب مناب الفعل.

و «أيّ» اسم مبهم جعل وصلة إلى نداء المعرّف باللام، فإنّ إدخال «يا» عليه متعذّر، لتعذّر الجمع بين حرفي التعريف. و اعطي حكم المنادى، و اجري عليه المقصود بالنداء وصفا موضحا ليزيل إبهامه. و التزم رفعه إشعارا بأنّه المقصود.

و أقحمت هاء التنبيه بين الصفة و موصوفها تأكيدا، و تعويضا عمّا يستحقّه «أيّ» من المضاف إليه، فإنّه لازم الإضافة. و قد كثر في كتاب اللّه النداء على هذه الطريقة، لاستقلاله بأبلغ تأكيد، و هو التدرّج من الإبهام إلى التوضيح. و الإتيان بكلمة التنبيه المقحمة بين «أيّ» و صفته لتعاضد حرف النداء بتأكيد معناه. و كلّ ما نادى اللّه تعالى له عباده- من حيث إنّها امور عظام، من الأمر و النهي و الوعد و الوعيد و غير ذلك، من حقّها أن يتفطّنوا إليها و يقبلوا بقلوبهم عليها، و أكثرهم عنها غافلون- حقيق بأن ينادى له بالآكد الأبلغ.

و الجموع و اسماؤها المحلّاة للعموم حيث لا عهد. و يدلّ عليه صحّة الاستثناء منها، و التوكيد بما يفيد العموم، كقوله تعالى: فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ «1». فالناس يعمّ الموجودين وقت النزول لفظا و من سيوجد، لما تواتر من دينه صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّ مقتضى خطابه و أحكامه شامل للقبيلين، ثابت إلى قيام الساعة معنى، إلّا ما خصّه الدليل.

______________________________

(1) الحجر: 30.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 81

و ما روي عن علقمة و الحسن: أنّ كلّ شي ء نزل فيه يا أَيُّهَا النَّاسُ مكّيّ و يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا فمدنيّ، على تقدير صحّته لا يوجب تخصيصه بالكفّار، و لا أمرهم بالعبادة حالة الكفر، فإنّ المأمور

به هو المشترك بين بدء العبادة و الزيادة فيها و المواظبة عليها. فالمطلوب من الكفّار هو الشروع فيها بعد الإتيان بما يجب تقديمه من المعرفة و الإقرار بالصانع، فإنّ من لوازم وجوب الشي ء وجوب ما لا يتمّ إلّا به، و كما أنّ الحدث لا يمنع وجوب الصلاة فالكفر لا يمنع وجوب العبادة، بل يجب رفعه و الاشتغال بها عقيبه. و من المؤمنين «1» ازديادهم و ثباتهم عليها. فلا يرد أن الكفّار لا يعرفون اللّه و لا يقرّون به فكيف يعبدونه؟ و المؤمنين عابدون ربّهم فكيف أمروا بها؟ و إنّما قال: ربّكم، تنبيها على أنّ الموجب للعبادة الربوبيّة.

و قوله: الَّذِي خَلَقَكُمْ صفة جرت عليه تعالى للتعظيم و التعليل. و يحتمل أن يكون صفة موضحة مميّزة إن خصّ الخطاب بالمشركين و أريد بالربّ أعمّ من الربّ الحقيقي و الآلهة الّتي يسمّونها أربابا. و الخلق: إيجاد الشي ء على تقدير و استواء.

و أصله التقدير، يقال: خلق النعل، إذا قدّرها و سوّاها بالمقياس.

و قوله: وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ متناول كلّ ما يتقدّم الإنسان بالذّات أو بالزمان، منصوب معطوف على الضمير في «خلقكم». و الجملة أخرجت مخرج المقرّر عندهم، إمّا لاعترافهم به كما قال اللّه تعالى: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ «2» وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ «3»، أو لتمكّنهم من العمل به بأدنى نظر.

لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ حال من الضمير في «اعبدوا» كأنّه قال: اعبدوا ربّكم راجين أن تنخرطوا في سلك المتّقين، الفائزين بالهدى و الفلاح، المستوجبين

______________________________

(1) عطف على قوله: فالمطلوب من الكفّار، أي: و المطلوب من المؤمنين.

(2) الزخرف: 87.

(3) لقمان: 25.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 82

لرحمة اللّه. نبّه به على أنّ التقوى منتهى درجات

السالكين، و هو التبرّي عن كلّ شي ء سوى اللّه إلى اللّه، و أنّ العابد ينبغي أن لا يغترّ بعبادته، و يكون ذا خوف و رجاء، كما قال اللّه تعالى: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً «1» وَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخافُونَ عَذابَهُ «2». أو من مفعول «خلقكم» و المعطوف عليه، على معنى: أنّه خلقكم و من قبلكم في صورة من يرجى منه التقوى، لترجّح أمره باجتماع أسبابه و كثرة الدواعي إليه.

و تحقيق المرام في هذا المقام: أن «لعلّ» في الآية واقعة موقع المجاز لا الحقيقة، لأنّ اللّه عزّ و جلّ عالم الغيب و الشهادة، فإطلاق الرجاء عليه حقيقة غير جائز. فالمعنى المراد منه هاهنا: أنّ اللّه عزّ و جلّ خلق عباده لتعبّدهم بالتكليف، و ركّب فيهم العقول و الشهوات، و أزاح العلّة في إقدارهم و تمكينهم، و هداهم النجدين، و وضع في أيديهم زمام الاختيار، و أراد منهم الخير و التقوى، فهم في صورة المرجوّ منهم أن يتّقوا ليترجّح أمرهم، و هم مختارون بين الطاعة و العصيان، و مصداقه قوله تعالى: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا «3»، و إنّما يبلو و يختبر من تخفى عليه العواقب، و لكن شبّه بالاختبار بناء أمرهم على الاختيار.

و قد جاء «لعلّ» و «عسى» الموضوعان للترجّي في مواضع كثيرة من القرآن على سبيل الإطماع، و لكن لأنّه إطماع من كريم رحيم، و إذا أطمع فعل ما يطمع فيه لا محالة، لجري إطماعه مجرى وعده المحتوم و فاؤه به. و أيضا لمّا كان من ديدن الملوك و ما عليه أوضاع أمرهم و رسومهم أن يقتصروا في مواعيدهم الّتي يوطّنون أنفسهم على إنجازها على أن يقولوا: عسى و لعلّ، و نحوهما من الكلمات، أو

يخيلوا إخالة، أو يظفر منهم بالرمزة أو الابتسامة أو النظرة الحلوة، فصدور ذلك من

______________________________

(1) السجدة: 16.

(2) الإسراء: 57.

(3) الملك: 2.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 83

مالك الملوك ذي العزّ و الكبرياء أولى و أحرى.

و قيل: تعليل للخلق، أي: خلقكم لكي تتّقون، كما قال: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «1». و هو ضعيف، إذ لم يثبت في اللغة مثله. و غلّب المخاطبين على الغائبين على إرادتهم جميعا. و لمّا كانت التقوى ليست غير العبادة حتى يؤدّي ذلك إلى تنافر النظم، فلا يرد: هلّا قيل: تعبدون، لأجل «اعبدوا»، أو: اتّقوا لمكان «تتّقون». و الآية تدلّ على أنّ الطريق إلى معرفة اللّه تعالى و العلم بوحدانيّته و استحقاقه للعبادة النظر في صنعه و الاستدلال بأفعاله.

ثم بيّن نعمة اخرى موجبة لاستحقاق معبوديّته فقال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً. و هو صفة ثانية، أو مدح منصوب أو مرفوع، أو مبتدأ خبره «فلا تجعلوا».

و «جعل» يجي ء بمعنى: أوجد، فيتعدّى إلى مفعول واحد، كقوله تعالى: وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ «2». و بمعنى: صيّر، و يتعدّى إلى مفعولين، كقوله تعالى: جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ فِراشاً أي: صيّر بعض جوانبها بارزا عن الماء، مع ما في طبع الماء من الإحاطة بها، و جعلها متوسّطة بين الصلابة و اللطافة، حتى صارت مهيّأة لأن يقعدوا و يناموا عليها كالفراش المبسوط، و ذلك لا يستدعي كونها مسطّحة، لأنّ كرويّة شكلها مع عظم حجمها و اتّساع جرمها لا تأبى الافتراش عليها.

وَ السَّماءَ بِناءً أي: جعلها قبّة مضروبة عليكم. و السماء اسم جنس يقع على الواحد و المتعدّد، كالدينار و الدرهم. و قيل: جمع سماءة. و البناء مصدر سمّي به المبنيّ، بيتا كان أو قبّة أو خباء.

و منه: بنى على امرأته، لأنّهم كانوا إذا تزوّجوا ضربوا عليها خباء جديدا.

وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً عطف على جعل. فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ

______________________________

(1) الذاريات: 56.

(2) الأنعام: 1.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 84

خروج الثمار بقدرة اللّه تعالى و مشيئته، و لكن جعل الماء الممزوج بالتراب سببا في إخراجها و مادّة لها كالنطفة للحيوان، بأن أجرى عادته بإفاضة صورها و كيفيّاتها على المادّة الممتزجة منهما، و أودع في الماء قوّة فاعلة و في الأرض قوّة قابلة يتولّد من اجتماعهما أنواع الثمار. و هو قادر على أن يوجد الأشياء كلّها بلا أسباب و موادّ، كما أبدع نفوس الأسباب و الموادّ، و لكن له في إنشائها مدرجا من حال إلى حال صنائع و حكم، يجدّد فيها لاولي الأبصار عبرا، و سكونا إلى عظيم قدرته، ليس في إيجادها دفعة.

و «من» الاولى للابتداء، سواء أريد بالسماء السحاب، فإن ما علاك سماء، أو الفلك، فإنّ المطر يبتدئ من السماء إلى السحاب و منه إلى الأرض، كما دلّت عليه ظواهر الكتاب و السنّة، أو من أسباب سماويّة تثير الأجزاء الرطبة من أعماق الأرض إلى جوّ الهواء فتنعقد سحابا ماطرا.

و «من» الثانية للتبعيض، بدليل قوله تعالى: فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ «1»، و اكتناف المنكرين له أعني: ماء و رزقا، كأنّه قال: و أنزلنا من السماء بعض الماء فأخرجنا به بعض الثمرات ليكون بعض رزقكم. و هكذا الواقع، إذ لم ينزل من السماء الماء كلّه، و لا أخرج بالمطر كلّ الثمار، و لا جعل كلّ المرزوق ثمارا. أو للتبيين و «رزقا» مفعول به بمعنى المرزوق، كقولك: أنفقت من الدراهم ألفا.

و إنّما ساغ «الثمرات» و الموضع موضع الكثرة، لأنّه أراد بها جماعة الثمرة الّتي

في قولك: أدركت ثمرة بستانه أي: بعضها، أو لأنّ الجموع يتعاور بعضها موقع بعض، كقوله تعالى: كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ «2» و قوله: ثَلاثَةَ قُرُوءٍ «3» موضع

______________________________

(1) فاطر: 27.

(2) الدخان: 25.

(3) البقرة: 228.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 85

الأقراء، أو لأنّها لمّا كانت محلّاة باللام خرجت عن حدّ القلّة، أو تنبيها على قلّة ثمار الدنيا في جنب ثمار الآخرة.

و «لكم» صفة «رزقا» إن أريد به المرزوق، و مفعوله إن أريد به المصدر، فكأنّه قال: رزقا إيّاكم.

و لمّا علمتم أنّ اللّه ربّكم و منعمكم النعم السابقة لا غير فإيّاه اعبدوا فَلا تَجْعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً. متعلّق ب «اعبدوا» على أنّه نهي معطوف عليه، أو نفي منصوب بإضمار «أن» جواب له. و الندّ المثل المناوئ، من: ندّ ندودا إذا نفر، و ناددت الرجل: إذا خالفته. خصّ بالمخالف المماثل في الذات، كما خصّ المساوي بالمماثل في القدر. و تسمية ما يعبده المشركون من دون اللّه أندادا، و ما زعموا أنّها تساويه في ذاته و صفاته، و لا أنّها تخالفه في أفعاله، لأنّهم لمّا تركوا عبادته إلى عبادتها و سمّوها آلهة شابهت حالهم حال من يعتقد أنّها ذوات واجبة بالذات، قادرة على أن تدفع عنهم بأس اللّه، و تمنحهم ما لم يرد اللّه بهم من خير، فتهكّم بهم، و شنع عليهم بأن جعلوا أندادا لمن يمتنع أن يكون له ندّ.

و قوله: وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ حال من ضمير فَلا تَجْعَلُوا، و مفعول «تعلمون» مطروح، أي: و حالكم أنّكم من أهل العلم و النظر و إصابة الرأي في دقائق الأمور و غوامض الأحوال، فلو تأمّلتم أدنى تأمّل اضطرّ عقلكم إلى إثبات موجد للممكنات، متفرّد بوجوب الذات، متعال عن مشابهة المخلوقات.

و اعلم أنّ اللّه

سبحانه قدّم في هاتين الآيتين من موجبات عبادته و مكوّنات حقّ الشكر له خلقهم أحياء قادرين أوّلا، لأنه سابقة أصول النعم و مقدّمتها، و السبب في التمكّن من العبادة و الشكر و غيرهما، ثم خلق الأرض الّتي هي مكانهم و مستقرّهم الّذي لا بدّ لهم منه، و هي بمنزلة عرصة المسكن و متقلّبه و مفترشه، ثم خلق السّماء الّتي هي كالقبّة المضروبة و الخيمة المطنبة على هذا القرار، ثم ما

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 86

سوّاه عزّ و جلّ من شبه عقد النكاح بين السماء و الأرض بإنزال الماء منها عليها، و الإخراج به من بطنها- أشباه النسل المنتج من الحيوان- من ألوان الثمار رزقا لبني آدم، ليكون ذلك معتبرا و متسلّقا إلى النظر الموصل إلى التوحيد و الاعتراف، و نعمة يتعرّفونها فيقابلونها بلازم الشكر، و يتفكّرون في خلق أنفسهم و خلق ما فوقهم و تحتهم، و أن شيئا من هذه المخلوقات كلّها لا يقدر على إيجاد شي ء منها، فيتيقّنوا عند ذلك أن لا بدّ لها من خالق ليس كمثلها، حتى لا يجعلوا المخلوقات له أندادا، و هم يعلمون أنّها لا تقدر على نحو ما هو عليه قادر.

و لا يخفى على الذكيّ اللبيب المتأمّل أن مضمون الآيتين هو الأمر بعبادة اللّه تعالى، و النهي عن الإشراك به، و الإشارة إلى ما هو العلّة و المقتضي، و هو أنّه رتّب الأمر بالعبادة على صفة الربوبيّة إشعارا بأنّها العلّة لوجوبها، ثم بيّن ربوبيّته بأنّه تعالى خالقهم و خالق أصولهم و ما يحتاجون إليه في معاشهم من السماء و الأرض و المطاعم و الملابس، فإنّ الثمرة أعمّ من المطعوم و الملبوس، و الرزق أعمّ من المأكول و المشروب. ثم لمّا

كانت هذه الأمور التي لا يقدر عليها غيره شاهدة على وحدانيّته رتّب تعالى عليها النهي عن الإشراك به.

[سورة البقرة (2): الآيات 23 الى 24]

وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا عَلى عَبْدِنا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (23) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (24)

و لمّا قرّر وحدانيّته و بيّن الطريق الموصل إلى العلم بها ذكر عقيبه ما هو الحجّة على نبوّة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلم، و هو القرآن المعجز بفصاحته التي غلبت فصاحة كلّ منطيق فصيح، و أفحمت من طولب بمعارضته من كلّ خطيب بليغ، مع كثرتهم

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 87

و إفراطهم في المضادّة و المضارّة، و توغّلهم على المغالبة، و عرّف ما يتعرّف به إعجازه، و يتيقّن أنّه من عند اللّه كما يدّعيه، فقال: وَ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنا أي: القرآن العظيم عَلى عَبْدِنا و رسولنا الكريم صلّى اللّه عليه و آله و سلم فَأْتُوا بِسُورَةٍ من أصغر السور كائنة مِنْ مِثْلِهِ

و إنّما قال: «نزّلنا» دون «أنزلنا» لأنّ نزوله نجما نجما بحسب الوقائع، و آيات آيات على حسب النوازل و الحوادث، على ما نرى عليه أهل الخطابة و الشعر، من وجود ما يوجد منهم مفرّقا حينا فحينا و شيئا فشيئا، حسب ما يعنّ لهم من الأحوال المتجدّدة و الحاجات السانحة، و لا يلقي الناظم ديوان شعره دفعة، و لا يرمي الناثر بمجموع خطبه أو رسائله ضربة، فلو أنزله اللّه لأنزله خلاف هذه العادة جملة واحدة، كما قال اللّه تعالى: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً «1». فقيل: إن

ارتبتم في هذا الّذي وقع إنزاله هكذا على مهل و تدريج فهاتوا أنتم نوبة واحدة من نوبه، و هلمّوا نجما فردا من نجومه، سورة من أصغر السور.

و هذه علّة التبكيت. و أضاف العبد إلى نفسه تنويها بذكره، و تنبيها على أنّه مختصّ به منقاد لحكمه.

و السورة: الطائفة من القرآن المسمّاة باسم أقلّها ثلاث آيات. و واوها إن كانت أصليّة، فإمّا أن تسمّى بسورة لأنّها طائفة من القرآن محدودة كالبلد المسوّر، أو لأنّها محتوية على فنون من العلم، كاحتواء سور المدينة على ما فيها. و إمّا أن تسمّى بالسورة الّتي هي الرتبة، كما قال النابغة «2»:

و لرهط حرّاب و قدّ سورةفي المجد ليس غرابها بمطار

لأنّ السّور بمنزلة المنازل و المراتب يترقّى فيها القارئ، أوّلها مراتب في

______________________________

(1) الفرقان: 32.

(2) ديوان النابغة الذبياني: 59.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 88

الطول و القصر و الفضل و الشرف و ثواب القراءة، أو لرفعة شأنها في الدين. و إن كانت واوها منقلبة عن همزة، فلأنّها قطعة من القرآن كالسورة الّتي هي البقيّة من الشي ء.

و الحكمة في تقطيع القرآن سورا إفراد الأنواع، و تجاوب النظم، و تسهيل الحفظ، و الترغيب فيه، و تنشيط القارئ من أسلوب إلى آخر، فإنّه إذا ختم سورة أو بابا من الكتاب ثمّ أخذ في آخر كان أنشط له و أهزّ و أبعث على الدّرس، كما إذا قطع المسافة ميلا أو فرسخا نفّس ذلك منه و نشّطه للسير، و من ثم جزّأ القرّاء القرآن أسباعا و أجزاء و عشورا و أخماسا.

و ضمير «من مثله» ل «ما نزّلنا»، و «من» للتبعيض أو التبيين أو زائدة عند الأخفش، أي: بسورة مماثلة للقرآن في البلاغة و حسن النظم. أو ل «عبدنا»

و «من» للابتداء، و حينئذ يجوز أن يتعلّق بقوله: «فأتوا». و معناه: فأتوا بسورة ممّا هو على صفته في غرابة البيان و حسن النظم، أو هاتوا ممّن هو على حاله من كونه بشرا عربيّا أو أمّيّا لم يأخذ من العلماء و لم يقرأ الكتب.

و لا يخفى أنّ ردّ الضمير إلى المنزّل أوجه، لأنّه مطابق لقوله: بِسُورَةٍ مِثْلِهِ «1»، و قوله: لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ «2»، و لأنّ الحديث في المنزّل لا في المنزّل عليه، فمن حقّه أن لا يردّ الضمير إلى غيره، لأنّ المعنى: و إن ارتبتم في أنّ القرآن منزّل من عند اللّه فأتوا أنتم نبذا يماثله و يجانسه. و قضيّة الترتيب لو كان الضمير مردودا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم أن يقال: و إن ارتبتم في أنّ محمدا منزّل عليه فهاتوا قرآنا من مثله. و لأنهم إذا خوطبوا جميعا- و هم الجمّ الغفير- بأن يأتوا بطائفة يسيرة من جنس ما أتى به واحد منهم كان أبلغ في التحدّي من أن يقال لهم: ليأت واحد آخر بنحو ما أتى به هذا الواحد. و لأنّ القرآن معجز في نفسه لا بالنسبة إليه، لقوله

______________________________

(1) يونس: 38.

(2) الإسراء: 88.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 89

تعالى: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ «1». و لأنّ ردّه على «عبدنا» يوهم إمكان صدوره ممّن لم يكن على صفته، و لا يلائمه قوله: وَ ادْعُوا شُهَداءَكُمْ فإنّه أمر بأن يستعينوا بكلّ من ينصرهم و يعينهم. و الشهداء جمع الشهيد بمعنى الحاضر أو القائم بالشهادة، يعني: ادعوا كلّ من يشهدكم به من الجنّ و الإنس.

مِنْ دُونِ اللَّهِ معنى دون: أدنى

مكان من الشي ء، و منه: تدوين الكتب، لأنّه إدناء البعض من البعض، و دونك هذا أي: خذه من أدنى مكان منك. ثم استعير للرتب، فقيل: زيد دون عمرو أي: في الشرف، و منه الشي ء الدّون. ثم اتّسع فيه فاستعمل في كلّ تجاوز حدّ إلى حدّ، قال اللّه تعالى: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ «2»، أي: لا يتجاوزوا ولاية المؤمنين إلى ولاية الكافرين.

و «من» متعلّقة ب «ادعوا»، و المعنى: و ادعوا إلى المعارضة من حضركم أو رجوتم معونته من إنسكم و جنّكم و آلهتكم غير اللّه، فإنّه القادر على أن يأتي بمثله دون كلّ شاهد. أو ب «شهدائكم»، و المعنى: ادعوا الّذين اتّخذتموهم آلهة من دون اللّه، و زعمتم أنّهم يشهدون لكم يوم القيامة أنّكم على الحقّ.

و قيل: من دون اللّه أي: دون أوليائه و من غير المؤمنين، يعني: فصحاء العرب و وجوه المشاهد ليشهدوا لكم أنّكم أتيتم بمثله «3».

إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنّه من كلام البشر. و جواب الشرط محذوف دلّ عليه

______________________________

(1) الاسراء: 88.

(2) آل عمران: 28.

(3) في هامش الخطّية: «و هذا من المساهلة و إرخاء العنان، و الإشعار بأن شهداءهم الّذين هم وجوه المشاهد و فرسان المقاولة تأبى عليهم الطباع و تجمح بهم الأنفة أن يرضوا لأنفسهم الشهادة بصحّة الفاسد، البيّن عندهم فساده، و بان اختلاله. منه».

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 90

ما قبله. و الصدق الإخبار المطابق.

و لمّا بيّن لهم ما يتعرّفون به أمر الرسول و ما جاء به و ميّز لهم الحقّ عن الباطل رتّب عليه ما هو كالتتمّة، و هو قوله: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ لَنْ تَفْعَلُوا يعني:

أنّكم إذا اجتهدتم في معارضته و لم تعارضوه بسورة مثله، و عجزتم جميعا

عن الإتيان بما يساويه أو يدانيه، و لن يتيسّر لكم ذلك أصلا، ظهر لكم أنّه معجز، و التصديق به واجب، فآمنوا به، و إن لم تؤمنوا به و تكذّبوه مع وضوح حقّيّته عندكم فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ أي: فاتّقوا العذاب المعدّ لمن كذّب.

و عبّر عن الإتيان الموصوف بالصفة المذكورة بالفعل الّذي يعمّ الإتيان و غيره إيجازا، فإنّه لو قيل: فإن لم تأتوا بسورة من مثله و لن تأتوا بمثله، لاستطيل الكلام.

و نزّل لازم الجزاء منزلته- و هو: فاتركوا العناد- على سبيل الكناية، تقريرا للمكنّى عنه، و تهويلا لشأن العناد، و تصريحا بالوعيد مع الإيجاز.

و صدّر الشرطيّة ب «إن» التي للشكّ و الحال يقتضي «إذا» الّذي للوجوب، فإنّ القائل سبحانه لم يكن شاكّا في عجزهم، و لذلك نفى إتيانهم نفي تأبيد معترضا بين الشرط و الجزاء، تهكّما بهم، و خطابا معهم على حسب ظنّهم، فإنّ العجز قبل التأمّل لم يكن محقّقا عندهم.

و «تفعلوا» جزم ب «لم» لا ب «إن» الشرط، لأنّها واجبة الإعمال مختصّة بالمضارع متّصلة بالمعمول، و لأنّها لمّا صيّرته ماضيا صارت كالجزء منه، و حرف الشرط كالداخل على المجموع، فكأنّه قال: فإن تركتم الفعل و لا تقدرون على إتيانه في مستقبل الزمان، و لذلك ساغ اجتماعهما، فإنّ الأصل أن لا يدخل الحرفان المتجانسان في العمل على معمول واحد.

و «لن» ك «لا» في نفي المستقبل غير أنّه أبلغ، لأنّه موضوع للنفي تأكيدا أو تأييدا. و الوقود بالفتح: ما توقد به النار، و بالضمّ مصدر. و الحجارة: جمع حجر،

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 91

كجمالة جمع جمل. و المراد بها الأصنام الّتي نحتوها، و قرنوا بها أنفسهم، و عبدوها طمعا في شفاعتها، و الانتفاع بها،

و استدفاع المضارّ بمكانتها. و يدلّ عليه قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ «1». فعذّبوا بما هو منشأ جرمهم كما عذّب الكانزون بما كنزوه، أو بنقيض ما كانوا يتوقّعون زيادة في تحسّرهم.

و عن ابن عبّاس أنّها حجارة الكبريت، فإنّ حرارتها أشدّ و أبلغ. و لعلّ المراد من هذه الرواية- بعد تسليم صحّتها- أنّ الأحجار كلّها لتلك النّار كحجارة الكبريت لسائر النيران. و هذا الاحتمال أدخل في المقصود، إذ الغرض تهويل شأن نار الآخرة و تفاقم لهبها بحيث تتّقد بما لا يتّقد به غيرها، و الكبريت يتّقد به كلّ نار و إن ضعفت. فالمعنى: أنّها نار ممتازة عن غيرها من النيران، لأنّها لا تتّقد إلّا بالناس و الحجارة.

و لمّا كانت الآية مدنيّة نزلت بعد ما نزل بمكّة قوله تعالى في سورة التحريم:

ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ «2»، صحّ تعريف النار و وقوع الجملة صلة، فإنّها تجب أن تكون قصّة معلومة.

ثمّ قال استئنافا: أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ أي: هيّئت لهم النار المنعوتة، و جعلت عدّة لعذابهم. و يجوز أن تكون الجملة حالا بإضمار «قد» من «النار» لا الضمير الّذي في «وقودها» للفصل بينهما بالخبر.

و اعلم أنّ في الآيتين ما يدلّ على النبوّة من وجوه:

______________________________

(1) الأنبياء: 98.

(2) التحريم: 6. و القول بأن الآية مكّية للزمخشري في الكشّاف (1: 102)، و تبعه عليه المصنّف «قده». و أطبق المفسّرون على أنّها مدنيّة، و اشتمالها على قصّة مارية زوجة النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلم المشهورة أصدق شاهد على ذلك. و الظاهر أنه وهم منه، مع أنه صرّح في تفسير سورة التحريم (الكشّاف 4: 562) بأنّها مدنيّة.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 92

الأوّل: ما فيها من التحدّي و

التحريص على الجدّ و بذل الوسع في المعارضة بالتقريع و التهديد، و تعليق الوعيد على عدم الإتيان بما يعارض أقصر سورة من سور القرآن. ثمّ إنّهم مع كثرتهم و اشتهارهم بالفصاحة و تهالكهم على المضادّة لم يتصدّوا لمعارضته، و التجأوا إلى جلاء الوطن و بذل المهج.

و الثاني: تضمّنهما الإخبار عن الغيب بقوله: لَنْ تَفْعَلُوا، فإنّهم لو عارضوه شي ء لامتنع خفاؤه عادة، مع أنّ الطاعنين فيه كثيرون في كلّ عصر.

و الثالث: أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم لو شكّ في أمره لما دعاهم إلى المعارضة بهذه المبالغة مخافة أن يعارض فتدحض حجّته. و فذلكة الآية الأخيرة دالّة على أنّ النار مخلوقة معدّة لهم الآن.

[سورة البقرة (2): آية 25]

وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً وَ لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (25)

ثمّ عطف حال من آمن بالقرآن و وصف ثوابه على حال من كفر به و كيفيّة عقابه، على ما جرت به العادة الإلهيّة من أن يشفع الترغيب بالترهيب، تنشيطا لاكتساب ما ينجي، و تثبيطا «1» عن اقتراف ما يردي، فقال جلّ ذكره: وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ

الظاهر عطف هذه على الجمل السابقة. و المقصود عطف حال المؤمنين على حال الكافرين كما مرّ آنفا، لا عطف الفعل نفسه حتى يجب أن يطالب له ما يشاكله

______________________________

(1) ثبّطه عن الشي ء تثبيطا: إذا شغله عنه، لسان العرب 7: 267.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 93

من أمر أو نهي فيعطف عليه حينئذ. و لا يحتاج إلى ما قال صاحب المفتاح «1»

فيه:

أنّ «بشّر» معطوف على «قل» مضمرا قبل قوله تعالى: يا أَيُّهَا النَّاسُ اعْبُدُوا رَبَّكُمُ إذ إضمار القول غير عزّيز في القرآن. انتهى كلامه.

أو معطوف على «فاتّقوا»، لأنّ الكفّار المعاندين إذا لم يأتوا بما يعارض القرآن بعد التحدّي ظهر إعجازه، و إذا ظهر ذلك فمن كفر به استوجب العقاب، و من آمن به استحقّ الثواب، و ذلك يستدعي أن يخوّف هؤلاء و يبشّر هؤلاء. و هذا كما تقول: يا بني تميم احذروا عقوبة ما جنيتم، و بشّر يا فلان بني أسد بإحساني إليهم.

و إنّما أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم أو عالم كلّ عصر أو كلّ أحد يقدر على البشارة بأن يبشّرهم، و لم يخاطبهم بالبشارة كما خاطب الكفرة، تفخيما لشأنهم، و إيذانا بأنّهم أحقّاء بأن يبشّروا و يهنّؤا بما أعدّ لهم.

و البشارة الخبر السارّ، فإنّه يظهر أثر السرور في البشرة، و لذلك قال الفقهاء الكرام: البشارة هي الخبر الأوّل، حتى إذا قال الرجل لعبيده: من بشّرني بقدوم ولدي فهو حرّ، فأخبروه فرادى عتق أوّلهم، و لو قال: من أخبرني، عتقوا جميعا.

و أمّا قوله تعالى: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «2» فعلى التهكّم.

و الصّالحات جمع صالحة. و هي من الصّفات الغالبة الّتي تجري مجرى الأسماء من حيث إنّه لا يذكر معها موصوف كالحسنة. و هي من الأعمال ما حسّنه الشرع. و تأنيثها على تأويل الخصلة. و اللام فيها للجنس، لكن يعتبر الحال «3» لكلّ شخص ما يجب عليه، فإنّ بعضهم لا يجب عليه الزكاة أو الحجّ أو غير ذلك.

و عطف العمل على الإيمان إشعارا بأنّ السبب في استحقاق هذه البشارة

______________________________

(1) مفتاح العلوم.

(2) آل عمران: 21.

(3) في الخطّية: لحال، و الصحيح ما أثبتناه.

زبدة التفاسير، ج 1، ص:

94

مجموع الأمرين و الجمع بين الوصفين، فإنّ الإيمان الّذي هو عبارة عن التحقيق و التصديق أسّ، و العمل الصالح كالبناء عليه. و فيه دليل على أنّه خارج عن مسمّى الإيمان، إذ الشي ء لا يعطف على نفسه و على ما هو داخل فيه.

و قوله: «أنّ لهم» منصوب على نزع الخافض، و إفضاء الفعل إليه.

و «الجنّة» المرّة من الجنّ، و هو مصدر جنّة إذا ستره، و مدار تركيبه على الستر، سمّي بها الشجر المظلّل- لالتفاف أغصانه- للمبالغة، كأنّه يستر ما تحته، ثم البستان لما فيه من الأشجار المتكاثفة المظلّلة، ثمّ دار الثواب لما فيها من الجنان.

و قيل: سمّيت بذلك لأنّه ستر في الدنيا ما اعدّ فيها من أنواع النعم، كما قال اللّه تعالى: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ «1».

و جمعها و تنكيرها لأنّ الجنان على ما ذكره ابن عبّاس سبع: جنّة الفردوس، و جنّة العدن، و جنّة النعيم، و دار الخلد، و جنّة المأوى، و دار السلام، و علّيّون. و في كلّ واحدة منها مراتب و درجات متفاوتة على حسب تفاوت الأعمال.

و اللام في «لهم» تدلّ على استحقاقهم إيّاها لأجل الإيمان و العمل الصالح.

و هذا لا يكون على الإطلاق؛ بل بشرط أن يستمرّ على الإيمان حتى يموت و هو مؤمن، لقوله تعالى: وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ «2»، و قوله تعالى لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ «3»، و أشباه ذلك. و لعلّه سبحانه لم يقيّد هاهنا استمرار الإيمان إلى الموت استغناء بالآيات المذكورة.

______________________________

(1) السجدة: 17.

(2) البقرة: 217.

(3) الزمر: 65.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 95

و تعريف الأنهار في قوله: جَنَّاتٍ

تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لإرادة الجنس، كما تقول: لفلان بستان فيه الماء الجاري و العنب و الفواكه. أو يراد الأنهار المذكورة في قوله: فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ «1» أو يراد: أنهارها، فعوّض التعريف باللام من تعريف الإضافة، كقوله تعالى: وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً «2».

و النهر بالفتح و السكون: المجرى الواسع فوق الجدول و دون البحر، كالنيل و الفرات. و التركيب للسعة. و المراد بها ماؤها على الإضمار أو المجاز. و معنى «من تحتها» من تحت أشجارها كما تراها جارية تحت الأشجار النابتة على شواطئها.

و عن مسروق: أنهار الجنّة تجري في غير أخدود.

و قوله: كُلَّما رُزِقُوا مِنْها مِنْ ثَمَرَةٍ رِزْقاً صفة ثانية ل «جنّات»، أو جملة مستأنفة، كأنّه لمّا قيل: أَنَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ وقع في قلب السامع: أثمارها مثل ثمار الدنيا أو أجناس أخر؟ فأزيح بذلك فقيل: إنّ ثمارها أشباه ثمار جنّات الدنيا- أي:

أجناسها أجناسها- و إن تفاوتت إلى غاية لا يعلمها إلّا اللّه. أو خبر مبتدأ محذوف، و المعنى: هم كلّما رزقوا من أشجار الجنّات نوعا من أنواع الثمار رزقا قالُوا هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ أي: من قبل هذا في الدنيا.

و «كلّما» نصب على الظرف و «رزقا» مفعول به، و «من» الأولى و الثانية للابتداء واقعتان موقع الحال. و أصل الكلام: أنّ كلّ حين رزقوا مرزوقا مبتدأ من الجنّات، مبتدأ من ثمرة، فصاحب الحال الأولى: «رزقا»، و صاحب الحال الثانية ضميره المستكن في الحال. و يحتمل أن يكون «من ثمرة» بيانا تقدّم، كما في قولك: رأيت منك أسدا.

و «هذا» إشارة إلى نوع ما رزقوا، كقولك مشيرا إلى نهر جار: هذا الماء لا

______________________________

(1) محمد: 15.

(2) مريم: 4.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 96

ينقطع، فإنّك لا

تعني به العين المشاهدة منه، بل النوع المعلوم المستمرّ بتعاقب جريانه و إن كانت الإشارة إلى عينه. فالمراد أنّ هذا مثل الّذي ... إلخ، و لكن لمّا استحكم الشبه بينهما جعل ذاته ذاته.

و جعل ثمر الجنّة من جنس ثمر الدنيا لتميل النفس إليه أوّل ما رأت، فإنّ الطباع مائلة إلى المألوف متنفّرة عن غيره، و تتبيّن لها مزيّته و كنه النعمة فيه، إذ لو كان جنسا لم يعهد ظنّ أنّه لا يكون إلّا كذلك، فلا يتبيّن موقع النعمة حقّ التبيّن.

فحين أبصروا الرّمّانة من رمّان الدنيا و مبلغها في الحجم، و أنّ الكبرى لا تفضل عن حدّ البطّيخة الصغيرة، ثم يبصرون رمّانة الجنّة تشبع السّكن أي: أهل الدار، و النّبقة من نبق الدنيا في حجم الفلكة، ثم يرون نبق الجنّة كقلال هجر، كما رأوا ظلّ الشجرة من شجر الدنيا و قدر امتداده، ثمّ يرون الشجرة في الجنّة يسير الراكب في ظلّها مائة عام لا يقطعه، كان ذلك أبين للفضل، و أظهر للمزيّة، و أجلب للسرور، و أزيد في التعجّب من أن يفاجئوا ذلك الرمّان، و ذلك النبق من غير عهد سابق بجنسهما.

و قيل: معنى «من قبل» قبل هذا في الجنّة، لأنّ طعامها متشابه في الصورة، كما حكي عن الحسن أنّ أحدهم يؤتى بالقصعة فيأكل منها، ثم يؤتى بأخرى فيراها مثل الأولى، فيقول ذلك، فيقول الملك: كل فاللّون واحد و الطعم مختلف.

و كما

روي أنّه عليه السّلام قال: «و الّذي نفس محمد بيده أنّ الرجل من أهل الجنّة ليتناول الثمرة ليأكلها، فما هي بواصلة إلى فيه حتى يبدّل اللّه مكانها مثلها».

فيمكن أنّهم إذا رأوها على الهيئة الاولى قالوا ذلك. و الأوّل أظهر، لمحافظته على عموم «كلّما»، فإنّه يدلّ

على ترديدهم هذا القول كلّ مرّة رزقوا، و الداعي إلى ذلك فرط استغرابهم و تبجّحهم بما وجدوا من التفاوت العظيم في اللّذة و التشابه التامّ في الصورة.

و قوله: وَ أُتُوا بِهِ مُتَشابِهاً اعتراض يقرّر ذلك. و الضمير على الأوّل راجع

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 97

إلى ما رزقوا في الدارين، فإنّه مدلول عليه بقوله: هذَا الَّذِي رُزِقْنا مِنْ قَبْلُ و نظيره قوله تعالى: إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما «1» أي: بجنسي الغنيّ و الفقير.

و على الثاني إلى الرزق كما أنّ «هذا» إشارة إليه، فيكون المعنى: أنّ ما يرزقونه من ثمرات الجنّة يأتيهم متجانسا في نفسه، كما حكي عن الحسن.

و على الأوّل لمّا كان التشابه بين ثمرات الدنيا و الآخرة حاصلا في الهيئة الّتي هي مناط الاسم دون المقدار و الطعم، و هو كاف في إطلاق التشابه، فلا يقال: إنّ التشابه هو التشابه في الصفة، و هو مفقود بين ثمرات الدنيا و الآخرة، كما قال ابن عبّاس: ليس في الجنّة من أطعمة الدنيا إلّا الأسماء.

وَ لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ. ممّا يستقذر من النساء و يذمّ من أحوالهنّ، كالحيض و الدّرن و دنس الطبع و سوء الخلق، فإنّ التطهير يستعمل في الأجسام و الأخلاق و الأفعال. و إنّما قال: مطهّرة، و لم يقل: طاهرة، لأنّ في «مطهّرة» فخامة لصفتهنّ ليست في طاهرة، و هي الإشعار بأنّ مطهّرا طهّرهنّ، و ليس ذاك إلّا اللّه عزّ و جلّ المريد بعباده الصالحين أن يخوّلهم كلّ مزيّة فيما أعدّلهم. و إفراد الصفة على تأويل الجماعة. و الزوج يقال للذكر و الأنثى، و هو في الأصل لما له قرين من جنسه كزوج الخفّ.

و فائدة المطعوم و المنكوح فيها لا يكون

إلّا محض الالتذاذ لا دفع ضرر الجوع و التوالد و حفظ النوع، فمطاعم الجنّة و مناكحها إنّما تشارك نظائرها الدنيويّة في بعض الصفات و الاعتبارات.

و لمّا كان معظم اللذّات الحسنة مقصورا على المساكن و المطاعم و المناكح على ما دلّ عليه الاستقراء، و كان ملاك كلّه الثبات و الدّوام، فإنّ كلّ نعمة جليلة إذا قارنها خوف الزّوال كانت منغصّة غير صافية من شوائب الألم، بشّر المؤمنين بوعد

______________________________

(1) النساء: 135.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 98

الخلود ليدلّ على كمالهم في التنعّم و السرور، فقال: وَ هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون.

و الخلد و الخلود في الأصل الثبات المديد دام أو لم يدم، و لذلك قيل للأثافي و الأحجار: خولد، و للجزء الّذي يبقى من الإنسان على حاله ما دام حيّا: خلد، و هو القلب، و لو كان وضعه للدوام كان ظاهر «1» التقييد بالتأبيد في قوله: خالِدِينَ فِيها أَبَداً «2» لغوا، لكنّ المراد به هاهنا الدوام و البقاء اللازم الّذي لا ينقطع، لما يشهد به الآيات و السنن.

و اعلم أنّه يمكن أن اللّه تعالى يعيد الأبدان في الآخرة بحيث لا يعنورها الاستحالة، بأن يجعل أجزاءها مثلا متقاومة في الكيفيّة متساوية في القوّة، لا يقوى شي ء منها على إحالة الآخر، متعانقة متلازمة لا ينفكّ بعضها عن بعض، كما يشاهد في بعض المعادن.

هذا، و إنّ قياس ذلك العالم و أحواله على ما نجده و نشاهده من نقص العقل و ضعف البصيرة. فلا يرد أنّ الأبدان مركّبة من أجزاء متضادّة الكيفيّة، معرّضة للاستحالة المؤدّية إلى الانفكاك و الانحلال، فكيف يعقل خلودها في الجنّة؟

[سورة البقرة (2): آية 26]

إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أَنْ يَضْرِبَ مَثَلاً ما بَعُوضَةً فَما فَوْقَها فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ

أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلاَّ الْفاسِقِينَ (26)

______________________________

(1) في هامش الخطّية: «قيد الظاهر لاحتمال أن يكون ذكر الأبد بعد الخلود للتأكيد، و لكن لا يخفى على من له أدنى مسكة أن التأسيس أصل، فإنّه مستقلّ المعنى بنفسه، بخلاف التأكيد، فإنه تابع فلا يكون له استقلال المعنى، كما بيّن في علم المعاني و البيان. منه رحمه اللّه».

(2) النساء: 57.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 99

و لمّا مثّل اللّه تعالى حال المنافقين بحال المستوقدين، و أصحاب الصيّب و عبادة الأصنام في الوهن و الضعف ببيت العنكبوت، و جعلها أقلّ من الذباب و أخسّ قدرا منه، قالوا: اللّه أعلى و أجلّ من أن يضرب هذه الأمثال، فنزلت: إِنَّ اللَّهَ لا يَسْتَحْيِي أي: لا يترك أَنْ يَضْرِبَ مَثَلًا ما بَعُوضَةً.

فهذه الآية لبيان أنّ ما استنكروه من أن تكون المحقّرات من الأشياء مضروبا بها المثل ليس بموضع الاستنكار، لأنّ في التمثيل كشف المعنى الممثّل له، و رفع الحجاب عنه، و إبرازه في صورة المشاهد المحسوس، فإن كان الممثّل له عظيما كان الممثّل به مثله، و إن كان حقيرا كان الممثّل به كذلك، ليساعد فيه الوهم العقل، فإنّ المعنى الصرف إنّما يدركه العقل مع منازعة من الوهم، لأنّ من طبع الوهم الميل إلى الحسّ و حبّ المحاكاة، و إن كان الممثّل أعظم من كلّ عظيم، كما مثّل في الإنجيل غلّ الصّدر بالنخالة، و القلوب القاسية بالحصاة، و مخاطبة السّفهاء بإثارة الزنابير، و جاء في كلام العرب: أسمع من قراد، و أطيش من فراشة، و أعزّ من مخّ البعوض، لا ما قالت الجهلة من الكفّار.

و الحياء انقباض النفس

عن القبيح مخافة الذمّ. و هو الوسط بين الوقاحة التي هي الجرأة على القبائح و عدم المبالاة بها، و الخجل الّذي هو انحصار النفس عن الفعل مطلقا.

و اشتقاقه من الحياة، فإنّه انكسار يعتري القوّة الحيوانيّة فيردّها عن افعالها، فقيل: حيي الرجل أي: انتقص حياته، مثل نسي إذا اعتلّت نساه، و هو عرق يخرج من الورك إلى العرقوب، وحشي إذا اعتلّ حشاه و هو الفؤاد.

و إذا وصف به الباري تعالى كما

جاء في الحديث: «إنّ اللّه يستحيي من ذي الشيبة المسلم أن يعذّبه، إنّ اللّه حييّ كريم يستحيي إذا رفع العبد يديه إليه أن يردّهما صفرا حتى يضع فيهما خيرا»،

فالمراد به الترك اللازم للانقباض، كما أنّ

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 100

زبدة التفاسير ج 1 149

المراد من رحمته و غضبه إصابة المعروف و المكروه اللازمين للمعنى الموضوع له، فمثّل تركه سبحانه تخييب العبد لكرمه بترك ردّ المحتاج إليه حياء منه، كذلك المعنيّ في الآية: إنّ اللّه لا يترك ضرب المثل بالبعوضة ترك من يستحيي أن يمثّل بها لحقارتها. و إنّما عدل بالاستحياء عن الترك لما فيه من التمثيل الّذي هو يتضمّن أمرا محسوسا مشاهدا، بخلاف الترك، فإنّه أمر معنويّ غير مشاهد.

و «أن» بصلتها مخفوض المحلّ عند الخليل بإضمار «من»، منصوب بإفضاء الفعل إليه بعد حذفها عند سيبويه.

و «ما» هذه إبهاميّة، و هي الّتي إذا اقترنت بنكرة زادته شياعا، تقول: أعطني كتابا مّا أي: أيّ كتاب كان، أو هي صلة زيدت للتأكيد، نحو الّتي في قوله: فَبِما رَحْمَةٍ «1». و المعنى: أنّ للّه أن يمثّل للأنداد ما لا شي ء أصغر منه و أقلّ.

و «بعوضة» عطف بيان ل «مثلا»، أو مفعول ل «يضرب» و «مثلا» حال عن النكرة مقدّمة

عليه، أو انتصبا على أنّهما مفعولان ل «يضرب» لأنّه أجري مجري جعل. و البعوض فعول من البعض، و هو القطع كالبضع، فإنّ مدار الباء و العين و الضاد على القطع كيف ما تركّبت، ثم غلب على هذا المعنى.

و قوله: فَما فَوْقَها عطف على «بعوضة». و فيه معنيان:

أحدهما: فما تجاوزها و زاد عليها في المعنى الّذي ضربت فيه مثلا، و هو القلّة و الحقارة، كجناحها، فإنّه ضرب مثلا للدنيا، و منه

قوله عليه السّلام: «ما أصاب المؤمن من مكروه فهو كفّارة لخطاياه حتى نخبة النملة»

أي: عضّتها «2».

و الآخر: فما زاد عليها في الحجم كالذباب و العنكبوت، كأنّه قصد به ردّ ما استنكروه. و المعنى أنّه لا يستحيي ضرب المثل بالبعوض فضلا عمّا هو أكبر منه.

______________________________

(1) آل عمران: 159.

(2) العضة: القطعة و الفرقة، لسان العرب 15: 68.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 101

و ما وقع في الحديث: «ما من مسلم يشاك شوكة فما فوقها إلّا كتبت له بها درجة، و محيت عنه بها خطيئة» يحتمل ما تجاوز الشوكة في الألم كالخرور «1»، و ما زاد عليها في القلّة كنخبة النملة.

ثمّ يفصّل ما أجمل، و يؤكّده بما صدّر بحرف التفصيل، و يقول: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ فلمّا كان «أمّا» التفصيليّة يتضمّن معنى الشرط يجاب بالفاء. و فائدته في الكلام أن يعطيه فضل توكيد، و لهذا قال سيبويه: أمّا زيد فذاهب، معناه: مهما يكن من شي ء فزيد ذاهب، أي: هو ذاهب لا محالة، و أنّه منه عزيمة جازمة. و كان الأصل دخول الفاء على الجملة، لأنّها الجزاء، لكن كرهوا إيلاءها حرف الشرط، فأدخلوها على الخبر، و عوّضوا المبتدأ عن الشرط لفظا.

و في تصدير الجملتين بها إحماد لأمر

المؤمنين، و اعتداد بعلمهم، و ذمّ بليغ للكافرين على قولهم. و الضمير في «أنّه» للمثل أو ل «أن يضرب». و «الحقّ»: الثابت الّذي لا يسوغ إنكاره، يعمّ الأعيان الثابتة، و الأفعال الصائبة، و الأقوال الصادقة، من قولهم: حقّ الأمر إذا ثبت.

وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَيَقُولُونَ على سبيل الإنكار و الاستحقار: ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا. كان الحريّ أن يقال: و أمّا الّذين كفروا فلا يعلمون، ليطابق قرينه و يقابل قسيمه، لكن لمّا كان قولهم هذا دليلا واضحا على كمال جهلهم عدل إليه على سبيل الكناية، ليكون كالبرهان عليه.

و «ما» يحتمل أن تكون استفهاميّة، و «ذا» اسما موصولا بمعنى «الّذي» و ما بعده صلته، و المجموع خبر «ما» فيكون كلمتين. و أن تكون «ذا» مركّبة مع «ما»

______________________________

(1) خرّ خرورا: سقط من علوّ إلى أسفل. أشار إلى ما في صدر الحديث من أن رجلا خرّ على طنب فسطاط فكادت عنقه أو عينه أن تذهب، فقالت عائشة: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم ...

إلى آخر الحديث. انظر صحيح مسلم ج 4: 1991 ح 46.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 102

فيكون كلمة واحدة، بمعنى: أيّ شي ء، منصوب المحلّ على المفعوليّة. و الأحسن في جوابه الرفع على الأوّل و النصب على الثاني، ليطابق الجواب السؤال.

و الإرادة نزوع النفس و ميلها إلى الفعل بحيث يحملها عليه. و تقال للقوّة الّتي هي مبدأ النزوع. و الأوّل مع الفعل، و الثاني قبله. و كلا المعنيين غير متصوّر اتّصاف البارئ تعالى به. فالمراد منها علمه باشتمال الأمر على النظام الأكمل و الوجه الأصلح، فإنّه يدعو القادر إلى تحصيله. و قيل: إرادته لأفعاله: أنّه غير ساه و لا مكره، و لأفعال غيره:

أمره بها. فعلى هذا لم تكن المعاصي بإرادته، لأنّه لم يأمر بها، خلافا للأشعريّة. و عند المتكلّمين: هي معنى يوجب للحيّ حالا لأجلها يقع منه الفعل على وجه دون وجه. أو المراد: ترجيح أحد مقدوريه على الآخر، و تخصيصه بوجه دون وجه.

و في «هذا» استحقار و استرذال. و «مثلا» منصوب على التمييز أو الحال.

و قوله: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً وَ يَهْدِي بِهِ كَثِيراً جواب «ماذا»، أي: إضلال كثير و إهداء كثير، وضع الفعل موضع المصدر للإشعار بالحدوث و التجدّد. أو جار مجرى التفسير و بيان الجملتين المصدّرتين ب «أما»، و تسجيل بأنّ فريق العالمين بأنّه الحقّ، و فريق الجاهلين المستهزئين به، كلاهما موصوف بالكثرة بالنسبة إلى أنفسهم لا بالقياس إلى مقابليهم، فإنّ المهديّين قليلون بالنسبة إلى أهل الضلال، كما قال تعالى: وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ «1». و أنّ العلم بكونه حقّا من باب الهدى، و أنّ الجهل بوجه إيراد المثل و الإنكار لحسن مورده من باب الضلالة. و يحتمل أن يكون كثرة الضالّين من حيث العدد، و كثرة المهديّين باعتبار الفضل و الشرف، كما قال:

قليل إذا عدوّاكثير إذا شدّوا

______________________________

(1) سبأ: 13.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 103

و قال:

إنّ الكرام كثير في البلاد و إن قلّوا كما غيرهم قلّ و إن كثروا

و إسناد الإضلال إلى اللّه سبحانه إسناد الفعل إلى السبب، لأنّه لمّا ضرب المثل فضلّ به قوم و اهتدى به قوم، تسبّب لضلالهم و هداهم.

وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ أي: الخارجين عن حدّ الإيمان. و المراد بالإضلال التخلية، فإنّ اللّه سبحانه لمّا علم أنّ الكفّار لإصرارهم و رسوخهم في الكفر و عنادهم و جحودهم و استكبارهم لا ينجع فيهم اللطف و التوفيق، فيخلّيهم في الضلالة،

و يمنع منهم الألطاف الهادية. أو المراد حكمه بضلالتهم. و لا يجوز أن يكون إسناد الإضلال إلى اللّه على الحقيقة، لقبحه و استلزامه الظلم، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا. و أيّ عاقل يعتقد أن يضاف إلى اللّه تعالى الإضلال الّذي أضافه إلى الشيطان و إلى فرعون و السّامريّ بقوله: وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً «1» و قوله:

وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ ما هَدى «2» و قوله: وَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ «3».

و أصل الفسق الخروج عن القصد، و في الشرع الخروج عن طاعة اللّه.

و قال الفرّاء «4»: إنّ قوله: يُضِلُّ بِهِ كَثِيراً حكاية عمّن قال: ماذا أراد اللّه بهذا مثلا يضلّ به قوم و يهتدي به قوم، ثمّ قال سبحانه: وَ ما يُضِلُّ بِهِ إِلَّا الْفاسِقِينَ فبيّن تعالى أنّه لا يضلّ إلّا ضالّا فاسقا راسخا في الكفر. و على التفسير الأوّل كلامه تعالى ابتداء. و كلاهما حسن.

و اعلم أن للفسق درجات ثلاث:

الاولى: التغابي، و هو أن يرتكب المعصية أحيانا مستقبحا إيّاها.

______________________________

(1) يس: 62.

(2) طه: 79 و 85.

(3) طه: 79 و 85.

(4) معاني القرآن 1: 23.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 104

و الثاني: الانهماك، و هو أن يعتاد ارتكابها غير مبال بها.

و الثالث: الجحود، و هو أن يرتكبها مستصوبا إيّاها. فإذا شارف هذا المقام و تخطّى خططه خلع ربقة الإيمان من عنقه، و لا بس الكفر. و ما دام هو في درجة التغابي و الانهماك فلا يسلب عنه اسم المؤمن، لاتّصافه بالتصديق الذي هو مسمى الإيمان، و لقوله تعالى: وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا «1». و المعنيّ بالآية هو الثالث.

[سورة البقرة (2): آية 27]

الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ

فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (27)

ثمّ وصف الفاسقين بالذمّ و قرّر الفسق فقال: الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ

النقض فسخ تركيب الشي ء، و أصله في طاقات الحبل، و استعماله في إبطال العهد، من حيث إنّ العهد يستعار له الحبل، لما فيه من ربط أحد المتعاهدين بالآخر.

و العهد: الموثّق، و وضعه لما من شأنه أن يتعهّد و يراعى كالوصيّة و اليمين.

و هذا العهد إمّا العهد المأخوذ ما «2» ركز في العقول من الحجّة القائمة على عباده، الدالّة على توحيده و وجوب وجوده و صدق رسوله. و قوله: وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ «3» على هذا المعنى. أو المأخوذ بالرسل على الأمم بأنّهم إذا بعث إليهم رسول مصدّق بالمعجزات صدّقوه و اتّبعوه، و لم يكتموا أمره و لم يخالفوا حكمه، و أشار إليه بقوله: وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ «4» و نظائره.

______________________________

(1) الحجرات: 9.

(2) كذا في الخطّية، و لعلّ الصحيح: بما.

(3) الأعراف: 172.

(4) آل عمران: 187.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 105

و قيل: عهود اللّه ثلاثة: عهد أخذه على جميع ذرّيّة آدم بأن يقرّوا بربوبيّته، و عهد أخذه على الأنبياء بأن يقيموا الدين و لا يتفرّقوا فيه، و عهد أخذه على العلماء بأن يبيّنوا الحقّ و لا يكتموه.

و الضمير في قوله: مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ للعهد. و الميثاق اسم لما يقع به الوثاقة، و هي الاستحكام، و المراد به ما وثق اللّه به عهده من الآيات و الكتب، أو ما وثّقوه به من الالتزام و القبول. و يحتمل أن يكون بمعنى المصدر، فهو من التوثقة، كالميلاد و الميعاد بمعنى الولادة و الوعد. و «من» للابتداء، فإنّ ابتداء النقض بعد الميثاق.

و يجوز أن يرجع الضمير إلى اللّه تعالى، أي: من

بعد توثّقه عليهم.

وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ المراد كلّ قطيعة لا يرضاها اللّه، كقطع الأرحام، و الإعراض عن موالاة المؤمنين، و التفرقة بين النبيّين و الكتب في التصديق، و ترك الجماعات المفروضة، و سائر ما فيه رفض خير أو تعاطي شرّ، فإنّه يقطع الوصلة بين اللّه و بين العبد.

و الأمر طلب الفعل ممّن هو دون الآمر علوّا و استعلاء، و بعثه عليه. و به سمّي الأمر الذي هو واحد الأمور، لأنّ الداعي الّذي يدعو إليه من يتولّاه شبّه بآمر يأمر به، فقيل له: أمر، تسمية للمفعول به بالمصدر، كأنّه مأمور به، كما قيل له: شأن.

و الشأن الطلب و القصد، يقال: شأنت شأنه، أي: قصدت قصده.

و «أن يوصل» يحتمل النصب و الجرّ على أنّه بدل من «ما» أو ضميره.

و الثاني أحسن لفظا، لقربه، و معنى، لأنّه لو جعل بدلا من الأوّل، و الحال أنّ المبدل منه في حكم الساقط، يرتفع المأمور به بالكلّية، بخلاف جعله بدلا من الثاني.

وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بالمنع عن الإيمان، و الاستهزاء بالحقّ، و قطع الوصل الّتي بها نظام العالم و صلاحه.

أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الّذين خسروا بإهمال العقل عن النظر، و اقتناص ما

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 106

يفيدهم الحياة الأبديّة، فاستبدلوا النقض بالوفاء، و القطع بالوصل، و الفساد بالصلاح، و الإنكار و الطعن في الآيات بالإيمان بها، و العقاب بالثواب.

[سورة البقرة (2): الآيات 28 الى 29]

كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (28) هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (29)

و لمّا وصفهم بالكفر و سوء المقال و خبث الفعال خاطبهم على طريقة الالتفات، و

وبّخهم على كفرهم مع علمهم بحالهم المقتضية خلاف ذلك، فقال إنكارا و تعجيبا لكفرهم: كَيْفَ تَكْفُرُونَ بِاللَّهِ إيثار «كيف» الموضوع لإنكار الحال على الهمزة الاستفهاميّة لإفادة التعجيب لكفرهم بإنكار الحالة الّتي يقع عليها على الطريق البرهاني، لأنّ صدوره لا ينفكّ عن حال و صفة، فإذا أنكر أن يكون لكفرهم حال يوجد عليها استلزم ذلك إنكار وجوده، فهو أبلغ و أقوى في إنكار الكفر من «أ تكفرون»، و أوفق لما بعده من الحال. و المعنى: أخبروني على أيّ حال تكفرون.

وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً و حالكم أنّكم كنتم أجساما لا حياة لها، عناصر و أغذية، و أخلاطا و نطفا و مضغا مخلّقة و غير مخلّقة.

فَأَحْياكُمْ فجعلكم أحياء بخلق الأرواح و نفخها فيكم. و عطفه بالفاء لأنّه متّصل بما عطف عليه غير متراخ عنه، لأنّ الإحياء يحصل عقيب كونهم جمادا مستعدّا للحياة بلا تراخ، بخلاف البواقي، فإنّ الموت قد تراخى عن الإحياء، و الإحياء الثاني كذلك متراخ عن الموت- إن أريد به النشور- تراخيا ظاهرا، و إن أريد به إحياء القبر فمنه يكتسب العلم بتراخيه. و الرجوع إلى الجزاء أيضا متراخ عن النشور، و لهذا عطف عليه بثمّ الموضوعة للتراخي فقال: ثُمَّ يُمِيتُكُمْ بعد هذه

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 107

الحياة عند تقضّي آجالكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ بالنشور يوم نفخ الصّور، أو للسؤال في القبر ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بعد الحشر فيجازيكم بأعمالكم.

و قرأ يعقوب: «ترجعون» في جميع القرآن بصيغة المجهول «1»، أي: تنشرون إليه من قبوركم للحساب، فما أعجب كفركم مع علمكم بحالكم هذه.

و سمّي الحشر رجوعا إلى اللّه لأنّه رجوع إلى حيث لا يكون أحد يتولّى الحكم فيه غير اللّه، كما تقول: رجع أمر القوم إلى الأمير، و لا يراد

به الرجوع من مكان إلى مكان، و إنّما يراد به أنّ النظر صار له خاصّة دون غيره.

و اعلم أنّ الواو في قوله: وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً للحال كما فسّرناه. و ترك لفظة «قد» فيه، مع أنّه لا يقال: جئت و قام الأمير، بل: و قد قام، لأنّ الواو لم تدخل على كُنْتُمْ أَمْواتاً وحده، بل على جملة قوله: كُنْتُمْ أَمْواتاً إلى قوله:

تُرْجَعُونَ و المعنى: كيف تكفرون باللّه و قصّتكم أنّكم كنتم أمواتا نطفا في أصلاب آبائكم، فجعلكم أحياء، ثمّ يميتكم بعد هذه الحياة، ثم يحييكم بعد الموت، ثم يحاسبكم.

و لمّا كان الحاضر الّذي وقع حالا هو العلم بالقصّة كأنّه قيل: كيف تكفرون و أنتم عالمون بهذه القصّة بأوّلها و آخرها. فلا يرد عليه: أنّ بعض القصّة ماض و بعضه مستقبل، و الماضي و المستقبل كلاهما لا يصحّ أن يقع حالا حتى يكون فعلا حاضرا وقت وجود ما هو حال عنه.

و لمّا كان معنى الاستفهام في «كيف» الإنكار، و إنكار الحال متضمّنا لإنكار الذات على سبيل الكناية، كأنّه قيل: ما أعجب كفركم مع علمكم بحالكم هذه! كما

______________________________

(1) هذا سهو من قلمه الشريف «قده»، و الصحيح: بصيغة المعلوم، و القراءة المتّبعة في المصاحف بصيغة المجهول، فتكون القراءة المخالفة إذن بالمعلوم. و المفسّرون أيضا صرّحوا بأن يعقوب قرأها بفتح التاء، انظر مجمع البيان (1: 70)، أنوار التنزيل (1: 131)

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 108

فسّرنا به. فلا يقال: قد آل المعنى إلى قولك: على أيّ حال تكفرون في حال علمكم بهذه القصّة، و هذا سؤال عن المعلوم، فما وجه صحّته؟

و اعلم أيضا أنّ علمهم بأنّه يحييهم ثمّ إليه يرجعون من حيث تمكّنهم من العلم بهما لما نصب لهم من الدلائل، فنزّل

التمكّن منزلة العلم في إزاحة العذر، سيّما و في الآية تنبيه على ما يدلّ على صحّتهما، و هو أنّه تعالى لمّا قدر على إحيائهم أولا قدر على أن يحييهم ثانيا، فإنّ بدء الخلق ليس بأهون عليه من إعادته.

و يجوز أن يكون الخطاب مع الكفّار و المؤمنين جميعا، فإنّه سبحانه لمّا بيّن دلائل التوحيد و النبوّة و أوعدهم على الكفر أكّد ذلك بأن عدّد عليهم النعم العامّة و الخاصّة، و استقبح صدور الكفر منهم، و استبعده عنهم مع تلك النعم الجليلة، فإنّ عظم النعم يوجب عظم معصية المنعم. أو مع المؤمنين خاصّة، لتقرير المنّة عليهم، و تبعيد الكفر عنهم على معنى: كيف يتصوّر منكم الكفر و كُنْتُمْ أَمْواتاً، أي:

جهّالا، فأحياكم بما أفادكم من العلم و الإيمان، ثمّ يميتكم الموت المعروف، ثمّ يحييكم الحياة الحقيقيّة، ثمّ إليه ترجعون، فينبّئكم بما لا عين رأت، و لا اذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر؟! و إنّما عدّ الموت من النعم و هو يقطع النعم في الظاهر لأنّ الموت يقطع التكليف، فيصل المكلّف بعده إلى الثواب الأبدي و النعيم السرمدي، كما قال تعالى:

وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ «1».

و في هذه الآية دلالة على أنّ اللّه تعالى لم يرد من عباده الكفر، و لا خلقه فيهم، لأنّه لو أراد منهم أو خلقه فيهم لم يجز أن يضيفه إليهم بقوله: كَيْفَ تَكْفُرُونَ

ثمّ بيّن نعمة اخرى مرتّبة على الاولى بقوله: هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ أي:

______________________________

(1) العنكبوت: 64.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 109

لأجلكم و انتفاعكم به في دنياكم ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً بأن تتمتّعوا منه بفنون المطاعم و المناكح و المراكب و المناظر البهجة، و في دينكم بأن تنظروا فيه و ما

يتضمّنه من عجائب الصّنع الدالّة على الصانع القادر الحكيم. فالنعمة الاولى خلقهم أحياء قادرين مرّة بعد اخرى، و هذه خلق ما يتوقّف عليه بقاؤهم و يتمّ به معاشهم.

و في هذا دلالة على أنّ أصل الأشياء الإباحة إلى أن يمنع الشرع بالنهي، و جاز لكلّ أحد أن يتناولها و يستنفع بها. و «جميعا» نصب على الحال من قوله: ما فِي الْأَرْضِ

ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ أي: قصد إليها بإرادته بعد خلق ما في الأرض، من غير أن يريد فيما بين ذلك خلق شي ء آخر، من قولهم: استوى إليه كالسهم المرسل إذا قصده قصدا مستويا، من غير أن يلوي على شي ء. و أصل الاستواء طلب السواء، و إطلاقه على الاعتدال و الاستقامة و الانتصاب، لما فيه من تسوية وضع الأجزاء. و لا يمكن حمله عليه، لأنّه من خواصّ الأجسام، فإنّه تعالى منزّه عن الانتصاب. و ضدّه و هو الاعوجاج. فيكون بمعنى: قصد إليها بإرادته.

و قيل: اسْتَوى أي: استولى و ملك. و الأوّل أوفق للأصل، و الصلة المعدّى بها، و التسوية المترتّبة عليه بالفاء. و المراد بالسماء هذه الأجرام العلويّة، أو جهات العلوّ.

و «ثمّ» لتفاوت ما بين الخلقين، و فضل خلق السماء على خلق الأرض، كقوله: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا «1»، و كما تقول لصاحبك: أليس قد أعطيتك ثمّ رفعت منزلتك؟ لا للتراخي في الوقت، فإنّه يخالف ظاهر قوله تعالى: وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها «2»، فإنّه يدلّ على تأخّر دحو الأرض- المتقدّم على خلق ما فيها-

______________________________

(1) البلد: 17.

(2) النازعات: 30.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 110

عن خلق السماء و تسويتها. اللّهمّ إلّا أن يقال: إنّ اللّه خلق الأرض قبل السماء غير أنّه لم يدحها، فلمّا خلق السماء دحاها

بعد ذلك. و دحوها: بسطها و مدّها، كما

ورد عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «دحيت الأرض من مكّة».

فالأرض كلّها بعد الخلق تكون تحت مكّة، ثمّ بعد ذلك دحاها في أقطار العالم.

فَسَوَّاهُنَ و عدّلهنّ و خلقهنّ مصونة من العوج و الفطور. و «هنّ» ضمير السماء إن فسّرت بالأجرام و جهات العلوّ، لأنّها جمع، و إلّا فمبهم، تفسيره ما بعده، كقولهم: ربّه رجلا.

سَبْعَ سَماواتٍ بدل أو تفسير. و إن صحّ أنّ الأفلاك تسعة- كما ظنّ أصحاب الإرصاد- فليس في الآية نفي الزائد، مع أنّه إن ضمّ إليها العرش و الكرسي لم يبق خلاف.

وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ و أسكن نافع برواية قالون و أبو عمرو و الكسائي الهاء في نحو: فهو و لهو و و هو، تشبيها لها بعضد «1». فيه تعليل، كأنّه قال: و لكونه عالما بكنه الأشياء كلّها خلق ما خلق على هذا النمط الأكمل و الوجه الأنفع.

و استدلال بأنّ من كان فعله على هذا النسق العجيب و الترتيب الأنيق كان عليما، فإنّ إتقان الأفعال و إحكامها و تخصيصها بالوجه الأحسن الأنفع لا يتصوّر إلّا من عالم حكيم رحيم. و إزاحة لما يختلج في صدورهم من أنّ الأبدان بعد ما تفتّتت و تبدّدت أجزاؤها، و اتّصلت بما يشاكلها، كيف تجمع أجزاء كلّ بدن مرّة ثانية بحيث لا يشذّ شي ء منها، و لا ينضمّ إليها ما لم يكن معها، فيعاد منها كما كان؟! و اعلم وفّقك اللّه تعالى في الاهتداء إلى الطريق الموصل إلى الحقّ أنّ صحّة الحشر مبنيّة على ثلاث مقدّمات، و قد برهن عليها في هاتين الآيتين:

______________________________

(1) أي: أنّها تشبه لفظ «عضد» حيث إن العرب تخفّفه بإسكان الضاد: عضد، و هي

لغة مشهورة مستعملة. راجع الكشف عن وجوه القراءات السبع 1: 234.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 111

أمّا الأولى، فهو أنّ موادّ الأبدان قابلة للجمع و الحياة. و أشار إلى البرهان عليها بقوله: وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ «1»، فإنّ تعاقب الافتراق و الاجتماع و الموت و الحياة عليها يدلّ على أنّها قابلة لها بذاتها، و ما بالذات يأبى أن يزول و يتغيّر.

و أمّا الثانية و الثالثة، فإنّه عالم بها و بمواقعها، قادر على جمعها و إحيائها.

و أشار إلى وجه إثباتهما بأنّه تعالى قادر على إبدائها و إبداء ما هو أعظم خلقا و أعجب صنعا، فكان أقدر على إعادتهم و إحيائهم، و أنّه تعالى خلق ما خلق خلقا مستويا محكما من غير تفاوت و اختلال مراعى فيه مصالحهم و سدّ حاجاتهم، و ذلك دليل على تناهي علمه، و كمال حكمته، جلّت قدرته، و دقّت حكمته.

و في هذه الآية أيضا دلالة على أنّ صانع السماء و الأرض قادر عالم، و أنّه تعالى إنّما يفعل الفعل لغرض، و أنّ له على الكفّار نعما يجب شكره عليهم بها.

[سورة البقرة (2): آية 30]

وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ قالَ إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ (30)

ثمّ عدّد نعمة ثالثة تعمّ الناس كلّهم، و هو خلق آدم و إكرامه و تفضيله على سكّان ملكوته بأمرهم بالسجود، فقال: وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً «إذ» ظرف وضع لزمان نسبة ماضية وقع فيه اخرى، كما وضع إذا لزمان نسبة مستقبلة تقع فيه اخرى، و لذلك تجب إضافتهما إلى الجمل، ك «حيث»

في المكان. و بنيتا تشبيها بالموصولات. و استعملتا للتعليل و المجازاة. و محلّهما النصب

______________________________

(1) البقرة: 28.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 112

أبدا بالظرفيّة، فإنّهما من الظروف الغير المتصرّفة. و أمّا قوله: وَ اذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ «1» و نحوه، فعلى تأويل: أذكر الحادث إذ كان كذا، فحذف الحادث و أقيم الظرف مقامه. و عامله في الآية «قالوا» أو «اذكر».

و الملائكة جمع ملأك على الأصل، كالشمائل في جمع شمال، و الملك مخفّفة، و التاء لتأنيث الجمع، و هو مقلوب مألك من الألوكة، و هي الرسالة، لأنّهم وسائط بين اللّه و بين رسله. و بالاتّفاق هم ذوات موجودة قائمة بأنفسها.

و في حقيقتهم اختلاف بين العلماء، فذهب أكثر المسلمين إلى أنّها أجسام لطيفة قادرة على التشكّل بأشكال مختلفة، مستدلّين بأنّ الرسل كانوا يرونهم كذلك. و زعم الحكماء أنّها جواهر مجرّدة مخالفة للنفوس الناطقة في الحقيقة، منقسمة إلى قسمين: قسم شأنهم الاستغراق في معرفة الحقّ و التنزّه عن الاشتغال بغيره، كما وصفهم في محكم تنزيله فقال تعالى: يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ «2». و هم العلّيّون و الملائكة المقرّبون. و قسم يدبّر الأمر من السماء إلى الأرض على ما سبق به القضاء و جرى به القلم الإلهي لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ «3». و هم المدبّرات أمرا، فمنهم: سماويّة و منهم ارضيّة.

و المقول لهم في هذه الآية الملائكة كلّهم، لعموم اللفظ و عدم المخصّص. و قيل:

ملائكة الأرض الّذين هم بعد الجانّ «4».

و «جاعل» من «جعل» الّذي له مفعولان، أي: إنّي مصيّر في الأرض خليفة،

______________________________

(1) الأحقاف: 21.

(2) الأنبياء: 20.

(3) التحريم: 6.

(4) كذا في الخطّية، و لعلّ الصحيح: ملائكة الأرض الّذين أسكنهم فيها بعد الجانّ،

راجع مجمع البيان 1: 74.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 113

فأعمل الجاعل فيهما، لأنّه بمعنى الاستقبال، و معتمد على مسند إليه و هو «إنّي».

و يجوز أن يكون بمعنى خالق.

و الخليفة: من يخلف غيره و ينوب منابه، و الهاء للمبالغة. و المراد به آدم عليه السّلام، لأنّه كان خليفة اللّه في أرضه. و كذلك كلّ نبيّ استخلفهم اللّه في عمارة الأرض، و سياسة الناس، و تكميل نفوسهم، و تنفيذ أمره فيهم، لا لحاجة به تعالى إلى من ينوبه، بل لقصور المستخلف عليه عن قبول فيضه و تلقّي أمره بغير وسط، و لذلك لم يستنبئ ملكا، كما قال: وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا «1». ألا ترى أنّ الأنبياء لمّا فاقت قوّتهم و اشتعلت قريحتهم بحيث يكاد زيتها يضي ء و لو لم تمسسه نار، أرسل اللّه إليهم الملائكة، و من كان منهم أعلى رتبة كلّمه بلا واسطة، كما كلّم موسى في الميقات و محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلم ليلة المعراج. و نظير ذلك في الطبيعة أنّ العظم لمّا عجز عن قبول الغذاء من اللحم- لما بينهما من التباعد- جعل الباري تعالى بحكمته بينهما الغضروف المناسب لهما، ليأخذ من هذا و يعطي ذلك.

أو خليفة من سكن الأرض قبله، فإنّ الملائكة كانوا سكّان الأرض، فخلفهم آدم فيها و ذرّيّته. و استغنى بذكر آدم عن ذكر بنيه كما يستغنى بذكر أبي القبيلة في قولك: مضر و ربيعه. أو أريد. من يخلفكم، أو خلفا يخلفكم.

و فائدة قوله تعالى هذا للملائكة تعليم المشاورة، و تعظيم شأن المجعول، بأن بشّر عزّ و جلّ بوجوده سكّان ملكوته، و لقّبه بالخليفة قبل خلقه، و إظهار فضله الراجح على ما فيه من المفاسد بسؤالهم و

جوابه، و بيان أنّ الحكمة تقتضي إيجاد ما يغلب خيره، فإنّ ترك الخير الكثير لأجل الشرّ القليل شرّ كثير.

قال أكثر المفسّرين «2»: إنّ اللّه تعالى خلق في الأرض قبل آدم خلقا يقال لهم:

______________________________

(1) الأنعام: 9.

(2) انظر التبيان 1: 133، مجمع البيان 1: 74، الدرّ المنثور 1: 111.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 114

الجانّ، فأفسدوا فيها و سفكوا الدماء، فبعث اللّه ملائكة أجلتهم من الأرض، و فرّقتهم في الجزائر و الجبال، و كان هؤلاء الملائكة سكّان الأرض بعدهم، فبما قال اللّه سبحانه لهم: إِنِّي جاعِلٌ فِي الْأَرْضِ خَلِيفَةً قاسوا بالشاهد على الغائب قالُوا أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها وَ يَسْفِكُ الدِّماءَ تعجّبا من أن يستخلف لعمارة الأرض و إصلاحها من يفسد فيها كما فعل بنو الجانّ، أو يستخلف مكان أهل الطاعة أهل المعصية. و هذا السؤال ليس سؤال اعتراض، بل سؤال استكشاف عمّا خفي عليهم من الحكمة الّتي بهرت تلك المفاسد، و استخبار عمّا يرشدهم و يزيح شبهتهم، كسؤال المتعلّم معلّمه عمّا يختلج في صدره، فليس باعتراض على اللّه تعالى، و لا طعن في بني آدم على وجه الغيبة، فإنّهم أعلى من أن يظنّ بهم ذلك، لقوله: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ «1». و قيل: عرفوا ذلك بإخبار من اللّه، أو تلقّ من اللوح، أو استنباط عمّا ركز في عقولهم أنّ العصمة من خواصّهم.

و السّفك و السّبك و السّفح و الشنّ أنواع من الصّبّ. فالسفك يقال في الدّم و الدّمع، و السّبك في الجواهر المذابة، و السّفح في الصبّ من أعلى، و الشنّ في الصبّ من فم القربة و نحوها، و كذلك السنّ.

و قوله: وَ نَحْنُ نُسَبِّحُ بِحَمْدِكَ وَ نُقَدِّسُ لَكَ حال

مقرّرة لجهة الإشكال، كقولك: أ تحسن إلى أعدائك و أنا الصّديق المحتاج؟! و المعنى أ تستخلف عصاة و نحن معصومون أحقّاء بذلك؟ و المقصود منه الاستفسار عمّا رجّحهم مع ما هو متوقّع منهم من الاستخلاف، لا العجب و التفاخر. و كأنّهم علموا أنّ المجعول خليفة ذو ثلاث قوى عليها مدار أمره: شهويّة و غضبيّة تؤدّيان به إلى الفساد و سفك الدماء، و عقليّة تدعوه إلى المعرفة و الطاعة، فقالوا: ما الحكمة في استخلافه و هو

______________________________

(1) الأنبياء: 26- 27.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 115

باعتبار تينك القوّتين لا تقتضي الحكمة إيجاده فضلا عن استخلافه؟ و أمّا باعتبار القوّة العقليّة فنحن نقيم ما يتوقّع منها سليما عن عروض تلك المفاسد. و غفلوا عن فضيلة كلّ واحدة من القوّتين إذا صارت مهذّبة مطواعة للعقل متمرّنة على الخير، كالعفّة و الشجاعة و مجاهدة الهوى و الإنصاف، و لم يعلموا أنّ التركيب يفيد ما يقصر عنه الآحاد، كالإحاطة بالجزئيّات، و استنباط الصناعات، و استخراج منافع الكائنات من القوّة إلى الفعل الّذي هو المقصود من الاستخلاف. و إليه أشار تعالى إجمالا بقوله: قالَ إِنِّي أَعْلَمُ من المصالح و الحكم في ذلك ما لا تَعْلَمُونَ و خفي عليكم وجه الحكمة.

و التسبيح تبعيد اللّه عن السوء، و كذلك التقديس، من سبح في الأرض و الماء، و قدس: إذا ذهب فيها و أبعد، و يقال: قدس إذا طهر، لأنّ مطهّر الشي ء مبعّد له عن الأقذار.

و «بحمدك» في موضع الحال، أي: ملتبسين بحمدك على ما ألهمتنا معرفتك و وفّقتنا لتسبيحك، و لو لا إنعامك علينا بالتوفيق و اللطف لم نتمكّن من عبادتك.

تداركوا به ما أوهم إسناد التسبيح إلى أنفسهم.

«وَ نُقَدِّسُ لَكَ» بمعنى نطهّر نفوسنا عن الذنوب لأجلك.

و قيل: اللام مزيدة، و معناه حينئذ: ننزّهك عمّا لا يليق بك من صفات النقص، و لا نضيف إليك القبائح.

و

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إنّ الملائكة سألت اللّه عزّ و جلّ أن يجعل الخليفة منهم، و قالوا: نحن نقدّسك و نطيعك و لا نعصيك كغيرنا، قال: فلمّا أجيبوا بما ذكر في القرآن علموا أنّهم تجاوزوا مالهم، فلاذوا بالعرش استغفارا، فأمر اللّه تعالى آدم بعد هبوطه أن يبني له في الأرض بيتا يلوذ به المخطئون كما لاذ بالعرش الملائكة المقرّبون، فقال اللّه تعالى للملائكة: إنّي أعرف بالمصلحة منكم،

و هو معنى قوله:

إِنِّي أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ و هذا يدلّ على أنّه تعالى لا يفعل القبيح، لأنّه لو كان يحسن منه كلّ شي ء لم يكن لهذا الكلام معنى.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 116

[سورة البقرة (2): الآيات 31 الى 33]

وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (31) قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلاَّ ما عَلَّمْتَنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (32) قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (33)

ثمّ بيّن لهم بعض الحكم و المصالح في خلق الخليفة في الأرض بقوله: وَ عَلَّمَ آدَمَ الْأَسْماءَ كُلَّها بخلق علم ضروريّ بها فيه. و التعليم فعل يترتّب عليه العلم غالبا، و لذلك يقال: علّمته فلم يتعلّم. و «الأسماء» في تقدير: أسماء المسمّيات، فحذف المضاف إليه، لكونه معلوما مدلولا عليه بذكر الأسماء، لأنّ الاسم لا بدّ له من مسمّى، و عوّض منه اللام كقوله: وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ «1». و ليس التقدير: و علّم آدم مسمّيات الأسماء، فيكون

حذفا للمضاف، لأنّ التعليم تعلّق بالأسماء لا بالمسمّيات، لقوله: أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ أَنْبِئْهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ بِأَسْمائِهِمْ فكما علّق الإنباء بالأسماء لا بالمسمّيات، و لم يقل: أنبئوني بهؤلاء و أنبئهم بهم، وجب تعليق التعليم بها.

و معنى تعليم أسماء المسمّيات أنّه أراه الأجناس الّتي خلقها، و علّمه أنّ هذا اسمه فرس و هذا اسمه كذا، و علّمه أحوالها و ما يتعلّق بها من المنافع الدينيّة و الدنيويّة. و عن ابن عبّاس و مجاهد و سعيد بن جبير و أكثر المتأخّرين علّمه جميع

______________________________

(1) مريم: 4.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 117

الأسماء و الصناعات و عمارة الأرضين و الأطعمة و الأدوية، و استخراج المعادن و غرس الأشجار و منافعها، و جميع ما يتعلّق بعمارة الدين و الدنيا.

و قيل: علّمه أسماء الأشياء كلّها ما خلق و ما لم يخلق، بجميع اللغات الّتي يتكلّم بها ولده بعده، فأخذ عنه ولده اللغات، فلمّا تفرّقوا تكلّم كلّ قوم بلسان ألفوه و اعتادوه و نسوا غيره.

و «آدم» اسم أعجميّ ك: آزر و شالخ. و قيل: اسم عربيّ مشتقّ من الادمة، أو الأدمة بالفتح بمعنى الاسوة، أو من أديم الأرض، لما

روي عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّه سبحانه قبض قبضة من جميع الأرض- سهلها و حزنها- فخلق منها آدم،

فلذلك يأتي بنوه ضروبا مختلفة. أو من الادم و الادمة بمعنى الالفة.

و الاسم باعتبار الاشتقاق ما يكون علامة للشي ء، و دليلا يرفعه إلى الذهن من الألفاظ و الصفات و الأفعال. و استعماله عرفا في اللفظ الموضوع لمعنى، سواء كان مركّبا أو مفردا، مخبرا عنه أو خبرا أو رابطة بينهما. و اصطلاحا في المفرد الدالّ على معنى في نفسه غير مقترن بأحد الأزمنة الثلاثة. و

المراد به في الآية إمّا الأوّل أو الثاني.

و ملخّص المعنى: أنّه تعالى خلقه من أجزاء مختلفة، و قوى متباينة، مستعدّا لإدراك أنواع المدركات، من المعقولات و المحسوسات و المتخيّلات و الموهومات، و ألهمه معرفة ذوات الأشياء و خواصّها و أسمائها، و اصول العلم، و قوانين الصناعات و كيفيّة آلاتها.

ثُمَّ عَرَضَهُمْ عَلَى الْمَلائِكَةِ الضمير للمسمّيات المدلول عليها ضمنا، إذ التقدير أسماء المسمّيات كما ذكر «1». و المراد بالمسمّيات ذوات الأشياء أو مدلولات الألفاظ. و تذكيره لتغليب ما اشتمل عليه من العقلاء.

______________________________

(1) في ص: 116.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 118

فَقالَ أَنْبِئُونِي بِأَسْماءِ هؤُلاءِ تبكيتا لهم و تنبيها على عجزهم عن أمر الخلافة، فإنّ التصرّف و التدبير و إقامة المعدلة قبل تحقّق المعرفة و الوقوف على مراتب الاستعدادات و قدر الحقوق محال، لا تكليفا ليكون من باب التكليف بالمحال. و الإنباء إخبار فيه إعلام، و لذلك يجري مجرى كلّ منهما.

إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في زعمكم أنّكم أحقّاء بالخلافة لعصمتكم، أو أنّ خلقهم و استخلافهم و هذه صفتهم لا يليق بالحكيم، و هو و إن لم يصرّحوا به لكنّه لازم مقالهم.

ثمّ أخبر سبحانه عن الملائكة بالرجوع إليه و التسليم لأمره فقال: قالُوا سُبْحانَكَ لا عِلْمَ لَنا إِلَّا ما عَلَّمْتَنا. هذا اعتراف بالعجز و القصور، و إشعار بأنّ سؤالهم كان استفسارا و لم يكن اعتراضا، و أنّه قد بان لهم ما خفي عليهم من فضل الإنسان و الحكمة في خلقه، و إظهار لشكر نعمته بما عرّفهم و كشف لهم ما اعتقل عليهم، و مراعاة للأدب بتفويض العلم كلّه إليه.

و «سبحان» مصدر كغفران، و لا يكاد يستعمل إلّا مضافا منصوبا بإضمار فعله، ك: معاذ اللّه. و قد أجري علما للتسبيح بمعنى التنزيه. و

تصدير الكلام به اعتذار عن الاستفسار و الجهل بحقيقة الحال، و لهذا جعل مفتاح التوبة فقال موسى عليه السّلام:

سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ «1» و قال يونس عليه السّلام: سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ «2».

إِنَّكَ أَنْتَ الْعَلِيمُ بجميع المعلومات، و هو صفة مبالغة للعالم الْحَكِيمُ المحكم للأفعال، و المبدع الّذي لا يفعل إلّا ما فيه حكمة بالغة.

و «أنت» فصل. و قيل: تأكيد للكاف كما في قولك: مررت بك أنت، و إن لم يجز: مررت بأنت، إذ التابع يسوغ فيه ما لا يسوغ في المتبوع، و لهذا جاز: يا هذا

______________________________

(1) الأعراف: 143.

(2) الأنبياء: 87.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 119

الرجل، و لم يجز: يا الرجل. و قيل: مبتدأ خبره ما بعده، و الجملة خبر «إنّ».

و في هذه الآية دلالة على أنّ العلوم كلّها من جهته تعالى، فإنّ العلوم لا تخلو إمّا أن تكون ضروريّة فهو الّذي فعلها، و إمّا أن تكون استدلاليّة فهو الّذي أقام الأدلّة عليها، فلا علم لأحد إلّا ما علّمه تعالى.

ثمّ خاطب اللّه تعالى آدم تبيينا لفضله على الملائكة بقوله: قالَ يا آدَمُ أَنْبِئْهُمْ أي: أعلم الملائكة و أخبرهم بِأَسْمائِهِمْ بأسماء المسمّيات، فعلّق الإنباء بالأسماء لا بالمسمّيات، فلم يقل: أنبئهم بهم، لما قلناه من أنّ التعليم متعلّق بالأسماء.

فَلَمَّا أَنْبَأَهُمْ أخبر الملائكة بِأَسْمائِهِمْ أي: باسم كلّ شي ء و منافعه و مضارّه و خواصّه قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي: أعلم ما غاب عنكم فلم تشاهدوه، كما أعلم ما حضركم فشاهدتموه. و الهمزة للإنكار دخلت على حرف الجحد فأفادت الإثبات و التقرير.

وَ أَعْلَمُ ما تُبْدُونَ ما تعلنونه وَ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ ما تضمرونه. و هذا استحضار لقوله تعالى: أَعْلَمُ ما لا تَعْلَمُونَ لكنّه

جاء به على وجه أبسط ليكون كالحجّة عليه، فإنّه تعالى لمّا علم ما خفي عليهم من امور السّموات و الأرض و ما ظهر لهم من أحوالهم الظاهرة و الباطنة علم ما لا يعلمون. و فيه تعريض بمعاتبتهم على ترك الأولى، و هو أن يتوقّفوا مترصّدين لأن يبيّن لهم.

و قيل: ما تُبْدُونَ قولهم: أ تجعل فيها من يفسد فيها، و «ما تكتمون» استبطانهم أنّهم أحقّاء بالخلافة، و أنّه تعالى لا يخلق خلقا أفضل منهم. و قيل: ما أظهروا من الطاعة و أسرّ إبليس منهم من المعصية.

و علمهم بصحّة قول آدم و مطابقة الأسماء المسمّيات، إمّا لعلمهم بنبوّته. و إمّا أن يكون اللّه تعالى جعل لهم العلم الضروري بصحّة الأسماء و مطابقتها للمسمّيات،

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 120

إمّا عن طريق، أو ابتداء بلا طريق، فلأجل ذلك علموا تميّزه و اختصاصه. و إمّا أن يكون لهم لغات مختلفة، فكلّ قبيل منهم يعرف أسماء الأجناس في لغته دون لغة غيره، فلمّا أراد اللّه التنبيه على نبوّته علّمه جميع تلك الأسماء، فلمّا أخبرهم بها علم كلّ فريق مطابقة ما اخبر به من الأسماء للغته، و علم مطابقة ذلك لباقي اللغات بخبر كلّ قبيل. و لا شبهة أنّ إحاطة عالم واحد بأسماء الأجناس في جميع لغاتهم خارقة للعادة دالّة على صحّة قوله.

و في هذه الآيات دلالة على أنّ تعليمه سبحانه الأسماء كلّها بما فيها من المعاني و فتق لسانه بذلك معجزة أقامها اللّه للملائكة، دالّة على نبوّته و جلالة قدره و تفضيله عليهم. و أنّ شرف الإنسان بمزيّة العلم و فضله. و أنّه شرط في الخلافة.

و أنّ التعليم يصحّ إسناده إلى اللّه تعالى، و إن لم يصحّ إطلاق المعلّم عليه، لأنّ اللغات

توقيفيّة. و أنّ مفهوم الحكمة زائد على مفهوم العلم، و إلّا لتكرّر قوله: أنت العليم الحكيم. و أنّ علوم الملائكة و كمالاتهم تقبل الزيادة. و أنّ آدم أفضل من الملائكة، لأنّه أعلم منهم، و الأعلم أفضل، لقوله تعالى: هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ «1». و أنّه تعالى يعلم الأشياء قبل حدوثها.

[سورة البقرة (2): آية 34]

وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى وَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ (34)

و لمّا أنبأهم بالأسماء و علّمهم ما لم يعلموا أمرهم بالسجود له سجدة تعظيم، اعترافا بفضله و مزيّة درجته، و أداء لحقّه، و اعتذارا عمّا قالوا فيه، فقال: وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ و قيل: أمرهم به قبل أن يسوّي خلقه، لقوله تعالى:

______________________________

(1) زمر: 9.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 121

فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ «1» امتحانا لهم، و إظهارا لفضله.

و العاطف عطف الظرف على الظرف السابق إن نصبته بمضمر نحو: اذكر، و إلّا عطفه بما يقدّر عاملا فيه على الجملة المتقدّمة، بل القصّة بأسرها على القصّة الاخرى.

و هي نعمة رابعة عدّها عليهم. و الكلام في أنّ المأمورين بالسجود الملائكة كلّهم أو طائفة منهم ما سبق. و السجود في الأصل تذلّل مع تطامن، و في الشرع وضع الجبهة على قصد العبادة.

و المأمور به هنا إمّا المعنى الشرعي على قول أكثر العامّة، فالمسجود له بالحقيقة هو اللّه تعالى، و جعل آدم قبلة لسجودهم تفخيما لشأنه، أو سببا لوجوبه، فكأنّه تعالى لمّا خلقه بحيث يكون نموذجا للمبدعات كلّها بل الموجودات بأسرها، و نسخة لما في العالم الروحاني و الجسماني، و وصلة إلى ظهور ما تباينوا فيه من المراتب و الدرجات، أمرهم بالسجود تذلّلا

لما رأوا فيه من عظيم قدرته و باهر آياته، و شكرا لما أنعم عليهم بواسطته. فاللام فيه كاللام في قول حسّان في مدح أمير المؤمنين عليه السّلام:

أليس أوّل من صلّى لقبلتكم و أعرف الناس بالقرآن و السنن

و في قوله تعالى: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ «2».

و إمّا المعنى اللّغوي، و هو التواضع لآدم تحيّة و تعظيما له، كسجود إخوة يوسف له. و

المرويّ عن أئمّتنا عليهم السّلام أنّه على وجه التكرمة لآدم و التعظيم لشأنه و تقديمه عليهم.

و هو قول قتادة أيضا و جمع من العلماء، و اختاره عليّ بن عيسى.

______________________________

(1) الحجر: 29.

(2) الإسراء: 78.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 122

و لهذا جعل أصحابنا رضي اللّه عنهم هذه الآية دالّة على أنّ الأنبياء أفضل من الملائكة، حيث إنّه سبحانه أمرهم بالسجود لآدم، و ذلك يقتضي تعظيمه و تفضيله عليهم، و إذا كان المفضول لا يجوز تقديمه على الفاضل علمنا أنّه أفضل من الملائكة.

و هذا الوجه أوجه و أحسن من الوجه الأوّل، لأنّه لو كان على الوجه الأوّل لما امتنع إبليس من ذلك، و لما استعظمته الملائكة، و قد نطق القرآن بأنّ امتناع إبليس عن السجود إنّما هو لاعتقاده تفضيله به و تكرمته، مثل قوله تعالى:

أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ «1» و قوله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ «2» و لوجب أن يعلمه اللّه بأنّه لم يأمره بالسجود على جهة تعظيمه و تفضيله عليه، و إنّما أمره على الوجه الآخر الّذي لا تفضيل فيه، و لم يجز إغفال ذلك، فإنّه سبب معصية إبليس و ضلالته، فلمّا لم يقع ذلك علمنا أنّ الأمر بالسجود له لم يكن إلّا على وجه التعظيم و التفضيل و الإكرام

و التبجيل.

و على هذا فَسَجَدُوا معناه: فسجد الملائكة سجدة تعظيم و تكريم لآدم إِلَّا إِبْلِيسَ أَبى امتنع عمّا أمر به وَ اسْتَكْبَرَ من أن يعظّمه و يتلقّاه بالتحيّة، أو يخدمه و يسعى فيما فيه خيره و صلاحه.

و الإباء: الامتناع باختيار. و التكبّر: أن يرى الرجل نفسه أكبر من غيره، و الاستكبار طلب ذلك.

وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ أي: في علم اللّه تعالى، أو صار منهم باستقباحه أمر اللّه تعالى إيّاه بالسجود لآدم، اعتقادا بأنّه أفضل منه، و الأفضل لا يحسن أن يؤمر

______________________________

(1) الإسراء: 62.

(2) الأعراف: 12.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 123

بالتخضّع للمفضول و التوسّل به، كما أشعر به قوله: أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ «1» جوابا لقوله:

ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ «2» و استخفافه بنبيّ اللّه لا بترك الواجب وحده.

و «إبليس» اسم أعجميّ. و اختلف فيه هل كان من الملائكة أم لا؟

فذهب قوم إلى أنّه كان منهم، و هو المرويّ عن ابن عبّاس و ابن مسعود و قتادة.

و قال الشيخ المفيد رحمه اللّه: إنّه كان من الجنّ خاصّة، و لم يكن من الملائكة.

و قد جاءت الأخبار بذلك متواترة عن أئمّة الهدى عليهم السّلام و هو مذهب الإماميّة و الحسن البصري و عليّ بن عيسى الرمّاني و البلخي و غيره. و احتجّوا على صحّة هذا القول بأشياء:

أحدها: قوله تعالى: إِلَّا إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِ «3». و من أطلق لفظ الجنّ لم يجز أن يعني به إلّا الجنس المعروف، و كلّ ما في القرآن من ذكر الجنّ مع الإنس يدلّ عليه.

و ثانيها: قوله تعالى: لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ «4» فنفى المعصية عنهم «5» نفيا عامّا.

و ثالثها: أنّ إبليس له

نسل و ذرّيّة، قال اللّه تعالى: أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَ هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ «6». و قال الحسن: إبليس أب الجنّ كما أنّ آدم أب الإنس، و إبليس مخلوق من النار، و الملائكة روحانيّون خلقوا من الريح في قول بعض،

______________________________

(1) الأعراف: 12.

(2) ص: 75.

(3) الكهف: 50.

(4) التحريم: 6.

(5) أي: عن الملائكة المذكورين في صدر الآية.

(6) الكهف: 50.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 124

و من النور في قول الحسن، لا يتناسلون و لا يطعمون و لا يشربون.

و رابعها: قوله تعالى: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا «1»، و لا يجوز على رسل اللّه الكفر و لا الفسق، و لو جاز عليهم الفسق لجاز عليهم الكذب. و استثناء اللّه تعالى إيّاه منهم لا يدلّ على كونه من جملتهم، و إنّما استثناه منهم لأنّه كان مأمورا بالسجود معهم، فلمّا دخل معهم في الأمر جاز إخراجه بالاستثناء منهم.

و قال في الكشّاف «2»: الاستثناء متّصل، لأنّه كان جنّيّا واحدا بين أظهر الألوف من الملائكة مغمورا بهم، فغلبوا عليه في قوله: فَسَجَدُوا، ثمّ استثنى منهم استثناء واحد منهم. و يجوز أن يكون منقطعا، كقوله تعالى: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ «3».

و يؤيّد صحّة هذا القول ما

رواه الشيخ ابو جعفر بن بابويه رحمه اللّه في كتاب النبوّة بإسناده عن ابن أبي عمير، عن جميل بن درّاج، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سألته عن إبليس أ كان من الملائكة، أو كان يلي شيئا من أمر السماء؟

فقال: لم يكن من الملائكة، و لم يكن يلي شيئا من أمر السماء، و كان من الجنّ، و كان مع الملائكة، و كانت الملائكة ترى أنّه منها، و كان اللّه يعلم أنّه ليس منها، فلمّا

امر بالسجود لآدم كان منه الّذي كان». و كذا رواه العيّاشي في تفسيره «4»

و من قال: إنّه كان من الملائكة فأجاب عن الأدلّة المذكورة بأجوبة سخيفة ضعيفة، لا نطوّل بذكرها الكتاب.

______________________________

(1) فاطر: 1.

(2) الكشّاف 1: 127.

(3) النساء: 157.

(4) تفسير العيّاشي 1: 34 ح 16.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 125

[سورة البقرة (2): الآيات 35 الى 37]

وَ قُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ وَ كُلا مِنْها رَغَداً حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (35) فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ وَ قُلْنَا اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ (36) فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ فَتابَ عَلَيْهِ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (37)

ثمّ ذكر اللّه سبحانه ما أمر به آدم عليه السّلام بعد ما أنعم عليه، من اختصاصه بالعلوم الّتي بها أوجب له الإعظام و أسجد له الملائكة الكرام، فقال: وَ قُلْنا يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ. نون «قلنا» نون الكبرياء و العظمة لا نون الجمع. و السكنى من السكون، لأنّها استقرار و لبث. و «أنت» تأكيد أكّد به المستكن ليصحّ العطف عليه.

و إنّما لم يخاطبهما أوّلا تنبيها على أنّه المقصود بالحكم، و المعطوف عليه تبع له.

و «الجنّة» دار الثواب، لأنّ اللام للعهد و لا معهود غيرها. و من زعم أنّها لم تخلق بعد قال: إنّه بستان كان بأرض فلسطين أو بين فارس و كرمان خلقه اللّه امتحانا لآدم، و حمل الإهباط على الانتقال منه إلى أرض الهند، كما في قوله:

اهْبِطُوا مِصْراً «1» و القول الأوّل أشهر و أصحّ و أكثر. و من يزعم أنّ جنّة الخلد من يدخلها لا يخرج منها غير صحيح، لأنّ ذلك إنّما يكون إذا

استقرّ أهل الجنّة فيها للثواب، فأمّا قبل ذلك فإنّها تفنى، لقوله تعالى: كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ «2».

و عن ابن عبّاس و ابن مسعود أنّه لمّا أخرج إبليس من الجنّة لامتناعه من

______________________________

(1) البقرة: 61.

(2) القصص: 88.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 126

السجود و لعن و طرد بقي آدم وحده فاستوحش، إذ ليس معه من يسكن، فخلقت حوّاء ليسكن إليها.

و

روي أنّ اللّه تعالى ألقى على آدم النوم و أخذ منه ضلعا، فخلق منه حوّاء، فاستيقظ آدم فإذا عند رأسه امرأة فقال: من أنت؟ قالت: امرأة، قال: لم خلقت؟

قالت: خلقت لتسكن إليّ، فقالت الملائكة: ما اسمها يا آدم؟ قال: حوّاء، قالوا: لم سمّيت حوّاء؟ قال: لأنّها خلقت من حيّ. و قيل: خلقت قبل أن يسكن آدم الجنّة، ثمّ ادخلا معا في الجنّة.

و في كتاب النبوّة: أنّ اللّه تعالى خلق آدم من الطين، و خلق حوّاء من آدم، فهمّة الرجال الماء و الطين، و همّة النساء الرجال.

و معنى الآية: اتّخذ يا آدم أنت و امرأتك الجنّة مسكنا و مأوى وَ كُلا مِنْها أي: من ثمرات الجنّة و طعومها رَغَداً كثيرا واسعا رافها لا عناء فيه، فإنّ الرغد بمعنى سعة العيش، و هو صفة مصدر محذوف، أي: رزقا واسعا حَيْثُ شِئْتُما أيّ مكان من بقاع الجنّة شئتما. وسّع الأمر عليهما إزاحة للعلّة و العذر في التناول من الشجرة المنهيّ عنها من بين أشجارها.

و اعلم أنّ هذا الأمر للإباحة بالاتّفاق، و أمّا قوله: وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ للتعبّد «1»، أي: لا تقرباها بالأكل لا مجرّد الدنوّ منها. و يدلّ عليه أنّ المخالفة وقعت بالأكل بلا خلاف لا بالدنوّ منها، و لذلك قال: فَأَكَلا مِنْها «2» و هو نهي تنزيه، و

كانا بالتناول منها تاركين نفلا و فضلا.

فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ مجزوم عطف على «تقربا»، أو منصوب جواب للنهي أي: الباخسين الثواب لأنفسكما بترك هذا المندوب إليه. و في الآية مبالغة في

______________________________

(1) كذا في الخطّية، و لعلّ الصحيح: فللتعبّد.

(2) طه: 121.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 127

النهي عن تناول تلك الشجرة- الّذي يثمر الحرمان من الثواب العظيم، الّذي هو الخلود في جنّات النعيم مع مزيد التكريم- و هي تعليق النهي بالقرب الّذي هو من مقدّمات التناول مبالغة في ترك الإقدام به «1»، و تنبيها على أنّ القرب من الشي ء يورث ميلا مّا به «2»، فينبغي أن لا يحوما حول ما نهي «3» عنهما مخافة أن يقعا فيه.

و جعله سببا لأن يكونا من الظالمين الّذين ظلموا أنفسهم بنقص حظّهما بالإتيان بما يخلّ بالكرامة و النعيم، فإنّ الفاء تفيد السببيّة. و لا يجوز أن يكون نهي تحريم، و يكون آدم فاعلا لقبيح، لأنّ الأنبياء عليهم السّلام لعصمتهم لا يجوز عليهم القبائح، لا صغيرها و لا كبيرها، قبل البعثة و بعدها، كما بيّن في كتب الكلام كالتجريد و نهج المسترشدين و غيرهما.

و «الشجرة» هي الحنطة أو الكرمة أو التينة أو الكافور، أو شجرة من أكل منها أحدث. و الأوّل أشهر.

ثم بيّن اللّه سبحانه حال آدم بعد سكونه مع حوّاء في الجنّة فقال: فَأَزَلَّهُمَا الشَّيْطانُ عَنْها أي: أصدر زلّتهما الشيطان- يعنى: إبليس- عن الشجرة، و حملهما على الزلّة بسببها. و إزلاله قوله: هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لا يَبْلى «4» و قوله: ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ «5»، و مقاسمته إيّاهما بقوله: إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ «6». نسب الإزلال إلى الشيطان

لما وقع بدعائه و وسوسته، أو أزلّهما عن الجنّة بمعنى أذهبهما عنها و أبعدهما، كما تقول: زلّ عن مرتبته، و زلّ عنّي ذلك، إذا ذهب عنك. و يعضده

______________________________

(1) كذا في الخطّية، و لعلّ الصحيح على الترتيب: الإقدام عليه ... ميلا مّا إليه ... نهيا عنه.

(2) كذا في الخطّية، و لعلّ الصحيح على الترتيب: الإقدام عليه ... ميلا مّا إليه ... نهيا عنه.

(3) كذا في الخطّية، و لعلّ الصحيح على الترتيب: الإقدام عليه ... ميلا مّا إليه ... نهيا عنه.

(4) طه: 120.

(5) الأعراف: 20- 21.

(6) الأعراف: 20- 21.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 128

قراءة حمزة: فأزالهما، و هما متقاربان في المعنى، غير أنّ أزلّ تقتضي عثرة مع الزوال، بخلاف الإزالة.

و اختلف في كيفيّة وصول إبليس إلى آدم و حوّاء حتى وسوس إليهما، و إبليس قد اخرج من الجنّة حين أبي السجود و هما في الجنّة، فقيل: إنّ آدم كان يخرج إلى باب الجنّة، و إبليس لم يكن ممنوعا من الدنوّ منه، فكان يكلّمه، و كان هذا قبل أن اهبط إلى الأرض و بعد أن اخرج من الجنّة. و قيل: إنّه كلّمهما من الأرض بكلام عرفاه و فهماه منه. و قيل: إنّه دخل في فقم الحيّة و خاطبهما من فقمها، و الفقم: جانب الشدق «1». و قيل: تمثّل بصورة دابّة فدخل و لم تعرفه الخزنة.

و قيل: إنّه منع من الدخول على جهة التكرمة كما كان يدخل مع الملائكة، و لم يمنع أن يدخل للوسوسة ابتلاء لآدم و حوّاء. و قيل: إنّه راسلهما بالخطاب. و ظاهر القرآن على أنّه شافههما بالخطاب. و العلم عند اللّه.

و على التقادير فَأَخْرَجَهُما مِمَّا كانا فِيهِ أي: من الكرامة و النعيم. أضاف الإخراج إلى

الشيطان لأنّه كان السبب فيه. و إنّما أخرج اللّه آدم من الجنّة، لأنّ المصلحة اقتضت بعد تناوله الشجرة إهباطه إلى الأرض و ابتلاءه بالتكليف و سلبه ثياب الجنّة، كما تقتضي الحكمة الإفقار بعد الإغناء و الإماتة بعد الإحياء. و من جملة المصلحة أن يكون ذلك لطفا له و لذرّيته في اجتناب الأولى و الخطايا و اتّقاء المآثم، و التنبّه على أنّه أخرج من الجنّة بترك الأولى، فكيف يدخلها ذو خطايا جمّة؟! وَ قُلْنَا اهْبِطُوا أي: انزلوا من الجنّة، خطاب لآدم و حوّاء، لقوله: اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً «2». و جمع الضمير لأنّهما أصلا الإنس، فكأنّهما الإنس كلّهم، أوهما و إبليس اخرج منها ثانيا بعد ما كان يدخلها للوسوسة. و قيل: من السماء إلى

______________________________

(1) الشدق بفتح الشين و كسرها: زاوية الفم من باطن الخدّين.

(2) طه: 123.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 129

الأرض.

بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ حال استغني فيها عن الواو بالضمير. و المعنى:

متعادين يبغي بعضكم على بعض بتضليله، يعني: آدم و ذرّيّته و إبليس و ذرّيّته. و لم يكن من آدم إليه ما يوجب عداوته إيّاه، و لكن حسده الملعون و خالفه، فنشأت بينهما العداوة، فعداوة آدم له إيمان و عداوة إبليس له كفر. و أمّا على الوجه الّذي يتضمّن أن الخطاب يختصّ بآدم و حوّاء، فالمراد منه أنّ ذرّيّتهما يعادي بعضهم بعضا. و علّق الخطاب بهما للتلازم بين الذرّيّة و بين أصلها.

وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ موضع استقرار، أو استقرار وَ مَتاعٌ تمتّع بالعيش إِلى حِينٍ يريد به وقت الموت أو القيامة. قال السّراج: لو قيل: لكم في الأرض مستقرّ و متاع، لظنّ أنّ ذلك غير منقطع، فقيل: إلى حين، أي: إلى حين انقطاعه.

و في الآية دلالة على

أنّ اللّه تعالى لا يريد المعصية، و لا يصدّ أحدا عن الطاعة، و لا يخرجه عنها، و لا يرضى بالمعصية، و لا يحدثها في المكلّف، لأنّه نسب ذلك إلى الشيطان، جلّ ربّنا و تقدّس عمّا نسبه إلى إبليس و الشياطين، و يدلّ أيضا على أنّ لوسوسة إبليس تأثيرا في المعاصي.

فَتَلَقَّى آدَمُ مِنْ رَبِّهِ كَلِماتٍ استقبلها بالأخذ و القبول و العمل بها حين علمها. و قرأ ابن كثير بنصب «آدم» و رفع «كلمات» على أنّها استقبلته و بلغته.

و أصل الكلمة الكلم، و هو التأثير المدرك بإحدى الحاسّتين السمع و البصر، كالكلام و الجراحة.

و هي قوله تعالى: رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ «1». و قيل: سبحانك اللّهمّ و بحمدك، و تبارك اسمك و تعالى جدّك، لا إله

______________________________

(1) الأعراف: 23.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 130

إلّا أنت ظلمت نفسي فاغفر لي، إنّه لا يغفر الذّنوب إلّا أنت.

و عن ابن عبّاس قال: يا ربّ ألم تخلقني بيدك؟ قال: بلى، قال: يا ربّ ألم تنفخ فيّ الروح من روحك؟ قال: بلى، قال: يا ربّ ألم تسبق رحمتك غضبك؟

قال: بلى، قال: ألم تسكنّي جنّتك؟ قال: بلى، قال: يا ربّ إن تبت و أصلحت أراجعي أنت إلى الجنّة؟ قال: نعم.

و قيل: هي قوله: اللّهمّ لا إله إلّا أنت سبحانك و بحمدك ربّ إنّي ظلمت نفسي فارحمني إنّك خير الراحمين، فتب عليّ إنّك أنت التوّاب الرحيم. و قيل: بل هي:

سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر.

و

في رواية أهل البيت عليهم السّلام: أنّ آدم عليه السّلام رأى مكتوبا على العرش أسماء معظّمة مكرّمة، فسأل عنها، فقيل له: هذه أسماء أجلّ الخلق

منزلة عند اللّه، و الأسماء: محمّد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين، فتوسّل آدم إلى ربّه بهم في قبول توبته و رفع منزلته.

فَتابَ عَلَيْهِ فرجع عليه بالرحمة و قبول التوبة. و إنّما رتّبه بالفاء على تلقّي الكلمات لتضمّنه معنى التوبة، و هو الاعتراف بترك الندب، و الندم عليه و العزم على أن لا يعود إليه. و اكتفي بذكر آدم لأنّ حوّاء كانت تبعا له في الحكم، و لذلك طوى ذكر النساء في أكثر القرآن و السنن.

إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرجّاع على عباده بالمغفرة، أي: كثير القبول للتوبة مرّة بعد اخرى، أو الّذي يكثر إعانتهم على التوبة باللطف و التوفيق. و أصل التوبة الرجوع فإذا وصف بها العبد كان رجوعا عن المعصية أو ترك الأولى، و إذا وصف بها الباري تعالى أريد بها الرجوع عن العقوبة أو الحرمان عن الثواب المرتّب على فعل الندب إلى المغفرة أو إلى إعطاء الثواب.

الرَّحِيمُ المبالغ في الرحمة. و في الجمع بين الوصفين وعد للتائب بالإحسان مع المغفرة.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 131

قال الحسن البصري: لم يخلق اللّه آدم إلّا للأرض، و لو لم يعص لأخرجه على غير تلك الحال. و قال غيره: يجوز أن يكون خلقه للأرض إن عصى، و لغيرها إن لم يعص. و هو الأقوى.

و اعلم أنّ التوبة عبارة عن الندم على ما مضى من القبيح، و العزم على أن لا يعود إلى مثله في القبح، فإنّ هذه التوبة أجمع المسلمون على سقوط العقاب عندها، و اختلفوا فيما عداها. و كلّ معصية للّه تعالى يجب التوبة منها. و عندنا يصحّ التوبة من ترك الندب، و يكون ذلك على وجه الرجوع إلى فعله. و على هذا يحمل توبة الأنبياء

عليهم السّلام في جميع ما نطق به القرآن. و قبول التوبة و إسقاط العقاب عندنا تفضّل من اللّه تعالى، لكن لمّا وعدنا اللّه تعالى بذلك علمنا أنّه لا يخلف الميعاد.

و عند جميع المعتزلة واجب عليه.

و أمّا التوبة من قبيح مع الإقامة على قبيح آخر يعلم أو يعتقد قبحه، فعند أكثر المتكلّمين هي صحيحة، و عند أبي هاشم و أصحابه لا يصحّ. و دليل الأوّلين أنّه كما يجوز أن يمتنع عن قبيح لقبحه مع أنّه يفعل قبيحا آخر و إن علم قبحه، كذلك يجوز أن يندم من قبيح مع المقام على قبيح آخر يعلم قبحه.

[سورة البقرة (2): الآيات 38 الى 39]

قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (38) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (39)

و لمّا أمر سبحانه أوّلا بإهباطهم من الجنّة إلى السماء أمرهم ثانيا بإهباطهم إلى الأرض فقال: قُلْنَا اهْبِطُوا مِنْها جَمِيعاً فلا تكرير في الإهباط. و «جميعا» حال في اللفظ تأكيد في المعنى، كأنّه قيل: اهبطوا أنتم أجمعون، و لذلك لا يستدعي اجتماعهم على الهبوط في زمان واحد، كقولك: جاؤا جميعا.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 132

و قيل: المراد من هذا الإهباط هو الإهباط الأوّل، و تكراره للتأكيد. و قيل:

الإهباط الأوّل إنّما كان في حال عداوة بعضهم لبعض، و الثاني إنّما كان للابتلاء و التكليف، كما يقال: اذهب سالما معافي، اذهب مصاحبا، و إن كان الذهاب واحدا، لاختلاف الحالين.

فبعد بيان حال الاولى بيّن الثانية بقوله: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً أي: بيان و دلالة برسول ابعثه إليكم و كتاب أنزله عليكم. و على هذا القول يكون الخطاب في قوله: اهْبِطُوا لآدم و حوّاء و

ذرّيّتهما، و «ما» مزيدة أكّدت به «إن» و لذلك حسن تأكيد الفعل بالنون، و إن لم يكن فيه معنى الطلب. و المعنى: إن يأتينّكم منّي هدى بإنزال أو إرسال فَمَنْ تَبِعَ هُدايَ بأن يقتدي برسولي و يؤمن به و بكتابه فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من العقاب فضلا عن أن يحلّ بهم مكروه وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ على فوت الثواب و المحبوب فيحزنوا عليه. و أمّا الخوف و الحزن في الدنيا فإنّه يجوز أن يلحقهم، لأنّ من المعلوم أنّ المؤمنين لا ينفكّون منه. و جواب الشرط الأوّل الشرط الثاني مع جوابه.

و الآية تدلّ على أنّ الهدى قد تثبت و لا يحصل الاهتداء، و أنّ الاهتداء إنّما يقع بالاتّباع و القبول.

و إنّما جي ء بحرف الشكّ و إتيان الهدى كائن لا محالة للإيذان بأنّ الإيمان باللّه و التوحيد لا يشترط فيه بعثة الرسل و إنزال الكتب، و أنّه لو لم يبعث رسولا و لم ينزل كتابا كان الإيمان به و توحيده واجبا، لما ركب فيهم من العقول، و نصب لهم من الأدلّة، و مكّنهم من النظر و الاستدلال.

و كرّر لفظ الهدى و لم يضمر لأنّه أراد بالثاني أعمّ من الأوّل، و هو ما أتى به الرسل و اقتضاه العقل، أي: فمن اتّبع ما أتاه مراعيا فيه ما يشهد به العقل فلا خوف عليهم، و الخوف إنّما يكون على المتوقّع و الحزن على الواقع، فنفي عنهم العذاب

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 133

و أثبت لهم الثواب على آكد وجه و أبلغه.

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا جحدوا رسلنا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا بدلالاتنا الهادية المنزلة أو ما يعمّها و المعقولة أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ الملازمون للنار هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون مؤبّدون.

هذه الآية عطف على فَمَنْ تَبِعَ

إلى آخرها، قسيم له، كأنّه قال: و من لم يتّبع بل كفروا باللّه و كذّبوا بآياته، أو كفروا بالآيات جنانا و كذّبوا بها لسانا، فيكون الفعلان متوجّهين إلى الجارّ و المجرور.

و الآية في الأصل العلامة الظاهرة، و يقال للمصنوعات من حيث إنّها تدلّ على وجود الصانع و علمه و قدرته، و لكلّ طائفة من كلمات القرآن المتميّزة عن غيرها بفصل. و اشتقاقها من أيّ، لأنّها تبيّن أيّا من أيّ، أو من: أوى إليه. و أصلها أيّة، أو أوية كتمرة، فأبدلت عينها ألفا على غير قياس، أو أيية، أو أوية كرمكة فأعلّت، أو آئية كقائلة فحذفت الهمزة تخفيفا.

و في الآية دلالة على أنّ من مات مصرّا على كفره غير تائب منه و كذّب بآيات ربّه فهو مخلّد في نار جهنّم.

[سورة البقرة (2): الآيات 40 الى 42]

يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي أُوفِ بِعَهْدِكُمْ وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ (40) وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ (41) وَ لا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَكْتُمُوا الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (42)

و اعلم أنّه سبحانه لمّا ذكر دلائل التوحيد و النبوّة و المعاد، و عقّبها تعداد النعم

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 134

العامّة تقريرا لها- فإنّها من حيث إنّها حوادث محكمة تدلّ على محدث حكيم له الخلق و الأمر وحده لا شريك له، و من حيث إنّ الإخبار بها على ما هو مثبت في الكتب السابقة ممّن لم يتعلّمها و لم يمارس شيئا منها إخبار بالغيب معجز يدلّ على نبوّة المخبر عنها، و من حيث اشتمالها على خلق الإنسان و أصوله و ما هو أعظم من ذلك

تدلّ على أنّه قادر على الإعادة كما كان قادرا على الإبداء- خاطب أهل العلم و الكتاب منهم، و أمرهم بأن يذكروا نعم اللّه عليهم، و يوفوا بعهده في اتّباع الحقّ و اقتضاء الحجج، ليكونوا أوّل من آمن بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلم و ما انزل عليه، فقال:

يا بَنِي إِسْرائِيلَ أي: يا أولاد يعقوب. و الابن: من البناء، لأنّه مبنيّ على أبيه، و لذلك ينسب المصنوع إلى صانعه، فيقال: أبو الحرب و بنت الفكر.

و «إسرائيل» لقب يعقوب، و معناه بالعبريّة: صفوة اللّه، و قيل: عبد اللّه.

اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ أي: استحضروها في أنفسكم بالتفكّر فيها و القيام بشكرها. و توحيد النعمة باعتبار الجنس. و تقييدها بهم، لأنّ الإنسان غيور حسود بالطبع، فإذا نظر إلى ما أنعم اللّه على غيره حمله الغيرة و الحسد على الكفران و السخط، و إن نظر إلى ما أنعم اللّه عليه حمله حبّ النعمة على الرضا و الشكر.

و قيل: أراد بها ما أنعم اللّه به على آبائهم من الإنجاء من فرعون و الغرق، و من العفو عن اتّخاذ العجل، فإنّ النعمة على الآباء نعمة على الأبناء، لتشرّفهم بفضيلة الآباء، و عليهم من إدراك زمن محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلم المبشّر به في التوراة و الإنجيل.

وَ أَوْفُوا بِعَهْدِي بالإيمان و الطاعة. و سمّي ذلك عهدا لأنّ اللّه أخذ عليهم العهد بذلك في يوم الميثاق في الكتاب، أو لتأكيده بمنزلة العهد. أُوفِ بِعَهْدِكُمْ بحسن الإثابة.

و «العهد» يضاف إلى المعاهد و المعاهد. و الأولى أن يكون الأوّل مضافا إلى

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 135

الفاعل و الثاني إلى المفعول، فإنّه تعالى عهد إليهم بالإيمان و العمل الصالح بنصب الدلائل

و إنزال الكتب، و وعد لهم بالثواب على حسناتهم. و للوفاء بهما عرض عريض، فأوّل مراتب الوفاء منّا هو الإتيان بكلمتي الشهادة، و من اللّه حقن الدم و المال، و آخرها منّا الاستغراق في بحر التوحيد بحيث يغفل عن نفسه فضلا عن غيره، و من اللّه الفوز بنهاية القرب الدائم المسمّى باللقاء الأبدي.

و ما روي عن ابن عباس: أوفوا بعهدي في اتّباع محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلم أوف بعهدكم في رفع آصار التكليف و شدّتها، و عن غيره: أوفوا بأداء الفرائض و ترك الكبائر أوف بالمغفرة و الثواب، أو أوفوا بالاستقامة على الطريق المستقيم أوف بالكرامة و النعيم المقيم، فبالنظر إلى وسائط مراتب الوفاء.

و يجوز أن يكون كلاهما مضافا إلى المفعول، و المعنى: أوفوا بما عاهدتموني من الإيمان و التزام الطاعة أوف بما عاهدتكم من حسن الإثابة.

و تفصيل هذين العهدين قوله تعالى: وَ لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ إلى قوله وَ لَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي «1».

وَ إِيَّايَ فَارْهَبُونِ فيما تأتون و تتركون، و خصوصا في نقض العهد، و هو آكد في إفادة التخصيص من «إِيَّاكَ نَعْبُدُ» لما فيه- مع تقديم المفعول- من تكرير المفعول، و الفاء الجزائيّة الّتي تدلّ على تضمّن الكلام معنى الشرط، كأنّه قيل: إن كنتم راهبين شيئا فارهبون. و الرهبة عبارة عن خوف مع تحرّز.

و الآية متضمّنة للوعد و الوعيد، و دالّة على وجوب شكر النعمة- و

في الحديث: التحدّث بالنعم شكر-

و على الوفاء بالعهد، و أنّ المؤمن ينبغي أن لا يخاف أحدا إلّا اللّه، و أن عظم المعصية في جحود النعم و كفرانها، و لحوق الوعيد الشديد بكتمانها، و على ثبوت أفعال العباد، إذ لو لم تكن لهم أفعال

لما صحّ العهد

______________________________

(1) المائدة: 12.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 136

و الأمر و النهي و الوعد و الوعيد، و لأدّى إلى بطلان الرسل و الكتب.

ثمّ قال مخاطبا لليهود: وَ آمِنُوا بِما أَنْزَلْتُ على محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلم من القرآن مُصَدِّقاً حال كونه موافقا لِما مَعَكُمْ إفراد الإيمان بالأمر به و الحثّ عليه لأنّه المقصود و العمدة للوفاء بالعهود.

و تقييد المنزل بأنّه مصدّق لما معهم من الكتب الإلهيّة- من حيث إنّه نازل حسبما نعت فيها، أو مطابق لها في القصص و المواعيد، و الدعاء إلى التوحيد، و الأمر بالعبادة و العدل بين الناس، و النهي عن المعاصي و الفواحش. و فيما «1» يخالفها من جزئيّات الأحكام بسبب تفاوت الأعصار في المصالح، من حيث إنّ كلّ واحدة منها حقّ بالإضافة إلى زمانها، مراعى فيها صلاح من خوطب بها، حتى لو نزل المتقدّم في أيّام المتأخّر لنزل على وفق المتأخّر، و لذلك

قال عليه السّلام: «لو كان موسى حيّا لما وسعه إلّا اتّباعي»-

تنبيه «2» على أنّ اتّباعها لا ينافي الإيمان به، بل يوجبه، و لذلك عرّض بقوله: وَ لا تَكُونُوا أَوَّلَ كافِرٍ بِهِ أي: الواجب عليكم أن تكونوا أوّل من آمن به، لأنّكم من أهل النظر في معجزاته و العلم بشأنه، و مستفتحون به على الكفرة، و مبشّرون بزمانه.

و «أوّل كافر» خبر عن ضمير الجمع، بتقدير: أوّل فريق أو فوج، أو بتأويل:

لا يكن كلّ واحد منكم أوّل كافر به، كما يقال: كسانا الأمير حلّة، أي: كسا كلّ واحد منّا حلّة.

و لمّا كان المراد منه التعريض بأنّه كان يجب أن يكون اليهود أوّل من يؤمن به لمعرفتهم به و بصفته، و تبشيرهم الناس به، و استفتاحهم به

على الّذين كفروا، و كانوا

______________________________

(1) عطف على: في القصص، أي: مطابق لها فيما يخالفها من الأحكام، و لكن من حيث إن كلّ واحدة منها حقّ بالإضافة إلى زمانها.

(2) خبر ل: و تقييد المنزل.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 137

يقولون: إنّا نتّبعه قبل أن يكون الناس كلّهم آمنوا به، فلمّا بعث كان أمرهم على العكس، كقوله: فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ «1» لا الدلالة على ما نطق به الظاهر، كقولك: أمّا أنا فلست بجاهل. فلا «2» يرد: كيف نهوا عن التقدّم في الكفر و قد سبقهم مشركو العرب؟ أو يكون المراد منه: و لا تكونوا أوّل كافر به من أهل الكتاب. و يجوز أن يراد: و لا تكونوا مثل أوّل كافر به، يعني: من أشرك به من أهل مكّة، أي: و لا تكونوا و أنتم تعرفونه مذكورا في التوراة موصوفا، مثل من لم يعرفه و هو مشرك لا كتاب له.

و قيل: الضمير في «به» ل «ما معكم» لأنّهم إذا كفروا بما يصدّقه فقد كفروا به.

و «أوّل» أفعل لا فعل له. و قيل: أصله أوأل من: و أل، أو أأول من: آل فقلبت همزته واوا و أدغمت.

وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلًا و لا تستبدلوا بالإيمان بها حظوظ الدنيا، فإنّها و إن جلّت قليلة بالإضافة إلى ما يفوت عنكم من حظوظ الآخرة بترك الإيمان.

روي عن أبي جعفر عليه السّلام و غيره في هذه الآية أنّه قال: «كان حييّ بن أخطب و كعب بن الأشرف و نظائرهما من اليهود لهم رئاسة في قومهم و رسوم و هدايا منهم و مأكلة على اليهود في كلّ سنة، فكرهوا بطلانها بأمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم- أي: فخافوا عليها

لو اتّبعوا رسول اللّه- فاختاروها عليه، فحرّفوا لذلك آيات من التوراة فيها صفته و ذكره، فذلك هو الثمن الّذي أريد في الآية.

فالمعنى: لا تستبدلوا بما في التوراة من بيان صفة محمّد و نعته ثمنا قليلا، أي: عرضا يسيرا من الدنيا. و قيل: كانوا يأخذون الرّشا فيحرّفون الحقّ و يكتمونه.

______________________________

(1) البقرة: 89.

(2) جواب ل: و لمّا كان، في أوّل العبارة.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 138

و في هذه الآية دلالة على تحريم أخذ الرّشا في الدين، فإنّه لا يخلو إمّا أن يكون أمرا يجب إظهاره أو يحرم إظهاره، فالأخذ على مخالفة كلا الوجهين حرام.

و هذا الخطاب يتوجّه أيضا على علماء السوء من هذه الامّة إذا اختاروا الدنيا على الدّين، فتدخل فيه الشهادات و القضايا و الفتاوى و غير ذلك.

وَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ بالإيمان و اتّباع الحقّ و الإعراض عن الدنيا. و لمّا كانت الآية السابقة مشتملة على ما هو كالمبادي لما في الآية الثانية فصّلت بالرهبة التي هي مقدّمة التقوى. و لأنّ الخطاب بالأولى لمّا عمّ العالم و المقلّد أمرهم بالرهبة الّتي هي مبدأ السلوك، و الخطاب بالثانية لمّا خصّ أهل العلم أمرهم بالتقوى التي هي منتهى السلوك.

و قوله: وَ لا تَلْبِسُوا الْحَقَّ بِالْباطِلِ عطف على ما قبله. و اللبس الخلط، و قد يلزمه جعل الشي ء مشتبها بغيره. و المعنى: لا تخلطوا الحقّ المنزل في التوراة بالباطل الّذي تخترعونه و تكتمونه، فيختلط الحقّ بالباطل و لا يبقى تميّز بينهما. أو:

و لا تجعلوا الحقّ مشتبها بباطلكم الّذي تكتبونه في خلاله حتى رفع التمييز بينهما.

فالباء على الأوّل صلة، مثل قولك: لبست الشي ء بالشي ء و خلطته، و على الثاني للاستعانة، كالّتي في قولك: كتبت بالقلم.

وَ تَكْتُمُوا الْحَقَ جزم داخل تحت حكم النهي،

كأنّهم أمروا بالإيمان و ترك الضلال، و نهوا عن الإضلال بالتلبيس على من سمع الحقّ و الإخفاء على من لم يسمعه. أو منصوب بإضمار «أن» على أنّ الواو للجمع، و يسمّى واو الصرف أيضا، لصرفه المعطوف عن إعراب المعطوف عليه. و المعنى: و لا تجمعوا بين لبس الحقّ بالباطل و كتمان الحقّ، كقولك: لا تأكل السمك و تشرب اللبن. و فيه نظر، لتوهّم أنّ المحظور هو الجمع بينهما لا كلّ واحد منهما، كالجمع بين الأكل و الشرب، إلّا أن يقال: إنّ قرينة المقام دالّة على تحريم كلّ منهما، كقوله تعالى: وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 139

أَوْ كَفُوراً «1»، إذ لا يجوز أن يريد: أطع أحدهما، لقرينة الإثم و الكفور.

وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ عالمين بأنّكم لابسون كاتمون، فإنّه أقبح، إذ الجاهل قد يعذر.

[سورة البقرة (2): الآيات 43 الى 44]

وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ (43) أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (44)

ثمّ أمرهم اللّه بفروع الإسلام بعد ما أمرهم بأصوله، فقال: وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ أدّوها بأركانها وَ آتُوا الزَّكاةَ أعطوا الزكاة المفروضة، يعني: صلاة المسلمين و زكاتهم، فإنّ غيرهما كلا صلاة و لا زكاة. و هذا دليل على أنّ الكفّار مخاطبون بها.

و الزكاة من: زكا الزرع، إذا نما، فإنّ إخراجها يستجلب بركة في المال، و يثمر للنفس فضيلة الكرم. أو من الزكاء بمعنى الطهارة، فإنّها تطهّر المال عن الخبث و النفس عن البخل.

وَ ارْكَعُوا مَعَ الرَّاكِعِينَ من المسلمين، لأنّ اليهود لا ركوع في صلاتهم، أو المراد به صلاة الجماعة، فكأنّه قال: و أقيموا الصلاة و صلّوها مع المصلّين لا منفردين، فإنّ صلاة الجماعة تفضل صلاة الفذّ «2»

بسبع و عشرين درجة. و قيل:

الركوع الخضوع و الانقياد لما يلزمهم الشارع.

ثمّ وبّخهم على وجه التقرير و التعجيب فقال: أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ البرّ التوسّع في الخير، و منه البرّ و هو الفضاء الواسع. و يتناول كلّ خير، و لذلك قيل: البرّ

______________________________

(1) الإنسان: 24.

(2) أي: المنفرد، و الفذّ: الفرد. (لسان العرب 3: 502)

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 140

ثلاثة: برّ في عبادة اللّه تعالى، و برّ في مراعاة الأقارب، و برّ في معاملة الأجانب.

وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ و تتركونها من البرّ ترك المنسيّات. و عن ابن عبّاس أنّها نزلت في أحبار المدينة كانوا يقولون لأقربائهم من المسلمين: اثبتوا على ما أنتم عليه من اتّباع محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلم، و هم لا يؤمنون به و لا يتّبعونه. و قيل: كانوا يأمرون بالصدقة و لا يتصدّقون.

ثمّ بكّتهم بقوله: وَ أَنْتُمْ تَتْلُونَ الْكِتابَ كقوله: وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي: تتلون التوراة و فيها الوعيد على العناد و ترك البرّ و مخالفة القول العمل. أَ فَلا تَعْقِلُونَ توبيخ عظيم، يعني: أ فلا تفطنون لقبح صنيعكم فيصدّكم استقباحه عن ارتكابه؟ أو أ فلا عقل لكم يمنعكم عمّا تعلمون وخامة عاقبته؟ و العقل في الأصل الحبس، ثمّ سمّي به الإدراك الإنساني، لأنّه يحبسه عمّا يقبح، و يعقله على ما يحسن.

و الآية ناعية على من يعظ غيره و لا يتّعظ بنفسه سوء صنيعه و خبث نفسه، و أن فعله فعل الجاهل بالشرع أو الأحمق الخالي عن العقل، و حاثّة الواعظ على تزكية النفس و الإقبال عليها بالتكميل لتقوم فيقيم، لا أنّها تمنع الفاسق عن الوعظ، فإنّ الإخلال بأحد الأمرين المأمور بهما لا يوجب الإخلال بالآخر.

روى أنس بن مالك قال: قال رسول اللّه

صلّى اللّه عليه و آله و سلم: مررت ليلة أسري بي على أناس تقرض شفاههم بمقاريض من نار، فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هؤلاء خطباء من أهل الدنيا ممّن كانوا يأمرون الناس بالبرّ و ينسون أنفسهم.

[سورة البقرة (2): الآيات 45 الى 47]

وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ وَ إِنَّها لَكَبِيرَةٌ إِلاَّ عَلَى الْخاشِعِينَ (45) الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ راجِعُونَ (46) يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (47)

و لمّا أمر اللّه اليهود بما يشقّ عليهم، لما فيه من الكلفة و ترك الرئاسة

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 141

و الإعراض عن المال، أمرهم بعد ذلك بالاستعانة على حوائجهم بالصّبر و الصلاة، فقال: وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ بحبس النفس على ما أنتم فيه من ضيق المعاش، و انتظار النجح و الفرج توكّلا على اللّه، أو

بالصوم الذي هو صبر عن المفطرات، لما فيه من كسر الشهوة و تصفية النفس، و هذا مرويّ عن ائمّتنا «1» عليهم السّلام.

وَ الصَّلاةِ و بالتوصّل و التوسّل إلى الصلاة و الالتجاء إليها، فإنّها جامعة لأنواع العبادات النفسانيّة و البدنيّة من الطهارة و ستر العورة و صرف المال فيهما، و التوجّه إلى الكعبة، و العكوف للعبادة، و إظهار الخشوع بالجوارح، و إخلاص النيّة بالقلب، و مجاهدة الشيطان، و مناجاة الحقّ، و قراءة القرآن، و التكلّم بالشهادتين، و كفّ النفس عن الأكل و النوم و الجماع، حتّى تجابوا إلى تحصيل المآرب و جبر المصائب.

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم إذا حزنه أمر فزع إلى الصّلاة.

و يجوز أن يراد بالصلاة الدعاء، و أن يستعان على البلايا بالصبر و الالتجاء إلى الدعاء و الابتهال إلى اللّه تعالى في رفعه. و الأوّل أظهر

و أشهر. و يؤيّده ما روى عن ابن عبّاس أنّه نعي إليه أخوه قثم و هو في سفر، فاسترجع و تنحّى عن الطريق فصلّى ركعتين أطال فيهما الجلوس، ثمّ قام يمشي إلى راحلته و هو يقول: استعينوا بالصّبر و الصّلاة.

وَ إِنَّها أي: الاستعانة بهما أو الصلاة، و حينئذ تخصيصها بها لعظم شأنها، لاستجماعها ضروبا من الصبر لَكَبِيرَةٌ لثقيلة شاقّة، كقوله: كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ «2» إِلَّا عَلَى الْخاشِعِينَ أي: المخبتين، لأنّهم الّذين يتوقّعون ما ادّخر للصابرين على مشاقّها فتهون عليهم، بل يستلذّون بسببه متاعبها، و من ثمّ

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلم: و جعلت قرّة عيني في الصلاة،

و

قال لبلال: روّحنا.

______________________________

(1) انظر تفسير العيّاشي 1: 43 ح 40- 41.

(2) الشورى: 13.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 142

و الخشوع: التطامن و الإخبات، و الخضوع: اللين و الانقياد، و لذلك يقال:

الخشوع بالجوارح و الخضوع بالقلب.

الَّذِينَ يَظُنُّونَ يتوقّعون أَنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ لقاء ثوابه وَ أَنَّهُمْ إِلَيْهِ إلى نيل ما عنده راجِعُونَ أو يتيقّنون أنّهم يحشرون إلى اللّه فيجازيهم، و كأنّ الظنّ لمّا شابه العلم في الرجحان اطلق عليه، لتضمّن معنى التوقّع، و لا يجوز أن يكون المراد من اللقاء رؤية اللّه، لاستحالة إطلاقها عليه كما قرّر في الكلام.

يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ قد مرّ «1» تفسيره، و كرّره للتأكيد، أو ذكر الأوّل مجملا و هذا مفصّلا، أو في الأوّل ذكّرهم نعمه على أنفسهم، و في الثاني على آبائهم.

وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عطف على نعمتي، أي: اذكروا تفضيلي آباءكم عَلَى الْعالَمِينَ أي: عالمي زمانهم، لأنّ أمّتنا أفضل الأمم بالإجماع، كما أنّ نبيّنا عليه السّلام أفضل الأنبياء، بدليل قوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ «2» فيريد

تفضيل آبائهم الّذين كانوا في زمان موسى عليه السّلام و بعده- قبل أن يغيّروا دينهم- بما منحهم من العلم و الإيمان و العمل الصالح، و جعلهم أنبياء و ملوكا مقسطين.

و قيل: المراد به تفضيلهم في أشياء مخصوصة، و هي إنزال المنّ و السّلوى، و ما أرسل اللّه فيهم من الرسل، و أنزل عليهم من الكتب، إلى غير ذلك من النعم العظيمة، مثل تغريق فرعون، و الآيات الكثيرة الّتي يخفّ معها الاستدلال، و يسهل بها الميثاق. و تفضيل اللّه إيّاهم في أشياء مخصوصة لا يوجب أن يكونوا أفضل الناس على الإطلاق، كما يقال: حاتم أفضل الناس في السخاء.

______________________________

(1) في ص: 134 ذيل آية: 40.

(2) آل عمران: 110.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 143

[سورة البقرة (2): آية 48]

وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَ لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (48)

و لمّا بيّن سبحانه نعمه العظام عليهم أنذرهم في كفرانها بيوم القيامة، فقال: وَ اتَّقُوا يَوْماً أي: ما فيه من الحساب و العذاب لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً لا تقضي عنها شيئا من الحقوق و لا تدفع عنها مكروها، أو شيئا من الجزاء، فيكون نصبه على المصدر. و إيراده منكّرا مع تنكير النفسين للتعميم و الإقناط الكلّي. و الجملة صفة ل «يوما» و العائد محذوف، تقديره: لا تجزي فيه.

وَ لا يُقْبَلُ مِنْها شَفاعَةٌ وَ لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ أي: من النفس الثانية العاصية أو من الاولى. و كأنّه أريد بالآية نفي أن يدفع العذاب أحد عن أحد من كلّ وجه محتمل، فإنّه إمّا أن يكون قهرا، أو غيره. و الأوّل النصرة. و الثاني إمّا أن يكون مجّانا، أو غيره. و الأوّل

على أنّها لو شفعت لها لم تقبل شفاعتها، كما لا يجزي عنها شيئا أن يشفع له. و الثاني إمّا بأداء ما كان عليه و هو أن يجزي عنه، أو بغيره، و هو أن يعطي عنه عدلا أي: فداء.

و الشفاعة من الشفع، كأنّ المشفوع له كان فردا فجعله الشفيع شفعا بضمّ نفسه إليه. و العدل الفدية. و قيل: البدل. و أصله التسوية، سمّي به الفدية لأنّها سوّيت بالمفدى. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو: و لا تقبل بالتاء.

وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ يمنعون من عذاب اللّه. و الضمير لما دلّت عليه النفس الثانية المنكرة الواقعة في سياق النفي من النفوس الكثيرة. و تذكيره بمعنى العباد و الأناسي. و النّصرة أخصّ من المعونة، لاختصاصها بدفع الضرّ.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 144

قال المفسّرون «1»: حكم هذه الآية مختصّ باليهود، لأنّهم قالوا: نحن أولاد الأنبياء و آباؤنا يشفعون لنا، فأقنطهم اللّه عن ذلك. و يدلّ على ذلك أنّ الامّة أجمعت على أنّ للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم شفاعة مقبولة و إن اختلفوا في كيفيّتها، فعندنا هي مختصّة بدفع المضارّ و إسقاط العقاب عن مستحقّيه من مذنبي المؤمنين. و قالت المعتزلة: هي في زيادة المنافع للمطيعين و التائبين دون العاصين.

و هي ثابتة عندنا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم، و الأئمّة من أهل بيته الطاهرين، و لصالحي المؤمنين، و ينجّي اللّه تعالى بشفاعتهم كثيرا من الخاطئين. و يؤيّده الحديث المتواتر عند الامّة المرحومة من الموافق و المخالف

أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال: «ادّخرت شفاعتي لأهل الكبائر من امّتي»،

و ما

جاء في روايات أصحابنا رضوان اللّه عليهم مرفوعا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه

و آله و سلم أنّه قال: «إنّي أشفع يوم القيامة فاشفّع، و يشفع عليّ فيشفّع، و يشفع أهل بيتي فيشفّعون، و إنّ أدنى المؤمنين شفاعة ليشفع في أربعين من إخوانه كلّ قد استوجب النار».

[سورة البقرة (2): الآيات 49 الى 52]

وَ إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (49) وَ إِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فَأَنْجَيْناكُمْ وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (50) وَ إِذْ واعَدْنا مُوسى أَرْبَعِينَ لَيْلَةً ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ (51) ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (52)

______________________________

(1) انظر التبيان 1: 214، الكشّاف 1: 136، مجمع البيان 1: 103، أنوار التنزيل 1: 152.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 145

ثمّ فصّل سبحانه النعم الّتي أجملها فيما قبل، فقال عطفا على «نعمتي»- عطف جبرئيل و ميكائيل على الملائكة-: وَ إِذْ نَجَّيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ أصل آل أهل، لأنّ تصغيره اهيل، فأبدل الهاء ألفا لقرب المخرج، و خصّ بالإضافة إلى اولي الخطر كالأنبياء و الملوك، فلا يقال: آل الإسكاف و الحجّام.

و «فرعون» لقب ملك العمالقة، ككسرى و قيصر لملكي الفرس و الروم.

و كانت العمالقة أولاد عمليق بن أدد بن ارم بن سام بن نوح. و لم يكن في الفراعنة أحد أشدّ غلظة و أقسى قلبا من فرعون موسى، و لعتوّهم اشتّق منه: تفرعن، إذا عتا و تجبّر. و كان فرعون موسى مصعب بن ريّان، و قيل: هو ابنه الوليد من بقايا عاد، و فرعون يوسف عليه السّلام ريّان، و كان بينهما أكثر من أربعمائة سنة.

و المعنى: و إذ خلّصناكم من قوم فرعون و أهل دينه يَسُومُونَكُمْ يبغونكم، من: سامه خسفا إذا أولاه ظلما. و

أصل السّوم الذهاب في طلب الشي ء، يقال: سام السّلعة إذا طلبها، ثمّ يعدّى بمفعولين سُوءَ الْعَذابِ أفظعه، فإنّه أقبح بالإضافة إلى سائره. و السوء مصدر: ساء يسوء. و نصبه على أنّه مفعول ل يَسُومُونَكُمْ و الجملة حال من الضمير المنصوب في نَجَّيْناكُمْ أو من آل فرعون، أو منهما جميعا، لأنّ فيها ضمير كلّ واحد منهما.

و قوله: يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ بيان ل «يسومونكم» و لذلك لم يعطف، أي: يستبقونهنّ و يدعونهنّ أحياء ليستعبدون و ينكحن على وجه الاسترقاق، و هذا أشدّ من الذبح. و إنّما فعلوا بهم ذلك لأنّ الكهنة أنذروا فرعون بأنّه يولد مولود و يكون على يده هلاكك، كما أنذر نمرود، فلم يغن عنهما بحفظهما، و كان ما شاء اللّه أن يكون.

و روي أنّ فرعون رأى في المنام كأنّ نارا أقبلت من بيت المقدس حتى اشتملت على بيوت مصر، فأحرقتها و أحرقت القبط و تركت بني إسرائيل، فهاله

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 146

ذلك، و دعا الكهنة و السحرة و القافة، فسألهم عن رؤياه، فقالوا: إنّه يولد في بني إسرائيل غلام يكون على يده هلاكك و زوال ملكك و تبديل دينك، فأمر فرعون بقتل كلّ غلام يولد في بني إسرائيل، و جمع القوابل من أهل مملكته، فقال لهنّ: لا يسقط على أيديكنّ غلام من بني إسرائيل إلّا قتل، و لا جارية إلّا تركت! و وكّل طائفة عليهنّ، فكنّ يفعلن ذلك. و أسرع الموت في مشيخة بني إسرائيل، فدخل رؤساء القبط على فرعون فقالوا: إنّ الموت قد وقع في بني إسرائيل، فتذبح صغارهم و يموت كبارهم، فيوشك أن يقع علينا الأعمال الشاقّة الّتي هم يصنعون لنا من البناء و الحراثة و غيرهما. فأمر فرعون

أن يذبحوا سنة و يتركوا سنة، فولد هارون في السنة الّتي لا يذبحون فيها فترك، و ولد موسى في السنة الّتي يذبحون فيها، على وجه يذكر في سورة القصص.

وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ محنة إن أشير ب «ذلكم» إلى صنيعهم، و نعمة إن أشير به إلى الإنجاء. و أصله الاختبار، لكن لمّا كان اختيار اللّه عباده تارة بالمحنة و تارة بالمنحة اطلق عليهما. و يجوز أن يكون إشارة إلى المجموع، و يراد به الامتحان الشائع بينهما مِنْ رَبِّكُمْ بتسليطهم عليكم، أو ببعث موسى و توفيقه لتخليصكم، أو بهما عَظِيمٌ صفة بلاء.

و في الآية تنبيه على أنّ ما يصيب العبد من خير أو شرّ اختبار من اللّه تعالى، فعليه أن يشكر على المسارّة و يصبر على المساءة ليكون من خير المختبرين.

ثم ذكر سبحانه نعمة اخرى عليهم فقال: وَ إِذْ فَرَقْنا بِكُمُ الْبَحْرَ فلقناه و فصلنا بين بعضه و بعض حتى حصلت فيه مسالك بسلوككم فيه، يعني: يتفرّق الماء عند سلوككم، فكأنّما فرّق بكم كما يفرّق بين الشيئين بما يوسّط بينهما، أو بسبب إنجائكم. و يجوز أن يكون في موضع الحال، بمعنى: فرقناه ملتبسا بكم.

و روي أنّه كان طرفا البحر أربعة فراسخ. فَأَنْجَيْناكُمْ وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ أراد

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 147

فرعون و قومه، و اقتصر على ذكرهم للعلم بأنّه كان أولى به وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ذلك جميعا، أو غرقهم، أو إطباق البحر عليهم، أو انفلاق البحر عن طرق يابسة مذلّلة، أو جثثهم الّتي قذفها البحر إلى السّاحل، أو ينظر بعضكم بعضا.

روي عن ابن عبّاس أنّه تعالى أمر موسى أن يسري ببني إسرائيل، فخرج بهم و هم كانوا ستّمائة ألف و عشرين ألفا، فصبّحهم فرعون في ألف ألف

حصان سوى الإناث، فصادفوهم على شاطئ البحر، فقال فرعون: إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ وَ إِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ «1»، فسرى موسى ببني إسرائيل حتى هجموا على البحر، فالتفتوا فإذا هم برهج «2» دوابّ فرعون، فقالوا: يا موسى أوذينا من قبل أن تأتينا و من بعد ما جئتنا، هذا البحر أمامنا و هذا فرعون قد رهقنا بمن معه.

فقال موسى عليه السّلام: عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ «3» الآية، فقال له يوشع بن نون: بم أمرت؟ قال: أمرت أن أضرب بعصاي البحر. قال:

اضرب، فضربه، فظهر به اثنا عشر طريقا يابسا، فسلكوها، فقالوا: يا موسى نخاف أن يغرق بعضنا و لا نعلم، ففتح اللّه فيها الروازن فتراءوا و تسامعوا حتى عبروا البحر.

ثمّ لمّا وصل إليه فرعون و رءاه منفلقا و كان على فرس حصان أدهم، فهاب دخول الماء، تمثّل له جبرئيل على فرس أنثى، و تقحّم البحر، فلمّا رآها الحصان تقحّم خلفها ثمّ تقحّم قوم فرعون، فالتطم عليهم و أغرقهم أجمعين.

و هذه الواقعة من أعظم ما أنعم اللّه به على بني إسرائيل، و من الآيات الملجئة

______________________________

(1) الشعراء: 54- 55.

(2) الرّهج: الغبار. (لسان العرب 2: 284)

(3) الأعراف: 129.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 148

إلى العلم بوجود الصانع الحكيم و تصديق موسى. ثمّ إنهم بعد رؤية هذه المعجزة الباهرة الظاهرة اتّخذوا العجل و قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً «1» فهم بمعزل من الفطنة و الذكاء و سلامة النفس و حسن الاتّباع عن امّة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلم، لأنّ ما تواتر من معجزاته امور نظريّة دقيقة تدركها الأذكياء.

و لمّا عاد بنو إسرائيل إلى مصر بعد هلاك فرعون وعد اللّه موسى أن يعطيه التوراة،

و ضرب له ميقاتا ذا القعدة و عشر ذي الحجّة، كما حكى اللّه سبحانه عن هذه الوعدة بقوله: «و إذ وعدنا «2» موسى أربعين ليلة» عبّر عن ذي القعدة و عشر ذي الحجّة بالليالي، لأنّها غرر الشهور، فإنّ العرب يبنون حسابهم على سير القمر و هو يطلع في الليل.

و قرأ ابن كثير و نافع و عاصم و ابن عامر و حمزة و الكسائي: «واعدنا» لأنّه تعالى وعده الوحي، و وعده موسى المجي ء للميقات إلى الطور، فخلّف موسى أصحابه و استخلف عليهم هارون، فمكث على الطور أربعين ليلة و أنزل عليه التوراة في الألواح.

ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ إلها أو معبودا مِنْ بَعْدِهِ من بعد موسى، أي:

مضيّه إلى الطور وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ بإشراككم الّذي حصل باتّخاذكم العجل إلها.

ثُمَّ عَفَوْنا عَنْكُمْ حين تبتم. و العفو محو الجريمة، من: عفا إذ ادرس مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي: الاتّخاذ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لكي تشكروا عفوه.

و تفصيل هذه القصّة سيجي ء إن شاء اللّه تعالى في مواضعه.

______________________________

(1) البقرة: 55.

(2) في المصحف الكريم: واعدنا، و يظهر أن المصنف يرجّح قراءة: وعدنا، سيما بملاحظة قوله: و قرأ ابن كثير ...

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 149

[سورة البقرة (2): الآيات 53 الى 59]

وَ إِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ الْفُرْقانَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (53) وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فَاقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (54) وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (55) ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (56) وَ ظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ وَ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ ما ظَلَمُونا

وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (57)

وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَ قُولُوا حِطَّةٌ نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (58) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (59)

ثمّ بيّن نعمة إعطاء التوراة عليهم، فقال: وَ إِذْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ الْفُرْقانَ يعني: التوراة الجامع بين كونه كتابا و حجّة تفرق بين الحقّ و الباطل، كقولك: رأيت الغيث و الليث، أي: الرجل الجامع بين الجود و الجراءة. و قيل: أراد بالفرقان معجزاته الفارقة بين المحقّ و المبطل في الدعوى، أو بين الكفر و الإيمان، من العصا و اليد و غيرهما من الآيات. و قيل: الشرع الفارق بين الحلال و الحرام، أو النصر

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 150

زبدة التفاسير ج 1 199

الّذي فرّق بينه و بين عدوّه، كقوله تعالى: يَوْمَ الْفُرْقانِ «1» يريد به يوم بدر.

لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ لكي تهتدوا بتدبّر الكتاب و التفكّر في الآيات، أو بما فيه من البشارة بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم و بيان صفته.

وَ إِذْ قالَ و اذكروا إذ قال: مُوسى لِقَوْمِهِ لعبدة العجل من قومه بعد رجوعه من الطور إليهم يا قَوْمِ إِنَّكُمْ ظَلَمْتُمْ أَنْفُسَكُمْ أضررتم بها بِاتِّخاذِكُمُ الْعِجْلَ إلها و معبودا فَتُوبُوا إِلى بارِئِكُمْ فاعزموا على التوبة و الرجوع إلى من خلقكم براء من التفاوت في الخلق و عدم التناسب، و مميّزا بعضكم عن بعض بصور و هيئات مختلفة. و أصل التركيب لخلوص الشي ء عن غيره، إمّا على سبيل الإنشاء كقوله: برأ اللّه آدم من الطين، أو التفصّي كقولهم: برى ء المريض من مرضه و المديون من دينه.

فَاقْتُلُوا

أَنْفُسَكُمْ بخعا «2» كما هو الظاهر، أو ليقتل بعضكم بعضا إتماما لتوبتكم. و قيل: أمر من لم يعبد العجل أن يقتلوا العبدة. و الفاء الاولى للتسبيب، لأنّ الظلم سبب التوبة، و الثانية للتعقيب لأنّ المعنى: فاعزموا على التوبة فبعد ذلك اقتلوا أنفسكم.

روي أنّ الرّجل كان يبصر ولده و قريبه فلم يمكنه إمضاء أمر اللّه للشفقة و المرحمة، فأرسل اللّه عليهم ضبابة و سحابة سوداء لا يتباصرون تحتها، فأخذوا يقتلون من الغداة إلى المساء، حتى دعا موسى و هارون و قالا: يا ربّ هلكت بنو إسرائيل البقية البقية، فكشفت الضبابة و نزلت التوبة، فسقطت الشفار من أيديهم، و كانت القتلى سبعين ألفا.

ذلِكُمْ إشارة إلى التوبة مع القتل: خَيْرٌ لَكُمْ عِنْدَ بارِئِكُمْ من إيثار الحياة

______________________________

(1) الأنفال: 41.

(2) بخع نفسه: قتلها غيظا أو غمّا. (لسان العرب 8: 5)

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 151

الفانية، من حيث إنّه طهرة من الشرك و وصلة إلى الحياة الأبديّة و البهجة السرمديّة.

و قوله: فَتابَ عَلَيْكُمْ متعلّق بمحذوف إن جعلته من كلام موسى عليه السّلام لهم، تقديره: إن فعلتم ما أمرتم به فقد تاب عليكم، أو عطف على محذوف إن جعلته خطابا من اللّه لهم على طريقة الالتفات، كأنّه قال: ففعلتم ما أمرتم به فتاب عليكم بارؤكم. و ذكر البارئ مكرّرا و ترتيب الأمر عليه إشعار بأنّهم بلغوا غاية الجهالة و الغباوة، حتى تركوا عبادة خالقهم الحكيم إلى عبادة البقرة الّتي هي مثل في الغباوة، و أن من لم يعرف حقّ منعمه حقيق بأن يستردّ منه، و لذلك أمروا بالقتل.

إِنَّهُ هُوَ التَّوَّابُ الّذي يكثر توفيق التوبة أو قبولها من المذنبين الرَّحِيمُ الّذي يبالغ في الإنعام عليهم.

وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ لأجل قولك،

أو لن نقرّ لك بأنّ الّذي أعطاك التوراة و كلّمك هو اللّه، أو بأنّك نبيّ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً عيانا. و هي في الأصل مصدر قولك: جهرت بالقراءة، استعيرت للمعاينة. و نصبها على المصدر، لأنّها نوع من الرؤية، أو الحال من الفاعل أو المفعول، أي: ذوي جهرة. قيل: إنّ القائلين هذا القول هم السبعون الّذين اختارهم موسى للميقات فصعقوا. و قيل:

عشرة آلاف من قومه.

فَأَخَذَتْكُمُ الصَّاعِقَةُ نار وقعت من السماء فأحرقتهم. و قيل: صيحة جاءت من السماء. و قيل: جنود سمعوا بحسيسها فخرّوا صعقين ميّتين يوما و ليلة، لفرط العناد و التعنّت و طلب المستحيل، فإنّهم ظنّوا أنّه تعالى يشبه الأجسام فطلبوا رؤيته.

وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ ما أصابكم.

ثُمَّ بَعَثْناكُمْ أحييناكم لاستكمال آجالكم مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ بسبب الصّاعقة. و قيّد البعث بما بعد الموت لأنّه قد يكون عن إغماء أو نوم، كقوله تعالى:

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 152

ثُمَّ بَعَثْناهُمْ «1» لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ نعمة البعث بعد الموت.

أجمع المفسّرون إلّا شرذمة يسيرة أنّ اللّه تعالى لم يكن أمات موسى عليه السّلام كما أمات قومه، و لكن غشي عليه بدليل قوله: فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ «2»، و الإفاقة إنّما تكون من الغشيان.

و في الآية دلالة على أنّ قول موسى عليه السّلام: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ «3» كان سؤالا لقومه، لأنّه لا خلاف بين أهل التوراة أنّ موسى عليه السّلام لم يسأل الرؤية إلّا دفعة واحدة، و هي الّتي سألها لقومه. و على أنّ الرجعة في الدنيا جائزة. و قول من قال:

إنّ الرجعة لا يجوز إلّا في زمن نبيّ ليكون معجزة له و دلالة على نبوّته، باطل، لأنّ عندنا بل عند أكثر الامّة يجوز إظهار المعجزات على أيدي الأئمّة و الأولياء

عليهم السّلام، و الأدلّة على ذلك مذكورة في كتب الكلام.

وَ ظَلَّلْنا عَلَيْكُمُ الْغَمامَ جعلنا فوقكم السحاب ظلّة تحفظكم من حرّ الشمس حين كنتم في التيه أربعين سنة.

وَ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى الترنجبين «4» و السّمانى «5». قيل: كان ينزل عليهم المنّ مثل الثلج من الصبح إلى الطلوع لكلّ إنسان صاع، و يبعث الجنوب تحشر عليهم السمانى، فيذبح الرجل ما يكفيه، و ينزل بالليل عمود نار يسيرون في

______________________________

(1) الكهف: 12.

(2) الأعراف: 143.

(3) الأعراف: 143.

(4) المنّ كالطّرنجبين، و في الحديث: الكمأة من المنّ. و قيل: المنّ طلّ ينزل من السماء.

و قيل: هو شبه العسل كان ينزل على بني إسرائيل. (لسان العرب 13: 418).

و في فرهنگ فارسى للدكتور محمد معين (1: 1072): ترنجبين معرّب ترنگبين، ترشحات و شيرابه هاى برگ و ساقه هاى گياه خارشتر كه از لحاظ شيميائي نوعي أز «منّ» مى باشد.

(5) السّمانى: طائر، واحدته سماناة. (لسان العرب 13: 220)

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 153

ضوئه، و كانت ثيابهم لا تتّسخ و لا تبلى.

و قلنا لهم: كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ أي: من الشهيّ اللذيذ الّذي أعطيناكم و جعلناه رزقا لكم وَ ما ظَلَمُونا و ما نقصونا بكفرهم أنعمنا. و فيه اختصار، تقديره: فظلموا بأن كفروا هذه النعم وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بالكفران، لأنّه لا يتخطّاهم ضرّه.

و مجمل هذه القصّة: أنّه لمّا ابتلاهم اللّه بالتّيه بسبب قولهم لموسى عليه السّلام:

فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ «1» حين أمرهم بالمسير إلى بيت المقدس و حرب العمالقة، بقوله: ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ «2» على تفصيل يجي ء في موضعه إن شاء اللّه، فوقعوا في التّيه، كلّما ساروا تاهوا في قدر خمسة فراسخ أو ستّة، فكلّما أصبحوا ساروا إلى المساء فإذا

هم في مكانهم الّذي ارتحلوا منه كذلك، حتى تمّت المدّة و هي أربعون سنة. و في التّيه توفّي موسى و هارون، ثم خرج يوشع بن نون إلى حرب العمالقة.

و

عن الصادق عليه السّلام كان ينزل المنّ على بني إسرائيل من بعد الفجر إلى طلوع الشمس، فمن نام في ذلك الوقت لم ينزل نصيبه، فلذلك يكره النوم في ذلك الوقت إلى طلوع الشمس.

وَ إِذْ قُلْنَا ادْخُلُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ يعني: بيت المقدس. و قيل: أريحا من قرى الشام، أمروا به بعد التّيه، و فيها كان بقايا من قوم عاد، و هم العمالقة و رأسهم عوج ابن عنق فَكُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ رَغَداً أكلا واسعا بطيب النفس. و نصبه على المصدر، أو الحال من الواو.

وَ ادْخُلُوا الْبابَ باب القرية الّتي أمروا بدخولها، أو القبّة الّتي كانوا يصلّون

______________________________

(1) المائدة: 24.

(2) المائدة: 21.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 154

إليها، فإنّهم لم يدخلوا بيت المقدس في حياة موسى. و قيل: هو باب حطّة، و هو الباب الثامن سُجَّداً منحنين خاضعين متواضعين، أو ساجدين للّه شكرا على إخراجهم من التّيه.

وَ قُولُوا حِطَّةٌ أي: مسألتنا أو أمرك حطّة. و هي فعلة من الحطّ، كالجلسة. و معناه: حطّ عنّا ذنوبنا حطّة. و هو أمر بالاستغفار. أو على أنّه مفعول «قولوا»، أي: قولوا هذه الكلمة.

و قيل: معناه أمرنا أن نحطّ في هذه القرية و نقيم بها. و عن عكرمة أنّهم أمروا أن يقولوا: لا إله إلّا اللّه، لأنّها تحطّ الذنوب. و

روي عن الباقر عليه السّلام أنّه قال: نحن باب حطّتكم.

نَغْفِرْ لَكُمْ خَطاياكُمْ نصفح و نعف عن ذنوبكم بسجودكم و دعائكم. و قرأ نافع بالياء، و ابن عامر بالتاء على البناء للمفعول.

و خطايا أصله خطايئ كخطائع. فعند سيبويه

أنّه أبدلت الياء الزائدة همزة لوقوعها بعد الألف، و اجتمعت همزتان، فأبدلت الثانية ياء ثم قلبت الياء ألفا، و كانت الهمزة بين ألفين، فأبدلت ياء. و عند الخليل قدّمت الهمزة على الياء ثم فعل بهما ما ذكر.

وَ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ ثوابا، أي: من كان محسنا منكم كانت تلك الكلمة سببا في زيادة ثوابه، و من كان مسيئا كانت له توبة و مغفرة. فجعل الامتثال توبة للمسي ء، و سبب زيادة الثواب للمحسن. و أخرجه في صورة الجواب إلى الوعد إيهاما بأنّ المحسنين بصدد ذلك و إن لم يفعلوه! فكيف إذا فعلوه! و أنّه يفعله لا محالة.

ثمّ بيّن سبحانه أنّهم قد عصوا فيما أمروا، فقال: فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ أي: بدّلوا بما أمروا به من التوبة و الاستغفار طلب ما يشتهون من أغراض الدنيا.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 155

قيل: إنّهم قالوا بالسريانيّة: حطّا سمقاثا، أو خيطا سمقاثا. و معناه: حنطة حمراء. و كان قصدهم في ذلك الاستهزاء و مخالفة الأمر. و خالفوا في دخول الباب أيضا، فإنّه طؤطى ء لهم الباب ليخفضوا رؤوسهم، فلم يخفضوها و دخلوا زاحفين على أستاههم.

فَأَنْزَلْنا عَلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا كرّره مبالغة في تقبيح أمرهم، و إشعارا بأنّ الإنزال عليهم لظلمهم، بوضع غير المأمور به موضعه قولا و فعلا، أو على أنفسهم، بأن تركوا ما يوجب نجاتها إلى ما يوجب هلاكها.

رِجْزاً أي: عذابا مقدّرا مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ بسبب فسقهم و الرّجز في الأصل ما يكره عنه. و كذلك الرّجس. و المراد به الطاعون.

روي عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: أنّه مات به في ساعة واحدة أربعة و عشرون ألفا من كبرائهم و شيوخهم،

و قيل: سبعون ألفا، و بقي الأبناء

فانتقل عنهم العلم و العبادة. و كأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم يشير إلى أنّهم عوقبوا بإخراج الأفاضل من بينهم.

[سورة البقرة (2): آية 60]

وَ إِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كُلُوا وَ اشْرَبُوا مِنْ رِزْقِ اللَّهِ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (60)

ثمّ عدّ سبحانه على بني إسرائيل نعمة أخرى مضافة إلى النعمة الأولى، فقال: وَ إِذِ اسْتَسْقى مُوسى لِقَوْمِهِ أي: طلب و سأل موسى ربّه أن يسقي قومه ماء لمّا عطشوا في التّيه فَقُلْنَا اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ اللام فيه للعهد، على ما روي أنّه كان حجرا طوريّا مربّعا حمله موسى معه، و كانت تنبع من كلّ وجهه ثلاث أعين، تسيل كلّ عين في جدول إلى سبط، و كانوا اثني عشر نقيبا، و جنودهم كانوا ستّمائة ألف، وسعة المعسكر اثنا عشر ميلا.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 156

أو حجرا أهبطه آدم من الجنّة، و وقع إلى شعيب، فأعطاه مع العصا.

أو الحجر الّذي فرّ بثوبه لمّا وضعه عليه ليغتسل، و برّأه اللّه به عمّا رموه من الأدرة «1»، فأشار إليه جبرئيل بحمله.

أو للجنس. و هذا أظهر في الحجّة. كما قيل: إنّه لم يأمره أن يضرب حجرا بعينه، و لكن لمّا قالوا: كيف بنا لو أفضينا إلى أرض لا حجارة بها؟

حمل حجرا في مخلاته «2»، و كان يضربه بعصاه إذا نزل فينفجر، و يسقي كلّ يوم ستّمائة ألف مع دوابّهم، و يضربه بها إذا ارتحل فييبس. فقالوا: إن فقد موسى عصاه متنا عطشا، فأوحى اللّه إليه: لا تقرع الحجارة و كلّمها تطعك، لعلّهم يعتبرون.

و قيل: كان الحجر من رخام، و كان ذراعا في ذراع. و قيل: مثل رأس

الإنسان. و قيل: كان من آس الجنّة. و العصا عشرة أذرع على طول موسى من آس الجنّة، و له شعبتان تتّقدان في الظلمة نورا، و به ضرب البحر فانفلق، و هو الّذي صار ثعبانا.

و قوله: فَانْفَجَرَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً متعلّق بمحذوف، تقديره: فإن ضربت فقد انفجرت منه، أو فضرب فانفجرت، كما مرّ «3» في قوله: فَتابَ عَلَيْكُمْ

قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ كلّ سبط عينهم الّتي يشربون منها، فقلنا لهم:

كُلُوا المنّ و السلوى وَ اشْرَبُوا هذا الماء العذب مِنْ رِزْقِ اللَّهِ يريد: هذا المطعم و المشرب وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ لا تعتدوا فيها مُفْسِدِينَ حال إفسادكم. و إنّما قيّد العثيّ به لأنّه- و إن غلّب على الفساد- قد يكون منه ما ليس بفساد، كمقابلة الظالم المعتدي بفعله، و منه ما يتضمّن صلاحا راجحا، كقتل الخضر

______________________________

(1) الادرة، بالضمّ: نفخة في الخصية. (لسان العرب 4: 15)

(2) المخلاة: ما يجعل فيه العلف و يعلّق في عنق الدابّة. (المنجد: 195)

(3) في ص: 51.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 157

الغلام و خرقه السفينة.

و متى قيل: كيف كان يجتمع ذلك الماء الكثير في ذلك الحجر الصغير؟

قلنا: إنّ ذلك من آيات اللّه الباهرة و الأعاجيب الظاهرة، الدالّة على أنّها من فعل اللّه تعالى، المنشئ للأشياء، القادر على ما يشاء، فلا بدع من كمال قدرته و جلال عزّته أن يبدع خلق المياه الكثيرة ابتداء، معجزة لموسى، و نعمة عليه و على قومه. و من استبعد ذلك من الملاحدة الّذين لم يقدروا اللّه حقّ قدره، فالكلام. عليهم إنّما يكون في وجود الصّانع و إثبات صفاته و اتّساع مقدوراته، و لا معنى للتشاغل بالكلام معهم في الفرع مع الخلاف في الأصل.

و قال في أنوار التنزيل

في هذا الموضع: «و من أنكر أمثال هذه المعجزات فلغاية جهله باللّه، و قلّة تدبّره في عجائب صنعه، فإنّه لمّا أمكن أن يكون من الأحجار ما يحلق الشعر و ينفر عن الخلّ و يجذب الحديد، لم يمتنع أن يخلق اللّه حجرا يسخّره لجذب الماء من تحت الأرض، أو لجذب الهواء من الجوانب، و يصيّره ماء بقوّة التبريد، و نحو ذلك» «1».

[سورة البقرة (2): آية 61]

وَ إِذْ قُلْتُمْ يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ عَلى طَعامٍ واحِدٍ فَادْعُ لَنا رَبَّكَ يُخْرِجْ لَنا مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ مِنْ بَقْلِها وَ قِثَّائِها وَ فُومِها وَ عَدَسِها وَ بَصَلِها قالَ أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ اهْبِطُوا مِصْراً فَإِنَّ لَكُمْ ما سَأَلْتُمْ وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَ الْمَسْكَنَةُ وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ الْحَقِّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ (61)

______________________________

(1) أنوار التنزيل 1: 156.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 158

و لمّا عدّد سبحانه فيما قبل ما أعطاه عليهم من النعم و الإحسان، ذكر ما قابلوا به تلك النعم من الكفران، و سوء الاختيار لنفوسهم بالعصيان، فقال: وَ إِذْ قُلْتُمْ أي: قال أسلافكم من بني إسرائيل: يا مُوسى لَنْ نَصْبِرَ لا نطيق حبس أنفسنا عَلى طَعامٍ واحِدٍ يريد به ما رزقوا في التّيه من المنّ و السّلوى، و بوحدته أنّه لا يختلف و لا يتبدّل، كقولهم: طعام مائدة الأمير واحد و لو كان على مائدته ألوانا، و فلان لا يأكل إلا طعاما واحدا، يريدون أنّه لا يتغيّر ألوانه، و لذلك ملّوا و سئموا، أو نوعا واحدا، لأنّهما معا طعام أهل التلذّذ، و هم كانوا فلّاحة، فاشتاقوا إلى أصلهم، و اشتهوا على ما ألفوه.

فَادْعُ لَنا رَبَّكَ

سله لنا بدعائك إيّاه يُخْرِجْ لَنا يظهر لنا و يوجد. و جزمه بأنّه جواب فَادْعُ فإنّ دعوته سبب الإجابة مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ من الإسناد المجازي و إقامة القابل مقام الفاعل، و «من» للتبعيض.

و قوله: مِنْ بَقْلِها وَ قِثَّائِها وَ فُومِها وَ عَدَسِها وَ بَصَلِها تفسير و بيان وقع موقع الحال. و قيل: بدل بإعادة الجارّ.

و البقل ما أنبتته الأرض من الخضر. و المراد به أطائبه الّتي يأكلها الناس، كالنعناع و الكرفس و الكرّات. و الفوم: الحنطة. و يقال للخبز، و منه: فوّموا لنا، أي:

اخبزوا لنا. و قيل: الثوم.

قالَ أي: اللّه أو موسى أَ تَسْتَبْدِلُونَ الَّذِي هُوَ أَدْنى أقرب منزلة و أدون قدرا. و أصل الدنوّ القرب في المكان، فاستعير للخسّة، كما استعير البعد للشرف و الرفعة، فقيل: بعيد المحلّ بعيد الهمّة، يريدون الرفعة و العلوّ. بِالَّذِي هُوَ خَيْرٌ يريد به المنّ و السّلوى، فإنّه خير في اللذة و النفع و عدم الحاجة إلى السعي.

اهْبِطُوا مِصْراً انحدروا من التّيه إلى مصر من الأمصار. يقال: هبط الوادي إذا نزل به، و هبط منه إذا خرج منه.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 159

و المصر البلد العظيم. و أصله الحاجز بين الشيئين. و قيل: أراد به العلم، و صرفه لسكون وسطه، كنوح و لوط، و فيهما العجمة و التعريف، أو على تأويل البلد، فما فيه إلا سبب واحد.

فَإِنَّ لَكُمْ في مصر ما سَأَلْتُمْ من نبات الأرض. و قد تمّ الكلام هاهنا.

ثمّ استأنف حكم الّذين اعتدوا في السبت، و الّذين قتلوا الأنبياء، فقال:

وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَ الْمَسْكَنَةُ أحيطت بهم إحاطة القبّة بمن ضربت عليه، أو ألصقت بهم من ضرب الطين على الحائط و المسمار على الخشب، أي: ألزموا الذلّة إلزاما لا

تبرح بينهم، كما يضرب المسمار على الشي ء، مجازاة لهم على كفران النعمة. و اليهود في غالب الأمر أذلّاء و مساكين، إمّا على الحقيقة، أو على التكلّف مخافة أن تضاعف جزيتهم.

وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ رجعوا به، أو صاروا أحقّاء بغضبه، من: باء فلان بفلان إذا كان حقيقا بأن يقتل به، لمساواته له. و أصل البوء المساواة.

ذلِكَ إشارة إلى ما سبق من ضرب الذلّة و المسكنة و البوء بالغضب بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بسبب كفرهم بِآياتِ اللَّهِ بالمعجزات الّتي من جملتها ما عدّ عليهم من فلق البحر و إظلال الغمام، و إنزال المنّ و السلوى، و انفجار العيون من الحجر، أو بالكتب المنزلة كالإنجيل و القرآن، و آية الرجم، و الآية الّتي فيها نعت محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلم من التوراة.

وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ أي: و بأنّهم يقتلون الأنبياء، فإنّهم قتلوا شعيا و زكريّا و يحيى و غيرهم بِغَيْرِ الْحَقِ بغير جرم عندهم، إذ لم يروا منهم ما يعتقدون به جواز قتلهم، و إنّما حملهم على ذلك اتّباع الهوى و حبّ الدنيا.

ذلِكَ إشارة إلى ما تقدّم من الكفر و القتل بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ بسبب عصيانهم و اعتدائهم حدود اللّه في كلّ شي ء، فإنّ العصيان و الاعتداء سبب

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 160

القسوة الّتي هي سبب الكفر و القتل. فجرّهم العصيان و التمادي و الاعتداء فيه إلى الكفر بالآيات و قتل النّبيّين، و لهذا صغار الذنوب سبب يؤدّي إلى ارتكاب كبارها، كما أنّ صغار الطاعات أسباب مؤدّية إلى تحرّي كبارها.

و قيل: «ذلك» إشارة أيضا إلى ضرب الجزية و الذلّة و البوء بالغضب، فكرّر الإشارة للدلالة على أنّ ما لحقهم من ضرب الذلّة و المسكنة

و البوء بالغضب كما هو بسبب الكفر و القتل، كان أيضا بسبب ارتكابهم المعاصي و اعتدائهم حدود اللّه.

و اعلم أنّ التخلية بين الكفّار و قتل الأنبياء إنّما جاز لينال الأنبياء من رفع المنازل و الدرجات ما لا ينالونه بغير القتل، فليس ذلك بخذلان، كما أنّ التخلية بين المؤمنين و الأولياء و المطيعين و بين قاتليهم ليست بخذلان لهم.

[سورة البقرة (2): آية 62]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ النَّصارى وَ الصَّابِئِينَ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (62)

و بعد ذكر حال أهل الكفر و العناد بشّر أهل الإيمان الحقيقي بالفوز الأبدي و الفلاح السرمدي يوم المعاد بقوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا أي: أظهروا الإيمان بألسنتهم من غير مواطاة القلوب، يريد به المنافقين، لانخراطهم في سلك الكفرة.

وَ الَّذِينَ هادُوا تهوّدوا. يقال: هاد و تهوّد إذا دخل في اليهوديّة، و هو هائد.

و يهود إمّا عربيّ من «هاد» إذا تاب، سمّوا بذلك لمّا تابوا من عبادة العجل. و أصله الميل، كقوله تعالى: إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ أي: ملنا. و يقال لمن تاب: هاد، لأنّ من تاب عن شي ء مال عنه. و قيل: سمّوا بذلك لأنّهم مالوا عن دين الإسلام. و إمّا معرّب

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 161

يهوذا، فكأنّهم سمّوا باسم أكبر أولاد يعقوب عليه السّلام. و الجمع هود.

وَ النَّصارى جمع نصران كالندامى. و الياء في نصراني للمبالغة، كما في أحمري. سمّوا بذلك لأنّهم نصروا المسيح، أو لأنّهم كانوا معه في قرية يقال لها:

نصران أو ناصرة، فسمّوا باسمها أو من اسمها.

وَ الصَّابِئِينَ قوم بين النصارى و المجوس. قيل: أصل دينهم دين نوح عليه السّلام. و قيل: هم عبدة الملائكة.

و قيل: عبدة الكواكب. و هو إن كان عربيّا فمن «صبأ» إذا خرج. و قرأ نافع وحده «الصابين» بالياء، إمّا لأنّه حذف الهمزة تخفيفا، أو لأنّه من «صبا» إذا مال، لأنّهم مالوا من دين اليهوديّة و النصرانيّة إلى عبادة الملائكة أو الكواكب، أو من الحقّ إلى الباطل.

مَنْ آمَنَ من هؤلاء الكفرة بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ إيمانا خالصا عن صميم القلب بالمبدأ و المعاد، و دخل الإسلام دخولا صادقا وَ عَمِلَ صالِحاً أي: و عمل عملا صالحا بمقتضى شرع الإسلام فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ الّذي و عد لهم على إيمانهم و عملهم وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ حين يخاف الكفّار من العقاب وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ حين يحزن المقصّرون على تضييع العمر و تفويت الثواب.

و اعلم أن «من» مبتدأ خبره فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ و الجملة خبر «إنّ» أو بدل من اسم «إنّ» و خبرها «فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ»، و الفاء لتضمّن المسند إليه معنى الشرط. و ردّ منع سيبويه دخولها في خبر إنّ من حيث إنّها لا تدخل الشرطيّة و قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ «1».

و الآية دالّة على أنّ الإيمان إنّما هو التصديق و الاعتقاد بالقلب، لأنّه تعالى عطف على «من آمن» قوله: وَ عَمِلَ صالِحاً. و من حمل ذلك على التأكيد أو الفضل فقد ترك الظاهر.

______________________________

(1) البروج: 10.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 162

[سورة البقرة (2): الآيات 63 الى 66]

وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (63) ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (64) وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ فِي السَّبْتِ فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً

خاسِئِينَ (65) فَجَعَلْناها نَكالاً لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (66)

ثمّ عاد سبحانه إلى خطاب بني إسرائيل فقال: وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ أي:

عهدكم باتّباع موسى و العمل بالتوراة وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ حتى قبلتم الميثاق، و ذلك أنّ موسى عليه السّلام لمّا جاءهم بالتوراة فرأوا ما فيها من التكاليف الشاقّة كبرت عليهم و أبوا قبولها، فأمر جبرئيل فقلع الطور فظلّله فوقهم حتى قبلوا. و قال موسى إن قبلتم ما آتيتكم به، و إلّا أرسل الجبل عليكم، فأخذوا التوراة و سجدوا للّه ملاحظين إلى الجبل خوف الوقوع عليهم، فمن ثمّ يسجد اليهود على أحد شقّي وجوههم.

و قلنا لكم بعد رفع الطور فوقكم: خُذُوا ما آتَيْناكُمْ من كتاب التوراة بِقُوَّةٍ بجدّ و صميم عزيمة وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ ادرسوه و لا تنسوه، أو تفكّروا فيه، فإنّ التفكّر ذكر بالقلب، أو اعملوا به لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ لكي تتّقوا المعاصي، أو رجاء منكم أن تكونوا متّقين. و يجوز أن يتعلّق بالقول المحذوف، أي: قلنا خذوا و اذكروا إرادة أن تتّقوا، فإنّ إرادة اللّه على أفعال العباد غير موجبة لها، بل إرادته على أفعال يوجب صدورها.

ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم عن الوفاء بالميثاق مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي: بعد أخذه

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 163

فَلَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ بتوفيقكم للتوبة، أو بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلم، يدعوكم إلى الحقّ و يهديكم إليه لَكُنْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ المغبونين بالانهماك في المعاصي، أو بالخبط و الضلال في فترة من الرسل.

و «لو» في الأصل لامتناع الشي ء لامتناع غيره، فإذا دخل على «لا» أفاد إثباتا، و هو امتناع الشي ء لثبوت غيره. و الاسم الواقع بعده عند سيبويه مبتدأ، خبره واجب

الحذف بدلالة الكلام عليه، و سدّ الجواب مسدّه، و عند الكوفيّين فاعل فعل محذوف.

وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ الَّذِينَ اعْتَدَوْا مِنْكُمْ عرفتم الّذين جاوزوا ما حدّ لهم فِي السَّبْتِ من تعظيمه، و اشتغلوا بالصيد. اللام موطّئة للقسم. و السبت مصدر «سبتت اليهود» إذا عظّمت يوم السبت. و أصله القطع. أمروا بأن يتجرّدوا فيه للعبادة، و لا يرتكبوا فيه بغيرها، فاعتدى فيه ناس منهم في زمان داود عليه السّلام، و اشتغلوا فيه بالصيد.

روي أنّهم كانوا يسكنون قرية على الساحل يقال لها: أيلة، و إذا كان يوم السبت لم يبق حوت في البحر إلا حضر هناك و أخرج خرطومه، فإذا مضى تفرّقت، فحفروا حياضا و شقّوا إليها الجداول، و كانت الحيتان تدخلها يوم السّبت، فيحبسونها و يصطادونها يوم الأحد، فذلك الحبس هو اعتداؤهم.

فَقُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ أي: كونوا جامعين بين صورة القردة و الخسوء، و هو الصّغار و الطّرد. و قوله: كُونُوا قِرَدَةً ليس بأمر، إذ لا قدرة لهم عليه، و إنّما المراد سرعة التكوين، و أنّهم صاروا كذلك كما أراد بهم.

عن ابن عبّاس: مسخهم اللّه تعالى عقوبة لهم، و كانوا يتعاوون، و بقوا ثلاثة أيّام لم يأكلوا و لم يشربوا و لم يتناسلوا، ثمّ أهلكهم اللّه، و جاءت ريح فهبّت بهم و ألقتهم في الماء، و ما مسخ اللّه تعالى أمّة إلا أهلكها. و بإجماع الأمّة هذه القردة

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 164

و الخنازير ليست من نسل أولئك، و لكن مسخ أولئك على صورة هؤلاء.

فَجَعَلْناها أي: بالمسخة أو العقوبة نَكالًا عبرة تنكّل المعتبر بها، أي:

تمنعه، و منه النكل للقيد لِما بَيْنَ يَدَيْها وَ ما خَلْفَها لما قبلها و ما بعدها من الأمم، إذ ذكرت حالهم في زبر الأوّلين،

و اشتهرت قصّتهم في الآخرين، أو لمعاصريهم و من بعدهم، أو لما بحضرتها من القرى و ما تباعد عنها، أو لأهل تلك القرية و ما حولها، أو لأجل ما تقدّمها من ذنوبهم و ما تأخّر منها وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ من قومهم، أو لكلّ متّق سمعها.

[سورة البقرة (2): الآيات 67 الى 71]

وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً قالُوا أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (67) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ وَ لا بِكْرٌ عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ (68) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها تَسُرُّ النَّاظِرِينَ (69) قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا وَ إِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ (70) قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَ لا تَسْقِي الْحَرْثَ مُسَلَّمَةٌ لا شِيَةَ فِيها قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِّ فَذَبَحُوها وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ (71)

روي أنّه كان في بني إسرائيل شيخ موسر قتل ابنه بنو أخيه ليرثوه، فطرحوه على طريق سبط من أسباط بني إسرائيل، ثم جاؤا يطالبون بدمه، فأمرهم اللّه أن

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 165

يذبحوا بقرة و يضربوه ببعضها ليحيى فيخبرهم بقاتله، كما أخبر اللّه سبحانه بذلك و قال:

وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تَذْبَحُوا بَقَرَةً أوّل هذه القصّة قوله تعالى: وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها «1»، و إنّما قدّمت عليه لاستقلال ما فيها بنوع من مساويهم، و هو الاستهزاء بالأمر، و الاستقصاء في السّؤال بترك المسارعة إلى الامتثال.

و الحاصل: أنّ كلّ واحدة من هاتين القصّتين

مستقلّة بنوع من التقريع، و إن كانتا متّصلتين متّحدتين. فالأولى: لتقريعهم على الاستهزاء، و ترك المسارعة إلى الامتثال، و ما يتبع ذلك. و الثانية: للتقريع على قتل النفس المحرّمة، و ما يتبعه من الآية العظيمة. فلو عمل على عكسه لكانت قصّة واحدة، و لذهب الغرض في تثنية التقريع.

قالُوا في جواب موسى أَ تَتَّخِذُنا هُزُواً أ تجعلنا مكان هزؤ، أو أهله، أو مهزوء بنا، أو الهزء نفسه، لفرط الاستهزاء، استبعادا لما قاله و استخفافا به. و إنّما احتاج الكلام إلى هذا التأويل لأنّ مفعولي «اتخذ» في الأصل مبتدأ أو خبر، و الاتّحاد بينهما واجب.

و قرأ حمزة عن نافع بالسكون، و حفص عن عاصم بالضّمّ و قلب الهمزة واوا، مثل كفؤا و كفوا.

قالَ أَعُوذُ بِاللَّهِ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ لأنّ الهزؤ في مثل ذلك جهل و سفه، نفى عن نفسه ما رمي به على طريقة البرهان، و أخرج ذلك في صورة الاستعاذة استفظاعا له.

قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ المراد ما حالها و صفتها؟ لا حقيقتها.

______________________________

(1) البقرة: 72.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 166

فكان حقّه أن يقولوا: أيّ بقرة هي؟ أو كيف هي؟ لا أن يسألوا عن حقيقة البقرة كما هو مدلول ما هِيَ فإنّ ما يسأل به الجنس غالبا. لكنّهم لمّا رأوا ما أمروا به على حال عجيبة الشأن، لم يوجد بها شي ء من جنسه، و هي أن تكون بقرة ميّتة يضرب ببعضها ميّت فيحيى، فأجروا ما أمروا به مجرى ما لم يعرفوا حقيقته و لم يروا مثله.

قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا فارِضٌ لا مسنّة، يقال: فرضت البقرة فروضا من الفرض و هو القطع، كأنّها فرضت سنّها و بلغت إلى نهاية الأجل وَ لا بِكْرٌ

و لا فتيّة. و تركيب البكر للأوّليّة، و منه البكرة و الباكورة. و تذكيرهما لأنّه اسم لا صفة.

عَوانٌ نصف و وسط بَيْنَ ذلِكَ إنّما يشار به إلى مؤنّثين، و إنّما هو للإشارة إلى واحد مذكّر، لأنّه على تأويل ما ذكر من الفارض و البكر، للاختصار في الكلام، و لذلك أضيف إليه «بين» فإنّه لا يضاف إلا إلى متعدّد. و قد يجرى الضمير مجرى اسم الإشارة، لادّعاء تعيينه و كمال وضوحه بحيث كأنّه مرئيّ و منظور.

و عود هذه الكنايات و إجراء تلك الصّفات على بقرة يدلّ على أنّ المراد بها معيّنة، و يلزم منه جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب إلى وقت الحاجة. و من أنكر ذلك زعم أنّ المراد بها بقرة من شقّ البقر غير مخصوصة، ثمّ انقلبت مخصوصة بسؤالهم. و يلزمه النسخ قبل الفعل، فإنّ التخصيص إبطال للتخيير الثابت بالنصّ.

و الحقّ جوازهما. و يؤيّد الرأي الثاني ظاهر اللفظ.

و

المرويّ عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: لو ذبحوا أدنى بقرة لأجزأتهم، و لكن شدّدوا على أنفسهم فشدّد اللّه عليهم. و الاستقصاء شؤم.

و أيضا يدلّ على القول الثاني تقريعهم بالتمادي و زجرهم عن المراجعة بقوله: فَافْعَلُوا ما تُؤْمَرُونَ أي: ما تؤمرونه، بمعنى ما تؤمرون به، من قوله:

أمرتك الخير فافعل ما أمرت به فقد تركتك ذا مال و ذا نسب «1»

______________________________

(1) لعمرو بن معدي كرب، و قيل: لأعشى طرود، راجع الكامل للمبرّد 1: 28، المؤتلف

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 167

أو أمركم بمعنى مأموركم، تسمية للمفعول بالمصدر، كضرب الأمير.

قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما لَوْنُها قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ صَفْراءُ فاقِعٌ لَوْنُها الفقوع خلوص الصّفرة بحيث لا يشوبها شي ء من لون آخر، و لذلك تؤكّد

به فيقال:

أصفر فاقع، كما يقال: أسود حالك، و أبيض يقق، و أحمر قانئ، و أخضر ناضر و مدهامّ. و في إسناده إلى اللون و هو صفة صفراء لملابسته بها فضل تأكيد، كأنّه قيل: صفراء شديدة الصفرة صفرتها، فهو من قولك: جدّ جدّه، و جنونك مجنون.

عن وهب: إذا نظرت إليها خيّل إليك أنّ شعاع الشمس يخرج من جلدها.

عن عليّ صلوات اللّه عليه: من لبس نعلا صفراء قلّ همّه، لقوله تعالى: تَسُرُّ النَّاظِرِينَ أي: تعجبهم و تفرّحهم، لحسن لونها. و السرور أصله لذّة في القلب عند حصول نفع أو توقّعه، مشتقّ من السّرّ. و كذا

عن الصادق عليه السّلام: من لبس نعلا صفراء لم يزل مسرورا حتى يبليها، ثم تلا هذه الآية.

و قوله: قالُوا ادْعُ لَنا رَبَّكَ يُبَيِّنْ لَنا ما هِيَ تكرير للسؤال الأوّل، و استكشاف زائد عن الأوّل، و قوله تعالى: إِنَّ الْبَقَرَ تَشابَهَ عَلَيْنا اعتذار عن تكرير السؤال، أي: إنّ البقر الموصوف بالتعوين و الصفرة الفاقعة كثير، فاشتبه علينا، فأيّ فرد منه نذبح؟! وَ إِنَّا إِنْ شاءَ اللَّهُ لَمُهْتَدُونَ إلى المراد ذبحها، أو إلى القاتل.

و اعلم أنّ المراد من كلمة الاستثناء هاهنا التيمّن و التبرّك، و إظهار فرط رغبتهم في الاهتداء، كما هو واقع في المحاورات و المقاصد بين الناس. و يؤيّده ما في الحديث: لو لم يستثنوا لما بيّنت لهم آخر الأبد، أي: لو لم يقولوا: إن شاء اللّه، و إلا لم يكن للشرط بعد الأمر معنى، لأنّ الأمر مفيد لإيقاع الفعل قطعا، و مستلزم للإرادة كما هو مذهبنا، و كلمة «إن» للتردّد بين الإيقاع و عدمه. و حينئذ لا يكون

______________________________

و المختلف: 17، شرح شواهد المغني 2: 727 رقم 512.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 168

حجّة

للأشاعرة، على أنّ الحوادث كلّها بإرادة اللّه تعالى، و أنّ الأمر قد ينفكّ عن الإرادة، بأن أمر كلّ المكلّفين بالإيمان و الطاعة، و أراد من بعضهم الإيمان دون بعض، فيوجد ما أراد.

قالَ إِنَّهُ يَقُولُ إِنَّها بَقَرَةٌ لا ذَلُولٌ تُثِيرُ الْأَرْضَ وَ لا تَسْقِي الْحَرْثَ أي: لم تذلّل للكراب الّذي هو شقّ الأرض لأجل حرث البذر، و لا لسقي الحروث. و «لا ذلول» صفة لبقرة، بمعنى غير ذلول. و «لا» الثانية مزيدة لتأكيد الأوّل. و الفعلان صفتا ذلول، كأنّه قيل: لا ذلول مثيرة و ساقية.

مُسَلَّمَةٌ سلّمها اللّه تعالى من العيوب، أو سلّم أهلها من العمل، أو أخلص لونها، من: سلم كذا إذا خلص له.

لا شِيَةَ فِيها لا لون فيها يخالف جلدها. و هي في الأصل مصدر: و شاه وشيا و شية، إذا خلط بلونه لونا آخر، و منه ثور موشى القوائم، أي: هي صفراء كلّها حتى قرنها و ظلفها.

قالُوا الْآنَ جِئْتَ بِالْحَقِ أي: بحقيقة وصف البقرة، و حقّقتها لنا بالأوصاف المبيّنة الموضحة، بحيث ارتفع التشابه، فحصّلوا البقرة الجامعة لهذه الأوصاف كلّها.

و قوله: فَذَبَحُوها وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ استثقال لاستقصائهم و استبطائهم، و أنّهم لتطويلهم المفرط و كثرة استكشافهم كادت تنتهي سؤالاتهم، و ما كاد ينقطع خيط إسهابهم فيها و تعمّقهم ليذبحوا البقرة، أو لخوف الفضيحة في ظهور القاتل، أو لغلاء ثمنها، إذ روي أنّ شيخا صالحا منهم كان له عجلة، فأتى بها الغيضة «1» و قال:

اللّهمّ إنّي أستودعكها لابني حتى يكبر، فشبّت و كانت وحيدة بتلك الصفات، فساوموها اليتيم و أمّه حتى اشتروها بمل ء مسكها ذهبا، و كانت البقرة في ذلك الوقت بثلاثة دنانير، و كانوا طلبوا البقرة الموصوفة أربعين سنة.

______________________________

(1) الغيضة: الأجمة، و هي مغيض

ماء يجتمع فينبت فيه الشجر. (لسان العرب 7: 202)

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 169

و اعلم أنّ «كاد» من أفعال المقاربة، وضع لدنوّ الخبر حصولا، فإذا دخل عليه النفي قيل: معناه الإثبات مطلقا، و قيل: ماضيا، و الصحيح أنّه كسائر الأفعال.

و لا ينافي قوله: وَ ما كادُوا يَفْعَلُونَ قوله: فَذَبَحُوها لاختلاف وقتيهما، إذ المعنى: أنّهم ما قاربوا أن يفعلوا حتى انتهت سؤالاتهم، و انقطعت تعلّلاتهم، ففعلوا كالمضطرّ الملجأ إلى الفعل.

[سورة البقرة (2): الآيات 72 الى 73]

وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً فَادَّارَأْتُمْ فِيها وَ اللَّهُ مُخْرِجٌ ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ (72) فَقُلْنا اضْرِبُوهُ بِبَعْضِها كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (73)

ثمّ بيّن سبحانه المقصود من الأمر بالذبح، فبدأ بذكر القتل فقال: وَ إِذْ قَتَلْتُمْ نَفْساً خطاب الجمع لوجود القتل فيهم فَادَّارَأْتُمْ فِيها أي: اختصمتم في شأنها، إذ المتخاصمان يدرأ- أي يدفع- بعضهم بعضا، أو تدافعتم، بأن طرح كلّ قتلها عن نفسه إلى صاحبه، من الدّرء بمعنى المنع و الدفع. و أصله تدارأتم، فأدغمت التاء في الدّال، و اجتلبت لها همزة الوصل، لتعذّر الابتداء بالساكن.

وَ اللَّهُ مُخْرِجٌ مظهر لا محالة ما كُنْتُمْ تَكْتُمُونَ من أمر القتل، و لا يتركه مكنونا مخفيّا. و أعمل «مخرج» لأنّه حكاية مستقبل، كما أعمل باسِطٌ ذِراعَيْهِ «1» لأنّه حكاية حال ماضية.

و هذه جملة اعتراضيّة بين المعطوف و المعطوف عليه، و هما: قوله: ادّارأتم، و قوله: فَقُلْنا اضْرِبُوهُ و الضمير إمّا للنفس، و التذكير على تأويل الشخص، أو القتيل، أي: اضربوا هذا الشخص أو هذا المقتول بِبَعْضِها أيّ بعض كان. و قيل:

______________________________

(1) الكهف: 18.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 170

بأصغريها، أي: اللسان و القلب. و قيل: بلسانها. و قيل: بفخذها اليمنى. و قيل:

بالعظم الّذي يلي الغضروف، و هو أصل الأذن. و

قيل: بالأذن. و قيل: بالبضعة بين الكتفين. و قيل: بالعجب، و هو أصل الذّنب من الدابّة ما ضمّت عليه الورك.

روي أنّهم لمّا ضربوه قام بإذن اللّه و أوداجه تشخب دما و قال: يا نبيّ اللّه قتلني فلان و فلان ابنا عمّي، ثم سقط ميّتا، فأخذا و قتلا، و لم يورّث قاتل بعد ذلك.

و قوله: كَذلِكَ يُحْيِ اللَّهُ الْمَوْتى يدلّ على ما حذف، و هو: فضربوه فحيي و الخطاب مع من حضر حياة القتيل، أو من حضر نزول الآية.

وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ دلائله على كمال قدرته لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ لكي يكمل عقلكم، و تعلموا أنّ من قدر على إحياء نفس قدر على إحياء الأنفس كلّها، لعدم وجه الاختصاص حتى تنكروا البعث، أو لكي تعملوا على قضيّة العقل.

و لعلّه سبحانه إنّما لم يحيه أوّلا و شرط فيه ما شرط لما فيه من التقرّب، و أداء الواجب، و نفع اليتيم، و التنبيه على بركة التوكّل، و الشفقة على الأولاد، و التعوّذ من الهزؤ، و تجهيل الهازى ء بما لا يعلم كنهه، و أنّ من حقّ الطّالب أن يقدّم قربة، و من حقّ المتقرّب أن يتحرّى الأحسن و يغالي بثمنه، و أنّ الزيادة في الخطاب نسخ له، و أنّ النسخ قبل الفعل جائز، و إن لم يجز قبل وقت الفعل و إمكانه، لأدائه إلى البداء.

[سورة البقرة (2): آية 74]

ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً وَ إِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (74)

و لمّا قدّم سبحانه ذكر المعجزات القاهرة و الأعلام الظاهرة، بيّن شدّة قساوة قلوبهم و ما

فعلوا بعدها من العصيان و الطغيان اللّذين من لوازم القساوة، فقال عزّ

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 171

اسمه: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ القساوة عبارة عن الغلظ مع الصلابة، كما في الحجر.

و قساوة القلب مثل في إبائه عن الاعتبار، و «ثم» لاستبعاد القسوة مِنْ بَعْدِ ذلِكَ يعني: إحياء القتيل أو جميع ما عدّد من الآيات، فإنّها ممّا توجب لين القلب و رقّته، و نحوه ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ «1».

فَهِيَ كَالْحِجارَةِ في قسوتها أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً منها، عطف على معنى الكاف. و المعنى: أنّها في القساوة مثل الحجارة، أو زائدة عليها، أو عليه على حذف المضاف، أي: أنّها مثلها أو مثل أشدّ منها قسوة، كالحديد، فحذف المضاف و أضيف المضاف إليه مقامه.

و إيثار «أشدّ» على «أقسى» مع أنّ القسوة ممّا يخرج منها أفعل التفضيل و فعل التعجّب، لما في «أشدّ» من المبالغة، فهو أبين و أدلّ على فرط القسوة، و للدلالة على اشتداد القسوتين، كأنّه قيل: اشتدّت قسوة الحجارة، و قلوبهم أشدّ قسوة.

و «أو» للتخيير أو للترديد الّذي يتضمّن التشكيك، بمعنى: أنّ من عرف حالها شبّهها بالحجارة أو بما هو أقسى منها. و ترك ضمير المفضّل عليه لعدم الإلباس، كقولك: زيد كريم و عمرو أكرم.

ثمّ علّل التفضيل بقوله: وَ إِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ التفجّر التفتّح بسعة و كثرة. و المعنى: أنّ الحجارة تتأثّر و تنفعل، فإنّ منها ما يفتّح بخروق واسعة تندفق منه المياه الكثيرة، و تتفجّر منه الأنهار العظيمة كالفرات.

وَ إِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ أصله: يتشقّق، أدغم التاء في الشين، أي: ينخرق طولا أو عرضا فَيَخْرُجُ مِنْهُ الْماءُ أي: العيون النابعة لا الأنهار الجارية، فيكون هذا غير الأوّل.

______________________________

(1) الأنعام: 2.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 172

وَ إِنَّ مِنْها لَما

يَهْبِطُ يتردّى من أعلى الجبل مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ الخشية مجاز عن الانقياد لأمر اللّه، و أنّها لا تمتنع على ما يريد اللّه منهم، و قلوب هؤلاء لا تخشى و لا تلين، مع أنّهم عارفون بصدق محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلم، فقلوبهم أقسى من الحجارة.

ثمّ وعدهم بقوله: وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أيّها المكذّبون. و هذا قراءة ابن كثير و نافع و يعقوب و خلف و أبو بكر ضمّا إلى ما بعده، و الباقون بالياء «1».

فالمراد: عمّا يعمل هؤلاء الكفرة أيّها المسلمون.

[سورة البقرة (2): الآيات 75 الى 78]

أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (75) وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلا بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ قالُوا أَ تُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (76) أَ وَ لا يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ (77) وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ إِلاَّ أَمانِيَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (78)

ثمّ خاطب الرسول و المؤمنين فقال: أَ فَتَطْمَعُونَ أَنْ يُؤْمِنُوا لَكُمْ أن يصدّقكم اليهود، أو يؤمنوا لأجل دعوتكم من طريق النظر و الاعتبار، و الانقياد للحقّ بالاختيار، كقوله: فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ «2» وَ قَدْ كانَ فَرِيقٌ مِنْهُمْ طائفة من أسلافهم يَسْمَعُونَ كَلامَ اللَّهِ يعني التوراة، و يعلمون أنّه حقّ و يعاندونه

______________________________

(1) كذا في النسخة الخطية، و في نقل القراءة عن هؤلاء اختلاف، راجع التبيان 1: 306، مجمع البيان 1: 138، أنوار التنزيل 1: 164.

(2) العنكبوت: 26

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 173

ثُمَّ يُحَرِّفُونَهُ كنعت محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلم، و آية

الرجم، و جعل الحلال حراما و الحرام حلالا، اتّباعا لأهوائهم، و إعانة لمن يرشوهم، أو تأويل آية متشابهة فيفسّرونها بما يشتهون.

و روي أنّهم من السبعين المختارين، سمعوا كلام اللّه و ما أمر به و نهى حين كلّم موسى بالطور، فقالوا: سمعنا أنّ اللّه يقول في آخره: إن استطعتم أن تفعلوا هذه الأشياء فافعلوا، و إن شئتم فلا تفعلوا.

مِنْ بَعْدِ ما عَقَلُوهُ فهموه بعقولهم، و لم يبق لهم فيه ريبة و شبهة في صحّته وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أنّهم كاذبون مفترون.

و خلاصة معنى الآية: أنّ أحبار هؤلاء و مقدّميهم كانوا على هذه الحالة، فما طمعكم بسفلتهم و جهّالهم؟! و أنّهم إن كفروا و حرّفوا فلهم سابقة في ذلك.

و في هذه الآية دلالة على عظم الذنب في تحريف الشرع. و هو عامّ في إظهار البدع في الفتاوى و القضايا و جميع أمور الدين.

روي عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام أنّه قال: كان قوم من اليهود ليسوا من المعاندين، إذا لقوا المسلمين حدّثوهم بما في التوراة من صفة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلم، فنهاهم كبراؤهم عن ذلك و قالوا: لا تخبروهم بما في التوراة من صفة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلم، فيحاجّوكم به عند ربّكم، فنزلت: وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا

يعني: لقيهم منافقوهم قالُوا آمَنَّا صدّقنا بأنّكم على الحقّ، و رسولكم هو المبشّر به في التوراة.

وَ إِذا خَلا بَعْضُهُمْ الّذين لم ينافقوا إِلى بَعْضٍ أي: إلى الّذين نافقوا منهم و اجتمعوا في خلاء، و هو الموضع الّذي ليس فيه غيرهم قالُوا أي: الّذين لم ينافقوا منهم عاتبين على من نافق أَ تُحَدِّثُونَهُمْ بِما فَتَحَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بما حكم اللّه به عليكم و قضاه

فيكم، و بيّن لكم في التوراة من نعت محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلم. أو الّذين نافقوا لأعقابهم، إظهارا للتصلّب في اليهوديّة، و منعا لهم عن إظهار ما وجدوا في كتابهم، فينافقون المؤمنين و اليهود. فالاستفهام على الأوّل للتقريع، و على الثاني للإنكار.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 174

لِيُحَاجُّوكُمْ بِهِ عِنْدَ رَبِّكُمْ ليحتجّوا عليكم بما أنزل ربّكم في كتابه. جعلوا محاجّتهم بكتاب اللّه و حكمه محاجّة عنده، كما يقال: عند اللّه كذا، و يراد به أنّه في كتابه و حكمه. و قيل: عند ذكر ربّكم، أو يكون المراد: ليكون لهم الحجّة عليكم عند اللّه يوم القيامة في إيمانكم بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم، إذ كنتم مخبرين بصحّة أمره من كتابكم.

و قوله: أَ فَلا تَعْقِلُونَ من تمام كلام اللائمين، تقديره: أ فلا تعقلون أنّهم يحاجّونكم به فيحجّونكم. و يحتمل أن يكون خطابا من اللّه تعالى للمؤمنين متّصلا بقوله: أَ فَتَطْمَعُونَ و المعنى: أ فلا تعقلون حالهم و أن لا مطمع لكم في إيمانهم؟! أَ وَ لا يَعْلَمُونَ يعني: هؤلاء المنافقين، أو اللائمين، أو كليهما، أو إيّاهم و المحرّفين أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ ما يخفون من الكفر، أو ممّا فتح اللّه عليهم وَ ما يُعْلِنُونَ يظهرون من الإيمان و الكلمات المحرّفة عن موضعه و معانيه، أو يعلم جميع ما يسرّون و ما يعلنون، و من ذلك إسرارهم الكفر و إعلانهم الإيمان.

وَ مِنْهُمْ من هؤلاء اليهود أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ جهلة لا يعرفون الكتابة فيطالعوا التوراة و يتحقّقوا ما فيها، أو التوراة إِلَّا أَمانِيَ استثناء منقطع، كقوله: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ «1». و الأمانيّ جمع أمنيّة. و هي في الأصل

ما يقدّره الإنسان في نفسه من منى إذا قدّر، و لهذا تطلق على اختلاق الكذب، لأنّه يقدّر في نفسه، و على ما يتمنّى، لأنّ المتمنّي يقدّر في نفسه و يحرز ما يتمنّاه، و على ما يقرأ، لأنّ القارئ يقدّر أنّ كلمة كذا بعد كذا، كقوله:

تمنّى كتاب اللّه أوّل ليلةتمنّي داود الزبور على رسل «2»

و المعنى: لكن يعتقدون أكاذيب أخذوها تقليدا من المحرّفين، أو مواعيد خالية عن الحجّة سمعوها منهم، من أنّ اللّه تعالى يعفو عنهم و لا يؤاخذهم

______________________________

(1) النساء: 157.

(2) لحسّان بن ثابت، كما في هامش الكشّاف 1: 157. و لم نجده في ديوانه.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 175

بخطاياهم، و أنّ آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، و أنّ الجنّة لا يدخلها إلّا من كان هودا، و أنّ النار لن تمسّهم إلّا أيّاما معدودة، أو إلّا ما يقرءون قراءة عارية عن معرفة المعنى و تدبّره، و هو لا يناسب وصفهم بالأمّية.

وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ ما هم إلا قوم يظنّون لا علم لهم. و قد يطلق الظنّ بإزاء العلم على كلّ رأي و اعتقاد من غير قاطع، و إن جزم به صاحبه، كاعتقاد المقلّد و الزائغ عن الحقّ لشبهة.

و في هذه الآية دلالة على أنّ التقليد فيما طريقه العلم غير جائز، و أنّ الحجّة بالكتاب قائمة على جميع الخلق، و إن لم يكونوا عالمين إذا تمكّنوا من العلم به، و أنّ من الواجب أن يكون التعويل على معرفة معاني الكتاب لا على مجرّد تلاوته.

[سورة البقرة (2): الآيات 79 الى 82]

فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ (79) وَ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ

أَيَّاماً مَعْدُودَةً قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (80) بَلى مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (81) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (82)

ثمّ عاد سبحانه إلى ذكر علماء اليهود فقال: فَوَيْلٌ هو علم التحسّر و الهلك، فيجوز الابتداء به و إن كان على صورة النكرة، و في الأصل مصدر لا فعل

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 176

له. و عن ابن عبّاس: الويل في الآية العذاب. و قيل: جبل في النار. و

روي الخدري عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم أنّه واد في جهنّم يهوى فيه الكافر أربعين خريفا قبل أن يبلغ قعره.

لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ يعني: المحرّف منه. و يحتمل أن يكون المراد منه ما كتبوه من التأويلات الزائغة. و قوله: بِأَيْدِيهِمْ تأكيد، كقولك: كتبته بيميني.

ثُمَّ يَقُولُونَ هذا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لِيَشْتَرُوا بِهِ ثَمَناً قَلِيلًا كي يحصّلوا به عرضا من أعراض الدنيا، كالرّشا على التحريف و استبقاء الرسوم و الوظائف، فإنّه و إن جلّ قليل بالنسبة إلى ما استوجبوه من العقاب الدّائم. و المراد منه ما يأخذونه من عوامهم في كلّ عام.

فَوَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا كَتَبَتْ أَيْدِيهِمْ يعني: المحرّف وَ وَيْلٌ لَهُمْ مِمَّا يَكْسِبُونَ من الرشا. و التكرار للتأكيد و المبالغة.

عن ابن عبّاس: أنّ أحبار اليهود وجدوا صفة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم مكتوبة في التوراة:

أكحل، أعين، ربعة «1»، حسن الوجه، فمحوه من التوراة حسدا و بغيا، فأتاهم نفر من قريش، فقالوا: أ تجدون في التوراة نبيّا منّا؟ قالوا: نعم نجده طويلا أزرق، سبط «2» الشعر. ذكره الواحدي بإسناده

في الوسيط.

و

عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام و جماعة من أهل التفسير: أنّ أحبار اليهود حرّفوا صفة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم في التوراة ليوقعوا الشكّ بذلك للمستضعفين من اليهود.

وَ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ المسّ: اتّصال الشي ء بالبشرة بحيث يتأثّر الحاسّة به. و اللمس كالطلب له، و لذلك يقال: ألمسه فلا أجده. و معناه: أنّ اليهود قالوا: لن تصيبنا النار إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً محصورة قليلة.

روي أنّ بعضهم قالوا: نعذّب بعدد أيّام عبادة العجل أربعين يوما، و بعضهم

______________________________

(1) الأكحل: الذي يكون عينه شديدة السواد. و الأعين: الذي عظم سواد عينه في سعة.

و الربعة: الوسيط القامة.

(2) سبط الشعر: سهل و استرسل. و السبط من الشعر: نقيض الجعد.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 177

قالوا: مدّة الدنيا سبعة آلاف سنة، و إنّما نعذّب مكان كلّ ألف سنة يوما، فردّ اللّه تعالى على اليهود قولهم لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً فقال خطابا لرسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلم: قُلْ أَتَّخَذْتُمْ عِنْدَ اللَّهِ عَهْداً وعدا موثّقا بما تزعمون. و قرأ ابن كثير و حفص بإظهار الذال، و الباقون بإدغامه. فَلَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ عَهْدَهُ الفاء هي الفصيحة، أي: المظهرة بشرط مقدّر، أي: إن اتّخذتم عند اللّه عهدا فلن يخلف اللّه عهده. و فيه دليل على أنّ الخلف في خبره محال.

أَمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ «أم» معادلة لهمزة الاستفهام، بمعنى: أيّ الأمرين كائن على سبيل التقرير، للعلم بوقوع أحدهما، أو منقطعة بمعنى: بل أ تقولون، على التقرير و التقريع.

بَلى إثبات لما نفوه من مساس النار لهم زمانا مديدا و دهرا طويلا.

و تختصّ بجواب النفي، أي: بل تمسّكم النّار على سبيل الخلود، بدلالة قوله: مَنْ كَسَبَ سَيِّئَةً

أي: من عمل خصلة أو فعلة قبيحة. و الفرق بين السيّئة و الخطيئة:

أنّها تقال فيما يقصد بالذات، و الخطيئة تغلب فيما يقصد بالعرض، لأنّها من الخطأ.

و الكسب استجلاب النفع.

و قيل: المراد بالسيّئة هنا الشرك، فالتنوين للتعظيم، أي: سيّئة أكبر السيّئات، و هي الشرك. و هو مرويّ عن ابن عبّاس و مجاهد و قتادة و غيرهم. و تفسيرها بالكبيرة كما قال الحسن لا تكون حجّة على خلود صاحب الكبيرة، كما قالت المعتزلة.

و يؤيّد ذلك قوله: وَ أَحاطَتْ بِهِ خَطِيئَتُهُ أي: استولت عليه، و شملت جملة أحواله حتى صار كالمحاط بها، لا يخلو عنها شي ء من جوانبه، و لم يتفصّ «1» عنها بالتوبة، و هذا إنّما يصحّ في شأن الكافر، لأنّ غيره و إن لم يكن له سوى تصديق

______________________________

(1) أي: لم يتخلّص.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 178

قلبه و الإقرار بلسانه، فلم تحط الخطيئة به.

و تحقيق ذلك: أنّ من أذنب ذنبا و لم يقلع عنه استجرّه إلى معاودة مثله، و الانهماك فيه، و ارتكاب ما هو أكبر منه، حتّى تستولي عليه الذنوب، و تأخذ بمجامع قلبه، فيصير بطبعه مائلا إلى المعاصي، مستحسنا إيّاها، معتقدا أن لا لذّة سواها، مبغضا لمن يمنعه عنها، مكذّبا لمن ينصحه فيها، كما قال تعالى: ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ «1»، و لهذا فسّر السّلف الخطيئة هنا بالكفر.

و قرأ نافع: خطيئاته بصيغة الجمع، ليكون تصريحا بمعنى الإحاطة.

فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ ملازموها في الآخرة، كما أنّهم ملازمون أسبابها في الدنيا هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون أبدا. و من فسّرها بالكبيرة الّتي هي ما دون الشرك من غير المعتزلة، فسّر الخلود بالمكث الطويل.

و لمّا جرت عادة اللّه سبحانه و تعالى على أن يشفع

وعيده بوعده، لترجى رحمته، و يخشى عذابه، قال بعد ذكر الوعيد: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ عطف العمل الصّالح على الإيمان يدلّ على خروجه عن مسمّاه، كما هو مذهبنا، إذ العطف يقتضي المغايرة أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ

[سورة البقرة (2): آية 83]

وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ لا تَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ ذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْكُمْ وَ أَنْتُمْ مُعْرِضُونَ (83)

______________________________

(1) الروم: 10.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 179

ثمّ عاد سبحانه إلى ذكر بني إسرائيل فقال: وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي: و اذكر إذ أخذنا ميثاق اليهود لا تَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ وحده دون ما سواه من الأنداد. إخبار في معنى النهي، كقوله: وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ «1»، و كما تقول:

تذهب إلى فلان تقول له كذا، تريد الأمر. و هو أبلغ من صريح النهي، لما فيه من إيهام أنّ المنهيّ سارع إلى الانتهاء، فهو يخبر عنه. و يؤيّده قراءة عبد اللّه و أبيّ: لا تعبدوا، و عطف «قولوا» عليه. و لا بدّ من إرادة القول، أي: قلنا لهم لا تعبدون إلّا اللّه.

و قيل: «لا تعبدون» جواب القسم، لأنّ أخذ الميثاق في معنى القسم، كأنّه قيل: حلّفناهم لا تعبدون.

و قيل: معناه: أن لا تعبدوا، فلّما حذف «أن» رفع، كقوله:

ألّا أيّهذا الزاجري أحضر الوغى «2» أي: لأن أحضر الحرب، أو على أن أحضر الحرب.

و قرأ نافع و ابن عامر و أبو عمرو و عاصم و يعقوب بالتاء، حكاية لما خوطبوا به، و الباقون بالياء، لأنّهم غيّب.

وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً متعلّق بمحذوف تقديره: و تحسنون، أو أحسنوا بهما

ما فرض عليكم من فعل المعروف بهما، و القول الجميل، و خفض جناح الذلّ لهما، و التحنّن عليهما، و الدعاء بالخير لهما. وَ ذِي الْقُرْبى عطف على الوالدين، أي:

تحسنون بذي القربى بالصّلة و العطيّة. و هو القريب و الرحم. وَ الْيَتامى أي:

باليتامى، بأن تعطفوا عليهم بالرأفة و الرّحمة. جمع يتيم، كنديم و ندامى.

وَ الْمَساكِينِ بأن تؤتوهم حقوقهم الّتي أوجبها اللّه عليكم في أموالكم. جمع مسكين، مفعيل من السكون، كأنّ الفقر أسكنه.

______________________________

(1) البقرة: 282.

(2) لطرفة بن العبد، كما في هامش الكشّاف 1: 159.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 180

وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً أي: قولا حسنا. و سمّاه حسنا للمبالغة. و قرأ حمزة و الكسائي و يعقوب: حسنا، بفتحتين على أصله. و

عن الباقر عليه السّلام: قولوا للناس أحسن ما تحبّون أن يقال لكم.

و لمّا أمكن قتالهم مع حسن القول في دعائهم إلى الإيمان، كما قال اللّه تعالى:

ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ «1» و قال: وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ «2»، فلا تكون الآية منسوخة بآية السيف «3» كما قال بعضهم «4» وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ أي: أدّوها بحدودها و أركانها وَ آتُوا الزَّكاةَ أعطوها أهلها. يريد بهما ما فرض عليهم في ملّتهم.

ثُمَّ تَوَلَّيْتُمْ هذا على طريقة الالتفات من الغيبة إلى الخطاب، إذ حقّه أن يقول: ثمّ تولّوا عطفا على «و إذ أخذنا». و معناه: تولّيتم عن الميثاق و تركتموه.

و يحتمل أن يكون الخطاب مع الموجودين في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم و من قبلهم على التغليب، أي: أعرضتم عن الميثاق إِلَّا قَلِيلًا مِنْكُمْ يريد من أقام اليهوديّة على وجهها

قبل النسخ و من أسلم منهم وَ أَنْتُمْ مُعْرِضُونَ قوم عادتكم الإعراض عن الوفاء بالمواثيق و الطاعة. و أصل الإعراض الذهاب عن المواجهة إلى أحد الجانبين.

و اعلم أنّ في هذه الآية دلالة على ترتيب الحقوق، قيّده سبحانه بذكر حقّه، و قدّمه على كلّ حقّ، لأنّه الخالق المنعم بأصول النعم. ثمّ ثنّى بحقّ الوالدين،

______________________________

(1) النحل: 125.

(2) الأنعام: 108.

(3) التوبة: 5 و 29.

(4) هو قتادة، حكاه عنه الشيخ الطوسي «قدّس سرّه» في التبيان 1: 331.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 181

و خصّهما بالمزيّة، لكونهما سببا للوجود، و إنعامهما بالتربية. ثمّ ذكر ذوي القربى، لأنّهم أقرب إلى المكلّف من غيرهم، ثمّ ذكر حقّ اليتامى، لضعفهم و عجزهم. ثم الفقراء لفقرهم.

[سورة البقرة (2): الآيات 84 الى 86]

وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (84) ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى تُفادُوهُمْ وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلاَّ خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (85) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (86)

و بعد الإخبار عن أخذ الميثاق من اليهود ذكر نقض مواثيقهم و عهودهم بقوله: وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ أي: ميثاق أسلافكم الّذين كانوا في زمن موسى و الأنبياء صلوات اللّه على نبيّنا و عليهم أجمعين. و إنّما أضاف الميثاق إليهم لما كانوا أخلافا لهم و معتقدين عقيدتهم. و قوله: لا تَسْفِكُونَ دِماءَكُمْ وَ لا تُخْرِجُونَ أَنْفُسَكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ على

نهج قوله: لا تَعْبُدُونَ و المراد به أن لا يتعرّض بعضهم بعضا بالقتل و الإجلاء عن الوطن. و إنّما جعل قتل الرجل غيره قتل نفسه، لاتّصاله به نسبا أو

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 182

دينا، أو لأنّه يوجبه قصاصا، فيكون بمنزلة من قتل نفسه.

و قيل: معناه: لا ترتكبوا ما يبيح سفك دمائكم و إخراجكم من دياركم، أو لا تفعلوا ما يرديكم و يصرفكم عن الحياة الأبديّة، فإنّه القتل في الحقيقة، و لا تقترفوا ما تمنعون به عن الجنّة الّتي هي داركم الأبديّة، فإنّه الجلاء الحقيقي.

ثُمَّ أَقْرَرْتُمْ بالميثاق و اعترفتم بلزومه وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ جملة حاليّة توكيدا، كقولك: أقرّ فلان شاهدا على نفسه. و قيل: و أنتم أيّها الموجودون تشهدون على إقرار أسلافكم بهذا الميثاق. فيكون إسناد الإقرار إليهم مجازا.

ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ معنى «ثمّ» استبعاد لما ارتكبوه بعد أخذ الميثاق منهم و الإقرار به و الشهادة عليه. و أصلها للتراخي في الزمان، ثمّ استعمل في التراخي الرتبي.

و «أنتم» مبتدأ و «هؤلاء» خبره. و معناه: أنتم أيّها المقرّون الشاهدون بعد ذلك هؤلاء الناقضون، يعني: أنّكم قوم آخرون غير أولئك المقرّين، كقولك: رجعت بغير الوجه الّذي خرجت به، تنزيلا لتغيّر الصفة منزلة تغيّر الذات. و عدّهم باعتبار ما أسند إليهم من القتل و الإجلاء و العدوان حضورا، و باعتبار ما سيحكي عنهم- و هو قوله: أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا «1»- غيّبا.

و قوله: تَقْتُلُونَ أَنْفُسَكُمْ وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ إمّا حال و العامل فيها معنى الإشارة، أو بيان لقوله: «ثُمَّ أَنْتُمْ هؤُلاءِ». و قيل: «هؤلاء» تأكيد، و الخبر هو الجملة. و قيل: «هؤلاء» بمعنى الّذين، و الجملة صلته، و المجموع هو خبر «أنتم».

و قوله: تَظاهَرُونَ عَلَيْهِمْ بِالْإِثْمِ وَ

الْعُدْوانِ حال من فاعل «تخرجون» أو مفعوله، أو كليهما. و التظاهر: التعاون من الظهر. و قرأ عاصم و الكسائي و حمزة بحذف إحدى التاءين تخفيفا.

______________________________

(1) البقرة: 86، و سيأتي تفسيرها في ص: 184.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 183

وَ إِنْ يَأْتُوكُمْ أُسارى من غير ملّتكم، أي: و أنتم مع قتلكم من تقتلون من فريقكم إذا وجدتم أسيرا من الأسارى في أيدي غيركم من أعدائكم. تُفادُوهُمْ

روي أنّ قريظة كانوا حلفاء الأوس و النضير حلفاء الخزرج، فإذا اقتتلا عاون كلّ فريق حلفاءه في القتل و تخريب الديار و إجلاء أهلها، و إذا أسر أحد الفريقين جمعوا له حتى يفدوه بعد تقضّي الحرب، تصديقا لما في التوراة، و الأوس و الخزرج أهل شرك يعبدون الأوثان، لا يعرفون جنّة و لا نارا، و لا قيامة و لا كتابا، فوبّخ اللّه هؤلاء اليهود بما فعلوا.

و قيل: معناه: إن يأتوكم أسارى في أيدي الشياطين تتصدّوا لإنقاذهم بالإرشاد و الوعظ مع تضييعكم أنفسكم، كقوله: أَ تَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبِرِّ وَ تَنْسَوْنَ أَنْفُسَكُمْ «1».

و قرأ حمزة: أسرى. و هو جمع أسير، كجرحى و جريح، و أسارى جمعه، كسكرى و سكارى، و قيل: هو أيضا جمع أسير.

و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و حمزة و ابن عامر: تفدوهم، و غيرهم تفادوهم، لأنّ الفعل بين الاثنين.

وَ هُوَ مُحَرَّمٌ عَلَيْكُمْ إِخْراجُهُمْ متعلّق بقوله: وَ تُخْرِجُونَ فَرِيقاً مِنْكُمْ مِنْ دِيارِهِمْ و ما بينهما اعتراض. و الضمير للشأن، أو مبهم تفسيره: إخراجهم، أو راجع إلى ما دلّ عليه «تخرجون» من المصدر. و «إخراجهم» بدل أو بيان.

و المعنى: و إخراجكموهم من ديارهم حرام عليكم، كما أنّ تركهم أسرى في أيدي عدوّهم حرام عليكم، فكيف تستجيزون قتلهم و لا تستجيزون ترك

فدائهم من عدوّهم، و هما جميعا في الحكم لازم عليكم؟! أَ فَتُؤْمِنُونَ بِبَعْضِ الْكِتابِ أي: بالفداء وَ تَكْفُرُونَ بِبَعْضٍ أي: بحرمة

______________________________

(1) البقرة: 44.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 184

القتال و الإجلاء. فَما جَزاءُ مَنْ يَفْعَلُ ذلِكَ مِنْكُمْ إِلَّا خِزْيٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا كقتل قريظة و سبيهم، و ضرب الجزية على غيرهم. و أصل الخزي ذلّ بما يستحيا منه، و لذلك يستعمل في كلّ من الذلّ و الاستحياء وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُرَدُّونَ إِلى أَشَدِّ الْعَذابِ الّذي أعدّه اللّه لأعدائه، و هو العذاب الّذي لا روح فيه مع اليأس من التخلّص، لأنّ عصيانهم أشدّ، و لهذا أكّد هذا الوعيد بقوله: وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أي: اللّه سبحانه لا يغفل عن أفعالهم، بل هو حافظ لها و مجاز عليها.

و قرأ عاصم في رواية المفضّل: «تردّون» على الخطاب، لقوله تعالى:

مِنْكُمْ و ابن كثير و نافع و عاصم في رواية أبي بكر و يعقوب: «عمّا يعملون» بالياء، على أنّ الضمير ل «من».

و اعلم: أنّ هذه الآية لا تقتضي صحّة اجتماع الإيمان و الكفر الّذي هو مناف للمذهب الصحيح، لأنّ المعنى أنّهم أظهروا التصديق ببعض الكتاب و الإنكار ببعض. و فيها تسلية لنبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلم في ترك قبول اليهود قوله و انحيازهم عن الإيمان به، فكأنّه يقول: كيف يقبلون قولك و يسلّمون لأمرك و يؤمنون بك و هم لا يعملون بكتابهم مع إقرارهم به و بأنّه من عند اللّه تعالى؟! أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ آثروا الحياة الدنيا على الآخرة، و رضوا بها عوضا من نعيم الآخرة فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ بنقص الجزية في الدنيا، و تهوين التعذيب في الآخرة وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ أي:

لا ينصرهم أحد بدفعهما عنهم.

[سورة البقرة (2): آية 87]

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ قَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ أَ فَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ وَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ (87)

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 185

ثمّ ذكر سبحانه إنعامه عليهم بإنزال كتابه و إرسال رسله إليهم، و ما قابلوه به من تكذيبهم، فقال: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يعني: أعطيناه التوراة جملة واحدة وَ قَفَّيْنا مِنْ بَعْدِهِ بِالرُّسُلِ أرسلنا على أثره الرسل، أي: رسولا بعد رسول، يتبع الآخر الأوّل في الدعاء إلى وحدانيّة اللّه تعالى، و القيام بشرائعه على منهاج واحد، لأنّ كلّ من بعثه اللّه نبيّا بعد موسى إلى زمن عيسى عليه السّلام- كيوشع و أشموئيل و شمعون و داود و سليمان و شعيا و أرميا و عزير و حزقيل و إلياس و اليسع و يونس و زكريّا و يحيى و غيرهم- فإنّما بعثه بإقامة التوراة و العمل بما فيها و الدعاء إلى ذلك، كقوله: ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا «1» أي: واحدا بعد واحد. يقال: قفّاه إذا أتبعه، و قفّاه به أتبعه إيّاه من القفا، نحو: ذنبه من الذنب «2».

وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ المعجزات الواضحات الدالّة على نبوّته، كإحياء الموتى، و إبراء الأكمه و الأبرص، و الإخبار بالمغيّبات، أو الإنجيل الّذي هو جامع للآيات الفاصلة بين الحلال و الحرام.

و عيسى بالعبريّة أيشوع، بمعنى المبارك. و مريم بمعنى الخادم. و هو بالعربيّة من رامه يريمه ريما إذا فارقه، و ريم بالرجل إذا قطع به، على وزن مفعل، إذ لم يثبت فعيل. وزير في مقابلته، أي: رجل كثير الزيارة للنساء. قال رؤبة:

قلت لزير لم تصله مريمه ضليل

أهواء الصبا تندّمه «3»

______________________________

(1) المؤمنون: 44.

(2) ذنبه يذنبه: تلا ذنبه فلم يفارق أثره. (لسان العرب 1: 390)

(3) الزير: من يكثر مودّة النساء و زيارتهنّ. و المريم: من تكثر مودّة الرجال و زيارتهم. و لعلّ معناه: أن ندمه ضالّ ضائع في أهواء الصّبا.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 186

وَ أَيَّدْناهُ قوّيناه بِرُوحِ الْقُدُسِ بالروح المقدّسة، كقولك: حاتم الجود، و رجل صدق، في إضافة الاسم إلى المصدر. أراد به جبرئيل، أي: أيّدنا عيسى بجبرئيل من أوّل صغره إلى كبره، فكان يسير معه حيث سار، و لمّا همّ اليهود بقتله لم يفارقه حتى صعد به إلى السماء، و كان تمثّل لمريم عند حملها به و بشّرها به.

و قيل: روح عيسى، و وصفها به لطهارته عن مسّ الشيطان، أو لكرامته على اللّه، و لذلك أضافها إلى نفسه، أو لأنّه لم تضمّه الأصلاب و الأرحام الطوامث، أو لغلبة الروحانيّة عليه، فشابه الروحانيّين، أو الإنجيل، أو الاسم الأعظم الذي كان يحيي به الموتى. و قرأ ابن كثير القدس بالإسكان في جميع القرآن.

ثمّ خاطب اليهود توبيخا و تعجيبا فقال: يا معشر اليهود أَ فَكُلَّما جاءَكُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُكُمُ اسْتَكْبَرْتُمْ أي: بما لا تحبّه، يقال: هوي بالكسر هوى إذا أحبّ، و هوى بالفتح هويّا بالضمّ إذا سقط. و وسّط بين الفاء و ما تعلّقت به- و هو قوله: «و آتينا»- همزة التوبيخ و التعجيب في شأنهم. و يجوز أن يكون استئنافا، و الفاء للعطف على مقدّر، أي: أ أعرضتم فكلّما ... إلخ.

و قوله: «استكبرتم» مجمل تفصيله قوله: فَفَرِيقاً كَذَّبْتُمْ عن الإيمان و اتّباع الرسل، كموسى و عيسى وَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ كزكريّا و يحيى، فالفاء لتفصيل الاستكبار. و يجوز أن يكون للسببيّة. و

إنّما ذكر بلفظ المضارع على حكاية الحال الماضية استحضارا لها في النفوس، و تصويرا لها في القلوب، فإنّ الأمر فظيع، و مراعاة للفواصل، أو للدلالة على أنّكم بعد فيه، فإنّكم حاولتم قتل محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلم لو لا أنّي أعصمه منكم، و لذلك سحرتموه و سممتم له الشاة.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 187

و

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلم عند موته: ما زالت أكلة خيبر تعادّني «1»، فهذا أوان قطعت أبهري.

و أضاف الفعل المذكور إليهم و إن باشره آباؤهم، لأنّهم رضوا بفعل أسلافهم فأضيف الفعل إليهم.

[سورة البقرة (2): آية 88]

وَ قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَقَلِيلاً ما يُؤْمِنُونَ (88)

ثمّ رجع الكلام إلى الحكاية عن اليهود و عن سوء مقالهم و فعالهم فقال:

وَ قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ جمع أغلف، أي: مغشّاة بأغطية خلقيّة لا يصل إليها ما جاء به محمد و لا تفهمه، مستعار من الأغلف الّذي لم يختن، كقولهم: قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ «2». و قيل: أصله غلف جمع غلاف فخفّف، أي: أنّها أوعية العلم لا تسمع علما إلا وعته و لا تعي ما تقول، أو نحن مستغنون بما فيها عن غيره.

ثمّ ردّ اللّه عليهم لما قالوا بقوله: بَلْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ أي: ليس ذلك كما زعموا أنّ قلوبهم خلقت كذلك، لأنّها خلقت على الفطرة، لكن اللّه لعنهم و خذلهم بسبب صميم كفرهم، و أبعدهم من رحمته، لتوغّلهم في عنادهم و لجاجهم فَقَلِيلًا ما يُؤْمِنُونَ فإيمانا قليلا يؤمنون. و «ما» مزيدة للمبالغة في التقليل، و هو إيمانهم ببعض الكتاب، و ذلك قليل بالإضافة إلى ما جحدوه من حرمة القتال و الإجلاء و التصديق بنبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلم و بما جاء

به. و قيل: أراد بالقلّة العدم، كما يقال: قلّ ما رأيت هذا قطّ، أي: ما رأيته قطّ. و هذا أصحّ، لموافقته لمذهبنا في أنّه لا إيمان لهم أصلا.

______________________________

(1) في هامش الخطّية: «من العداد، و هو اهتياج وجع اللديغ. منه». أي: تراجعني و يعاودني ألم سمّها في أوقات معلومة. و الأبهر: الظهر. و الأبهران: العرقان اللذان يخرجان من القلب.

انظر مستدرك الحاكم 3: 58.

(2) فصّلت: 5.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 188

[سورة البقرة (2): الآيات 89 الى 91]

وَ لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ فَلَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الْكافِرِينَ (89) بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ بَغْياً أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (90) وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَ يَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ وَ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (91)

عن ابن عبّاس: كانت اليهود يستفتحون، أي: يستنصرون على الأوس و الخزرج برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم قبل مبعثه، فلمّا بعثه اللّه من العرب و لم يكن من بني إسرائيل كفروا به و جحدوا ما كانوا يقولون فيه، فقال لهم معاذ بن جبل و بشر بن البراء: يا معشر اليهود اتّقوا اللّه و أسلموا، فقد كنتم تستفتحون علينا بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم و نحن أهل الشرك، و تصفونه و تذكرون أنّه مبعوث، فقال سلام بن مشكم أخو بني النضير: ما جاءنا بشي ء نعرفه، و ما هو بالّذي كنّا

نذكر لكم. فنزلت.

وَ لَمَّا جاءَهُمْ كِتابٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يعنى: القرآن مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ من الكتب الّتي أنزلها اللّه تعالى قبل القرآن، من التوراة و الإنجيل و غيرهما. و جواب «لمّا» محذوف، نحو: كذّبوا به، و استهانوا بمجيئه، و ما أشبه ذلك، دلّ على المحذوف جواب «لمّا» الثانية.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 189

وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ أي: يستنصرون عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا على المشركين، و يقولون: اللّهمّ انصرنا بنبيّ آخر الزمان، المنعوت في التوراة، لنقتل المشركين معه قتل عاد و إرم. أو يفتحون عليهم، و يعرّفونهم أنّ نبيّا يبعث منهم، و قد قرب زمانه. و السين للمبالغة- أي: يسألون أنفسهم الفتح عليهم، كالسّين في «استعجب و استسخر»- و الإشعار بأنّ الفاعل يسأل ذلك عن نفسه.

فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا من الحقّ كَفَرُوا بِهِ حسدا و خوفا على رئاستهم و انسداد وظائفهم كما مرّ فَلَعْنَةُ اللَّهِ أي: غضبه و عقابه عَلَى الْكافِرِينَ أي:

عليهم. فأتى بالمظهر موضع المضمر للدلالة على أنّهم لعنوا لكفرهم، فيكون اللام للعهد. و يجوز أن يكون للجنس، و يدخل اليهود فيه دخولا قصديّا، لأنّ الكلام سيق بالأصالة فيهم.

بِئْسَمَا اشْتَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ «ما» نكرة بمعنى شي ء مميّزة لفاعل «بئس» المستكن، و «اشتروا» صفته. و معناه: باعوا أو اشتروا بحسب ظنّهم، فإنّهم ظنّوا أنّهم خلّصوا أنفسهم من العقاب بما فعلوا. و المخصوص بالذمّ قوله: أَنْ يَكْفُرُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ

و لمّا كان البيع و الشراء إزالة ملك المالك إلى غيره بعوض يعتاضه منه، ثمّ يستعمل ذلك في كلّ معتاض من عمله عوضا خيرا كان أو شرّا، و اليهود أو بقوا نفوسهم بكفرهم بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم و أهلكوها، فخاطبهم اللّه بما كانوا يعرفونه،

فقال:

بئس الشي ء الّذي رضوا به عوضا من الإيمان باللّه، و ما أنزله اللّه على نبيّه، و ما أعدّ لهم به من ثواب اللّه، الكفر به و ما أعدّ لهم بكفرهم من النار.

بَغْياً طلبا لما ليس لهم، و حسدا لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم، إذ كان من ولد إسماعيل، و كانت الرسل قبل من بني إسرائيل، و هو علّة «يكفروا» دون «اشتروا» للفصل.

أَنْ يُنَزِّلَ اللَّهُ لأن ينزّل، أو حسدوه على أن ينزّل اللّه. و قرأ ابن كثير و أبو

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 190

عمرو و يعقوب بالتخفيف. مِنْ فَضْلِهِ يعني: الوحي و النبوّة عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ على من اختاره للرسالة، كما تقتضيه حكمته الباهرة.

فَباؤُ بِغَضَبٍ عَلى غَضَبٍ للكفر و الحسد على من هو أفضل الخلق.

و قيل: لكفرهم بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم بعد عيسى، أو بعد قولهم: عزير ابن اللّه، و قولهم: يد اللّه مغلولة، أو لأجل تضييعهم أحكام التوراة و نعوت خير الأنبياء، و غير ذلك من أنواع كفرهم، فصاروا أحقّاء لغضب مترادف متعاقب.

وَ لِلْكافِرِينَ و للجاحدين نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم عَذابٌ مُهِينٌ يريد به إذلالهم، بخلاف عذاب العاصي، فإنّه طهرة لذنوبهم، و تمحيص و تكفير لها، فمن ينتقل من عذاب النار إلى الجنّة من عصاة المؤمنين لا يكون عذابه مهينا.

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ آمِنُوا بِما أَنْزَلَ اللَّهُ يعمّ الكتب المنزلة بأسرها قالُوا نُؤْمِنُ بِما أُنْزِلَ عَلَيْنا أي: بالتوراة وَ يَكْفُرُونَ بِما وَراءَهُ يجحدون بما سواه، حال من الضمير في «قالوا» أي: قالوا ذلك و الحال أنّهم يكفرون بما وراء التوراة. و «وراء» في الأصل مصدر جعل ظرفا، و يضاف إلى الفاعل، فيراد

ما يتوارى به و هو خلفه، و إلى المفعول فيراد به ما يواريه و هو قدّامه، و لذلك عدّ من الأضداد.

وَ هُوَ الْحَقُ و الضمير لما وراءه، و المراد به القرآن مُصَدِّقاً لِما مَعَهُمْ من التوراة، لأنّ تصديق محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلم و ما أنزل معه من القرآن مكتوب عندهم في التوراة. و هو حال مؤكّدة تتضمّن ردّ مقالتهم بأنّهم لمّا كفروا بما يوافق التوراة فقد كفروا بها.

ثمّ ردّ اللّه تعالى عليهم قولهم: نؤمن بما أنزل علينا فقال: قُلْ فَلِمَ تَقْتُلُونَ أَنْبِياءَ اللَّهِ مِنْ قَبْلُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ اعتراضا عليهم بقتل الأنبياء مع ادّعاء الإيمان بالتوراة، و التوراة لا تسوّغه. و إنّما أسند القتل إليهم لأنّه فعل آبائهم، و أنّهم راضون به عازمون عليه كما مرّ غير مرّة. و قرأ نافع وحده: أنبياء اللّه مهموزا في كلّ القرآن،

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 191

مأخوذا من النبأ بمعنى الخبر، و الباقون بالياء من النبوة بمعنى الرفعة.

و في هذه الآية دلالة على أنّ الإيمان بكتاب من كتب اللّه لا يصحّ إذا لم يحصل الإيمان بما سواه من كتب اللّه المنزلة الّتي هي مثله في اقتران المعجزة.

[سورة البقرة (2): الآيات 92 الى 93]

وَ لَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ (92) وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اسْمَعُوا قالُوا سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ بِكُفْرِهِمْ قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (93)

ثمّ حكى سبحانه عنهم ما يدلّ على قلّة بصيرتهم في الدين، و ضعفهم في اليقين، فقال: وَ لَقَدْ جاءَكُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ يعني: الآيات التسع المذكورة في قوله: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ

بَيِّناتٍ «1» الدالّة على صدقه ثُمَّ اتَّخَذْتُمُ الْعِجْلَ إلها معبودا مِنْ بَعْدِهِ بعد مجي ء موسى بالبيّنات، أو بعد ذهابه إلى الطور وَ أَنْتُمْ ظالِمُونَ واضعون العبادة في غير موضعها. و هو حال، يعني:

اتّخذتم العجل ظالمين بعبادته، أو بالإخلال بآيات اللّه، أو اعتراض بمعنى: و أنتم قوم عادتكم الظلم.

و مساق الآية لإبطال قولهم: نؤمن بما أنزل علينا، و التنبيه على أنّ طريقتهم مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم طريقة أسلافهم مع موسى عليه السّلام، لا لتكرار القصّة.

و كذا ما بعدها، و هو قوله: وَ إِذْ أَخَذْنا مِيثاقَكُمْ وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ خُذُوا

______________________________

(1) الإسراء: 101.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 192

أي: قلنا لهم خذوا ما آتَيْناكُمْ ما أمرتم به في التوراة بِقُوَّةٍ بجدّ وَ اسْمَعُوا سماع طاعة قالُوا سَمِعْنا قولك وَ عَصَيْنا أمرك، أى: سمعناه و لكن لا سماع طاعة وَ أُشْرِبُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْعِجْلَ تداخل فيها حبّه، و رسخ فيها صورته، لفرط شغفهم و حرصهم بعبادته، كما يتداخل الصبغ الثوب، و الشراب أعماق البدن. و «فِي قُلُوبِهِمُ» بيان لمكان الإشراب، كقوله: إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً «1».

و ليس معنى «أشربوا» أنّ غيرهم فعل ذلك بهم، بل هم الفاعلون، كما يقول القائل: أنسيت ذلك من النسيان، و ليس يريد أنّ غيره فعل ذلك به، و يقال: اوتي فلان علما جمّا، و إن كان هو المكتسب. و قيل: إنّما أشرب حبّ العجل قلوبهم من زيّنه عندهم و دعاهم إليه، كالسامريّ و شياطين الإنسان و الجنّ.

و قوله: بِكُفْرِهِمْ معناه بسبب كفرهم، و ذلك لأنّهم كانوا مجسّمة أو حلوليّة، و لم يروا جسما أعجب منه، فتمكّن في قلوبهم ما سوّل لهم السّامريّ.

و ليس المعنى أنّهم اشربوا حبّ العجل جزاء

على كفرهم، لأنّ محبّة العجل كفر قبيح، و اللّه سبحانه لا يفعل الكفر في العبد لا ابتداء و لا جزاء؛ بل معناه أنّهم بسبب كفرهم باللّه اشربوا حبّ العجل.

قُلْ بِئْسَما يَأْمُرُكُمْ بِهِ إِيمانُكُمْ أي: بالتوراة. و المخصوص بالذمّ محذوف، نحو عبادة العجل، أو هذا الأمر، أو ما يعمّه و غيره من قبائحهم المعدودة في الآيات الثلاث إلزاما عليهم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ تقرير للقدح في دعواهم الإيمان بالتوراة، و تقديره: إن كنتم مؤمنين بها ما أمركم إيمانكم بهذه القبائح، و ما رخّص لكم فيها إيمانكم بها، أو إن كنتم مؤمنين بها فبئس ما أمركم به إيمانكم بها، لأنّ المؤمن لا يتعاطى إلا ما يقتضيه إيمانه، لكنّ الإيمان بها لا يأمرهم بذلك، فإذا لستم بمؤمنين.

______________________________

(1) النساء: 10.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 193

ففي هذا نفي عن التوراة أن يكون يأمر بشي ء يكرهه اللّه من أفعالهم، و إعلام بأنّ الّذي يأمرهم بذلك أهواؤهم، و يحملهم عليه آراؤهم.

[سورة البقرة (2): الآيات 94 الى 96]

قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (94) وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (95) وَ لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يَوَدُّ أَحَدُهُمْ لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ وَ ما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (96)

ثمّ عاد سبحانه إلى الاحتجاج على اليهود بما فضح به أحبارهم و علماءهم، و دعاهم إلى قضيّة عادلة بينه و بينهم، فقال: قُلْ إِنْ كانَتْ لَكُمُ الدَّارُ الْآخِرَةُ عِنْدَ اللَّهِ خالِصَةً خاصّة بكم كما قلتم: لن يدخل الجنّة إلا من كان هودا، و نصبها على الحال من الدار مِنْ دُونِ النَّاسِ سائرهم أو المسلمين،

و اللام للعهد على الاحتمال الثاني فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ لأنّ من أيقن أنّه من أهل الجنّة اشتاقها، و أحبّ التخلّص إليها من الدار الّتي فيها أنواع المشاقّ و الهموم و الآلام و الغموم، و تمنّى سرعة الوصول إلى نعمها اللذيذة العظيمة الدائمة، كما

روي أنّ عليّا عليه السّلام كان يطوف بين الصفّين بصفّين في غلالة «1»، فقال له ابنه الحسن عليه السّلام: ما هذا بزيّ المحاربين، فقال: يا بنيّ لا يبالي أبوك أعلى الموت سقط أم سقط الموت عليه.

و قال عمّار بصفّين: الآن ألا في الأحبّة، محمدا و حزبه. و يروي أنّ حبيب بن

______________________________

(1) الغلالة: الثوب الذي يلبس تحت الثياب أو تحت درع الحديد.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 194

مظاهر ضحك يوم الطّف، فقيل له في ذلك، فقال: أيّ موضع أحقّ بالسرور من هذا الموضع؟ و اللّه ما هو إلّا أن يقبل علينا هذا القوم بسيوفهم فنعانق الحور العين.

و قال حذيفة- رضى اللّه عنه- حين احتضر: جاء حبيب على فاقة، لا أفلح من ندم، أي: على التمنّي، سيّما إذا علم أنّ الدار الآخرة سالمة لا يشاركه فيها غيره.

وَ لَنْ يَتَمَنَّوْهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من موجبات النار، كالكفر بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم و القرآن، و تحريف التوراة. و لمّا كانت اليد العاملة مختصّة بالإنسان آلة لقدرته، بها عامّة صنائعه، و منها أكثر منافعه، عبّر بها عن النفس تارة و القدرة أخرى. و هذا من المعجزات، لأنّه إخبار بالغيب، و كان كما أخبر، لأنّهم لو تمنّوا لنقل و اشتهر، فإنّ التمنّي ليس من عمل القلب ليخفي، بل هو أن يقول: ليت لي كذا، و لكان ناقلوه من أهل الكتاب و غيرهم من

أولي المطاعن في الإسلام أكثر من الذرّ، و ليس أحد منهم نقل ذلك.

و

روي الكلبي عن ابن عبّاس أنّه قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم يقول لهم: إن كنتم صادقين في مقالتكم فقولوا: اللّهمّ أمتنا، فو الّذي نفسي بيده لا يقولها رجل إلا غصّ «1» بريقه فمات مكانه.

و

برواية أخرى عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم: لو تمنّوا الموت لغصّ كلّ إنسان بريقه فمات مكانه، و ما بقي يهوديّ على وجه الأرض.

وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ تهديد لهم، و تنبيه على أنّهم ظالمون في دعوى ما ليس لهم من دخول الجنّة و نفيه عمّن هو لهم.

ثمّ أخبر عن حرصهم على الحياة بقوله: وَ لَتَجِدَنَّهُمْ أَحْرَصَ النَّاسِ عَلى حَياةٍ من «وجد» بعقله الجاري مجرى «علم»، كقولهم: وجدت زيدا ذا

______________________________

(1) غصّ بالطعام و الماء: اعترض في حلقه شي ء منه فمنعه التنفّس.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 195

الحفاظ «1». و مفعولاه «هم» و «أحرص». و تنكير حياة لأنّه أريد فرد مخصوص من أفرادها، و هي الحياة المتطاولة.

وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا محمول على المعنى، فكأنّه قال: أحرص من الناس و من الّذين أشركوا. و إفرادهم بالذكر للمبالغة، فإنّ حرصهم شديد، إذ لم يعرفوا إلّا الحياة العاجلة، و للزيادة في التوبيخ و التقريع، فإنّه لمّا زاد حرصهم و هم مقرّون بالجزاء على حرص المنكرين، دلّ ذلك على علمهم بأنّهم صائرون إلى النار.

و يجوز أن يراد: و أحرص من الّذين أشركوا، فحذف لدلالة أَحْرَصَ النَّاسِ عليه.

و قيل: من الّذين أشركوا المجوس، لأنّهم كانوا يحيّون مملوكهم و يقولون:

عش ألف نيروز و ألف مهرجان. قال ابن عبّاس: هو قول بعض الأعاجم منهم لمن عطس: هزار سال بزي «2».

و يجوز أن

يكون «مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا» خبر مبتدأ محذوف صفته يَوَدُّ أَحَدُهُمْ على أنّه أريد بالّذين أشركوا اليهود، لأنّهم قالوا: عزير ابن اللّه، أي: و منهم ناس يودّ أحدهم. و هو على الوجهين الأوّلين بيان لزيادة حرصهم على طريق الاستئناف.

و قوله: لَوْ يُعَمَّرُ أَلْفَ سَنَةٍ حكاية لودادهم. و «لو» بمعنى ليت. و كان أصله لو أعمّر، فأجري على الغيبة لقوله: «يودّ»، كقولك: حلف باللّه ليفعلنّ. و أصل سنة سنوة، لقولهم: سنوات. و قيل: سنهة كجبهة، لقولهم: سانهته، و تسنّهت النخلة إذا أتت عليها السنون.

وَ ما هُوَ بِمُزَحْزِحِهِ مِنَ الْعَذابِ أَنْ يُعَمَّرَ الضمير ل «أحدهم» و «أن يعمّر»

______________________________

(1) يقال: إنه لذو حفاظ، أي: أن له أنفة.

(2) زي بالفارسيّة بمعنى: عش، و هزار بمعنى: ألف، و سال بمعنى: عام، أي: عش ألف سنة.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 196

فاعل مزحزحه، أي: و ما أحدهم بمن يزحزحه من النار تعميره، يعني: لا يبعّده منه أن يطول له البقاء، لأنّه لا بدّ للعمر من الفناء. أو لما دلّ عليه «يعمّر» من مصدره، و «أن يعمّر» بدل منه. أو مبهم و «أن يعمّر» مبيّنه. و الزحزحة التنحية و التبعيد.

وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ فيجازيهم. في هذه الآية دلالة على أنّ الحرص على طول البقاء لطلب الدنيا مذموم، و إنّما المحمود طلب البقاء للازدياد في الطاعة، و تلافي الفائت بالتوبة و الإنابة، و درك السعادة بالإخلاص في العبادة، و إلى هذا المعنى

أشار أمير المؤمنين عليه السّلام في قوله: بقيّة عمر المؤمن لا قيمة له، يدرك بها ما فات، و يحيي بها ما أمات.

[سورة البقرة (2): الآيات 97 الى 98]

قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ عَلى قَلْبِكَ بِإِذْنِ اللَّهِ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (97)

مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ (98)

عن ابن عبّاس: أنّ ابن صوريا و جماعة من يهود أهل فدك لمّا قدم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم المدينة سألوه فقالوا: يا محمد كيف نومك، فقد أخبرنا عن نوم النبيّ الّذي يأتي في آخر الزمان؟

فقال: تنام عيناي و قلبي يقظان.

قالوا: صدقت يا محمد. فأخبرنا عن الولد يكون من الرجل أو المرأة؟

فقال: أمّا العظام و العصب و العروق فمن الرجل، و أمّا اللحم و الدم و الظفر و الشعر فمن المرأة.

قالوا: صدقت يا محمد. فما بال الولد يشبه أعمامه و ليس فيه من شبه أخواله شي ء، أو يشبه أخواله و ليس فيه من شبه أعمامه شي ء؟

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 197

فقال: أيّهما علا ماؤه كان الشبه له.

قالوا: صدقت يا محمد.

قالوا: فأخبرنا عن ربّك ما هو؟ فأنزل اللّه سبحانه قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ إلى آخر السورة.

فقال ابن صوريا: خصلة واحدة إن قلتها آمنت بك و اتّبعتك، أيّ ملك يأتيك بما ينزل اللّه عليك؟

فقال له: جبرئيل.

قال: ذاك عدوّنا ينزل بالقتال و الشدّة و سائر النوازل و المصائب، و أشدّها أنّه أنزل على نبيّنا أنّ بيت المقدس سيخرّبه بخت نصّر، فبعثنا من يقتله، فرآه ببابل غلاما مسكينا فدفع عنه جبرئيل، و قال: إن كان ربّكم أمره بهلاككم فلا يسلّطكم عليه، و إلّا فبم تقتلونه؟ و ميكائيل ينزل الخصب و اليسر و الرخاء و السلام، فلو كان ميكائيل هو الّذي يأتيك لآمنّا بك، فنزلت: قُلْ مَنْ كانَ عَدُوًّا لِجِبْرِيلَ

قرأ حمزة و الكسائي على وزن سلسبيل. و قرأ ابن كثير: جبريل، بكسر الراء و حذف الهمزة. و قرأ عاصم: جبرئيل كجحمرش.

و قرأ الباقون: جبريل كقنديل.

و منع صرفه للعجمة و التعريف. و معناه عبد اللّه.

فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ فإنّ جبريل نزّل القرآن. أضمر ما لم يسبق ذكره فخامة لشأنه، كأنّه لتعيّنه و فرط شهرته لم يحتج إلى سبق ذكره عَلى قَلْبِكَ فإنّه القابل الأوّل للوحي، و محلّ الفهم و الحفظ. و كان حقّه: على قلبي، لكنّه جاء على حكاية كلام اللّه، كأنّه قال: قل ما تكلّمت به بِإِذْنِ اللَّهِ بأمره و تيسيره، حال من فاعل «نزّل» مُصَدِّقاً موافقا لِما بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب وَ هُدىً وَ بُشْرى و هاديا و مبشّرا بالنعيم الدائم لِلْمُؤْمِنِينَ أحوال من مفعوله. و إنّما خصّ الهدى بالمؤمنين من

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 198

حيث كانوا هم المهتدين به، العاملين بما فيه، و إن كان هدى لغيرهم أيضا.

و الظاهر أنّ جواب الشرط «فَإِنَّهُ نَزَّلَهُ». و المعنى: فمن عادى منهم جبريل فقد خلع ربقة الإنصاف، أو كفر بما معه من الكتاب بمعاداته إيّاه، فإنّه نزّل كتابا مصدّقا لما بين يديه من الكتب، فيكون مصدّقا لكتابهم، فلو أنصفوا لأحبّوه و شكروا له صنيعه في إنزاله ما يصحّح الكتاب المنزل عليهم، فحذف الجواب و أقيم علّته مقامه، أو: من عاداه فالسبب في عداوته أنّه نزّل عليك.

و قيل: محذوف، مثل: فليمت غيظا، أو فهو عدوّ لي و أنا عدوّه، كما قال:

مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ فَإِنَّ اللَّهَ عَدُوٌّ لِلْكافِرِينَ أراد بعداوة اللّه مخالفته عنادا، أو معاداة المقرّبين من عباده، و صدّر الكلام بذكره تعالى تفخيما لشأنهم، كقوله: وَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ «1».

و أفرد الملكان بالذكر لمزيّة فضلهما، كأنّهما من جنس آخر، و هو «2» ممّا ذكر أنّ التغاير في

الوصف ينزّل منزلة التغاير في الذات. و التنبيه على أنّ معاداة الواحد و الكلّ سواء في الكفر و استجلاب العداوة من اللّه تعالى، و أنّ من عادى أحدهم فكأنّه عادى الجميع، إذ الموجب لمحبّتهم و عداوتهم على الحقيقة واحد. و لأنّ المحاجّة كانت فيهما.

و لم يقل: «فإنّه» لئلّا يتوهّم أنّه يرجع إلى جبرئيل أو ميكائيل. و وضع الظاهر و هو «للكافرين» موضع المضمر- أعني: لهم- للدلالة على أنّه تعالى عاداهم لكفرهم، و أنّ عداوة الملائكة و الرّسل كفر.

و قرأ نافع: ميكائل كميكاعل، و أبو عمرو و يعقوب و عاصم: ميكال كميعاد.

______________________________

(1) التوبة: 62.

(2) أي: و تنزيل الملكين منزلة كونهما من جنس آخر من قبيل ذكر الخاصّ بعد العامّ، فإن مغايرة وصفهما لأوصاف سائر الملائكة تنزّل منزلة التغاير في الذات.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 199

[سورة البقرة (2): الآيات 99 الى 103]

وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ وَ ما يَكْفُرُ بِها إِلاَّ الْفاسِقُونَ (99) أَ وَ كُلَّما عاهَدُوا عَهْداً نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (100) وَ لَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ نَبَذَ فَرِيقٌ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ وَراءَ ظُهُورِهِمْ كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) وَ اتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ وَ ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ بِبابِلَ هارُوتَ وَ مارُوتَ وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ فَلا تَكْفُرْ فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ يَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ وَ لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ

أَنْفُسَهُمْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (102) وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (103)

عن ابن عبّاس أنّ ابن صوريا قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: يا محمد ما جئتنا بشي ء نعرفه، و ما أنزل عليك من آية فنتّبعك لها، فأنزل اللّه: وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ آياتٍ بَيِّناتٍ

ظاهرات واضحات، تفصل بين الحقّ و الباطل. و هي القرآن و ما فيها من الدلالات و سائر المعجزات وَ ما يَكْفُرُ بِها إِلَّا الْفاسِقُونَ أي: المتمرّدون من

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 200

زبدة التفاسير ج 1 249

الكفرة. و الفسق إذا استعمل في نوع من المعاصي وقع على أعظم ذلك النوع من كفر و غيره، فإن كان في الكفر فهو أعظم الكفر، و إن كان فيما دون الكفر فهو أعظم المعاصي، كأنّه متجاوز عن حدّه. و اللام للجنس. و الأولى أن تكون إشارة إلى أهل الكتاب.

أَ وَ كُلَّما عاهَدُوا عَهْداً الهمزة للإنكار، و الواو للعطف على محذوف، تقديره: أكفروا بالآيات و كلّما عاهدوا عهدا؟ أراد به العهد الّذي أخذه الأنبياء على أممهم أن يؤمنوا و يطيعوا الأوامر الإلهيّة نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ نقضه. و أصل النبذ الطرح و الرفض، لكنّه يغلب فيما ينسى. و إنّما قال: «فريق» لأنّ بعضهم لم ينقض.

بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بالتوراة، و ليسوا من الدين في شي ء، فلا يبالون بنقض الميثاق، و لا يعدّونه ذنبا، و لهذا كانت اليهود موسومين بالغدر و نقض العهود، و كم أخذ اللّه الميثاق منهم و من آبائهم فنقضوا، و كم عاهدوا لرسول اللّه فلم يفوا، فينقضون عهدهم في كلّ مرّة. و هذا ردّ لما يتوهّم أنّ الفريق هم الأقلّون، أو

أنّ من لم ينبذ جهارا فهم يؤمنون به خفاء.

وَ لَمَّا جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُصَدِّقٌ لِما مَعَهُمْ كعيسى و محمد نَبَذَ فَرِيقٌ ترك و ألقى طائفة مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ كِتابَ اللَّهِ يعني التوراة، لأنّ كفرهم بالرسول المصدّق لها كفر بها فيما يصدّقه، و نبذ لما فيها من وجوب الإيمان بالرسل المؤيّدين بالآيات. و قيل: القرآن.

و قوله: وَراءَ ظُهُورِهِمْ مثّل لإعراضهم عنه رأسا بالإعراض عمّا يرمى به وراء الظهر، لعدم الالتفات إليه.

كَأَنَّهُمْ لا يَعْلَمُونَ أنّه كتاب اللّه، يعني: أنّ علمهم به راسخ، و لكن يتجاهلون عنادا. قال الشعبي: هو بين أيديهم يقرءونه، و لكن نبذوا العمل به. و قال سفيان بن عيينة: أدرجوه في الحرير و الديباج، و حلّوه بالذهب و الفضّة، و لم يحلّوا حلاله، و لم يحرّموا حرامه. فالنبذ بهذا المعنى.

و هاتان الآيتان دالّتان على أنّ معظم اليهود أربع فرق:

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 201

فرقة آمنوا بالتوراة، و قاموا بحقوقها، كمؤمني أهل الكتاب. و هم الأقلّون المدلول عليهم بقوله: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يُؤْمِنُونَ

و فرقة جاهروا بنبذ عهود التوراة، و تخطّي حدودها تمرّدا و فسوقا. و هم المعنيّون بقوله: «نَبَذَهُ فَرِيقٌ مِنْهُمْ».

و فرقة لم يجاهروا بنبذها، و لكن نبذوا لجهلهم بها. و هم الأكثرون.

و فرقة تمسّكوا بها ظاهرا، و نبذوها حقيقة، عالمين بالحال بغيا و عنادا. و هم المتجاهلون.

وَ اتَّبَعُوا ما تَتْلُوا الشَّياطِينُ عطف على «نبذ» أي: هذا الفريق المذكور من اليهود نبذوا كتاب اللّه، و اتّبعوا كتب السحر الّتي تقرؤها أو تتبعها الشياطين من الجنّ أو الإنس أو منهما عَلى مُلْكِ سُلَيْمانَ أي: على عهد ملكه، أو في زمان ملكه، على أن يكون «على» بمعنى «في» و «تتلوا» حكاية حال ماضية.

قيل: يسترقون

السمع، و يضمّون إلى ما سمعوا أكاذيب و يلقونها إلى الكهنة، و هم يدوّنونها و يعلّمون الناس. و فشا ذلك في عهد سليمان حتى قيل: إنّ الجنّ يعلمون الغيب، و إنّ هذا علم سليمان، و ملك سليمان، تمّ بهذا العلم، و إنّه تسخّر به الإنس و الجنّ و الريح له.

و عن السدّي أنّ سليمان عليه السّلام كان قد جمع كتب السحرة و وضعها في خزانته، قيل: كتمها تحت كرسيّه لئلّا يطّلع عليها الناس و لا يعلموا بها، فلمّا مات سليمان عليه السّلام استخرجت السحرة تلك الكتب و قالوا: إنّما تمّ ملك سليمان بالسحر، و به سخّر الإنس و الجنّ و الطير، و زيّنوا السحر في أعين الناس بالنسبة إلى سليمان، و شاع ذلك في اليهود، و قبلوه لعداوتهم لسليمان.

وَ ما كَفَرَ سُلَيْمانُ هذا تكذيب للشياطين، و دفع لما افتروا عليه من العمل بالسحر. عبّر عن السحر بالكفر ليدلّ على أنّه كفر، و أنّ من كان نبيّا كان معصوما

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 202

عنه وَ لكِنَّ الشَّياطِينَ كَفَرُوا باستعمال السحر و تدوينه في الكتب. و قرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي: و لكن بالتخفيف و رفع الشياطين يُعَلِّمُونَ النَّاسَ السِّحْرَ إغواء و إضلالا. و الجملة حال عن الضمير.

قال التفتازاني: علم السحر هو مزاولة النفوس الخبيثة لأفعال و أقوال يترتّب عليها أمور خارقة للعادة «1».

و قال البيضاوي: «السحر ما يستعان في تحصيله بالتقرّب إلى الشيطان ممّا لا يستقلّ به الإنسان، و ذلك لا يستتبّ- أي: لا يتمّ- إلا لمن يناسبه في الشرارة و خبث النفس، فإنّ التناسب شرط في التضامّ و التعاون، و بهذا يميّز الساحر عن النبيّ و الوليّ» «2» انتهى كلامه.

و ما يفعله أصحاب الحيل

بمعونة الآلات و الأدوية، أو بخفّة اليد في تقليب الأشياء، و خفّة الأعمال، نحو المشي على الأرسان «3» و اللعب بالمهاريق و اللحاق، فهو شبيه بالسحر، و تسمّى بالشعبدة، منسوبة إلى رجل اسمه شعباد، و هو معرّب، و أصله خفّة اليد في تقليب الأشياء، و خفّة الأعمال، و لا يكون سحرا حقيقيّا، و كلّها حرام عند علمائنا.

و قال في المجمع: «إنّ السحر خدع و تمويهات لا حقيقة لها، يخيّل أنّ لها حقيقة. و قيل: إنّه يمكن الساحر أن يقلّب الإنسان حمارا، و يقلّبه من صورة إلى صورة، و ينشئ الحيوان على وجه الاختراع. و هذا باطل، و من صدّق به فهو لا يعرف النبوّة، و لا يأمن من أن تكون معجزات الأنبياء من هذا النوع. و لو أنّ الساحر قدر على نفع أو ضرّ و علم الغيب، لقدر على إزالة الممالك و استخراج الكنوز من

______________________________

(1) شرح المقاصد 5: 79.

(2) أنوار التنزيل 1: 175.

(3) جمع الرسن، و هو الحبل المعروف.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 203

معادنها، و الغلبة على البلدان بقتل الملوك من غير أن ينالهم مكروه و ضرر، فلمّا رأيناهم أسوء الناس حالا، و أكثرهم مكيدة و احتيالا، علمنا أنّهم لا يقدرون على شي ء من ذلك. فأمّا ما روي من الأخبار أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم سحر، فكان يرى أنّه فعل ما لم يفعله، أو أنّه لم يفعل ما فعله، فأخبار مفتعلة لا يلتفت إليها، و قد قال اللّه تعالى حكاية عن الكفّار: إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً «1»، فلو كان السحر عمل فيه صلّى اللّه عليه و آله و سلم لكان الكفّار صادقين في مقالهم، و حاشا النبيّ صلّى اللّه عليه

و آله و سلم من كلّ صفة نقص تنفّر عن قبول قوله، فإنّه حجّة اللّه على خليقته، و صفوته على بريّته» «2».

وَ ما أُنْزِلَ عَلَى الْمَلَكَيْنِ إمّا عطف على «ما تتلوا» أي: و اتّبعوا ما أنزل على الملكين، أو على «السحر» أي: يعلّمون الناس ما أنزل على الملكين. و المراد بهما واحد، و العطف لتغاير الاعتبار، فإنّ اعتبار السحر الّذي أنزل على الملكين غير اعتبار السحر الّذي يعلّمه الناس، أو لأنّ الثاني أقوى من الأوّل.

و هما ملكان أنزلا لتعليم السحر، تمييزا بينه و بين المعجزة، فإنّ السحر كان كثيرا في ذلك الوقت، و ابتلاء من اللّه تعالى للناس، فمن تعلّمه منهما و عمل به كان كافرا، و من تجنّبه أو تعلّمه لأن لا يعمل به و لكن ليتوقّاه كان مؤمنا. و نعم ما قيل:

عرفت الشرّ لا للشرّ لكن لتوقّيه و من لم يعرف الشرّ من الخير يقع فيه

كما ابتلى قوم طالوت بالنهر فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي «3».

و ما روي أنّهما طعنا في بني آدم لكثرة عصيانهم، و زكّيا أنفسهما بالعصمة و الطهارة، و افتخرا عليهم، فلأجل هذا افتتنا فمثلا بشرين، و ركب فيهما الشهوة،

______________________________

(1) الإسراء: 47، الفرقان: 8.

(2) مجمع البيان 1: 177.

(3) البقرة: 249.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 204

فتعرّضا لامرأة يقال لها زهرة، فحملتهما على المعاصي و الشرك، ثمّ صعدت إلى السماء بما تعلّمت منهما، فمحكيّ عن اليهود، و بطلانه لا يخفى على من قال بعصمة الملائكة.

و قيل: رجلان سمّيا ملكين باعتبار صلاحهما.

و حكي عن ابن عبّاس أنّ «ما أنزل» نفي معطوف على «ما كفر» تكذيب لليهود في هذه القصّة.

و قوله: بِبابِلَ ظرف أو حال من «الملكين»، أو الضمير

في «أنزل».

و المشهور أنّه بلد من نواحي الكوفة هارُوتَ وَ مارُوتَ عطف بيان للملكين. و منع صرفهما للعجمة و العلميّة، و لو كانا من الهرت و المرت- بمعنى الكسر- لانصرفا.

و من جعل «ما» نافية أبدلهما من الشياطين بدل البعض، و ما بينهما اعتراض.

و في هذا التأويل يكون هاروت و ماروت رجلين من جملة الناس أو الجنّ، و يكون الملكان اللذان نفي عنهما السحر جبرئيل و ميكائيل عليهما السّلام، فإنّ سحرة اليهود كانت تدّعي أنّ اللّه أنزل السحر على لسان جبرئيل و ميكائيل على سليمان، فأكذبهم تعالى في ذلك.

و على الوجه الأوّل قوله: وَ ما يُعَلِّمانِ مِنْ أَحَدٍ حَتَّى يَقُولا إِنَّما نَحْنُ فِتْنَةٌ معناه: ما يعلّمان أحدا حتى ينصحاه و يقولا له: إنّما نحن اختبار و ابتلاء من اللّه، فمن تعلّم منّا و عمل به كفر، و من تعلّم و توقّى عمله ثبت على الإيمان فَلا تَكْفُرْ باعتقاد جوازه و العمل به.

و على الوجه الثاني معناه: ما يعلّمانه حتى يقولا: إنّا مفتونان فلا تكن مثلنا.

فَيَتَعَلَّمُونَ مِنْهُما الضمير لما دلّ عليه «من أحد» فإنّ النكرة في سياق النفي تفيد العموم، أي: فيتعلّم الناس من هاروت و ماروت ما يُفَرِّقُونَ بِهِ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ زَوْجِهِ أي: من علم السحر الّذي يكون سببا للتفريق بين الزوجين من حيلة

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 205

و تمويه، كالنفث في العقد، و نحو ذلك ممّا لا يكون له حقيقة في الوجود، بل محض التخيّل و التمويه، فيحدث بينهما عند سماعهما أو أبصارهما صنعة هذه الحيل النشوز و الخلاف، لا أنّ السحر له أثر في نفسه، بدليل قوله: وَ ما هُمْ بِضارِّينَ بِهِ مِنْ أَحَدٍ أي: لا يلحقون بغيرهم ضررا إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي: بمشيئته،

لأنّه ربّما يحدث اللّه عنده فعلا من أفعاله ابتلاء منه، و ربّما لم يحدث، أو: إلّا بعلمه، فيكون على وجه التهديد.

وَ يَتَعَلَّمُونَ ما يَضُرُّهُمْ لأنّهم يقصدون به العمل، أو لأنّ العلم يجرّ إلى العمل غالبا وَ لا يَنْفَعُهُمْ إذ مجرّد العلم به غير مقصود، و لا نافع في الدارين.

وَ لَقَدْ عَلِمُوا أي: اليهود لَمَنِ اشْتَراهُ أي: استبدل ما تتلوا الشياطين بكتاب اللّه تعالى. و اللام موطّئة للقسم. و الأظهر أنّها لام الابتداء علّقت «علموا» عن العمل. ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ من نصيب وَ لَبِئْسَ ما شَرَوْا بِهِ أَنْفُسَهُمْ ما باعوا به حظّ أنفسهم، حيث اختاروا التكسّب بالسحر، أو اشتروها به على ما مرّ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ

إنّما نفى العلم عنهم مع إثباته أوّلا على سبيل التوكيد القسمي، لأنّ معناه: لو كانوا يعملون بعلمهم، فجعلهم حين لم يعملوا به كأنّهم منسلخون عن العلم. أو الّذين علموا هم الشياطين. أو الّذين خبّر عنهم بأنّهم نبذوا كتاب اللّه وراء ظهورهم و الّذين لم يعلموا هم الّذين تعلّموا السحر. أو الأوّل العلم الإجمالي بقبح العمل أو ترتّب العقاب من غير تفصيل، و الثاني هو العلم التفصيلي بالقبح و العقاب الأليم و العذاب العظيم.

وَ لَوْ أَنَّهُمْ آمَنُوا بالرسول و الكتاب وَ اتَّقَوْا و اتّقوا اللّه بترك المعاصي، كنبذ كتاب اللّه تعالى، و اتّباع السحر و كتب الشياطين لَمَثُوبَةٌ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ خَيْرٌ هذا جواب «لو». و أصله: لأثيبوا مثوبة من اللّه خيرا ممّا شروا به أنفسهم، فحذف الفعل،

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 206

و ركّب الباقي جملة اسميّة لتدلّ على ثبات المثوبة و الجزم بخيريّتها. و حذف المفضّل عليه إجلالا للمفضّل من أن ينسب إليه. و تنكير المثوبة، لأنّ المعنى:

لشي ء من الثواب خير.

و قيل: «لو» للتمنّي، كأنّه قيل: و ليتهم آمنوا، ثمّ ابتدأ بقوله: «لمثوبة».

و إنّما سمّي الجزاء ثوابا أو مثوبة لأنّ المحسن يثوب إليه، أي: يرجع.

لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ أنّ ثواب اللّه خير ممّا هم فيه، و قد علموا، و لكنّ اللّه سبحانه جهّلهم، لتركهم التدبّر أو العمل بالعلم.

[سورة البقرة (2): الآيات 104 الى 105]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَ قُولُوا انْظُرْنا وَ اسْمَعُوا وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ لا الْمُشْرِكِينَ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ اللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (105)

و لمّا شرح اللّه تعالى قبائح السّلف من اليهود شرع في قبائح المعاصرين منهم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم، و جدّهم و اجتهادهم في الطعن و القدح في دينه، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقُولُوا راعِنا وَ قُولُوا انْظُرْنا.

الرعي حفظ الغير لمصلحته. و كان المسلمون يقولون للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم إذا ألقى إليهم شيئا من العلم: راعنا، أي: راقبنا و تأنّ بنا فيما تلقّننا حتى نفهمه و نحفظه، و سمع ذلك اليهود فافترصوه و خاطبوه به مريدين نسبته إلى الرعن و هو الحمق، أو سبّه بالكلمة العبرانيّة الّتي كانوا يتسابّون بها، و هي: راعينا، فنهي المؤمنون عنها، و أمروا بما يفيد تلك الفائدة، و لا يقبل التلبّس، و هو: انظرنا، بمعنى:

انظر إلينا، فحذف حرف الجرّ، أو بمعنى: انتظرنا، من «نظره» إذا انتظره.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 207

وَ اسْمَعُوا و أحسنوا الاستماع بآذان واعية و أذهان حاضرة، حتى لا تحتاجوا إلى الاستعادة و طلب المراعاة. أو و اسمعوا سماع قبول، لا كسماع اليهود

حيث قالوا: سمعنا و عصينا. أو و اسمعوا ما أمرتم به بجدّ حتى لا تعودوا إلى ما نهيتم عنه.

وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ يعني: للّذين سبّوا رسول اللّه عذاب مؤلم موجع.

روي أنّ طائفة من اليهود كانوا يظهرون مودّة المؤمنين، و يزعمون أنّهم يودّون لهم الخير، فنزلت: ما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ لَا الْمُشْرِكِينَ أي:

و لا يودّ الّذين كفروا من المشركين. و الودّ محبّة الشي ء مع تمنّيه، و لذلك يستعمل في كلّ منهما. و «من» للتبيين، لأنّ الّذين كفروا جنس تحته نوعان: أهل الكتاب و المشركون، كقوله تعالى: لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ «1» أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْكُمْ مِنْ خَيْرٍ مِنْ رَبِّكُمْ مفعول «يودّ». و «من» الأولى مزيدة للاستغراق، و الثانية للابتداء. و فسّر الخير بالوحي، و كذلك الرحمة، كقوله: أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ «2».

و المعنى:

أنّ اليهود و المشركين يرون أنفسهم أحقّ بالوحي، فيحسدونكم به، و ما يحبّون أن ينزّل عليكم شي ء من الوحي، و بالعلم و النصرة. و يحتمل أن يكون المراد به ما يعمّ ذلك. و الأوّل مرويّ عن أمير المؤمنين عليه السّلام، و عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام.

وَ اللَّهُ يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ بالنبوّة مَنْ يَشاءُ و لا يشاء إلّا ما تقتضيه الحكمة فيستنبئه و يعلّمه الحكمة و ينصره.

وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ إشعار بأن إيتاء النبوّة من الفضل العظيم، كقوله:

______________________________

(1) البيّنة: 1.

(2) الزخرف: 32.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 208

إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً «1»، و أنّ حرمان بعض عباده عن الاستنباء ليس لضيق فضله، بل لمشيئته على وفق اقتضاء المصلحة. و الحكمة فيه: أنّ كلّ خير نال عباده في دينهم أو دنياهم فإنّه من عنده، ابتداء منه إليهم،

و تفضّلا عليهم، من غير استحقاق منهم لذلك عليه.

[سورة البقرة (2): آية 106]

ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها أَوْ مِثْلِها أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (106)

روي أنّهم طعنوا في النسخ، فقالوا: ألا ترون إلى محمد يأمر أصحابه بأمر ثمّ ينهاهم عنه و يأمرهم بخلافه، و يقول اليوم قولا و يرجع عنه غدا؟! فنزلت: ما نَنْسَخْ مِنْ آيَةٍ أَوْ نُنْسِها.

النسخ في اللغة بمعنى إزالة الصّورة عن الشي ء و إثبات غيرها فيه، كنسخ الظلّ للشمس، ثمّ استعمل لكلّ إزالة و نقل، كقولك: نسخت الرّيح الأثر أي: أزالته، و نسخت الكتاب أي: نقلته، و منه التناسخ. و نسخ الآية بيان انتهاء التعبّد بقراءتها، أو الحكم المستفاد منها، أو بهما جميعا. و إنساؤها إذهابها عن القلوب، و مثله قوله تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ «2» أي: إلّا ما شاء اللّه أن تنساه.

و «ما» شرطيّة جازمة ل «ننسخ»، منتصبة به على المفعوليّة.

و قرأ ابن عامر: ننسخ، من «أنسخ» أي: نأمرك بنسخها. و ابن كثير و أبو عمرو: ننسأها، أي: نؤخّرها من النّسا.

و المعنى: أنّ كلّ آية نذهب بها على ما توجبه الحكمة و تقتضيه المصلحة،

______________________________

(1) الإسراء: 87.

(2) الأعلى: 6- 7.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 209

من إزالة لفظها و حكمها معا، أو من إزالة أحدهما، إلى بدل أو لا إلى بدل نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها بما هو خير للعباد في النفع و الثواب سهولة و صعوبة أَوْ مِثْلِها فيهما.

و قرأ أبو عمرو بقلب الهمزة ألفا، و ننسخها، يعني: نأمر جبرئيل بإعلامك.

أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فيقدر على النسخ و الإتيان بمثل المنسوخ أو بما هو خير منه.

و الآية دلّت على جواز النسخ

و تأخير الإنزال، إذ الأصل اختصاص «أنّ» و ما يتضمّنها- ك «من» و «ما» و غيرهما- بالأمور المحتملة، و ذلك لأنّ الأحكام شرعت و الآيات نزلت لمصالح العباد و تكميل نفوسهم، فضلا من اللّه و رحمة، و ذلك يختلف باختلاف الأعصار و الأشخاص، كأسباب المعاش، فإنّ النافع في عصر قد يضرّ في غيره.

و احتجّ بها من منع النسخ بلا بدل، أو بدل أثقل، و نسخ الكتاب بالسنّة، فإنّ الناسخ هو المأتيّ به بدلا، و السنّة ليست كذلك.

و الكلّ ضعيف، إذ قد يكون عدم الحكم أو الأثقل أصلح و أنفع. و السنّة ما أتى به اللّه تعالى و أمر به. و ليس المراد بالخير و المثل ما يكون كذلك في اللفظ، فإنّه قد يكون خيرا و مثلا في المصلحة و الأجر.

[سورة البقرة (2): الآيات 107 الى 108]

أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (107) أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (108)

و لمّا بيّن لهم أنّه مالك أمورهم و مدبّرها على حسب مصالحهم، من نسخ الآيات و غيره، قرّر على ذلك بقوله: أَ لَمْ تَعْلَمْ الخطاب للنبيّ، و المراد هو

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 210

و أمّته، لقوله: وَ ما لَكُمْ و إنّما أفرده لأنّه أعلمهم و مبدأ علمهم أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يفعل ما يشاء، و يحكم ما يريد، فهو يملك تدبيركم، و يجريه على حسب مصالحكم، و هو أعلم بما يتعبّدكم به من ناسخ و منسوخ. فهو كالدليل على قوله: أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ و على جواز النسخ، و لذلك

ترك العاطف.

وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: سواه مِنْ وَلِيٍ يقوم بأمركم وَ لا نَصِيرٍ أي: ناصر ينصركم بما يكون صلاحا لكم. و الفرق بين الوليّ و النصير: أنّ الوليّ قد يضعف عن النصرة، و النصير قد يكون أجنبيّا عن المنصور.

أَمْ تُرِيدُونَ أَنْ تَسْئَلُوا رَسُولَكُمْ كَما سُئِلَ مُوسى مِنْ قَبْلُ كقول اليهود له:

أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً «1» و غير ذلك. «أم» معادلة للهمزة في أَ لَمْ تَعْلَمْ أي: ألم تعلموا أنّه مالك الأمور، قادر على الأشياء كلّها، يأمر و ينهى كما أراد، أم تعلمون و تقترحون بالسؤال كما اقترحت اليهود على موسى عليه السّلام. أو منقطعة، و المراد: بل يوصيهم بالثقة فيما أصلح لهم ممّا يتعبّدهم، و ترك الاقتراح عليه كما اقترحت اليهود على موسى، من الأشياء الّتي عقباها وبال عليهم.

و

في المجمع: «عن ابن عبّاس أنّه قال: إنّ رافع بن حرملة و وهب بن زيد قالا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: ائتنا بكتاب تنزله علينا من السّماء جهارا نقرؤه، و فجّر لنا أنهارا نتّبعك و نصدّقك، فنزلت هذه الآية» «2».

و قيل: في المشركين لمّا قالوا: وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ «3».

وَ مَنْ يَتَبَدَّلِ الْكُفْرَ بِالْإِيمانِ و من ترك الثقة بالآيات البيّنة و شكّ فيها و اقترح غيرها فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أي: ذهب عن قصد الطريق المستقيم حتى وقع

______________________________

(1) النساء: 153.

(2) مجمع البيان 1: 183.

(3) الإسراء: 93.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 211

في الكفر بعد الإيمان. و معنى الآية: لا تقترحوا فتضلّوا وسط السّبيل، و يؤدّي بكم الضلال إلى البعد عن المقصد، و تبديل الكفر بالإيمان.

[سورة البقرة (2): الآيات 109 الى 110]

وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً حَسَداً

مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُّ فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (109) وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (110)

روي أنّ فنحاص بن عازوراء و زيد بن قيس و نفرا من اليهود- كحييّ بن أخطب، و كعب بن الأشرف، و أضرابهما- قالوا لحذيفة بن اليمان و عمّار بن ياسر بعد وقعة أحد: ألم تروا ما أصابكم؟ و لو كنتم على الحقّ ما هزمتم، فارجعوا إلى ديننا فهو خير لكم و أفضل، و نحن أهدى منكم سبيلا.

فقال عمّار: كيف نقض العهد فيكم؟

قالوا: شديد.

قال: فإنّي قد عاهدت أن لا أكفر بمحمد ما عشت.

فقالت اليهود: أما هذا فقد صبأ.

و قال حذيفة: و أمّا أنا فقد رضيت باللّه ربّا، و بمحمد نبيّا، و بالإسلام دينا، و بالقرآن إماما، و بالكعبة قبلة، و بالمؤمنين إخوانا.

ثم أتيا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم و أخبراه، فقال: أصبتما خيرا و أفلحتما، فنزلت.

وَدَّ أي: تمنّى كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني: أحبارهم، كفنحاص، و زيد بن قيس، و حييّ بن أخطب، و كعب بن الأشرف، و أمثالهم لَوْ يَرُدُّونَكُمْ أي: أن

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 212

يردّوكم يا معشر المؤمنين، أي: يرجعوكم، فإنّ «لو» تنوب عن «أن» في المعنى و هو التوقّع، دون اللفظ و هو العمل مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً مرتدّين، و هو حال من ضمير المخاطبين. و إنّما قال: «كثير» لأنّه إنّما آمن منهم القليل، كعبد اللّه بن سلام و كعب الأحبار.

حَسَداً علّة «ودّ». و قوله: مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ يجوز أن يتعلّق ب «ودّ»، أي: تمنّوا

ذلك من قبل أنفسهم و تشهّيهم، لا من قبل التديّن و الميل مع الحقّ، لأنّهم ودّوا ذلك مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْحَقُ أي: من بعد ما ظهر لهم أنّكم على الحقّ بالمعجزات و النعوت المذكورة في التوراة، فكيف يكون تمنّيهم من قبل الحقّ؟! أو ب «حسدا» «1» أي: حسدا منبعثا من أصل نفوسهم، فيكون على طريق التوكيد.

فَاعْفُوا وَ اصْفَحُوا العفو ترك عقوبة المذنب، و الصفح ترك تثريبه، أي:

فاسلكوا معهم سبيل العفو و الصفح عمّا يكون منهم من الجهل و العداوة حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ الّذي هو الإذن في قتالهم، أو قتل بني قريظة، و إجلاء بني النضير، و إذلال من سواهم من اليهود بضرب الجزية عليهم.

حكي عن ابن عباس «2» أنّه منسوخ بآية السيف «3». و فيه نظر، إذ الأمر غير مطلق؛ بل مقيّد بغاية.

إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فهو يقدر على الانتقام منهم.

و لمّا أمر سبحانه بالصفح عنهم حتى يأمرهم بالقتال، عقّبه بالأمر بالصلاة و الزكاة، ليستعينوا بهما على ما شقّ عليهم من شدّة عداوة اليهود لهم، كما قال:

______________________________

(1) يعني: يجوز أن يتعلّق قوله تعالى: مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِهِمْ بقوله تعالى: حَسَداً.

(2) حكاه عنه الشيخ في التبيان 1: 407.

(3) التوبة: 5، 29.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 213

وَ اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ «1»، فقال: وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ عطفا على «فاعفوا». فأمرهم بالصبر و المخالفة و اللجأ إلى اللّه عزّ و جلّ بالعبادة و البرّ.

وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ كصلاة أو صدقة و غيرهما من الطاعات تَجِدُوهُ أي: ثوابه عِنْدَ اللَّهِ و في هذا دلالة على أنّ ثواب الخيرات و الطاعات لا يضيع و لا يحبط و لا يبطل، لأنّه إذا أحبط

لا يجدونه. إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ عالم لا يضيع عنده عمل عامل.

[سورة البقرة (2): الآيات 111 الى 112]

وَ قالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلاَّ مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (111) بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ فَلَهُ أَجْرُهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (112)

ثمّ حكى اللّه سبحانه نبذا من أقوال اليهود و النصارى و دعاويهم الباطلة، فقال عطفا على قوله: وَ قالُوا لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى المراد به:

و قالت اليهود: لن يدخل الجنّة إلّا من كان هودا، و قالت النصارى: لن يدخل الجنّة إلّا من كان نصارى، فلفّ بين القولين، ثقة بأنّ السامع يردّ إلى كلّ فريق قوله، و أمنا من الالتباس، لما علم من الخلاف بين الفريقين، و تضليل كلّ واحد منهما لصاحبه.

و نحوه قوله: وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى «2».

و الهود: جمع الهائد، كعائذ و عوذ، بمعنى التائب. يقال: هاد يهود هودا، إذا تاب و رجع إلى الحقّ. و توحيد الاسم المضمر في «كان» و جمع الخبر لاعتبار اللفظ و المعنى.

______________________________

(1) البقرة: 45.

(2) البقرة: 135.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 214

تِلْكَ أَمانِيُّهُمْ إشارة إلى الأمانيّ المذكورة، و هي: أن لا ينزل على المؤمنين خير من ربّهم، و أن يردّوهم كفّارا، و أن لا يدخل الجنّة غيرهم، أي: تلك الأمانيّ الكاذبة أمانيّهم. و الجملة اعتراض. و الأمنيّة أفعولة من التمنّي، كالأضحوكة و الأعجوبة.

قُلْ هاتُوا هلمّوا أحضروا بُرْهانَكُمْ حجّتكم البيّنة على اختصاصكم بدخول الجنّة إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم، فإنّ كلّ قول لا دليل عليه غير ثابت، بل باطل. و ليس هذا بأمر، بل هو تعجيز و إنكار، بمعنى أنّه إذا

لم يمكنكم الإتيان ببرهان يصحّح مقالتكم فاعلموا أنّه باطل فاسد.

و في هذه الآية دلالة على فساد التقليد، ألا ترى أنّه لو جاز التقليد لما أمروا بأن يأتوا فيما قالوه ببرهان. و فيها أيضا دلالة على جواز المحاجّة في الدين.

بَلى إثبات لما نفوه من دخول غيرهم الجنّة مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ أخلص له نفسه، بأن لا يشرك به غيره، أو قصده. و قيل: وجّه وجهه لطاعة اللّه.

و قيل: فوّض أمره إلى اللّه. و قيل: استسلم لأمر اللّه، و خضع و تواضع للّه، لأنّ أصل الإسلام الخضوع و الانقياد. و أصله «1» العضو المخصوص المعلوم، تسمية باسم أشرف أعضاء النفس وَ هُوَ مُحْسِنٌ في عمله فَلَهُ أَجْرُهُ الّذي وعد له على عمله عِنْدَ رَبِّهِ ثابتا عنده لا يضيع و لا ينقص.

و الجملة جواب «من» إن كانت شرطيّة، و خبرها إن كانت موصولة. و الفاء فيها لتضمّنها معنى الشرط، فيكون الردّ بقوله: «بلى» وحده. و يحسن الوقف عليه.

و يجوز أن يكون «مَنْ أَسْلَمَ» فاعل فعل مقدّر، مثل: بلى يدخلها من أسلم،

______________________________

(1) يعني: و أصل التسليم و الانقياد الخضوع للّه تعالى بالوجه، و هو أشرف أعضاء النفس، فسمّي تسليم النفس باسم أشرف أعضائها.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 215

و يكون «فَلَهُ أَجْرُهُ» معطوفا على «بَلى مَنْ أَسْلَمَ».

وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ في الآخرة.

[سورة البقرة (2): آية 113]

وَ قالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْ ءٍ وَ قالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْ ءٍ وَ هُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ مِثْلَ قَوْلِهِمْ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (113)

روي أنّ وفد نجران لمّا قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم أتاهم أحبار اليهود، فتناظروا حتى

ارتفعت أصواتهم، فقالت اليهود: ما أنتم على شي ء من الدين، و كفروا بعيسى و الإنجيل، و قالت النصارى لهم نحوه، و كفروا بموسى و التوراة، فنزلت: وَ قالَتِ الْيَهُودُ لَيْسَتِ النَّصارى عَلى شَيْ ءٍ أي: أمر يصحّ و يعتدّ به من الدّين وَ قالَتِ النَّصارى لَيْسَتِ الْيَهُودُ عَلى شَيْ ءٍ وَ هُمْ يَتْلُونَ الْكِتابَ الواو للحال، و الكتاب للجنس، أي: قالوا ذلك و حالهم أنّهم من أهل العلم و الكتاب و التلاوة.

كَذلِكَ مثل ذلك الّذي سمعت قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ كعبدة الأصنام و المعطّلة مِثْلَ قَوْلِهِمْ هذا تفسير لقوله: «كذلك» و المعنى: أنّهم يقولون: كلّ أهل دين ليسوا على شي ء. وبّخهم اللّه على المكابرة و التشبّه بالجهّال، و نظمهم أنفسهم في سلك من لا يعلم.

و لمّا قصد بهذا القول كلّ فريق إبطال دين الآخر من أصله، و الكفر بنبيّه و كتابه، مع أنّ ما لم ينسخ منهما حقّ واجب القبول و العمل به، فلا يرد: أنّهم صدقوا في هذا القول، لأنّ كلا الدينين بعد النسخ ليس بشي ء، فكيف وبّخهم اللّه به؟

فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ بين الفريقين يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ بما يقسم لكلّ فريق ما يليق به من العقاب. و قيل: حكمه بينهم أن يكذّبهم و يدخلهم النّار.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 216

[سورة البقرة (2): الآيات 114 الى 115]

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ وَ سَعى فِي خَرابِها أُولئِكَ ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلاَّ خائِفِينَ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (114) وَ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ فَأَيْنَما تُوَلُّوا فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ عَلِيمٌ (115)

روي أنّ النصارى كانوا يطرحون في بيت المقدس الأذى، و يمنعون الناس أن يصلّوا فيه، و

أنّ الروم غزوا أهله فخرّبوه، و أحرقوا التوراة، و قتلوا و سبوا، و في شأنهم نزلت: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ ثاني مفعولي «منع»، تقول: منعته كذا. و مثله وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا «1». و يجوز أن يكون منصوبا بأنّه مفعول له، بمعنى: منعها كراهة أن يذكر. و هو حكم عامّ في جنس مساجد اللّه، و إن كان السبب خاصّا، كما تقول لمن آذى صالحا واحدا: و من أظلم ممّن آذى الصالحين.

وَ سَعى فِي خَرابِها بالهدم، أو بتعطيل مكان مرشّح للصلاة، بمنع دخول المؤمنين فيها.

و

روي عن الصّادق عليه السّلام أنّ المراد بذلك قريش حين منعوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم دخول مكّة و المسجد الحرام،

و به قال بعض «2» المفسّرين.

أُولئِكَ أي: المانعون ما كانَ لَهُمْ أَنْ يَدْخُلُوها إِلَّا خائِفِينَ ما كان ينبغي لهم أن يدخلوها إلا بخشية و خشوع، فضلا عن أن يجترءوا على تخريبها. أو ما كان

______________________________

(1) الإسراء: 94، الكهف: 55.

(2) كابن زيد، و البلخي، و الجبائي، و الرمّاني، راجع التبيان 1: 416.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 217

الحقّ أن يدخلوها إلا خائفين من المؤمنين أن يبطشوا بهم، فضلا عن أن يمنعوهم منها. أو ما كان لهم في علم اللّه تعالى و قضائه، فيكون وعدا للمؤمنين بالنصرة و استخلاص المساجد منهم، و قد أنجز وعده.

و قيل: معناه النهي عن تمكينهم من الدخول في مسجد من المساجد. و هو مذهب الإماميّة.

فقد روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم أمر أن ينادي: ألا لا يحجّنّ بعد هذا العام- يعني: عام الحديبية- مشرك، و لا يطوفنّ بالبيت عريان.

و جوّزه أبو حنيفة، و

منع مالك، و فرّق الشافعي بين المسجد الحرام و غيره. و الحقّ الأوّل، لإجماع أهل الحقّ على المنع.

لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ قتل و سبي، أو ذلّة بضرب الجزية عليهم وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ في نار جهنّم بكفرهم و ظلمهم.

وَ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ يريد بهما ناحيتي الأرض، أي: له الأرض كلّها لا يختصّ به مكان دون مكان، فإن منعتم أن تصلّوا في المسجد الحرام أو الأقصى فقد جعلت لكم الأرض مسجدا فَأَيْنَما تُوَلُّوا ففي أيّ مكان فعلتم التولية شطر القبلة فَثَمَّ وَجْهُ اللَّهِ أي: جهته الّتي أمر بها، فإنّ إمكان التولية لا يختصّ بمسجد أو مكان. أو فثمّ ذاته، أي: عالم مطّلع بما يفعل فيه.

إِنَّ اللَّهَ واسِعٌ بإحاطته بالأشياء أو برحمته، يريد التوسعة على عباده و التيسير عليهم عَلِيمٌ بمصالحهم و أعمالهم في الأماكن كلّها.

و قيل: نزلت في صلاة التطوّع على الراحلة للمسافر أينما توجّهت، و أمّا الفرائض فقوله: وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ «1». يعني:

أنّ الفرائض لا تصلّيها إلّا إلى القبلة. و هو المرويّ عنهم عليهم السّلام.

قالوا: و صلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم إيماء على راحلته أينما توجّهت، حيث خرج إلى خيبر، و حين رجع من مكّة، و جعل

______________________________

(1) البقرة: 144 و 150.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 218

الكعبة خلف ظهره.

قيل: في قوم عميت عليهم القبلة في السفر فصلّوا إلى أنحاء مختلفة، فلمّا أصبحوا تبيّنوا خطأهم. و على هذا لو أخطأ المجتهد ثمّ تبيّن له الخطأ لم يلزمه التدارك.

و قيل: هي توطئة لنسخ القبلة، و تنزيه للمعبود أن يكون في حيّز وجهة، كما زعم المجسّمة.

[سورة البقرة (2): الآيات 116 الى 117]

وَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ

وَ الْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (116) بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (117)

روي أنّ اليهود قالوا: عزير ابن اللّه، و النصارى قالوا: المسيح ابن اللّه، و مشركو العرب قالوا: الملائكة بنات اللّه، فنزلت في شأنهم: وَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً معطوفا على قالَتِ الْيَهُودُ أو «منع». و قرأ ابن عامر بغير واو سُبْحانَهُ تنزيه و تبعيد له عن ذلك، فإنّه يقتضي التشبيه و الحاجة و سرعة الفناء، فردّ اللّه تعالى لما قالوه، و بيّن فساده بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ منقادون، لا يمتنعون عن مشيئته و تكوينه، و كلّ ما كان بهذه الصفة لم يجانس مكوّنه الواجب لذاته، فلا يكون له ولد، لأنّ من حقّ الولد أن يجانس والده.

و إنّما جاء ب «ما» الّذي لغير أولي العلم، و قال: «قانتون» على تغليب أولي العلم، تحقيرا لشأنهم.

و تنوين «كلّ» عوض عن المضاف إليه، أي: كلّ ما فيهما. و يجوز أن يراد: كلّ من جعلوه ولدا له مطيعون مقرّون بالعبوديّة، فيكون إلزاما بعد إقامة الحجّة.

و احتجّ بها الفقهاء على أنّ من ملك ولده عتق عليه، لأنّه تعالى نفي الولد

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 219

بإثبات الملك، و ذلك يقتضي تنافيهما.

فالآية مشعرة على فساد ما قالوه «1» من ثلاثة أوجه:

أحدها: قوله «سبحانه».

و الثاني: بَلْ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ

و الثالث: قوله: كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ

و لمّا نزّه سبحانه نفسه عن اتّخاذ الأولاد، و دلّ عليه بأنّ له ما في السموات و الأرض، أكّد ذلك بحجّة رابعة و قال: بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ من إضافة الصفة المشبّهة إلى فاعلها، أي: بديع سماواته و أرضه، من «بدع» فهو

بديع. و قيل: هو بمعنى المبدع، كما يجي ء السميع بمعنى، المسمع، أي: منشئ السّماوات و الأرض من غير سبق مثال.

و تقرير هذه الحجّة: أنّ الوالد عنصر الولد المنفصل بانفصال مادّته عنه، و اللّه سبحانه مبدع الأشياء كلّها، فاعل على الإطلاق، منزّه عن الانفعال، فلا يكون والدا.

و الإبداع اختراع الشي ء لا عن شي ء دفعة. و هو أليق بهذا الموضع من الصنع الّذي هو تركيب الصورة بالعنصر، و التكوين الّذي يكون بتغيير و في زمان غالبا.

وَ إِذا قَضى أَمْراً أي: أراد شيئا. و أصل القضاء إتمام الشي ء قولا، كقوله:

وَ قَضى رَبُّكَ «2»، أو فعلا كقوله: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ «3». و أطلق على تعلّق الإرادة الإلهيّة بوجود الشي ء من حيث إنّه يوجبه. فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ من «كان» التامّة، أي: أحدث فيحدث. و ليس المراد به حقيقة أمر و امتثال، بل تمثيل

______________________________

(1) أي: ما قالوه من اتّخاذ الولد.

(2) الإسراء: 23.

(3) فصّلت: 12.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 220

حصول ما تعلّقت به إرادته بلا مهلة، بطاعة المأمور المطيع بلا توقّف.

فالمعنى: أنّ ما قضاه من الأمور و أراد كونه يتكوّن و يدخل تحت الوجود من غير امتناع و لا توقّف، كالمأمور المطيع إذا أمر لا يتوقّف. أكّد بهذا استبعاد الولادة، لأنّ من كانت هذه صفته في كمال القدرة فحاله مبائنة لحال الأجسام في توالدها.

ففيه تقرير لمعنى الإبداع، و إيماء إلى حجّة خامسة، و هي: أنّ اتّخاذ الولد ممّا يكون بأطوار و مهلة، و فعله تعالى يستغني عن ذلك.

و قرأ ابن عامر بالنصب على «أن» المقدّر، و الباقون بالرفع على تقدير: فهو يكون.

و السبب في الضلالة أنّ أرباب الشرائع المتقدّمة كانوا يطلقون الأب على اللّه تعالى باعتبار أنّه السبب الأوّل، حتى

قالوا: إنّ الأب هو الربّ الأصغر، و اللّه سبحانه و تعالى هو الربّ الأكبر، ثمّ ظنّت الجهلة منهم أنّ المراد به معنى الولادة، فاعتقدوا ذلك تقليدا، و لذلك كفر قائله، و منع منه مطلقا، حسما لمادّة الفساد.

[سورة البقرة (2): الآيات 118 الى 121]

وَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِثْلَ قَوْلِهِمْ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (118) إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لا تُسْئَلُ عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ (119) وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (120) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (121)

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 221

و لمّا بيّن سبحانه حالهم في إنكارهم التوحيد، و إذعانهم عليه اتّخاذ الأولاد، عقّبه بذكر خلافهم في النبوّات، و سلوكهم في ذلك طريق التعنّت و العناد، فقال:

وَ قالَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ أي: جهلة المشركين. قيل: المتجاهلون من أهل الكتاب.

و نفي العلم عنهم، لأنّهم لم يعملوا به، فكأنّهم لا يعلمون لَوْ لا يُكَلِّمُنَا اللَّهُ هلّا يكلّمنا كما يكلّم الملائكة و كلّم موسى؟ أو يوحي إلينا بأنّك رسوله أَوْ تَأْتِينا آيَةٌ حجّة على صدقك. و الأوّل استكبار، و الثاني جحود أنّ ما آتاهم آيات اللّه، استهانة به و عنادا.

كَذلِكَ قالَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من الأمم الماضية مِثْلَ قَوْلِهِمْ حيث اقترحوا الآيات على موسى و عيسى فقالوا: أرنا اللّه جهرة، هل يستطيع ربّك أن ينزّل علينا مائدة من السماء؟ تَشابَهَتْ قُلُوبُهُمْ قلوب هؤلاء و من

قبلهم في العمى و العناد، كقوله: أَ تَواصَوْا بِهِ «1».

قَدْ بَيَّنَّا الْآياتِ يعني الحجج و المعجزات الّتي يعلم بها صحّة نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ أي: يستدلّون بها من الوجه الّذي يجب الاستدلال به، فأيقنوا أنّها آيات يجب الاعتراف بها، و الاكتفاء بوجودها عن غيرها. أو يوقنون الحقائق، لا يعتريهم شبهة و لا عناد. و فيه إشارة إلى أنّهم ما قالوا ذلك لخفاء في الآيات، أو لطلب مزيد يقين، و إنّما قالوه عتوّا و عنادا.

ثمّ بيّن تأييده نبيّه محمدا بالحجج، و بعثه بالحقّ، فقال: إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِ متلبّسا به، أو مؤيّدا به بَشِيراً من اتّبعك بالثواب الأبدي وَ نَذِيراً من خالفك بالعقاب السرمدي، فلا بأس عليك إن أصرّوا و كابروا، و لا يجب عليك أن تجبرهم على الإيمان. و في هذه تسلية له صلّى اللّه عليه و آله و سلم، لئلّا يضيق صدره بإصرارهم على الكفر.

______________________________

(1) الذاريات: 53.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 222

وَ لا تُسْئَلُ أي: لا نسألك عَنْ أَصْحابِ الْجَحِيمِ ما لهم لم يؤمنوا بعد أن بلّغت و بذلت جهدك في دعوتهم، كقوله: فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَ عَلَيْنَا الْحِسابُ «1».

و قرأ نافع و يعقوب: لا تسأل، على أنّه نهي عن السؤال عن حالهم، تعظيما لعقوبة الكفّار، كأنّها لفظاعتها لا تقدر أن تخبر عنها، أو السامع لا يصبر على استماع خبرها، بل يجزع غاية الجزع، فنهاه عن السؤال. و الجحيم: المتأجّج من النار.

و كأنّ اليهود قالوا: لن نرضى عنك و إن طلبت رضانا جهدك حتى تتّبع ملّتنا، فحكى اللّه كلامهم بقوله: وَ لَنْ تَرْضى عَنْكَ الْيَهُودُ وَ لَا النَّصارى حَتَّى تَتَّبِعَ مِلَّتَهُمْ مبالغة في إقناط الرسول عليه الصلاة و السلام

عن إسلامهم، فإنّهم إذا لم يرضوا عنه حتى يتّبع ملّتهم فكيف يتّبعون ملّته؟! قُلْ جوابا لهم عن قولهم إِنَّ هُدَى اللَّهِ يعني: إنّ هدى اللّه الّذي هو الإسلام هُوَ الْهُدى إلى الحقّ، و هو الّذي يصحّ أن يسمّى هدى، لا ما تدعون إليه.

وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ أي: آراءهم الزائغة و البدع المضلّة. و الفرق بين الملّة و الهوى: أنّ الملّة ما شرعه اللّه تعالى لعباده على لسان أنبيائه، من «أمللت الكتاب» إذا أمليته، و الهوى رأي يتبع الشهوة. يعني: لو اتّبعت شهواتهم المردية بَعْدَ الَّذِي جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أي: الوحي، أو الدين المعلوم صحّته بالدلائل و البراهين ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ يدفع عنك عقابه. و هو جواب «لئن».

و هذا على سبيل الفرض، لأنّه تعالى علم أنّ نبيّه لا يتّبع أهواءهم، فجرى مجرى قوله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ «2».

الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يريد: مؤمني أهل الكتاب، كعبد اللّه بن سلام،

______________________________

(1) الرعد: 40.

(2) الزمر: 65.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 223

و شعبة بن عمرو، و تمام بن يهودا، و أسد و أسيد ابني كعب، و ابن يامين، و ابن صوريا، و نظرائهم يَتْلُونَهُ حَقَّ تِلاوَتِهِ بمراعاة اللفظ عن تحريف صفة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم و حكم الرجم و غيرهما، و التدبّر في معناه، و العمل بمقتضاه. و هو حال مقدّرة، و الخبر ما بعده، أو خبر. و عن قتادة و عكرمة: المراد أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم، و الكتاب هو القرآن.

عن الصادق عليه السّلام: «حقّ تلاوته» هو الوقف عند ذكر الجنّة و النار، يسأل في الأولى، و يستعيذ في الأخرى.

أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ بكتابهم دون المحرّفين، أو

أولئك يؤمنون بالقرآن وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ أي: لأجل تحريفه و الكفر بما يصدّقه، أو لم يؤمن بالقرآن فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ حيث اشتروا الكفر بالإيمان.

[سورة البقرة (2): الآيات 122 الى 123]

يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (122) وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (123)

و لمّا صدّر قصّتهم بالأمر بذكر النعم، و القيام بحقوقها، و الحذر عن إضاعتها، و الخوف عن الساعة و أهوالها، ختم به الكلام أيضا، إبلاغا في التنبيه و الإحتجاج، و تأكيدا للتذكرة، و مبالغة في النصيحة، و قال: يا بَنِي إِسْرائِيلَ اذْكُرُوا نِعْمَتِيَ الَّتِي أَنْعَمْتُ عَلَيْكُمْ وَ أَنِّي فَضَّلْتُكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ وَ اتَّقُوا يَوْماً لا تَجْزِي نَفْسٌ عَنْ نَفْسٍ شَيْئاً وَ لا يُقْبَلُ مِنْها عَدْلٌ وَ لا تَنْفَعُها شَفاعَةٌ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ

فتكرار هذا الكلام يكون لمزيّة التنبيه، و مبالغة للتذكير. و تفسيره كما مضى.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 224

[سورة البقرة (2): آية 124]

وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ فَأَتَمَّهُنَّ قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ (124)

و بعد ذكر قصّة أهل الكتاب بيّن ملّة إبراهيم على نبيّنا و عليه السّلام، و خصاله الحميدة، و خلاله المرضيّة، ليتأسّوا به في الإسلام و قواعده، فإنّهم كانوا يعتقدون به و يعظّمونه، فقال: وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ كلّفه بأوامر و نواهي. و الابتلاء في الأصل التكليف بالأمر الشاقّ، من البلاء، لكنّه لمّا استلزم الاختبار بالنسبة إلى من يجهل العواقب ظنّ ترادفهما. و الضمير لإبراهيم، و حسن لتقدّمه لفظا و إن تأخّر رتبة، لأنّ الشرط أحد التقدّمين.

و الكلمات قد تطلق على المعاني، فلذلك فسّرت بالخصال الثلاثين المحمودة: عشر في براءة التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ «1» و عشر في الأحزاب إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِماتِ «2» إلى آخر الآيتين، و عشر

في المؤمنين «3»، و سَأَلَ سائِلٌ «4» إلى قوله: وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ

و بالعشر «5» الّتي هي من سننه، خمس في الرأس: الفرق، و قصّ الشارب، و السواك، و المضمضة، و الاستنشاق. و خمس في البدن: الختان، و الاستحداد «6»، و الاستنجاء، و تقليم الأظفار، و نتف الإبط. و بمناسك «7» الحجّ، و بالكواكب،

______________________________

(1) التوبة: 112.

(2) الأحزاب: 35.

(3) المؤمنون: 1- 10.

(4) أي: في السورة التي فيها سَأَلَ سائِلٌ و هي سورة المعارج: 22- 34.

(5) أي: و فسّرت الكلمات أيضا بالعشر التي ...

(6) في هامش الخطّية: «المراد به حلق العانة. منه».

(7) عطف على: و بالعشر، أي: و فسّرت الكلمات بمناسك ...

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 225

و القمرين، و ذبح الولد، و النار، و الهجرة «1».

فاللّه سبحانه عامله بها معاملة المختبر بهنّ، ليظهر حاله على العالمين، و يقتدوا به و بما تضمّنته الآيات الّتي بعدها، و بجميع الأخلاق الحسنة. فَأَتَمَّهُنَ أي: فقام بهنّ حقّ القيام، و أدّاهنّ حقّ التأدية، من غير تقصير و توان، لقوله تعالى:

وَ إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى «2».

روى الشيخ أبو جعفر بن بابويه في كتاب النبوّة بإسناده مرفوعا إلى المفضّل بن عمر، عن الصادق عليه السّلام، قال: سألته عن قول اللّه عزّ و جلّ: وَ إِذِ ابْتَلى إِبْراهِيمَ رَبُّهُ بِكَلِماتٍ ما هذه الكلمات؟

قال: هي الكلمات الّتي تلقّاها آدم من ربّه فتاب عليه، و هي أنّه قال: يا ربّ أسألك بحقّ محمد و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين إلا تبت عليّ، فتاب اللّه عليه، إنّه هو التوّاب الرحيم.

فقلت له: يا ابن رسول اللّه فما يعني بقوله: «فأتمّهنّ»؟

قال: أتمّهنّ إلى القائم اثني عشر إماما، تسعة من ولد الحسين عليه السّلام.

قال المفضّل: فقلت له:

يا ابن رسول اللّه فأخبرني عن قول اللّه عزّ و جلّ وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ «3»؟

قال: يعني بذلك الإمامة، جعلها اللّه في عقب الحسين إلى يوم القيامة.

فقلت: يا ابن رسول اللّه فكيف صارت الإمامة في ولد الحسين دون ولد الحسن، و هما جميعا ولدا رسول اللّه و سبطاه و سيّدا شباب أهل الجنّة.

فقال: إنّ موسى و هارون نبيّان مرسلان أخوان، فجعل اللّه النبوّة في صلب

______________________________

(1) في هامش الخطّية: «أي: من الكوفة إلى الشام. منه».

(2) النجم: 37.

(3) الزخرف: 28. زبدة التفاسير، ج 1، ص: 226

هارون دون صلب موسى، و لم يكن لأحد أن يقول: لم فعل اللّه ذلك، و إنّ الإمامة خلافة اللّه عزّ و جلّ، ليس لأحد أن يقول: لم جعلها اللّه في صلب الحسين دون صلب الحسن، لأنّ اللّه تعالى هو الحكيم في أفعاله، لا يسأل عمّا يفعل و هم يسألون.

قالَ إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً استئناف إن أضمرت ناصب «إذ»، و هو «اذكر» مثلا، كأنّه قيل: فما ذا قال له ربّه حين أتمّهنّ؟ فأجيب بذلك. أو بيان لقوله:

«ابتلى» فتكون الكلمات ما ذكره من الإمامة و تطهير البيت و رفع قواعده و الإسلام.

و إن نصبته ب «قال» فالمجموع جملة معطوفة على ما قبلها. و جاعل من «جعل» الّذي له مفعولان. و الإمام اسم لمن يؤتمّ به على زنة الإله، كالإزار لما يؤتزر به، أي: يأتمّون بك في دينهم، و إمامته عامّة، إذ لم يبعث بعده نبيّ إلا كان من ذرّيّته، مأمورا باتّباعه.

و قوله: قالَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي عطف على الكاف، كأنّه قال: و جاعل بعض ذرّيّتي، كما يقال لك: سأكرمك، فتقول: و زيدا. و الذرّيّة نسل الرجل، فعليّة أو فعّولة، قلبت راؤها الثالثة

ياء، كما «تقضّيت» في «تقضّضت»، من الذرّ بمعنى التفريق. أو فعّولة أو فعّيلة، قلبت همزتها ياء، من الذرء بمعنى الخلق.

و المعنى: قال إبراهيم بعد أن جعله اللّه إماما للناس ليأتمّوا به في دينهم، و يفوزوا بخير الدارين بتدبيره، و تنتظم أمورهم بسياسته: اجعل يا ربّ بعض ذرّيّتي إماما.

قالَ لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ أي: من كان ظالما من ذرّيّتك لا يناله استخلافي و عهدي إليه بالإمامة، و إنّما يناله من لا يفعل ظلما. فهذا الجواب إجابة إلى ملتمسه، و تنبيه على أنّه قد يكون من ذرّيّته ظلمة لنفسهم أو لغيرهم، و أنّهم لا ينالون الإمامة، لأنّها أمانة من اللّه تعالى و عهد، و الظالم لا يصلح لها، و إنّما ينالها البررة الأتقياء منهم.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 227

و قال في الكشّاف: «و عن ابن عيينة: لا يكون الظالم إماما قطّ، و كيف يجوز نصب الظالم للإمامة؟! و الإمام إنّما هو لكفّ الظلمة، فإذا نصب من كان ظالما في نفسه فقد جاء المثل السائر: من استرعى الذئب ظلم» «1» انتهى كلامه.

ففيه دليل على وجوب العصمة للإمام، سواء كان نبيّا أو من استخلفه للإمامة، قبل البعثة و النصب أو بعدهما. فالفاسق لا يصلح للإمامة، و كيف يصلح للإمامة من لا يجوز حكمه و شهادته، و لا تجب إطاعته، و لا يقبل خبره، و لا يقدّم للصلاة، و على جميع أهل الإسلام يجب أن ينهوه عمّا صدر منه من الأمور المستقبحة شرعا و عقلا، و يتنفّروا و يكرهوا عن أفعاله القبيحة؟! و على «2» أنّه يجوز أن يعطي ذلك بعض ولده إذا لم يكن ظالما، لأنّه لو لم يرد أن يجعل أحدا منهم إماما للناس لوجب أن يقال في الجواب:

لا، أو: لا ينال عهدي ذرّيّتك.

و قال صاحب المجمع: «استدلّ أصحابنا بهذه الآية على أنّ الإمام لا يكون إلّا معصوما عن القبائح، لأنّ اللّه سبحانه نفي أن ينال عهده- الّذي هو الإمامة- ظالم، و من ليس بمعصوم فقد يكون ظالما، إمّا لنفسه و إمّا لغيره.

فإن قيل: إنّما نفي أن يناله ظالم في حال ظلمه، فإذا تاب لا يسمّى ظالما، فيصحّ أن يناله.

فالجواب: أنّ الظالم و إن تاب فلا يخرج من أن تكون الآية قد تناولته في حال كونه ظالما، فإذا نفي أن يناله فقد حكم عليه بأنّه لا ينالها، و الآية مطلقة غير مقيّدة بوقت دون وقت، فيجب أن تكون محمولة على الأوقات كلّها، فلا ينالها الظالم و إن تاب فيما بعد» «3».

______________________________

(1) الكشّاف 1: 184.

(2) عطف على: ففيه دليل، أي: و فيه أيضا دليل على جواز إعطاء الإمامة لمن لم يكن ظالما من ولده.

(3) مجمع البيان 1: 202.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 228

[سورة البقرة (2): آية 125]

وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ مَثابَةً لِلنَّاسِ وَ أَمْناً وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْعاكِفِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ (125)

وَ إِذْ جَعَلْنَا الْبَيْتَ أي: الكعبة، غلّب عليها كالنجم على الثريّا مَثابَةً لِلنَّاسِ مرجع يثاب، أي: يرجع إليه كلّ عام، أي: يثوب إليه الحجّاج و العمّار. أو موضع ثواب يثابون بحجّه و اعتماره وَ أَمْناً أي: و موضع أمن لا يتعرّض لأهله، كقوله: حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ النَّاسُ مِنْ حَوْلِهِمْ «1». أو يأمن حاجّه من عذاب الآخرة، من حيث إنّ الحجّ يجبّ ما قبله، أو لا يتعرّض و لا يؤخذ الجاني الملتجئ إليه حتى يخرج، لكن يضيّق عليه في المطعم و المشرب و

البيع و الشراء حتى يخرج منه فيقام عليه، فإن أحدث فيه ما يوجب الحدّ أقيم عليه الحدّ فيه، لأنّه هتك حرمة الحرم. و كان قبل الإسلام يرى الرجل قاتل أبيه في الحرم فلا يتعرّض له، و هذا شي ء كانوا قد توارثوه من دين إسماعيل عليه السّلام، فبقوا عليه إلى أيّام نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلم.

و قوله: وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى على إرادة القول، أي: و قلنا اتّخذوا منه موضع صلاة تصلّون فيه. أو اعتراض معطوف على مضمر، تقديره:

ثوبوا إليه و اتّخذوا، على أنّ الخطاب لأمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم.

و مقام إبراهيم هو الموضع الّذي كان فيه الحجر الّذي فيه أثر قدمه حين قام عليه و دعا الناس إلى الحجّ، أو وضع قدمه عليه قبل بناء البيت، فظهر أثر قدمه فيه.

و هو الأصحّ، كما سيجي ء تفصيله. فأمر بالصلاة عنده بعد الطواف، كما

روى جابر أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم لمّا فرغ من طوافه عمد إلى مقام إبراهيم فصلّى خلفه ركعتين.

______________________________

(1) العنكبوت: 67.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 229

و قرأ نافع و ابن عامر: و اتّخذوا، بلفظ الماضي، عطفا على «جعلنا» أي:

و اتّخذ الناس المقام الموسوم بإبراهيم موضع الصلاة. و من قرأ «و اتّخذوا» على الأمر وقف على قوله: «و أمنا». و من قرأ: «اتّخذوا» على الخبر لم يقف، لأنّ قوله:

«و اتّخذوا» عطف على «جعلنا».

و

سئل الصادق عليه السّلام عن الرجل يطوف بالبيت طواف الفريضة، و نسي أن يصلّي ركعتين عند مقام إبراهيم عليه السّلام؟ فقال: يصلّيهما و لو بعد أيّام، إنّ اللّه تعالى قال:

وَ اتَّخِذُوا مِنْ مَقامِ إِبْراهِيمَ مُصَلًّى

و في المقام دلالة ظاهرة على نبوّة إبراهيم، فإنّ

اللّه تعالى جعل الحجر تحت قدمه كالطين، حتى دخلت قدمه فيه، فكان في ذلك معجزة له.

و

روي عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام قال: نزلت ثلاثة أحجار من الجنّة: مقام إبراهيم، و حجر بني إسرائيل، و الحجر الأسود، و استودعه اللّه إبراهيم عليه السّلام حجرا أبيض، و كان أشدّ بياضا من القرطاس، فاسودّ من خطايا بني آدم.

و

برواية عبد اللّه بن عمر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم قال: الركن و المقام ياقوتتان من ياقوت الجنّة، طمس اللّه نورهما، و لولا أنّ نورهما طمس لأضاءا ما بين المشرق و المغرب.

عن ابن عبّاس قال: لمّا أتى إبراهيم بإسماعيل و هاجر فوضعهما بمكّة، و أتت على ذلك مدّة، و نزلها الجرهميّون، و تزوّج إسماعيل امرأة منهم، و ماتت هاجر، و استأذن إبراهيم سارة أن يأتي هاجر، فأذنت له و شرطت عليه أن لا ينزل، فقدم إبراهيم عليه السّلام و قد ماتت هاجر، فذهب إلى بيت إسماعيل، فقال لامرأته: أين صاحبك؟

قالت: ليس هنا ذهب يتصيّد. و كان إسماعيل يخرج من الحرم فيصيد ثمّ يرجع.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 230

فقال لها إبراهيم: هل عندك ضيافة؟

قالت: ليس عندي شي ء، و ما عندي أحد.

فقال لها إبراهيم عليه السّلام: إذا جاء زوجك فاقرئيه السلام و قولي فليغيّر عتبة بابه.

و ذهب إبراهيم عليه السّلام فجاء إسماعيل عليه السّلام و وجد ريح أبيه، فقال لامرأته: هل جاءك أحد؟

قالت: جاءني شيخ صفته كذا و كذا، كالمستخفّة بشأنه.

قال: فما قال لك؟

قالت: قال لي: اقرئي زوجك السلام و قولي فليغيّر عتبة بابه، فطلّقها و تزوّج أخرى.

فلبث إبراهيم ما شاء اللّه أن يلبث، ثم استأذن سارة أن يزور إسماعيل، فأذنت له و شرطت عليه أن لا ينزل، فجاء

إبراهيم حتى انتهى إلى باب إسماعيل، فقال لامرأته: أين صاحبك؟

قالت: ذهب يتصيّد، و هو يجي ء الآن إن شاء اللّه، فانزل يرحمك اللّه.

قال لها: هل عندك ضيافة؟

قالت: نعم، فجاءت باللبن و اللحم، فدعا لهما بالبركة، فلو جاءت بخبز أو برّ أو شعير أو تمر لكان أكثر أرض اللّه برّا و شعيرا و تمرا.

فقالت: انزل حتى أغسل رأسك، فلم ينزل، فجاءت بالمقام، فوضعته على شقّه الأيمن، فوضع قدمه عليه، فبقي أثر قدمه عليه، فغسلت شقّ رأسه الأيمن، تمّ حوّلت المقام إلى شقّه الأيسر، فغسلت شقّ رأسه الأيسر، فبقي أثر قدمه عليه، فقال لها: إذا جاءك زوجك فاقرئيه السلام و قولي له: قد استقامت عتبة بابك.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 231

فلمّا جاء إسماعيل عليه السّلام وجد ريح أبيه فقال لامرأته: هل جاءك أحد؟

قالت: نعم، شيخ أحسن الناس وجها، و أطيبهم ريحا، فقال لي كذا و كذا، و قلت له كذا و كذا، و غسلت رأسه، و هذا موضع قدميه على المقام.

قال إسماعيل لها: ذاك إبراهيم عليه السّلام.

و قد روى هذه القصّة عليّ بن إبراهيم «1»، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن أبان، عن الصادق عليه السّلام، و قال في آخرها: «إذا جاء زوجك فقولي له: قد جاء هاهنا شيخ و هو يوصيك بعتبة بابك خيرا، قال فأكبّ إسماعيل على المقام يبكي و يقبّله».

وَ عَهِدْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ أمرناهما و ألزمناهما أَنْ طَهِّرا بَيْتِيَ بأن طهّرا. و يجوز أن تكون مفسّرة، بمعنى «أي» التفسيريّة، لتضمّن العهد معنى القول. يريد: طهّراه من الأوثان الّتي كان المشركون يعلّقونها على باب البيت، و الأنجاس و سائر الخبائث، كالفرث و الدّم الّذي كان يطرحه المشركون عند البيت قبل أن يصير في يد

إبراهيم و إسماعيل. و أضاف البيت إلى نفسه تفضيلا له على سائر البقاع. أو أخلصاه.

لِلطَّائِفِينَ أي: الدائرين حوله وَ الْعاكِفِينَ المجاورين له المقيمين بحضرته لا يبرحون وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ أي: المصلّين. جمع راكع و ساجد، لأنّ الركوع و السجود من أركان الصلاة و هيئاتها، فتسميتها بأشرف أفعالها.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم: أنّ للّه عزّ و جلّ في كلّ يوم و ليلة مائة و عشرين رحمة تنزل من السماء على هذا البيت، ستّون منها للطائفين، و أربعون للمصلّين، و عشرون للناظرين.

______________________________

(1) لم نجده في تفسير القمّي، بل أورده في مجمع البيان 1: 381.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 232

[سورة البقرة (2): آية 126]

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ قالَ وَ مَنْ كَفَرَ فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلاً ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (126)

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هذا أي: هذا البلد، أو المكان، يعني: مكّة بَلَداً آمِناً ذا أمن، كقوله تعالى: فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ «1» أي: ذات رضى أو آمنا من فيه، كقولك: ليل نائم.

قيل: إنّ الحرم كان آمنا قبل دعوة إبراهيم، و إنّما تأكّدت حرمته بدعائه.

و يحتمل أن يكون معناه: ربّ اجعل أمنيّة هذا البلد ثابتة دائمة إلى يوم القيامة.

و قيل: إنّما صار حرما آمنا بدعائه، و قبل ذلك كان كسائر البلاد.

و يؤيّد الأوّل

قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم يوم فتح مكّة: إنّ اللّه تعالى حرّم مكّة يوم خلق السماوات و الأرض، فهي حرام إلى أن تقوم الساعة، لم تحلّ لأحد قبلي، و لا تحلّ لأحد من بعدي، و لم تحلّ لي إلا ساعة من

النهار.

روى عليّ بن إبراهيم بن هاشم «2»، عن أبيه، عن النضر بن سويد، عن هشام، عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّ إبراهيم عليه السّلام كان نازلا في بادية الشام، فلمّا ولد إسماعيل من هاجر اغتمّت سارة من تلك غمّا شديدا، لأنّه لم يكن له منها ولد، و كانت تؤذي إبراهيم في هاجر و تغمّه؛ فشكا ذلك إبراهيم إلى اللّه تعالى، فأوحى اللّه إليه: إنّما مثل المرأة مثل الضّلع المعوجّ، إن تركته استمتعت به، و إن رمت أن تقيمه كسرته.

و قد قال القائل في ذلك.

______________________________

(1) الحاقّة: 21، القارعة: 7.

(2) تفسير القمّي 1: 60.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 233 هي الضّلع العوجاء لست تقيمهاألا إنّ تقويم الضّلوع انكسارها «1»

ثمّ أمره أن يخرج إسماعيل و أمّه عنها، فقال: أي ربّ إلى أيّ مكان؟ قال:

إلى حرمي و أمني، و أوّل بقعة خلقتها من أرضي، و هي مكّة. و أنزل عليه جبرئيل بالبراق، فحمل هاجر و إسماعيل و إبراهيم. فكان إبراهيم عليه السّلام لا يمرّ بموضع حسن فيه شجر و نخل و زرع إلّا قال: يا جبرئيل إلى هاهنا إلى هاهنا فيقول جبرئيل: لا امض امض، حتى وافى مكّة، فوضعه في موضع البيت، و قد كان إبراهيم عاهد سارة أن لا ينزل حتى يرجع عليها.

فلمّا نزلوا في ذلك المكان كان فيه شجر، فألقت هاجر على ذلك الشجر كساء كان معها، فاستظلّت تحته. فلمّا سرّحهم إبراهيم و وضعهم و أراد الانصراف عنهم إلى سارة قالت له هاجر: لم تدعنا في هذا الموضع الّذي ليس فيه أنيس و لا ماء و لا زرع؟

فقال إبراهيم عليه السّلام: ربّي أمرني أن أضعكم في هذا المكان، ثمّ انصرف عنهم.

فلمّا بلغ كداء، و هو جبل بذي

طوى، التفت إليهم إبراهيم عليه السّلام فقال: رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ إلى قوله: يَشْكُرُونَ «2»، ثمّ مضى و بقيت هاجر.

فلمّا ارتفع النهار عطش إسماعيل، فقامت هاجر في الوادي حتى صارت إلى موضع المسعى، فنادت: هل في الوادي من أنيس؟ فغاب عنها إسماعيل، فصعدت على الصّفا، و لمع لها السراب في الوادي و ظنّت أنّه ماء، فنزلت في بطن الوادي وسعت، فلمّا بلغت المسعى غاب عنها إسماعيل، ثم لمع لها السّراب في ناحية

______________________________

(1) لم يرد هذا البيت في المصدر، و إنما استشهد به الطبرسي في مجمع البيان 1: 208. و هو لحاجب بن ذبيان، استشهد به ابن منظور في لسان العرب 8: 226.

(2) إبراهيم: 37.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 234

الصّفا، و هبطت إلى الوادي تطلب الماء. فلمّا غاب عنها إسماعيل عادت حتى بلغت الصّفا، فنظرت إلى إسماعيل، حتى فعلت ذلك سبع مرّات. فلمّا كان في الشوط السابع و هي على المروة نظرت إلى إسماعيل و قد ظهر الماء من تحت رجليه، فعادت حتى جمعت حوله رملا، و إنّه كان سائلا فزمّته «1» بما جعلته حوله، فلذلك سمّيت زمزم.

و كانت جرهم نازلة بذي المجاز و عرفات، فلمّا ظهر الماء بمكّة عكفت الطير و الوحوش على الماء، فنظرت جرهم إلى تعكّف الطير على ذلك المكان، فأتبعوها حتّى نظروا إلى امرأة و صبيّ نزلوا في ذلك الموضع قد استظلّوا بشجرة، قد ظهر لهم الماء، فقال لها جرهم: من أنت و شأنك و شأن هذا الصبيّ؟

قالت: أنا أمّ ولد إبراهيم خليل الرحمن عليه السّلام و هذا ابنه، أمره اللّه أن ينزلنا هاهنا.

فقالوا لها: أ تأذنين أن نكون بالقرب منكم؟

قالت: حتى أسأل إبراهيم عليه السّلام.

قال: [إنّ الأرض

قد طويت له «2» فزارهما إبراهيم يوم الثالث، فقالت له هاجر: يا خليل اللّه إنّ هاهنا قوما من جرهم يسألونك أن تأذن لهم حتى يكونوا بالقرب منّا، أ فتأذن لهم؟

فقال إبراهيم: نعم. فأذنت هاجر لجرهم، فنزلوا بالقرب منهم و ضربوا خيامهم، و أنست هاجر و إسماعيل بهم.

فلمّا زارهم إبراهيم في المرّة الثانية و نظر إلى كثرة الناس حولهم سرّ بذلك

______________________________

(1) زمّ الشي ء يزمّه: شدّه. و زمّ القربة: ملأها. و زمزمته زمزمة: إذا جمعته و رددت أطراف ما انتشر منه. انظر لسان العرب 12: 272 و 275.

(2) كذا في النسخة الخطّية، و لم ترد في المصدر.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 235

سرورا شديدا. و كانت جرهم قد وهبوا لإسماعيل كلّ واحد منهم شاة و شاتين، و كانت هاجر و إسماعيل يعيشان بها.

فلمّا بلغ مبلغ الرجال أمر اللّه تعالى إبراهيم أن يبني البيت. فقال: يا ربّ في.

أيّ بقعة؟

قال: في البقعة التي أنزلت على آدم القبّة، فأضاءت الحرم.

قال: و لم تزل القبّة الّتي أنزلها اللّه تعالى على آدم قائمة حتى كان أيّام الطوفان في زمن نوح، فلمّا غرقت الدنيا رفع اللّه تلك القبّة، و غرقت الدنيا و لم تغرق مكّة، فسمّي البيت العتيق، لأنّه أعتق من الغرق.

فلمّا أمر اللّه عزّ و جلّ إبراهيم أن يبني البيت لم يدر في أيّ مكان يبنيه، فبعث اللّه جبرئيل عليه السّلام، فخطّ له موضع البيت، و أنزل عليه القواعد من الجنّة. و كان الحجر الّذي أنزله اللّه على آدم أشدّ بياضا من الثلج، فلمّا لمسته أيدي الكفّار اسودّ.

قال: فبنى إبراهيم البيت، و نقل إسماعيل الحجر من ذي طوى، فرفعه إلى السماء تسعة أذرع، ثم دلّه على موضع الحجر، فاستخرجه إبراهيم و وضعه في

موضعه الّذي هو فيه. و جعل له بابين، بابا إلى المشرق و بابا إلى المغرب، فالباب الّذي إلى المغرب يسمى المستجار. ثمّ ألقى عليه الشيخ «1» و الإذخر، و علّقت هاجر على بابه كساء كان معها، و كانوا يكونون «2» تحته.

فلمّا بناه و فرغ حجّ إبراهيم و إسماعيل، و نزل عليهما جبرئيل يوم التروية لثمان خلت من ذي الحجّة، فقال: يا إبراهيم قم فارتو من الماء، لأنّه لم يكن بمنى و عرفات ماء، فسمّيت التروية لذلك. ثمّ أخرجه إلى منى فبات بها، ففعل به ما فعل

______________________________

(1) في المصدر: الشجر. و الشّيح: نبات سهليّ، له رائحة طيّبة ..

و الإذخر: حشيش طيّب الرائحة. (لسان العرب 2: 502، و 4: 303)

(2) في المصدر: يكنّون، من «كنّ» إذا استتر، أي: يستظلّون تحته.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 236

بآدم.

فقال إبراهيم لمّا فرغ من بناء البيت: رَبِّ اجْعَلْ هذا بَلَداً آمِناً «1» وَ ارْزُقْ أَهْلَهُ مِنَ أنواع الثَّمَراتِ مَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ أبدل «من آمن» من «أهله» بدل البعض للتخصيص، يعني: و ارزق المؤمنين منهم خاصّة.

قالَ وَ مَنْ كَفَرَ عطف على «من آمن»، كما أنّ قوله: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي «2» عطف على الكاف في «جاعلك». أي: و ارزق من كفر. و المعنى: أنّ اللّه تعالى قال:

قد استجبت دعوتك فيمن آمن منهم و من كفر.

و إنّما خصّ إبراهيم عليه السّلام المؤمنين بالدعاء حتّى قال سبحانه: «و من كفر»، لأنّ اللّه كان أعلمه أنّه يكون في ذرّيّته ظالمون بقوله: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ « «3»»، فاقتصر طلب الرزق على المؤمنين قياسا على ما سبق، فعرّفه الفرق بين الرزق و الإمامة، لأنّ الاستخلاف استرعاء يختصّ بمن لا يقع منه الظلم، بخلاف الرزق،

فإنّه قد يكون استدراجا للمرزوق، و إلزاما للحجّة.

و يجوز أن يكون «و من كفر» مبتدأ تضمّن معنى الشرط، و قوله:

فَأُمَتِّعُهُ قَلِيلًا خبره. و الكفر و إن لم يكن سبب التمتيع لكنّه سبب تقليله، بأن يجعله مقصورا بحظوظ الدنيا، غير متوسّل به إلى نيل الثواب، و لذلك عطف عليه قوله: ثُمَّ أَضْطَرُّهُ إِلى عَذابِ النَّارِ أي: ألزّه «4» لزّ المضطرّ الّذي لا يملك الامتناع ممّا أضطرّه إليه، و ذلك لكفره و تضييعه ما متّعته به من النعم.

______________________________

(1) تفسير القمّي: 1/ 60- 62.

(2، 3) البقرة: 124.

(4) في هامش الخطّية: «لزّه يلزّه إذا شدّه و ألصقه. منه».

و في لسان العرب (5: 404): لزّ الشي ء بالشي ء يلزّه: ألزمه إيّاه.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 237

و «قليلا» نصب على المصدر، أي: تمتيعا قليلا، أو على الظرف، أي: في زمان قليل، و هو الحياة الدنيا. و قرأ ابن عامر: فأمتعه، من أمتع بمعنى متّع.

وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ المخصوص بالذمّ محذوف، و هو العذاب.

[سورة البقرة (2): الآيات 127 الى 129]

وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ وَ إِسْماعِيلُ رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (127) رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ وَ أَرِنا مَناسِكَنا وَ تُبْ عَلَيْنا إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (128) رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُزَكِّيهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (129)

وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ مِنَ الْبَيْتِ حكاية حال ماضية. و القواعد جمع القاعدة، و هي الأساس لما فوقه. و هي صفة غالبة من القعود بمعنى الثبات، و لعلّه مجاز من المقابل للقيام، و منه: قعدك اللّه «1». و رفع القواعد: البناء عليها، لأنّها إذا بني عليها نقلت عن هيئة الانخفاض إلى

هيئة الارتفاع، أي: ارتفعت و تطاولت.

و يجوز أن يكون المراد بها سافات «2» البناء، لأنّ كلّ ساف قاعدة لما يبني عليه و يوضع فوقه. و في إبهام القواعد و تبيينها تفخيم شأنها، و لهذا لم يقل: قواعد البيت.

وَ إِسْماعِيلُ قيل: كان يناوله الحجارة، و إبراهيم يبني، و لكنّه لمّا كان له مدخل في البناء عطف عليه. و قيل: كانا يبنيان في طرفين، أو على التناوب.

______________________________

(1) أي: نشدتك اللّه. (لسان العرب 3: 363)

(2) السّاف في البناء: كلّ صفّ من اللّبن أو الطين. (لسان العرب 9: 166)

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 238

و الأوّل أصحّ عندنا.

و قال في الكشّاف: «روي أنّ اللّه تعالى أنزل البيت ياقوتة من يواقيت الجنّة، له بابان من زمرّد: شرقيّ و غربيّ، و قال لآدم عليه السّلام: أهبطت لك ما يطاف به كما يطاف حول عرشي. فتوجّه آدم من أرض الهند إليه ماشيا، و تلقّته الملائكة فقالوا: برّ حجّك يا آدم، لقد حججنا هذا البيت قبلك بألفي عام. و حجّ آدم أربعين حجّة من أرض الهند إلى مكّة على رجليه، فكان على ذلك إلى أن رفعه اللّه أيّام الطوفان إلى السماء الرابعة، فهو البيت المعمور. ثمّ إنّ اللّه تعالى أمر إبراهيم ببنائه، و عرّفه جبرئيل مكانه.

و قيل: بعث اللّه سحابة أظلّته، و نودي: أن ابن على ظلّها، لا تزد و لا تنقص.

و قيل: بناه من خمسة أجبل: طور سيناء، و طور زيتا، و لبنان، و الجوديّ، و اسّسه من حراء، و جاء جبرئيل بالحجر الأسود من السماء.

و قيل: تمخّض «1» أبو قبيس فانشقّ عنه، و قد خبئ فيه في أيّام الطوفان، و كان ياقوتة بيضاء من الجنّة، فلمّا لمسته الحيّض في الجاهليّة اسودّ» «2».

و

في كتاب

العيّاشي بإسناده عن الصادق عليه السّلام قال: «إنّ اللّه أنزل الحجر الأسود من الجنّة لآدم، و كان البيت درّة بيضاء، فرفعه اللّه إلى السماء و بقي أساسه، فهو حيال هذا البيت. و قال: يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك، لا يرجعون إليه أبدا، فأمر اللّه سبحانه إبراهيم و إسماعيل أن يبنيا البيت على القواعد» «3».

______________________________

(1) أي: تحرّك جبل أبي قبيس.

(2) الكشّاف 1: 187.

(3) تفسير العيّاشي: 1: 60 ح 98.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 239

و

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أوّل شي ء نزل من السماء إلى الأرض لهو البيت الّذي بمكّة، أنزله اللّه ياقوتة حمراء، ففسق قوم نوح في الأرض، فرفعه» «1».

روي عن الباقر عليه السّلام: أنّ إسماعيل أوّل من شقّ لسانه بالعربيّة، و كان أبوه يقول له و هما يبنيان البيت: يا إسماعيل هابي ابن، أي: أعطني حجرا، فيقول له إسماعيل بالعربيّة: يا أبة هاك حجرا، فإبراهيم يبني و إسماعيل يناوله الحجارة.

رَبَّنا أي يقولان: ربّنا. و هذا الفعل المقدّر في محلّ النصب على الحال، أي: حال كونهما يقولان: رَبَّنا تَقَبَّلْ مِنَّا و فيه دلالة على أنّهما بنيا الكعبة مسجدا لا سكنا، لأنّهما طلبا من اللّه القبول الّذي معناه الإثابة، و الثواب إنّما يطلب على الطاعات. إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ لدعائنا الْعَلِيمُ بنيّاتنا.

رَبَّنا وَ اجْعَلْنا مُسْلِمَيْنِ لَكَ أي: مخلصين لك من: أسلم وجهه للّه، أو مستسلمين لك خاضعين منقادين. و المراد طلب الزيادة في الإخلاص أو الخضوع أو الثبات عليه، أي: زدنا إخلاصا أو خضوعا و إذعانا لك أو ثباتا عليه وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أي: اجعل بعض ذرّيّتنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ و يجوز أن تكون «من» للتبيين، كقوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ «2» قدّم على المبيّن «3».

و إنّما

خصّا الذرّيّة بالدعاء لأنّهم أحقّ بالشفقة، و لأنّ أولاد الأنبياء إذا صلحوا صلح بهم الأتباع، ألا ترى أنّ المقدّمين من العلماء و الكبراء إذا كانوا على

______________________________

(1) تفسير العياشي 1: 60 ح 100.

(2) النور: 55.

(3) و هو قوله تعالى: «أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ»، و التقدير: و اجعل أمّة مسلمة لك من ذرّيّتنا، كما أن التقدير في قوله تعالى (في سورة الطلاق: 12): خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ

سبع سماوات و مثلهنّ من الأرض.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 240

السداد كيف يتسبّبون لسداد من وراءهم؟! و خصّا بعضهم لما اعلما أنّ في ذرّيّتهما ظلمة. و قيل: أراد بالأمّة أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم. و

روي عن الصادق عليه السّلام: أنّه أراد بالأمّة بني هاشم خاصّة.

وَ أَرِنا من: رأي؛ بمعنى أبصر أو عرّف، و لذا لم يتجاوز مفعولين، أي:

عرّفنا و بصّرنا مَناسِكَنا متعبّداتنا في الحجّ، لنقضي عباداتنا على حدّ ما توقفنا عليه. و النسك في الأصل غاية العبادة، و شاع في الحجّ، لما فيه من الكلفة و البعد عن العادة.

و قرأ ابن كثير و يعقوب: أرنا، قياسا على «فخذ» في فخذ. و فيه إجحاف في الإسقاط، لأنّ الكسرة المنقولة من الهمزة السّاقطة دليل عليها، إلّا أن يقرأ بإشمام الكسرة.

وَ تُبْ عَلَيْنا قالا هذه الكلمة انقطاعا إلى اللّه، إرشادا لذرّيّتهما ليقتدوا بهما، أو استتابة لذرّيّتهما. أو معناه: إرجع علينا بالرحمة المتفضّلة الموجبة لمزيد الثواب. و ليس المراد استتابتهم عن معصيتهم، لأنّ الأدلّة القاهرة قد دلّت على عصمة الأنبياء عن الصغائر و الكبائر إِنَّكَ أَنْتَ التَّوَّابُ الرّجاع إلى الرضوان و المغفرة، أو كثير القبول للتوبة الرَّحِيمُ لمن تاب من عبادك.

رَبَّنا وَ ابْعَثْ فِيهِمْ في الأمّة المسلمة رَسُولًا

مِنْهُمْ من أنفسهم و هو نبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم، و لم يبعث من ذرّيّتهما غير محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلم، فهو المجاب به دعوتهما، كما

قال عليه السّلام: «أنا دعوة أبي إبراهيم، و بشرى عيسى، و رؤيا أمّي»

و سائر الأنبياء الّذين بعد إبراهيم من نسل إسحاق.

يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِكَ يقرأ عليهم و يبلّغهم ما يوحى إليه من دلائل التوحيد و النبوّة وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ القرآن وَ الْحِكْمَةَ ما يكمل نفوسهم من المعارف و الأحكام الشرعيّة. و عن أنس: هي الفقه بالتأويل. وَ يُزَكِّيهِمْ عن أدناس الشرك

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 241

و المعاصي. و عن ابن عبّاس معناه: و يجعلهم مطيعين مخلصين. و الزكاء: هو الطاعة و الإخلاص للّه سبحانه.

إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ القويّ الّذي لا يقهر و لا يغلب على ما يريد، و من جملته بعث النبيّ المنعوت الْحَكِيمُ المحكم لبدائع صنعتك.

[سورة البقرة (2): الآيات 130 الى 131]

وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ إِلاَّ مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ وَ لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (130) إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (131)

وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ الّتي هي الحقّ. هذا استبعاد و إنكار لأن يكون في العقلاء من يرغب عن ملّته الواضحة و طريق الحقّ، أي: لا يرغب أحد عن ملّته إِلَّا مَنْ سَفِهَ نَفْسَهُ محلّه الرفع على المختار بدلا من الضمير المستكن في «يرغب». و صحّ البدل لأنّ «من يرغب» غير موجب، كقولك: هل جاءك أحد إلا زيد؟

و معنى «سفه نفسه» امتهنها و استخفّ بها. و أصل السفه الخفّة. و قيل: معناه:

جهل قدره، أو جهل نفسه بما فيها من الآيات الدالّة على أنّ لها صانعا ليس

كمثله شي ء.

قال المبرّد و ثعلب: سفه بالكسر متعدّ، و بالضمّ لازم. و يشهد له ما جاء في الحديث: «الكبر أن تسفه الحقّ، و تغمص «1» الناس».

و قيل: أصله: سفه نفسه، على الرفع، فنصب على التمييز، نحو: غبن رأيه، و ألم رأسه. أو: سفه في نفسه، فنصب بنزع الخافض.

______________________________

(1) أي: تحتقرهم و تستصغرهم.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 242

و الأوّل أوجه، لشذوذ تعريف المميّز، و بعد نزع الخافض منها.

ثمّ بيّن خطأ رأي من رغب عن ملّته بقوله: وَ لَقَدِ اصْطَفَيْناهُ اجتبيناه بالرسالة فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ الفائزين. فمن كان صفوة العباد و خيرتهم في الدنيا، مشهودا له بالاستقامة و الصلاح يوم القيامة، كان حقيقا بالاتّباع له، لا يرغب عنه إلا سفيه أو متسفّه، أذلّ نفسه بالجهل و الإعراض عن النظر.

و معنى «أسلم» في قوله: إِذْ قالَ لَهُ رَبُّهُ أَسْلِمْ أخطر ببالك النظر في الدلائل المفضية به إلى التوحيد، لتخلص للّه العبادة قالَ أَسْلَمْتُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أي: نظرت و عرفت خالق العالم فعبدته خالصا. و قيل: إنّ معنى «أسلم» أذعن و أطع.

و هذه الآية ظرف ل «اصطفيناه» و تعليل له، أي: اخترناه في ذلك الوقت. أو منصوب بإضمار: أذكر، كأنّه قيل: أذكر ذلك الوقت لتعلم أنّه المصطفى الصالح المستحقّ للإمامة و التقدّم، بسبب المبادرة إلى إخلاص السرّ و الإذعان حين دعاه ربّه إلى التوحيد على طريق النظر، فأخطر بباله دلائله المؤدّية إلى المعرفة الداعية إلى التوحيد و سائر أصول قواعد الإسلام.

و عن ابن عبّاس: إنّما قال ذلك إبراهيم عليه السّلام حين خرج من السّرب «1».

و روي أنّ عبد اللّه بن سلام دعا ابني أخيه سلمة و مهاجرا إلى الإسلام، فقال لهما: قد علمنا أنّ اللّه

تعالى قال في التوراة: إنّي باعث من ولد إسماعيل نبيّا اسمه أحمد، فمن آمن به فقد اهتدى و رشد، و من لم يؤمن فهو ملعون، فأسلم سلمة، و أبى مهاجر أن يسلم، فنزلت: وَ مَنْ يَرْغَبُ عَنْ مِلَّةِ إِبْراهِيمَ الى آخر الآيتين.

______________________________

(1) السّرب: الحفير تحت الأرض، أو الغار و الكهف.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 243

[سورة البقرة (2): الآيات 132 الى 134]

وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ وَ يَعْقُوبُ يا بَنِيَّ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ فَلا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (132) أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ إِذْ قالَ لِبَنِيهِ ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَ إِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ إِلهاً واحِداً وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (133) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (134)

روي أنّ اليهود قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: أ لست تعلم أنّ يعقوب أوصى بنيه باليهوديّة يوم مات؟ فنزلت: وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ التوصية التقدّم إلى الغير بفعل فيه صلاح و قربة. و أصلها الوصل، يقال: وصّاه إذا وصله، و فصّاه إذا فصله، كأنّ الموصّي يصل فعله بفعل الوصيّ. و الضمير في «بها» للملّة، أو لقوله: «أسلمت» على تأويل الكلمة أو الجملة. و قرأ نافع و ابن عامر: أوصى. و الأوّل أبلغ.

وَ يَعْقُوبُ عطف على إبراهيم، أي: وصّى بها عنه يعقوب. و هو ابن إسحاق، عن ابن عبّاس: إنّما سمّي يعقوب لأنّه و عيصا كانا توأمين، فتقدّم عيص و خرج يعقوب على أثره آخذا بعقبه.

يا بَنِيَ على إضمار القول عند البصريّين، و متعلّق ب «وصّى» عند الكوفيّين، لأنّه نوع من القول.

و بنو إبراهيم كانوا أربعة:

إسماعيل، و إسحاق، و مدين، و مدان. و في الكواشي «1»: ثمانية، الأربعة المذكورة، و زمران، و يفشان، و يشبق، و شوّخ. و قيل:

______________________________

(1) هو موفّق الدين أحمد بن يوسف الكواشي الشافعي الموصلي المفسّر، له التفسير الكبير و الصغير، و توفّي سنة 680. الكنى و الألقاب 3: 101. و لم يكن تفسيره لدينا، و لعلّه لم يطبع إلى الآن.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 244

أربعة عشر.

و بنو يعقوب اثنا عشر: يوسف، و ابن يامين، و روبيل، و يهودا، و شمعون، و تفتوني، و لأوان، و دان، و قهاب، و يشجر، و نقتالي، و جادو.

و قيل: روبيل، و شمعون، و لاوي، و يهوذا، و بشسوخور، و زبولون، و دوني، و نفتوني، و كودا، و اوشير، و بنيامين، و يوسف «1».

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى لَكُمُ الدِّينَ أي: أعطاكم دين الإسلام الّذي هو صفوة الأديان، و وفّقكم للأخذ به، لقوله: فَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي: فلا يكن موتكم إلّا على كونكم ثابتين على الإسلام، فظاهره النهي عن الموت على خلاف حال الإسلام. و المقصود هو النهى عن أن يكونوا على خلاف تلك الحال إذا ماتوا، و الأمر بالثبات على الإسلام، كقولك: لا تصلّ إلّا و أنت خاشع، فلا تنهاه عن الصّلاة، و لكن على ترك الخشوع. و تغيير العبارة للدلالة على أنّ موتهم لا على الإسلام موت لا خير فيه، و أنّ من حقّ الموت أن لا يحلّ بهم. و نظيره في الأمر:

مت و أنت شهيد، و ليس مرادك الأمر بالموت، و لكن على صفة الشهداء.

أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ أي: حاضرين، جمع الشهيد بمعنى الحاضر. «أم» منقطعة، أي: بل أ كنتم شهداء. و معنى الهمزة فيها الإنكار، أي: ما كنتم

حاضرين إِذْ حَضَرَ يَعْقُوبَ الْمَوْتُ حين احتضر و قال لبنيه ما قال، فلم تدّعون اليهوديّة عليه؟! أو متّصلة بمحذوف، تقديره: أ كنتم غائبين أم كنتم شهداء؟

و قيل: الخطاب للمؤمنين، و المعنى: ما شاهدتم، و إنّما علمتموه من الوحي.

إِذْ قالَ لِبَنِيهِ بدل من «إذ حضر» ما تَعْبُدُونَ مِنْ بَعْدِي أيّ شي ء تعبدونه من بعد وفاتي؟ فحذف المضاف. أراد به تقريرهم على التوحيد و الإسلام،

______________________________

(1) في ضبط هذه الأسماء اختلاف، انظر التبيان 1: 482، مجمع البيان 1: 217، أنوار التنزيل 1: 190.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 245

و أخذ ميثاقهم على الثبات عليهما. و لفظة «ما» يسأل به عن كلّ شي ء ما لم يعرف، فإذا عرف خصّ العقلاء ب «من» إذا سئل عن تعيينه. و يجوز أن يقال: ما تَعْبُدُونَ سؤال عن صفة المعبود، كما إذا سئل عن وصف زيد قيل: ما زيد؟ أ فقيه أم طبيب؟

قالُوا نَعْبُدُ إِلهَكَ وَ إِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ عطف بيان لآبائك. و جعل إسماعيل و هو عمّه من جملة آبائه، لأنّ العمّ أب و الخالة أمّ، لانخراطهما في سلك واحد و هو الأخوّة، لا تفاوت بينهما، و منه

قوله عليه السّلام: عمّ الرجل صنو «1» أبيه،

أي: لا تفاوت بينهما، كما لا تفاوت بين صنوي النخلة. و قال في العبّاس: هذا بقيّة آبائي. و قال: ردّوا عليّ أبي، فإنّي أخشى أن تفعل به قريش ما فعلت ثقيف بعروة بن مسعود. و قدّم ذكره على إسحاق لأنّه كان أكبر منه، و كان عمّ يعقوب، و جعله أبا له، و كان جدّا لنبيّنا.

و قوله: إِلهاً واحِداً بدل من إِلهَ آبائِكَ كقوله: بِالنَّاصِيَةِ* ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ «2». و فائدته التصريح بالتوحيد، و نفي الوهم الناشئ

من تكرير المضاف، لتعذّر العطف على المجرور. أو نصب على الاختصاص، أي: نريد بإله آبائك إلها واحدا.

وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ حال من فاعل «نعبد»، أو مفعوله، لرجوع الضمير إليه في «له»، أو منهما. و يحتمل أن يكون اعتراضا، أي: و من حالنا أنّا له مسلمون مخلصون له التوحيد، أو مذعنون. و يجوز أن يكون جملة معطوفة على «نعبد».

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ إشارة إلى الأمّة المذكورة، يعني: أنّ إبراهيم و يعقوب و بنيهما قد مضت. و الأمّة في الأصل ما يقصد به. و يسمّى بها الجماعة، لأنّ الفرق تؤمّها، أي: تقصدها.

______________________________

(1) الصنو: الأخ، و إذا خرجت نخلتان من أصل واحد فكلّ واحدة منها صنو.

(2) العلق: 15- 16.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 246

لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ لكلّ أجر عمله. و المعنى: أنّ أحدا لا ينفعه كسب غيره، متقدّما كان أو متأخّرا، فكما أنّ أولئك لا ينفعهم إلا ما اكتسبوا، فكذلك أنتم لا ينفعكم إلا ما اكتسبتم، فانتسابكم إليهم لا يوجب انتفاعكم بأعمالهم، و إنّما تنتفعون باتّباعهم، كما وقع

في الحديث: «يا بني هاشم لا يأتيني الناس بأعمالهم، و تأتوني بأنسابكم»

يعني لا يكن من الناس: إتيان الأعمال، و منكم إتيان الأنساب، بل ليكن من الجميع إتيان الأعمال.

وَ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ و لا تؤاخذون بسيّئاتهم، كما لا تثابون بحسناتهم.

و في هذه الآية ردّ للّذين افتخروا بآبائهم كما كان دأب الجاهليّة، و دلالة على بطلان قول المجبّرة: إنّ الأبناء يؤاخذون بذنوب الآباء، و إنّ ذنوب المسلمين تحمل على الكفّار.

[سورة البقرة (2): الآيات 135 الى 136]

وَ قالُوا كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى تَهْتَدُوا قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (135) قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما

أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى وَ ما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (136)

عن ابن عبّاس: أنّ عبد اللّه بن صوريا و كعب بن الأشرف و مالك بن الضّيف و جماعة من اليهود و نصارى أهل نجران خاصموا أهل الإسلام، كلّ فرقة تزعم أنّها أحقّ بدين اللّه من غيرها، فقالت اليهود: نبيّنا موسى أفضل الأنبياء، و كتابنا التوراة أفضل الكتب، و قالت النصارى: نبيّنا عيسى أفضل الأنبياء، و كتابنا الإنجيل أفضل

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 247

الكتب، و كلّ فريق منهما قالوا للمؤمنين: كونوا على ديننا، فنزلت وَ قالُوا أي:

أهل الكتاب من اليهود و النصارى كُونُوا هُوداً أَوْ نَصارى «أو» للتنويع.

و المعنى: مقالتهم أحد هذين القولين، فقالت اليهود: كونوا هودا، و قالت النصارى:

كونوا نصارى تَهْتَدُوا تصيبوا طريق الحقّ. هذا جواب الأمر.

قُلْ بَلْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ أي: بل نكون ملّة إبراهيم، أي: أهل ملّته، أو بل نتّبع ملّة إبراهيم حَنِيفاً مائلا عن كلّ دين باطل إلى دين الحقّ، حال من المضاف أو المضاف إليه، كقولك: رأيت وجه هند قائمة. و أصل الحنف الميل في القدمين.

و تحنّف إذا مال.

و قوله وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ عطفا على «حنيفا» تعريض بأهل الكتاب و غيرهم، لأنّ كلّا منهم يدّعي اتّباع إبراهيم و هو على الشرك.

قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ الخطاب للمؤمنين، لقوله: فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ «1» أمرهم سبحانه بإظهار ما تديّنوا به على الشرع، فبدأ بالإيمان باللّه، لأنّه أوّل الواجبات بالإضافة إلينا، أو سبب للإيمان بغيره.

ثمّ ثنّى بالإيمان بالقرآن و الكتب المنزلة على الأنبياء وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا أي:

بالقرآن، قدّمه على سائر

الكتب لتقدّمه بالشرف، و إن كان متأخّرا بالزمان وَ ما أُنْزِلَ إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ أي: بالصّحف، و هي و إن نزلت إلى إبراهيم، لكنّهم لمّا كانوا متعبّدين بتفصيلها داخلين تحت أحكامها، فهي أيضا منزلة إليهم، كما أنّ القرآن منزل إلينا.

و الأسباط جمع سبط، و هو الحافد. يريد به حفدة يعقوب، أو أبناء يعقوب و ذراريهم، فإنّهم حفدة إبراهيم و إسحاق عليهما السّلام، و كان الحسن و الحسين عليهما السّلام سبطي رسول اللّه، أي: حافديه.

______________________________

(1) البقرة: 137، و سيأتى تفسيرها في ص 248.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 248

وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى أي: بالتوراة و الإنجيل. أفردهما بالذكر بحكم أبلغ، لأنّ أمرهما بالإضافة إلى موسى و عيسى مغاير لما سبق، و النزاع وقع فيهما وَ ما أُوتِيَ النَّبِيُّونَ جملة المذكورين منهم و غير المذكورين مِنْ رَبِّهِمْ منزلا عليهم من ربّهم.

لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أي: لا نؤمن ببعض و نكفر ببعض، كما فعلت اليهود و النصارى، بل نؤمن بجميع الأنبياء و كتبهم. و لمّا كان «أحد» في سياق النفي مفيدا للعموم، فصحّ دخول «بين» عليه.

وَ نَحْنُ لَهُ أي: للّه مُسْلِمُونَ مذعنون مخلصون.

[سورة البقرة (2): الآيات 137 الى 138]

فَإِنْ آمَنُوا بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (137) صِبْغَةَ اللَّهِ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً وَ نَحْنُ لَهُ عابِدُونَ (138)

و لمّا نزل قوله تعالى: قُولُوا آمَنَّا بِاللَّهِ الآية قرأها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم على اليهود و النصارى، فلمّا سمعت اليهود ذكر عيسى أنكروا و كفروا، و قالت النصارى: إنّ عيسى ليس كسائر الأنبياء، لأنّه ابن اللّه، فنزلت: فَإِنْ

آمَنُوا آمن هؤلاء الكفّار بِمِثْلِ ما آمَنْتُمْ بِهِ أي: إيمانا مثل إيمانكم باللّه و كتبه و رسله. فالباء مزيدة و «ما» مصدريّة. فَقَدِ اهْتَدَوْا أي: سلكوا طريق الهدى.

هذا من باب التبكيت و التعجيز، كقوله تعالى: فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ «1» لأنّ دين الحقّ واحد لا مثل له، و هو دين الإسلام،

______________________________

(1) البقرة: 23.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 249

وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ «1»، فلا يوجد إذن دين آخر يماثل دين الإسلام في كونه حقّا، حتى إن آمنوا بذلك الدين المماثل له كانوا مهتدين.

فقيل: «فإن آمنوا» بكلمة الشكّ على سبيل الفرض و التقدير، أي: فإن حصلوا دينا آخر مثل دينكم مساويا له في الصحّة و السداد فقد اهتدوا.

و فيه: أنّ دينهم الّذي هم عليه و كلّ دين سواه مغاير له غير مماثل، لأنّه حقّ و هدى، و ما سواه باطل و ضلال. و نحو هذا قولك للرجل الّذي تشير عليه: هذا هو الرأي الصواب، فإن كان عندك رأي أصوب منه فاعمل به، و قد علمت أن لا أصوب من رأيك، و لكنّك تريد تبكيت صاحبك، أو توقيفه على أنّ ما رأيت لا رأي وراءه.

و يجوز أن لا تكون الباء صلة زائدة، و تكون للاستعانة، كقولك: كتبت بالقلم و عملت بالقدوم «2»، أي: فإن دخلوا في الإيمان بشهادة مثل شهادتكم الّتي آمنتم بها فقد اهتدوا.

وَ إِنْ تَوَلَّوْا عمّا تقولون لهم و لم ينصفوا، أو أعرضوا عن الإيمان بالجميع فَإِنَّما هُمْ فِي شِقاقٍ فما هم إلا في شقاق الحقّ، و هو المناواة «3» و المخالفة، فإنّ كلّ واحد من المتخالفين في شقّ غير شقّ الآخر، و ليسوا من طلب الحقّ في شي ء، أي: فإن تولّوا

عن الشهادة و الدخول في الإيمان.

فَسَيَكْفِيكَهُمُ اللَّهُ أي: يكفيك و يدفع عنك يا محمد شرّ اليهود و النصارى.

و قد أنجز وعده بقتل قريظة و سبيهم، و إجلاء بني النضير، و ضرب الجزية على الفريقين. ففيه تسلية و تسكين للمؤمنين، و وعد لهم بالحفظ و النّصر على من

______________________________

(1) آل عمران: 85.

(2) آلة للنحت و النجر.

(3) في هامش الخطّية: «ناواه: عاداه. منه».

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 250

زبدة التفاسير ج 1 299

ناواهم، و الضمان من اللّه لإظهار نيّته عليهم، و كفايته من يشاقّه من اليهود و النصارى. و فيه دلالة على صحّة نبوّته، لأنّه تعالى قد أنجز وعده، فوافق المخبر الخبر. و معنى السين أنّ ذلك كائن لا محالة، و إن تأخّر إلى حين.

وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ من تمام الوعد. يعني: أنّه يسمع أقوالكم، و يعلم إخلاصكم و نيّاتكم من إظهار الدين، فهو مستجيبكم و موصلكم إلى مرادكم، و مجازيكم لا محالة. أو وعيد للمعرضين، يعني: أنّه يسمع ما يبدون، و يعلم ما يخفون من الحسد و الحقد، و هو معاقبهم عليه.

صِبْغَةَ اللَّهِ أي: صبغنا صبغته. فنصبها على أنّه مصدر مؤكّد لقوله:

آمَنَّا «1»، كما انتصب وَعْدَ اللَّهِ «2» عمّا تقدّمه. و قيل: على الإغراء، أي: عليكم صبغة اللّه، بمعني: الزموها. و قيل: على البدل من مِلَّةَ إِبْراهِيمَ «3». و هي فعلة من «صبغ» كالجلسة من «جلس» و هي الحالة الّتي يقع عليها الصبغ.

و المراد بها فطرة اللّه الّتي فطر الناس عليها، فإنّها حلية الإنسان كما أنّ الصبغة حلية المصبوغ. أو هدانا هدايته فأرشدنا حجّته. أو طهّر قلوبنا بالإيمان تطهيره. و سمّاه صبغة، لأنّ أثره ظهر عليهم ظهور الصبغ على المصبوغ، و تداخل في قلوبهم تداخل الصّبغ الثوب.

أو للمشاكلة، فإنّ النصارى كانوا يغمسون أولادهم في ماء أصفر يسمّونه المعموديّة، و يقولون: هو تطهير لهم، و به تتحقّق نصرانيّتهم، فأمر المسلمون أن يقولوا: آمنّا باللّه، و صبغنا بالإيمان صبغة لا مثل صبغتكم، أو طهرنا به تطهيرا لا مثل تطهيركم.

وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ صِبْغَةً أي: لا صبغة أحسن من صبغته، لأنّه يصبغ عباده بالإيمان، و يطهّرهم به من أوساخ الكفر، فلا صبغة أحسن من صبغة اللّه.

______________________________

(1) في الآية (136- 135) من سورة البقرة، و مضى تفسيرها في ص: 247.

(2) النساء: 122، يونس: 4.

(3) في الآية (136- 135) من سورة البقرة، و مضى تفسيرها في ص: 247.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 251

وَ نَحْنُ لَهُ عابِدُونَ تعريض بهم، أي: لا نشرك به كشرككم. و هو عطف.

على «آمنّا»، و ذلك يقتضي دخول قوله: صِبْغَةَ اللَّهِ في مفعول «قولوا». و لمن نصبها على الإغراء أو البدل أن يضمر «قولوا» معطوفا على «الزموا» أو «اتّبعوا ملّة إبراهيم»، و «قولوا آمنّا» بدل اتّبعوا، لئلّا يلزم تخلّل الأجنبي- و هو قوله: «صبغة اللّه»- بين المعطوف و المعطوف عليه، فإنّ ذلك موجب لفكّ النظم و إخراج الكلام عن التئامه و اتّساقه.

[سورة البقرة (2): الآيات 139 الى 141]

قُلْ أَ تُحَاجُّونَنا فِي اللَّهِ وَ هُوَ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ وَ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ (139) أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى قُلْ أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (140) تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (141)

روي أنّ أهل الكتاب قالوا:

الأنبياء كلّهم منّا، فلو كنت نبيّا لكنت منّا، فنزلت: قُلْ أَ تُحَاجُّونَنا أ تجادلوننا فِي اللَّهِ في شأنه و اصطفائه نبيّا من العرب دونكم وَ هُوَ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ لا اختصاص له بقوم دون قوم، بل نشترك جميعا في أنّا عبيده، فهو ربّنا، يصيب برحمته من يشاء من عباده إذا كان أهلا للكرامة، كما اقتضت حكمته.

وَ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ يعني: أنّ العمل هو أساس الأمر، فكما أنّ لكم أعمالا يعتبرها اللّه في إعطاء الكرامة و منعها، فإنّ لنا أيضا أعمالا معتبرة في ذلك، فلا يبعد أن يكرمنا بأعمالنا.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 252

وَ نَحْنُ لَهُ مُخْلِصُونَ موحّدون نخلصه بالإيمان و الطاعة دونكم. خلاصة المعني: أنّ كرامة النبوّة إمّا تفضّل من اللّه على من يشاء، و الكلّ فيه سواء، و إمّا إفاضة حقّ على المستعدّين لها بالمواظبة على الطاعة و التحلّي بالإخلاص، فلا تستبعدوا أن يؤهّل أهل إخلاصه لكرامته بالنبوّة. و هذا كالتبكيت و الإلزام لهم.

أَمْ تَقُولُونَ إِنَّ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطَ كانُوا هُوداً أَوْ نَصارى «أم» منقطعة، و الهمزة للإنكار. و على قراءة ابن عامر و حمزة و الكسائي و حفص بالتاء يحتمل أن تكون معادلة للهمزة في «أ تحاجّوننا»، فتكون متّصلة، بمعني: أيّ الأمرين تأتون: المحاجّة، أو ادّعاء اليهوديّة أو النصرانيّة على الأنبياء؟

و على القراءة الأولى لا تكون إلا منقطعة.

ثمّ وبّخهم اللّه تعالى بقوله: قُلْ أَ أَنْتُمْ أَعْلَمُ أَمِ اللَّهُ و قد نفى الأمرين عن إبراهيم بقوله: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لا نَصْرانِيًّا «1»، و احتجّ عليه بقوله: وَ ما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَ الْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ و هؤلاء المعطوفون على إبراهيم أتباعه في الدين وفاقا.

وَ مَنْ

أَظْلَمُ مِمَّنْ كَتَمَ شَهادَةً عِنْدَهُ مِنَ اللَّهِ يعني: شهادة اللّه لإبراهيم بالحنيفيّة، و البراءة عن اليهوديّة و النصرانيّة. و المعنى: لا أحد أظلم من أهل الكتاب، لأنّهم كتموا هذه الشهادة، أو: منّا لو كتمنا هذه الشهادة. و فيه تعريض بكتمانهم شهادة اللّه تعالى لمحمّد بالنبوّة في كتبهم و غيرها. و «من» للابتداء كما في قوله: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ «2»، و كما في قولك: هذه شهادة منّي لفلان.

وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وعيد لهم. و قرئ بالتاء، أي: لا يخفى على

______________________________

(1) آل عمران: 67، 65.

(2) التوبة: 1.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 253

اللّه شي ء من المعلومات، فكونوا على حذر من الجزاء على أعمالكم بما تستحقّونه من العذاب.

تِلْكَ أُمَّةٌ قَدْ خَلَتْ لَها ما كَسَبَتْ وَ لَكُمْ ما كَسَبْتُمْ وَ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ تكرار للمبالغة في التحذير و الزجر عمّا استحكم في الطباع من الافتخار بالآباء و الاتّكال عليهم. و قيل: الخطاب فيما سبق لهم، و في هذه الآية لنا، تحذيرا عن الاقتداء بهم. و قيل: المراد بالأمّة في الأوّل الأنبياء، و في الثاني أسلاف اليهود و النصارى، فلا تكرار.

[سورة البقرة (2): آية 142]

سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ ما وَلاَّهُمْ عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (142)

ثمّ ذكر الّذين عابوا المسلمين بالانصراف عن قبلة بيت المقدس إلى الكعبة، فقال: سَيَقُولُ السُّفَهاءُ مِنَ النَّاسِ الجهّال الخفاف الأحلام الّذين استمهنوها بالتقليد و الإعراض عن النظر. يريد به: المنكرين لتغيير القبلة من المنافقين و اليهود و المشركين. و فائدة تقديم الإخبار توطين النفس لسماع هذا المكروه، و إعداد الجواب ما وَلَّاهُمْ ما صرفهم عَنْ قِبْلَتِهِمُ الَّتِي كانُوا عَلَيْها يعني: بيت المقدس. و القبلة

في الأصل الحال الّتي عليها الإنسان من الاستقبال، فصارت عرفا للمكان المتوجّه نحوه للصّلاة قُلْ لِلَّهِ الْمَشْرِقُ وَ الْمَغْرِبُ أي: بلاد المشرق و المغرب، و الأرض كلّها، لا يختصّ به مكان دون مكان، و إنّما العبرة بامتثال أمره لا بخصوص المكان. يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ و هو ما ترتضيه الحكمة و تقتضيه المصلحة من التوجّه إلى بيت المقدس تارة و إلى الكعبة أخرى.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 254

[سورة البقرة (2): آية 143]

وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً إِلاَّ عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (143)

ثمّ بيّن سبحانه فضل هذه الأمّة على سائر الأمم، فقال: وَ كَذلِكَ إشارة إلى مفهوم الآية المتقدّمة، أي: كما جعلناكم مهديّين إلى الصراط المستقيم، أو جعلنا قبلتكم أفضل القبل جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً أي: خيارا، أو عدولا مزكّين بالعلم و العمل. و هو في الأصل اسم المكان الذي تستوي إليه المساحة من الجوانب، ثمّ استعير للخصال المحمودة، لوقوعها بين طرفي إفراط و تفريط، كالجود بين الإسراف و البخل، و الشجاعة بين التهوّر و الجبن، ثمّ أطلق على المتّصف بهذه الخصال، مستويا فيه الواحد و الجمع و المذكّر و المؤنّث، كسائر الأسماء التي وصف بها. و استدلّ به على أنّ الإجماع حجّة، إذ لو كان فيما اتّفقوا عليه باطل لانثلمت به عدالتهم.

و متى قيل: إذا كان في الأمّة من ليس هذه صفته، فكيف وصفت جماعتهم بذلك؟

فالجواب: أنّ المراد به من كان بتلك الصّفة، و لأنّ كلّ عصر لا

يخلو من جماعة هذه صفتهم، و لا يكون الاستمساك على حجّية الإجماع إلّا لوجود الإمام المعصوم في جملتهم، فالحقيقة الحجّة قول الإمام لا اجتماع الأمّة.

و يؤيّده ما

روى بريد بن معاوية العجلي، عن الباقر عليه السّلام قال: «نحن الأمّة

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 255

الوسط، و نحن شهداء اللّه على خلقه، و حجّته في أرضه». و في رواية أخرى قال: «إلينا يرجع الغالي، و بنا يلحق المقصّر».

و

روى أبو القاسم الحسكاني في كتاب شواهد التنزيل لقواعد التفضيل بإسناده عن سليم بن قيس الهلالي، عن عليّ عليه السّلام: أنّ اللّه تعالى إيّانا عني بقوله:

جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً «1».

لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ علّة للجعل، أي: لتعلموا بالتأمّل فيما نصب لكم من الحجج و أنزل من الكتاب أنّه تعالى ما بخل على أحد و ما ظلم، بل أوضح السبل و أرسل الرسل، فبلّغوا و نصحوا، و لكنّ الّذين كفروا حملتهم الشهوات النفسانيّة على الإعراض عن الآيات البيّنة، فتشهدون على معاصريكم و على الّذين قبلكم و بعدكم وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً أي: شاهدا عليكم بما يكون من أعمالكم، فيزكّيكم و يعلم بعدالتكم.

روي: «أنّ الأمم يوم القيامة يجحدون تبليغ الأنبياء، فيطالب اللّه الأنبياء بالبيّنة على أنّهم قد بلّغوا و هو أعلم بهم، إقامة للحجّة على المنكرين، فيؤتى بأمّة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيشهدون لهم، فتقول الأمم: من أين عرفتم؟ فيقولون: علمنا ذلك بإخبار اللّه تعالى في كتابه الناطق على لسان نبيّه الصادق، فيؤتى بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلم فيسأل عن حال أمّته، فيشهد بعدالتهم».

و هذه الشهادة و إن كانت لهم، لكن لمّا كان الرسول كالرقيب المهيمن على أمّته عدّي ب «على»، كما في قوله: كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ

عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ «2». و أخّرت الصلة أوّلا لأنّ الغرض في الأوّل إثبات شهادتهم على الأمم، و قدّمت آخرا للدلالة على اختصاصهم بكون الرسول شهيدا عليهم.

______________________________

(1) شواهد التنزيل 1: 119 ح 129.

(2) المائدة: 117.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 256

و قيل: الشهود أربعة: الملائكة، و الأنبياء، و أمّة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الجوارح، كما قال: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ «1» الآية.

وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها «التي» ليست بصفة القبلة، بل هي المفعول الثاني ل «جعل». يعني: و ما جعلنا القبلة الجهة الّتي كنت عليها، و هي الكعبة، لأنّه عليه السّلام كان يصلّي إليها بمكّة، ثمّ لمّا هاجر أمر بالصّلاة إلى صخرة بيت المقدس تألّفا لليهود. أو هي الصخرة، لقول ابن عبّاس: كانت قبلته بمكّة بيت المقدس، إلّا أنّه يجعل الكعبة بينه و بينه. فالمخبر به على الأوّل الجعل الناسخ، و على الثاني الجعل المنسوخ. و المعنى: أنّ أصل أمرك أن تستقبل الكعبة، و ما جعلنا قبلتك بيت المقدس.

إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يَتَّبِعُ الرَّسُولَ مِمَّنْ يَنْقَلِبُ عَلى عَقِبَيْهِ إلّا لنمتحن النّاس، و نعلم من يتّبعك في الصّلاة إلى الصخرة ممّن يرتدّ عن دينك آلفا لقبلة آبائه. أو لنعلم الآن ممّن يتّبع الرسول ممّن لا يتّبعه. و على الأوّل معناه: ما رددناك إلى التي كنت عليها إلا لنعلم الثابت على الإسلام ممّن ينكص على عقبيه، لقلقه و ضعف إيمانه.

و إنّما قال: «لنعلم» و لم يزل عالما بذلك لأنّ معناه: لنعلمه علما يتعلّق به الجزاء، و هو أن يتعلّق علمه به موجودا حاصلا. فهذا و نظائره باعتبار التعلّق الحالي الّذي هو مناط الجزاء، لا بأن يكون

علمه تعالى غاية الجعل، إذ هو سبحانه لم يزل عالما.

و قيل: ليعلم رسوله و المؤمنون، لكنّه أسند إلى نفسه لأنّهم خواصّه. أو المعنى: لنميّز الثابت من المتزلزل، كقوله تعالى: لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ «2»

______________________________

(1) النور: 24.

(2) الأنفال: 37.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 257

فوضع العلم موضع التمييز المسبّب عنه. و هو الأصحّ، لأنّه واضح خال عن التعسّف.

و العلم إمّا بمعنى المعرفة، أو معلّق عن العمل، لما في «من» من معنى الاستفهام، أو مفعوله الثاني «ممّن ينقلب»، أي: لنعلم من يتّبع الرسول متميّزا ممّن ينقلب.

وَ إِنْ كانَتْ لَكَبِيرَةً «إن» هي المخفّفة من الثقيلة، و «اللّام» هي الفارقة بينها و بين الناصبة. و عند الكوفيّين هي النافية، و اللّام بمعنى إلّا. و هذا مستبعد. و الضمير في «كانت» لما دلّ عليه قوله: وَ ما جَعَلْنَا الْقِبْلَةَ الَّتِي كُنْتَ عَلَيْها من الجعلة، أو التولية، أو الردّة، أو التحويلة، أو القبلة. و المعنى: و قد كانت هذه الجعلة لثقيلة شاقّة، أو ما كانت إلّا ثقيلة على الناس إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ إلى حكمة الأحكام، و هم الثابتون على الايمان و الاتّباع لرسول اللّه. و في الكشّاف: «يحكى عن الحجّاج أنّه قال للحسن: ما رأيك في أبي تراب؟ فقرأ قوله: إِلَّا عَلَى الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ قال: و عليّ منهم، و هو ابن عمّ رسول اللّه، و ختنه على ابنته، و أقرب النّاس إليه، و أحبّهم» «1».

وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أي: ثباتكم على الإيمان. و قيل: إيمانكم بالقبلة المنسوخة، بل شكر صنيعكم، و أعدّ لكم الثواب الجزيل. و قيل: معناه من صلّى إلى بيت المقدس قبل التحويل فصلاته غير ضائعة، لما روي عن ابن عبّاس أنّه صلّى اللّه عليه

و آله و سلّم لمّا وجّه إلى الكعبة قالوا: كيف بمن مات يا رسول اللّه قبل التحويل من إخواننا؟ فنزلت: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ أي: صلاتكم إلى بيت المقدس.

إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ فلا يضيع أجورهم، و لا يدع صلاحهم.

و تقديم الرؤوف مع أنّه أبلغ من الرحيم محافظة على الفواصل.

______________________________

(1) الكشّاف 1: 201.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 258

[سورة البقرة (2): الآيات 144 الى 146]

قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً تَرْضاها فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ وَ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (144) وَ لَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ وَ ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ وَ ما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (145) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (146)

قال المفسّرون: كانت الكعبة أحبّ القبلة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لأنّه قبلة أبيه إبراهيم و أقدم القبلتين، و أدعى للعرب إلى الإيمان، لأنّها مفخرة العرب و مطافهم، و لمخالفة اليهود. فقال لجبرئيل عليه السّلام: وددت أن اللّه تعالى صرفني عن قبلة اليهود إلى غيرها. فقال له جبرئيل: إنّما أنا عبد مثلك، و أنت كريم على ربّك، فادع ربّك و اسأله. ثمّ ارتفع جبرئيل، و استحيى رسول اللّه أن يسال ذلك ربّه، فيديم النظر إلى السماء رجاء أن يأتيه جبرئيل الّذي توقّع، فنزلت: قَدْ نَرى تَقَلُّبَ وَجْهِكَ فِي السَّماءِ تردّد وجهك في جهة السماء تطلّعا للوحي فَلَنُوَلِّيَنَّكَ قِبْلَةً فلنمكّننّك من

استقبالها، من قولك: ولّيته كذا، إذا صيّرته واليا له، أو فلنجعلنّك تلي جهتها دون جهة بيت المقدس تَرْضاها تحبّها و تتشوّق إليها، لمقاصد دينيّة أضمرتها و وافقت مشيئة اللّه تعالى و حكمته.

فَوَلِّ وَجْهَكَ أصرف وجهك شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ نحوه، و هو منصوب

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 259

على الظرف، أي: اجعل تولية الوجه تلقاء المسجد، أي: في جهته و سمته. و قيل:

الشطر في الأصل لما انفصل عن الشي ء، من «شطر» إذا انفصل، و دار شطور أي:

منفصلة عن الدور، ثمّ استعمل لجانب الشي ء و إن لم ينفصل كالقطر. و الحرام المحرّم، أي: محرّم فيه القتال، أو ممنوع من الظّلمة أن يتعرّضوه. و إنّما ذكر المسجد دون الكعبة لأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان في المدينة، و البعيد يكفيه مراعاة الجهة، فإنّ استقبال عينها حرج عليه، بخلاف القريب.

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قدم المدينة فصلّى نحو بيت المقدس ستّة عشر شهرا، ثمّ وجّه إلى نحو الكعبة في رجب بعد زوال الشمس قبل قتال بدر بشهرين، و هو صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مسجد بني سلمة، و قد صلّى ركعتين من الظهر، فتحوّل في الصلاة و استقبل الميزاب، و تبادل الرجال و النساء صفوفهم، فسمّي المسجد مسجد القبلتين.

و خصّ الرسول بالخطاب أوّلا تعظيما له، و إيجابا لرغبته، ثمّ عمّم تصريحا بعموم الحكم، و تأكيدا لأمر القبلة، و تحضيضا للأمّة على المتابعة، فقال: وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ أينما كنتم من الأرض، في برّ أو بحر، سهل أو جبل فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ فهو خطاب لجميع أهل الآفاق وَ إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يعني: علماء اليهود و النصارى لَيَعْلَمُونَ أَنَّهُ الْحَقُ أنّ

التحويل أو التوجّه إلى الكعبة هو الحقّ مِنْ رَبِّهِمْ صادرا منه، لأنّه كان في بشارة أنبيائهم رسول اللّه، و في كتبهم أنّه يصلّي القبلتين وَ مَا كان اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ وعد و وعيد للفريقين. و قرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي بالتاء.

ثمّ بيّن رسوخ كفرهم و عنادهم بقوله: وَ لَئِنْ أَتَيْتَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بِكُلِّ آيَةٍ برهان قاطع و حجّة ساطعة على أنّ الكعبة قبلة، و اللام موطّئة للقسم ما تَبِعُوا قِبْلَتَكَ جواب القسم المضمر، و قد سدّ مسدّ جزاء الشرط. و المعنى: ما تركوا قبلتك لشبهة تزيلها بحجّة، و إنّما خالفوك مكابرة و عنادا، لعلمهم بما في كتبهم من نعتك و كونك على الحقّ.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 260

وَ ما أَنْتَ بِتابِعٍ قِبْلَتَهُمْ قطع لأطماعهم، فإنّهم قالوا: لو ثبتّ على قبلتنا لكنّا نرجو أن تكون صاحبنا الّذي ننتظره، و طمعوا في رجوعه إلى قبلتهم. و قبلتهم و إن تعدّدت، لأنّ اليهود تستقبل بيت المقدس، و النصارى مطلع الشمس، لكنّها متحدة بالبطلان و مخالفة الحقّ.

وَ ما بَعْضُهُمْ بِتابِعٍ قِبْلَةَ بَعْضٍ فإنّ اليهود تستقبل الصخرة، و النصارى مطلع الشمس، لا يرجى توافقهم، كما لا يرجى موافقتهم لك، لتصلّب كلّ حزب فيما هو و ثباته عليه.

وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ على سبيل الفرض و التقدير مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أي: و لئن اتّبعتهم مثلا بعد ما بان لك الحقّ و جاءك فيه الوحي إِنَّكَ إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ لمن المرتكبين الظلم الفاحش.

أكّد تهديده و بالغ فيه من سبعة أوجه، و هي: تصدير الكلام بالقسم المضمر أوّلا، ثمّ تصدير الجملة ب «إنّ» الّتي تفيد التأكيد و التحقيق ثانيا، و التركيب من الجملة الاسميّة ثالثا، و إدخاله في

جملة الظالمين دون قوله: فإنّك ظالم رابعا، و اللّام في قوله: لَمِنَ الظَّالِمِينَ خامسا، و إسناد اتّباع الباطل بعد حصول العلم بعدم جوازه سادسا، و تنزيل اتّباعهم في شي ء واحد منزلة اتّباع أهوائهم سابعا، تعظيما للحقّ المعلوم، و تحريضا على اقتفائه، و تحذيرا عن متابعة الهوى، و استفظاعا لصدور الذنب عن الأنبياء، و تحذيرا و تهجينا لحال من يترك الدليل بعد تبيينه.

الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يعني: علماءهم يَعْرِفُونَهُ الضمير للرسول و إن لم يسبق ذكره، لدلالة الكلام عليه، و مثل هذا الإضمار فيه تفخيم و إيذان بأنّه لشهرته معلوم بغير إعلام، أي: يعرفون رسول اللّه بأوصافه معرفة جليّة كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمْ كمعرفتهم أبناءهم، لا يلتبسون عليهم بغيرهم.

قيل: سأل عمر عبد اللّه بن سلام عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: أنا أعلم به منّي بابني، قال: و لم؟ قال: لأنّي لست أشكّ في محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه نبيّ، فأمّا ولدي فلعلّ والدته خانت.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 261

و خصّص الأبناء لأنّ الذكور أشهر و أعرف، و هم بصحبة الآباء ألزم، و بقلوبهم ألصق. و قيل: الضمير للعلم أو للقرآن أو التحويل. و الأوّل أصحّ.

وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنْهُمْ لَيَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ تخصيص لمن عاند و استثناء معنويّ لمن آمن منهم، كعبد اللّه بن سلام و كعب الأحبار، أو لجهّالهم الّذين قال فيهم: وَ مِنْهُمْ أُمِّيُّونَ لا يَعْلَمُونَ الْكِتابَ «1».

[سورة البقرة (2): الآيات 147 الى 152]

الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (147) وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ هُوَ مُوَلِّيها فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أَيْنَ ما تَكُونُوا يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (148) وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ

وَ إِنَّهُ لَلْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (149) وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِي وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (150) كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولاً مِنْكُمْ يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا وَ يُزَكِّيكُمْ وَ يُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (151)

فَاذْكُرُونِي أَذْكُرْكُمْ وَ اشْكُرُوا لِي وَ لا تَكْفُرُونِ (152)

الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ مبتدأ و خبر. و هو كلام مستأنف. و فيه وجهان: أن يكون

______________________________

(1) البقرة: 78.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 262

اللّام للعهد و الإشارة إلى الحقّ الّذي عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أن يكون للجنس على معنى: الحقّ ما ثبت أنّه من اللّه تعالى كالّذي أنت عليه، لا ما لم يثبت كالّذي عليه أهل الكتاب. و يجوز أن يكون «الحقّ» خبر مبتدأ محذوف، أي: هو الحقّ، فيكون «من ربّك» في محلّ النصب على الحال، أو يكون خبرا بعد خبر.

فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ الشاكّين أنّه من ربّك، أو في كتمانهم الحقّ عالمين به. و ليس المراد به نهي الرسول عن الشكّ فيه، لأنّه غير متوقّع منه، بل إمّا تحقيق الأمر و أنّه بحيث لا يشكّ فيه ناظر، أو أمر الأمّة باكتساب المعارف المزيلة للشّك على الوجه الأبلغ، لأنّ النهي عن الشي ء أمر بضدّه.

وَ لِكُلٍّ وِجْهَةٌ و لكلّ أمّة من أهل الأديان المختلفة قبلة، و التنوين عوض المضاف إليه هُوَ مُوَلِّيها أحد المفعولين محذوف، أي: هو مولّيها وجهه، أو اللّه تعالى مولّيها إيّاه. و قرأ ابن عامر: مولّاها، أي: هو مولّى تلك

الجهة، أي: جعل وجهه إيّاها و جاعله هو اللّه. و يجوز أن يكون المعنى: و لكلّ منكم يا أمّة محمد جهة يصلّي إليها، جنوبيّة أو شماليّة، أو شرقيّة أو غربيّة، حال كون كلّ منها مسامتة للكعبة.

فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ أي: سارعوا إلى الطاعات من أمر القبلة و غيره ممّا ينال به سعادة الدارين، أو الفاضلات من الجهات، و هي الجهات المسامتة للكعبة و إن اختلفت.

أَيْنَ ما تَكُونُوا في أيّ موضع تكونوا من موافق و مخالف، مجتمع الأجزاء و متفرّقها يَأْتِ بِكُمُ اللَّهُ جَمِيعاً يحشركم اللّه إلى المحشر للجزاء، أو أينما تكونوا من أعماق الأرض و قلل الجبال يقبض أرواحكم. قال الرضا عليه السّلام: و ذلك و اللّه أن لو قام قائمنا يجمع اللّه إليه جميع شيعتنا من جميع البلدان. و قيل: معناه: أيّ موضع كنتم من الجهات المختلفة يجمعكم، و يجعل صلواتكم كأنّها إلى جهة

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 263

واحدة، و كأنّكم حاضري المسجد. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فيقدر على الإماتة و الإحياء و الجمع.

وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ و من أيّ بلد خرجت للسّفر فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إذا صلّيت وَ إِنَّهُ و إنّ هذا المأمور به لَلْحَقُ للثابت الّذي لا يزول بنسخ مِنْ رَبِّكَ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ و قرأ أبو عمرو بالياء. و هذا تهديد لهم في المخالفة.

وَ مِنْ حَيْثُ خَرَجْتَ فَوَلِّ وَجْهَكَ شَطْرَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ حَيْثُ ما كُنْتُمْ فَوَلُّوا وُجُوهَكُمْ شَطْرَهُ كرّر هذا الحكم لتعدّد علله، فإنّه تعالى ذكر للتحويل ثلاث علل:

تعظيم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بابتغاء مرضاته، و جري العادة الإلهيّة على أن يولّي أهل كلّ ملّة و صاحب دعوة وجهة يستقبلها و يتميّز

بها كما وقع في كتب أهل الكتاب، و دفع حجج المخالفين على ما يبيّنه. مع أنّ القبلة لها شأن، و النسخ من مظانّ الفتنة و الشبهة، فالحريّ أن يؤكّد أمرها و يعاد ذكرها مرّة بعد أخرى.

لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَيْكُمْ حُجَّةٌ علّة لقوله: فَوَلُّوا. و المعنى: أنّ التولية عن الصخرة إلى الكعبة تدفع احتجاج اليهود بأنّ النبيّ المنعوت في التوراة قبلته الكعبة، و أنّ محمّدا يجحد ديننا و يتّبعنا في قبلتنا، و يدفع احتجاج المشركين بأنّه يدّعي ملّة إبراهيم و يخالف قبلته.

إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ استثناء من الناس، أي: لئلّا يكون لأحد من الناس حجّة إلّا المعاندين منهم، فإنّهم يقولون: ما تحوّل إلى الكعبة إلّا ميلا إلى دين قومه و حبّا لبلده، و لو كان على الحقّ للزم قبلة الأنبياء، أو بدا له فرجع إلى قبلة آبائه، و يوشك أن يرجع إلى دينهم. و تسمية هذه حجّة مثل قوله: حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ «1» لأنّهم يسوقون مساقها. و قيل: الحجّة بمعنى الاحتجاج.

______________________________

(1) الشورى: 16.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 264

فَلا تَخْشَوْهُمْ فلا تخافوهم، فإنّ مطاعنهم لا تضرّكم وَ اخْشَوْنِي فلا تخالفوا ما أمرتكم وَ لِأُتِمَّ نِعْمَتِي عَلَيْكُمْ علّة محذوف، أي: و أمرتكم بالتحويل لإتمامي النعمة عليكم، و إرادتي اهتداءكم. أو عطف على علّة مقدّرة مثل:

و اخشوني لأحفظكم منهم، أو لأوفّقكم و لأتمّ نعمتي عليكم، أو عطف على لِئَلَّا يَكُونَ

و

في الحديث: «تمام النعمة دخول الجنّة».

و

عن عليّ عليه السّلام «تمام النعمة الموت على الإسلام».

و

روي عن ابن عبّاس قال: و لأتمّ نعمتي عليكم في الدنيا و الآخرة، أمّا في الدّنيا فأنصركم على أعدائكم، و أورثكم أرضهم و ديارهم و أموالهم، و أمّا في الآخرة فجنّتي و رحمتي.

و

روي عن علي عليه السّلام قال:

«النعم ستّة: الإسلام، و القرآن، و محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الستر، و العافية، و الغنى عمّا في أيدي الناس».

وَ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ أي: لكي تهتدوا، و «لعلّ» من اللّه واجب. و قيل: لتهتدوا إلى ثوابها. و قيل: إلى التمسّك بها.

و قوله: كَما أَرْسَلْنا فِيكُمْ رَسُولًا مِنْكُمْ متّصل بما قبله، أي: و لأتمّ نعمتي عليكم في أمر القبلة، أو في الآخرة بالثواب، كما أتممتها بإرسال رسول منكم.

و إمّا أن يتعلّق بما بعده، أي: كما ذكرتكم بإرسال الرسول فاذكروني بالطاعة.

يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِنا يوحى إليه بأدلّة التوحيد و النبوّة وَ يُزَكِّيكُمْ و يحملكم على ما تصيرون به أزكياء، من الأمر بطاعة اللّه و اتّباع مرضاته وَ يُعَلِّمُكُمُ الْكِتابَ القرآن وَ الْحِكْمَةَ و أحكام الشريعة. و في المجمع «1»: أنّ المراد بالآيات و الكتاب و الحكمة القرآن، جمعا بين صفاته، لاختلاف فائدتها وَ يُعَلِّمُكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ بالفكر و النظر، إذ لا طريق لكم إلى معرفته سوى

______________________________

(1) مجمع البيان: 1: 233.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 265

الوحي، و لا سبيل لكم إلى علمه إلا من جهة السمع. و كرّر «يعلّمكم» ليدلّ على أن هذا التعليم جنس آخر، أي: ليس من جنس ما يحصل بالفكر.

فَاذْكُرُونِي بأنواع الطاعة أَذْكُرْكُمْ بصنوف الثواب و الرحمة. و قيل:

اذكروني في النعمة و الرخاء أذكركم في الشدّة و البلاء، و اذكروني بالدعاء أذكركم بالإجابة. و

عن الباقر عليه السّلام قال: «قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّ الملك ينزل الصحيفة من أوّل النهار و أوّل الليل، يكتب فيها عمل ابن آدم، فأملوا في أوّلها خيرا و في آخرها خيرا، فإنّ اللّه تعالى يغفر لكم ما بين ذلك إن شاء اللّه،

فإنّ اللّه تعالى يقول: اذكروني أذكركم».

وَ اشْكُرُوا لِي ما أنعمت عليكم وَ لا تَكْفُرُونِ بجحد نعمائي و عصيان أمري.

[سورة البقرة (2): الآيات 153 الى 154]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ وَ الصَّلاةِ إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (153) وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ بَلْ أَحْياءٌ وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ (154)

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَعِينُوا بِالصَّبْرِ بحبس النفس على اجتناب المعاصي و الحظوظ النفسيّة المحرّمة، و على تحمّل الطاعات و العبادات. و إلى هذا المعنى

أشار أمير المؤمنين عليه السّلام في قوله: «الصبر صبران: صبر على ما تكره، و صبر على ما تحبّ».

وَ الصَّلاةِ الّتي هي أمّ العبادات، و أفضلها في الدين، لأنّها معراج المؤمنين، و المناجاة لربّ العالمين، و تتضمّن الذكر و الخشوع و الخضوع، و تذكّر المبدأ و المعاد و الوعد و الوعيد.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 266

إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ بالمعونة و النصرة، و التوفيق في أداء العبادات و الاجتناب من المقبّحات. و لا يجوز أن يكون «مع» هاهنا بمعنى الاجتماع، لأنّ ذلك من صفات الأجسام، تعالى اللّه عن ذلك. و في الآية دلالة على أنّ في الصلاة لطفا للعبد، لأنّه سبحانه أمرنا بالاستعانة بها، و يؤيّده قوله سبحانه: إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ «1».

و لمّا أمر اللّه سبحانه عباده بالصبر و الصلاة رغّبهم في الجهاد بقوله: وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ يُقْتَلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتٌ أي: هم أموات بَلْ أَحْياءٌ هم أحياء وَ لكِنْ لا تَشْعُرُونَ ما حالهم. عن الحسن: أنّ الشهداء أحياء عند اللّه تعالى، تعرض أرزاقهم على أرواحهم، فيصل إليهم الرّوح و الفرح، كما تعرض النار على أرواح آل فرعون غدوّا و عشيّا، فيصل إليهم الوجع و شدّة الألم. و فيها

دلالة على أنّ الأرواح جواهر قائمة بأنفسها، مغايرة لما يحسّ من البدن، تبقى بعد الموت درّاكة، و عليه جمهور الصحابة و التابعين. و عن مجاهد: يرزقون ثمر الجنّة، يجدون ريحها و ليسوا فيها. و قالوا: يجوز أن يجمع اللّه من أجزاء الشهيد جملة، فيحييها و يوصل إليها النعم و إن كانت في حجم الذرّة. و قيل: نزلت في شهداء بدر، و كانوا أربعة عشر رجلا، ستّة من المهاجرين، و ثمانية من الأنصار.

و

روى الشيخ محمد بن يعقوب الكليني في الكافي «2»، و الشيخ أبو جعفر في تهذيب «3» الأحكام، مسندا إلى عليّ بن مهزيار، عن الحسن، عن القاسم بن محمد، عن الحسين بن أحمد، عن يونس بن ظبيان، و الشهيد في الذكرى «4»، عن يونس

______________________________

(1) العنكبوت: 45.

(2) الكافي 3: 245 ح 6.

(3) تهذيب الأحكام 1: 466 ح 1256.

(4) ذكرى الشيعة 2: 91. زبدة التفاسير، ج 1، ص: 267

قال: «كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام جالسا، فقال: ما تقول الناس في أرواح المؤمنين؟

قلت: يقولون: في حواصل طير خضر، في قناديل تحت العرش.

فقال أبو عبد اللّه عليه السّلام: سبحان اللّه، المؤمن أكرم على اللّه من أن يجعل روحه في حوصلة طائر أخضر. يا يونس المؤمن إذا قبضه اللّه تعالى صيّر روحه في قالب كقالبه في الدنيا، يأكلون و يشربون، فإذا قدم عليهم القادم عرفوه بتلك الصورة الّتي كانت في الدنيا».

و

عنه، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن أبي بصير قال: «سألت عن أرواح المؤمنين، فقال: في الجنّة على صور أبدانهم لو رأيته لقلت فلان» «1».

[سورة البقرة (2): الآيات 155 الى 157]

وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ بِشَيْ ءٍ مِنَ الْخَوْفِ وَ الْجُوعِ وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ وَ الْأَنْفُسِ وَ الثَّمَراتِ وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ (155) الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ

مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ (156) أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ (157)

و لمّا بيّن سبحانه ما كلّف عباده من العبادات عقّبه ببيان ما امتحنهم من فنون المشقّات، فقال خطابا للمؤمنين: وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ و لنصيبنّكم إصابة من يختبر لأحوالكم، ليظهر على أهل العالم هل تصبرون على البلاء و تستسلمون لحكم اللّه أم لا؟ بِشَيْ ءٍ بشي ء قليل مِنَ الْخَوْفِ خوف قصد المشركين و سائر الأعداء وَ الْجُوعِ بسبب تشاغلهم بالجهاد في سبيل اللّه عن المعاش، و احتياجهم إلى الّذي لحقهم، أو الصوم. و إنّما قلّله بالإضافة إلى ما وقاهم عنه ليخفّف عليهم،

______________________________

(1) تهذيب الأحكام 1: 466 ح 1527.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 268

و يريهم أنّ رحمته لا تفارقهم، أو بالنسبة إلى معانديهم في الآخرة. و إنّما أخبرهم به قبل وقوعه ليوطّنوا عليه نفوسهم.

وَ نَقْصٍ مِنَ الْأَمْوالِ عطف على شي ء أو الخوف. و سبب النقص الانقطاع بالجهاد عن العمارة. و قيل: المراد هلاك المواشي، أو أداء الزكوات و الصّدقات، أو مطلق الخسران و الغبن وَ الْأَنْفُسِ بالأمراض، أو بموت الأقارب و الأحبّة في الجهاد و غيره وَ الثَّمَراتِ بذهاب حمل الأشجار بسبب الآفات السّماويّة، و ارتفاع البركات، أو لاشتغالهم بالقتال عن عمارة البستان، و عن مناكحة النسوان، فتقلّ ثمرات البساتين و حمل البنات و البنين بذلك. و قيل: أراد به موت الأولاد، لأنّ الولد ثمرة القلب.

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا مات ولد العبد قال اللّه تعالى للملائكة: أ قبضتم ولد عبدي؟ فيقولون: نعم، فيقول اللّه: أ قبضتم ثمرة قلبه؟ فيقولون: نعم، فيقول اللّه: ماذا قال عبدي؟ فيقولون: حمدك و استرجع، فيقول اللّه عزّ و جلّ:

ابنوا لعبدي بيتا في الجنّة و سمّوه بيت الحمد.

وَ بَشِّرِ الصَّابِرِينَ بما لهم على الصبر في تلك المشاقّ و المكاره من المثوبة الجزيلة و العاقبة الجميلة.

ثمّ وصف عزّ اسمه الصّابرين بقوله: الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ نالتهم بليّة في النفس أو المال فوطّنوا أنفسهم على ذلك احتسابا للأجر قالُوا إِنَّا لِلَّهِ إقرارا بالعبوديّة و الملكيّة، أي: نحن عبيد اللّه و مماليكه وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ إقرارا بالبعث و النشور، أي: نحن إلى حكمه نصير. و لهذا

قال عليّ عليه السّلام: «إنّ قولنا: «إِنَّا لِلَّهِ إقرار على أنفسنا بالملك «وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ إقرار على أنفسنا بالهلك».

و الخطاب للرسول، أو لمن تتأتّى منه البشارة. و المصيبة تعمّ ما يصيب

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 269

الإنسان من مكروه،

لقوله عليه السّلام: «كلّ شي ء يؤذي المؤمن فهو مصيبة».

و ليس الصبر بالاسترجاع باللّسان، بل به و بالقلب، بأن يتصوّر معنى الاسترجاع، و هو أنّه ما خلق لأجله، و أنّه راجع إلى جزاء ربّه، و يتذكّر نعم اللّه عليه ليرى أن ما أبقى عليه أضعاف ما استردّه منه، فيهون على نفسه و يستسلم له.

و المبشّر به محذوف دلّ عليه قوله: أُولئِكَ الّذين وصفهم اللّه بأنّهم من الصّابرين المسترجعين المستسلمين لقضاء اللّه عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ الصّلاة في الأصل الدعاء، و من اللّه العطوفة و الرأفة المستلزمتان المغفرة و التزكية و اللطف و الإحسان. جمع بينها و بين الرحمة للتنبيه على كثرتها و تنوّعها، كقوله:

رَأْفَةً وَ رَحْمَةً «1» و رَؤُفٌ رَحِيمٌ «2». و المعنى: عليهم رأفة بعد رأفة، و رحمة أيّ رحمة.

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من استرجع عند المصيبة جبر اللّه مصيبته، و أحسن عقباه، و جعل له

خلفا صالحا يرضاه».

و

عن الصادق عليه السّلام، عن آبائه، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «أربع من كنّ فيه كتبه اللّه من أهل الجنّة: من كانت عصمته شهادة أن لا إله إلّا اللّه، و من إذا أنعم اللّه عليه النعمة قال: الحمد للّه، و من إذا أصاب ذنبا قال أستغفر اللّه، و من إذا أصابته مصيبة قال: إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ .

روي: «أنّه طفئ سراج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ فقيل: أ مصيبة هي؟ قال: نعم، كلّ شي ء يؤذي المؤمن فهو له مصيبة».

وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُهْتَدُونَ للحقّ و الصّواب، حيث استرجعوا و سلّموا أنفسهم لحكم اللّه و قضائه.

______________________________

(1) الحديد: 27.

(2) التوبة: 117.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 270

[سورة البقرة (2): آية 158]

إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ عَلِيمٌ (158)

و لمّا ذكر اللّه سبحانه امتحان العباد بالتكليف و الإلزام مرّة، و بالمصائب و الآلام أخرى، ذكر سبحانه أنّ من جملة ذلك أمر الحجّ الّذي يتضمّن المشاقّ الكثيرة و المتاعب العظيمة، فقال: إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ هما علما جبلين بمكّة مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ من أعلام مناسكه، جمع شعيرة و هي العلامة، أي: هما من أعلام مناسكه و متعبّداته فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ. الحجّ لغة القصد، و الاعتمار الزيارة، فغلبا شرعا على قصد البيت و زيارته على الوجهين المخصوصين، فهما في المعاني كالنجم و البيت في الأعيان. و معناه: إذا قصده لأجل أداء النسكين المعروفين فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما أصله: يتطوّف، فأدغم.

و إنّما قال: فَلا

جُناحَ عَلَيْهِ و السعي بينهما واجب، لأنّه كان على الصّفا أساف، و على المروة نائلة، و هما صنمان، يروى أنّهما كانا رجلا و امرأة زنيا في الكعبة، فمسخا حجرين، فوضعا عليهما ليعتبر بهما، فلمّا طالت المدّة عبدا، و كان أهل الجاهليّة إذا سعوا مسحوهما، فلمّا جاء الإسلام و كسرت الأوثان تحرّج المسلمون الطواف بينهما لأجل فعل الجاهليّة، و رفع عنهم الجناح بهذه الآية، و الإجماع على أنّه مشروع في الحجّ و العمرة.

وَ مَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً أي: من تبرّع بالسعي بين الصفا و المروة بعد ما أدّى الواجب من حجّ أو عمرة، أو من تطوّع بالخيرات و أنواع الطاعات. و نصبه على أنّه صفة مصدر محذوف، أو بحذف الجارّ و إيصال الفعل إليه، أو بتعدية الفعل، لتضمّنه معنى «أتى» أو «فعل». و قرأ حمزة و الكسائي و يعقوب: يطّوّع، و أصله: يتطوّع، فأدغم، مثل: يطّوّف فَإِنَّ اللَّهَ شاكِرٌ مثيب على الطاعة عَلِيمٌ لا يخفى عليه

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 271

خافية، فلا يبخس أحدا حقّه.

و في هذه الآية دلالة على أنّ السعي بين الصفا و المروة عبادة. و لا خلاف في ذلك، و إنّما الخلاف في وجوبه، فهو عندنا واجب في الحجّ و العمرة بالإجماع، و به قال الحسن و عائشة. و مذهب الشافعي أنّه واجب و ركن. و قال: إنّ السنّة أوجبت السّعي، و هو

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «كتب عليكم السعي فاسعوا».

و عن أحمد: سنّة، و به قال أنس، لقوله تعالى فَلا جُناحَ و هو ضعيف، لأنّ نفي الجناح يدلّ على الجواز الداخل في معنى الوجوب، فلا يدفعه. و عن أبي حنيفة: أنّه واجب يجبر بالدم.

[سورة البقرة (2): الآيات 159 الى 160]

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلْنا مِنَ

الْبَيِّناتِ وَ الْهُدى مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لِلنَّاسِ فِي الْكِتابِ أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللاَّعِنُونَ (159) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ بَيَّنُوا فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ أَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (160)

ثمّ حثّ اللّه سبحانه على إظهار الحقّ و بيانه، و نهى عن إخفائه و كتمانه، فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ كأحبار اليهود ما أَنْزَلْنا مِنَ الْبَيِّناتِ الحجج الدالّة على صحّة نبوّة محمد المكتوبة في كتابهم الشاهدة عليها. و هو جمع بيّنة، فعيلة من البيان، و هو ظهور الحقّ، و كلّ ما قام به حقّ يسمّى بيّنة و حجّة و برهانا وَ الْهُدى و هو ما يهدي إلى وجوب اتّباعه من الأدلّة الهادية إلى نعته، و الأمر باتّباعه و الإيمان به. و قيل: المراد بالأوّل الأدلّة النقليّة، و بالثاني الأدلّة العقليّة مِنْ بَعْدِ ما بَيَّنَّاهُ لخّصناه للناس فِي الْكِتابِ في التوراة، بحيث لم ندع فيه موضع إشكال و لا اشتباه على أحد منهم، فكتموا ذلك المبيّن الملخّص أُولئِكَ يَلْعَنُهُمُ اللَّهُ وَ يَلْعَنُهُمُ اللَّاعِنُونَ أي: الّذين يتأتّى منهم اللعن عليهم من الملائكة و مؤمني الثقلين.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 272

إِلَّا الَّذِينَ تابُوا أي: ندموا على ما فعلوا من الكتمان و سائر ما يجب أن يتاب عنه وَ أَصْلَحُوا ما أفسدوا من أحوالهم فيما يستقبل من الأوقات، و تداركوا ما فرط منهم وَ بَيَّنُوا للناس ما بيّنه اللّه في كتابهم، ليمحوا سمة الكفر عنهم، و يتمّ توبتهم، و يعرفوا بضدّ ما عرفوا، و يقتدي بهم غيرهم من المفسدين فَأُولئِكَ أَتُوبُ عَلَيْهِمْ أقبل توبتهم بالمغفرة وَ أَنَا التَّوَّابُ الرَّحِيمُ المبالغ في قبول التوبة و إفاضة الرّحمة.

و في هذه الآية دلالة على أنّ كتمان الحقّ مع الحاجة إلى إظهاره من أعظم

الكبائر، و أنّ من كتم شيئا من العلوم الدينيّة و فعل مثل فعلهم فهو في أعظم الجرم.

و

قد روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «من سئل عن علم يعلمه فكتمه ألجم يوم القيامة بلجام من نار».

و فيها أيضا دلالة على وجوب الدعاء إلى التوحيد و العدل، لأنّ في كتاب اللّه ما يدلّ عليهما، تأكيدا لما في العقول من الأدلّة.

[سورة البقرة (2): الآيات 161 الى 162]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ لَعْنَةُ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ (161) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (162)

و بعد بيان حال من كتم الحقّ، و حال من تاب منهم، عقّبه بحال من يموت من غير توبة منهم و من الكفّار عموما، فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ أي: من لم يتب من الكاتمين و من غيرهم من الكفرة المصرّين حتى ماتوا أُولئِكَ عَلَيْهِمْ استقرّ عليهم لَعْنَةُ اللَّهِ إبعادهم عن رحمته و إيجاب العقاب عليهم وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ أراد بالناس من يعتدّ بلعنه من خلقه، و هم المؤمنون خاصّة. قيل: الأوّل لعنهم أحياء، و هذا لعنهم أمواتا، بدليل قوله: خالِدِينَ فِيها

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 273

دائمين في اللعنة أو النار. و إضمارها قبل الذكر تفخيما لشأنها و تهويلا، أو اكتفاء بدلالة اللعن عليها. و قيل: يوم القيامة يلعن بعضهم بعضا لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ أي: يكون عذابهم على وتيرة واحدة، فلا يخفّف أحيانا و يشتدّ أحيانا وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ لا يمهلون من الإنظار، أو لا ينتظرون ليعتذروا، أو لا ينظر إليهم نظر رحمة.

[سورة البقرة (2): آية 163]

وَ إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (163)

عن ابن عبّاس قال: إنّ كفّار قريش قالوا: يا محمد صف لنا و انسب لنا ربّك، فنزلت: وَ إِلهُكُمْ خالقكم و المنعم عليكم بجميع النعم من أصولها و فروعها، و لا شي ء سواه بهذه الصفة، و لا يقدر عليها، فإنّ كلّ ما سواه إمّا نعمة و إمّا منعم عليه إِلهٌ واحِدٌ خطاب للعام، أي: المستحقّ منكم للعبادة واحد فرد في الإلهيّة لا شريك له، فلا يصحّ أن

يعبد غيره و يسمّى إلها لا إِلهَ إِلَّا هُوَ تقرير للوحدانيّة، و إزاحة لأن يتوهّم أنّ في الوجود إلها غيره و لكن لا يستحقّ منهم العبادة الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ كالحجّة عليها، فإنّه سبحانه لمّا كان مولى النعم كلّها أصولها و فروعها، و ما سواه إمّا نعمة أو منعم عليه، فلا يستحقّ العبادة أحد غيره. و هما خبران آخران لقوله: «إلهكم» أو لمبتدأ محذوف.

قال في المجمع: «الآية متّصلة بما قبلها و ما بعدها، فاتّصالها بما قبلها كاتّصال الحسنة بالسيّئة لتمحو أثرها، و يحذّر من مواقعتها، فإنّه لمّا ذكر الشرك و أحكامه أتبع ذلك بذكر التوحيد و أحكامه، و اتّصالها بما بعدها كاتّصال الحكم بالدلالة على صحّته، لأنّ ما ذكر في الآية الّتي بعدها هي الحجّة على صحّة التوحيد» «1».

______________________________

(1) مجمع البيان 1: 244.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 274

[سورة البقرة (2): آية 164]

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ الْفُلْكِ الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (164)

روي أنّ للمشركين كان حول الكعبة ثلاثمائة و ستّون صنما، فلمّا سمعوا هذه الآية قالوا: إن كنت صادقا فائت بآية نعرف بها صدقك، فنزلت: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ في إنشائهما على سبيل الاختراع و الابتداع. جمع السّماوات و أفرد الأرض، لأنّ السماوات طبقات متفاصلة بالذات مختلفة بالحقيقة، بالجنس و اللون و القطر و الكبر، بخلاف الأرضين.

وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ تعاقبهما، فإنّ كلّا منهما يعقب الآخر، كقوله تعالى: جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً «1»، أو اختلافهما

في الجنس و الصفة، من اللون و الطول و القصر و الحركة و السّكون.

وَ الْفُلْكِ و السّفن الحاملة للأثقال و الأحمال الَّتِي تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِما يَنْفَعُ النَّاسَ أي: بالّذي ينفعهم، فتكون «ما» موصولة، أو بنفعهم، فتكون مصدريّة. و توصيف الفلك للاستدلال بالبحر و أحواله. و تخصيصه بالذكر لأنّه سبب الخوض فيه و الاطّلاع على عجائبه، و لذلك قدّمه على ذكر المطر و السحاب، لأنّ منشأهما البحر في غالب الأمر. و تأنيث الفلك لأنّه بمعنى السّفينة.

وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ ماءٍ يعني: من مطر «من» الأولى للابتداء،

______________________________

(1) الفرقان: 62.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 275

و الثانية للبيان. و السماء يحتمل الفلك و السحاب وجهة العلوّ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها فعمّر به الأرض بعد خرابها بالنبات، أو بأهل الأرض بإخراج الأقوات وَ بَثَ و نشر و فرّق فِيها مِنْ كُلِّ دَابَّةٍ، عطف على «أنزل» أي: ما بثّ فيها من كلّ حيوان يدبّ، أو على «أحيا» فإنّ الدوابّ ينمون بالخصب و يعيشون بالمطر.

هذا استدلال بنزول المطر، و تكوّن النبات به، و بثّ الحيوانات في الأرض.

وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ في مهابّها: قبولا، و دبورا، و شمالا، و جنوبا. و في أحوالها: باردة، و حارّة، و لينة، و عاصفة. و قرأ حمزة و الكسائي على الإفراد وَ السَّحابِ الْمُسَخَّرِ المذلّل للّه تعالى بَيْنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لا ينزل و لا ينكشف- مع أنّ الطبع يقتضي أحدهما- حتى يأتي أمر اللّه. و قيل: مسخّر الرياح تقلّبه في الجوّ بمشيئة اللّه يمطر حيث شاء. و اشتقاقه من السّحب، لأنّ بعضه يجرّ بعضا.

لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يتفكّرون فيها، و ينظرون إليها بعيون عقولهم، و يعتبرون بها، لأنّها دلائل على عظيم القدرة و عجيب

الحكمة.

و في المجمع: «قد بيّن العلماء تفصيل ما تدلّ عليه، فقالوا:

أمّا السماوات و الأرض، فيدلّ تغيّر أجزائهما، و احتمالهما الزيادة و النقصان، و أنّهما من الحوادث لا ينفكّان عن حدوثهما. ثم إن حدوثهما و خلقهما يدلّ على أنّ لهما خالقا لا يشبههما و لا يشبهانه، لأنّه لا يقدر على خلق الأجسام إلا القديم القادر لنفسه الّذي ليس بجسم و لا عرض، إذ جميع ما هو بصفة الأجسام و الأعراض محدث، و لا بدّ له من محدث ليس بمحدث، لاستحالة التسلسل، و يدلّ كونهما على جهة الإتقان و الإحكام و الاتّساق و الانتظام على كون فاعلهما عالما حكيما.

و أمّا اختلاف الليل و النهار، و جريهما على وتيرة واحدة، و أخذ أحدهما من

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 276

صاحبه الزيادة و النقصان، و تعلّق ذلك بمجاري الشمس و القمر، فيدلّ على عالم مدبّر يدبّرهما على هذا الحدّ، لا يسهو و لا يذهل من جهة أنّها أفعال محكمة واقعة على نظام و ترتيب، لا يدخلها تفاوت و لا اختلال.

و أمّا الفلك الّتي تجري في البحر بما ينفع الناس، فيدلّ حصول الماء على ما تراه من الرقّة و اللطافة الّتي لولاهما لما أمكن جري السفن عليه، و تسخير الرياح لإجرائها في خلاف الوجه الّذي يجري الماء إليه، على منعم دبّر ذلك لمنافع خلقه، ليس من جنس البشر، و لا من قبيل الأجسام، لأنّ الأجسام يتعذّر عليها فعل ذلك.

و أمّا الماء الّذي ينزل من السّماء، فيدلّ إنشاؤه و إنزاله قطرة قطرة، لا تلتقي أجزاؤه، و لا تتألّف في الجوّ، فينزل مثل السيل، فيخرّب البلاد و الديار. ثمّ إمساكه في الهواء- مع أنّ من طبع الماء الانحدار- إلى وقت نزوله بقدر الحاجة

و في أوقاتها، على أنّ مدبّره قادر على ما يشاء من الأمور، عالم حكيم خبير.

و أمّا إحياء الأرض بعد موتها، فيدلّ بظهور الثمار و أنواع النبات و ما يحصل به من أقوات الخلق، و أرزاق الحيوانات، و اختلاف طعومها و ألوانها و روائحها، و اختلاف مضارّها و منافعها في الأغذية و الأدوية، على كمال قدرته، و بدائع حكمته، سبحانه من عليم حكيم، ما أعظم شأنه!! و أمّا بثّ كلّ دابّة فيها، فيدلّ على أنّ لها صانعا مخالفا لها منعما بأنواع النعم، خالقا للذوات المختلفة بالهيئات المختلفة في التراكيب المتنوّعة، من اللحم و العظم، و الأعصاب و العروق، و غير ذلك من الأعضاء و الأجزاء المتضمّنة لبدائع الفطرة و غرائب الحكمة، الدالّة على عظيم قدرته و جسيم نعمته.

و أمّا الرياح، فيدلّ تصريفها بتحريكها و تفريقها في الجهات، مرّة حارّة و مرّة باردة، و تارة لينة و أخرى عاصفة، و طورا عقيما و طورا لاقحة، على أنّ مصرّفها قادر على ما لا يقدر عليه سواه، إذ لو اجتمع الخلائق كلّهم على أن يجعلوا الصبا

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 277

دبورا و الشمال جنوبا لما أمكنهم ذلك.

و أمّا السّحاب المسخّر فيدلّ على أنّ ممسكه هو القدير الّذي لا شبيه له و لا نظير، لأنّه لا يقدر على تسكين الأجسام بغير علاقة و لا دعامة إلا اللّه سبحانه، القادر لذاته، لا نهاية لمقدوراته.

فهذه هي الآيات الدالّة على أنّه سبحانه صانع غير مصنوع، قادر لا يعجزه شي ء، عالم لا يخفى عليه شي ء، حيّ لا تلحقه الآفات، و لا تغيّره الحادثات، لا يعزب عنه مثقال ذرّة في الأرض و لا في السماء، و هو السميع البصير. استشهد بحدوث هذه الأشياء على قدمه و

أزليّته، و بما وسمها به من العجز و التسخير على كمال قدرته، و بما ضمّنها من البدائع على عجائب خلقته.

و فيها أيضا أوضح دلالة على أنّه سبحانه المنّان على عباده بفوائد النعم، المنعم عليهم بما لا يقدر غيره على الإنعام بمثله من جزيل القسم، فيعلم بذلك أنّه سبحانه الإله الّذي لا يستحقّ العبادة سواه.

و في هذه الآية أيضا دلالة على وجوب النظر و الاستدلال، و أنّ ذلك هو الطريق إلى معرفته، و فيها البيان لما يجب فيه النظر و إبطال التقليد» «1».

و في الأنوار: «اعلم أنّ دلالة هذه الآيات على وجود الإله عزّ و جلّ و وحدته من وجوه كثيرة، يطول شرحها مفصّلا. و الكلام المجمل أنّها أمور ممكنة وجد كلّ منها بوجه مخصوص من وجوه محتملة و أنحاء مختلفة، إذ كان من الجائز مثلا أن لا تتحرّك السماوات أو بعضها كالأرض، و أن تتحرّك بعكس حركاتها، و بحيث تصير المنطقة دائرة مارّة بالقطبين، و أن لا يكون لها أوج و حضيض أصلا، و على هذا الوجه، لبساطتها و تساوي أجزائها، فلا بدّ من موجد قادر حكيم يوجدها على ما تستدعيه حكمته، و تقتضيه مشيئته، متعاليا عن معارضة غيره، إذ لو كان معه إله

______________________________

(1) مجمع البيان 1: 247.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 278

يقدر على ما يقدر عليه الآخر. فإن توافقت إرادتهما فالفعل إن كان لهما لزم اجتماع مؤثّرين على أثر واحد، و إن كان لأحدهما لزم ترجيح الفاعل بلا مرجّح، و عجز الآخر المنافي لإلهيّته، و إن اختلفت لزم التمانع و التطارد، كما أشار إليه بقوله: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «1». و في الآية تنبيه على شرف علم الكلام و أهله، و

حثّ على البحث و النظر فيه» «2». و لهذا

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ويل لمن قرأ هذه الآية فمجّ بها»

أي: لم يتفكّر فيها.

[سورة البقرة (2): الآيات 165 الى 167]

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً يُحِبُّونَهُمْ كَحُبِّ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ وَ لَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً وَ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ (165) إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا وَ رَأَوُا الْعَذابَ وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ (166) وَ قالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا كَذلِكَ يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ (167)

و بعد بيان التوحيد بالأدلّة الواضحة ذكر حال الكفرة المصرّين على الكفر و العناد، الّذين يتّخذون آلهة أخرى من الجمادات، فقال: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَتَّخِذُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْداداً أمثالا من الأصنام الّتي يعبدونها. و قيل: من الرؤساء الّذين كانوا

______________________________

(1) الأنبياء: 22.

(2) أنوار التنزيل 1: 205- 206.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 279

يطيعونهم، بدلالة قوله تعالى بعد ذلك: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا «1».

و

قال الباقر عليه السّلام: «هم أئمّة الظلمة و أشياعهم».

و لعلّ المراد أعمّ منهما، و هو ما يشغل عن طاعة اللّه عزّ و جلّ.

يُحِبُّونَهُمْ يعظّمونهم و يخضعون لهم تعظيم المحبوب كَحُبِّ اللَّهِ حبّا كحبّ اللّه، أي: كتعظيمه، و الإضافة إلى الفاعل، أي: كما يحبّ اللّه. و إنما استغني عن ذكر من يحبّه، لأنّه غير ملبس. و قيل: كحبّهم اللّه. و عن ابن عبّاس: كحبّكم اللّه، أي: كحبّ المؤمن اللّه، أي: يسوّون بينه و بينهم في محبّتهم، لأنّهم كانوا يقرّون باللّه و يتقرّبون إليه. و المحبّة ميل القلب، من الحبّ، استعير

لحبّة القلب، ثمّ اشتقّ منه الحبّ، لأنّه أصابها و رسخ فيها. و محبّة العبد للّه إرادة طاعته، و الاعتناء بتحصيل مراضيه. و محبّة اللّه للعبد إرادة إكرامه، و توفيقه في الطاعة، و صونه عن المعاصي.

وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَشَدُّ حُبًّا لِلَّهِ لا تنقطع محبّتهم للّه، بخلاف محبّة الأنداد، فإنّها لأغراض فاسدة موهومة تزول بأدنى سبب، و لذلك كانوا يعدلون عن آلهتهم إلى اللّه عند الشدائد، و يعبدون صنما زمانا و يعدلون منه إلى غيره، أو يأكلونه، كما أكلت باهلة إلهها من حيس عام المجاعة، و الحيس هو تمر و أقط «2» و سمن.

و لمّا ذكر الّذين اتّخذوا الأنداد بيّن حالهم في المعاد بقوله: وَ لَوْ يَرَى الَّذِينَ ظَلَمُوا أي: و لو يعلم هؤلاء الذين أشركوا، باتّخاذ الأنداد إِذْ يَرَوْنَ الْعَذابَ أي:

إذا عاينوا العذاب يوم القيامة، فأجرى المستقبل مجرى الماضي لتحقّقه، كقوله:

وَ نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ «3».

و قوله: أَنَّ الْقُوَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً سادّ مسدّ مفعولي «يرى». و جواب «لو»

______________________________

(1) البقرة: 166.

(2) الأقط: الجبن و القطعة منه.

(3) الأعراف: 44.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 280

محذوف، أي: لو يعلمون أنّ القدرة كلّها للّه على كلّ شي ء من الثواب و العقاب و غيره دون أندادهم، و يعلمون شدّة عقابه للظالمين حين شاهدوا أنواع عذابهم يوم القيامة، لكان لهم ما لا يدخل تحت الوصف من الندم و الحسرة، و وقوع العلم بظلمهم و ضلالهم، فندموا أشدّ الندم، فحذف الجواب لعدم الوصول إلى كنهه.

و قرأ ابن عامر و يعقوب و نافع: و لو ترى، على أنّه خطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أي:

و لو ترى ذلك لرأيت أمرا عظيما و خطبا جسيما. و ابن عامر: إذ يرون على البناء للمفعول. و يعقوب

«إنّ» بالكسر، و كذا وَ أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعَذابِ على الاستئناف، أو على إضمار القول.

إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا بدل من «إذ يرون» أي: إذ تبرّأ المتبوعون- و هم الرؤساء- من الأتباع الضعفاء وَ رَأَوُا الْعَذابَ أي رائين له، و الواو للحال، و «قد» مقدّرة. و قيل: عطف على «تبرّأ». وَ تَقَطَّعَتْ بِهِمُ الْأَسْبابُ يحتمل العطف على «تبرّأ»، أو «رأوا»، أو الحال، و الأول أظهر. و معنى الأسباب:

الوصل الّتي كانت بينهم يتواصلون عليها، من الأتباع، و الاتّفاق على الدين، و سائر الأغراض الداعية إلى ذلك. و المعنى: زال عنهم سبب يمكن أن يتوصّل به من مودّة أو عهد أو قرابة، فلا ينتفعون بشي ء من ذلك. و أصل السبب الحبل الّذي يرتقى به الشجر.

وَ قالَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا أي: و قال الأتباع لَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً «لو» للتمنّي، و لذلك أجيب بالفاء، أي: ليت لنا عودا إلى الدنيا فَنَتَبَرَّأَ مِنْهُمْ من الرؤساء فيها كَما تَبَرَّؤُا مِنَّا في الآخرة.

كَذلِكَ مثل ذلك الآراء الفظيع يُرِيهِمُ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ حَسَراتٍ عَلَيْهِمْ ندامات. و هي ثالث مفاعيل «يري» من رؤية القلب، و إلّا فحال، يعني: تنقلب حسرات عليهم، فلا يرون إلا حسرات مكان أعمالهم وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنَ النَّارِ

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 281

أصله: و ما يخرجون، فعدل إلى هذه العبارة للمبالغة في الخلود، و الإقناط عن الخلوص و الرجوع إلى الدنيا. و في «هم» دلالة على قوّة أمرهم فيما أسند إليهم لا على الاختصاص.

[سورة البقرة (2): الآيات 168 الى 169]

يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالاً طَيِّباً وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (168) إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَ الْفَحْشاءِ وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (169)

و لمّا قدّم

سبحانه ذكر التوحيد و أهله، و الشرك و أهله، أتبع ذلك بذكر ما تتابع منه سبحانه على الفريقين من النعم و الإحسان، ليجعلوها وسيلة إلى شكر منعمها الحقيقي، و ينقادوا لأمره، و ينتهوا عن اتّباع الشيطان، لما في ذلك من الجحود لنعمه و الكفران، فقال خطابا عامّا لجميع المكلّفين من بني آدم: يا أَيُّهَا النَّاسُ كُلُوا لفظه لفظ الأمر و معناه الإباحة مِمَّا فِي الْأَرْضِ حَلالًا. عن ابن عبّاس: أنّها نزلت في قوم حرّموا على أنفسهم رفيع الملابس و لذيذ المطاعم. و «حلالا» مفعول «كلوا» أو صفة مصدر محذوف، أو حال «ممّا في الأرض». و «من» للتبعيض، لأنّ كلّ ما في الأرض غير مأكول «طيّبا» طاهرا من كلّ شبهة. و قيل: الطيّب هو الحلال، فجمع بينهما لاختلاف اللفظين تأكيدا. و قيل: معناه تستطيبونه و تستلذّونه في العاجل و الآجل.

وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ يقال: اتّبع خطواته، و وطئ على عقبه، أي: اقتدى به و استنّ بسنّته. فالمعنى: لا تقتدوا به في اتّباع الهوى، فتحرّموا الحلال و تحلّلوا الحرام.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 282

و قرأ نافع و أبو عمرو و حمزة بتسكين الطاء، و هما لغتان، جمع خطوة، و هو ما بين قدمي الخاطي، و هي المرّة من الخطو، كالغرفة و الغرفة، و القبضة و القبضة.

إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة عند ذوي البصيرة، و إن كان يظهر الموالاة لمن يغويه، و لذلك سمّاه وليّا في قوله: أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ «1».

و هذه الآية دالّة على إباحة المأكل إلّا ما دلّ الدليل على حظره، فجاءت مؤكّدة لما في العقل.

ثمّ بيّن عداوته و وجوب التحرّز عن متابعته، فقال: إِنَّما يَأْمُرُكُمْ بِالسُّوءِ وَ الْفَحْشاءِ أي: لا يأمركم بخير قطّ، و استعير

الأمر لتزيينه و بعثه لهم على الشرّ، تسفيها لرأيهم، و تحقيرا لشأنهم. و السوء و الفحشاء ما أنكره العقل، و استقبحه الشرع. و العطف لاختلاف الوصفين، فإنّ ما أنكره العقل سوء لاغتمام العاقل به، و فحشاء باستقباحه إيّاه. و قيل: السوء يعمّ القبائح، و الفحشاء ما يتجاوز الحدّ في القبح من الكبائر، كالشرك و قتل النفس المعصومة و الزنا. و قيل: الأول ما لا حدّ فيه، و الثاني ما شرع فيه الحدّ.

وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ كاتّخاذ الأنداد، و تحليل المحرّمات، و تحريم الطيّبات. و يدخل فيه كلّ ما يضاف إلى اللّه تعالى ممّا لا يجوز عليه، و جميع الاعتقادات الباطلة و المذاهب الفاسدة. و فيه دليل على المنع من اتّباع الظنّ رأسا. و أمّا اتّباع المجتهد لما أدّى إليه ظنّ مستند إلى مدرك شرعيّ- كخبر الواحد- فوجوبه قطعيّ، و الظنّ في طريقه، فإنّ ظنّية الطريق لا تنافي قطعيّة الحكم، كما بيّن في الكتب الأصوليّة.

______________________________

(1) البقرة: 257.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 283

[سورة البقرة (2): الآيات 170 الى 171]

وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ (170) وَ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ بِما لا يَسْمَعُ إِلاَّ دُعاءً وَ نِداءً صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ (171)

عن ابن عبّاس قال: دعا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اليهود إلى الإسلام، فقالوا: بل نتّبع ما وجدنا عليه آباءنا من التمسّك باليهوديّة، فهم كانوا خيرا منّا و أعلم، فنزلت: وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ من القرآن و شرائع الإسلام. عدل عن الخطاب عنهم للنداء على ضلالتهم، فإنّه

لا ضالّ أضلّ من المقلّد، كأنّه التفت إلى العقلاء و قال لهم: أنظروا إلى هؤلاء الحمقى ماذا يجيبون؟ و القائل لهم: النبيّ و المسلمون قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما أَلْفَيْنا عَلَيْهِ آباءَنا وجدناهم عليه. و قيل: نزلت في المشركين، أمروا باتّباع القرآن و سائر ما أنزل اللّه تعالى من الحجج و الآيات، فجنحوا إلى التقليد في عبادة الأصنام.

أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْقِلُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ الواو للحال أو العطف، و الهمزة للردّ و التعجيب. و جواب «لو» محذوف، أي: لو كان آباؤهم جهلة لا يتفكّرون في أمر الدين و لا يهتدون إلى الحقّ لاتّبعوهم. و هو دليل على منع التقليد لمن قدر على النظر و الاجتهاد، و أمّا اتّباع الغير في الدين إذا علم بدليل مّا أنّه محقّ- كالأنبياء و المجتهدين في الأحكام- فهو في الحقيقة ليس بتقليد، بل اتّباع الغير لما أنزل اللّه تعالى.

ثمّ ضرب اللّه سبحانه مثلا للكفّار في تركهم إجابة من يدعوهم إلى التوحيد، و ركونهم إلى التقليد، فقال: وَ مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا المضاف مقدّر، تقديره: مثل

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 284

داعي الّذين كفروا إلى الإيمان كَمَثَلِ الَّذِي يَنْعِقُ أو: مثل الّذين كفروا كمثل بهائم الّذي ينعق بِما لا يَسْمَعُ إِلَّا دُعاءً وَ نِداءً دعاء الناعق و نداءه الّذي هو تصويت و زجر، و لا تفقه شيئا آخر و لا تعي، كما يفهم العقلاء و يعون.

و المعنى: أنّ الكفرة لانهماكهم في التقليد لا يلقون أذهانهم إلى ما يتلى عليهم، و لا يتأمّلون فيما يقرّر معهم، فهم في ذلك كالبهائم الّتي ينعق عليها فتسمع الصوت و لا تعرف مقصده، و تحسّ بالنداء و لا تفهم معناه.

و قيل: معناه: و مثلهم في

اتّباعهم آباءهم و تقليدهم لهم، كمثل البهائم الّتي لا تسمع إلّا ظاهر الصوت و لا تفهم ما تحته، فكذلك هؤلاء يتّبعونهم على ظاهر حالهم و لا يفقهون أهم على حقّ أم على باطل؟

و قيل: هو تمثيلهم في دعائهم الأصنام بالناعق في نعقه، و هو التصويت على البهائم. و هذا يغني عن الإضمار، لكن لا يساعده قوله: إِلَّا دُعاءً وَ نِداءً لأنّ الأصنام لا تسمع، إلّا أن يجعل ذلك من باب التمثيل المركّب.

صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ رفع على الذمّ، أي: هم صمّ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ أي:

بالفعل، للإخلال بالنظر.

[سورة البقرة (2): الآيات 172 الى 173]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ اشْكُرُوا لِلَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (172) إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (173)

ثمّ خاطب سبحانه المؤمنين، و ذكر نعمه الظاهرة عليهم و إحسانه التامّ

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 285

عليهم، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ أي: كلوا من مستلذّات ما رزقناكم، لأنّ كلّ ما رزقه اللّه تعالى لا يكون إلّا حلالا. ثمّ أمرهم بالقيام بحقوقها، فقال: وَ اشْكُرُوا لِلَّهِ الّذي رزقكم إيّاها و أحلّ لكم، فإنّ عبادته لا تتمّ إلا بالشكر إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إن صحّ أنّكم تخصّونه بالعبادة، و تقرّون أنّه المنعم على الحقيقة. و

في الحديث: «يقول اللّه: إنّي و الجنّ و الإنس في نبأ عظيم، أخلق و يعبد غيري، و أرزق و يشكر غيري».

و لمّا ذكر سبحانه إباحة الطيّبات عقّبه بتحريم المحرّمات، فقال: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ أي: أكلها و الانتفاع بها، و هي الّتي ماتت من غير

ذكاة شرعيّة، و السنّة ألحقت بها ما أبين من حيّ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ خصّ اللحم بالذكر لأنّه معظم ما يؤكل من الحيوان، و سائر أجزائه كالتابع له في الحرمة وَ ما أُهِلَّ بِهِ لِغَيْرِ اللَّهِ أي: رفع به الصوت عند ذبحه للصنم. و الإهلال أصله رؤية الهلال، لكن لمّا جرت العادة أن يرفع الصوت بالتكبير إذا رؤي سمّي ذلك إهلالا، ثمّ قيل لرفع الصوت و إن كان بغير التكبير.

فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ على مضطرّ آخر بالاستيثار لنفسه عليه أو بقصد اللذّة وَ لا عادٍ سدّ الرمق أو الجوعة. و عنهم عليهم السّلام غير باغ على إمام المؤمنين، فإنّ نفسه معرّض للقتل في حكم الدين، فلا يجوز أن يستبقى فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ أي: لا حرج عليه في تناوله إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ بما فعل رَحِيمٌ بما رخّصه فيه.

قال في المجمع: «إنّما ذكر المغفرة لأحد الأمرين: إمّا ليبيّن أنّه إذا كان يغفر المعصية فإنّه لا يأخذ بما رخّص فيه، و إمّا لأنّه وعد بالمغفرة عند الإنابة إلى طاعة اللّه ممّا كانوا عليه من تحريم ما لم يحرّمه اللّه، من السائبة و البحيرة و غيرهما» «1».

فإن قلت: «إنّما» يفيد قصر الحكم على ما ذكر، و كم من حرام لم يذكر؟

______________________________

(1) مجمع البيان 1: 257- 258.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 286

قلت: المراد قصر الحرمة على ما ذكر ممّا استحلّوه لا مطلقا، أو قصر حرمته على حال الاختيار، كأنّه قيل: إنّما حرّم عليكم هذه الأشياء ما لم تضطرّوا إليها.

[سورة البقرة (2): الآيات 174 الى 176]

إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَ يَشْتَرُونَ بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلاَّ النَّارَ وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ

عَذابٌ أَلِيمٌ (174) أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى وَ الْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ (175) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (176)

ثمّ عاد الكلام إلى ذكر اليهود الّذين تقدّم ذكرهم، فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَكْتُمُونَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ الْكِتابِ وَ يَشْتَرُونَ بِهِ و يستبدلون بتحريفه ثَمَناً قَلِيلًا عرضا حقيرا و هو الرشوة، أو المراد الوظائف المرسومة المأخوذة عن رعاياهم كما مرّ أُولئِكَ ما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ إِلَّا النَّارَ إما في الحال ادّعاء، لأنّهم أكلوا ما يتلبّس بالنار، لكونها عقوبة عليه، فكأنّه إذا أكل ما يؤدي إلى النار أكل النار، كقولهم: أكل فلان الدم، إذا أكل الدية الّتي هي بدل منه. أو في المآل حقيقة، أي: لا يأكلون يوم القيامة إلّا النّار. و معنى فِي بُطُونِهِمْ مل ء بطونهم، يقال: أكل في بطنه، و أكل في بعض بطنه.

وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عبارة عن غضبه عليهم، و تعريض بحرمانهم حال مقابليهم- و هم أهل الجنّة- في إكرام اللّه إيّاهم بكلامه و الزلفى من اللّه وَ لا يُزَكِّيهِمْ و لا يثني عليهم، و لا يصفهم بأنّهم أزكياء وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مؤلم.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 287

أُولئِكَ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الضَّلالَةَ بِالْهُدى في الدنيا وَ الْعَذابَ بِالْمَغْفِرَةِ في الآخرة، بكتمان الحقّ للمطامع و الأغراض الدنيويّة فَما أَصْبَرَهُمْ عَلَى النَّارِ تعجّب من حالهم في جرأتهم على النار، و التباسهم بموجبات النار من غير مبالاة.

و «ما» تامّة مرفوعة بالابتداء، و تخصيصها كتخصيص قولهم: «شرّ أهرّ ذا ناب. أو استفهاميّة و ما بعدها خبرها، أي: أيّ شي ء صبرهم؟ أو موصولة و ما بعدها صلة و الخبر محذوف، أي: الّذي صبّرهم شي ء عظيم.

يقال: أصبره على كذا و صبّره بمعنى.

ذلِكَ ذلك العذاب بِأَنَّ اللَّهَ بسبب أنّ اللّه نَزَّلَ الْكِتابَ بِالْحَقِ فرفضوه بالتكذيب أو الكتمان وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِي الْكِتابِ في كتب اللّه، فاللام فيه للجنس، و اختلافهم إيمانهم ببعض كتب اللّه و كفرهم ببعض. أو في التوراة، فاللام للعهد، و اختلفوا بمعنى: تخلّفوا عن المنهج المستقيم في تأويلها، أو خلّفوا خلاف ما أنزل اللّه مكانه، أي: حرّفوا ما فيها. أو في القرآن، و اختلافهم فيه قولهم:

سحر، و تقوّل، و كلام علّمه بشر، و أساطير الأوّلين لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ لفي خلاف بعيد عن الحقّ، غير مجتمعين على الصواب.

[سورة البقرة (2): آية 177]

لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ الْكِتابِ وَ النَّبِيِّينَ وَ آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ ذَوِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ السَّائِلِينَ وَ فِي الرِّقابِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا وَ الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ حِينَ الْبَأْسِ أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (177)

و لمّا حوّلت القبلة أكثروا الخوض في نسخها، و زعم كلّ واحد من الفريقين

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 288

أنّ البرّ هو التوجّه إلى قبلته، و صرفوا أكثر أوقاتهم إلى البحث عنه، حتى اشتغلوا عن أكثر أمورهم، فنزلت: لَيْسَ الْبِرَّ أَنْ تُوَلُّوا وُجُوهَكُمْ قِبَلَ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ البرّ كلّ فعل مرضيّ. و معناه: ليس البرّ ما أنتم عليه، فإنّه منسوخ، بل البرّ إنّما يكون ما اتّبعه المؤمنون. و قيل: كثر خوض المسلمين و أهل الكتاب في أمر القبلة، فقيل:

ليس البرّ الّذي يجب صرف الهمّة إليه مقصورا بأمر القبلة. أو ليس البرّ

العظيم الّذي يحسن أن تذهلوا بشأنه عن غيره أمر القبلة. و قرأ حمزة و حفص البرّ بالنصب، بتقديم الخبر على الاسم.

وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ أي: لكنّ البرّ الّذي ينبغي أن يهتمّ به برّ من آمن باللّه، أو و لكن ذا البرّ من آمن باللّه. يدخل فيه جميع ما لا يتمّ معرفة اللّه إلّا به، كمعرفة حدوث العالم، و إثبات المحدث، و صفاته الواجبة و الجائزة، و ما يستحيل عليه تعالى، و معرفة عدله و حكمته وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يدخل فيه: التصديق بالبعث، و الحساب، و العقاب، و الثواب وَ الْمَلائِكَةِ بأنّهم عباد اللّه المكرمون، لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون «1» وَ الْكِتابِ و بالكتب المنزلة، و منها القرآن وَ النَّبِيِّينَ و بالأنبياء كلّهم، و أنّهم معصومون، و خاتمهم محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أنّ شريعته ناسخة لجميع الشرائع، و التمسّك بها لازم لجميع المكلّفين إلى يوم القيامة. و قرأ نافع و ابن عامر: و لكن، بالتخفيف و رفع البرّ.

وَ آتَى الْمالَ أعطاه عَلى حُبِّهِ أي: حبّ المال و الشحّ به، كما قال ابن مسعود، عن رسول اللّه حين سئل عنه: «أيّ الصدقة أفضل؟ قال: أن تؤتيه و أنت صحيح شحيح، تأمل العيش و تخشى الفقر، لا تمهل حتى إذا بلغت الحلقوم قلت:

لفلان كذا، و لفلان كذا». و قيل: الضمير للّه تعالى أو للمصدر، أي: حبّ اللّه أو حبّ الإيتاء، أي: يعطيه و هو طيّب النفس. و الجار و المجرور في موضع الحال.

______________________________

(1) اقتباس من الآية (26- 27) من سورة الأنبياء.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 289

ذَوِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى يريد المحاويج منهم، و لم يقيّد لعدم الالتباس.

و قدّم ذوي

القربى لأنّ إيتاءهم صدقة و صلة، كما

قال عليه السّلام: «صدقتك على المسكين صدقة، و على ذي رحمك اثنتان».

و

قال عليه السّلام لفاطمة بنت قيس لمّا قالت: يا رسول اللّه، إنّ لي سبعين مثقالا من ذهب، فقال: «اجعليها في قرابتك».

و

عن الباقر و الصّادق عليهما السّلام: أنّ المراد قرابة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،

كما في قوله: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى «1». وَ الْمَساكِينَ جمع المسكين، و هو الّذي أسكنته الخلّة، و هي الحاجة. أو دائم السكون إلى النّاس، لأنّه لا شي ء له، كالمسكير للدائم السكر وَ ابْنَ السَّبِيلِ المسافر المنقطع به. جعل من أبناء السبيل لملازمته له، كما يقال للصّ القاطع: ابن الطريق. و قيل: هو الضيف، لأنّ السّبيل يرعف «2» به، أي: يقدّمه إلى بيت الضيف. و القول الأوّل مرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام و مجاهد، و الثاني عن ابن عبّاس و قتادة و ابن جبير وَ السَّائِلِينَ الّذين ألجأتهم الحاجة إلى السّؤال. و

قال عليه السّلام: «للسّائل حقّ و إن جاء على فرسه».

وَ فِي الرِّقابِ أي:

صرف المال في تخليصها، بمعاونة المكاتبين، أو فكّ الأسارى، أو ابتياع الرقاب لعتقها.

وَ أَقامَ الصَّلاةَ المفروضة، أي: أدّاها لميقاتها و على حدودها وَ آتَى الزَّكاةَ أعطى زكاة ماله. يحتمل أن يكون المقصود منه و من قوله: آتَى الْمالَ الزكاة المفروضة، و لكن الغرض من الأولى بيان مصارفها، و بالثاني أداؤها و الحثّ عليها. و أن يكون المراد بالأوّل نوافل الصدقات، أو حقوقا كانت في المال سوى الزكاة. و عن الشعبي قال: إنّ في المال حقّا سوى الزكاة، و تلا هذه الآية، فقال: ذكر إيتاء المال في هذا الوجوه، ثمّ قفّاه بإيتاء الزّكاة.

______________________________

(1) الشورى:

23.

(2) رعف يرعف: سبق و تقدّم. (لسان العرب 9: 123)

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 290

وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ إِذا عاهَدُوا عطف على «من آمن». و المراد بالعهد جميع العهود و النذور الّتي بينهم و بين اللّه، و العقود التي بينهم و بين الناس، و كلاهما يلزم الوفاء به.

وَ الصَّابِرِينَ فِي الْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ نصب على الاختصاص أو المدح، و لم يعطف، بأن قال: و الصّابرون، لفضل الصبر في الشدائد على سائر الأعمال. عن الزهري: البأساء في الأموال، و الضرّاء في الأنفس كالمرض وَ حِينَ الْبَأْسِ وقت مجاهدة العدوّ.

أُولئِكَ الَّذِينَ صَدَقُوا أي: صدقوا اللّه فيما قبلوا منه، و التزموه علما، و تمسّكوا به عملا، في الدين و اتّباع الحقّ و طلب البرّ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ عن الكفر و سائر الرذائل بوسيلة فعل هذه الفضائل.

و هذه الآية الشريفة جامعة للكمالات الإنسانيّة بأسرها، دالّة عليها صريحا أو ضمنا، فإنّها بكثرتها و تشعّبها منحصرة في ثلاثة أشياء: صحّة الاعتقاد، و حسن المعاشرة، و تهذيب النفس. و قد أشير إلى الأوّل بقوله: «من آمن» إلى قوله:

«و النّبيّين» و إلى الثاني بقوله: وَ آتَى الْمالَ إلى قوله: وَ فِي الرِّقابِ و إلى الثالث بقوله: وَ أَقامَ الصَّلاةَ إلى آخرها، و لذلك وصف المستجمع لها بالصدق نظرا إلى إيمانه و اعتقاده، و بالتقوى اعتبارا بمعاشرته للخلق و معاملته مع الحقّ، و إليه أشار

بقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من عمل بهذه الآية فقد استكمل الإيمان».

و استدلّ أصحابنا بهذه الآية على أنّ المعنيّ بها أمير المؤمنين عليه السّلام، لأنّه لا خلاف بين الأمّة أنّه كان جامعا لهذه الخصال، فهو مراد بها قطعا، و لا قطع على كون غيره جامعا لها، و لهذا

قال الزجّاج و الفرّاء: إنّها مخصوصة بالأنبياء المعصومين، لأنّ هذه الأشياء لا يؤدّيها بكلّيّتها على حقّ الواجب فيها إلّا الأنبياء عليهم السّلام.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 291

[سورة البقرة (2): الآيات 178 الى 179]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثى بِالْأُنْثى فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ شَيْ ءٌ فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ ذلِكَ تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (178) وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (179)

و لمّا بيّن سبحانه أنّ البرّ لا يتمّ إلّا بالإيمان و التمسّك بالشرائع، بيّن أحكامها، و بدأ بحفظ الدماء و الجراح، لأنّه الأهمّ، فإنّه سبب بقاء الحياة الّذي به انتظام العالم، و لا تحصل العبادة إلّا به، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ أي: فرض و أوجب القصاص، أي: المساواة فِي الْقَتْلى جمع المقتول، و هو أن يفعل بالقاتل ما فعله بالمقتول الْحُرُّ بِالْحُرِّ وَ الْعَبْدُ بِالْعَبْدِ وَ الْأُنْثى بِالْأُنْثى

روي أنّه كان في الجاهليّة بين حيّين من أحياء العرب دماء، و كان لأحدهما طول و فضل على الاخر، فأقسموا: لنقتلنّ بالعبد منّا الحرّ منكم، و بالمرأة منّا الرجل منكم، و بالرجل منّا الرجلين منكم، بجراحة منّا جراحتين منكم، و نتزوّج بنسائكم بغير مهور، فلمّا جاء الإسلام تحاكموا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية، و أمر فيها أن يتقابلوا على طريق المساواة. و لا خلاف أنّ المراد به قتل العمد، فإنّ العمد هو الّذي يجب فيه القصاص، دون الخطأ المحض و شبيه العمد.

قال الصّادق عليه السّلام: «لا يقتل حرّ بعبد، و لكن يضرب ضربا شديدا،

و يغرم دية العبد».

و لا يقتل الرجل بالمرأة، إلّا إذا أدّى إلى أهله نصف ديته.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 292

فإن قلت: كيف قال: «كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِصاصُ فِي الْقَتْلى و الأولياء مخيّرون بين القصاص و العفو و أخذ الدية.

قلت: المراد أنّه فرض عليكم ذلك إن اختار أولياء المقتول القصاص، و الفرض قد يكون مضيّقا و قد يكون مخيّرا فيه، أو فرض عليكم التمسّك بما حدّ لكم، و ترك مجاوزته إلى ما لم يجعل لكم. و يجب على القاتل تسليم النفس إلى أولياء المقتول. و يجوز قتل العبد بالحرّ و الأنثى بالذكر إجماعا. و ليس في الآية ما يمنع ذلك، لأنّه لم يقل: و لا تقتل الأنثى بالذكر، و لا العبد بالحرّ. فما تضمّنته الآية معمول به. و ما قلناه مثبت بالإجماع، و لقوله سبحانه: النَّفْسَ بِالنَّفْسِ «1».

و تفصيل هذا المبحث يحال إلى الكتب الفقهيّة.

فَمَنْ عُفِيَ لَهُ مِنْ أَخِيهِ من جهته شَيْ ءٌ أي: شي ء من العفو، على أنّه كقولك: سير بزيد بعض السير و طائفة من السير، لأنّ «عفا» لازم لا يتعدّى إلّا بواسطة «عن»، فلا يصحّ أن يكون «شي ء» في معنى المفعول به.

و إنّما قيل: شي ء من العفو، للإشعار بأنّه إذا عفي له طرف من العفو، بأن يعفي عن بعض الدم، أو عفا عنه بعض الورثة، تمّ العفو و سقط القصاص، و لم تجب إلّا الدّية.

و قيل: «عفي» بمعنى: ترك، و «شي ء» مفعول به. و هو ضعيف، إذ لم يثبت «عفا الشي ء» بمعنى: تركه، بل أعفاه، و منه

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «و اعفوا اللحى».

فإن قلت: إن «عفا» يتعدّى ب «عن» لا باللّام، فما وجه قوله: «فمن عفي له»؟

قلت: يتعدّى ب «عن» إلى

الجاني و إلى الذنب، فيقال: عفوت عن فلان و عن ذنبه، قال اللّه تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ «2» و عَفَا اللَّهُ عَنْها «3». فإذا تعدّى إلى الذنب

______________________________

(1) المائدة: 45.

(2) التوبة: 43.

(3) المائدة: 101.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 293

قيل: عفوت لفلان عمّا جنى، كما تقول: غفرت له ذنبه و تجاوزت له عنه. و على هذا ما في الآية، كأنّه قيل: فمن عفي له عن جنايته من جهة أخيه، يعني: وليّ الدم، فاستغنى عن ذكر الجناية.

و أخوه هو وليّ المقتول. و ذكر بلفظ الأخوّة ليعطف أحدهما على صاحبه بذكر ما هو ثابت بينهما من أخوّة الإسلام.

فَاتِّباعٌ بِالْمَعْرُوفِ وَ أَداءٌ إِلَيْهِ بِإِحْسانٍ أي: فليكن، أوفا لأمر، أو فعلى العافي اتّباع. و هذه توصية للعافي و المعفوّ عنه جميعا، أي: فليتّبع الوليّ القاتل بالمعروف، بأن لا يشدّد في الطلب، أو لا يطالبه إلّا مطالبة جميلة، و ينظره إن كان معسرا، و لا يطالب بالزيادة على حقّه، و ليؤدّ إليه المعفوّ له بدل الدم أداء بإحسان، بأن لا يمطله.

ذلِكَ أي: الحكم المذكور في العفو و الدية، أو النهي عن تجاوز ما شرع له من قتل غير القاتل تَخْفِيفٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ رَحْمَةٌ لما فيه من التسهيل و التفع. قيل:

كتب على اليهود القصاص وحده، و على النصارى العفو، و خيّرت هذه الأمّة بينهما و بين الدية، تيسيرا عليهم، و تقديرا للحكم على حسب مراتبهم، فالأفضل أن يختار العفو، و الأوسط الدية، ثمّ يختار القصاص.

فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ بأن قتل بعد قبول الدية أو العفو، أو تجاوز ما شرع له من قتل غير القاتل فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ أي: نوع من العذاب شديد الألم في الآخرة. و قيل: في الدنيا، بأن يقتل لا

محالة،

لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «لا أعافي أحدا قتل بعد أخذه الدية».

ثمّ بيّن سبحانه وجه الحكمة في إيجاب القصاص، فقال: وَ لَكُمْ فِي الْقِصاصِ حَياةٌ و فيه فصاحة عجيبة، و بلاغة بليغة، من أنّ القصاص قتل و تفويت للحياة، و قد جعل ظرفا للحياة، من قبيل جعل الشي ء محلّ ضدّه. و في تعريف القصاص و تنكير الحياة معنى: أنّ لكم في هذا الجنس من الحكم الّذي هو القصاص

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 294

حياة عظيمة، و ذلك أنّهم كانوا يقتلون بالواحد الجماعة، و يقتلون بالمقتول غير قاتله، فتقع الفتنة، فكانت في القصاص حياة أيّ حياة، أو نوع من الحياة، و هي الحياة الحاصلة بالارتداع عن القتل، لوقوع العلم بالاقتصاص من القاتل، فسلم صاحبه من القتل، و سلم هو من القود، فكان القصاص سبب حياة نفسين.

و يحتمل أن يكون كلا الظرفين خبرين ل «حياة»، و أن يكون أحدهما خبرا و الآخر صلة له، أو حالا من الضمير المستكن فيه.

و قال في المجمع: و نظيره من كلام العرب: القتل أنفى للقتل، إلّا أنّ ما في القرآن أكثر فائدة، و أوجز في العبارة، و أبعد من الكلفة بتكرير الجملة، و أحسن تأليفا بالحروف المتلائمة.

أمّا كثرة الفائدة، فلأنّ فيه جميع ما في قولهم: القتل أنفى للقتل، و زيادة معان، منها: إبانة العدل لذكره القصاص، و منها: إبانة الغرض المرغوب فيه و هو الحياة، و منها: الاستدعاء بالرغبة و الرهبة، و حكم اللّه به.

و أمّا الإيجاز في العبارة، فإن الذي هو نظير: القتل أنفى للقتل، قوله:

القصاص حياة، و هو عشرة أحرف، و ذلك أربعة عشر حرفا.

و أمّا بعده من الكلفة، فهو أن في قولهم: القتل أنفى للقتل، تكريرا

غيره أبلغ منه.

و أمّا الحسن بتأليف الحروف المتلائمة، فإنه مدرك بالحسّ، و موجود باللفظ، فإن الخروج من الفاء إلى اللام أعدل من الخروج من اللام إلى الهمزة، لبعد الهمزة من اللام، و كذلك الخروج من الصاد إلى الحاء أعدل من الخروج من الألف إلى اللام» «1».

ثمّ نادى أرباب العقول الصافية إلى التأمّل في حكمة القصاص، من استبقاء

______________________________

(1) مجمع البيان 1: 266.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 295

الأرواح و حفظ النفوس، بقوله: يا أُولِي الْأَلْبابِ أي: يا ذوي العقول الكاملة تأمّلوا في شرع القصاص و ما يتعلّق به لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ القتل خوفا من القصاص، أو لعلّكم تعملون عمل أهل التقوى في المحافظة على القصاص و الحكم به و الإذعان له، و غير ذلك من المعاصي.

[سورة البقرة (2): الآيات 180 الى 182]

كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إِنْ تَرَكَ خَيْراً الْوَصِيَّةُ لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (180) فَمَنْ بَدَّلَهُ بَعْدَ ما سَمِعَهُ فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (181) فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ جَنَفاً أَوْ إِثْماً فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (182)

ثمّ بيّن سبحانه شريعة أخرى، و هي الوصيّة، فقال: كُتِبَ عَلَيْكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أي، حضر أسبابه و ظهر أماراته إِنْ تَرَكَ خَيْراً مالا. و قيل: مالا كثيرا، لما

روي عن عليّ عليه السّلام: «أنّ مولى له أراد أن يوصي و له سبعمائة درهم أو ستّمائة، فمنعه و قال: قال اللّه تعالى: إِنْ تَرَكَ خَيْراً و الخير هو المال الكثير».

و هذا هو المأخوذ به عندنا، لأنّ قوله عليه السّلام حجّة.

و الْوَصِيَّةُ مرفوع ب «كتب». و تذكير فعلها للفصل، أو على تأويل: أن يوصي، أو الإيصاء، و لذلك ذكّر الراجع في قوله: «فمن بدّله». و

العامل في «إذا».

مدلول «كتب»- أي: وجب- لا «الوصيّة»، لتقدّمه عليها لِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ أي: لوالديه و أقاربه بِالْمَعْرُوفِ أي: بالشي ء الّذي يعرف العقلاء أنّه لا جور فيه و لا حيف، فلا يفضّل الغنيّ، و لا يتجاوز الثلث. و

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من لم يحسن وصيّته عند موته كان نقصا في مروءته و عقله».

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 296

حَقًّا مصدر مؤكّد، أي: حقّ ذلك حقّا واجبا عَلَى الْمُتَّقِينَ على من آثر التقوى.

قالوا: إنّ هذا الحكم كان في بدء الإسلام، فنسخ بآية المواريث، و بقوله: «إنّ اللّه أعطى كلّ ذي حقّ حقّه، ألا لا وصيّة لوارث».

و فيه بحث، لأن آية المواريث لا تعارضه، بل تؤكّده، من حيث إنّها تدلّ على تقديم الوصيّة مطلقا. و الحديث من الآحاد، و لم يجوّز أصحابنا نسخ القرآن بخبر الواحد. و قالوا: إنّ الوصيّة لذي القرابة من أوكد السّنن.

و

رووا عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل: «هل تجوز الوصيّة للوارث؟ فقال: نعم، و تلا هذه الآية».

و

روى السّكوني، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، عن عليّ عليه السّلام قال: «من لم يوص عند موته لذوي قرابته ممّن لا يرث فقد ختم عمله بمعصية».

و

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «من مات بغير وصيّة مات ميتة جاهليّة».

و

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «ما ينبغي لامرئ مسلم أن يبيت إلّا و وصيّته تحت رأسه».

ثمّ أوعد سبحانه على تغيير الوصيّة، فقال: فَمَنْ بَدَّلَهُ غيّر الإيصاء عن وجهه، من الأوصياء و الشهود بَعْدَ ما سَمِعَهُ وصل إليه و تحقّق عنده فَإِنَّما إِثْمُهُ عَلَى الَّذِينَ يُبَدِّلُونَهُ أي: فما إثم الإيصاء المغيّر أو إثم التبديل إلّا على

مبدّليه، دون غيرهم من الموصي و الموصى له، لأنّه الّذي حاف «1» و خالف الشرع، و الموصي و الموصى له بريئان من الحيف. و في الآية دلالة على أنّ الوصيّ أو الوارث إذا فرّط في الوصيّة أو غيّرها لا يأثم الموصي بذلك، و لم ينقص من أجره شي ء، و أنّه لا يجازى أحد على عمل غيره.

______________________________

(1) أي: جار و ظلم.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 297

إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لما قاله الموصي من العدل أو الجنف عَلِيمٌ بما يفعله الوصيّ من التصحيح أو التبديل. و قيل: سميع بجميع المسموعات، عليم بجميع المعلومات. و على التقادير وعيد للمبدّل بغير حقّ.

و لمّا تقدّم الوعيد لمن بدّل الوصيّة، بيّن في هذه الآية أنّ ذلك يلزم من غيّر حقّا بباطل، فأمّا من غيّر باطلا بحقّ فهو محسن، فقال: فَمَنْ خافَ مِنْ مُوصٍ أي: توقّع و علم، و قد شاع في كلامهم: أخاف أن يقع كذا، يريدون التوقّع و الظنّ الغالب الجاري مجرى العلم جَنَفاً ميلا عن الحقّ بالخطإ في الوصيّة أَوْ إِثْماً تعمّدا للحيف فَأَصْلَحَ بَيْنَهُمْ بين الورثة و الموصى لهم، بإجرائهم على نهج الشرع فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ في هذا التبديل، لأنّه تبديل باطل إلى حقّ، بخلاف الأوّل إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ وعد للمصلح. و ذكر المغفرة لمطابقة ذكر الإثم، و كون الفعل من جنس ما يؤثم.

[سورة البقرة (2): الآيات 183 الى 184]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (183) أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ وَ أَنْ تَصُومُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (184)

ثمّ بيّن سبحانه فريضة أخرى،

فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُتِبَ فرض و وجب عَلَيْكُمُ الصِّيامُ كَما كُتِبَ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ من الأنبياء و أممهم، من لدن عهد آدم إلى عهدكم.

يروى عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: أوّلهم آدم.

يعني: أنّ الصوم عبادة قديمة ما أخلى اللّه أمّة من إيجابها عليهم لم يوجبها عليكم وحدكم.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 298

و فيه توكيد للحكم، و ترغيب في الفعل، و تطييب على النفس.

و الصوم في اللغة الإمساك عمّا تنازع إليه النفس. و في الشرع الإمساك عن المفطرات المعلومة شرعا، فإنّها معظم ما تشتهيه الأنفس.

لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ المعاصي، فإنّ الصوم يكسر الشهوة الّتي هي مبدأها، و الصائم أردع لنفسه عن مواقعة السوء.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «خصاء أمّتي الصوم».

و

عنه عليه السّلام: «من لم يستطع الباه فليصم، فإنّ الصوم له و جاء» «1».

أو تتّقون بالمحافظة عليها و تعظيمها «2» بعدم الإخلال بأدائه، لأصالته و قدمه. و تخصيص المؤمنين بالخطاب لقبولهم لذلك، و لأنّ العبادة لا تصحّ إلّا منهم، و وجوبه عليهم لا ينافي وجوبه على غيرهم.

أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ مؤقّتات بعدد معلوم أو قلائل، فإنّ القليل من المال يعدّ عدّا، كقوله: دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ «3»، و الكثير يهال «4» هيلا. و نصبها ليس بالصيام، لوقوع الفصل بينهما، بل بإضمار «صوموا» لدلالة الصيام عليه. و المراد بها رمضان، أو ما وجب صومه قبل وجوبه و نسخ به، و هو عاشوراء، أو ثلاثة أيّام من كلّ شهر، كما قال قتادة. أو ب «كما كتب» على الظرفيّة، أو على أنّه مفعول ثان ل «كتب عليكم» على السعة.

و قيل: معناه: صومكم كصومهم في عدد الأيّام، كما روي أنّ رمضان كتب على النصارى، فوقع في برد أو

حرّ شديد، فحوّلوه إلى الربيع، و زادوا عليه عشرين

______________________________

(1) الباه: النكاح و الجماع. و الوج ء: أن ترضّ أنثيا الفحل- أي: تدقّ و تكسر- رضّا شديدا يذهب شهوة الجماع. و معنى الحديث: أن من لم يستطع التزويج فعليه بالصوم، فإنه سبب كسر الشهوة. و قريب منه الحديث الأوّل.

(2) أي: بالمحافظة على عبادة الصوم و تعظيمها، و مرجع الضمير يعلم بقرينة المقام.

(3) يوسف: 20.

(4) يهال أي: يصبّ.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 299

كفّارة لتحويله. و قيل: زادوا ذلك لموتان أصابهم.

فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً يضرّه الصوم أَوْ عَلى سَفَرٍ أو راكب سفر فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ أي: فعليه صوم عدّة أيّام المرض أو السفر من أيّام أخر إذا أفطر، فحذف الشرط و المضاف إليه للعلم بها. و فيه دلالة على

أنّ المسافر و المريض مكتوب عليهما الإفطار، و أن يصوموا أيّاما أخر. و هو المرويّ عن أئمّتنا عليهم السّلام.

و عند الشافعيّة هذا على سبيل الرخصة. و قول أكثر الأصحاب و التابعين من العامّة موافق لمذهبنا.

و

في الحديث: «الصائم في السفر كالمفطر في الحضر».

و

«ليس من البرّ الصيام في السفر».

و

روى العيّاشي بإسناده مرفوعا إلى محمد بن مسلّم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لم يكن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يصوم في السفر تطوّعا و لا فريضة، حتّى نزلت هذه الآية بكراع الغميم عند صلاة الفجر، فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بإناء فشرب و أمر الناس أن يفطروا، فقال قوم: قد توجّه النهار و لو صمنا يومنا هذا، فسمّاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم العصاة، فلم يزالوا يسمّون بذلك الاسم حتى قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و

آله و سلّم» «1».

و

أيضا عنه عليه السّلام: «الصيام في شهر رمضان في السفر كالمفطر في الحضر».

و

عنه عليه السّلام قال: «لو أنّ رجلا مات صائما في السفر لما صلّيت عليه».

و

عنه عليه السّلام قال: «من سافر أفطر و قصّر، إلّا أن يكون رجلا سفره إلى صيد، أو في معصية اللّه».

و روي أنّ عمر بن الخطّاب أمر رجلا صام في السفر أن يعيد صومه.

وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ و على المطيقين للصيام الّذين لا عذر لهم إن أفطروا فِدْيَةٌ طَعامُ مِسْكِينٍ نصف صاع. و قيل: مدّ. و كان ذلك في بدء الإسلام، فإنّه

______________________________

(1) تفسير العيّاشي 1: 81 ح 190.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 300

زبدة التفاسير ج 1 349

فرض عليهم الصوم و لم يتعوّدوا، فاشتدّ عليهم، فرخّص لهم في الإفطار و الفدية، ثمّ نسخ بقوله: فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ

و قيل: هو الرخصة في الإفطار و الفدية لمن يتعبه الصوم و يجهده، و هم الشيوخ و العجائز و المراضع، فيكون حكمه ثابتا. فهذا القول موافق لمذهبنا.

و

روى أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّ معناه: و على الّذين يطيقون الصوم ثم أصابهم كبر و عطاش و شبه ذلك فدية لكلّ يوم مدّ من طعام.

و قرأ نافع و ابن عامر برواية ابن ذكوان بإضافة الفدية إلى الطعام و جمع المساكين. و قرأ هشام: مساكين بغير إضافة الفدية إلى الطعام.

فَمَنْ تَطَوَّعَ خَيْراً فزاد على مقدار الفدية فَهُوَ أي: التطوّع خَيْرٌ لَهُ

و قرأ حمزة و الكسائي: يطّوّع، أي: يتطوّع وَ أَنْ تَصُومُوا رفع على الابتداء، أي:

صيامكم أيّها المطيقون و جهدكم طاقتكم خَيْرٌ أي: أفضل ثوابا لَكُمْ من الفدية و تطوّع الخير، أو منهما و من التأخير للقضاء إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ

ما في الصوم من الفضيلة و براءة الذمّة. و جوابه محذوف، دلّ عليه ما قبله، أي: اخترتموه.

و قيل: معناه إن كنتم من أهل العلم و التدبّر علمتم أنّ الصوم خير لكم من الفدية و التطوّع.

[سورة البقرة (2): آية 185]

شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ هُدىً لِلنَّاسِ وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى وَ الْفُرْقانِ فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فَلْيَصُمْهُ وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ وَ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (185)

ثمّ بيّن سبحانه وقت الصوم، فقال: شَهْرُ رَمَضانَ مبتدأ خبره ما بعده، أو

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 301

خبر محذوف، تقديره: ذلكم شهر رمضان، أو بدل من الصيام على حذف المضاف، أي: كتب عليكم صيام شهر رمضان. و رمضان مصدر «رمض» إذا احترق، من الرمضاء، فأضيف إليه الشهر و جعل علما، كما قيل: ابن داية للغراب، بإضافة الابن إلى داية «1» البعير، لكثرة وقوعه عليها إذا دبرت «2». و الدأية الموضع الّذي يقع عليه القتب «3». و منع الصرف للتعريف و الألف و النون. و

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من صام رمضان،

فعلى حذف المضاف لا من الالتباس. و إنّما سمّي به لارتماضهم، أي: احتراقهم فيه من حرّ الجوع و العطش، أو لارتماض الذنوب فيه.

الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ أي: ابتدأ فيه إنزاله، و كان ذلك في ليلة القدر.

و قيل: أنزل فيه جملة إلى السماء الدنيا، ثمّ نزل إلى الأرض نجوما على حسب صلاح العباد.

و

روى الثعلبي بإسناده، عن أبي ذرّ الغفاري، عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «أنزلت صحف إبراهيم أوّل ليلة من رمضان، و

أنزلت التوراة لستّ، و في رواية أخرى لثلاث مضين من شهر رمضان، و أنزل إنجيل عيسى عليه السّلام لثلاث عشرة ليلة خلت من شهر رمضان، و أنزل زبور داود لثمان عشرة ليلة مضت من رمضان، و أنزل الفرقان على محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأربع و عشرين من شهر رمضان». و هذا بعينه رواه العيّاشي «4» عن أبي عبد اللّه، عن آبائه، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و قيل: معناه: أنزل في شأنه القرآن، و هو فرض صومه و إيجابه على الخلق.

______________________________

(1) الدّاية: فقار الكاهل في مجتمع ما بين الكتفين من كاهل البعير خاصّة. انظر (لسان العرب 14: 247- 248)

(2) الدّبرة: قرحة الدابّة و البعير، أو الجرح الذي يكون في ظهر الدّابّة.

(3) القتب: الرّحل.

(4) تفسير العيّاشي 1: 80 ح 184.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 302

فيكون «فيه» بمعنى: في فرضه، كما يقول القائل: أنزل في الزكاة كذا، أي: في فرضها.

ثمّ وصف سبحانه القرآن بقوله: هُدىً لِلنَّاسِ حال من القرآن، أي: هاديا لهم بإعجازه و دالّا لهم على ما كلّفوه من العلوم وَ بَيِّناتٍ مِنَ الْهُدى أي: و دلالات بيّنة ممّا يهدي إلى الحقّ. عن ابن عبّاس: المراد بالهدى الأوّل الهدى من الضلالة، و بالثاني: بيان الحلال و الحرام. و قيل: المراد بالأوّل ما كلّف من العلوم، و بالثاني ما يشتمل عليه من ذكر الأنبياء و شرائعهم و أخبارهم، لأنّها لا تدرك إلّا بالقرآن وَ الْفُرْقانِ أي: ممّا يفرّق بين الحقّ و الباطل.

و

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «القرآن جملة الكتاب، و الفرقان المحكم الواجب العمل «به».

و يجوز تسمية الكتاب الفرقان تسمية الكلّ بأشرف أجزائه.

روى الحسن بن محبوب، عن

أبي أيّوب، عن أبي الورد، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «خطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الناس في آخر جمعة من شعبان، فحمد اللّه و أثنى عليه، ثمّ قال: أيّها الناس إنّه قد أظلّكم شهر فيه ليلة خير من ألف شهر، و هو شهر رمضان، فرض اللّه صيامه، و جعل قيام ليلة فيه بتطوّع صلاة كمن تطوّع بصلاة سبعين ليلة فيما سواه من الشهور، و جعل لمن تطوّع فيه بخصلة من خصال الخير و البرّ كأجر من أدّى فريضة من فرائض اللّه فيما سواه، و من أدّى فيه فريضة من فرائض اللّه كان كمن أدّى سبعين فريضة فيما سواه من الشهور. و هو شهر الصبر، و إنّ الصبر ثوابه الجنّة. و هو شهر المواساة. و هو شهر يزيد اللّه في رزق المؤمن فيه.

و من فطّر فيه مؤمنا صائما كان له بذلك عند اللّه عتق رقبة، و مغفرة لذنوبه فيما مضى.

فقيل له: يا رسول اللّه ليس كلّنا يقدر على أن يفطر صائما.

قال: فإنّ اللّه تعالى كريم، يعطي هذا الثواب لمن لم يقدر منكم إلّا على

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 303

مذقة «1» من لبن يفطر صائما، أو شربة من ماء عذب، أو تمرات، لا يقدر على أكثر من ذلك. و من خفّف فيه عن مملوكه خفّف اللّه عليه حسابه.

و هو شهر أوّله رحمة، و أوسطه مغفرة، و آخره الإجابة و العتق من النار.

و لا غنى بكم فيه عن أربع خصال: خصلتين ترضون اللّه بهما، و خصلتين لا غنى بكم عنهما. أمّا اللتان ترضون اللّه بهما: فشهادة أن لا إله إلّا اللّه، و أنّي رسول اللّه. و أمّا اللتان لا غنى بكم عنهما:

فتسألون اللّه فيه حوائجكم و الجنّة، و تسألون اللّه فيه العافية، و تتعوّذون من النار».

و

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «نوم الصائم عبادة، و صمته تسبيح، و دعاؤه مستجاب، و عمله مضاعف».

فَمَنْ شَهِدَ مِنْكُمُ الشَّهْرَ فمن حضر في الشهر مقيما غير مسافر فَلْيَصُمْهُ فليصم فيه. و الأصل: فمن شهد فيه فليصم فيه، لكن وضع المظهر موضع المضمر الأوّل للتعظيم، و نصب على الظرف، كقولك: شهدت يوم الجمعة، و حذف الجارّ و نصب الضمير الثاني على الاتّساع.

وَ مَنْ كانَ مَرِيضاً أَوْ عَلى سَفَرٍ فَعِدَّةٌ مِنْ أَيَّامٍ أُخَرَ حدّ المرض الّذي يوجب الإفطار ما يخاف بالصوم الزيادة المفرطة فيه. و حدّ السفر الّذي يوجب الإفطار ثمانية فراسخ كما يشهد له الروايات الواردة عن أئمّتنا صلوات اللّه عليهم. و تكريره لتخصيص قوله: «فَمَنْ شَهِدَ»، أو لئلّا يتوهّم نسخه كما نسخ قرينه، و هو قوله:

«وَ عَلَى الَّذِينَ يُطِيقُونَهُ».

يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ أي: يريد أن ييسّر عليكم في الرخصة للمريض و المسافر، إذ لم يوجب الصوم عليهما. و قيل: يريد بكم اليسر في جميع أموركم، و لا يعسّر بالتضييق عليكم، فلهذا نفى عنكم الحرج في الدين،

______________________________

(1) المذيق: اللبن الممزوج بالماء، و المذقة: الطائفة منه.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 304

و أمركم بالحنيفيّة السمحة الّتي لا إصر فيها، و من جملة ذلك ما أمركم بالإفطار في السفر و المرض. و فيه دلالة على بطلان قول المجبّرة، فإنّهم قائلون بجواز تكليف ما لا يطاق.

وَ لِتُكْمِلُوا الْعِدَّةَ معطوفه محذوف، دلّ عليه ما سبق، أي: و شرع جملة ما ذكر من أمر الشاهد بصوم الشهر، و المرخّص له بالقضاء مراعاة لعدّة ما أفطر فيه، و الترخيص في

إباحة الفطر لتكملوا العدّة وَ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ شرع ذلك. فهذه علل الفعل المحذوف على سبيل اللفّ، فإنّ قوله:

«و لتكملوا» علّة الأمر بمراعاة العدّة، وَ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ علّة الأمر بالقضاء و بيان كيفيّته، وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ علّة الترخيص و التيسير، أي: إرادة أن تشكروا. و يجوز أن يكون «و لتكملوا» معطوفا على علّة مقدّرة، كأنّه قيل: يريد اللّه ليسهّل عليكم و لتكلموا العدّة. و عن عاصم: و لتكمّلوا بالتشديد.

و المراد بالتكبير عندنا التكبير عقيب أربع صلوات: المغرب و العشاء ليلة الفطر، و الغداة، و صلاة العيد، على مذهبنا. و قيل: التكبير عند الإهلال. و قيل:

المراد به: و لتعظّموا اللّه على ما أرشدكم له من شرائع الدين.

و إنّما عدّي فعل التكبير بحرف الاستعلاء لكونه مضمّنا معنى الحمد، كأنّه قيل: و لتكبّروا اللّه حامدين على ما هداكم. و «ما» يحتمل المصدر و الخبر، أي: على هدايتكم، أو على الّذي هداكم إليه.

[سورة البقرة (2): آية 186]

وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي وَ لْيُؤْمِنُوا بِي لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ (186)

و لمّا ذكر سبحانه الصوم الّذي هو مظانّ إجابة الدعاء، فقال بعد ذلك: وَ إِذا

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 305

سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ أي: فقل لهم: إنّي قريب. و هو تمثيل لكمال علمه بأفعال العباد و اطّلاعه على أحوالهم بحال من قرب مكانه منهم، و نحوه قوله تعالى:

وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ «1».

روي أنّ أعرابيّا قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

«أ قريب ربّنا فنناجيه؟ أم بعيد فنناديه؟ فنزلت هذه الآية».

و قوله: أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ تقرير للقرب، و وعد للداعي بالإجابة فَلْيَسْتَجِيبُوا لِي إذا دعوتهم

للإيمان و الطاعة، كما أنّي أجيبهم إذا دعوني لحوائجهم وَ لْيُؤْمِنُوا بِي أمر بالثبات و المداومة عليه.

روي عن الصادق عليه السّلام أنّ معناه: و ليتحقّقوا أنّي قادر على إعطائهم ما سألوه

لَعَلَّهُمْ يَرْشُدُونَ أي: راجين إصابة الرشد، و هو إصابة الحقّ.

فإن قلت: نحن نرى كثيرا من الناس يدعون اللّه فلا يجيبهم، فما معنى قوله أُجِيبُ دَعْوَةَ الدَّاعِ إِذا دَعانِ

قلت: المراد أنّه ليس أحد يدعو اللّه على ما توجبه الحكمة إلّا أجابه اللّه، فإنّ الداعي إذا دعا يجب أن يسأل ما فيه صلاح له في دينه، و لا يكون مفسدة له و لا لغيره، فالآية عامّة مخصّصة بهذا الشرط.

فإن قلت: ما تقتضيه الحكمة لا بدّ أن يفعله سبحانه، فما معنى الدعاء و إجابته؟

قلت: إنّ الدعاء عبادة في نفسها، يعبد اللّه سبحانه بها، لما في ذلك من إظهار الخضوع و الافتقار إليه سبحانه. و أيضا فإنّه لا يمتنع أن يكون وقوع ما سأله إنّما صار مصلحة بعد الدعاء، و لا يكون مصلحة قبل الدعاء.

و يؤيّد ذلك ما

روي عن أبي سعيد الخدري قال: «قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما من

______________________________

(1) ق: 16. زبدة التفاسير، ج 1، ص: 306

مسلّم دعا إلى اللّه تعالى بدعوة، ليس فيها قطيعة رحم و لا إثم، إلا أعطاه بها إحدى خصال ثلاث: إمّا أن يعجّل دعوته، و إمّا أن يدّخر له في الآخرة، و إمّا أن يدفع عنه السوء».

و

روي عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ العبد ليدعو اللّه و هو يحبّه، فيقول: يا جبرئيل لا تقض لعبدي هذا حاجته و أخّرها، فإنّي أحبّ أن لا أزال أسمع

صوته، و إنّ العبد ليدعو اللّه و هو يبغضه، فيقول: يا جبرئيل اقض لعبدي هذا حاجته بإخلاصه و عجّلها، فإنّي أكره أن أسمع صوته».

و

روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «ربّما أخّرت عن العبد إجابة الدعاء، ليكون أعظم لأجر السائل، و أجزل لعطاء الآمل».

و قيل لإبراهيم بن أدهم: «ما بالنا ندعوا اللّه سبحانه فلا يستجيب لنا؟ فقال:

لأنّكم عرفتم اللّه فلم تطيعوه، و عرفتم رسول اللّه فلم تتّبعوا سنّته، و عرفتم القرآن فلم تعملوا بما فيه، و أكلتم نعمة اللّه فلم تؤدّوا شكرها، و عرفتم الجنّة فلم تطلبوها، و عرفتم النار فلم تهربوا منها، و عرفتم الشيطان فلم تحاربوه، و وافقتموه، و عرفتم الموت فلم تستعدّوا له، و دفنتم الأموات فلم تعتبروا بهم، و تركتم عيوبكم و اشتغلتم بعيوب الناس».

قال في الأنوار: «و اعلم أنّه لمّا أمرهم بصوم الشهر و مراعاة العدّة، و حثّهم على القيام بوظائف التكبير و الشكر، عقّبه بهذه الآية الدالّة على أنّه خبير بأحوالهم، سميع لأقوالهم، مجيب لدعائهم، مجازيهم على أعمالهم، تأكيدا له، و حثّا عليه» «1».

______________________________

(1) أنوار التنزيل 1: 218.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 307

[سورة البقرة (2): آية 187]

أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ إِلى نِسائِكُمْ هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَّ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ فَتابَ عَلَيْكُمْ وَ عَفا عَنْكُمْ فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَّ وَ ابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَقْرَبُوها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (187)

ثمّ بيّن أحكام الصوم فقال: أُحِلَّ لَكُمْ لَيْلَةَ الصِّيامِ الرَّفَثُ الجماع إِلى نِسائِكُمْ

عن

الصادق عليه السّلام: «كان الأكل محرّما في شهر رمضان بالليل بعد النوم، و كان النكاح حراما بالليل و النهار، و كان رجل من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقال له: مطعم بن جبير، نام قبل أن يفطر، و حضر حفر الخندق فأغمي عليه، و كان قوم من الشبّان ينكحون بالليل سرّا في رمضان، فنزلت الآية، فأحلّ النكاح بالليل و الأكل بعد النوم».

و ليلة الصيام الليلة الّتي تصبح منها صائما.

و الرفث أصله القول الفاحش، فكنّي به عن الجماع، لأنّه لا يكاد يخلو من قبح، فيجب أن يكنّى عنه. و عدّي ب «إلى» لتضمّنه معنى الإفضاء. و إيثاره هاهنا بين الكنايات من الإفضاء و المسّ و الغشيان و الإتيان و غيرها استهجانا لما ارتكبوه قبل الإباحة، و لذلك سمّاه خيانة. و عن ابن عبّاس: أنّ إظهار هذه الخيانة أوّلا صدر عن عمر، فإنّه باشر بعد العشاء فندم و أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و اعتذر إليه، فقام رجال و اعترفوا بما صنعوا.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 308

و قوله: هُنَّ لِباسٌ لَكُمْ وَ أَنْتُمْ لِباسٌ لَهُنَ استئناف يبيّن سبب الإحلال، و هو قلّة الصبر عنهنّ، و صعوبة الاجتناب عنهنّ، لكثرة المخالطة، و شدّة الملابسة، و تلاصق أبدانكم بهنّ التصاق اللباس بالبدن. فلمّا كان الرجل و المرأة يعتنقان، و يشتمل كلّ واحد على واحد، شبّه باللباس، أو لأنّ كلّا منهما يستر حال صاحبه و يمنعه من الفجور.

عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَخْتانُونَ أَنْفُسَكُمْ أي: تخونونها بالمعصية، و لا تؤدّون الأمانة بالامتناع عن المباشرة، أو تظلمونها بتعريضها للعقاب، و تنقيص حظّها من الثواب. و الاختيان أبلغ من الخيانة، كالاكتساب من الكسب.

فَتابَ عَلَيْكُمْ قبل

توبتكم لمّا تبتم ممّا اقترفتموه، فرخّص لكم و أزال التشديد عنكم وَ عَفا عَنْكُمْ و محا عنكم أثره فَالْآنَ بَاشِرُوهُنَ أي: جامعوهنّ حين نسخ عنكم تحريم المباشرة. و الأمر للإباحة بعد الحظر. و فيه دليل على جواز نسخ السنّة بالقرآن. و المباشرة إلزاق البشرة بالبشرة، كنّي به عن الجماع وَ ابْتَغُوا ما كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ و اطلبوا ما قدّره لكم، و أثبته في اللوح المحفوظ من الولد.

و المعنى: أنّ المباشر ينبغي أن يكون غرضه الولد، فإنّه الحكمة من خلق الشهوة و شرع النكاح، لا قضاء الشهوة وحدها، أو اطلبوا ما كتب اللّه لكم من الحلال الّذي بيّنه في كتابه.

وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا هذا أيضا أمر الاباحة حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكُمُ أي: يظهر و يتميّز لكم على التحقيق الْخَيْطُ الْأَبْيَضُ مِنَ الْخَيْطِ الْأَسْوَدِ مِنَ الْفَجْرِ شبّه أوّل ما يبدو من الفجر المعترض في الأفق، و ما يمتدّ معه من ظلمة اللّيل بخيطين أبيض و أسود. و اكتفى ببيان الخيط الأبيض بقوله: «من الفجر» عن بيان الخيط الأسود، لدلالته عليه، و بذلك خرجا عن الاستعارة إلى التمثيل، كما أنّ قولك: رأيت أسدا مجاز، فإذا زدت «من فلان» رجع تشبيها. و يجوز أن يكون «من» للتبعيض، فإنّ ما

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 309

يبدو بعض الفجر.

و

روي أنّها نزلت و لم ينزل «من الفجر»، فقال عديّ بن حاتم للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

إنّي وضعت خيطين من شعر أبيض و أسود، فكنت أنظر فيهما فلا يتبيّن لي؟

فضحك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى رئيت نواجذه، ثمّ قال: يا ابن حاتم إنّما ذلك بياض النهار و سواد الليل، فابتداء الصوم من هذا الوقت، ثمّ نزل: «من الفجر».

فإن

صحّ هذا النقل، و كان قبل دخول رمضان، فتأخير البيان إلى وقت الحاجة جائز.

ثُمَّ أَتِمُّوا الصِّيامَ من وقت طلوع الفجر الثاني، و هو المستطير المعترض الّذي يأخذ الأفق، و هو الفجر الصادق الّذي يجب عنده الصلاة إِلَى اللَّيْلِ هذا بيان آخر وقته و إخراج الليل عنه، فينتفي صوم الوصال، أي: أتمّوه إلى وقت دخول الليل، و هو بعد غروب الشمس. و علامة دخوله سقوط الحمرة من جانب المشرق، و إقبال السواد منه إلى قامة الرأس. و عند العامّة دخول الليل بمجرّد استتار القرص. و الأوّل مذهب فقهائنا إلّا علم الهدى «1» قدّس سرّه.

و بعد حكم الصوم بيّن حكم الاعتكاف الّذي يكون الصوم من جملة شروطه، فقال: وَ لا تُبَاشِرُوهُنَّ وَ أَنْتُمْ عاكِفُونَ فِي الْمَساجِدِ معتكفون فيها، أي: في حال اعتكافكم فيها. و الاعتكاف هو اللبث في المسجد الأعظم من كلّ بلد، يكون أقلّه ثلاثة أيّام. و عند بعض علمائنا «2» الاعتكاف إنّما يكون في المساجد الأربعة لا غير: المسجد الحرام، و مسجد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و مسجد الكوفة، و مسجد البصرة.

و المراد بالمباشرة الوطء فقط عند أكثر العامّة. و عند مالك و ابن زيد الوطء و كلّ ما

______________________________

(1) للاستزادة انظر جواهر الكلام 7: 109.

(2) كالطبرسي في مجمع البيان 2: 281.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 310

دونه من قبلة و غيرها. و هو مذهبنا، استنادا إلى الروايات المنقولة عن أئمّتنا عليهم السّلام.

روي عن قتادة: كان الرجل يعتكف فيخرج إلى امرأته فيباشرها ثمّ يرجع، فنهوا عن ذلك. فترك المباشرة شرط آخر لصحّة الاعتكاف. و الشروط و الأحكام المتعلّقة بالاعتكاف مذكورة في كتب الفقه.

تِلْكَ أي: الأحكام الّتي ذكرت حُدُودُ اللَّهِ حرمات اللّه و مناهيه فَلا

تَقْرَبُوها فلا تأتوها. نهى أن يقرب الحدّ الحاجز بين الحقّ و الباطل لئلّا يدانى الباطل، فضلا عن أن يتخطّى عنه، كما

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إن لكلّ ملك حمى، و أنّ حمى اللّه محارمه، فمن رتع حول الحمى يوشك أن يقع فيه».

و الرتع حول الحمى القرب منه. و هو أبلغ من قوله: «فلا تعتدوها». و قيل: معناه: و تلك فرائض اللّه فلا تقربوها بالمخالفة كَذلِكَ أي: مثل ذلك البيان يُبَيِّنُ اللَّهُ آياتِهِ حججه و دلائله لِلنَّاسِ على ما أمرهم به و نهاهم عنه لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ مخالفة الأوامر و النواهي.

[سورة البقرة (2): آية 188]

وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ وَ تُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ لِتَأْكُلُوا فَرِيقاً مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (188)

ثمّ بيّن سبحانه شريعة أخرى من شرائع الإسلام نسقا على ما تقدّم من بيان الحلال و الحرام، فقال: وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ أي: لا يأكل بعضكم مال بعض بِالْباطِلِ بالوجه الّذي لم يبحه اللّه. و «بين» نصب على الظرف أو الحال من الأموال وَ تُدْلُوا بِها إِلَى الْحُكَّامِ عطف على المنهيّ. و الإدلاء الإلقاء، أي: و لا تلقوا أمرها و الحكومة فيها إلى الحكّام، أو لا تلقوا بها إلى حكّام السوء على وجه الرشوة لِتَأْكُلُوا بالتحاكم فَرِيقاً طائفة مِنْ أَمْوالِ النَّاسِ بِالْإِثْمِ بما يوجب

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 311

إثما، كشهادة الزور و اليمين الكاذبة، أو ملتبسين بالإثم أو بالصلح وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنكم مبطلون ظالمون في الدعوى و في أخذ الأموال، فإنّ ارتكاب المعصية مع العلم بها أقبح.

روي: «أنّ عبدان الحضرمي ادّعى على امرئ القيس الكندي قطعة أرض، و لم يكن له بيّنة، فحكم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و

سلّم بأن يحلف امرئ القيس فهمّ به، فقرأ عليه السّلام:

إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا «1» فارتدع عن اليمين و سلّم الأرض إلى عبدان، فنزلت هذه الآية».

و

روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لخصمين اختصما عنده: إنّما أنا بشر مثلكم، فلعلّ بعضكم ألحن «2» بحجّته من بعض، فأقضي له على نحو ما أسمع منه، فمن قضيت له بشي ء من حقّ أخيه فلا يأخذنّ منه شيئا، فإن ما أقضي له قطعة من النار. فبكيا فقال كلّ واحد منهما: حقّي لصاحبي، فقال: اذهبا فتوخّيا «3»، ثمّ استهما، ثمّ ليحلّل كلّ واحد منكما صاحبه».

[سورة البقرة (2): آية 189]

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ وَ الْحَجِّ وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (189)

ثمّ بيّن سبحانه شريعة أخرى فقال: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَهِلَّةِ روي أنّ معاذ

______________________________

(1) آل عمران: 77.

(2) أي: أقوم بها من صاحبه، و أقدر عليه، من اللحن بمعنى الفطنة.

(3) توخّى الأمر: تعمّده و تطلّبه دون سواه. و استهم القوم: تقارعوا.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 312

ابن جبل قال: «يا رسول اللّه ما بال الهلال يبدو دقيقا كالخيط، ثمّ يزيد حتى يستوي، ثمّ لا يزال ينقص حتى يعود كما بدأ، و لا يكون على حالة واحدة؟

فنزلت».

و المعنى: يسألونك عن أحوال الأهلّة في زيادتها و نقصانها، و وجه الحكمة في ذلك قُلْ هِيَ مَواقِيتُ لِلنَّاسِ أي: معالم لهم يحتاجون إلى مقاديرها في صومهم و فطرهم و عدد نسائهم و محلّ ديونهم وَ الْحَجِ و معالم لحجّهم يعرف بها وقته. و هذا تخصيص بعد التعميم، للاهتمام بشأنه.

و ملخّص المعنى: أنّهم لمّا سألوا

عن الحكمة في اختلاف حال القمر و تبدّل أمره، فأمره اللّه تعالى أن يجيب بأنّ الحكمة الظاهرة في ذلك أن يكون معالم للناس يوقّتون بها أمورهم، و معالم للعبادات الموقّتة يعرف بها أوقاتها، خصوصا الحجّ، فإنّ معرفة وقت الحجّ موقوفة عليها. و المواقيت جمع ميقات من الوقت. و الفرق بينه و بين المدّة و الزمان: أنّ المدّة المطلقة امتداد حركة الفلك من مبدئها إلى منتهاها، و الزمان مدّة مقسومة، و الوقت الزمان المفروض لأمر.

روي أنّ الأنصار إذا أحرموا لم يدخلوا دارا و لا فسطاطا من بابه، بل إن كانوا من أهل المدر ينقبون في ظهر بيوتهم نقبا منه يدخلون و يخرجون، أو يتّخذون سلّما يصعدون فيه، و إن كانوا من أهل الوبر يجعلون فرجة خلف الخباء يخرجون و يدخلون منه، و يعدّون ذلك برّا، فبيّن اللّه تعالى لهم أنّه ليس ببرّ، فقال: وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ ظُهُورِها أي: ليس البرّ بتحرّجكم من دخول الباب و إتيانكم البيوت من ورائها وَ لكِنَّ الْبِرَّ مَنِ اتَّقى أي: برّ من اتّقى المحارم و الشهوات غير المشروعة.

و وجه اتّصاله بما قبله أنّهم سألوا عن الأمرين، أو أنّه لمّا ذكر أنّ الأهلّة

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 313

مواقيت الحجّ، و هذا أيضا من أفعالهم في الحجّ، ذكره للاستطراد، أو أنّهم لمّا سألوا عمّا لا يعنيهم، و لا يتعلّق بعلم النبوّة، و تركوا السؤال عمّا يعنيهم و يختصّ بعلم النبوّة، عقّب بذكر جواب ما سألوه تنبيها على أنّ اللائق بهم أن يسألوا أمثال ذلك، و يهتمّوا بالعلم بها.

و كذا قال في المجمع: «قيل: إنّه سبحانه لمّا بيّن أنّ أمورنا مقدّرة بأوقات قرن به قوله: «وَ لَيْسَ الْبِرُّ بِأَنْ تَأْتُوا الْبُيُوتَ

مِنْ ظُهُورِها»، أي: فكما أنّ أموركم مقدّرة بأوقات، فلتكن أفعالكم جارية على الاستقامة، باتّباع ما أمر اللّه به، و الانتهاء عمّا نهى عنه، لأنّ اتّباع ما أمر به خير من اتّباع ما لم يأمر به» «1».

وَ أْتُوا الْبُيُوتَ مِنْ أَبْوابِها إذ ليس في العدول برّ، و باشروا الأمور من وجوهها الّتي يجب أن تباشر عليها، أيّ الأمور كان. و يحتمل أن يكون هذا تمثيلا لتعكيسهم في سؤالهم، و أنّ مثلهم فيه كمثل من يترك باب البيت و يدخله من ظهره.

و المعنى: ليس البرّ و ما ينبغي أن تكونوا عليه، بأن تعكسوا في مسائلكم، و لكنّ البرّ برّ من اتّقى ذلك و تجنّبه، و لم يجسر على مثله.

ثمّ قال: و أتوا البيوت من أبوابها، أي: و باشروا الأمور من وجوهها الّتي يجب أن تباشر عليها، و لا تعكسوا. و المراد وجوب توطين النفوس و ربط القلوب على أنّ جميع أفعال اللّه حكمة و صواب، من غير اختلاج شبهة و لا اعتراض شكّ في ذلك حتى لا يسأل عنه.

وَ اتَّقُوا اللَّهَ في تغيير أحكامه و الاعتراض على أفعاله لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لكي تظفروا بالهدى و البرّ.

______________________________

(1) مجمع البيان 2: 284.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 314

[سورة البقرة (2): الآيات 190 الى 194]

وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (190) وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ وَ الْفِتْنَةُ أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ وَ لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ فَإِنْ قاتَلُوكُمْ فَاقْتُلُوهُمْ كَذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (191) فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (192) وَ قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَلا عُدْوانَ إِلاَّ عَلَى الظَّالِمِينَ (193) الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ

الْحَرامِ وَ الْحُرُماتُ قِصاصٌ فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (194)

ثمّ بيّن سبحانه أمر الجهاد الّذي هو معظم أركان الإسلام، فقال: وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ جاهدوا لإعلاء كلمته و إعزاز دينه الَّذِينَ يُقاتِلُونَكُمْ قيل: كان ذلك قبل أن أمروا بقتال المشركين كافّة، المقاتلين منهم و المتقاعدين، لما روي أنّ المشركين صدّوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عام الحديبية، و صالحوه على أن يرجع من قابل فيخلوا له مكّة ثلاثة أيّام، فرجع لعمرة القضاء، و خاف المسلمون و هم يومئذ كانوا ألفا و أربعمائة أن لا يفوا لهم و يقاتلوهم في الحرم و الشهر الحرام، و كرهوا ذلك، فنزلت. و

عن الربيع بن أنس: هي أوّل آية نزلت في القتال بالمدينة، فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقاتل من قاتل و يكفّ عمّن كفّ.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 315

و قيل: معناه: الّذين يناصبونكم القتال، و يتوقّع ذلك منهم، دون غيرهم من المشايخ و الصبيان و الرهبان و النساء أو الكفرة كلّهم، فإنّهم بصدد قتال المسلمين و على قصده، فهم في حكم المقاتلين.

وَ لا تَعْتَدُوا بابتداء القتال، أو بقتال المعاهد، أو المفاجأة به من غير دعوة، أو المثلة، أو قتل من نهيتم عن قتله من النساء و الصبيان و الشيوخ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ لا يريد بهم الخير.

روي عن أئمّتنا عليهم السّلام أنّ هذه الآية ناسخة لقوله تعالى: كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ «1». و كذلك قوله: «وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ» ناسخ لقوله: وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ دَعْ أَذاهُمْ «2».

ثمّ خاطب المؤمنين مبيّنا لهم

كيفيّة القتال مع الكافرين، فقال: وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وجدتموهم في حلّ أو حرم. و أصل الثقف الحذق في إدراك الشي ء علما كان أو عملا، و هو يتضمّن معنى الغلبة، و لذلك يستعمل فيها وَ أَخْرِجُوهُمْ مِنْ حَيْثُ أَخْرَجُوكُمْ أي: مكّة، كما أخرجوكم منها، و قد فعل ذلك بمن لم يسلّم يوم الفتح.

وَ الْفِتْنَةُ أي: المحنة الشديدة الّتي يفتتن بها الإنسان، كالإخراج من الوطن المألوف أَشَدُّ مِنَ الْقَتْلِ أصعب منه، لدوام تعبها و تألّم النفس بها جدّا، و منه قول القائل:

لقتل بحدّ السيف أهون موقعاعلى النفس من قتل بحدّ فراق

و قيل لبعض الحكماء: ما أشدّ من الموت؟ قال: الّذي يتمنّى فيه الموت.

______________________________

(1) النساء: 77.

(2) الأحزاب: 48.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 316

و قيل: معناه: شركهم في الحرم و صدّهم إيّاكم عنه أشدّ من قتلكم إيّاهم فيه.

و يسمّى الكفر فتنة لأنّه يؤدّي إلى الهلاك كالفتنة، أو لأنّه فساد يظهر عند الاختبار.

ثمّ نهى ابتداء المسلمين بالقتال أو بالقتل في الحرم، فقال: وَ لا تُقاتِلُوهُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ لا تفاتحوهم بالقتال و هتك حرمة المسجد الحرام حَتَّى يُقاتِلُوكُمْ فِيهِ حتى يبتدأ المشركون بذلك فَإِنْ قاتَلُوكُمْ بدءوكم بذلك فَاقْتُلُوهُمْ فلا تبالوا بقتالهم ثمّ، فإنّهم الّذين هتكوا حرمته. و قرأ حمزة و الكسائي: و لا تقتلوهم، حتى يقتلوكم، فإن قتلوكم. و المعنى: حتى يقتلوا بعضكم، كقولهم: قتلنا بنو أسد «كذلك» مثل ذلك الجزاء جَزاءُ الْكافِرِينَ جزاؤهم، فيفعل بهم مثل ما فعلوا فَإِنِ انْتَهَوْا عن القتال و الكفر فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يغفر لهم ما قد سلف.

و في الآية دلالة على وجوب إخراج الكفّار من مكّة، كقوله: حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ. و السنّة قد وردت أيضا بذلك، و هو

قوله صلّى اللّه عليه

و آله و سلّم: «لا يجتمع في جزيرة العرب دينان».

و على أنّه تقبل توبة القاتل عمدا، لأنّه بيّن أنّه عزّ اسمه يقبل توبة المشرك، و الشرك أعظم من القتل.

ثم بيّن سبحانه غاية وجوب القتال، فقال مخاطبا للمؤمنين: وَ قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ شرك وَ يَكُونَ الدِّينُ لِلَّهِ خالصا له ليس للشيطان فيه نصيب فَإِنِ انْتَهَوْا عن الشرك فَلا عُدْوانَ إِلَّا عَلَى الظَّالِمِينَ أي: فلا تعتدوا على المنتهين، لأنّ مقاتلة المنتهين عدوان و ظلم، إذ لا يحسن عقلا و شرعا أن يظلم إلّا من ظلم، فوضع العلّة و هي: «فلا عدوان» موضع الحكم و هو: فلا تعتدوا و سمّي جزاء الظلم باسمه للمشاكلة و الزواج، كقوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ أو إن تعرّضتم للمنتهين صرتم ظالمين، و ينعكس الأمر عليكم. و الفاء الأولى للتعقيب، و الثانية للجزاء.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 317

روي: قاتل المشركون المسلمين عام الحديبية في ذي القعدة، و اتّفق خروجهم لعمرة القضاء فيه، فكرهوا أن يقاتلوهم فيه لحرمته، فبيّن اللّه سبحانه جواز القتال في الشهر الحرام بلا كراهة، فقال: الشَّهْرُ الْحَرامُ بِالشَّهْرِ الْحَرامِ يعنى: هذا الشهر بذلك الشهر، و هتكه بهتكه، فلا تبالوا به. قوله: وَ الْحُرُماتُ قِصاصٌ احتجاج عليه، أي: كلّ حرمة- و هو ما يجب أن يحافظ عليها- يجري فيها القصاص، بأن يهتك له حرمته، فحين هتكوا حرمة شهركم فافعلوا بهم مثل ذلك، و ادخلوا عليهم عنوة و اقتلوهم. ثمّ أكّد ذلك بقوله: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ أي: فجازوه بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ لا أزيد منه وَ اتَّقُوا اللَّهَ في حال كونكم منتصرين، و لا تعتدوا إلى ما لم يرخّص لكم وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ فيحرسهم

و يصلح شأنهم.

[سورة البقرة (2): آية 195]

وَ أَنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ وَ أَحْسِنُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (195)

و لمّا أوجب سبحانه القتال في سبيل اللّه عقّب بذلك الإنفاق فيه، فقال:

وَ أَنْفِقُوا من أموالكم فِي سَبِيلِ اللَّهِ في الجهاد و أبواب البرّ، و لا تمسكوا كلّ الإمساك وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ بالإسراف و تضييع وجه المعاش، بل راعوا حدّ الوسط، فإنّ خير الأمور أوسطها. و يقرب منه ما روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «لو أنّ رجلا أنفق ما في يده في سبيل اللّه ما كان أحسن، و لا وفّق، لقوله تعالى: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ أو بالكفّ عن الغزو و الإنفاق فيه، فإنّه يقوّي العدوّ و يسلّطهم على إهلاككم. و يؤيّده ما روي عن أبي أيّوب الأنصارى أنّه قال: لمّا أعزّ اللّه تعالى الإسلام و كثر أهله رجعنا إلى أهالينا و أموالنا نقيم فيها

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 318

و نصلحها، فنزلت. أو بالإمساك و حبّ المال، فإنّه يؤدّي إلى الهلاك المؤبّد، و لذلك سمّي البخل هلاكا، و هو في الأصل انتهاء الشي ء في الفساد.

و الإلقاء طرح الشي ء. و عدّي ب «إلى» لتضمّن معنى الانتهاء. و قيل:

الباء مزيدة. و المراد بالأيدي الأنفس. و التهلكة و الهلاك و الهلك واحد، فهي مصدر، و مثله التضرّة و التسرّة، أي: لا توقعوا أنفسكم في الهلاك. و قيل:

معناه: لا تجعلوها آخذة بأيديكم، أو لا تلقوا بأيديكم أنفسكم إليها، فحذف المفعول.

وَ أَحْسِنُوا أعمالكم و أخلاقكم، أو تفضّلوا على المحاويج بالاقتصاد إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ في الأعمال و الأخلاق، أو المقتصدين في الإنفاق.

و في الآية دلالة على تحريم الإقدام على ما يخاف منه على النفس،

و على جواز ترك الأمر بالمعروف عند الخوف، لأنّ في ذلك إلقاء النفس إلى التهلكة.

و فيها دلالة على جواز الصلح مع الكفّار و البغاة إذا خاف الإمام على نفسه أو على المسلمين، كما فعله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عام الحديبية، و فعله أمير المؤمنين عليه السّلام بصفّين، و فعله الحسن عليه السّلام مع معاوية من المصالحة لمّا تشتّت أمره و خاف على نفسه و شيعته.

فإن عورضنا بأنّ الحسين عليه السّلام قاتل وحده؟

فالجواب أنّ فعله عليه السّلام يحتمل وجهين:

أحدهما: أنّه ظنّ أنّهم لا يقتلونه، لمكانه من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و الآخر: أنّه غلب على ظنّه أنّه لو ترك قتالهم قتله الملعون ابن زياد صبرا، كما فعل بابن عمّه مسلّم، فكان القتل مع عزّ النفس و الجهاد أهون عليه.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 319

[سورة البقرة (2): الآيات 196 الى 197]

وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ فَفِدْيَةٌ مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ فَإِذا أَمِنْتُمْ فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِّ وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ تِلْكَ عَشَرَةٌ كامِلَةٌ ذلِكَ لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (196) الْحَجُّ أَشْهُرٌ مَعْلُوماتٌ فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَّ فَلا رَفَثَ وَ لا فُسُوقَ وَ لا جِدالَ فِي الْحَجِّ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَ تَزَوَّدُوا فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى وَ اتَّقُونِ يا أُولِي الْأَلْبابِ (197)

ثمّ أعاد اللّه سبحانه الكلام إلى فرض الحجّ و

العمرة على العباد بعد بيانه فريضة الجهاد، فقال: وَ أَتِمُّوا الْحَجَّ وَ الْعُمْرَةَ لِلَّهِ ائتوا بهما تامّين كاملين مستجمعي مناسكهما بشرائطهما و أركانهما لوجه اللّه خالصا، و أقيموهما إلى آخر ما فيهما.

و ظاهر الأمر يقتضى الوجوب، فدلّ الأمر بإتمامهما على أنّ العمرة واجبة مثل الحجّ، كما هو مذهبنا، و مرويّ عن أمير المؤمنين عليه السّلام و عليّ بن الحسين عليه السّلام و سعيد بن جبير و مسروق و السدّي، و به قال الشافعي في الجديد. و قال أهل العراق: إنها مسنونة. و هذا خلاف الظاهر، و خلاف ما روي عن الأئمّة المعصومين صلوات اللّه

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 320

عليهم. و أركان أفعال الحجّ و شرائطها مذكورة في كتب الفقه، فلا نطوّل الكتاب بذكرها.

فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ منعتم، يقال: أحصر الرجل إذا منع من مراده بعدوّ أو بمرض أو غيرهما، قال اللّه تعالى: الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ «1». و حصر إذا حبسه عدوّ عن المضيّ، أو سجن، و منه قيل للمحبس: الحصير. و هما بمعنى المنع في كلّ شي ء، مثل صدّه و أصدّه. فعند أبي حنيفة كلّ منع بعدوّ أو مرض أو غيرهما يثبت له حكم الإحصار. و عند مالك و الشافعي و أحمد يختصّ بمنع العدوّ وحده، و أمّا المنع بالمرض فقالوا: يبقى على إحرامه، و لا يتحلّل حتى يصل إلى البيت، فإن فاته الحجّ جعل ما يفعل المفوت من عمل العمرة عليه و الهدي و القضاء. هذا إذا لم يشترط عندهم، أمّا مع الشرط فالصدّ و الحصر سواء.

و عند أصحابنا الإماميّة أنّ الإحصار يختصّ بالمرض و الصدّ بالعدوّ. و لمّا كان لكلّ منهما حكم ليس للآخر اختصّ باسم، فإنّ حكم الممنوع بالمرض أن يبعث هديه

مع أصحابه، و يواعدهم يوما لذبحه، فيتحلّل في ذلك اليوم من كلّ شي ء، إلّا من النساء حتى يحجّ في القابل إن كان حجّة واجبا، أو يطاف عنه للنساء إن كان حجّة ندبا. و الممنوع بالعدوّ يذبح هديه حينئذ و يحلّ له كلّ شي ء حتى النساء، كما ذكره اللّه تعالى في قوله: «فَإِنْ أُحْصِرْتُمْ».

فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ أي: فعليكم ما استيسر، أو فالواجب ما استيسر، أو فاهدوا ما استيسر. يقال: يسر الأمر و استيسر، و صعب و استصعب ضدّه. و الهدي جمع الهدية. و قيل: مفرد مؤنثّه هدية، و جمعه هديّ بتشديد الياء، و اشتقاقه من الهديّة. و قيل: من «هداه» إذا ساقه إلى الرشاد، لأنّه يساق إلى الحرم. و المعنى: إن أحصر المحرم و أراد أن يتحلّل، تحلّل بذبح هدي يتيسّر عليه، من بدنة أو بقرة أو

______________________________

(1) البقرة: 273.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 321

شاة حيث أحصر.

وَ لا تَحْلِقُوا رُؤُسَكُمْ حَتَّى يَبْلُغَ الْهَدْيُ مَحِلَّهُ أي: لا تحلّوا حتى تعلموا أنّ الهدي المبعوث إلى الحرم بلغ محلّه، أي: مكانه الّذي يجب أن ينحر فيه. و المحلّ بكسر الحاء يطلق على المكان و الزمان. و محلّه منى يوم النحر إن كان الإحرام بالحجّ، و مكّة إن كان الإحرام بالعمرة. فهذا إن كان محصرا بالمرض. و أمّا إن كان مصدودا بالعدوّ فمحلّه الموضع الّذي يصدّ فيه، لأنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نحر هديه بالحديبية.

فَمَنْ كانَ مِنْكُمْ مَرِيضاً مرضا يحوجه إلى الحلق أَوْ بِهِ أَذىً مِنْ رَأْسِهِ يحتاج فيه إلى الحلق للمداواة، أو تأذّى بهوامّ رأسه أو جراحة فحلق لذلك فَفِدْيَةٌ فعليه فدية، أي: بدل و جزاء يقوم مقامه مِنْ صِيامٍ أَوْ صَدَقَةٍ أَوْ نُسُكٍ بيان لجنس

الفدية. و أمّا قدرها

فقد روي عن أئمّتنا عليهم السّلام أنّ الصيام ثلاثة أيّام، و الصدقة على ستّة مساكين، و روي عشرة،

و النسك شاة، و هو مخيّر فيها. و

رووا ذلك عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال لكعب بن عجرة: «لعلّك آذاك هو امّك؟ قال: نعم يا رسول اللّه، قال: احلق و صم ثلاثة أيّام، أو تصدّق بفرق على ستّة مساكين، أو انسك شاة».

و الفرق «1» ثلاثة أصوع. و النسك مصدر. و قيل: هو جمع نسيكة، أي:

ذبيحة.

و لمّا ذكر حكم المحصر و من به أذى أو مرض قال: فَإِذا أَمِنْتُمْ الإحصار، يعني: فإذا لم تحصروا و كنتم في حال أمن وسعة فَمَنْ تَمَتَّعَ بِالْعُمْرَةِ إِلَى الْحَجِ فمن استمتع و انتفع بالتقرّب إلى اللّه بالعمرة قبل الانتفاع بتقرّبه بالحجّ. و قيل: من استمتع بعد التحلّل من عمرته باستباحة محظورات الإحرام قاصدا إلى أن يحرم بالحجّ فَمَا اسْتَيْسَرَ مِنَ الْهَدْيِ فعليه دم استيسره بسبب التمتّع من هدي المتعة.

______________________________

(1) الفرق: مكيال ضخم لأهل المدينة معروف.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 322

و هو واجب بالإجماع، على خلاف في أنّه نسك أو جبران، فعندنا و عند أبي حنيفة أنّه نسك يؤكل منه، و عند الشافعي هو جبران جار مجرى الجنايات و لا يؤكل منه.

و اعلم أنّ حجّ التمتّع قد يكون ابتداء، كمن يحرم أوّلا بالعمرة ثمّ بعد قضاء مناسكها يحرم بالحجّ، و ذلك ممّا لا نزاع في مشروعيّته. و قد يكون بالعدول عن حجّ الإفراد، فإنّ من دخل مكّة محرما بحجّ الإفراد فالأفضل أن يعدل إلى عمرة التمتّع و يتمّ حجّ التمتّع. و هذا الّذي منعه جميع فقهاء العامّة متمسّكين بقول عمر:

متعتان في عهد رسول اللّه، أنا أحرّمهما و

أعاقب عليهما. و أمّا من دخل قارنا فلا يجوز العدول.

فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أي: الهدي فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فِي الْحَجِ فعليه صيامها في أيّام الاشتغال به بعد الإحرام و قبل التحلّل. و الأفضل أن يصوم يوما قبل التروية، و التروية، و عرفة «1» وَ سَبْعَةٍ إِذا رَجَعْتُمْ إلى بلادكم و أهاليكم. و لو أقام بمكّة انتظر قدر وصول صحبه إلى بلده، أو مضيّ شهر.

تِلْكَ عَشَرَةٌ فذلكة «2» الحساب. و فائدتها أن لا يتوهّم أنّ الواو بمعنى «أو»، كقولك: جالس الحسن و ابن سيرين، و أن يعلم العدد جملة كما علم تفصيلا، فإنّ أكثر العرب لم يحسنوا الحساب، و في أمثال العرب: علمان خير من علم، و أنّ المراد بالسبعة هو العدد دون الكثرة، فإنّه يطلق لهما كامِلَةٌ صفة مؤكّدة تفيد المبالغة في محافظة العدد، فإنّ فيه زيادة توصية بصيامها، و أن لا يتهاون بها، و لا ينقص من عددها، كما تقول للرجل إذا كان لك اهتمام بأمره تأمره به و كان منك بمنزلة: اللّه اللّه لا تقصّر، أو مبيّنة كمال العشرة، فإنّه أوّل عدد كامل، إذ به تنتهي

______________________________

(1) أي: الأفضل أن يصوم يوم التروية و عرفة و يوما قبلهما.

(2) في هامش النسخة الخطّية: «الفذلكة في الحساب إجماله بعد التفصيل، و ذلك بأن يذكر أولا تفاصيله ثم تجمل تلك التفاصيل، و يكتب مؤخّر الحساب: فذلك كذا و كذا. منه».

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 323

الآحاد و تتمّ مراتبها، أو صفة مقيّدة تفيد كمال بدليّتها من الهدي، أي: كاملة في وقوعها بدلا من الهدي.

ذلِكَ إشارة إلى التمتّع. و قال الشافعي: إلى الهدى أو الصيام. و الحقّ الأوّل، لأنّ اللام في ذلك للبعيد، و ذكر التمتّع أبعد من الهدي، و

أيضا فإنّه أجمع فائدة لِمَنْ لَمْ يَكُنْ أَهْلُهُ حاضِرِي الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فعند الشافعي لم يكن عليهم هدي و لا صيام. و

حاضروه من كان بينهم و بينه ثمانية و أربعون ميلا فما دون من كلّ جانب، لما رواه زرارة «1» عن الصادق عليه السّلام.

و القول بأنّه اثنا عشر ميلا لم نظفر بدليل متين فيه.

وَ اتَّقُوا اللَّهَ في المحافظة على أوامره و نواهيه وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن خالف أمره و تعدّى حدوده.

الْحَجُّ أَشْهُرٌ أي: وقته، كقولك: البرد شهران. و قيل: أشهر الحجّ أشهر، فحذف المضاف. و قيل: جعل الحجّ الأشهر لمّا كان الحجّ فيها، كقولك: ليل نائم مَعْلُوماتٌ معروفات، و هي شوّال و ذو القعدة و تسع من ذي الحجّة. و إنّما سمّي شهران و بعض الشهر أشهرا إقامة للبعض مقام الكلّ. و الأصحّ أنّها شوّال و ذو القعدة و ذو الحجّة عند أصحابنا، و به قال مالك، لأنّ الأشهر جمع، و الجمع لا يصدق على أقلّ من ثلاثة، و إطلاق الاسم على الكلّ حقيقة و على البعض مجاز، و الأصل عدمه. و معنى كونها أشهر الحجّ أنّ الإحرام بالحجّ أو بالعمرة الّتي يتمتّع بها إلى الحجّ لا يصحّ إلّا فيها.

فَمَنْ فَرَضَ فِيهِنَّ الْحَجَ أي: أوجب على نفسه، بأن أحرم فيهنّ بالحجّ

______________________________

(1) لم نجد لزرارة رواية عن الصادق عليه السّلام في هذا الباب. نعم، روى عن الباقر عليه السّلام، انظر التهذيب 5: 33 ح 98، الاستبصار 2: 157 ح 516، الوسائل 8: 187 «ب» 6 من أبواب أقسام الحج ح 3 و 7.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 324

فَلا رَفَثَ فلا جماع عندنا. و قيل: الفحش من الكلام وَ لا فُسُوقَ و لا كذب عندنا.

و قيل: لا خروج عن حدود الشريعة بارتكاب المحظورات وَ لا جِدالَ و هو قول: لا و اللّه و بلى و اللّه، صادقا و كاذبا عندنا. و قالوا: إنّه المراء و السباب، أي:

لامراء مع الرفقاء و الخدم و المكارين فِي الْحَجِ في أيّامه. نفي الثلاثة على قصد النهي للمبالغة، و الدلالة على أنّها حقيقة بأن لا تكون، و ما كانت منها مستقبحة في أنفسها ففي الحجّ أقبح، كلبس الحرير في الصلاة، و التطريب «1» بقراءة القرآن، لأنّ الحجّ خروج عن مقتضى الطبع و العادة إلى محض العبادة.

و قرأ أبو عمرو و ابن كثير الأوّلين بالرفع على معنى: لا يكوننّ رفث و لا فسوق، و الثالث بالفتح، على معنى الإخبار بانتفاء الخلاف، كأنّه قيل: و لا شكّ و لا خلاف في الحجّ، و ذلك أنّ قريشا كانت تخالف سائر العرب، فيقفون بالمشعر الحرام و لا يروحون إلى عرفة، و يقولون: إنّا سدنة البيت لا يجوز لنا أن نخرج إلى الحلّ، و كانوا يقدّمون الحجّ و يؤخّرونه سنة، فارتفع الخلاف بأن أمروا بأن يقفوا أيضا بعرفة، و لا يحجّون إلّا في الوقت المعيّن المأمور به شرعا، فقد ارتفع الخلاف في الحجّ.

ثمّ حثّ على أفعال الخير و البرّ عقيب النهي عن الشرّ ليستبدل به و يستعمل مكانه، فقال: وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ يَعْلَمْهُ اللَّهُ فيجازيكم به أحسن الجزاء وَ تَزَوَّدُوا لمعادكم بالأعمال الصالحة و الخصال الحسنة فَإِنَّ خَيْرَ الزَّادِ التَّقْوى عن المحارم و القبائح، و عن عدم الامتثال بأوامر اللّه تعالى. قيل: نزلت في أهل اليمن، كانوا يحجّون و لا يتزوّدون، و يقولون: نحن متوكّلون، و نحن نحجّ بيت اللّه، فيكونون كلّا على الناس، فأمروا أن يتزوّدوا

في طريق الحجّ، و يتّقوا الإبرام

______________________________

(1) في هامش النسخة الخطّية: «التطريب ما يفعل به بعض الأعاجم، من الألحان المؤدّية إلى زيادة حرف و تغير حرف. منه».

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 325

و الإلحاح في الاستطعام على الناس، فإنّ خير الزاد الاجتناب عن هذا العمل وَ اتَّقُونِ فيما أمرتكم يا أُولِي الْأَلْبابِ فإنّ قضيّة اللبّ خشية اللّه و تقواه، و من لم يتّقه فكأنّه لا لبّ له. حثّهم على التقوى، ثمّ أمرهم بأن يكون المقصود بها هو اللّه تعالى، فيتبرّءوا عن كلّ ما سواه، و هو مقتضى العقل المعرّى عن شوائب الهوى، فلذلك خصّ أولي الألباب بهذا الخطاب.

[سورة البقرة (2): الآيات 198 الى 199]

لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ فَاذْكُرُوا اللَّهَ عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ وَ اذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الضَّالِّينَ (198) ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (199)

قيل: كانوا يتأثّمون بالتجارة في الحجّ، فرفع اللّه سبحانه التحرّج عمّن يتّجر في الحجّ بقوله: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَبْتَغُوا في أن تطلبوا فَضْلًا رزقا و عطاء مِنْ رَبِّكُمْ و هو النفع و الربح في التجارة. و قيل: كان عكاظ و مجنّة و ذو المجاز أسواقهم في الجاهليّة، يقيمونها مواسم الحجّ، و كانت معايشهم منها، فلمّا جاء الإسلام تأثّموا منه، فكفّوا عن البيع و الشراء، فلم تقم لهم سوق، فنزلت هذه الآية. و قيل: كان في الحجّ أجراء و مكارون، و كان الناس يقولون: هؤلاء الدّاجّ «1» و ليسوا بالحاجّ، فبيّن سبحانه أنّه لا إثم على الحاجّ في أن يكون أجيرا لغيره أو مكاريا.

فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ الإفاضة الدفع بكثرة، من إفاضة الماء و هي صبّه

______________________________

(1)

الدّاجّ: الّذين مع الحاجّ من الأجراء و المكارين و الأعوان. (لسان العرب 2: 263)

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 326

بكثرة. و أصله: أفضتم أنفسكم، ترك ذكر المفعول به كما ترك في: دفعوا من موضع كذا.

و عرفات علم للبقعة، سمّيت بالجمع كأذرعات «1» و قنّسرين. و حدّها من الأراك إلى ذي المجاز إلى ثويّة إلى عرنة. و سمّيت عرفات لأنّ إبراهيم عليه السّلام عرفها بعد أن وصفها اللّه له. و قيل: لأنّ آدم و حوّاء اجتمعا فيه فتعارفا. و قيل: إنّ جبرئيل عليه السّلام كان يري إبراهيم عليه السّلام المناسك، فيقول: عرفت عرفت. و قيل: إنّ إبراهيم عليه السّلام رأى ذبح ولده ليلة الثامن، فأصبح يتروّى يومه أجمع يفكّر أهو أمر من اللّه أم لا؟ فسمّي يوم التروية، ثمّ رأى الليلة الثانية ذلك، فلمّا أصبح عرف أنّه من اللّه. و قيل: إنّ آدم عليه السّلام اعترف بذنبه. و قيل: سمّيت بذلك لارتفاعها و علوّها، و منه عرف الديك، لارتفاعه.

و إنّما نوّن و كسر و فيه العلميّة و التأنيث، لأنّ تنوين الجمع تنوين المقابلة، لا تنوين التمكين الّذي هو مختصّ بالصرف، و ذهاب الكسرة تبع ذهاب التنوين من غير عوض، لعدم الصرف، و هنا ليس كذلك. أو لأنّ التأنيث لا يخلو إمّا أن يكون بالتاء الّتي في لفظها، و إمّا بتاء مقدّرة، كما في سعاد، فالّتي في لفظها ليست للتأنيث، و إنّما هي مع الألف الّتي قبلها علامة جمع المؤنّث، و لا يصحّ تقدير التاء فيها، لأنّ هذه التاء لاختصاصها بجمع المؤنّث مانعة من تقديرها، كما لا يقدّر تاء التأنيث في بنت، لأنّ التاء الّتي هي بدل من الواو لاختصاصها بالمؤنّث كتاء التأنيث، فأبت تقديرها.

و اعلم أنّه لا خلاف

في وجوب الوقوف بعرفة،

لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الحجّ عرفة».

و هو ركن يبطل الحجّ بتركه عمدا. و وقته من الزوال يوم التاسع إلى الغروب. هذا للمختار، أمّا المضطرّ فإلى طلوع فجر النحر.

______________________________

(1) أذرعات بلد بالشام. و قنّسرين مدينة بينها و بين حلب مرحلة.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 327

فَاذْكُرُوا اللَّهَ بالتلبية و التهليل و الدعاء. و قيل: بصلاة العشاءين عِنْدَ الْمَشْعَرِ الْحَرامِ جبل يقف عليه الإمام، و يسمّى قزح. و المشعر: المعلم، لأنّه معلم للعبادة. و سمّيت المزدلفة جمعا لأنّ آدم اجتمع فيها مع حوّاء، و ازدلف منها، أي:

دنا منها. و قيل: لأنّه يجمع فيها بين الصلاتين. و وصف بالحرام لحرمته. و فيه إشعار بوجوب الكون به كما يقوله أصحابنا، لأنّ الذكر المأمور به عنده يستلزم الكون به، فيكون واجبا. و هو ركن كالوقوف بعرفات، و لو أخلّ بهما سهوا بطل حجّه، لا بأحدهما فتجزئ بالآخر. و وقته من طلوع الفجر العاشر إلى طلوع شمسه للمختار، و للمضطرّ إلى الزوال. و حدّه من المأزمين «1» إلى الحياض إلى وادي محسّر. و عند العامّة الوقوف فيه مستحبّ.

وَ اذْكُرُوهُ كَما هَداكُمْ «ما» مصدريّة أو كافّة، أي: اذكروه ذكرا حسنا كما هداكم هداية حسنة لأداء شكرها، فإنّ الشكر على النعمة واجب. أو و اذكروه كما علّمكم كيف تذكرونه و لا تعدلوا عنه وَ إِنْ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلِهِ قبل الهدى لَمِنَ الضَّالِّينَ أي: الجاهلين، لا تعرفون كيف تذكرونه و تعبدونه. و «إن» هي المخفّفة من الثقيلة.

روي عن جابر: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا صلّى الفجر بالمزدلفة بغلس- و هو الظلمة الباقية عند أوّل الفجر المعترض- ركب ناقته حتى أتى المشعر الحرام، فدعا و

كبّر و هلّل و لم يزل واقفا حتى أسفر.

ثُمَّ أَفِيضُوا مِنْ حَيْثُ أَفاضَ النَّاسُ أي: من عرفة لا من المزدلفة. و الخطاب مع قريش، كما

نقل عن الباقر عليه السّلام و ابن عبّاس و جماعة أنّ الأمر لقريش و حلفائهم،

______________________________

(1) في هامش النسخة الخطّية: «المأزم: كلّ طريق ضيّق بين الجبلين. و موضع الحرب أيضا مأزم. و منه سمّي الموضع الذي بين المشعر و بين عرفة مأزمين. منه».

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 328

و يقال لهم الحمس «1»، لتشدّدهم في دينهم، فإنّهم كانوا يقفون بجمع و سائر العرب بعرفة، و يرون ذلك ترفّعا على الناس، فلا يساووهم في الموقف، و يقولون: نحن أهل حرم اللّه فلا نخرج منه، فأمرهم اللّه تعالى بموافقة سائر العرب.

و قيل: «النّاس» هو آدم عليه السّلام. و قيل: هو إبراهيم عليه السّلام، أي: أفيضوا من حيث أفاض. و سمّاه بالناس كما سمّاه أمّة «2»، و كما قال: الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ «3».

و المراد نعيم بن مسعود. أو أنّه أراد إبراهيم عليه السّلام و ولديه، و في ذلك تنبيه على أن الحجّ من السنن القديمة. و عن الجبّائي: المراد به الإفاضة من المزدلفة إلى منى يوم النحر قبل طلوع الشمس للرمي و النحر، قال: و الآية تدلّ عليه، لأنّه قال: «فَإِذا أَفَضْتُمْ مِنْ عَرَفاتٍ» ثمّ قال: «ثُمَّ أَفِيضُوا» فوجب أن يكون إفاضة ثانية، فدلّ ذلك على أنّ الإفاضتين واجبتان.

و قال في كنز العرفان: «هذا الوجه أقوى في نفسي، لأنّه ذكر إفاضة عرفات أوّلا، فوجب كون هذه غير تلك، تكثيرا للفائدة بتغاير الموضوع. و أيضا تكون «ثمّ» على حقيقتها من المهلة و الترتيب، فيكون «أفيضوا» معطوفا على: اذكروا، و المهلة هي أوّل الوقت إلى آخره. و المراد

بالناس على هذا قيل: هم الحمس، كما حكينا وقوفهم بالمزدلفة. و قيل: هو إبراهيم عليه السّلام. و قيل: آدم عليه السّلام كما ذكر. و على القول الأوّل معنى الترتيب أنّ التراخي كما يكون في الزمان كذا يكون في المرتبة، كقوله تعالى: كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ* ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ «4» فإنّ مراتب العلم

______________________________

(1) في هامش النسخة الخطّية: «الحمس: الشدّة، و الأحمس: المكان الصّلب، و الأحمس أيضا: الشديد الصلب في الدين. منه».

(2) النحل: 120.

(3) آل عمران: 173.

(4) التكاثر: 3- 4.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 329

متفاوتة بحسب حال النفس في البعد عن العوائق، كذلك نقول هنا: إنّ مطلق الإفاضة المأمور به أوّلا يقصر رتبة عن الإفاضة المقيّدة المأمور بها ثانيا» «1».

وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ اطلبوا منه المغفرة بالندم على ما سلف في جاهليّتكم من تغيير المناسك و نحوه. و فيه تنبيه على أنّ الإتيان بأفعال الحجّ سبب معدّ لاستحقاق الغفران و إفاضة الرّحمة إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ كثير المغفرة رَحِيمٌ واسع الرحمة، يغفر ذنب المستغفر و ينعم عليه.

[سورة البقرة (2): الآيات 200 الى 203]

فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ (200) وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً وَ قِنا عَذابَ النَّارِ (201) أُولئِكَ لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (202) وَ اذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ فَمَنْ تَعَجَّلَ فِي يَوْمَيْنِ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ وَ مَنْ تَأَخَّرَ فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (203)

روي أنّ العرب إذا فرغوا من مناسكهم وقفوا بين المسجد بمنى و بين الجبل، فيعدّون فضائل آبائهم و يذكرون

أيّامهم، فنزلت: فَإِذا قَضَيْتُمْ مَناسِكَكُمْ فإذا أدّيتم أفعال حجّكم و فرغتم منها فَاذْكُرُوا اللَّهَ فأكثروا ذكره و بالغوا فيه

______________________________

(1) كنز العرفان 1: 306- 307.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 330

كَذِكْرِكُمْ آباءَكُمْ كما تفعلون بذكر آبائكم في المفاخرة، أو تعداد محاسن آبائكم أَوْ أَشَدَّ ذِكْراً مجرور عطفا على ما أضيف إليه الذكر في قوله: «كذكركم» بمعنى: أو كذكر قوم أشدّ منكم، أو منصوب عطفا على «آباءكم» و ذكرا من فعل المذكور بمعنى: أو كذكركم أشدّ مذكوريّة من آبائكم.

ثمّ فصّل الذاكرين إلى مقلّ لا يطلب بذكر اللّه إلّا الدنيا، و إلى مكثر يطلب به خير الدارين، و به حثّ على الإكثار و الإرشاد إليه، فقال: فَمِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا اجعل إيتاءنا و منحتنا في الدنيا وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ من نصيب و حظّ، لأنّ همّته مقصورة على الدنيا الدّنيّة، أو من طلب خلاق وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً من الصحّة و الكفاف و توفيق الطاعات و الخيرات وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً من الثواب العظيم و الأجر الجزيل وَ قِنا عَذابَ النَّارِ بالعفو و المغفرة.

و

روي عن عليّ عليه السّلام: «الحسنة في الدنيا المرأة الصالحة، و في الآخرة الحوراء، و عذاب النار امرأة السّوء».

و عن الحسن: «الحسنة في الدنيا العلم و العبادة، و في الآخرة الجنّة». و «قِنا عَذابَ النَّارِ» معناه: احفظنا من الشهوات و الذنوب المؤدّية إلى النار. و

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «من أوتي قلبا شاكرا، و لسانا ذاكرا، و زوجة مؤمنة تعينه على أمر الدنيا و آخرته، فقد أوتي في الدنيا حسنة و في الآخرة حسنة، و وقي عذاب

النار».

أُولئِكَ إشارة إلى الفريق الثاني، أي: أولئك الداعون بالحسنتين لَهُمْ نَصِيبٌ مِمَّا كَسَبُوا من جنس ما اكتسبوا من الأعمال الحسنة، و هو الثواب الّذي هو المنافع الحسنة، أو من أجل ما كسبوا، أو لهم نصيب ممّا دعوا به نعطيهم منه بحسب مصالحهم في الدنيا و استحقاقهم في الآخرة. و سمّي الدعاء كسبا لأنّه من الأعمال، و الأعمال موصوفة بالكسب. و يجوز أن يكون «أولئك» للفريقين، فإنّ

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 331

لكلّ فريق نصيبا من جنس ما كسبوا، و مصداقه

قول الباقر عليه السّلام: «ما يقف أحد على تلك الجبال برّ و لا فاجر إلّا استجاب اللّه له، أمّا البرّ فيستجاب له في آخرته و دنياه، و أمّا الفاجر فيستجاب له في دنياه» «1».

وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ يحاسب العباد على كثرتهم و كثرة أعمالهم في مقدار لمحة، فلا يشغله حساب أحد عن حساب غيره.

و روي أنّه يحاسب الخلق في قدر حلب شاة. و روي في مقدار فواق «2» ناقة.

و

عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: معناه أنّه يحاسب الخلق دفعة كما يرزقهم دفعة.

و قيل: معنى «سريع الحساب» أنّه يوشك أن يقيم القيامة و يحاسب العباد، فبادروا إكثار الذكر و طلب الآخرة.

و اعلم أنّ المراد بالذكر الذكر اللساني تارة و القلبي أخرى، لكنّ المقصود بالذات هو الثاني، و أمّا الأوّل فترجمان للثاني، و منبّه للقلب عليه، لكونه في الأغلب مأسورا في يد الشواغل البدنيّة و الموانع الطبيعيّة، و هذا هو السرّ في تكرار الأذكار و التسبيحات و التحميدات و غيرها. و الأمر في هذه الأزمنة الشريفة و الأمكنة المنيفة الّتي هي مظانّ الإجابة لا يقتضي انقطاعه بانقطاع المناسك، لأنّ دلالة مفهوم المخالفة باطلة كما تقرّر في الأصول.

و

لمّا كان الذكر متضمّنا للعبادات القلبيّة و التوجّهات السرّيّة إلى اللّه أمره به في مواضع أخر من المشاعر، فقال: وَ اذْكُرُوا اللَّهَ فِي أَيَّامٍ مَعْدُوداتٍ كبّروه في أدبار الصلوات الخمس عشرة: أوّلها الظهر يوم النحر لمن كان بمنى، و عقيب عشر لمن كان بغيرها. و صورته: اللّه أكبر اللّه أكبر، لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر، و للّه الحمد، اللّه

______________________________

(1) الكافي 4: 262 ح 38، الوسائل 8: 114 ب «62» من أبواب وجوب الحجّ و شرائطه ح 2.

(2) الفواق ما بين الحلبتين من الوقت، لأنّها تحلب و تترك سويعة يرضعها الفصيل لتدرّ ثمّ تحلب.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 332

أكبر على ما هدانا، و الحمد للّه على ما أولانا، و اللّه أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام. و قيل: مطلق الذكر عند ذبح القرابين و رمي الجمار و غيرها في أيّام التشريق، و هو الحادي عشر و يسمّى يوم القرّ، و يوم الثاني عشر و يسمّى يوم الصدر، و يوم الثالث عشر و يسمّى يوم النفر. و سمّيت أيّام التشريق لتشرّق لحوم الأضاحي فيها. و قيل: تشرّق القمر فيها طول الليل.

فَمَنْ تَعَجَّلَ استعجل النفر فِي يَوْمَيْنِ يوم القرّ و بعده، أي: و من نفر في أيّام التشريق بعد رمي الجمار فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ باستعجاله وَ مَنْ تَأَخَّرَ في النفر حتى رمى في اليوم الثالث من أيّام التشريق فَلا إِثْمَ عَلَيْهِ لِمَنِ اتَّقى الصيد و النساء. و معنى نفي الإثم بالتعجيل و التأخير التخيير بينهما و الرّد على أهل الجاهليّة، فإنّ منهم من أثّم المتعجّل و منهم من أثّم المتأخّر وَ اتَّقُوا اللَّهَ باجتناب معاصيه في مجامع أموركم وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ للجزاء بعد

الإحياء، فيجازيكم على أعمالكم. و أصل الحشر الجمع و ضمّ المتفرّق.

[سورة البقرة (2): الآيات 204 الى 206]

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ (204) وَ إِذا تَوَلَّى سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ (205) وَ إِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ وَ لَبِئْسَ الْمِهادُ (206)

و بعد ذكر أحوال المؤمنين المنقادين للأحكام المذكورة، و الكافرين المعاندين المنكرين لها، بيّن أحوال المنافقين المذبذبين بين ذلك لا إلى هؤلاء و لا إلى هؤلاء، فقال: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُعْجِبُكَ قَوْلُهُ يروقك و يعظم في قلبك.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 333

و التعجّب حيرة تعرض للإنسان لجهله بسبب المتعجّب منه فِي الْحَياةِ الدُّنْيا متعلّق ب «قوله» أي: ما يقوله في أمور الدنيا و أسباب المعاش و دقائق تدابيره فيها، أو في معنى الدنيا، فإنّها مراده من ادّعاء المحبّة و إظهار الإيمان، أو ب «يعجبك» أي:

يعجبك قوله في الدنيا حلاوة و فصاحة، و لا يعجبك في الآخرة، لما يعتريه من الدهشة و الحبسة «1».

وَ يُشْهِدُ اللَّهَ عَلى ما فِي قَلْبِهِ يحلف و يستشهد اللّه على أنّ ما في قلبه موافق لكلامه من محبّتك و الإيمان بك وَ هُوَ أَلَدُّ الْخِصامِ شديد العداوة و الجدال للمسلمين. و الخصام المخاصمة. و يجوز أن يكون جمع خصم، كصعب و صعاب، بمعنى أشدّ الخصوم خصومة. و إضافة ألدّ إلى الخصام بمعني «في».

قيل: نزلت في الأخنس بن شريق الثقفيّ، و كان حسن المنظر حلو المنطق، يوالي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و يدّعي الإسلام. و قيل: عامّة في المنافقين، كانت تحلولي «2»

ألسنتهم، و قلوبهم أمرّ من الصّبر.

وَ إِذا تَوَلَّى أدبر و انصرف عنك، و قيل: إذا غلب و صار واليا سَعى فِي الْأَرْضِ لِيُفْسِدَ فِيها وَ يُهْلِكَ الْحَرْثَ وَ النَّسْلَ كما فعله الأخنس بثقيف، إذ بيّتهم و أحرق زروعهم، و أهلك مواشيهم. أو كما يفعله ولاة السوء بالقتل و الإتلاف أو بالظلم، حتى يمنع اللّه بشؤمه المطر، فيهلك الحرث و النسل وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الْفَسادَ لا يرتضيه، فاحذروا غضبه عليه.

و فيه دلالة على بطلان قول المجبّرة: إنّ اللّه تعالى يريد القبائح، لأنّه سبحانه نفي عن نفسه محبّة الفساد، و المحبّة هي الإرادة، لأنّ كلّ ما أحبّ اللّه أن يكون فقد أراد أن يكون، و ما لا يحبّ أن يكون لا يريد أن يكون.

______________________________

(1) الحبسة: تعذّر الكلام.

(2) أي: كان منطقهم حلوا، و احلولى الشي ء: صار حلوا. و الصّبر: عصارة شجر مرّ.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 334

وَ إِذا قِيلَ لَهُ اتَّقِ اللَّهَ أَخَذَتْهُ الْعِزَّةُ بِالْإِثْمِ من قولك: أخذته بكذا، إذا حملته عليه و ألزمته إيّاه. يعني: حملته الأنفة و حميّة الجاهليّة على الإثم الّذي يؤمر باتّقائه لجاجا فَحَسْبُهُ جَهَنَّمُ كفته جزاء و عذابا. و جهنّم علم لدار العقاب، و هو في الأصل مرادف للنّار وَ لَبِئْسَ الْمِهادُ جواب قسم مقدّر، و المخصوص محذوف، للعلم به. و «المهاد»: الفراش. و قيل: ما يوطأ للجنب.

و في هذه الآية دلالة على أنّ من تكبّر عن قبول الحقّ إذا دعي إليه كان مرتكبا أعظم كبيرة، و لذلك قال ابن مسعود: إنّ من الذنوب الّتي لا تغفر أن يقال للرجل: اتّق اللّه، فيقول: عليك نفسك.

[سورة البقرة (2): آية 207]

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (207)

ثمّ عاد سبحانه إلى وصف

المؤمن الآمر بالمعروف في قوله: «و إذا قيل له اتّق اللّه أخذته العزّة» فقال: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْرِي نَفْسَهُ يبيعها، أي: يبذلها في الجهاد، أو يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر حتى يقتل ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ لابتغاء مرضاته و طلب رضوانه. و إنّما أطلق عليه اسم البيع لأنّه إنّما فعله لطلب رضا اللّه، كما أنّ البائع يطلب الثمن بالمبيع.

روي السدّي، عن ابن عبّاس أنّها نزلت في عليّ بن أبي طالب عليه السّلام حين هرب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من المشركين إلى الغار، و نام عليّ عليه السّلام على فراش النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و نزلت هذه الآية بين مكّة و المدينة. و هذه الرواية رواها الثعلبي أيضا في تفسيره.

و

روي أنّه لمّا نام على فراشه قام جبرئيل عند رأسه، و ميكائيل عند رجليه، و جبرئيل ينادي: بخ بخ، و من مثلك يا ابن أبي طالب؟!

و عن عكرمة: نزلت في أبي ذرّ الغفاري، لأنّ أهل أبي ذرّ أخذوا أبا ذرّ

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 335

فانفلت منهم، فقدم على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و قيل: نزلت في صهيب بن سنان، أراده المشركون على ترك الإسلام، و قتلوا نفرا كانوا معه، فقال لهم: أنا شيخ كبير، إن كنت معكم أنفعكم، و إن كنت عليكم لم أضرّكم، فخلّوني و ما أنا عليه و خذوا مالي، فقبلوا منه ماله، و أتى المدينة.

و قيل: نزلت في كلّ مجاهد في سبيل اللّه.

وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ حيث كلّفهم الجهاد، و عرضهم لثواب الشهداء في يوم المعاد.

[سورة البقرة (2): الآيات 208 الى 210]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ

(208) فَإِنْ زَلَلْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (209) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَ الْمَلائِكَةُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (210)

ثمّ خاطب أهل النفاق بأن أطيعوا اللّه باطنا كما أظهروها، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ادْخُلُوا فِي السِّلْمِ كَافَّةً السّلم بالفتح و الكسر الاستسلام و الطاعة، و لذلك يطلق في الصلح و الإسلام، فتحه ابن كثير و نافع و الكسائي، و كسره الباقون.

و «كافّة» اسم للجملة، لأنّها تكفّ الأجزاء من التفرّق، حال من الضمير أو السّلم، لأنّها تؤنّث كالحرب. و المعنى: استسلموا للّه و أطيعوه جملة، ظاهرا و باطنا.

و قيل: الخطاب لأهل الكتاب. و المعنى: أدخلوا في الإسلام بكلّيّتكم، و لا تخلطوا به غيره، من تعظيم السبت و تحريم الإبل و ألبانها، أو بشرائع اللّه كلّها، و الأنبياء و الكتب جميعا. أو الخطاب للمسلمين. و المعنى: لا تخلّوا بشي ء من

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 336

أحكام الإسلام و شعبه. و روى أصحابنا أنّه الدخول في الولاية.

وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ بالتفرّق و التفريق إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة.

و لمّا أمر سبحانه عباده بالطاعة عقّبه بالوعيد على تركها، فقال: فَإِنْ زَلَلْتُمْ تنحّيتم عن الدخول في السلّم مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْكُمُ الْبَيِّناتُ الآيات و الحجج الشاهدة على أنّه الحقّ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب لا يعجزه الانتقام منكم حَكِيمٌ لا ينتقم إلّا بالحقّ.

ثمّ عقّب سبحانه ما تقدّم من الوعيد بوعيد آخر، فقال: هَلْ يَنْظُرُونَ استفهام في معنى النفي، بقرينة قوله: إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ أي: يأتيهم أمره أو بأسه، كقوله: أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ «1» و قوله: إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا «2» غير أنّه

ذكر ذاته تفخيما للبأس، و هذا كما يقال: دخل الأمير البلد، و يراد بذلك جنده. أو يأتيهم اللّه ببأسه، فحذف المأتيّ به للدلالة عليه بقوله: «أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ» فِي ظُلَلٍ جمع ظلّة، كقلّة و قلل، و هي ما أظلّك مِنَ الْغَمامِ بيان لظلل. و الغمام: السحاب الأبيض.

و إنّما يأتيهم العذاب فيه لأنّه مظنّة الرحمة، فإذا جاء منه العذاب كان أفظع، لأنّ الشرّ إذا جاء من حيث لا يحتسب كان أصعب، فكيف إذا جاء من حيث يحتسب الخير؟! وَ الْمَلائِكَةُ بالرفع، أي: يأتيهم الملائكة، فإنّهم الواسطة في إتيان أمره، أو الآتون على الحقيقة ببأسه وَ قُضِيَ الْأَمْرُ أتمّ أمر إهلاكهم و فرغ منه، و هو المحاسبة و إنزال أهل الجنّة في الجنّة و أهل النار في النار. وضع الماضي موضع المستقبل لدنوّه و تيقّن وقوعه وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ في سؤاله عنها و مجازاته

______________________________

(1) النحل: 33.

(2) الأعراف: 5.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 337

عليها. و قرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو على البناء للمفعول، على أنّه من الرجع.

و قرأ الباقون على البناء للفاعل بالتأنيث غير يعقوب، على أنّه من الرجوع.

[سورة البقرة (2): الآيات 211 الى 212]

سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (211) زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا وَ يَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ اللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (212)

و لمّا ذكر سبحانه شرائع الإسلام و أنّ النّاس فيها ثلاث فرق: مؤمن و كافر و منافق، ثمّ وعد و أوعد، بيّن بعد ذلك أنّ تركهم الإيمان ليس لتقصير في الحجج، و لكن لسوء طباعهم الخبيثة، و خبث أعمالهم

السّالفة قبل الإسلام، فقال تقريعا لهم:

سَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ أمر للرسول أو لكلّ أحد كَمْ آتَيْناهُمْ مِنْ آيَةٍ بَيِّنَةٍ معجزة ظاهرة على أيدي أنبيائهم، أو آية في التوراة شاهدة على صحّة نبوّة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فمنهم من آمن و منهم من جحد، و منهم من أقرّ و منهم من بدّل. و «كم» استفهاميّة مقرّرة أو خبريّة، و محلّها النصب على المفعوليّة، أو الرفع بالابتداء على حذف العائد من الخبر، و «آية» مميّزها، و «من» للفصل بين التمييز و المفعول.

وَ مَنْ يُبَدِّلْ نِعْمَةَ اللَّهِ أي: آياته، فإنّها سبب الهدى الّذي هو أجلّ النعم.

و تبديلها بجعلها سبب الضلالة و ازدياد الرجس، أو بالتحريف و التأويل و الزيغ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُ من بعد ما تمكّن من معرفتها، أو من بعد ما عرفها. و فيه تعريض بأنّهم بدّلوها بعد ما عقلوها فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ فيعاقبه أشدّ عقوبة، لأنّه ارتكب أشدّ جريمة.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 338

ثمّ بيّن اللّه سبحانه أنّ عدولهم عن الإيمان إنّما هو لإيثارهم الحياة الدنيا، فقال: زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الْحَياةُ الدُّنْيا حسنت في أعينهم، و أشربت محبّتها في قلوبهم، حتى تهالكوا عليها و أعرضوا عن غيرها. و المزيّن هو الشيطان، حسّنها في أعينهم بوساوسه، فلا يريدون غيرها. و يجوز أن يجعل ما خلق اللّه فيها من الأشياء المشتهاة و ما ركّبه فيهم من الشهوة لها تزيينا، لأنّ التكليف لا يتمّ إلا مع الشهوة.

وَ يَسْخَرُونَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يريد فقراء المؤمنين، كبلال و عمّار و صهيب، أي: يسترذلونهم و يستهزءون بهم على رفضهم الدنيا، و إقبالهم على العقبى. و «من» للابتداء، كأنّهم جعلوا مبدأ السخريّة.

وَ الَّذِينَ اتَّقَوْا فَوْقَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ لأنّهم في

علّيين، و هم في أسفل السافلين في سجّين. أو حالهم عالية رفيعة، لأنّهم في كرامة و هم في هوان و مذلّة. أو لأنّهم يتطاولون عليهم، فيسخرون منهم كما سخروا منهم في الدنيا. و إنّما قال: «وَ الَّذِينَ اتَّقَوْا» بعد قوله: «مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا» ليدلّ على أنّهم متّقون، و أنّ استعلاءهم للتقوى، ليكون حثّا و بعثا للمؤمنين على التقوى إذا سمعوا ذلك.

وَ اللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ في الدارين بِغَيْرِ حِسابٍ بغير تقدير، فيوسّع في الدنيا استدراجا تارة و ابتلاء أخرى، أو يعطي أهل الجنّة ما لا يأتي عليه الحساب.

[سورة البقرة (2): آية 213]

كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِيَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ إِلاَّ الَّذِينَ أُوتُوهُ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِّ بِإِذْنِهِ وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (213)

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 339

ثمّ بيّن سبحانه أحوال من تقدّم من الكفّار تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: كانَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً متّفقين على الحقّ فيما بين آدم و إدريس أو نوح أو بعد الطوفان، أو متّفقين على الجهالة و الكفر في فترة إدريس أو نوح. و الأوّل أوجه. و يؤيّده ما روي عن ابن عبّاس أنّه كان بين آدم و بين نوح عشرة قرون على شريعة الحقّ.

و الأمّة عبارة عن القوم المجتمعين على شي ء واحد بعضهم ببعض. فَبَعَثَ اللَّهُ النَّبِيِّينَ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ أي: اختلفوا فبعثهم اللّه تعالى. و على الوجه الثاني:

فبعد بعثهم اختلف الكفّار عليهم، و إنّما حذف لدلالة قوله: «فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ».

و

روي عن أبي جعفر الباقر عليه

السّلام أنّه قال: «كانوا قبل نوح أمّة واحدة على فطرة اللّه لا مهتدين و لا ضلّالا، فبعث اللّه النبيّين».

و على هذا فالمعنى: أنّهم كانوا متعبّدين بما في عقولهم، غير مهتدين إلى نبوّة و لا شريعة، ثمّ بعث اللّه النبيّين بالشرائع لما علم أنّ مصالحهم فيها.

و عن كعب الأحبار: الّذي علمته من عدد الأنبياء مائة و أربعة و عشرون ألفا، و المرسل منهم ثلاث مائة و ثلاثة عشر، و المذكور في القرآن باسم العلم ثمانية و عشرون.

وَ أَنْزَلَ مَعَهُمُ الْكِتابَ يريد به الجنس، و لا يريد أنّه أنزل مع كلّ واحد كتابا يخصّه، فإنّ أكثرهم لم يكن لهم كتاب يخصّهم، و إنّما كانوا يأخذون بكتب من قبلهم بِالْحَقِ حال من الكتاب، أي: ملتبسا بالحقّ شاهدا به لِيَحْكُمَ أي: اللّه أو النبيّ المبعوث أو كتابه بَيْنَ النَّاسِ في زمانهم فِيمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ أي: في الحقّ الذي اختلفوا فيه، أو فيما التبس عليهم.

وَ مَا اخْتَلَفَ فِيهِ في الحقّ أو الكتاب إِلَّا الَّذِينَ أُوتُوهُ أي: الكتاب المنزل لإزالة الخلاف، أي: عكسوا الأمر، فجعلوا ما أنزل مزيحا للاختلاف فيه، سببا لاستحكامه مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ بَغْياً بَيْنَهُمْ حسدا بينهم و ظلما،

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 340

لحرصهم على الدنيا.

فَهَدَى اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا لِمَا اخْتَلَفُوا فِيهِ مِنَ الْحَقِ «من» بيان لما اختلفوا فيه قبل إنزال الكتاب، أي: للحقّ الّذي اختلف فيه من اختلف بِإِذْنِهِ بأمره، أو بإرادته و لطفه وَ اللَّهُ يَهْدِي باللطف و التوفيق مَنْ يَشاءُ من المكلّفين المسترشدين للحقّ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ لا يضلّ سالكه، فهو طريق الإسلام.

[سورة البقرة (2): آية 214]

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضَّرَّاءُ وَ زُلْزِلُوا حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ

وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ مَتى نَصْرُ اللَّهِ أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ (214)

ثمّ ذكر سبحانه ما جرى على المؤمنين من الأمم الخالية، تسلية لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لأصحابه فيما نالهم من المشركين و أمثالهم، و تشجيعا لهم على ثباتهم مع مخالفيهم، لأنّ سماع أخبار الصالحين يرغّب في مثل أحوالهم، فقال خاطبا به النبيّ و المؤمنين: أَمْ حَسِبْتُمْ «أم» منقطعة، و معنى الهمزة فيها التقرير و إنكار الحسبان و استبعاد أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ و لم يأتكم، فإنّ أصل «لمّا» لم، زيدت عليها ما، و فيها توقّع مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ حالهم الّتي هي مثل في الشدّة، أي: مثل ما امتحنوا به مَسَّتْهُمُ الْبَأْساءُ وَ الضَّرَّاءُ بيان له على الاستئناف.

و البأساء نقيض النعماء، و الضرّاء نقيض السرّاء. و قيل: البأساء القتل، و الضرّاء الفقر، أو البأساء شدّة الفقر، و الضرّاء المرض و الجوع و الخروج عن الأهل و المال.

وَ زُلْزِلُوا و أزعجوا إزعاجا شديدا شبيها بالزلزلة بما أصابهم من الشدائد و الأهوال حَتَّى يَقُولَ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ لتناهي الشدّة و استطالة المدّة، بحيث تقطّعت حبال الصبر. و في هذه الغاية دليل على تناهي الأمر في الشدّة

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 341

و تماديه في العظم، لأنّ الرسل مع اقتدارهم التامّ في تحمّل الشدائد العظيمة، متى لم يبق لهم صبر في مثل هذه الدواهي العظمى حتى ضجّوا، كان البلاء غاية في الشدّة الّتي لا مطمح وراءها. و قرأ نافع: «يقول» بالرفع على أنه حكاية حال ماضية، كقولك: مرض فلان حتى لا يرجونه مَتى نَصْرُ اللَّهِ استبطاء له لتأخّره أَلا إِنَّ نَصْرَ اللَّهِ قَرِيبٌ استئناف على إرادة القول، أي: فقيل

لهم ذلك إسعافا لهم إلى طلبتهم من عاجل النصر.

و فيه إشارة إلى أن الوصول إلى اللّه تعالى، و الفوز بالكرامة عنده؛ برفض الهوى و اللّذات، و مكابدة الشدائد و الرياضات، كما

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «حفّت الجنّة بالمكاره، و حفّت النّار بالشهوات».

و عن قتادة و السدّي: نزلت هذه الآية يوم الخندق لمّا اشتدّت المخافة، و حوصر المسلمون في المدينة، فدعاهم اللّه تعالى إلى الصبر و وعدهم النصر.

و قيل: نزلت في حرب أحد لمّا قال عبد اللّه بن أبيّ لأصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إلى متى تقتلون أنفسكم؟ لو كان محمد نبيّا ما سلّط اللّه عليه الأسر و القتل.

و عن عطاء: نزلت في المهاجرين من أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى المدينة، إذ تركوا ديارهم و أموالهم و مسّتهم الضرّاء.

[سورة البقرة (2): آية 215]

يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ فَلِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (215)

و بعد أن رغّب العباد بهذه الآية في تحمّل المشاقّ في التكاليف الشرعيّة، و الأمر بالصبر فيها، خصوصا في الجهاد الّذي يكون الرياضة و المشقّة فيه أصعب

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 342

و أشقّ، بيّن وجوه مصارف الأموال الّتي من جملتها الإنفاق في الجهاد، فقال:

يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ أيّ شي ء ينفقونه. روي عن ابن عبّاس أنّ عمرو بن الجموح الأنصارى كان شيخا كبيرا ذا مال كثير، فقال: يا رسول اللّه بماذا أتصدّق؟

و على من أتصدّق؟ فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.

و لمّا كان السؤال عن الإنفاق يتضمّن السؤال عن مصرف النفقة، لأنّ النفقة لا يعتدّ بها إلا إذا وقع

موقعها، فلذلك جاء الجواب ببيان مصارفها، فقال: قُلْ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ خَيْرٍ أي: من مال. و إيثار «خير» على مال للدلالة على أنّه ممّا ينتفع به، لأنّ ما لا ينتفع به لا يسمّى خيرا فَلِلْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ مرّ معناه وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ في معنى الشرط فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ جوابه، أي: إن تفعلوا من عمل صالح يقرّبكم إلى اللّه فاللّه يعلم كنهه و يوفي ثوابه.

و ليس في الآية ما ينافيه فرض الزكاة لينسخ به.

[سورة البقرة (2): آية 216]

كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (216)

ثمّ بيّن كون الجهاد مصلحة لمن أمر به و إن لم يتعلّق علمه بها، فقال: كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ وَ هُوَ كُرْهٌ لَكُمْ شاقّ عليكم. و هو مصدر نعت به للمبالغة، أو فعل بمعنى مفعول، كالخبز بمعنى المخبوز وَ عَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ و هو جميع ما كلّفوا به، فإنّ الطبع يكرهه و هو مناط صلاحهم و سبب فلاحهم، و من ذلك القتال، فإنّكم تكرهونه لما فيه من المخاطرة بالروح، و هو خير لكم، لما فيه من إحدى الحسنيين: إمّا الظفر و الغنيمة، و إمّا الشهادة و الجنّة. وَ عَسى أَنْ تُحِبُّوا شَيْئاً وَ هُوَ شَرٌّ لَكُمْ و هو جميع ما نهوا عنه، فإنّ النفس تحبّه و تهواه، و هو يفضي بها إلى

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 343

الردى، و من ذلك القعود عن الجهاد لمحبّة الحياة، و هو شرّ لما فيه من الذلّ و الفقر في الدنيا،

و حرمان الغنيمة و الأجر في العقبى. و إنّما ذكر «عسى» لأنّ النفس إذا ارتاضت ينعكس الأمر عليها.

وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما هو خير لكم و ما يصلحكم وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذلك. و فيه دلالة على أنّ الأحكام الشرعيّة تتبع المصالح الراجحة و إن لم يعرف عينها.

[سورة البقرة (2): آية 217]

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ وَ صَدٌّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ كُفْرٌ بِهِ وَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ إِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ وَ الْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ وَ لا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إِنِ اسْتَطاعُوا وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (217)

قال المفسّرون: بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سريّة من المسلمين، و أمّر عليهم عبد اللّه بن جحش الأسدي، و هو ابن عمّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ليترصّد عيرا لقريش فيها عمرو بن عبد اللّه الحضرمي، و ذلك قبل قتال بدر بشهرين على رأس سبعة عشر شهرا من مقدمه المدينة، فانطلقوا حتى هبطوا نجلة «1»، فوجدوا بها عمرو بن الحضرميّ في عير تجارة قريش في غرّة رجب، و كانوا يظنّون أنّه من آخر جمادى الآخرة، فقتلوه و أسّروا اثنين و غنموا عيره، و كان ابن الحضرمي أوّل قتيل قتل بين

______________________________

(1) اسم موضع. و في معجم البلدان (5: 272): النّجل: قرية أسفل صفينة بين أفيعية و أفاعية، و هي مرحلة من مراحل طريق مكّة.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 344

المسلمين و المشركين، و ذلك الفي ء أوّل في ء أصابه المسلمون، فقالت قريش: قد استحلّ محمد الشهر

الحرام شهرا يأمن فيه الخائف، و يبذعرّ «1» فيه الناس إلى معايشهم، فركب وفد من قريش حتى قدموا على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقالوا: أ تحلّ القتال في الشهر الحرام؟ فنزلت: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ بدل الاشتمال من الشهر، فالسائلون هم المشركون سألوه تشنيعا و تعييرا. و قيل: أصحاب السريّة تألّما ممّا وقع منهم من قتل الحضرمي، و قالوا: لا نبرح حتى تنزل توبتنا.

قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ أي: ذنب كبير وَ صَدٌّ صرف و منع عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أي الإسلام، أو ما يوصل العبد إلى اللّه تعالى من الطاعات وَ كُفْرٌ بِهِ أي: باللّه وَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ على إرادة المضاف، أي: و صدّ المسجد الحرام. و لا يحسن عطفه على «سبيل اللّه»، لأنّ عطف قوله: «و كفر به» على «و صدّ» مانع منه، إذ لا يتقدّم العطف على الموصول على العطف على الصلة، و لا على الهاء في «به»، لأنّ العطف على الضمير المجرور إنّما يكون بإعادة الجارّ.

وَ إِخْراجُ أَهْلِهِ مِنْهُ أهل المسجد، و هم النبيّ و المؤمنون أَكْبَرُ عِنْدَ اللَّهِ ممّا فعلته السريّة خطأ و بناء على الظنّ. و هو خبر عن الأشياء الأربعة المعدودة من كبائر قريش. و أفعل ممّا يستوي فيه الواحد و الجمع، و المذكّر و المؤنّث وَ الْفِتْنَةُ أَكْبَرُ مِنَ الْقَتْلِ أي: و ما ترتكبونه من الإخراج و الشرك أفظع ممّا ارتكب أصحاب السريّة من قتل الحضرمي.

عن ابن عبّاس: لمّا نزلت هذه الآية أخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الغنيمة و أخرج خمسها، و هو أوّل خمس و غنيمة في الإسلام كما مرّ، و قسّم الباقي بعد الخمس في السريّة.

و فيه دلالة على إخراج الخمس من أصل الغنيمة.

وَ لا يَزالُونَ يُقاتِلُونَكُمْ حَتَّى يَرُدُّوكُمْ عَنْ دِينِكُمْ إخبار عن دوام عداوة

______________________________

(1) ابذعرّوا، أي: تفرّقوا. الصحاح 2: 588.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 345

الكفّار للمسلمين، و أنّهم لا ينفكّون عنها حتى يردّوهم عن دينهم. و «حتّى» معناه التعليل، كقولك: أعبد اللّه حتى أدخل الجنّة، أي: يقاتلوكم كي يردّوكم عن دينكم إِنِ اسْتَطاعُوا استبعاد لاستطاعتهم، كقول الواثق بقوّته على قرنه «1»: إن ظفرت بي فلا تبق عليّ، و إيذان بأنّهم لا يردّونهم.

وَ مَنْ يَرْتَدِدْ يرجع مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ إلى دينهم فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ أي:

حال كونه على الردّة فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ النافعة فِي الدُّنْيا لما يفوتهم بإحداث الردّة ممّا للمسلمين في الدنيا من ثمرات الإسلام وَ الْآخِرَةِ لما يفوتهم من الثواب وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ كسائر الكفرة.

[سورة البقرة (2): آية 218]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (218)

روي أنّ عبد اللّه بن جحش و أصحابه حين قتلوا الحضرمي ظنّ قوم أنّهم إن سلموا من الإثم فليس لهم أجر، فنزلت: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا صدقوا اللّه و رسوله وَ الَّذِينَ هاجَرُوا قطعوا عشائرهم و فارقوا منازلهم و تركوا أموالهم وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ و قاتلوا الكفّار في طاعة اللّه الّتي هي سبيله المشروعة لعباده. و كرّر الموصول لتعظيم الهجرة و الجهاد، كأنّهما مستقلّان في تحقيق الرجاء. و إنّما جمع بين هذه الأشياء لبيان فضلها و الترغيب فيها، لا لأنّ الثواب لا يستحقّ على واحد منها على الانفراد أُولئِكَ يَرْجُونَ رَحْمَتَ اللَّهِ و هي: النصر و الغنيمة في الدنيا، و المثوبة العظمى في العقبى وَ اللَّهُ غَفُورٌ لما فعلوا خطأ

و قلّة احتياط رَحِيمٌ بأجزل الأجر و الثواب.

عن قتادة: هؤلاء خيار هذه الأمّة، ثمّ جعلهم اللّه أهل رجاء كما تسمعون،

______________________________

(1) القرن بالكسر: الكفو و النظير في الشجاعة و الحرب.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 346

و أنّه من رجا طلب، و من خاف هرب.

و قال الحسن: ذكر المغفرة و الرحمة هاهنا لإرادة إيجاب الرجاء و الطمع على المؤمنين، لأنّ رجاء رحمة اللّه من أركان الدين، و اليأس من رحمة اللّه كفر، كما قال: لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ «1»، و الأمن من عذابه خسران، كما قال: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ «2» فمن الواجب على المؤمن أن لا ييأس من رحمته، و لا يأمن من عقوبته. و يؤيّده قوله: يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ «3» و قوله: يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً «4».

[سورة البقرة (2): الآيات 219 الى 220]

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ قُلْ فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما وَ يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ قُلِ الْعَفْوَ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (219) فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ فَإِخْوانُكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (220)

ثمّ ذكر سبحانه بيان حكم آخر من أحكام الشريعة، فقال: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ روي أنّ جماعة من الصحابة أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالوا: أفتنا في

______________________________

(1) يوسف: 87.

(2) الأعراف: 99.

(3) الزمر: 9.

(4) السجدة: 16.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 347

الخمر، فإنّها مذهبة للعقل مسلبة للمال، فنزلت. و المراد بالخمر كلّ مائع بالأصالة، مسكر، مخالط للعقل، مغطّ عليه. و كأنّها سمّيت

بالمصدر من «خمره خمرا» إذا ستره للمبالغة، و منه الخمار. و هو حرام إجماعا. و كذا حرام عندنا كلّ ما أسكر في الجملة و إن لم يسكر قليله. و ذهب أبو حنيفة إلى أنّ نقيع الزبيب و التمر إذا طبخ حتى ذهب ثلثاه ثم اشتدّ حلّ شربه ما دون السكر. و الحقّ خلافه، للروايات المأثورة عن أئمّتنا عليهم السّلام.

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «كلّ مسكر حرام». و أنّه لعن الخمر، و عاصرها، و معتصرها، و بائعها، و مشتريها، و ساقيها، و آكل ثمنها، و شاربها، و حاملها، و المحمولة إليه.

و

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «شارب الخمر كعابد الوثن».

و

عن عليّ عليه السّلام: «لو وقعت قطرة من خمر في بئر فبنيت مكانها منارة لم أؤذّن عليها، و لو وقعت في بحر ثمّ جفّ و نبت فيه الكلاء لم أرعه».

و الميسر مصدر من «يسر» كالموعد و المرجع من فعلهما. و اشتقاقه من اليسر، كأنّه أخذ مال الغير بيسر من غير كدّ، أو من اليسار و الهمزة للسلب، لأنّه سلب يساره. و

المراد بالقمار كلّه حتى لعب الصبيان بالجوز و البيض. و هو المرويّ عن أئمّتنا عليهم السّلام.

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إيّاكم و هاتين اللعبتين المشؤومتين، فإنّهما من ميسر العجم».

و

عن عليّ عليه السّلام: «إنّ النرد و الشطرنج من الميسر».

و اعلم أنّ مذهب الإماميّة أنّ الخمر محرّمة في جميع الشرائع، و ما أبيحت في شريعة قطّ. و كذا كلّ مسكر. و أوردوا في ذلك أخبارا عن أئمّتهم عليهم السّلام.

و أمّا المفسّرون فقالوا: نزل في الخمر أربع آيات، فنزل بمكّة وَ مِنْ ثَمَراتِ

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 348

النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ

تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً «1». و كان المسلمون يشربونها، و هي لهم حلال. ثمّ إنّ عمر و معاذا و نفرا من الصحابة قالوا: يا رسول اللّه أفتنا في الخمر، فإنّها مذهبة للعقل، فنزلت: فِيهِما إِثْمٌ كَبِيرٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ فشربها قوم و تركها آخرون. ثمّ دعا عبد الرحمن بن عوف ناسا منهم، فشربوا و سكروا، فأمّ بعضهم، فقرأ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قل يا أيّها الكافرون أعبد ما تعبدون بحذف كلمة «لا» فنزلت:

لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى «2»، فقلّ من يشربها. ثمّ دعا عتبان بن مالك قوما فيهم سعد بن أبي وقّاص، فلمّا شربوا و سكروا افتخروا و تناشدوا حتّى أنشد سعد شعرا فيه هجاء الأنصار، فضربه أنصاريّ بلحي «3» بعير، فشجّه موضحة، فشكا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال عمر: اللّهمّ بيّن لنا في الخمر بيانا شافيا، فنزلت: إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ إلى قوله: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ «4»، فقال عمر:

انتهينا يا ربّ.

و لمّا كان سؤالهم عن حكم الخمر و الميسر و التصرّف فيهما لا عن حقيقتهما، فمعنى الآية: و يسألونك عن تعاطي الخمر و الميسر قُلْ فِيهِما في تعاطيهما إِثْمٌ كَبِيرٌ حيث إنّه يؤدّي إلى الإعراض عن المأمور به و ارتكاب المحظور وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ من الطرب و كسب المال و الالتذاذ و مصادقة الفتيان، و في الخمر خصوصا تشجيع الجبان و توفير المروءة و تقوية الطبيعة وَ إِثْمُهُما أَكْبَرُ مِنْ نَفْعِهِما أي:

المفاسد الّتي تنشأ منهما أعظم من المنافع المتوقّعة منهما، و لهذا قيل: إنّ هذه الآية محرّمة للخمر، فإنّ المفسدة إذا ترجّحت على المصلحة اقتضت تحريم الفعل.

و أمّا

______________________________

(1) النحل: 67.

(2) النساء: 43.

(3) اللّحي، بفتح اللام: عظم الحنك الذي عليه الأسنان، و منبت اللحية من الإنسان و غيره.

(4) المائدة: 90- 91.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 349

ما ذكره المفسّرون و فقهاء العامّة من كونها كانت حلالا باطل بإجماعنا و النقل الصحيح عن أئمّتنا كما ذكر.

روي أنّ عمرو بن الجموح سأل أوّلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن المنفق و المصرف؟

فنزلت الآية المتقدّمة، ثمّ سأل عن كيفيّة الإنفاق؟ فنزلت: وَ يَسْئَلُونَكَ ما ذا يُنْفِقُونَ أيّ شي ء ينفقونه؟ قُلِ الْعَفْوَ و هو نقيض الجهد، و هو أن ينفق ما لا يبلغ إنفاقه منه الجهد و استفراغ الوسع، و منه يقال للأرض السهلة: العفو. و المعنى:

أن ينفق ما تيسّر له بذله، و لا يبلغ منه الجهد.

عن ابن عبّاس: أنّ المراد بالعفو ما فضل عن الأهل و العيال. و

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: أنّ العفو الوسط من غير إسراف و لا إقتار.

و

عن الباقر عليه السّلام: أنّ العفو ما فضل عن قوت السنة. قال: و نسخ ذلك بآية الزكاة.

و قيل: أفضل المال و أطيبه.

روي أنّ رجلا أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ببيضة من ذهب أصابها في بعض المغانم، فقال: خذها منّى صدقة، فأعرض عنه، حتى كرّر عليه مرارا، فقال: هاتها مغضبا، فأخذها فخذفها «1» خذفا لو أصابه لشجّه، ثمّ قال: يأتي أحدكم بماله كلّه يتصدّق به و يجلس يتكفّف «2» الناس! إنّما الصّدقة عن ظهر غنى.

اعلم أنّ كلام الصادق «3» عليه السّلام يدلّ على الالتزام بالأوساط في الإنفاق كلّه، واجبا كان أو مندوبا، صدقة و غيرها، و هو طريق السلامة و الأمن من الإفراط و التفريط الموبقين. و كلام الباقر

«4» عليه السّلام يدلّ على استحباب الصدقة بما فضل عن

______________________________

(1) أي: رمى بها من بين سبّابتيه.

(2) أي: يمدّ كفّه إليهم يستعطي.

(3) تفسير العيّاشي 1: 106 ح 314- 315، الوسائل 15: 258 ب «25» من أبواب النفقات ح 3، 14، 15.

(4) رواه عن الباقر عليه السّلام في مجمع البيان 1: 316.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 350

زبدة التفاسير ج 1 399

القوت، و بذلك وردت أخبار كثيرة و ترغيبات عظيمة، حتى إنّ زين العابدين «1» عليه السّلام كان يتصدّق بفاضل كسوته. و كلام ابن عبّاس يدلّ على كراهية الصدقة بما هو توسعة على العيال، و لذلك

قال عليه السّلام: «لا صدقة و ذو رحم محتاج».

و على كراهية ما لم يبق غنى، فإن آل إلى الاعدام و لا كسب له ربما يصير حراما، خصوصا مع وجود العيال. و القول الرابع يدلّ على أنّه تستحبّ الصدقة بالمال اللذيذ و الشهيّ.

و كذلك

نقل عن الحسن عليه السّلام أنّه كان يتصدّق بالسكّر، فقيل له في ذلك فقال: إنّي أحبّه، و قد قال اللّه تعالى: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ «2».

كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي: مثل ما بيّن أنّ العفو أصلح من الجهد، أو ما ذكر من الأحكام. و الكاف في موضع النصب صفة لمصدر محذوف، أي: تبيينا مثل هذا التبيين. و إنّما وحّد العلامة و المخاطب به جمع على تأويل القبيل و الجمع لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ في الدلائل و الأحكام فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ في أمور الدارين، فتأخذون بالأصلح و الأنفع فيهما، و تتجنّبون عمّا يضرّكم و لا ينفعكم، أو عمّا يضرّكم أكثر ممّا ينفعكم.

روي أنّه لمّا نزلت: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً «3» اعتزلوا اليتامى و تركوا

مخالطتهم و القيام بأموالهم و الاهتمام بمصالحهم، فشقّ ذلك عليهم و كاد يوقعهم في الحرج، فذكر ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فنزلت. وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْيَتامى أي: القيام بأحوالهم و التصرّف في أموالهم قُلْ إِصْلاحٌ لَهُمْ خَيْرٌ أي: مداخلتهم على وجه الإصلاح لهم خير من مجانبتهم. ثمّ حثّهم على المخالطة بقوله: وَ إِنْ تُخالِطُوهُمْ و تعاشروا فَإِخْوانُكُمْ في الدين، و من حقّ الأخ أن يخالط أخاه.

و قيل: المراد بالمخالطة المصاهرة وَ اللَّهُ يَعْلَمُ الْمُفْسِدَ مِنَ الْمُصْلِحِ أي: لا يخفى

______________________________

(1) مناقب ابن شهرآشوب 4: 154.

(2) آل عمران: 92.

(3) النساء: 10.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 351

على اللّه من داخلهم بإصلاح و إفساد، فيجازيه على حسب قصد مداخلته. فهذا وعد و وعيد لمن خالطهم للإصلاح أو الإفساد.

وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَعْنَتَكُمْ لحملكم على العنت، و هو المشقّة، و ضيّق عليكم في أمر اليتامى و مخالطتهم، و لم يجوّز لكم مداخلتهم إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب يقدر على الإعنات حَكِيمٌ يفعل ما توجبه الحكمة و تتّسع له الطاقة.

[سورة البقرة (2): آية 221]

وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَّ وَ لَأَمَةٌ مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ وَ لا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ حَتَّى يُؤْمِنُوا وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ أُولئِكَ يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَ اللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَ الْمَغْفِرَةِ بِإِذْنِهِ وَ يُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (221)

ثمّ بيّن حكما آخر من أحكام الشريعة فقال: وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ نزلت في مرثد بن أبي مرثد الغنوي، بعثه رسول اللّه إلى مكّة ليخرج منها ناسا من المسلمين، و كان قويّا شجاعا، فدعته امرأة يقال لها عناق إلى نفسها فأبى، و كان يهواها، فقالت: ألا نخلو؟ فقال: إنّ

الإسلام حال بيننا، فقالت: هل لك أن تتزوّج بي؟ فقال: حتى أستأذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فلمّا رجع استأذن في التزوّج بها، فنزلت.

و معناه: و لا تتزوّجوا النساء الكافرات حَتَّى يُؤْمِنَ يصدّقن باللّه و رسوله.

و هي عامّة عندنا في تحريم مناكحة جميع الكفّار أهل الكتاب و غيرهم، فإنّ أهل الكتاب مشركون، لقوله تعالى: وَ قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَ قالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ إلى قوله سبحانه: عَمَّا يُشْرِكُونَ «1»، و لقول النصارى

______________________________

(1) التوبة: 30- 31.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 352

بالتثليث «1». و المتأخّرون «2» من أصحابنا حكموا بحلّ الكتابيّات متعة لا غير. و هو أقوى، كما قرّر في علم الفقه.

و عن ابن عبّاس و مجاهد أنّ هذه الآية منسوخة في الكتابيّات بالآية التي في المائدة: وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ «3». و عن سعيد بن جبير و قتادة أنّها مخصوصة بغير الكتابيّات. و عن ابن عمر و بعض الزيديّة أنّها على ظاهرها في تحريم نكاح كلّ كافرة، كتابيّة كانت أو مشركة. و هو مذهبنا. و سيأتي بيان آية المائدة في موضعها إن شاء اللّه تعالى.

وَ لَأَمَةٌ أي: المملوكة مُؤْمِنَةٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكَةٍ من حرّة مشركة وَ لَوْ أَعْجَبَتْكُمْ بحسنها و جمالها أو مالها. و الواو للحال، و «لو» بمعنى «إن» الموضوعة للاستقبال، و هو كثير.

وَ لا تُنْكِحُوا الْمُشْرِكِينَ و لا تزوّجوا منهم المؤمنات حَتَّى يُؤْمِنُوا و هو على عمومه وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ من حرّ مشرك وَ لَوْ أَعْجَبَكُمْ جماله أو ماله. هذا تعليل للنهي عن مواصلتهم، و ترغيب في مواصلة المؤمنين.

قال في الكشّاف «4»: المراد بالأمة المرأة حرّة كانت أو مملوكة، و كذا المراد

بالعبد الرجل حرّا كان أو مملوكا، فإنّ الناس عبيد اللّه و إماؤه.

أُولئِكَ إشارة إلى المشركين و المشركات يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ أي: الكفر المؤدّي إلى النار، فلا يليق موالاتهم و مصاهرتهم وَ اللَّهُ يَدْعُوا إِلَى الْجَنَّةِ وَ الْمَغْفِرَةِ أي: إلى الاعتقاد و العمل الموصلين إليهما. أو أولياء اللّه- يعني: المؤمنين- يدعون إليهما بالإرشاد و الهداية، فهم الأحقّاء بالمواصلة. فعلى هذا حذف المضاف و أقام

______________________________

(1) المائدة: 73.

(2) راجع مسالك الافهام 7: 360.

(3) المائدة: 5.

(4) الكشاف 1: 264.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 353

المضاف إليه مقامه، تفخيما لشأنهم. بِإِذْنِهِ بتوفيق اللّه تعالى و تيسيره للعمل الّذي يوصل إلى الجنّة وَ يُبَيِّنُ آياتِهِ لِلنَّاسِ أي: أوامره و نواهيه لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ لكي يتّعظوا، أو ليكونوا بحيث يرجى منهم التذكّر، لما ركز في العقول من ميل الخير و مخالفة الهوى.

[سورة البقرة (2): آية 222]

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ قُلْ هُوَ أَذىً فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ وَ لا تَقْرَبُوهُنَّ حَتَّى يَطْهُرْنَ فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ (222)

روي أنّ أهل الجاهليّة كانوا لا يساكنون الحيّض، و يتجنّبون مؤاكلتهنّ و مشاربتهنّ، كفعل اليهود و المجوس، و استمرّ ذلك إلى أن سأل أبو الدحداح في نفر من الصحابة عن ذلك فنزلت: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْمَحِيضِ هو مصدر: حاضت محيضا، نحو: جاء مجيئا و بات مبيتا. و لعلّه سبحانه ذكر «يسألونك» بغير الواو ثلاثا ثمّ بها ثلاثا، لأنّ السؤالات الأول كانت في أوقات متفرّقة، و الثلاثة الأخيرة كانت في وقت واحد، فلذا ذكرها بحرف الجمع.

قُلْ هُوَ أَذىً أي: الحيض شي ء نجس يستقذر، و يؤذي من يقربه نفرة منه و كراهة له فَاعْتَزِلُوا النِّساءَ فِي الْمَحِيضِ أي: فاجتنبوا مجامعتهنّ في وقت حيضهنّ، لما

روي

أنّها لمّا نزلت أخذ المسلمون بظاهر اعتزالهنّ، فأخرجوهنّ من بيوتهم، فقال ناس من الأعراب: يا رسول اللّه البرد شديد و الثياب قليلة، فإن آثرناهنّ بالثياب هلك سائر أهل البيت، و إن استأثرنا بها هلكت الحيّض، فقال عليه السّلام:

«إنّما أمرتم أن تعتزلوا مجامعتهنّ إذا حضن، و لم يأمركم اللّه بإخراجهنّ من البيوت كفعل الأعاجم».

و هو الاقتصاد بين إفراط اليهود و تفريط النصارى، فإنّهم كانوا

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 354

يجامعونهنّ و لا يبالون بالحيض. و وصفه بالأذى، و ترتيب الحكم عليه بالفاء، للإشعار بأنّه العلّة في وجوب الاعتزال عنهنّ.

وَ لا تَقْرَبُوهُنَ بالمجامعة حَتَّى يَطْهُرْنَ تأكيد للحكم و بيان لغايته، و هي: أن ينقين من الحيض، أو يغتسلن بعد الانقطاع. و يدلّ عليه قراءة حمزة و الكسائي و عاصم في رواية أبي بكر: يطّهّرن، أي: يتطهّرن، بمعنى: يغتسلن، و قوله بعده: «فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَّ» فإنّه يقتضي تأخّر جواز الإتيان عن الغسل.

و قيل: توضّأن أو غسلن الفرج بعد انقطاع الدم.

و قال صاحب كنز العرفان «1»: اختلف في مدّة زمان الاعتزال و غايتها، قال الشافعي: حتى تغتسل، و يحتجّ بأنّه جمع بين القراءتين، و لقوله: فَإِذا تَطَهَّرْنَ فَأْتُوهُنَ فلا يجوز وطؤها حتى تطهر و تتطهّر. و قال أبو حنيفة: بالجمع بين القراءتين، بأنّ له أن يطأها في أكثر الحيض بعد الانقطاع و إن لم تغتسل، و في أقلّه لا يقربها بعد الانقطاع إلا مع الاغتسال. و أمّا أصحابنا فجمعوا بينهما، بأنّه قبل الغسل جائز على كراهية، و بعده لا كراهية. و قال بعض أصحابنا بقول الشافعي.

و ليس بشي ء، لأنّ «تفعّل» قد جاء بمعنى «فعل» كالمتكبّر في أسماء اللّه تعالى، و كقولك: تطعّمت الطعام، بمعنى: طعمته.

مِنْ حَيْثُ أَمَرَكُمُ اللَّهُ أي: إتيانا صادرا

من الجهة الّتي يحلّ أن يؤتين منها، و لا تقربوهنّ من حيث لا يحلّ، بأن يكنّ محرمات أو معتكفات أو صائمات. و قال الفرّاء: لو أراد الفرج لقال «في حيث»، فلمّا قال «من حيث» علمنا أنّه أراد: من الجهة الّتي أمركم اللّه بها. و عن ابن عبّاس معناه: من حيث أمركم اللّه بتجنّبه، و هو محلّ الحيض، أعني: القبل. و قيل: من حيث الطهر دون الحيض. و قال محمد بن الحنفيّة: من قبل النكاح دون الفجور.

______________________________

(1) كنز العرفان 1: 43- 45.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 355

إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ التَّوَّابِينَ عن النجاسات الباطنة، و هي الذنوب وَ يُحِبُّ الْمُتَطَهِّرِينَ بالماء من النجاسات الظاهرة، أو المتنزّهين عن الفواحش و الأقذار، كمجامعة الحائض.

[سورة البقرة (2): آية 223]

نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أَنَّى شِئْتُمْ وَ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (223)

و لمّا بيّن سبحانه أحوال النساء في الطهر و الحيض عقّبه بقوله: نِساؤُكُمْ حَرْثٌ لَكُمْ مواضع حرث، أو ذوات حرث لكم. شبّههنّ بها للأمر المشترك بينهما، و هو مطلق الانتفاع من الولد و اللذّة فَأْتُوا حَرْثَكُمْ أي: مواضع حرثكم- يعني:

نساءكم- كما تأتون المحارث أَنَّى شِئْتُمْ من أين شئتم، أو كيف شئتم، كما تأتون أراضيكم الّتي تحرثونها من أيّ جهة شئتم. و قال: الضحّاك: متى شئتم. و هو خطأ عند أهل اللغة، لأنّ «أنّى» لا يكون إلا بمعنى: من أين، كما قال: أَنَّى لَكِ هذا «1».

و استدلّ مالك بقوله: «أنّى شئتم» على جواز إتيان المرأة في دبرها. و رواه عن نافع، عن ابن عمر. و حكاه زيد بن أسلّم عن محمد بن المكندر. و به قال كثير «2» من أصحابنا، و به وردت الأخبار الصحيحة «3» عن

أئمّتنا عليهم السّلام، فتخصيص الحرث بالنسل حسب ضعيف.

وَ قَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ ما يدّخر لكم الثواب بإرسال الأعمال الصالحة.

و قيل: هو طلب الولد، فإنّ في اقتناء الولد الصالح تقديما عظيما،

لقوله عليه السّلام:

______________________________

(1) آل عمران: 37.

(2) راجع مسالك الأفهام 7: 57.

(3) انظر الوسائل 14: 102 ب «73» من أبواب مقدّمات النكاح. زبدة التفاسير، ج 1، ص: 356

«إذا مات ابن آدم انقطع عمله إلا عن ثلاث: ولد صالح يدعو له، و صدقة جارية، و علم ينتفع به بعد موته».

و قيل: هو التسمية عند الوطء. و يؤيّده ما

روي عن ابن عبّاس قال: «قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا أراد أحدكم أن يأتي أهله فليقل: بسم اللّه، اللّهمّ جنّبني الشيطان، و جنّب الشيطان ما رزقتنا، فإن قدّر بينهما ولد لم يضرّه شيطان».

و قيل: هو التزوّج بالعفائف، ليكون الولد صالحا طاهرا.

وَ اتَّقُوا اللَّهَ بالاجتناب عن معاصيه، فلا تجترؤا على المناهي وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ مُلاقُوهُ ملاقوا جزائه، فتزوّدوا ما لا تفتضحون به وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ الكاملين بالكرامة و النعيم المقيم، بوسيلة فعل الحسنات و ترك المقبحات. أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن ينصحهم، و يبشّر من صدّقه و امتثل أمره منهم.

[سورة البقرة (2): الآيات 224 الى 227]

وَ لا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (224) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (225) لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ فَإِنْ فاؤُ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (226) وَ إِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (227)

و لمّا بيّن سبحانه أحوال النساء، و أمر العباد بإتيانهنّ، و ما يحلّ منهنّ، عقّبه بذكر الإيلاء،

و هو اليمين الّتي تحرم الزوجة بها، و ابتدأ بذكر مطلق الأيمان أوّلا تأسيسا لحكم الإيلاء، فقال: وَ لا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ روي أنّ عبد اللّه

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 357

ابن رواحة حين حلف أن لا يدخل على ختنه و لا يكلّمه و لا يصلح بينه و بين امرأته، و كان يقول: إنّي حلفت بهذا فلا يحلّ لي أن أصلح بينهما، فنزلت. و العرضة فعلة بمعنى المفعول، كالقبضة و الغرفة. و الفعلة للمقدار، أي: اسم ما يعرض من أيّ شي ء كان، سواء كان العارض حاجزا بين شيئين، كما يقال: فلان عرضة دوننا، أو لم يكن بل يكون معرّضا للشي ء، كما يقال: فلان عرضة للناس، أي: نصب للوقوع فيه.

فعلى هذا يحتمل أن تكون الآية من المعنى الأوّل، أي: و لا تجعلوا اللّه حاجزا لأيمانكم، أي: حاجزا لما حلفتم عليه. فالمراد بالأيمان الأمور المحلوف عليها. و حينئذ تسمية المحلوف عليه يمينا يكون لتلبّسه باليمين،

كقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعبد الرحمن بن سمرة: «إذا حلفت على يمين، فرأيت غيرها خيرا منها، فأت الّذي هو خير».

و يكون قوله: أَنْ تَبَرُّوا وَ تَتَّقُوا وَ تُصْلِحُوا بَيْنَ النَّاسِ عطف بيان لأيمانكم، أي: للأمور الّتي هي البرّ و التقوى و الإصلاح. كذا قيل.

و فيه بحث، لأنّ حمل الأيمان على المحلوف عليه إن صحّ كان مجازا، و لا يصار إليه إلا مع تعذّر الحقيقة، و ليست متعذّرة، لجواز أن تكون الآية من المعنى الثاني، أي: لا تجعلوا اللّه معرضا لأيمانكم، أي: لا تكثروا الحلف به حتى في المحقّرات و في غير المهمّات، لا في المهمّات الضرورية، و لذلك ذمّ الحلّاف بقوله:

وَ لا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ مَهِينٍ «1». و يكون

«أن تبرّوا» علّة للنهي، أي: أنهاكم عن ذلك إرادة برّكم و تقواكم و إصلاحكم بين الناس، فإنّ الحلّاف مجترئ على اللّه، و المجترئ لا يكون بارّا و لا متّقيا و لا موثوقا به في إصلاح ذات البين.

و يستفاد من التأويل الأوّل أنّه متى تضمّن اليمين ترك برّ أو تقوى أو إصلاح، فإنّها باطلة لا يجب العمل بمضمونها، و يجوز مخالفتها، و من الثاني النهي عن كثرة

______________________________

(1) القلم: 10.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 358

الأيمان و إن كانت صادقة، و قد ورد في ذلك أحاديث كثيرة. كذا قاله في كنز العرفان «1».

وَ اللَّهُ سَمِيعٌ لأيمانكم عَلِيمٌ بنيّاتكم.

كان هاهنا موضع سؤال مقدّر تقديره: إذا نهى اللّه عن جعل اللّه عرضة للأيمان هلك الناس، لكثرة حلفهم باللّه. فأجاب بقوله: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ اللغو: الساقط الّذي لا يعتدّ به من كلام و غيره. و اللغو من اليمين:

الساقط الّذي لا يعتدّ به في الأيمان، و هو ما يجري على عادة اللسان و يسبق به، من قول: لا و اللّه و بلى و اللّه، من غير عقد قلبي، إذا تكلّم به جاهلا بمعناه.

و المعنى: لا يؤاخذكم اللّه بلغو اليمين الّذي لا قصد معه، و لا يلزمكم به كفّارة و عقوبة وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما كَسَبَتْ قُلُوبُكُمْ بما قصدتم من الأيمان، و واطأت فيها قلوبكم ألسنتكم، فإنّ كسب القلب هو العقد و النيّة، فالأيمان المأخوذ بها ما نوت قلوبكم و قصدته. و في هذا إشارة إلى اشتراط القصد في اليمين و النيّة، فلا يقع يمين الغضبان غضبا يرتفع معه القصد، و كذا الساهي و الغافل.

وَ اللَّهُ غَفُورٌ حيث لم يؤاخذ حَلِيمٌ حيث لا يعجل بالمؤاخذة على يمين الجدّ تربّصا للتوبة.

و بعد

ذكر حكم مطلق الأيمان بيّن حكم الإيلاء، فقال: لِلَّذِينَ يُؤْلُونَ مِنْ نِسائِهِمْ أي: يحلفون على أن لا يجامعوهنّ. و الإيلاء الحلف، و تعديته ب «على»، و لكن لمّا ضمن هذا القسم معنى البعد عدّي ب «من»، فكأنّه قيل: يبعدون من نسائهم مولين أو حالفين تَرَبُّصُ أَرْبَعَةِ أَشْهُرٍ مبتدأ ما قبله خبره، أو فاعل الظرف.

و التربّص الانتظار و التوقّف، أضيف إلى الظرف على الاتّساع، أي: للمولى حقّ التلبّث في هذه المدّة، فلا يطالب بفي ء و لا طلاق.

______________________________

(1) كنز العرفان 2: 119.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 359

و صيغة الإيلاء أن يقول الرجل لامرأته: و اللّه إنّي لا أقربك، ثمّ قام على يمينه. و الحكم في ذلك أنّ المرأة إذا رفعت أمرها إلى الحاكم أنظر زوجها بعد الرفع إليه أربعة أشهر، و يقول له بعد مضيّ الأشهر الأربعة: إذا لم تراجع زوجتك في ء أو طلّق.

فَإِنْ فاؤُ أي: رجعوا، بأن يكفّروا عن اليمين، و يجامعوا عند القدرة عليه، أو يراجعوا بالقول عند العجز عن الجماع فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ للمولى إثم حنثه إذا كفّر، أو ما توخّى بالإيلاء من ضرار المرأة بالفئة الّتي هي كالتوبة.

وَ إِنْ عَزَمُوا الطَّلاقَ و إن صمّموا قصد الطلاق و تلفّظوا به مع الشرائط المعتبرة فيه فَإِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لطلاقهم عَلِيمٌ بغرضهم فيه.

[سورة البقرة (2): آية 228]

وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَّ إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَّ فِي ذلِكَ إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (228)

و لمّا أجرى الكلام إلى الطلاق بيّن بعد ذلك أحكام عدّة الطلاق بقوله:

وَ الْمُطَلَّقاتُ يعني: المدخول

بهنّ من ذوات الحيض غير الحوامل، لأنّ في الآية بيان عدّتهنّ، و لما دلّت الآيات و الأخبار أنّ حكم غيرهنّ خلاف ما ذكر. و كذا الحكم مختصّ بالحرّة، فإنّ الأمة عدّتها قرءان إذا كانت مستقيمة الحيض، فاللفظ مطلق في تناول الجنس، صالح لكلّه و بعضه، فجاء في أحد ما يصلح له كاللفظ المشترك.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 360

يَتَرَبَّصْنَ خبر في معنى الأمر. و تغيير العبارة للتأكيد و الإشعار بأنّه ممّا يجب أن يسارع إلى امتثاله، فكأنّهنّ امتثلن الأمر بالتربّص، فهو سبحانه يخبر عنه، كقولك في الدعاء: رحمك اللّه. و بناؤه على المبتدأ يزيده فضل تأكيد.

و قوله: بِأَنْفُسِهِنَ تهييج و بعث لهنّ على التربّص، فإنّ نفوس النساء طوامح إلى الرجال، فأمرن بأن يقمعنها و يحملنها على التربّص. و المعنى: ينتظرن بأنفسهنّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ منصوب على الظرف أو المفعول به، أي: ينتظرن مدّة ثلاثة قروء أو مضيّها.

و قروء جمع قرء. و هو يطلق للحيض،

كقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «دعي الصّلاة أيّام أقرائك».

و للطهر الفاصل بين حيضهنّ. و أصله الانتقال من الطهر إلى الحيض، و هو المراد به في الآية عندنا و عند الشافعي، لأنّه الدالّ على براءة الرحم لا الحيض، كما قالت الحنفيّة، لقوله تعالى: فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ «1» أي: وقت عدّتهنّ، و الطلاق المشروع لا يكون في الحيض.

و جاء المميّز على جمع الكثرة دون القلّة الّتي هي الأقراء، لأنّهم يستعملون كلّ واحد من الجمعين مكان الآخر، لاشتراكهما في الجمعيّة، ألا ترى إلى قوله:

«بأنفسهنّ» و ما هي إلا نفوس كثيرة. و لعلّ القروء كانت أكثر استعمالا في جمع القرء من الأقراء، فأوثر عليه، تنزيلا لقليل الاستعمال منزلة المهمل، مثل قولهم:

ثلاثة شسوع في موضع أشسع، لفقد السماع

فيه.

وَ لا يَحِلُّ لَهُنَّ أَنْ يَكْتُمْنَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي أَرْحامِهِنَ من الولد و الحيض، استعجالا في العدّة، و إبطالا لحقّ الرجعة، و ذلك إذا أرادت المرأة فراق زوجها فكتمت حملها لئلّا ينتظر بطلاقها أن تضع، و لئلّا يشفق على الولد فيترك طلاقها، أو كتمت حيضها و قالت- و هي حائض-: قد طهرت، استعجالا للطلاق. و فيه دليل

______________________________

(1) الطلاق: 1.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 361

على أنّ قولها مقبول في ذلك.

إِنْ كُنَّ يُؤْمِنَّ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ليس المراد منه تقييد نفي الحلّ بإيمانهنّ، بل التنبيه على أنّ من حقّ المؤمن ألّا يجترئ على مثله من العظائم.

وَ بُعُولَتُهُنَ أي: أزواج المطلّقات أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ إلى النكاح، و الرجعة إليهنّ فِي ذلِكَ أي: في زمان التربّص، و لكن إذا كان الطلاق رجعيّا، للآية الّتي تتلوها. فالضمير أخصّ من المرجوع إليه، و لا امتناع فيه، كما لو كرّر الظاهر و خصّصه.

و البعولة جمع بعل، و التاء لتأنيث الجمع، كالعمومة و الخؤولة، أو مصدر من قولك: بعل حسن البعولة، نعت به أو أقيم مقام المضاف المحذوف، أي: و أهل بعولتهنّ.

و معنى الأحقّ: أنّ الرجل إن أراد الرجعة و أبتها المرأة وجب إيثار قوله على قولها، و كان هو أحقّ منها، لا أنّ لها حقّا في الرجعة.

إِنْ أَرادُوا إِصْلاحاً بالرجعة لما بينهم و بينهنّ و لم يريدوا مضارّتهنّ، و ليس المراد منه شرطيّة قصد الإصلاح للرجعة، بل التحريض عليه و المنع من قصد الضرار.

وَ لَهُنَّ مِثْلُ الَّذِي عَلَيْهِنَ أي: يجب لهنّ حقوق على الرجال مثل حقوقهم الّتي تجب لهم عليهنّ بِالْمَعْرُوفِ بالوجه الّذي لا ينكر في الشرع و عادات الناس، فلا يكلّفنهم ما ليس لهنّ، و لا يكلّفونهنّ ما ليس لهم.

فالمماثلة مماثلة الواجب بالواجب في كونه حسنة، لا مماثلة جنس الفعل، فلا يجب عليه إذا غسلت ثيابه أو خبزت له أن يفعل نحو ذلك، بل يقابله بما يليق بالرجال.

وَ لِلرِّجالِ عَلَيْهِنَّ دَرَجَةٌ زيادة في الحقّ و فضل فيه، بقيامهم عليهنّ، لأنّ حقوقهم في أنفسهنّ، و حقوقهنّ المهر و الكفاف من النفقة و السكنى و ترك الضرار،

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 362

أو شرف و فضيلة، لأنّهم قوّام عليهنّ و حرّاس لهنّ، يشاركونهنّ في غرض الزواج، و يخصّون بفضيلة الرعاية و الإنفاق.

و

في كتاب من لا يحضره الفقيه روي عن الباقر عليه السّلام قال: «جاءت امرأة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالت: يا رسول اللّه ما حقّ الزوج على المرأة؟ فقال لها: تطيعه و لا تعصيه، و لا تتصدّق من بيتها شيئا إلا بإذنه، و لا تصوم تطوّعا إلا بإذنه، و لا تمنعه نفسها و إن كانت على ظهر قتب «1»، و لا تخرج من بيتها إلّا بإذنه، فإن خرجت بغير إذنه لعنتها ملائكة السماء و ملائكة الأرض، و ملائكة الغضب و ملائكة الرحمة، حتى ترجع إلى بيتها، فقالت: يا رسول اللّه من أعظم الناس حقّا على الرجل؟ قال:

والداه، قالت: فمن أعظم الناس حقّا على المرأة؟ قال زوجها، قالت: فما لي من الحقّ عليه مثل ما له عليّ؟ قال: لا و لا من كلّ مائة واحدة، فقالت: و الّذي بعثك بالحقّ نبيّا لا يملك رقبتي رجل أبدا» «2» و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لو كنت آمرا أحدا أن يسجد لأحد لأمرت المرأة أن تسجد لزوجها» « «3»».

وَ اللَّهُ عَزِيزٌ يقدر على الانتقام ممّن خالف الأحكام حَكِيمٌ يشرعها لحكم و مصالح.

[سورة البقرة (2): الآيات 229 الى 230]

الطَّلاقُ مَرَّتانِ فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً إِلاَّ أَنْ يَخافا أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ فَلا تَعْتَدُوها وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (229) فَإِنْ طَلَّقَها فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ فَإِنْ طَلَّقَها فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يَتَراجَعا إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (230)

______________________________

(1) القتب: الرّحل الذي يشدّ على الإبل.

(2، 3) الفقيه 3: 276 ح 1314 و 1316.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 363

روي أنّ في الجاهليّة لم يكن للطلاق حدّ، فالرجل منهم إذا طلّق امرأته ثمّ راجعها قبل أن تنقضي عدّتها كان له ذلك و إن طلّقها ألف مرّة، فذكر ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فنزلت: الطَّلاقُ مَرَّتانِ أي: التطليق، كالسلام و الكلام و الوداع بمعنى التسليم و التكليم و التوديع، أي: التطليق الشرعي تطليقة بعد تطليقة على التفريق، كقوله تعالى: ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ «1» أي: كرّة بعد كرّة، و مثله: لبّيك لا على الجمع و الإرسال دفعة واحدة، كما قاله الشافعي، فمن طلّق ثلاثا بلفظ واحد لم يأت بالمرّتين و لا بالثالثة، كما أنّه لمّا أوجب في اللعان أربع شهادات، فلو أتى بالأربع بلفظ واحد لما أتى بالمشروع و لم يحصل حكم اللعان، و كذلك من رمى الجمار بسبع حصيات دفعة واحدة لم يجز عنه بلا خلاف، فكذلك الطلاق.

و احتجّ أصحابنا بعد أخبارهم الّتي رووها عن أهل البيت عليهم السّلام بما

روي في حديث ابن عمر أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و

آله و سلّم قال: «إنّما السنّة أن تستقبل الطهر استقبالا فتطلّقها لكلّ قرء تطليقة» «2».

فحكموا بتحريم الثلاث المرسلة أو الثنتين المرسلتين، و أنّ ذلك بدعة.

فَإِمْساكٌ بِمَعْرُوفٍ أي: فالواجب إذا راجعها بعد التطليقتين إمساك

______________________________

(1) الملك: 4.

(2) سنن البيهقي 8: 330.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 364

بمعروف، أي: على وجه سائغ في الشرع. و هو كناية عن ردّها إلى النكاح، إمّا بالرجعة إن كانت العدّة باقية، أو باستئناف العقد إن انقضت أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ بالطلقة الثالثة «1».

روي أنّ سائلا سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أين الثالثة؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: هي قوله تعالى: أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ و عند بعضهم المراد بقوله: «أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» ترك المعتدّة حتى تبين بانقضاء العدّة. و هو المرويّ عن الباقر و الصادق عليهما السّلام.

و هو الأصحّ، لأنّ الطلاق لا يقع عندنا بالكناية، بل بالتصريح.

روي أنّ جميلة بنت عبد اللّه بن أبيّ كانت تحت ثابت بن قيس بن شماس، و كانت تبغضه و هو يحبّها، فأتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالت: يا رسول اللّه لا أنا و لا ثابت، لا يجمع رأسي و رأسه شي ء، و اللّه ما أعتب عليه في دين و لا خلق، و لكنّي أكره الكفر في الإسلام- يعني: أكره أن أقع في الكفر بسبب بغضه- ما أطيقه بغضا، إنّي رفعت جانب الخباء فرأيته أقبل في عدّة فإذا هو أشدّهم سوادا، و أقصرهم قامة، و أقبحهم وجها. و كان ثابت قد أصدقها حديقة، فقال: يا رسول اللّه مرها فلتردّ عليّ الحديقة، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما تقولين؟ قالت: نعم و أزيده، قال: لا

حديقته فقط، فقال لثابت: خذ منها ما أعطيتها و خلّ سبيلها، فاختلعت منه بها،

و هو أوّل خلع كان في الإسلام، فنزلت وَ لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَأْخُذُوا مِمَّا آتَيْتُمُوهُنَّ شَيْئاً من المهور. و الخطاب مع الحكّام. و إسناد الأخذ و الإيتاء إليهم، لأنّهم الآمرون بهما عند الترافع، أو مع لأزواج، و ما بعده خطاب للحكّام، و مثل ذلك غير عزيز في القرآن.

فثنّى الضمير بعد ذلك بالنسبة إلى الزوجين، فقال: إِلَّا أَنْ يَخافا أي:

يخاف الزوجان أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ بأن تركا إقامة أحكامه تعالى فيما يلزمهما من مواجب الزوجيّة، لما يحدث من نشوز المرأة و سوء خلقها.

______________________________

(1) سنن الدار قطني 4: 4 ح 2.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 365

و قرأ حمزة و يعقوب: «يخافا» على البناء للمفعول، و إبدال «أن» بصلته من الضمير بدل الاشتمال، كقولك: خيف زيد تركه إقامة حدود اللّه، و نحوه وَ أَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا «1».

فَإِنْ خِفْتُمْ أيّها الحكّام أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ على الرجل فيما أخذ، و على المرأة فيما افتدت به نفسها و اختلعت به من بذل ما أوتيت من المهر، أو الزيادة على المهر إن كان النشوز و البغض منها وحدها، و إن كان منهما فيجب في البذل الاقتصار على المهر فما دونه، كما دلّت عليه الروايات الموثّقة عن ائمّتنا عليهم السّلام «2». و

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حديث ثابت: «لا، حديقته فقط»

لا يمنع الزائد، لأنّه حكاية حال مطلوب زوجها، فإنّه لم يطلب سوى الحديقة.

تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ إشارة إلى ما حدّ من الأحكام فَلا تَعْتَدُوها فلا تتعدّوها بالمخالفة وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ تعقيب للنهي بالوعيد مبالغة

في التهديد.

فَإِنْ طَلَّقَها متعلّق بقوله: «الطَّلاقُ مَرَّتانِ» أو تفسير لقوله: «أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» اعترض بينهما ذكر الخلع دلالة على أنّ الطلاق يقع مجّانا تارة و بعوض أخرى. و المعنى: فإن طلّقها مرّة ثالثة بعد المرّتين.

و

عن الباقر و الصّادق عليهما السّلام أنّ هذا إشارة إلى الطلقة الثالثة،

و قوله: «أَوْ تَسْرِيحٌ بِإِحْسانٍ» بمعنى ترك المعتدّة حتى تبين بانقضاء العدّة كما مرّ.

فَلا تَحِلُّ لَهُ مِنْ بَعْدُ من بعد ذلك التطليق حَتَّى تَنْكِحَ زَوْجاً غَيْرَهُ حتى تتزوّج غيره. و النكاح يسند إلى كلّ منهما كالتزوّج.

و أجمع الفقهاء على أنّه لا بدّ من الإصابة، لما

روي أنّ امرأة رفاعة قالت

______________________________

(1) الأنبياء: 3.

(2) راجع الوسائل 15: 493 ب «4» من أبواب الخلع و المباراة. زبدة التفاسير، ج 1، ص: 366

لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ رفاعة طلّقني فبتّ طلاقي، و أنّ عبد الرّحمن بن زبير- بفتح الزاء و كسر الباء- تزوّجني، و أنّ ما معه هدبة كهدبة الثوب، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

أ تريدين أن ترجعي إلى رفاعة؟ قالت: نعم، قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا حتى تذوقي عسيلته، و يذوق عسيلتك».

فالآية مطلقة قيّدتها السنّة. و يحتمل أن يراد بالنكاح الإصابة، و يكون العقد مستفادا من لفظ الزوج.

و الحكمة في هذا الحكم الردع عن التسرّع إلى الطلاق، و العود إلى المطلّقة ثلاثا، و الرغبة فيها. و اقتصر ابن المسيّب على مجرّد العقد، عملا بإطلاقها.

و الإجماع على خلافه.

فَإِنْ طَلَّقَها الزوج الثاني فَلا جُناحَ عَلَيْهِما على الزوج الأوّل و المرأة أَنْ يَتَراجَعا في أن يرجع كلّ منهما إلى الآخر بعقد جديد إِنْ ظَنَّا أَنْ يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ إن كان في ظنّهما أن

يقيما ما حدّه اللّه و شرعه من حقوق الزوجيّة. و لم يقل:

إن علما، لأنّ اليقين مغيب عنهما لا يعلمه إلا اللّه. و من فسّر الظنّ هنا بالعلم فقد رأي رأيا غير سديد من طريقي اللفظ و المعنى، لأنّه لا يقال: علمت أن يقوم زيد، لأنّ «أن» الناصبة للتوقّع و هو ينافي العلم، و لأنّ عواقب الأمور غيب لا يتعلّق علمنا بها، فإنّ الإنسان لا يعلم ما في الغد، و إنّما يظنّ ظنّا.

و يستفاد من قوله: فإن طلّقها اشتراط كون عقد المحلّل دائما، لا منقطعا و لا بشبهة، لعدم تحقّق الطلاق فيهما.

وَ تِلْكَ أي: الأحكام المذكورة حُدُودُ اللَّهِ يُبَيِّنُها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ يفهمون و يعملون بمقتضى العلم.

و اعلم أنّ الحكم المذكور- و هو التحريم في الثالثة إلّا مع التحليل- مختصّ بالحرّة، أمّا الأمة فيكفي في تحريمها طلقتان فيفتقر إلى المحلّل، سواء كان زوجها حرّا أم عبدا، للعلم بذلك من السنّة الشريفة و بيان أهل البيت عليهم السّلام.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 367

[سورة البقرة (2): آية 231]

وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ وَ لا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ ما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ وَ الْحِكْمَةِ يَعِظُكُمْ بِهِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (231)

ثمّ بيّن ما يفعل بعد الطلاق فقال: وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ بلوغ الشي ء هو الوصول إليه. و قد يقال للدنوّ منه، و هو على الاتّساع. و الأجل يقال للمدّة كلّها، و لمنتهاها و غايتها، فيقال لعمر الإنسان، و للموت الّذي به ينتهي. و كذلك الغاية و الأمد، لقول النحاة: «من»

لابتداء الغاية، و «إلى» لانتهاء الغاية. و المراد به في الآية المعنى الأخير، أي: إذا شارفن و قاربن انتهاء العدّة، لأنّ بعد انتهائها لا إمساك، فكيف يترتّب عليه قوله: فَأَمْسِكُوهُنَ أي: فراجعوهنّ قبل انقضاء العدّة بِمَعْرُوفٍ بما يجب لها من القيام بمواجبها من غير قصد ضرار بالمراجعة أَوْ سَرِّحُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أو اتركوهنّ حتى تنقضي عدّتهنّ فيكنّ أملك بأنفسهنّ.

روي أنّه كان الرجل يطلّق في الجاهليّة و يترك المعتدّة حتى تشارف الأجل، ثمّ يراجعها لتطول العدّة عليها، فنهى اللّه تعالى عنه بعد الأمر بضدّها، فقال: وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً و لا تراجعوهنّ إرادة الإضرار بهنّ، بالتقصير في النفقة أو المسكن، أو بتطويل العدّة عليهنّ لا لقصد الرغبة فيهنّ. و نصب «ضرارا» على العلّة أو الحال بمعنى: مضارّين لِتَعْتَدُوا لتظلموهنّ بالتطويل أو الإلجاء إلى الافتداء

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 368

بالمهر. و اللام متعلّقة ب «ضرارا»، إذ المراد تقييده وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بتعريضها لعذاب اللّه.

وَ لا تَتَّخِذُوا آياتِ اللَّهِ هُزُواً بالاستخفاف بأوامره و نواهيه، و الإعراض عنها، و التهاون في العمل بما فيها، من قولهم لمن لم يجدّ في الأمر: إنّما أنت هازئ، كأنّه نهى عن الهزء و أراد به الأمر بضدّه. و قيل: كان الرجل يتزوّج و يطلّق و يعتق و يقول: كنت ألعب، فنزلت.

وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ فيما أباحه لكم من الأزواج و الأموال، و من جملتها الهداية ببعثة سيّد الأنبياء و إنزال القرآن. و المراد بذكرها مقابلتها بالشكر و القيام بحقوقها وَ ما أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنَ الْكِتابِ من القرآن وَ الْحِكْمَةِ و العلوم الشرعيّة المأخوذة من السنّة، أفردهما بالذكر إظهارا لشرفهما يَعِظُكُمْ بِهِ بما أنزل عليكم، لتتّعظوا فتؤجروا بفعل ما أمركم به

و ترك ما نهاكم عنه وَ اتَّقُوا اللَّهَ من المعاصي التي تؤدّي إلى عقابه وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ هذا تأكيد و تهديد لمن يخالف حدود اللّه.

[سورة البقرة (2): آية 232]

وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا تَعْضُلُوهُنَّ أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَّ إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ بِالْمَعْرُوفِ ذلِكَ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكُمْ أَزْكى لَكُمْ وَ أَطْهَرُ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (232)

يروي أنّ معقل بن يسار عضل أخته أن ترجع إلى زوجها بعد طلاقه، فنزلت: وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَبَلَغْنَ أَجَلَهُنَ البلوغ هنا الوصول إلى الشي ء تامّا.

و الأجل هو المدّة كلّها. فقد دلّ سياق الكلامين على افتراق البلوغين، أي: إذا

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 369

انقضت عدّتهنّ فَلا تَعْضُلُوهُنَ لا تمنعوهنّ ظلما أَنْ يَنْكِحْنَ أَزْواجَهُنَ عن رجوعهنّ إلى أزواجهنّ. و قال السدّي: نزلت في جابر بن عبد اللّه عضل بنت عمّ له.

و قال الراوندي «1»: الخطاب للأزواج، لقوله: وَ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ، و لأنّه لا ولاية عندنا على البالغة الرشيدة، و لإسناد النكاح إليها في قوله: «أن ينكحن».

فعلى هذا يكون المعنى: لا تعضلوهنّ عن أن ينكحن بأكفائهنّ. فتسمية الخطّاب أزواجا تسمية الشي ء باسم ما يؤول إليه على وجه المجاز. و العضل بمعنى الحبس و التضييق، و منه: عضلت الدجاجة إذا نشبت بيضتها فلم تخرج.

إِذا تَراضَوْا بَيْنَهُمْ أي: الخطّاب و النساء. و هذا ظرف ل «أن ينكحن» أو «لا تعضلوهنّ» بِالْمَعْرُوفِ بما يعرفه الشرع و تستحسنه المروءة. فهو حال من الضمير المرفوع، أو صفة مصدر محذوف، أي: تراضيا كائنا بالمعروف. و فيه دلالة على أنّ العضل عن التزوّج من غير كفؤ غير منهيّ عنه.

ذلِكَ إشارة إلى ما مضى ذكره من الأمر و

النهي. و الخطاب للجميع على تأويل القبيل، أو كلّ واحد، أو أن الكاف لمجرّد الخطاب، و الفرق بين الحاضر و المنقضي دون تعيين المخاطبين، أو للرسول على طريقة قوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ «2» للدلالة على أنّ حقيقة المشار إليه أمر لا يكاد يتصوّره كلّ واحد. يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ مِنْكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ لأنّه المتّعظ به و المنتفع.

ذلِكُمْ أي: العمل بمقتضى ما ذكر أَزْكى لَكُمْ أعظم بركة و أنفع وَ أَطْهَرُ من أدناس الآثام وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما فيه من النفع و الصلاح لكم من الأحكام الشرعيّة وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ لا تعلمونه، لقصور علمكم.

______________________________

(1) فقه القرآن 2: 181.

(2) الطلاق: 1.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 370

[سورة البقرة (2): آية 233]

وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلاَّ وُسْعَها لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ وَ عَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ فَإِنْ أَرادا فِصالاً عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَ تَشاوُرٍ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما وَ إِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِذا سَلَّمْتُمْ ما آتَيْتُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (233)

و لمّا بيّن سبحانه حكم الطلاق عقّبه ببيان أحكام الأولاد الصغار في الرضاع و التربية، فقال: وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَ «يرضعن» مثل «يتربّصن» في أنّه خبر في معنى الأمر المؤكّد للمبالغة، أي: و لترضع الأمّهات أولادهنّ، إذ لا يجوز أن يكون على حقيقة خبريّة و إلّا لزم الكذب، لأنّه قد يرضعن أزيد و أنقص. و ليس الأمر للوجوب، لأصالة البراءة، بل لمطلق الرجحان الشامل له و للندب، فمعناه النّدب أو الوجوب. أمّا

الوجوب فيخصّ بما إذا لم يرتضع الصبيّ إلا من أمّه، أو لم يوجد له ظئر، أو عجز الوالد عن الاستئجار، أو إرضاع اللّبأ، و هو أوّل لبن يجي ء مبدأ الولادة، لأنّ الولد لا يعيش بدونه غالبا. أمّا المندوب فما عداه، فإنّ أفضل اللبن لبن الأمّ لولدها، فيستحبّ لها أن ترضعه. و الوالدات تعمّ المطلّقات و غيرهنّ.

و قيل: يختصّ بهنّ، إذ الكلام فيهنّ.

حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ أكّده بصفة الكمال، لأنّه ممّا يتسامح فيه، يقول الرجل:

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 371

أقمت عند فلان حولين، و لم يستكملهما.

و قوله: لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ بيان لمن توجّه إليه الحكم، أي: ذلك لمن أراد إتمام الرضاعة، أو متعلّق ب «يرضعن»، فإنّ الأب يجب عليه الإرضاع كالنفقة دون الأمّ، و عليه أن يتّخذ له ظئرا، إلّا إذا تطوّعت الأمّ بإرضاعه، و هي مندوبة إلى الإرضاع، و لا تجبر على ذلك، فالأمر للوالدات بالإرضاع أمر على الندب. و هو دليل على أنّ أقصى مدّة الإرضاع حولان، و لا عبرة به بعدهما، و أنّه يجوز أن ينقص عنه ما دام لا يكون موجبا لضرر الولد. فالحولان منتهى الرضاع، و ليس فيما دون ذلك حدّ محدود، و إنّما هو على مقدار صلاح الصبيّ و ما يعيش به.

وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ أي: يجب على الّذي يولد له، يعني: الوالد، فإنّ الولد يولد له و ينسب إليه لا الأمّ. و لهذا قيل:

فإنّما أمّهات الناس أوعيةمستودعات و للآباء أبناء «1»

و تغيير العبارة للإشارة إلى المعنى المقتضي لوجوب الإرضاع و مؤن المرضعة عليه. و قوله: «له» في محلّ الرفع على الفاعليّة، نحو «عليهم» في «غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ».

و على الوالد رِزْقُهُنَّ وَ كِسْوَتُهُنَ أجرة لهنّ إذا أرضعن ولده بِالْمَعْرُوفِ ما

يراه الحاكم و يفي به وسعه.

لا تُكَلَّفُ نَفْسٌ إِلَّا وُسْعَها أي: لا يلزمها اللّه إلّا دون طاقتها. هذا تعليل لإيجاب المؤن. و التقييد بالمعروف دليل على أنّه تعالى لا يكلّف العبد بما لا يطيقه.

لا تُضَارَّ والِدَةٌ بِوَلَدِها وَ لا مَوْلُودٌ لَهُ بِوَلَدِهِ تفصيل له، أي: لا يكلّف كلّ منهما الآخر ما ليس في وسعه، و لا يضارّه بسبب الولد. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و يعقوب: لا تضارّ بالرفع، بدلا من قوله: «لا تكلّف»، و أصله على القراءتين:

______________________________

(1) البيت للمأمون بن الرشيد، راجع الكشّاف 1: 279.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 372

تضارر على البناء للفاعل، أو الفتح على البناء للمفعول. و على الوجه الأوّل يجوز أن يكون بمعنى: تضرّ، و الباء من صلته، أي: لا يضرّ الوالدان بالولد، فيفرّط في تعهّده و يقصّر فيما ينبغي له. و إضافة الولد إليها و إليه أخرى استعطاف لهما عليه، و تنبيه على أنّه حقيق بأن يتّفقا على استصلاحه و الإشفاق، فلا ينبغي أن يضرّا به أو يتضارّا بسببه.

و خلاصة المعنى: أنّه لا تضارّ والدة زوجها بسبب ولدها، بأن تطلب منه ما ليس بعدل من النفقة و الكسوة، و أن لا يشغل قلبه بالتفريط في شأن الولد. و لا يضارّ مولود له امرأته بسبب ولدها، بأن يمنعها شيئا ممّا وجب عليه، أو يأخذه منها و هي تطلب إرضاعه. و كذلك إذا كان مبنيّا للمفعول. فهو نهي عن أن يلحق بها الضرار من قبل الزوج، و عن أن يلحق الضرار بالزوج من قبلها بسبب الولد.

وَ عَلَى الْوارِثِ مِثْلُ ذلِكَ عطف على قوله: «وَ عَلَى الْمَوْلُودِ لَهُ رِزْقُهُنَّ» و ما بينهما تفسير للمعروف معترض بين المعطوف و المعطوف عليه. و المراد

بالوارث وارث الأب. و المعنى: و على وارث المولود له بعد موته مثل ما أوجب عليه من الرزق و الكسوة بالمعروف.

فَإِنْ أَرادا فِصالًا صادرا عَنْ تَراضٍ مِنْهُما وَ تَشاوُرٍ بينهما قبل الحولين أو بعدهما. و التشاور و المشاورة و المشورة استخراج الرأي، من: شرت العسل، إذا استخرجته فَلا جُناحَ عَلَيْهِما في ذلك، زادا على الحولين أو نقصا. و هذه توسعة بعد التحديد. و إنّما اعتبر تراضيهما مراعاة لصلاح الطفل، و حذرا أن يقدم أحدهما على ما يضرّ به لغرض.

وَ إِنْ أَرَدْتُمْ أَنْ تَسْتَرْضِعُوا أَوْلادَكُمْ أي: تسترضعوا المراضع أولادكم، يقال: أرضعت المرأة الطفل و استرضعتها إيّاه، كقولك: أنجح اللّه حاجتي و استنجحته إيّاها، فحذف المفعول الأوّل للاستغناء عنه، كما تقول: استنجحت

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 373

الحاجة، و لا تذكر من استنجحته، و كذلك حكم كلّ مفعولين لم يكن أحدهما عبارة عن الأوّل فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فيه. و فيه دلالة على أنّ للزوج أن يسترضع للولد و يمنع الزوجة من الإرضاع إِذا سَلَّمْتُمْ إلى المراضع ما آتَيْتُمْ ما أردتم إيتاءه، كقوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ «1». و قرأ ابن كثير: «ما أتيتم» من: أتى إليه إحسانا إذا فعله.

و قوله: بِالْمَعْرُوفِ صلة «سلّمتم» أي: بالوجه المتعارف المستحسن شرعا. و جواب الشرط محذوف دلّ عليه ما قبله. و ليس التسليم شرطا لجواز الاسترضاع، بل لسلوك ما هو الأولى و الأصلح للطفل، فإنّ المرضعة إذا أخذت الأجرة على الرضاع تصير طيّبة النفس، فتقبل على الطفل بقلبها، و تراعي مصلحته حقّ المراعاة.

وَ اتَّقُوا اللَّهَ مبالغة في المحافظة على ما شرع في أمر الأطفال و المراضع، و قوله: وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ حثّ و تهديد.

[سورة البقرة (2): آية 234]

وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ

مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ بِالْمَعْرُوفِ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (234)

و بعد ذكر عدّة الطلاق بيّن عدّة الوفاة بقوله: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ تقديره:

أزواج الّذين، و قرينة حذف المضاف قوله: وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً أو تقديره: و الّذين يتوفّون منكم و يذرون أزواجا يتربّصن

______________________________

(1) المائدة: 6.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 374

بعدهم، كقولهم: السمن منوان بدرهم، أي: منوان منه.

و معنى «يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ»: يعتددن هذه المدّة و يتركن الزينة. و تأنيث العشر باعتبار الليالي، لأنّها غرر الشهور و الأيّام، و لذلك لا يستعملون التذكير في مثله قطّ ذهابا إلى الأيّام، حتى إنّهم يقولون: صمت عشرا. و يشهد له قوله: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً ثمّ قال: إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً «1».

فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ أي: انقضت عدّتهنّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيّها الأئمّة أو الأولياء أو المسلمون جميعا فِيما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَ من التعرّض للخطّاب و استعمال الزينة بِالْمَعْرُوفِ بالوجه الّذي لا ينكره الشرع. و مفهومه أنّهنّ لو فعلن ما ينكره فعليهم أن يكفّوهنّ، فإن قصّروا فعليهم الجناح.

و هذه الآية ناسخة لقوله: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ «2» و إن كانت متقدّمة عليها في التلاوة.

وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فيجازيكم عليه.

[سورة البقرة (2): آية 235]

وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَّ وَ لكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا إِلاَّ أَنْ تَقُولُوا قَوْلاً مَعْرُوفاً وَ لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ فَاحْذَرُوهُ وَ اعْلَمُوا أَنَّ

اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (235)

و لمّا قدّم ذكر عدّة النساء و جواز الرجعة فيها للأزواج، عقّبه ببيان حال غير

______________________________

(1) طه: 103- 104.

(2) البقرة: 240.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 375

الأزواج، فقال: وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيّها الرجال فِيما عَرَّضْتُمْ بِهِ مِنْ خِطْبَةِ النِّساءِ المعتدّات، و لا تصرّحوا به. و التعريض و التلويح إيهام المقصود بما لم يوضع له حقيقة و لا مجازا، كقول السائل: جئتك لأسلّم عليك. و الكناية هي الدلالة على الشي ء بذكر لوازمه و روادفه، كقولك: طويل النجاد للطويل، و كثير الرماد للمضياف.

و الخطبة بالكسر و الضمّ اسم الحالة، غير أنّ المضمومة خصّت بالموعظة، و المكسورة بطلب المرأة. و تعريض خطبتها أن يقول لها: إنّك لجميلة أو صالحة، أو إنّي أحبّ امرأة صفتها كذا، و يذكر بعض صفاتها، و نحو ذلك من الكلام الّذي يوهم أنّه يريد نكاحها حتى تحبس نفسها عليه إن رغبت فيه. و لا يصرّح بالنكاح، فلا يقول: إنّي أريد أن أنكحك أو أتزوّجك.

و

في الكشّاف روي ابن المبارك عن عبد الرحمن بن سليمان، عن خالته قالت: «دخل عليّ أبو جعفر محمد بن عليّ عليه السّلام و أنا في عدّتي، فقال: قد علمت قرابتي من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و حقّ جدّي عليّ و قدمي في الإسلام، فقلت: غفر اللّه لك أ تخطبني في عدّتي و أنت يؤخذ عنك؟! فقال: أو قد فعلت؟! و إنّما أخبرتك بقرابتي من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و موضعي، قد دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على أمّ سلمة، و كانت عند ابن عمّها أبي سلمة فتوفّي عنها، فلم يزل يذكر لها منزلته من اللّه

و هو متحامل على يده، حتى أثّر الحصير في يده من شدّة تحامله عليها، فما كانت تلك خطبة «1»!!»

أَوْ أَكْنَنْتُمْ فِي أَنْفُسِكُمْ أو سترتم و أضمرتم في قلوبكم، فلم تذكروه تصريحا و لا تعريضا عَلِمَ اللَّهُ أَنَّكُمْ سَتَذْكُرُونَهُنَ لا محالة، لرغبتكم فيهنّ، و عدم صبركم على السكوت عنهنّ، و عن الرغبة فيهنّ، خوفا منكم أن يسبقكم غيركم إليهنّ، فأباح لكم ذلك. وَ لكِنْ لا تُواعِدُوهُنَّ سِرًّا استدراك عن محذوف، دلّ عليه

______________________________

(1) الكشّاف 1: 282.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 376

«ستذكرونهنّ»، أي: فاذكروهنّ و لكن لا تواعدوهنّ سرّا. و السرّ كناية عن الوطء، لأنّه ممّا يسرّ، ثمّ عبّر به عن النكاح الّذي هو العقد، لأنّه سبب فيه إِلَّا أَنْ تَقُولُوا قَوْلًا مَعْرُوفاً و هو أن تعرّضوا و لا تصرّحوا و المستثنى منه محذوف، أي: لا تواعدوهنّ مواعدة إلا مواعدة معروفة. و قيل: معناه لا تواعدوهنّ جماعا، و هو أن يقول لها: إن نكحتك كان كيت و كيت، يريد: ما يجري بينهما تحت اللحاف، إلّا أن تقولوا قولا معروفا، أي: غير رفث و إفحاش في الكلام.

وَ لا تَعْزِمُوا عُقْدَةَ النِّكاحِ من: عزم الأمر و عزم عليه. و هو مبالغة في النهي عن عقد النكاح في العدّة، لأنّ العزم على الفعل يتقدّمه، فإذا نهى عنه كان عن الفعل أنهى. و العقدة موضع العقد، و هو ما عقد عليه. و معناه: لا تعزموا عقدة النكاح في العقدة حَتَّى يَبْلُغَ الْكِتابُ أَجَلَهُ حتى ينتهي ما كتب و فرض من العدّة.

وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي أَنْفُسِكُمْ من العزم على ما لا يجوز فَاحْذَرُوهُ و لا تقربوه وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لمن عزم و لم يفعل خشية من اللّه حَلِيمٌ

لا يعاجلكم بالعقوبة.

[سورة البقرة (2): آية 236]

لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَّ أَوْ تَفْرِضُوا لَهُنَّ فَرِيضَةً وَ مَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ (236)

ثمّ بيّن حكم الطلاق قبل الفرض و المسيس، فقال: لا جُناحَ عَلَيْكُمْ لا تبعة و لا إثم عليكم إِنْ طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ما لَمْ تَمَسُّوهُنَ أي: ما دام لم تجامعوهنّ أَوْ تَفْرِضُوا أو ما لم تفرضوا و تسمّوا لَهُنَّ فَرِيضَةً أي: صداقا.

قال صاحب الكنز: المراد بالمسّ الجماع. و الفرض التقدير. و المراد

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 377

بالفريضة المهر المقدّر. ففعيل هنا بمعنى مفعول، و التاء لنقل اللفظ إلى الاسميّة.

و «أو» هاهنا يحتمل أن يكون بمعنى الواو، و أن يكون للترديد، و أن يكون بمعنى «إلا أن».

فعلى الأوّل، يكون منطوق الآية: أنّكم إن طلّقتم النساء قبل مسّهنّ و قبل فرضكم لهنّ مهرا فلا جناح عليكم، قدّم جواب الشرط عليه.

و إنّما نفي الجناح لأنّ الطلاق مظنّة الجناح، لكون النكاح مطلوبا للّه، فيكون تركه مظنّة الكراهة، خصوصا قبل الدخول، و أمّا بعد الدخول فقد حصل الامتثال و ضعفت الكراهية للترك، فلذلك خصّ النفي بما قبل المسّ، أو لأنّ الطلاق بعد الدخول يفتقر إلى الاستبراء و قبله لا.

و قيل: المعنى: لاتبعه على المطلّق من مطالبة المهر إذا كانت المطلّقة غير ممسوسة و لم يسمّ لها مهرا، إذ لو كانت ممسوسة لكان عليه المسمّى أو مهر المثل، و لو كانت غير ممسوسة و قد سمّى لها مهرا كان لها نصفه. فمنطوق الآية ينفي الوجوب في الصورة الأولى، و مفهومها يقتضي الوجوب على الجملة في الأخيرتين.

و فيه نظر، لأنّه لو كان ذلك هو المراد لما حسن نفي الجناح مطلقا، لأنّه و إن لم

يجب عليه المهر كملا فإنّه يجب عليه المتعة، فكان ينبغي فيه التقييد، لكنّه لم يقيّد، فلم يكن ذلك هو المراد.

و على الثاني، يكون المنطوق نفي الجناح قبل المسّ مطلقا، أي: مع الفرض و عدمه، و قبل الفرض مطلقا، أي: مع المسّ و عدمه، فيثبت المتعة في الأحوال الأربعة، فتكون واجبة مع الطلاق منضمّة إلى نصف المهر و إلى مهر المثل. لكن ذلك لم يقل به أحد من أصحابنا، لكنّه قول الشافعي.

و على الثالث، يكون المنطوق نفي الجناح و ثبوت المتعة مع عدم الفرض.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 378

فيكون الحكم كالأوّل، و هو الّذي عليه الفتوى. إلى هنا كلامه «1».

و أنا أقول: لمّا كان القول الأخير قول جمهور المفسّرين، و لا يذهب أحد منهم إلى القول الثاني إلّا شاذّ منهم، فبالحريّ أن يكون القول الثالث راجحا، و نفي الجناح مختصّا بطلب المهر المسمّى أو المهر المثل، و تخصيص العامّ شائع عند العلماء لا ينكره أحد، كما قرّر في علم الأصول. فيكون نفي الحسن عن نفي الجناح غير حسن. و لا يكون التنافي بينه و بين قوله: وَ مَتِّعُوهُنَ و هو معطوف على مقدّر، أي: فطلّقوهنّ و متّعوهنّ، أي: أعطوهنّ من مالكم ما يتمتّعن به. و الحكمة في إيجاب المتعة جبر إيحاش الطلاق، و ذلك الشي ء يختلف باعتبار حال الزوج، كما قال عزّ اسمه: عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ أي: على الغنيّ الّذي هو في سعة لغناه على قدر حاله وَ عَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ و على الفقير الّذي هو في ضيق على قدر حاله. و معنى قدره مقداره الّذي يطيقه. و القدر و القدر لغتان.

و

عن الباقر «2» و الصّادق عليهما السّلام أنّ على الغنيّ دابّة أو ثوب رفيع أو عشرة

دنانير من الذهب، و على المتوسّط خمسة أو ثوب متوسّط، و على الفقير دينار أو خاتم،

و به قال الشافعي. و قال أبو حنيفة: إن نقص مهر مثلها عن ذلك فلها نصف مهر المثل.

و في الآية دلالة صريحة على صحّة عقد الدوام من غير ذكر مهر مطلقا، و يسمّى تفويض البضع. و قد يقال: تفويض المهر، و هو أن يتزوّجها بمهر مجمل، كأن يفوّض تقديره إلى أحدهما أو إلى أجنبيّ، فيلزم ما يقدّره. لكن إن كان هو الزوج لزم كلّ ما يقدّره بما يتملّك، و إن كان الزوجة لزم ما لم يتجاوز مهر السنّة،

______________________________

(1) كنز العرفان 2: 204- 205.

(2) لم نجده فيما لدينا من مصادر الحديث، و روي الطبرسي في مجمع البيان (1/ 340) عن الباقر و الصادق عليهما السّلام بمضمون آخر.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 379

و هو خمسمائة درهم. و الأجنبيّ حكمه تابع لمن هو من قبله.

مَتاعاً بِالْمَعْرُوفِ تمتيعا بالوجه الّذي يستحسنه الشرع و المروءة حَقًّا صفة «متاعا» أو مصدر مؤكّد، أي: و حقّ ذلك حقّا عَلَى الْمُحْسِنِينَ الّذين يحسنون إلى أنفسهم بالمسارعة إلى الامتثال، أو إلى المطلّقات بالتمتيع. و سمّاهم قبل الفعل محسنين للمشارفة، كما

قال عليه السّلام: «من قتل قتيلا فله سلبه» «1»

ترغيبا و تحريضا.

[سورة البقرة (2): آية 237]

وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ لَهُنَّ فَرِيضَةً فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ إِلاَّ أَنْ يَعْفُونَ أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَ لا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (237)

و لمّا ذكر حكم المفوّضة أتبعه حكم المفروضة، فقال: وَ إِنْ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ تجامعوهنّ وَ قَدْ فَرَضْتُمْ أوجبتم لَهُنَّ فَرِيضَةً صداقا فَنِصْفُ ما فَرَضْتُمْ أي: فلهنّ، أو فالواجب

نصف ما فرضتم لهنّ. و هو دليل على أنّ المراد بالجناح في الآية المتقدّمة تبعة المهر، و أن لا متعة مع التشطير، لأنّه قسيمها إِلَّا أَنْ يَعْفُونَ أي: المطلّقات الحرائر البالغات غير المولّى عليهنّ، لفساد عقولهنّ، أي: يتركن ما يجب لهنّ من نصف المهر، فلا يأخذن شيئا من الأزواج.

و الصيغة تحتمل التذكير و التأنيث. و الفرق: أنّ الواو في الأوّل ضمير و النون علامة الرفع، و في الثاني لام الفعل و النون ضمير. و الفعل مبنيّ، و لذلك لم تؤثّر فيه أن الناصبة هاهنا، و نصب المعطوف عليه، أعني قوله: أَوْ يَعْفُوَا الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ و هو الوليّ الّذي يلي عقد نكاحهنّ، و ذلك إذا كانت المرأة صغيرة أو

______________________________

(1) المعجم الكبير للطبراني 7: 295 ح 6995.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 380

سفيهة. و ليس له العفو إلّا عن بعضه لا جميعه، و هو قول أصحابنا.

وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى خطاب للأزواج جميعا، أي: عفوكم أيّها الأزواج أقرب لكم لاتّقاء الظلم، فإنّ التارك لغيره حقّه قد استبرأ لذمّته و احتاط، أو لاتّقاء الكلام في حقّه، بأن يقال: إنّه طلّقها و أدخل عليها ذلّ الخذلان و بخس المهر.

روي عن جبير بن مطعم أنّه تزوّج امرأة و طلّقها قبل أن يدخل بها، فأكمل لها الصداق و قال: أنا أحقّ بالعفو.

و عند من فسّر «الَّذِي بِيَدِهِ عُقْدَةُ النِّكاحِ» بالزوج قال: له أن يعفو عن جميع النصف.

و لمّا ذكر عفو المرأة و وليّها ذكر عفو الرجل، و جمعه مطابقة لجمع النساء، و لأنّه خطاب لكلّ زوج.

وَ لا تَنْسَوُا الْفَضْلَ بَيْنَكُمْ أي: و لا تتركوا أن يتفضّل بعضكم على بعض إِنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ عليم لا يضيع تفضّلكم و إحسانكم.

[سورة البقرة (2): الآيات 238 الى 239]

حافِظُوا

عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى وَ قُومُوا لِلَّهِ قانِتِينَ (238) فَإِنْ خِفْتُمْ فَرِجالاً أَوْ رُكْباناً فَإِذا أَمِنْتُمْ فَاذْكُرُوا اللَّهَ كَما عَلَّمَكُمْ ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ (239)

و لمّا حثّ اللّه سبحانه عباده على الاطاعة و الامتثال بأنواع الطاعة، خصّ الصلاة بالمحافظة عليها، لأنّها أعظم الطاعات، و لئلّا يشتغلوا عنها بغيرها من الأحكام المشوبة بالحظوظ النفسانيّة من النكاح و غيره، فقال: حافِظُوا داوموا عَلَى الصَّلَواتِ في مواقيتها بأداء أركانها وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى بين الصلوات، أو الفضلى، من قولهم للأفضل: الأوسط. و تخصيص الصلاة الوسطى بالأمر

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 381

بالمحافظة عليها- مع أنّها داخلة في الصلوات، و اللام للاستغراق- لاختصاصها بمزيد فضل يقتضي رفع شأنها، فإفرادها بالذكر كإفراد النخل و الرمّان بين الفاكهة، و جبرئيل عن الملائكة.

و هي صلاة العصر،

لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم الأحزاب: «شغلونا عن الصلاة الوسطى صلاة العصر، ملأ اللّه بيوتهم نارا».

و

قال عليه السّلام: «إنّها الصلاة الّتي شغل عنها سليمان بن داود عليه السّلام حتى توارت بالحجاب».

و

عن حفصة: «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقرأ هذه الآية هكذا: و الصلاة الوسطى صلاة العصر. و فضلها لكثرة اشتغال الناس في وقتها، و اجتماع ملائكة الليل و النهار فيها.

و قيل: صلاة الظهر، لأنّها وسط النهار. و كانت أشقّ الصلوات عليهم، فكانت أفضل،

لقوله عليه السّلام: «أفضل الأعمال أحمزها». و روي ذلك أيضا مرفوعا.

و قيل: صلاة الفجر. و يؤيّده قوله: وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً «1». و لأنّها بين صلاتي النهار و الليل.

و قيل: المغرب، لأنّها المتوسّط بالعدد.

و قيل: العشاء، لأنّها بين جهرتين واقعتين في طرفي الليل.

وَ قُومُوا لِلَّهِ في الصلاة قانِتِينَ دائمين في قيامكم، أو خاشعين، أو

ذاكرين له في القيام. و القنوت الذكر فيه. و يؤيّده ما

روي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «القنوت الدعاء في الصلاة في حال القيام».

و ما شاع عند الفقهاء أنّه هو الدّعاء في الصلاة مع رفع اليدين. و الأمر الأوّل للوجوب إجماعا. و الثاني على الاختلاف.

و الأكثر على ندبيّته، و هو الأصحّ.

و لمّا ذكر سبحانه وجوب المحافظة على الصلوات عقّبه بذكر الرخصة في

______________________________

(1) الإسراء: 78.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 382

عدم حفظ أركانها عند التعذّر، فقال: فَإِنْ خِفْتُمْ فإن كان بكم خوف من عدوّ أو غيره فَرِجالًا أَوْ رُكْباناً فصلّوا راجلين أو راكبين حيث أمكن. و رجال جمع راجل أو رجل بمعناه، كقائم و قيام. و فيه دليل على وجوب الصّلاة حال المسايفة.

و إليه ذهب جميع أصحابنا و الشافعي. و عند أبي حنيفة لا يصلّى حال المشي و المسايفة ما لم يمكن الوقوف.

فَإِذا أَمِنْتُمْ و زال خوفكم فَاذْكُرُوا اللَّهَ صلّوا صلاة الأمن مع محافظة الأركان و الشروط كَما عَلَّمَكُمْ مثل ما علّمكم من الشرائع و موافقا له، أو فاشكروا اللّه على الأمن و اذكروه بالعبادة كما أحسن إليكم بما علّمكم كيف تصلّون في حال الخوف و الأمن. و «ما» مصدريّة، أي: كتعليم اللّه إيّاكم. ما لَمْ تَكُونُوا تَعْلَمُونَ مفعول «علّمكم».

[سورة البقرة (2): آية 240]

وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ غَيْرَ إِخْراجٍ فَإِنْ خَرَجْنَ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَّ مِنْ مَعْرُوفٍ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (240)

ثمّ عاد إلى ذكر أحكام الزواج و توابعها، فقال: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ أي:

الّذين يتقاربون الوفاة منكم، لأنّ المتوفّى لا يؤمر و لا ينهى وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً وَصِيَّةً لِأَزْواجِهِمْ قرأها بالنصب أبو عمرو و ابن عامر و

حمزة و حفص عن عاصم على تقدير: و الّذين يتوفّون منكم يوصون وصيّة، أو ليوصوا وصيّة، أو كتب اللّه عليهم وصيّة، أو ألزم اللّه الّذين يتوفّون وصيّة. و قرأ الباقون بالرفع على تقدير: وصيّة الّذين يتوفّون، أو و حكمهم وصيّة، أو و الّذين يتوفّون أهل وصيّة، أو كتب عليهم وصيّة مَتاعاً إِلَى الْحَوْلِ نصب ب «يوصون» إن أضمرت، و إلّا فبالوصيّة. و معناه:

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 383

ما ينتفعن به حولا من النفقة و الكسوة و السكنى غَيْرَ إِخْراجٍ بدل أو مصدر مؤكّد، أي: يمسكن في البيوت إمساكا غير إخراج، كقولك: هذا القول غير ما تقول، أو حال من أزواجهم، أي: غير مخرجات.

و المعنى: أنّ حقّ الّذين يتوفّون عن أزواجهم أن يوصوا قبل أن يموتوا، بأن تمتّع أزواجهم بعدهم حولا كاملا، أي: ينفق عليهنّ من تركته، و لا يخرجن من مساكنهنّ. فكان ذلك قبل الإسلام و بدئه، ثمّ نسخت المدّة بقوله: أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ عَشْراً «1» و إن كان متقدّما في التلاوة فهو متأخّر في النزول.

فَإِنْ خَرَجْنَ من منزل الأزواج قبل الحول من غير أن يخرجهنّ الورثة.

و قيل: إنّ المراد إذا خرجن بعد مضيّ الحول و قد مضت العدّة فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ يا معشر أولياء الميّت فِي ما فَعَلْنَ فِي أَنْفُسِهِنَ كالتطيّب و ترك الحداد و التعرّض للأزواج مِنْ مَعْرُوفٍ ممّا لم ينكره الشرع من طلب النكاح و التزيّن. و هذا يدلّ على أنّه لم يجب عليها ملازمة مسكن الزوج للحداد عليه، و إنّما كانت مخيّرة بين الملازمة و أخذ النفقة و بين الخروج و تركها وَ اللَّهُ عَزِيزٌ ينتقم ممّن خالفه منهم حَكِيمٌ يراعي مصالحهم.

[سورة البقرة (2): الآيات 241 الى 242]

وَ لِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ (241) كَذلِكَ يُبَيِّنُ

اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (242)

و لمّا قدّم سبحانه بيان أحوال المعتدّات عقّبه ببيان ما يجب لهنّ من المتعة فقال: وَ لِلْمُطَلَّقاتِ مَتاعٌ بِالْمَعْرُوفِ أي: تمتيع بوجه شرعيّ، من النفقة و الكسوة و المسكن المذكور، متاعا إلى الحول.

______________________________

(1) البقرة: 234.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 384

و قيل: المراد بالمتاع المتعة، فتكون مخصوصة بالآية المتقدّمة، فإنّ المتعة للمطلّقة التي لم يدخل بها و لم يفرض لها مهر، فأمّا المدخول بها فلها مهر مثلها إن لم يسمّ لها مهر، و إن فرض لها مهر و لم يدخل بها فنصف المهر.

قال في الكشّاف «1»: «عمّ المطلّقات هنا بإيجاب المتعة لهنّ بعد ما أوجبها لواحدة منهنّ، و هي المطلّقة غير المدخول بها، و قال: حَقًّا عَلَى الْمُتَّقِينَ كما قال ثمّة: «حقّا على المحسنين».

و قيل: قد تناولت التمتيع الواجب و الندب جميعا، و يكون اللام للعهد، و التكرير للتأكيد.

كَذلِكَ إشارة إلى ما سبق من أحكام الطلاق و العدد يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وعد بأنّه سيبيّن لعباده من الدلائل الهادية و الأحكام اللازمة ممّا يحتاجون إليها معاشا و معادا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ لعلّكم تفهمونها فتستعملون العقل فيها.

[سورة البقرة (2): الآيات 243 الى 245]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ هُمْ أُلُوفٌ حَذَرَ الْمَوْتِ فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا ثُمَّ أَحْياهُمْ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (243) وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (244) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً وَ اللَّهُ يَقْبِضُ وَ يَبْصُطُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (245)

و لمّا ذكر قوله: يبيّن آياته، ليعتبروا منها و يجعلوها وسيلة إلى امتثال أوامره

______________________________

(1) الكشّاف 1: 289، و الآية في سورة البقرة: 236.

زبدة

التفاسير، ج 1، ص: 385

تعالى، عقّبه بأنّ من جملة آياته المعتبرة ما أخبر به بقوله: «ألم تر»، تقريرا لمن سمع بهذه القصّة لأهل الكتاب، و تعجيبا من شأنها. و يجوز أن يخاطب به من لم ير و لم يسمع، لأنّ هذا يجري مجرى المثل في معنى التعجيب.

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ يريد أهل داوردان «1» قرية قبل واسط، وقع فيهم طاعون، فخرجوا هاربين، فأماتهم اللّه تعالى، ثمّ أحياهم ليعتبروا و يعلموا أنّه لا مفرّ من حكم اللّه وَ هُمْ أُلُوفٌ أي: ألوف كثيرة. قيل: عشرة آلاف.

و قيل: ثلاثون. و قيل: سبعون. و من بدع التفاسير معنى ألوف متألّفون، جمع آلف أو إلف، كقاعد و قعود، و الواو للحال حَذَرَ الْمَوْتِ مفعول له فَقالَ لَهُمُ اللَّهُ مُوتُوا أي: قال لهم اللّه: موتوا فماتوا، كقوله: كُنْ فَيَكُونُ «2». و المعنى: أنّهم ماتوا ميتة رجل واحد من غير علّة بأمر اللّه و مشيئته. و قيل: ناداهم به ملك، و إنّما أسند إلى اللّه تعالى تخويفا و تهويلا ثُمَّ أَحْياهُمْ

قيل: مرّ حزقيل بعد زمان طويل و قد عريت عظامهم و تفرّقت أوصالهم، فلوى شدقه «3» و أصابعه تعجّبا ممّا رأى، فأوحي إليه: ناد فيهم أن قوموا بإذن اللّه، فنادى، فنظر إليهم قياما يقولون: سبحانك اللّهمّ و بحمدك لا إلا إلّا أنت.

و قيل: هم قوم من بني إسرائيل دعاهم ملكهم إلى الجهاد، فخرجوا ثمّ جبنوا و كرهوا الموت، فاعتلّوا و قالوا: إنّ الأرض الّتي نأتيها بها الوباء فلا نأتيها حتى ينقطع منها الوباء، فأرسل اللّه عليهم الموت، فلمّا رأوا أنّ الموت كثر فيهم خرجوا من ديارهم فرارا من الموت، فلمّا رأى الملك ذلك قال: اللّهم ربّ يعقوب

و إله

______________________________

(1) داوردان بفتح الواو و سكون الراء: من نواحي شرقي واسط بينهما فرسخ. انظر معجم البلدان 2: 434.

(2) البقرة: 117.

(3) الشّدق: جانب الفم.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 386

موسى قد ترى معصية عبادك، فأرهم آية في أنفسهم حتى يعلموا أنّهم لا يستطيعون الفرار منك، فأماتهم اللّه ثمانية أيّام ثمّ أحياهم.

إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ حيث يبصّرهم ما يعتبرون به و يستبصرون، كما بصّركم باقتصاص خبرهم، أو حيث أحيى أولئك ليعتبروا فيفوزوا، و لو شاء لتركهم موتى إلى يوم القيامة وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ لما ذكر من النعمة عليهم، بما أراهم من الآية العظيمة في أنفسهم، ليلتزموا سبيل اللّه، و يتجنّبوا طريق الردى.

و فائدة ذكر هذه القصّة حثّ المسلمين على التوكّل و الاستسلام للقضاء، و تشجيعهم على الجهاد و التعرّض للشهادة.

فلمّا بيّن أنّ الفرار عن الموت غير مخلص، و أنّ المقدّر لا محالة واقع، أمرهم بالقتال، إذ لو جاء أجلهم ففي سبيل اللّه و إلّا فالنصر و الثواب.

و قال: وَ قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لما يقوله المتخلّف و السابق عَلِيمٌ بما يضمرانه، و علمه محيط بكيفيّة الجزاء و كمّيته.

ثمّ رغّبهم في الجهاد و بذل الأنفس و الأموال فيه، بقوله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ «من» استفهاميّة مرفوعة الموضع بالابتداء، و «ذا» خبره، و «الّذي» صفة «ذا» أو بدله. و إقراض اللّه مثل لتقديم العمل الّذي به يطلب ثوابه قَرْضاً حَسَناً إقراضا مقرونا بالإخلاص و طيب النفس، أو مقرضا حلالا طيّبا. و قيل: القرض الحسن المجاهدة و الإنفاق في سبيل اللّه فَيُضاعِفَهُ لَهُ فيضاعف جزاءه. أخرجه على سبيل المغالبة للمبالغة، كما مرّ في يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ

ما يَخْدَعُونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ «1».

و قرأ عاصم بالنصب على جواب الاستفهام حملا على المعنى، فإنّ

______________________________

(1) البقرة: 9.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 387

مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ في معنى. أ يقرض اللّه أحد؟ و قرأ ابن كثير: فيضعّفه بالرفع، و ابن عامر و يعقوب بالنصب.

أَضْعافاً كَثِيرَةً لا يعلم كنهها إلّا اللّه، كما

روي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «لمّا نزلت هذه الآية: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها «1» قال رسول اللّه:

ربّ زدني، فأنزل اللّه: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها «2» فقال رسول اللّه:

ربّ زدني، فأنزل اللّه سبحانه: «مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً» و الكثير عند اللّه لا يحصى».

و قيل: هي أنّ الواحد بسبعمائة.

و «أضعافا» جمع ضعف. و نصبه على الحال من الضمير المنصوب، أو المفعول الثاني، لتضمّن المضاعفة معنى التصيير، أو المصدر، على أنّ الضعف اسم مصدر، و جمعه للتنويع.

وَ اللَّهُ يَقْبِضُ وَ يَبْصُطُ يقتّر على بعض و يوسّع على بعض وفق ما اقتضت حكمته، فلا تبخلوا عليه بما وسّع اللّه عليكم كيلا يبدّل حالكم وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيجازيكم على ما قدّمتم.

قال الكلبي في نزول هذه الآية: «إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من تصدّق بصدقة فله مثلها في الجنّة.

فقال أبو الدحداح الأنصاري- و اسمه عمرو بن الدحداح-: يا رسول اللّه إنّ لي حديقتين إن تصدّقت بإحداهما فإنّ لي مثليها في الجنّة؟

قال: نعم.

______________________________

(1) النمل: 89، القصص: 84.

(2) الأنعام: 160. زبدة التفاسير، ج 1، ص: 388

قال: و أمّ الدحداح معي؟

قال: نعم.

قال: و الصبية معي؟ قال: نعم.

قال: فتصدّق بأفضل حديقتيه، فدفعها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فنزلت الآية، فضاعف اللّه له صدقته

ألفي ألف، و ذلك قوله: «أضعافا كثيرة».

فرجع أبو الدحداح، فوجد أم الدحداح و الصبية في الحديقة الّتي جعلها صدقة، فقام على باب الحديقة، و تحرّج أن يدخلها، فنادى: يا أمّ الدّحداح! قالت: لبّيك يا أبا الدحداح.

قال: إنّي قد جعلت حديقتي هذه صدقة، و اشتريت مثليها في الجنّة، و أمّ الدحداح معى، و الصبية معى.

فقالت: بارك اللّه لك فيما شريت و فيما اشتريت. فخرجوا منها و أسلموا الحديقة إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فقال النبيّ: كم نخلة متدلّ عذوقها لأبي الدحداح في الجنّة».

[سورة البقرة (2): الآيات 246 الى 251]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ ابْعَثْ لَنا مَلِكاً نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلاَّ تُقاتِلُوا قالُوا وَ ما لَنا أَلاَّ نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ قَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا وَ أَبْنائِنا فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (246) وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً قالُوا أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ قالَ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ وَ زادَهُ بَسْطَةً فِي الْعِلْمِ وَ الْجِسْمِ وَ اللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (247) وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ فِيهِ سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ بَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (248) فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي إِلاَّ مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ

فَشَرِبُوا مِنْهُ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ قالُوا لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (249) وَ لَمَّا بَرَزُوا لِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا وَ انْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (250)

فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ وَ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ وَ لكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ (251)

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 389

و لمّا قدّم سبحانه ذكر الجهاد عقّبه بقصّة مشهورة في بني إسرائيل تضمّنت

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 390

شرح ما نالهم في قعودهم عنه، تحذيرا من سلوك طريقتهم فيه، فقال: أَ لَمْ تَرَ ألم ينته علمك يا محمد إِلَى الْمَلَإِ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ الملأ جماعة الأشراف من الناس، لأنّ هيبتهم تملأ الصدور، أو لأنّهم باجتماعهم للتشاور يملأون المجلس، و لا واحد له كالقوم. و «من» للتبعيض مِنْ بَعْدِ مُوسى أي: من بعد وفاته. و «من» للابتداء إِذْ قالُوا لِنَبِيٍّ لَهُمُ و هو يوشع أو شمعون أو إشمويل، و هو الأعراف ابْعَثْ لَنا مَلِكاً أنهض للقتال معنا أميرا ننتهي إلى أمره نُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بتدبير أمره في الحرب و صواب رأيه فيه. و جزم «نقاتل» على الجواب.

قالَ هَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ كُتِبَ عَلَيْكُمُ الْقِتالُ أَلَّا تُقاتِلُوا فصّل بين عسى و خبره بالشرط. و المعنى: أتوقّع جبنكم عن القتال إن كتب عليكم. فأدخل «هل» على فعل التوقّع مستفهما عمّا هو متوقّع عنده و مظنون تقريرا و تثبيتا.

قالُوا وَ ما لَنا أَلَّا

نُقاتِلَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أيّ داع لنا إلى ترك القتال، و أيّ غرض لنا يوجبه؟ وَ قَدْ أُخْرِجْنا مِنْ دِيارِنا من أوطاننا وَ أَبْنائِنا و أفردنا عن أولادنا، و ذلك أنّ جالوت و من معه من العمالقة كانوا يسكنون ساحل بحر الروم بين مصر و فلسطين، و غلبوا على بني إسرائيل، فأخذوا ديارهم، و سبوا أولادهم، و أسّروا من أبناء ملوكهم أربعمائة و أربعين.

فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ ثلاثمائة و ثلاثة عشر بعدد أهل بدر وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ وعيد لهم على ظلمهم في ترك الجهاد و القعود عن القتال.

وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ إِنَّ اللَّهَ قَدْ بَعَثَ لَكُمْ طالُوتَ مَلِكاً طالوت اسم أعجميّ، لأنّه علم عبري، كجالوت و داود. و فيه سببان: التعريف و العجميّة. و جعله فعلوتا من الطول- أصله طولوت- تعسّف، لأنّه يدفعه منع صرفه، فهو عجميّ وافق عربيّا،

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 391

كما وافق حنطا حنطة و رخمان رحمانا.

و روي أنّ نبيّهم عليه السّلام لمّا دعا اللّه أن يملكهم أتي بعصا يقاس بها من يملّك عليهم، فلم يساوها إلّا طالوت.

قالُوا إنكارا لتملّكه عليهم أَنَّى يَكُونُ لَهُ الْمُلْكُ عَلَيْنا من أين يكون له ذلك و يستأهل؟ وَ نَحْنُ أَحَقُّ بِالْمُلْكِ مِنْهُ وَ لَمْ يُؤْتَ سَعَةً مِنَ الْمالِ و الحال أنّا أحقّ منه بالملك وراثة و مكنة، و لا بدّ للملك من مال يتقوّى به. و إنّما قالوا ذلك لأنّ طالوت كان فقيرا راعيا أو سقّاء أو دبّاغا من أولاد بنيامين بن يعقوب، و لم يكن من سبط النبوّة و لا من سبط الملك، و إنّما كانت النبوّة في أولاد لاوي بن يعقوب، و الملك في سبط يهوذا، و لم يكن طالوت

من أحد السبطين.

و لمّا استبعدوا تملّكه لفقره و سقوط نسبه قالَ نبيّهم ردّا عليهم أوّلا: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاهُ عَلَيْكُمْ اختاره عليكم، و هو أعلم بالمصالح.

و ثانيا: بأنّ الشرط فيه وفور العلم ليتمكّن به من معرفة الأمور السياسيّة، و جسامة البدن ليكون أعظم خطرا في القلوب، و أقوى على مقاومة العدوّ و مكابدة الحروب، لا ما ذكرتم، فقال: وَ زادَهُ بَسْطَةً سعة و امتدادا فِي الْعِلْمِ بتدابير الحروب و السياسة، و يجوز أن يكون عالما بالديانات و بغيرها. و قيل: قد أوحي إليه و نبّئ. وَ الْجِسْمِ بطول القامة على وجه كان الرجل القائم يمدّ يده فينال رأسه، و بالوجاهة التامّة و كمال الشجاعة، و ذلك أعظم في النفوس، و أهيب في القلوب، و أدخل في الحروب.

و ثالثا: بأنّه مالك الملك على الإطلاق، فقال: وَ اللَّهُ يُؤْتِي مُلْكَهُ مَنْ يَشاءُ وفق الحكمة و المصلحة.

و رابعا: بأنّه واسع الفضل، يوسّع على الفقير و يغنيه، عالم بمن يليق بالملك، فقال: وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ بمن يصطفيه للرئاسة و الملك.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 392

وَ قالَ لَهُمْ نَبِيُّهُمْ بعد أن أقام الحجّة على أحقّية طالوت بالملك إِنَّ آيَةَ مُلْكِهِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ التَّابُوتُ أي: الصندوق. فعلوت من التوب، و هو الرجوع، لأنّه ظرف توضع فيه الأشياء و تودعه، فلا يزال يرجع إليه ما يخرج منه. و ليس بفاعول، لقلّة نحو: سلس و قلق، و لأنّه تركيب غير معروف، فلا يجوز ترك المعروف إليه.

و يريد به صندوق التوراة، و كان من خشب الشمشاد الّذي يتّخذ منه المشط، و مموّها بالذهب نحوا من ثلاثة أذرع في ذراعين.

روي عليّ بن إبراهيم في تفسيره عن أبي جعفر عليه السّلام: «أنّ التابوت كان الّذي أنزله اللّه

على أمّ موسى، فوضعت فيه ابنها و ألقته في البحر، و كان في بني إسرائيل يتبرّكون به، فلمّا حضر موسى الوفاة وضع فيه الألواح و درعه و ما كان عنده من آثار النبوّة، و أودعه إيّاه عند وصيّه يوشع بن نون، فلم يزل التابوت بينهم حتى استخفّوا به، و كان الصبيان يلعبون به في الطرقات، فلم يزل بنو إسرائيل في عزّ و شرف ما دام التابوت عندهم، فلمّا عملوا بالمعاصي و استخفّوا بالتابوت رفعه اللّه عنهم، فلمّا سألوا النبيّ بعث اللّه طالوت عليهم يقاتل معهم، ردّ اللّه عليهم التابوت» «1».

فِيهِ في إتيانه سَكِينَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ سكون لكم و طمأنينة، أو في التابوت، أي: مودع فيه ما تسكنون إليه، و هو التوراة. و كان موسى عليه السّلام إذا قاتل قدّمه، فكانت تسكن نفوس بني إسرائيل و لا يفرّون.

و قيل: هي صورة كانت فيه من زبرجد أو ياقوت، لها جناحان و رأس كرأس الهرّ و ذنب كذنبه، فتئنّ فيزفّ التابوت نحو العدوّ و هم يمضون معه، فإذا استقرّ ثبتوا و سكنوا و نزل النصر.

______________________________

(1) تفسير القمّي 1: 81- 82.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 393

و قيل: صور الأنبياء من آدم إلى محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و

عن عليّ عليه السّلام: كانت فيه ريح هفّافة «1» من الجنّة، لها وجه كوجه الإنسان.

وَ بَقِيَّةٌ مِمَّا تَرَكَ آلُ مُوسى وَ آلُ هارُونَ رضاض «2» الألواح، و عصا موسى، و ثيابه، و عمامة هارون. و آلهما: أبناؤهما أو أنفسهما. و إقحام الآل لتفخيم شأنهما أو أنبياء بني إسرائيل، لأنّهم أبناء عمّهما، و هو عمران بن قاهث بن لاوي بن يعقوب، فكان أولاد يعقوب آلهما. تَحْمِلُهُ الْمَلائِكَةُ روي أنّه سبحانه رفعه

بعد موسى، فنزلت به الملائكة و هم ينظرون إليه، و كان ذلك آية لاصطفاء اللّه طالوت.

و قيل: كان بعد موسى مع أنبيائهم يستفتحون به، حتى أفسدوا فغلبهم الكفّار عليه، و كان في أرض جالوت إلى أن ملّك اللّه طالوت، فأصابهم بلاء حتى هلكت خمس مدائن، فتشاءموا بالتابوت، فوضعوه على ثورين أخرجوهما من بلادهم، فساقتهما الملائكة إلى طالوت.

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ يحتمل أن يكون من تمام كلام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أن يكون ابتداء خطاب من اللّه تعالى.

فَلَمَّا فَصَلَ طالُوتُ بِالْجُنُودِ فصل عن موضع كذا إذا انفصل عنه و جاوزه.

و أصله: فصل نفسه عنه، ثمّ كثر حذف المفعول حتى صار في حكم اللازم. و معناه:

انفصل عن البلد بالجنود لقتال العمالقة، و كانوا ثمانين ألف مقاتل. و قيل: سبعين ألفا.

و روي أنّه قال لهم: لا يخرج معهم إلّا الشابّ النشيط الفارغ، فاجتمع إليه ممّن اختاره ثمانون ألفا، و كان الوقت قيظا «3»، فسلكوا مفازة و سألوا أن يجري اللّه

______________________________

(1) في هامش النسخة الخطّية: «ريح هفّافة: ساكنة طيّبة. منه».

(2) رضاض الشي ء: فتاته و كساره.

(3) القيظ: اشتداد الحرّ.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 394

تعالى لهم نهرا.

قالَ إِنَّ اللَّهَ مُبْتَلِيكُمْ بِنَهَرٍ معاملكم معاملة المختبر بما اقترحتموه فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي فليس من أشياعي و أتباعي وَ مَنْ لَمْ يَطْعَمْهُ فَإِنَّهُ مِنِّي أي: من لم يذقه، من: طعم الشي ء إذا ذاقه مأكولا أو مشروبا. و إنّما علم ذلك بالوحي إن كان نبيّا كما قيل، أو بإخبار النبيّ إِلَّا مَنِ اغْتَرَفَ غُرْفَةً بِيَدِهِ استثناء من قوله: «فَمَنْ شَرِبَ مِنْهُ فَلَيْسَ مِنِّي» و الجملة الثانية في حكم المتأخّرة، إلّا أنّها قدّمت للعناية بها، كما

قدّم «و الصابئون» في قوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصَّابِئُونَ «1» و معناه: الرخصة في اغتراف الغرفة باليد دون الكروع، و الدليل عليه قوله:

فَشَرِبُوا مِنْهُ أي: فكرعوا فيه إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ إذ الأصل في الشرب منه أن لا يكون بوسط. و تعميم الأوّل ليتّصل الاستثناء، أو أفرطوا في الشرب منه إلا قليلا منهم. و القليل كانوا ثلاث مائة و ثلاثة عشر رجلا. و قيل: ثلاثة آلاف. و عن السدّي أربعة آلاف رجل. و نافق ستّة و سبعون ألفا، ثمّ نافق الأربعة الآلاف إلّا ثلاث مائة و بضعة عشر. و قيل: ألفا. روي أنّه من اقتصر على الغرفة كفته لشربه و إداواته «2»، و من لم يقتصر غلب عليه عطشه، و اسودّت شفته، و لم يقدر أن يمضي، و هكذا الدنيا لقاصد الآخرة.

فَلَمَّا جاوَزَهُ هُوَ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ أي: تخطّى النهر طالوت و الّذين آمنوا معه، يعني: القليل الّذين لم يخالفوه قالُوا أي: بعضهم لبعض حين رأوا كثرة عدد جنود جالوت لا طاقَةَ لَنَا الْيَوْمَ بِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ لكثرتهم و قوّتهم.

______________________________

(1) المائدة: 69.

(2) الإداوة: المطهرة.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 395

و جالوت جبّار من العمالقة من أولاد عمليق بن عاد، و كانت بيضته فيها ثلاث مائة رطل. هكذا قال صاحب الكشّاف «1».

قالَ الَّذِينَ يَظُنُّونَ أَنَّهُمْ مُلاقُوا اللَّهِ أي: قال الخلّص منهم الّذين تيقّنوا لقاء اللّه و توقّعوا ثوابه، أو علموا أنّهم يستشهدون عمّا قريب فيلقون اللّه.

و قيل: إنّ الضمير في «قالوا» للكثير الّذين شربوا و انخذلوا، و «الّذين يظنّون» هم القليل الّذين ثبتوا معه و تيقّنوا أنّهم يلقون اللّه.

كَمْ مِنْ فِئَةٍ قَلِيلَةٍ غَلَبَتْ فِئَةً كَثِيرَةً بِإِذْنِ اللَّهِ بحكمه و نصره و تيسيره. و «كم»

تحتمل الخبر و الاستفهام. و «من» مبيّنة أو مزيدة. و الفئة الفرقة من الناس، من:

فأوت رأسه إذا شققته، أو من: فاء إذا رجع، فوزنها فعة أو فلة. وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ بالنصر و الإثابة.

وَ لَمَّا بَرَزُوا ظهروا لِجالُوتَ وَ جُنُودِهِ لمحاربتهم و دنوا منهم قالُوا رَبَّنا أَفْرِغْ صبّب عَلَيْنا صَبْراً وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا أي: وفّقنا للثبوت في مداحض الحرب بتقوية القلوب و إلقاء الرعب في قلوب الأعداء وَ انْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ فيه ترتيب بليغ، إذ سألوا أوّلا إفراغ الصبر في قلوبهم الّذي هو ملاك الأمر، ثمّ ثبات القدم في مزالق الحرب المسبّب عن النصر، ثمّ النصر على القوم المترتّب عليهما غالبا، فاستجاب لهم ربّهم فَهَزَمُوهُمْ بِإِذْنِ اللَّهِ فكسروهم بنصره، أو مصاحبين لنصره إيّاهم إجابة لدعائهم وَ قَتَلَ داوُدُ جالُوتَ

روي أنّ إيشا أبا داود كان في عسكر طالوت مع ستّة من بنيه أو عشرة، و كان داود أصغرهم يرعى الغنم، فأوحى اللّه إلى نبيّهم أنّه الّذي يقتل جالوت فطلبه

______________________________

(1) الكشّاف 1: 296.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 396

من أبيه، فجاء و قد كلّمه في الطريق ثلاثة أحجار، دعاه كلّ واحد منها و قالت له:

إنّك بنا تقتل جالوت، فحملها في مخلاته و رماه بها فقتله، ثمّ زوّجه طالوت بنته.

و

روي عليّ بن إبراهيم عن الصادق عليه السّلام: «أنّ اللّه تعالى أوحى إلى نبيّهم أنّ جالوت يقتله من يستوي عليه درع موسى عليه السّلام، و كان داود شديد البطش شجاعا قويّا في بدنه، فلمّا جاء إلى طالوت ألبسه درع موسى فاستوت عليه، فجاء إلى معركة الجهاد و وقف بحذاء جالوت، و كان جالوت على الفيل، و على رأسه التاج، و في جبهته ياقوتة يلمع نوره، و جنوده بين

يديه، فأخذ داود حجرا من تلك الأحجار الّتي ذكرت، فرمى به في ميمنة جالوت، فوقع عليهم فانهزموا، و أخذ حجرا آخر و رمى به في ميسرة جالوت، فوقع عليهم فانهزموا و رمى بالثالث إلى جالوت فأصابه موضع الياقوتة في جبهته و وصلت إلى دماغه، و وقع في الأرض ميّتا» «1».

وَ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ أعطاه ملك بني إسرائيل في الأرض المقدّسة، و ما اجتمعت بنو إسرائيل على ملك قطّ قبل داود وَ الْحِكْمَةَ النبوّة، و لم يكن نبيّا قبل قتله جالوت وَ عَلَّمَهُ مِمَّا يَشاءُ من أمور الدين و الدنيا، كصنعة الدروع و كلام الطير.

وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ و لو لا أنّه يدفع بعض الناس ببعض، بأن ينصر المسلمين على الكفّار و يكفّ بهم فسادهم لَفَسَدَتِ الْأَرْضُ بشؤمهم و بطلت منافعها، أو لغلب المفسدون و أفسدوا في الأرض.

و قيل: و لولا أنّ اللّه ينصر المسلمين على الكفّار لعمّ الكفر و نزل العذاب، و استؤصل أهل الأرض.

______________________________

(1) تفسير القمّي 1: 82- 83.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 397

و

عن عليّ عليه السّلام و قتادة و جمع من المفسّرين أنّ معناه: يدفع اللّه بالبرّ عن الفاجر الهلاك.

و

مثله ما رواه جميل عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إنّ اللّه يدفع بمن يصلّي من شيعتنا عمّن لا يصلّي منهم، و لو اجتمعوا على ترك الصلاة لهلكوا، و إنّ اللّه ليدفع بمن يزكّي من شيعتنا عمّن لا يزكّي منهم، و لو اجتمعوا على ترك الزكاة لهلكوا، و إنّ اللّه ليدفع بمن يحجّ من شيعتنا عمّن لا يحجّ منهم، و لو اجتمعوا على ترك الحجّ لهلكوا».

و قريب من معناه ما

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه

قال: «لولا عباد للّه ركّع، و صبيان رضّع، و بهائم رتّع، لصبّ عليهم العذاب صبّا».

و

روي جابر بن عبد اللّه قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه ليصلح بصلاح الرجل المسلم ولده و ولد ولده، و أهل دويرته و دويرات حوله، و لا يزالون في حفظ اللّه ما دام فيهم».

و ذلك قوله: وَ لكِنَّ اللَّهَ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْعالَمِينَ ذو تفضّل و نعمة عليهم في الدنيا على العموم و الآخرة على الخصوص.

[سورة البقرة (2): الآيات 252 الى 253]

تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (252) تِلْكَ الرُّسُلُ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ وَ لكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا وَ لكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (253)

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 398

تِلْكَ إشارة إلى القصص الّتي اقتصّها من حديث إماتة الألوف من الناس و إحيائهم، و تمليك طالوت، و نزول التابوت، و انهزام الجبابرة مع شدّة قوّتهم و شوكتهم على يد صبيّ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ دلالات اللّه على قدرته، نقرأها، أي: يقرأها جبرئيل عليك بأمرنا بِالْحَقِ بالوجه المطابق الّذي لا يشكّ فيه أهل الكتاب و أرباب التواريخ وَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ لما أخبرت بها من غير استماع و تعرّف بقراءة و كتابة.

تِلْكَ الرُّسُلُ إشارة إلى الجماعة المذكورة قصصها في السورة، أو الجماعة المعلومة للرسول فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ بأن خصصناه بمنقبة ليست لغيره.

ثمّ فصّل ذلك التفضيل بقوله: مِنْهُمْ مَنْ كَلَّمَ اللَّهُ من غير

سفير و هو موسى.

و قيل: موسى و محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، كلّم موسى ليلة الحيرة و في الطور، و محمّدا ليلة المعراج حين كان قاب قوسين أو أدنى، و بينهما بون بعيد.

وَ رَفَعَ بَعْضَهُمْ دَرَجاتٍ أي: منهم رفعه على سائر الأنبياء، بأن فضّله على غيره من وجوه متعدّدة أو بمراتب متباعدة، و هو محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإنّه خصّ بالدعوة العامّة ببعثه إلى جميع الإنس و الجنّ، و بالحجج المتكاثرة و المعجزات المتصاعدة إلى ثلاثة آلاف، و قيل إلى ألف، و هو الأصحّ، و بالمعجزة القائمة إلى يوم القيامة، و هي القرآن و سائر الآيات المتعاقبة بتعاقب الدهر، و الفضائل العلميّة و العمليّة غير المحصورة. و هذا دليل بيّن أنّ من زيد تفضيلا بالآيات منهم فقد فضّل على غيره، و لمّا كان نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هو الّذي أوتي منها ما لم يؤت أحد في كثرتها و عظمها، كان هذا المشهود له بإحراز قصبات الفضل غير مدافع، اللّهمّ ارزقنا شفاعته يوم الدين.

و في هذا الإبهام من تعظيم شأنه و إعلاء مكانه ما لا يخفى، لأنّ فيه أنّه العلم المشهور المتعيّن لهذا الوصف المستغني عن التعيين، و قد سئل الحطيئة عن أشعر

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 399

الناس، فذكر زهيرا و النابغة قال: و لو شئت لذكرت الثالث، أراد نفسه، و لو قال: و لو شئت لذكرت نفسي لم يفخّم أمره.

و قيل: إبراهيم خصّصه بالخلّة الّتي هي أعلى المراتب. و قيل: إدريس، لقوله تعالى: وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا «1». و قيل: أولوا العزم من الرسل.

وَ آتَيْنا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ الْبَيِّناتِ كإحياء الموتى و إبراء الأكمه و

الأبرص وَ أَيَّدْناهُ بِرُوحِ الْقُدُسِ مرّ «2» تفسيره. خصّ عيسى بالتعيين لإفراط اليهود و النصارى في تحقيره و تعظيمه. و جعل معجزاته سبب تفضيله، لأنّها آيات واضحة و معجزات عظيمة لم يستجمعها غيره.

وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مشيئة إلجاء و قسر مَا اقْتَتَلَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ من بعد الرسل مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ المعجزات الواضحات، لاختلافهم في الدين، و تكفير بعضهم بعضا و تضليلهم، و لم يلجئهم به، لأنّه ينافي التكليف الّذي هو مناط الجزاء وَ لكِنِ اخْتَلَفُوا فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بتوفيقه التزام دين الأنبياء تفضّلا وَ مِنْهُمْ مَنْ كَفَرَ لإعراضه عنه عنادا و إنكارا وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مَا اقْتَتَلُوا كرّره للتأكيد وَ لكِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ من التخلية لعناد عباده، و العصمة لطلب هدايتهم.

[سورة البقرة (2): آية 254]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خُلَّةٌ وَ لا شَفاعَةٌ وَ الْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ (254)

و لمّا قصّ اللّه سبحانه أخبار الأمم السالفة، و ثبت رسالة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و بيّن

______________________________

(1) مريم: 57.

(2) في ص: 186.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 400

زبدة التفاسير ج 1 449

مزيّة مرتبته على سائر الأنبياء، عقّبه بالحثّ على الطاعة، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناكُمْ ما أوجبت عليكم إنفاقه مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ لا تجارة فيه، أي: من قبل أن يأتي يوم لا تقدرون فيه على تدارك ما فرّطتم من الإنفاق و الخلاص من عذابه، إذ لا بيع فيه فتبتاعوا ما تنفقونه أو تفتدون به من العذاب وَ لا خُلَّةٌ صداقة حتّى يسامحكم أخلّاؤكم به أو يعينكم عليه وَ لا شَفاعَةٌ إِلَّا

مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلًا «1» حتى تتّكلوا على شفعاء تشفع لكم في حطّ ما في ذممكم.

فلفظ شفاعة و إن كان عامّا إلّا أنّه يراد به الخاصّ بلا خلاف، و لقوله تعالى:

وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى «2» و مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ «3»، و لأنّ الأمّة أجمعت على إثبات الشفاعة يوم القيامة.

و إنّما رفعت الثلاثة مع قصد التعميم لأنّها في التقدير جواب: هل فيه بيع أو خلّة أو شفاعة؟ و قد فتحها ابن كثير و يعقوب و أبو عمرو على الأصل.

وَ الْكافِرُونَ هُمُ الظَّالِمُونَ يريد: و التاركون للزكاة هم الّذين ظلموا أنفسهم، أو وضعوا المال في غير موضعه، و صرفوه على غير وجهه، فوضع الكافرون موضعه تغليظا و تهديدا، كقوله: وَ مَنْ كَفَرَ «4» مكان: من لم يحجّ، و إيذانا بأنّ ترك الزكاة من صفات الكفّار، كقوله: وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ* الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ «5».

______________________________

(1) طه: 109.

(2) الأنبياء: 28.

(3) البقرة: 255.

(4) آل عمران: 97.

(5) فصّلت: 6- 7.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 401

[سورة البقرة (2): الآيات 255 الى 257]

اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ وَ لا نَوْمٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلاَّ بِإِذْنِهِ يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِما شاءَ وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (255) لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِّ فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لا انْفِصامَ لَها وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (256) اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا

أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ إِلَى الظُّلُماتِ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (257)

و لمّا قدّم سبحانه ذكر الأمم و اختلافهم على أنبيائهم في التوحيد و غيره، عقّبه بذكر التوحيد، فقال: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ مبتدأ و خبر و المعنى: أنّه المستحقّ للعبادة لا غير. و للنحاة خلاف في أنّه هل يضمر ل «لا» خبر مثل: في الوجود، أو يصحّ أن يوجد، أو لا؟ الْحَيُ الباقي الّذي لا سبيل عليه للفناء. و هو على اصطلاح المتكلّمين: الّذي يصحّ أن يعلم أو يقدر، و كلّ ما يصحّ له فهو واجب لا يزول، لامتناعه عن القوّة و الإمكان الْقَيُّومُ الدائم القيام بتدبير الخلق و حفظه.

فيعول من: قام بالأمر إذا حفظه لا تَأْخُذُهُ سِنَةٌ و هو ما يتقدّم النوم من الفتور

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 402

الّذي يسمّى النعاس وَ لا نَوْمٌ و هو حال تعرض للحيوان من استرخاء أعصاب الدماغ من رطوبات الأبخرة المتصاعدة، بحيث تقف الحواسّ الظاهرة عن الاحساس رأسا. و تقديم السنة عليه، و قياس المبالغة عكسه، بناء على ترتيب الوجود.

قال فخر الدين الجاربردي «1»: «و يرد في خاطري أنّه قدّم السنة على النوم لأنّه- و اللّه أعلم- لا يذهب الوهم إلى جواز النوم عليه، و يدلّ صريح العقل على امتناعه، لكن يمكن أن يتوهّم جواز السنة فنفاها، ثمّ ذكر النوم كالتتمّة للكلام.

و بالجملة، ذكر السنة أهمّ فقدّمها» انتهى كلامه.

أقول: و يؤيّد هذا القول ما زعمت اليهود أنّ اللّه يعرض له التعب و اللغوب و الفتور من خلق السماوات و الأرض، فلمّا فرغ من خلقهما يوم الجمعة يستريح يوم السبت.

و الجملة نفي للتشبيه، و تأكيد لكونه حيّا قيّوما، فإنّ من أخذه نعاس أو نوم كان مؤف

الحياة قاصرا في الحفظ و التدبير، و لذلك ترك العاطف فيه، و كذا في الجملة الّتي بعده، و هي: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ فإنّه تقرير لقيموميّته، و احتجاج على تفرّده في الألوهيّة. و المراد بما فيهما: ما وجد فيهما داخلا في حقيقتهما، أو خارجا عنهما متمكّنا فيهما. فهو أبلغ من قوله: له السموات و الأرض و ما فيهنّ.

روي: «أن موسى سأل الملائكة- و كان ذلك من قوله كطلب الرؤية-: أ ينام ربّنا؟ فأوحى اللّه إليهم أن يوقظوه ثلاثا و لا يتركوه ينام، ثمّ قال: خذ بيدك قارورتين مملوءتين، فأخذهما، و ألقى اللّه عليه النعاس فضرب إحداهما على

______________________________

(1) هو أحمد بن الحسين الشافعي، نزيل تبريز، من فضلاء تلامذة القاضي البيضاوي، له:

شرح الشافية، و شرح منهاج أستاذه ... توفّي بتبريز سنة 742. الكنى و الألقاب 2: 122.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 403

الأخرى فانكسرتا، ثمّ أوحى إليه: قل لهؤلاء: إنّي أمسك السموات و الأرض بقدرتي، فلو أخذني نوم أو نعاس لزالتا».

مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ «من» استفهاميّة مرفوعة الموضوع بالابتداء، و «ذا» خبره، و «الذي» صفة «ذا» أو بدله. و معنى الاستفهام الإنكار و النفي.

و هذا بيان لكبرياء شأنه و ملكوته، و أنّه لا أحد يساويه أو يدانيه، يستقلّ بأن يدفع ما يريده شفاعة و استكانة، فضلا عن أن يعاوقه عنادا أو مناصبة.

و المعنى: أنّه لا يملك أحد أن يتكلّم يوم القيامة في شفاعة الغير إلّا إذا أذن له في الكلام. و هذا زعم المشركين، فإنّهم يزعمون أنّ الأصنام تشفع لهم، فأخبر اللّه تعالى أنّه لا شفاعة عنده إلّا بإذنه و أمره.

يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ الضمير لما في السموات

و الأرض، لأنّ فيهما العقلاء، أو لما دلّ عليه «مَنْ ذَا الَّذِي» من الملائكة و الأنبياء، أي: يعلم ما كان قبلهم و ما يكون بعدهم، و يعلم أحوالهم، و المرتضى فيهم للشفاعة و غير المرتضى.

أو يعلم ما بعدهم و ما قبلهم، عكس الأوّل، لأنّك مستقبل المستقبل مستدبر الماضي. أو يعلم أمور الدنيا و أمور الآخرة، أو عكسه، أو ما يحسّونه و ما يعقلونه، أو ما يدركونه و ما لا يدركونه.

وَ لا يُحِيطُونَ بِشَيْ ءٍ مِنْ عِلْمِهِ من معلوماته إِلَّا بِما شاءَ إلّا بما علم و اطّلع عليه. و الإحاطة بالشي ء علما أن يعلم كما هو في الحقيقة. و عطف ذلك على ما قبله- أعني: قوله: «يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ»- لأنّ مجموعهما يدلّ على تفرّده بالعلم الذاتي الدالّ على وحدانيّته.

وَسِعَ كُرْسِيُّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ هذا تصوير لعظمته و تمثيل مجرّد،

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 404

كقوله: وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ «1»، وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ «2»، و لا كرسيّ في الحقيقة و لا قاعد.

و

روي عن ائمّتنا عليهم السّلام أنّ المراد بالكرسيّ العلم.

فسمّي العلم كرسيّا تسمية بمكانه الّذي هو كرسيّ العالم.

و قال في المجمع «3»: يقال للعلماء: الكراسي، كما يقال: أوتاد الأرض، لأنّهم قوام الدين و الدنيا.

و الكرسيّ في الأصل اسم لما يقعد عليه و لا يفضل عن مقعد القاعد، و كأنّه منسوب إلى الكرس «4»، و هو الملبّد. و قيل: كرسيّه ملكه، تسمية لمكانه الّذي هو كرسيّ الملك. و قيل: الكرسيّ سرير دون العرش دونه السموات و الأرض. و يؤيّده ما ورد في الحديث: ما السموات السبع و الأرضون السبع عند الكرسي إلّا كحلقة في فلاة، و ما الكرسيّ عند العرش

إلّا كحلقة في فلاة.

و

روي الأصبغ بن نباتة أنّ عليّا عليه السّلام قال: «السماوات و الأرض و ما فيهما من مخلوق في جوف الكرسي، و له أربعة أملاك يحملونه بإذن اللّه. ملك منهم في صورة الآدميّين، و هي أكرم الصور على اللّه، و هو يدعو اللّه و يتضرّع إليه، و يطلب الشفاعة و الرزق لبني آدم. و الملك الثاني في صورة الثور، و هو سيّد البهائم، و هو يدعو اللّه و يتضرّع إليه، و يطلب الشفاعة و الرزق للبهائم. و الملك الثالث في صورة النسر، و هو سيّد الطيور، و هو يدعو اللّه و يتضرّع إليه، و يطلب الشفاعة و الرزق لجميع الطيور. و الملك الرابع في صورة الأسد، و هو سيّد السباع، و هو يدعو اللّه

______________________________

(1) الأنعام: 91.

(2) الزمر: 67.

(3) مجمع البيان 1: 362.

(4) الكرس: الطّين المتلبّد، أي: الملتزق بعضه ببعض. زبدة التفاسير، ج 1، ص: 405

و يتضرّع إليه، و يطلب الشفاعة و الرزق لجميع السباع».

وَ لا يَؤُدُهُ من الأود، و هو الاعوجاج. و معناه: لا يشقّ على اللّه و لا يثقله.

حِفْظُهُما أي: حفظ السماوات و الأرض، فحذف الفاعل و أضاف المصدر إلى المفعول به وَ هُوَ الْعَلِيُ عليّ الشأن، المتعالي عن الأنداد و الأشباه الْعَظِيمُ عظيم الملك بحيث يستحقر بالاضافة إليه كلّ ما سواه.

قال في الأنوار: «هذه الآية مشتملة على امّهات المسائل الإلهيّة، فإنّها دالّة على أنّه تعالى موجود واحد في الإلهيّة، متّصف بالحياة الذاتيّة، واجب الوجود لذاته، موجد لغيره، إذ القيّوم هو القائم بنفسه المقيم لغيره، منزّه عن التحيّز و الحلول، مبرّأ عن التغيّر و الفتور، لا يناسب الأشباح، و لا يعتريه ما يعتري الأرواح، مالك الملك و الملكوت، مبدع الأصول و الفروع،

ذو البطش الشديد الّذي لا يشفع عنده إلّا من أذن له، عالم الأشياء كلّها، جليّها و خفيّها، كلّيها و جزئيّها، واسع الملك و القدرة على كلّ ما يصحّ أن يملك و يقدر عليه، لا يؤده شاقّ، و لا يشغله شأن، متعال عمّا يدركه و هم، عظيم لا يحيط به فهم، و لذلك

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ أعظم آية في القرآن آية الكرسي، من قرأ بعث اللّه تعالى ملكا يكتب من حسناته و يمحو من سيّئاته إلى الغد من تلك الساعة» «1».

و

قال عليّ عليه السّلام: «سمعت نبيّكم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على أعواد المنبر و هو يقول: من قرأ آية الكرسيّ في دبر كلّ صلاة مكتوبة لم يمنعه من دخول الجنّة إلّا الموت، و لا يواظب عليها إلّا صدّيق أو عابد، و من قرأها إذا أخذ مضجعه آمنه اللّه على نفسه و جاره و جار جاره، و الأبيات حوله».

و

في المدارك: «قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من قرأ آية الكرسي عند منامه بعت إليه ملك يحرسه حتى يصبح».

و

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأ هاتين الآيتين حين يمسي حفظ بهما

______________________________

(1) أنوار التنزيل 1: 259. زبدة التفاسير، ج 1، ص: 406

حتى يصبح، و من قرأهما حين يصبح حفظ بهما حتى يمسي: آية الكرسي، و أوّل حم (المؤمن) إلى قوله: إليه المصير» «1».

و

في الكشّاف: «قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما قرأت هذه الآية في دار إلّا اهتجرتها «2» الشياطين ثلاثين يوما، و لا يدخل ساحر و لا ساحرة أربعين ليلة. يا عليّ علّمها ولدك و أهلك و جيرانك، فما نزلت آية أعظم منها»

«3».

و

روي: «أنّ الصحابة تذاكروا في أفضل ما في القرآن، فقال لهم عليّ عليه السّلام: أين أنتم من آية الكرسيّ؟ ثمّ قال: قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا عليّ، سيّد البشر آدم، و سيّد العرب محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا فخر، و سيّد الفرس سلمان، و سيّد الروم صهيب، و سيّد الحبشة بلال، و سيّد الجبال الطور، و سيّد الشجر السدر، و سيّد الشهور الأشهر الحرم، و سيّد الأيّام يوم الجمعة، و سيّد الكلام القرآن، و سيّد القرآن البقرة، و سيّد البقرة آية الكرسي» «4».

و

في المصابيح: «قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من قرأ حم (المؤمن) إلى قوله: و إليه المصير، و آية الكرسي حين يصبح، حفظ بهما حتى يمسي، و من قرأهما حين يمسي حفظ بهما حتى يصبح» «5».

و

في الوسيط: «عن جابر بن عبد اللّه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من قرأ آية الكرسي في دبر كلّ صلاة خرقت سبع سماوات، فلم يلتئم خرقها حتى ينظر اللّه إلى قائلها فيغفر له، ثمّ يبعث اللّه إليه ملكا فيكتب حسناته و يمحو سيّئاته إلى الغد من

______________________________

(1) مدارك التنزيل و حقائق التأويل المطبوع بهامش تفسير الخازن 1: 181.

(2) في هامش النسخة الخطّية: «يقال: هجر الشي ء إذا كان الفاعل مفردا، و اهتجر الناس إذا كان الفاعل مجموعا. منه».

(3) تفسير الكشّاف 1: 302.

(4) كنز العمّال 2: 302 ح 4060.

(5) مصابيح السنّة 2: 120 ح 1544. زبدة التفاسير، ج 1، ص: 407

تلك الساعة» «1».

و

في كنز الأخبار «2» عن أنس بن مالك قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

إذا قرأ المؤمن آية الكرسي و جعل ثوابها لأهل القبور، أدخل اللّه تعالى في قبر كلّ ميّت من المشرق إلى المغرب أربعين نورا، و وسّع اللّه عليها قبورهم، و رفع لكلّ ميّت درجة، و يرفع للقارى ء ثواب ستّين نبيّا، و خلق اللّه من كلّ حرف منها ملكا يسبّح له إلى يوم القيامة».

و

في المجمع «3» عن أبيّ بن كعب قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا أبا المنذر أيّ آية في كتاب اللّه أعظم؟ قلت: اللّه لا إله إلّا هو الحيّ القيّوم، قال: فضرب في صدري ثمّ قال: ليهنئك العلم، و الّذي نفس محمد بيده إنّ لهذه الآية لسانا و شفتين، تقدّس الملك عند ساق العرش».

و

روي الثعلبي بإسناده عن ابن عمر قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من قرأ آية الكرسيّ دبر كلّ صلاة مكتوبة كان الّذي يتولّى قبض نفسه ذو الجلال و الإكرام، و كان كمن قاتل مع أنبياء اللّه حتى استشهد.

و

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعلي عليه السّلام: يا عليّ إنّ في آية الكرسيّ لخمسين كلمة في كلّ كلمة خمسون بركة.

و

روي عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام قال: من قرأ آية الكرسي مرّة صرف اللّه عنه ألف مكروه من مكاره الدنيا، و ألف مكروه من مكاره الآخرة، أيسر مكروه الدنيا الفقر، و أيسر مكروه الآخرة عذاب القبر.

______________________________

(1) الوسيط في تفسير القرآن المجيد 1: 366.

(2) هذا الكتاب لم يطبع إلى الآن، و في منهج الصادقين (2: 95)- و هو تفسير للقرآن باللغة الفارسيّة للمؤلّف-: أن كتاب كنز الأخبار من الكتب المعتبرة في أحاديث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

(3) مجمع البيان

1: 360.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 408

و

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنّ لكلّ شي ء ذروة، و ذروة القرآن آية الكرسي» «1».

و لمّا ذكر سبحانه اختلاف الأمم و أنّه لو شاء لأكرههم على الدين، ثمّ بيّن دين الحقّ و هو التوحيد، عقّبه بأنّ الحقّ قد ظهر و العبد قد خيّر، فقال: لا إِكْراهَ فِي الدِّينِ يعني: لم يجر اللّه أمر الإيمان على القسر و الإجبار، بل على التمكين و الاختيار، فأمور الدين جارية على التمكّن و الاختيار، لا على القسر و الإجبار.

و نحوه وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ «2» أي: لو شاء لأجبرهم على الإيمان، لكنّه لم يفعل، و بنى الأمر على الاختيار. و قيل: هو بمعنى النهي، أي: لا تكرهوا في الدين.

ثمّ قالوا: هو منسوخ بآية السيف، و هو قوله تعالى: جاهِدِ الْكُفَّارَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ «3». و قيل: مخصوص بأهل الكتاب إذا أدّوا الجزية، لما روي أنّ أنصاريّا كان له ابنان تنصّرا قبل المبعث، ثمّ قدما المدينة فلزمهما أبوهما و قال: و اللّه لا أدعكما حتى تسلما، فأبيا، فاختصموا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال الأنصاري: يا رسول اللّه أ يدخل بعضي النار و أنا أنظر إليه فنزلت، فخلّاهما.

قَدْ تَبَيَّنَ الرُّشْدُ مِنَ الْغَيِ قد تميّز الإيمان من الكفر بالآيات النيّرة و الأدلّة الواضحة، و دلّت الدلائل على أنّ الإيمان رشد يوصل إلى السعادة الأبديّة، و الكفر غيّ يؤدّي إلى الشقاوة السرمديّة، و العاقل متى تبيّن له ذلك بادرت نفسه إلى الإيمان طلبا للفوز بالسعادة و النجاة، و لم يحتج إلى الإكراه و الإلجاء.

فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ

بالشيطان أو الأصنام، أو كلّ ما عبد من دون اللّه أو صدّ عن عبادة اللّه. فعلوت من الطغيان، قلبت عينه و لامه، يستوي فيه الجمع

______________________________

(1) مجمع البيان 1: 360- 361.

(2) يونس: 99.

(3) التوبة: 73.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 409

و الواحد، و المذكّر و المؤنّث. وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ بالتوحيد و تصديق الرسل كلّهم فَقَدِ اسْتَمْسَكَ طلب الإمساك من نفسه بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى تأنيث الأوثق، يعني:

بالعصمة الوثيقة المحكمة التي هي أشدّ من الحبل الوثيق المحكم المأمون لَا انْفِصامَ لَها لا انقطاع لها، يقال: فصمته فانفصم إذا كسرته فانكسر، أي: عقد لنفسه عقدا وثيقا لا يحلّه شبهة، يعني: كما لا ينقطع من تمسّك بالعروة الوثقى، كذلك لا ينقطع أمر من تمسّك بالإيمان بعروض شبهة. و هذا تمثيل لما يعلم بالنظر و الاستدلال- من حقّية الدين- بالمشاهد المحسوس الّذي ينظر إليه عيانا، حتى يتصوّره السامع كأنّه ينظر إليه بعينه، فيحكم اعتقاده و اليقين به وَ اللَّهُ سَمِيعٌ بالأقوال عَلِيمٌ بالنيّات. و لعلّه تهديد على النفاق.

و لمّا ذكر سبحانه المؤمن و الكافر بيّن وليّ كلّ واحد منهما بقوله: اللَّهُ وَلِيُّ الَّذِينَ آمَنُوا محبّهم أو متولّي أمرهم و معينهم و نصيرهم في كلّ ما بهم إليه الحاجة، و ما فيه لهم الصلاح من أمور دينهم و دنياهم و آخرتهم. و معنى «آمنوا»: أرادوا أن يؤمنوا يُخْرِجُهُمْ بهدايته و توفيقه و لطفه بنصب الأدلّة لهم و إزاحة العلّة عنهم مِنَ الظُّلُماتِ ظلمات الكفر و الضلالة، و اتّباع الهوى و قبول الوساوس و الشبه المؤدّية إلى الكفر إِلَى النُّورِ أي: نور الهدى الموصل إلى الإيمان. و الجملة الفعليّة خبر بعد خبر، أو حال من المستكن في الخبر، أو من الموصول أو منهما، أو استئناف

مبيّن أو مقرّر للولاية.

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا صمّموا على الكفر أَوْلِياؤُهُمُ الطَّاغُوتُ أي: الشياطين، أو المضلّات من الهوى و الشيطان و غيرهما، أي: يتولّون أمورهم يُخْرِجُونَهُمْ مِنَ النُّورِ من نور الأدلّة البيّنة الموصولة إلى الإيمان إِلَى الظُّلُماتِ ظلمات الشرك و الانهماك في الشهوات، أو من نور اليقين إلى ظلمات الشبهات أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ وعيد و تهديد و تحذير، و لعلّ عدم مقابلته بوعد المؤمنين تعظيم لشأنهم.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 410

[سورة البقرة (2): الآيات 258 الى 259]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ قالَ أَنَا أُحْيِي وَ أُمِيتُ قالَ إِبْراهِيمُ فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (258) أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ ثُمَّ بَعَثَهُ قالَ كَمْ لَبِثْتَ قالَ لَبِثْتُ يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَ شَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ وَ انْظُرْ إِلى حِمارِكَ وَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ وَ انْظُرْ إِلَى الْعِظامِ كَيْفَ نُنْشِزُها ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (259)

و لمّا بيّن سبحانه أنّه وليّ المؤمنين، و أنّ الكفّار لا وليّ لهم سوى الطاغوت، تسلية لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قصّ عليه بعده بيان نصح إبراهيم و تمرّد نمرود، و عدم قبوله النصح، لتوغّله في الشرك، و انهماكه في الكفر، فقال: أَ لَمْ تَرَ يا محمّد أي: ألم ينته علمك و رؤيتك إِلَى الَّذِي حَاجَّ إِبْراهِيمَ فِي رَبِّهِ أي:

إلى من كان كالّذي حاجّ إبراهيم في ربّه الّذي يدعو إلى توحيده و عبادته. فكأنّه قال: هل رأيت كالّذي حاجّ- أي: خاصم و جادل- إبراهيم، و هو نمرود بن كنعان، و هو أوّل من تجبّر و ادّعى الربوبيّة، و في هذا تعجيب من محاجّته و حماقته أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ لأن آتاه، أي:

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 411

أبطره إيتاء الملك و حمله على المحاجّة، أو حاجّ لأجله شكرا له على طريقة العكس، كقولك: عاديتني لأنّي أحسنت إليك، أو وقت أن آتاه اللّه الملك.

و معنى آتاه الملك: أنّه آتاه ما غلب به و تملّك من الأموال من الخدم و كثرة الأتباع. فأمّا إيتاء الملك بمعنى تمليك الأمر و النهي و تدبير أمور الناس و إيجاب الطاعة على الخلق، فلا يجوز أن يؤتيه اللّه إلّا من يعلم أنّه يدعو إلى الصلاح و السداد و الرشاد، دون من يدعو إلى الكفر و الفساد، لأنّ هذا قبيح و اللّه سبحانه منزّه عن فعل القبيح. فيبطل قول صاحب الأنوار «1» في تفسيره: إنّ قوله: «أَنْ آتاهُ اللَّهُ الْمُلْكَ» حجّة على المعتزلة بمنع إيتاء الملك الكافر.

إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ ظرف ل «حاجّ» أو بدل من «آتاه» على تقدير: وقت أن آتاه اللّه رَبِّيَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ بخلق الحياة و الموت في الأجساد. و قرأ حمزة:

ربّ بحذف الياء تخفيفا قالَ أَنَا أُحْيِي بالعفو عن القتل وَ أُمِيتُ بالقتل.

قالَ إِبْراهِيمُ إعراضا عن الاعتراض على معارضته الفاسدة إلى الاحتجاج بما لا يقدر فيه نمرود على نحو هذا التمويه، دفعا للمشاغبة. و هو في الحقيقة عدول عن مثال خفيّ إلى مثال جليّ من مقدوراته الّتي يعجز عن الإتيان بها غيره، لا عن حجّة إلى حجّة أخرى،

فقال: فَإِنَّ اللَّهَ يَأْتِي بِالشَّمْسِ مِنَ الْمَشْرِقِ فَأْتِ بِها مِنَ الْمَغْرِبِ

و قيل: لمّا كسر إبراهيم الأصنام سجنه أيّاما ثم أخرجه ليحرقه، فقال له: من ربّك الّذي تدعو إليه؟! و حاجّه فيه.

و

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ إبراهيم عليه السّلام قال له: فأحي من قتلته إن كنت صادقا، بعد قوله: أنا أحيي و أميت، ثمّ استظهر عليه بما قاله ثانيا».

فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ فصار مبهوتا ملزما وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الّذين

______________________________

(1) أنوار التنزيل 1: 260.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 412

ظلموا أنفسهم بالامتناع عن قبول الهداية. و قيل: لا يهديهم محجّة الاحتجاج، أو سبيل النجاة، أو طريق الجنّة يوم القيامة.

أَوْ كَالَّذِي مَرَّ عَلى قَرْيَةٍ تقديره: أو أ رأيت مثل الّذي، فحذف لدلالة «ألم تر» عليه، لأنّ كلتيهما كلمة تعجيب. و تخصيصه بحرف التشبيه، لأنّ المنكر للإحياء كثير، و الجاهل بكيفيّته أكثر من أن يحصى، بخلاف مدّعي الربوبيّة. و يجوز أن يحمل على المعنى دون اللفظ، كأنّه قيل: أ رأيت كالّذي حاجّ إبراهيم أو كالذي مرّ على قرية. و قيل: الكاف مزيدة، و تقدير الكلام: ألم تر إلى الّذي حاجّ أو الّذي مرّ.

و

هو عزير بن شرحيا على الرواية المأثورة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،

و عليه قتادة و عكرمة و السدّي. و قيل:

أرميا. و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

و قيل: الخضر، أراد أن يعاين إحياء الموتى ليزداد بصيرة كما طلبه إبراهيم. و قيل: كان المارّ كافرا بالبعث. و يؤيّده نظمه مع نمرود، و لكلمة الاستبعاد الّتي هي: أنّى يحيي؟

و القرية بيت المقدس حين خرّبه بختنصّر. و قيل: القرية الّتي خرج منها الألوف. و قيل: غيرهما. و اشتقاقها من القري، و هو الجمع.

وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى

عُرُوشِها خالية ساقطة حيطانها على سقوفها، أي:

كانت سقوفها سقطت أوّلا ثمّ وقع البنيان عليها قالَ أَنَّى يُحْيِي هذِهِ اللَّهُ بَعْدَ مَوْتِها اعترافا بالقصور عن معرفة طريق الإحياء، و استعظاما لقدرة المحيي إن كان القائل مؤمنا، و استبعادا إن كان كافرا. و «أنّى» في موضع نصب على الظرف بمعنى متى، أو على الحال بمعنى كيف. و معناه: أنّى أو كيف يعمر اللّه هذه القرية؟ فأطلق لفظ القرية و أراد أهلها.

فَأَماتَهُ اللَّهُ مِائَةَ عامٍ فألبثه ميّتا مائة عام، أو أماته فلبث ميّتا مائة عام ثُمَّ بَعَثَهُ بالإحياء. قيل: إنّه مات ضحى، و بعث بعد مائة سنة قبل غيبوبة الشمس.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 413

قالَ كَمْ لَبِثْتَ القائل هو اللّه تعالى، بأن خلق الصوت في الهواء، فسمع نداء في السماء. و ساغ أن يكلّمه و إن كان كافرا، لأنّه آمن بعد البعث أو شارف الإيمان. و قيل: ملك أو نبيّ.

قالَ قبل النظر إلى الشمس لَبِثْتُ يَوْماً ثمّ التفت فرأي بقيّة من الشمس فقال: أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ على الإضراب. و قيل: يقول هذا في الجواب كقول الظّان.

قالَ بَلْ لَبِثْتَ مِائَةَ عامٍ فَانْظُرْ إِلى طَعامِكَ وَ شَرابِكَ لَمْ يَتَسَنَّهْ لم تغيّره السنون، فإنّ الشي ء يتغيّر بمرور الزمان عليه. و اشتقاقه من السنة. و الهاء أصليّة إن قدّرت لام السنة هاء، و هاء سكت إن قدّرت واوا، و اشتقاقه من السنّوة. و قيل:

أصله لم يتسنّن، من الحمأ المسنون، فأبدلت النون الثالثة حرف علّة، ك: «تقضّى البازي»، أي: تقضّض. و إنّما أفرد الضمير لأنّ الطعام و الشراب كالجنس الواحد.

و روي أنّ طعامه كان تينا و عنبا، و شرابه عصيرا و لبنا، فوجد التين و العنب كما جنيا، و الشراب على حاله.

وَ انْظُرْ إِلى

حِمارِكَ كيف تفرّقت عظامه. و كان له حمار قد ربطه. و يجوز أن يكون المراد: انظر إليه سالما في مكانه كما ربطته حفظناه بلا ماء و علف، كما حفظنا الطعام و الشراب من التغيّر، و ذلك من أعظم الآيات. و الأوّل أدلّ على الحال، و أوفق لما بعده. وَ لِنَجْعَلَكَ آيَةً لِلنَّاسِ أي: و فعلنا ذلك لنجعلك آية للنّاس.

يريد: إحياءه بعد الموت، و حفظ طعامه و شرابه.

روي أنّه أتى قومه راكبا على حماره و قال: أنا عزير، فكذّبوه، فقرأ التوراة من الحفظ- و لم يحفظها أحد قبله- و هم ينظرون في الكتاب، فكانت قراءته موافقة لما في الكتاب حرفا بحرف، فقالوا: هو ابن اللّه.

و قيل: لمّا رجع إلى منزله كان شابّا و أولاده شيوخا، فإذا حدّثهم بحديث

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 414

قالوا: حديث مائة سنة.

روي عن عليّ عليه السّلام: «أن عزيرا خرج من أهله و امرأته حامل و له خمسون سنة، فأماته اللّه مائة سنة ثمّ بعثه، فرجع إلى أهله ابن خمسين، و له ابن له مائة سنة، فكان ابنه أكبر منه، فذلك من آيات اللّه».

وَ انْظُرْ إِلَى الْعِظامِ هي عظام الحمار، أو عظام الموتى الّذين تعجّبت من إحيائهم كَيْفَ نُنْشِزُها كيف نحرّكها و نرفعها من الأرض، فنردّها إلى أماكنها، و نركّب بعضها على بعض. و «كيف» منصوب ب «ننشزها»، و الجملة حال من العظام، أي: انظر إليها محياة. و قرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو و يعقوب: ننشرها، بالراء المهملة، من: أنشر اللّه الموتى، أي: كيف نحييها.

ثُمَّ نَكْسُوها لَحْماً فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ فاعل «تبيّن» مضمر يفسّره ما بعده، تقديره: فلمّا تبيّن له أنّ اللّه على كلّ شي ء قدير قالَ أَعْلَمُ أَنَّ اللَّهَ

عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فحذف الأوّل لدلالة الثاني عليه، أو يفسّره ما قبله، أي: فلمّا تبيّن له ما أشكل عليه. و قرأ حمزة و الكسائي: «قال اعلم» على الأمر، و الآمر مخاطبه أو هو نفسه، خاطبها به على طريق التبكيت.

[سورة البقرة (2): آية 260]

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قالَ بَلى وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ ثُمَّ اجْعَلْ عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثُمَّ ادْعُهُنَّ يَأْتِينَكَ سَعْياً وَ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (260)

ثمّ ذكر سبحانه ما أراه إبراهيم عليه السّلام عيانا من إحياء الموتى، فقال: وَ إِذْ قالَ

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 415

إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي بصّرني كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى إنّما سأل ذلك ليصير علمه عيانا.

و قيل: لمّا قال نمرود: أنا أحيي و أميت، قال له: إنّ إحياء اللّه بردّ الروح إلى بدنها، فقال نمرود: هل عاينته؟ فلم يقدر أن يقول: نعم، و انتقل إلى تقرير آخر، ثمّ سأل ربّه أن يريه ليطمئنّ قلبه على الجواب إن سئل عنه مرّة أخرى.

و

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنّه رأي جيفة تمزّقها السباع، فيأكل منها سباع البرّ و سباع الهواء و دوابّ البحر، فسأل اللّه تعالى فقال: يا ربّ قد علمت أنّك تجمعها من بطون السباع و الطير و دوابّ البحر، فأرني كيف تحييها لأعاين ذلك».

قالَ أَ وَ لَمْ تُؤْمِنْ بأنّي قادر على الإحياء بإعادة التركيب و الحياة. قال له ذلك و قد علم أنّه أغرق النّاس في الإيمان ليجيب بما أجاب به، فيعلم السامعون غرضه. و الهمزة للتقرير. قالَ بَلى إيجاب بعد النفي، معناه: بلى آمنت وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي أي: و لكن سألت ذلك

لأزيد طمأنينة و سكونا، بمضامّة العلم الضروري العلم الاستدلالي، و تظاهر الأدلّة أزيد للبصيرة و اليقين. فأراد بطمأنينة القلب العلم الضروري الّذي لا مجال فيه للشكّ. و اللام تعلّقت بمحذوف، تقديره:

سألت ذلك ليطمئنّ قلبي.

قالَ فَخُذْ أَرْبَعَةً مِنَ الطَّيْرِ طاووسا و ديكا و غرابا و حمامة. و منهم من ذكر النسر بدل الحمامة. و فيه إيماء إلى أنّ إحياء النفس بالحياة الأبديّة إنّما يتأتّى بإماتة حبّ الشهوات و الزخارف الّذي هو صفة الطاووس، و الصولة المشهور بها الديك، و خسّة النفس و بعد الأمل المتّصف بهما الغراب، و الترفع و المسارعة إلى الهوى الموسوم بهما الحمامة. و إنّما خصّ الطير لأنّه أقرب إلى الإنسان، و أجمع لخواصّ الحيوان. و الطير مصدر سمّي به، أو جمع كصحب.

فَصُرْهُنَّ إِلَيْكَ فأملهنّ و اضممهنّ إليك لتتأمّلها و تعرف شأنها، لئلّا تلتبس عليك بعد الإحياء. و قرأ حمزة و يعقوب: فصرهنّ بالكسر. و هما لغتان. ثُمَّ اجْعَلْ

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 416

عَلى كُلِّ جَبَلٍ مِنْهُنَّ جُزْءاً ثمّ جزّأهنّ و فرّق أجزاءهنّ على الجبال الّتي بحضرتك.

قيل: كانت أربعة، و قيل: سبعة، و قيل: عشرة ثُمَّ ادْعُهُنَ قل لهنّ: تعالين بإذن اللّه تعالى يَأْتِينَكَ سَعْياً ساعيات مسرعات في طيرانهنّ أو في مشيهنّ على أرجلهنّ.

روي أنّه أمر بأن يذبحها و ينتف ريشها و يقطعها و يفرّق أجزاءها، و يخلط ريشها و دماءها و لحومها، و أن يمسك رؤوسها، ثمّ أمر بأن يجعلها بأجزائها على الجبال، على كلّ جبل ربعا أو سبعا أو عشرا من كلّ طائر، ثمّ يصيح بها: تعالين بإذن اللّه، فجعل كلّ جزء من الريش و العظم و اللحم يطير إلى الآخر حتى صارت جثثا، ثمّ أقبلن فانضممن إلى رءوسهنّ، كلّ جثّة

إلى رأسها، و قرئ: جزءا، بضمّتين.

وَ اعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يعجز عمّا يريده حَكِيمٌ ذو حكمة بالغة في كلّ ما يفعله. و كفى ذلك شاهدا على فضل إبراهيم، و يمن الضراعة في الدعاء، و حسن الأدب في السؤال، أنّه تعالى أراه ما أراد أن يريه في الحال على أيسر الوجوه، و أراه عزيرا بعد أن أماته مائة عام.

[سورة البقرة (2): الآيات 261 الى 266]

مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ كَمَثَلِ حَبَّةٍ أَنْبَتَتْ سَبْعَ سَنابِلَ فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ مِائَةُ حَبَّةٍ وَ اللَّهُ يُضاعِفُ لِمَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (261) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَ لا أَذىً لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (262) قَوْلٌ مَعْرُوفٌ وَ مَغْفِرَةٌ خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً وَ اللَّهُ غَنِيٌّ حَلِيمٌ (263) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى كَالَّذِي يُنْفِقُ مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ صَفْوانٍ عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ فَتَرَكَهُ صَلْداً لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِمَّا كَسَبُوا وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (264) وَ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَ تَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ أَصابَها وابِلٌ فَآتَتْ أُكُلَها ضِعْفَيْنِ فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌّ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (265)

أَ يَوَدُّ أَحَدُكُمْ أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَ أَصابَهُ الْكِبَرُ وَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ (266)

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 417

و لمّا ذكر آيات قدرته الّتي من جملتها إحياء الموتى،

ليدينهم بما دانوا من الأعمال، بعد ذكر أحكام العبادات البدنيّة من الحجّ و الصوم و الصلاة و الجهاد، بيّن أحكام العبادات الماليّة الّتي من جملتها الإنفاق على المجاهدين الّذين جاهدوا الكفّار المنكرين لنبوّة الأنبياء و إحياء الموتى، فقال: مَثَلُ الَّذِينَ أي: مثل نفقة الّذين يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ و هو الجهاد و غيره من أبواب البرّ كلّها. و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام. و اختاره أبو علي الجبائي. و قيل: هي خاصّة بالإنفاق

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 418

في الجهاد، و أمّا غيره من الطاعات فإنّما يجزى بالواحدة عشرة أمثالها كَمَثَلِ حَبَّةٍ أو مثلهم كمثل باذر حبّة أَنْبَتَتْ أخرجت سَبْعَ سَنابِلَ أسند الإنبات إلى الحبّة لمّا كانت من الأسباب، كما يسند إلى الأرض و الماء، و المنبت على الحقيقة هو اللّه تعالى. و المعنى: أنّه يخرج منها ساق يتشعّب منه سبع شعب فِي كُلِّ سُنْبُلَةٍ منها مِائَةُ حَبَّةٍ. و هذا التمثيل لا يقتضي وقوعه، و قد يكون في الذرة و الدخن، و في البرّ في الأراضي المغلّة. و الغرض منه تصوير مضاعفة الحسنات، كأنّها موضوعة بحذاء العين.

وَ اللَّهُ يُضاعِفُ تلك المضاعفة، أي: يزيد على سبعمائة لِمَنْ يَشاءُ بفضله، و على حسب حال المنفق من إخلاصه و تعبه وَ اللَّهُ واسِعٌ لا يضيق عليه ما يتفضّل به من الزيادة عَلِيمٌ بنيّة المنفق و قدر إنفاقه و استحقاقه الزيادة.

روي: «أنّه لمّا نزلت هذه الآية قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ربّ زد لأمّتي، فنزل قوله: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ أَضْعافاً كَثِيرَةً «1»، فقال:

ربّ زد لأمّتي، فنزل: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ «2»».

و لمّا أمر

سبحانه بالإنفاق عقّبه ببيان كيفيّة الإنفاق، فقال: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ لا يُتْبِعُونَ ما أَنْفَقُوا مَنًّا وَ لا أَذىً المنّ: أن يعتدّ على من أحسن إليه بإحسانه، و يريد أنّه أوجب عليه حقّا له، بأن يقول له: ألم أعطك كذا؟

ألم أحسن إليك؟ ألم أغنك؟ و نحوها. و الأذى: أن يتطاول عليه بسبب ما أنعم عليه، بأن يقول له: أراحني اللّه منك و من ابتلائي بك. و يحتمل أن يكون معنى الأذى أن يعبّس وجهه عليه، أو يؤذيه بما يدفعه إليه. و «ثمّ» للتفاوت بين الإنفاق و ترك المنّ و الأذى، و أنّ تركهما خير من الإنفاق، كما جعل الاستقامة على الإيمان

______________________________

(1) البقرة: 245.

(2) الزمر: 10.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 419

خيرا من الدخول فيه بقوله: ثُمَّ اسْتَقامُوا «1».

لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ عدم دخول الفاء- و قد تضمّن ما أسند إليه معنى الشرط- إيهام بأنّهم أهل لذلك و إن لم يفعلوا، فكيف بهم إذا فعلوا؟! قَوْلٌ مَعْرُوفٌ ردّ جميل وَ مَغْفِرَةٌ و تجاوز عن السائل إذا وجد منه ما يثقل على المسؤول، أو نيل مغفرة من اللّه بسبب الرّد الجميل، أو عفو من جهة السائل، لأنّه إذا ردّه ردّا جميلا عذره خَيْرٌ مِنْ صَدَقَةٍ يَتْبَعُها أَذىً خبر عنهما، و إنّما صحّ الابتداء بالنكرة لاختصاصها بالصفة. وَ اللَّهُ غَنِيٌ عن الإنفاق بمنّ و إيذاء حَلِيمٌ عن معاجلة من يمنّ و يؤذي بالعقوبة. و فيه نوع من الوعيد.

ثمّ أكّد سبحانه ما قدّمه بما ضرب من الأمثال، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ لا تحبطوا أجرها بِالْمَنِّ وَ الْأَذى بكلّ واحد منهما كَالَّذِي كإبطال المنافق الّذي يُنْفِقُ

مالَهُ رِئاءَ النَّاسِ وَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ لا يريد بإنفاقه رضا اللّه و ثواب الآخرة، أو مماثلين الّذي ينفق رئاء الناس. و الكاف في محلّ النصب على المصدر أو الحال. و «رئاء» نصب على المفعول له أو الحال، بمعنى: مرائيا، أو المصدر، أي: إنفاقا رئاء.

فَمَثَلُهُ مثل المرائي في إنفاقه كَمَثَلِ صَفْوانٍ كمثل حجر أملس عَلَيْهِ تُرابٌ فَأَصابَهُ وابِلٌ مطر عظيم القطر فَتَرَكَهُ صَلْداً أملس نقيّا من التراب الّذي كان عليه لا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِمَّا كَسَبُوا أي: لا ينتفعون بما فعلوا رئاء، و لا يجدون ثوابه، كما لا ينتفع أحد بالتراب الّذي أذهبه المطر من الحجر الصلد و لا يجده. و ضمير لا يَقْدِرُونَ للّذي ينفق، باعتبار المعنى، لأنّ المراد به الجنس أو الفريق.

______________________________

(1) فصّلت: 30، الأحقاف: 13.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 420

وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ إلى الخير و الرشاد، لتوغّل عنادهم و لجاجهم، و شدّة إنكارهم، مع أنّهم يعرجون طريق الحقّ، فيخلّيهم اللّه في الكفر و الضلالة. و فيه تعريض بأنّ الرئاء و المنّ و الأذى على الإنفاق من صفات الكفّار، و لا بدّ للمؤمن أن يتجنّب عنها.

و بعد ذكر الوعيد على المنافقين المنفقين رئاء الناس، وعد المؤمنين المنفقين ابتغاء مرضاة اللّه، فقال: وَ مَثَلُ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمُ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ وَ تَثْبِيتاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ و تثبيتا بعض أنفسهم على الإيمان، فإنّ المال شقيق الروح، و بذله أشقّ على النفس من أكثر العبادات الشاقّة، فمن بذل ماله لوجه اللّه ثبّت بعض نفسه، و من بذل ماله و روحه ثبّتها كلّها. و يجوز أن يراد: و تصديقا للإسلام، و تحقيقا للجزاء مبتدأ من أصل أنفسهم، لأنّه إذا أنفق المسلم في سبيل

اللّه علم أنّ تصديقه بالثواب من أصل نفسه و أصل قلبه. و فيه تنبيه على أنّ حكمة الإنفاق للمنفق تزكية النفس عن البخل و حبّ المال.

فمثل نفقة هؤلاء في الزكاة كَمَثَلِ جَنَّةٍ بِرَبْوَةٍ كمثل بستان بموضع مرتفع، فإنّ شجره يكون أزكى ثمرا و أحسن منظرا. و قرأ ابن عامر و عاصم: بربوة بالفتح «1». و هما لغتان فيها. أَصابَها وابِلٌ مطر عظيم القطر فَآتَتْ أُكُلَها فأعطيت ثمرتها. و قرأ نافع و أبو عمرو بالسكون تخفيفا. ضِعْفَيْنِ مثلي ما كانت تثمر بسبب الوابل. و المراد بالضعف المثل، كما أريد بالزوج الواحد في قوله: مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ «2». و قيل: أربعة أمثاله. و نصبه على الحال، أي: مضاعفا. فَإِنْ لَمْ يُصِبْها وابِلٌ فَطَلٌ أي: فيصيبها مطر ليّن، أو فالّذي يصيبها طلّ، و هو يكفيها، لكرم منبتها، و برودة هوائها، لارتفاع مكانها. و الطلّ: هو المطر الصغير القطر.

______________________________

(1) أي: ضمّ الراء و فتحها.

(2) هود: 40، المؤمنون: 27.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 421

و المعنى: أنّ نفقات هؤلاء زاكية عند اللّه لا تضيع بحال، و إن كانت تتفاوت باعتبار ما ينضمّ إليها من أحواله. أو يكون التمثيل لحالهم عند اللّه بالجنّة على الربوة، و نفقتهم الكثيرة و القليلة بالوابل و الطلّ، و كما أن كلّ واحد من المطرين يضعّف أكل الجنّة، فكذلك نفقتهم- كثيرة كانت أو قليلة- زاكية عند اللّه.

وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ تحذير عن الرئاء، و ترغيب في الإخلاص.

أَ يَوَدُّ أَحَدُكُمْ الهمزة فيه للإنكار أَنْ تَكُونَ لَهُ جَنَّةٌ أي: بستان مملوء مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جعل الجنّة من النخيل و الأعناب، مع ما فيها من سائر الأشجار، تغليبا لهما،

لشرفهما و كثرة منافعهما. ثمّ ذكر أنّ فيها من كلّ الثمرات ليدلّ على اشتمالها على سائر أنواع الأشجار. و يجوز أن يكون المراد بالثمرات المنافع.

وَ أَصابَهُ الْكِبَرُ أي: كبر السنّ، فإنّ الفاقة و العالة في الشيخوخة أصعب.

و الواو للحال. و يجوز أن يكون للعطف، حملا على المعنى، فكأنّه قال: أ يودّ أحدكم لو كانت له جنّة و أصابه الكبر وَ لَهُ ذُرِّيَّةٌ ضُعَفاءُ صغار لا قدرة لهم على الكسب فَأَصابَها إِعْصارٌ فِيهِ نارٌ فَاحْتَرَقَتْ عطف على «أصابه» أو تكون باعتبار المعنى كما مرّ آنفا. و الإعصار: الريح الّتي تستدير ثمّ تسطع من الأرض نحو السماء كالعمود.

و المعنى: تمثيل حال من يفعل الأفعال الحسنة، و يضمّ إليها ما يحبطها، كرئاء و إيذاء في الحسرة و الأسف، فإذا كان يوم القيامة و اشتدّ حاجته إليها و وجدها محبطة، بحال من كانت له جنّة من أبهج الجنان و أبهاها، و فيها أنواع الثمار، فبلغه الكبر و له أولاد ضعفاء و الجنّة معاشهم، فهلكت بالصاعقة.

كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَتَفَكَّرُونَ أي: تتفكّرون فيها، فتعتبرون بها.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 422

[سورة البقرة (2): الآيات 267 الى 272]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ وَ مِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ إِلاَّ أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (267) الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ وَ اللَّهُ يَعِدُكُمْ مَغْفِرَةً مِنْهُ وَ فَضْلاً وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (268) يُؤْتِي الْحِكْمَةَ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (269) وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ

(270) إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ يُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (271)

لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَلِأَنْفُسِكُمْ وَ ما تُنْفِقُونَ إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (272)

لمّا تقدّم الإنفاق و بيان صفة المنفق، و أنّه يجب أن ينوي بالصدقة التقرّب، و أن يحفظها ممّا يبطلها من المنّ و الأذى، بيّن سبحانه صفة الصدقة و المتصدّق عليه ليكون البيان جامعا، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ من

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 423

حلاله، أو جياده و خياره وَ مِمَّا أَخْرَجْنا لَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ و من طيّبات ما أخرجنا من الحبوبات و النباتات و المعدنيّات، فحذف المضاف لتقدّم ذكره.

وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ و لا تقصدوا الردي ء منه، أي: من المال أو ممّا أخرجنا. و تخصيصه بذلك لأنّ التفاوت فيه أكثر تُنْفِقُونَ حال من فاعل «تيمّموا». و يجوز أن يتعلّق ب «منه»، و يكون الضمير للخبيث، و الجملة حالا منه.

وَ لَسْتُمْ بِآخِذِيهِ أي: و حالكم أنّكم لا تأخذونه في حقوقكم لرداءته إِلَّا أَنْ تُغْمِضُوا فِيهِ إلّا أن تتسامحوا في أخذه. مجاز من: أغمض بصره إذا غضّه، و يقال: أغمض البائع إذا لم يستقص، كأنّه لا يبصر. و عن ابن عبّاس «كانوا يتصدّقون بحشف «1» التمر و شراره، فنهوا عنه».

وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَنِيٌ عن إنفاقكم، و إنّما يأمركم به لانتفاعكم حَمِيدٌ مستحقّ للحمد، أو محمود بقبوله و إثابته.

ثمّ حذّر سبحانه من الشيطان المانع من الصدقة، فقال: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ بالإنفاق في وجوه

البرّ، و بإنفاق الجيّد من المال. و الوعد في الأصل شائع في الخير و الشرّ. وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ و يغريكم على البخل، و منع الصدقات الواجبة، إغراء الآمر للمأمور. و العرب تسمّي البخيل فاحشا. و قيل: العاصي.

وَ اللَّهُ يَعِدُكُمْ في الإنفاق مَغْفِرَةً مِنْهُ لذنوبكم و كفّارة لها وَ فَضْلًا و خلفا أفضل ممّا أنفقتم في الدنيا و الآخرة وَ اللَّهُ واسِعٌ أي: واسع الفضل لمن أنفق عَلِيمٌ بإنفاقه.

ثم وصف سبحانه نفسه بإعطاء الحكمة العلميّة و العمليّة، المشتملة على الإنفاق على الوجه المرضيّ و الطريق الحسن عقلا و شرعا، لمن اقتضت حكمته و مصلحته، فقال: يُؤْتِي الْحِكْمَةَ تحقيق العلم و إتقان العمل مَنْ يَشاءُ مفعول

______________________________

(1) الحشف: أردأ التمر، و اليابس الفاسد منه.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 424

أوّل، أخّر للاهتمام بالمفعول الثاني. و الحكيم عند اللّه: هو العالم العامل. و قيل:

الحكمة القرآن و الفقه وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ بناؤه للمفعول، لأنّه المقصود. و قرأ يعقوب بالكسر، أي: و من يؤته اللّه الحكمة فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً التنكير للتعظيم، أي: أيّ خير كثير، إذ حيزت له خير الدارين.

وَ ما يَذَّكَّرُ و ما يتّعظ بما قصّ من الآيات، أو و ما يتفكّر، فإنّ المتفكّر كالمتذكّر لما أودع اللّه تعالى في قلبه من العلوم بالقوّة إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ ذوو العقول الخالصة عن شوائب الوهم و الركون إلى متابعة الهوى.

و بعد ذكر المعترضة الحاثّة على الإنفاق المستحسن في نظر العقل و الشرع، عاد إلى ذكر حال الإنفاق و حسن خاتمته، فقال: وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ نَفَقَةٍ قليلة أو كثيرة، سرّا أو علانية، في سبيل اللّه أو في سبيل الشيطان أَوْ نَذَرْتُمْ مِنْ نَذْرٍ بشرط أو بغير شرط، في طاعة أو معصية

فَإِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُهُ لا يخفى عليه، فيجازيكم عليه بحسبه وَ ما لِلظَّالِمِينَ الّذين ينفقون في المعاصي و ينذرون فيها، أو يمنعون الصدقات و لا يوفون بالنذر مِنْ أَنْصارٍ من ينصرهم من اللّه، و يمنع عنهم العقاب.

ثمّ وصف كيفيّة الإنفاق فقال: إِنْ تُبْدُوا الصَّدَقاتِ فَنِعِمَّا هِيَ فنعم شيئا إبداؤها. و قرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي بفتح النون و كسر العين على الأصل، و قالون و أبو عمرو و أبو بكر بكسر النون و إسكان العين أو إخفائها وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ أي: تعطوها إيّاهم مع الإخفاء فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ فالإخفاء خير لكم. و هذا في التطوّع و لمن لم يعرف بالمال، فإنّ الأفضل في الفرائض لمعروف المال الإظهار دفعا للتهمة. و عن ابن عبّاس: «صدقة السرّ في التطوّع تفضل علانيتها سبعين ضعفا، و صدقة الفريضة علانيتها أفضل من سرّها بخمسة و عشرين ضعفا».

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 425

وَ يُكَفِّرُ عَنْكُمْ مِنْ سَيِّئاتِكُمْ قرأه ابن عامر و عاصم في رواية حفص بالياء، أي: و اللّه يكفّر، أو الإخفاء. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و عاصم في رواية ابن عيّاش بالنون مرفوعا، على أنّه جملة فعليّة مبتدأة، أو اسميّة معطوفة على ما بعد الفاء، أي: و نحن نكفّر. و قرأ نافع و حمزة و الكسائي بالنون مجزوما على محلّ الفاء و ما بعده. وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ ترغيب في الأسرار.

لَيْسَ عَلَيْكَ هُداهُمْ لا يجب عليك أن تجعل الناس مهديّين إلى الانتهاء عمّا نهوا عنه، من المنّ و الأذى و الإنفاق من الخبيث و غير ذلك، جبرا و قسرا، و إنّما عليك الإرشاد و الحثّ على المحاسن و النهي عن القبائح، كالمنّ و

الأذى و إنفاق الخبيث وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ يلطف بمن يعلم أنّ اللطف ينفع فيه، فينتهي عمّا نهي عنه.

وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ من نفقة معروفة فَلِأَنْفُسِكُمْ فهو لأنفسكم لا ينتفع به غيركم، فلا تمنّوا على من تنفقونه عليه و لا تؤذوه وَ ما تُنْفِقُونَ إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ اللَّهِ حال، و كأنّه قال: و ما تنفقوا من خير فلأنفسكم غير منفقين إلّا ابتغاء وجه اللّه، أي: رضاه و طلب ثوابه. أو عطف على ما قبله، أي: ليست نفقتكم إلّا لابتغاء وجهه، فما لكم تمنّون بها و تنفقون الخبيث. و قيل: نفي في معنى النهي.

وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ من مال يُوَفَّ إِلَيْكُمْ جزاؤه وفاء تامّا من غير نقص، بل أضعافا مضاعفة. فهو تأكيد للشرطيّة السابقة.

روي أنّ ناسا من المسلمين كانت لهم أصهار و رضاع في اليهود، و كانوا ينفقون عليهم، فكرهوا لمّا أسلموا أن ينفقوهم، فنزلت. و هذا في غير الواجب، أمّا الواجب فلا يجوز صرفه إلى الكافر.

وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ لا تنقصون ثواب نفقتكم.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 426

[سورة البقرة (2): الآيات 273 الى 274]

لِلْفُقَراءِ الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَطِيعُونَ ضَرْباً فِي الْأَرْضِ يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (273) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (274)

لمّا أمر سبحانه بالنفقة، و رغّب فيها بأبلغ وجوه الترغيب، و بيّن ما يكمل ثوابها، عقّب ذلك ببيان أفضل الفقراء الّذين هم مصرف الصدقات، فقال:

لِلْفُقَراءِ متعلّق بمحذوف، و التقدير: اعمدوا للفقراء و اجعلوا ما تنفقونه للفقراء، أو خبر مبتدأ محذوف، أي:

صدقاتكم للفقراء. الَّذِينَ أُحْصِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أحصرهم الجهاد لا يَسْتَطِيعُونَ لاشتغالهم به ضَرْباً فِي الْأَرْضِ ذهابا فيها للكسب.

قيل: هم أصحاب الصفّة، و هم نحو من أربعمائة رجل لم يكن لهم مساكن في المدينة و لا عشائر، فكانوا يسكنون في صفّة المسجد، و هي سقيفة يستغرقون أوقاتهم لتعلّم القرآن، و يلتقطون في النهار النوى و يقنعون بدقيقه، و كانوا يخرجون في كلّ سريّة يبعثها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فمن عنده فضل أتاهم به إذا أمسى.

و

عن ابن عبّاس: وقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوما عليهم فرأي جهدهم و فقرهم و طيب قلوبهم بذلك فقال: «أبشروا يا أصحاب الصفّة، فمن بقي من أمّتي على التعب الّذي أنتم عليه راضيا بما فيه فإنّهم رفقائي».

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 427

يَحْسَبُهُمُ الْجاهِلُ أَغْنِياءَ مِنَ التَّعَفُّفِ من أجل تعفّفهم عن إظهارهم الحال و عن السؤال تَعْرِفُهُمْ بِسِيماهُمْ من صفرة الوجه و الضعف و رثاثة الحال.

و الخطاب للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أو لكلّ أحد. لا يَسْئَلُونَ النَّاسَ إِلْحافاً إلحاحا.

و المعنى: لا يسألون، و إن سألوا عن ضرورة سألوا بتلطّف و لم يلحّوا. و قيل: هو نفي للسؤال و الإلحاف جميعا، كقول امرئ القيس:

على لا حب لا يهتدي بمناره «1» يريد نفي المنار و الاهتداء به. و نصبه على المصدر، فإنّه كنوع من السؤال، أو على الحال.

وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ ترغيب في الإنفاق، و خصوصا على هؤلاء.

ثمّ بيّن كيفية الإنفاق و ثوابه، فقال: الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ سِرًّا وَ عَلانِيَةً أي: يعمّون أوقاتهم و أحوالهم بالصدقة، لحرصهم على الخير.

و

عن ابن عبّاس: نزلت في

عليّ عليه السّلام، لم يملك إلّا أربعة دراهم، فتصدّق بدرهم ليلا، و بدرهم نهارا، و بدرهم سرّا، و بدرهم علانية. روي ذلك عن الباقر و الصادق عليهما السّلام.

و قيل: في ربط الخيل في سبيل اللّه تعالى، و الإنفاق عليها.

فَلَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ خبر «الَّذِينَ يُنْفِقُونَ»، و الفاء للسببيّة. و قيل: للعطف، و الخبر محذوف، أي: و منهم الّذين، و لذلك جوّز الوقف على «و علانية».

______________________________

(1) ديوان امرئ القيس: 95 و عجز البيت: إذا سافه العود النباطي جرجرا.

و اللاحب: الطريق الواضح.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 428

[سورة البقرة (2): الآيات 275 الى 276]

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلاَّ كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِّ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ مِثْلُ الرِّبا وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَانْتَهى فَلَهُ ما سَلَفَ وَ أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ وَ مَنْ عادَ فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (275) يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ كَفَّارٍ أَثِيمٍ (276)

و لمّا حثّ اللّه سبحانه على الإنفاق، و بيّن ما يحصل للمنفق فيه من الأجر العاجل- و هو نموّ المال و زيادة بركته- و الآجل، من الثواب العظيم في جنّات النعيم، عقّبه بذكر الربا الّذي ظنّه الجاهل زيادة في المال، و هو في الحقيقة محق في المال، فقال: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا و هو لغة: الزيادة. و شرعا: هو الزيادة على رأس المال، من أحد المتساويين جنسا، ممّا يكال أو يوزن. و المراد بالجنس هنا هو الحقيقة النوعيّة. و يتحقّق ذلك بكون الأفراد يشملها اسم خاصّ لنوعه. و الزيادة قد تكون عينيّة، و هو ظاهر، و حكميّة، كبيع أحد المتجانسين بمساويه

قدرا نسيئة.

و الربا من الكبائر المتوعّد عليه بالنار في آخر الآية، و

لقول الصادق عليه السّلام: «درهم ربا أعظم عند اللّه من سبعين زنية كلّها بذات محرم في بيت اللّه الحرام».

و

قال عليّ عليه السّلام: «لعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الربا خمسة: آكله، و موكله، و شاهديه، و كاتبه».

و المراد بآكل الربا في الآية الآخذ. و إنّما خصّص الأكل بالذكر لأنّه أعظم منافع المال، و لأنّ الربا شائع في المطعومات. و إنّما كتب بالواو- كالصلاة- للتفخيم على لغة من يفخّم. و زيدت الألف بعدها تشبيها بواو الجمع.

روي: أنّه كان الرجل في الجاهليّة إذا حلّ له مال على غيره و طالبه به يقول

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 429

الغريم: زد في الأجل حتى أزيدك في المال، فيفعلان ذلك و يقولان: سواء علينا الزيادة في أوّل البيع بالربح أو عند المحلّ لأجل التأخير، فردّ اللّه عليهم بقوله:

الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا.

لا يَقُومُونَ إذا بعثوا من قبورهم إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ إلّا قياما كقيام المصروع. و هو وارد على ما يزعمون أنّ الشيطان يخبّط الإنسان فيصرع. و الخبط حركة على غير النحو الطبيعي و على غير اتّساق، كخبط العشواء مِنَ الْمَسِ أي: من مسّ الشيطان، فيختلط عقله فيصير مجنونا. و هو متعلّق ب «لا يقومون»، أي: لا يقومون من المسّ الّذي بهم بسبب أكل الربا، أو ب «يقوم» أو ب «يتخبّط»، فيكون نهوضهم و سقوطهم كالمصروعين، لا لاختلال عقولهم، و لكن لأنّ اللّه تعالى أربى في بطونهم ما أكلوه من الربا فأثقلهم. و يكون هذا علامة لآكلي الربا يعرفون بها يوم القيامة، كما أنّ على كلّ عاص من معصيته علامة تليق به، فيعرف بها صاحبها،

و على كلّ مطيع من طاعته أمارة تليق به يعرف بها صاحبها، و ذلك معنى قوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌ «1».

روي عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «لمّا أسري بي إلى السماء رأيت رجالا بطونهم كالبيوت فيها الحيّات ترى من خارج بطونهم، فقلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال:

هؤلاء أكلة الربا».

روي أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لمّا أسري بي إلى السماء رأيت قوما يريد أحدهم أن يقوم و لا يقدر عليه من عظم بطنه، قال:

قلت: من هؤلاء يا جبرئيل؟ قال: هؤلاء الّذين يأكلون الربا لا يقومون إلّا كما يقوم الّذي يتخبّطه الشيطان من المسّ».

ذلِكَ أي: ذلك العقاب بِأَنَّهُمْ بسبب أنّهم قالُوا إِنَّمَا الْبَيْعُ الّذي لا

______________________________

(1) الرحمن: 39.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 430

ربا فيه مِثْلُ الرِّبا مثل البيع الّذي فيه الربا، يعني: نظموا الربا و البيع في سلك واحد، لإفضائهما إلى الربح، فاستحلّوا الربا استحلال البيع، قياسا على البيع. و هذا باطل، لأنّ القياس المخالف للنصّ باطل اتّفاقا. و كان أصل الكلام: إنّما الربا مثل البيع، و لكن عكس للمبالغة، كأنّهم جعلوا الربا أصلا و قاسوا به البيع.

ثمّ أنكر تسويتهم، و أبطل قياسهم الربا على البيع، فقال: وَ أَحَلَّ اللَّهُ الْبَيْعَ وَ حَرَّمَ الرِّبا فَمَنْ جاءَهُ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّهِ فمن بلغه وعظ من ربّه و زجر، كالنهي عن الربا فَانْتَهى فاتّعظ و تبع النهي و امتنع منه فَلَهُ ما سَلَفَ أي: ما تقدّم من أخذه الربا و أكله قبل النهي عنه، فلا يؤاخذ بما مضى منه، و لا يستردّ منه. و

قال الباقر عليه السّلام: «من

أدرك الإسلام، و تاب ممّا كان عمله في الجاهليّة، وضع اللّه عنه ما سلف».

و «ما» في موضع الرفع بأنّه فاعل الظرف، إن جعلت «من» موصولة، و بالابتداء إن جعلت شرطيّة، على رأي سيبويه، إذ الظرف غير معتمد على ما قبله.

وَ أَمْرُهُ إِلَى اللَّهِ بأن يجازيه على انتهائه إن كان عن قبول الموعظة و صدق النيّة. و قيل: يحكم في شأنه و لا اعتراض لكم عليه.

وَ مَنْ عادَ إلى تحليل الربا بعد التحريم، إذ الكلام فيه فَأُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ لأنّ ذلك لا يصدر إلّا من كافر مستحلّ للربا، فلهذا توعّد بعذاب الأبد.

ثمّ أكّد سبحانه ما تقدّم بقوله: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا أي: ينقص و يذهب ببركته، أو يهلك المال الّذي يدخل فيه حالا بعد حال إلى أن يتلف المال كلّه وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ أي: ينمي ما يتصدّق به، بأن يضاعف عليه الثواب، و يزيد المال الّذي أخرجت منه الصدقة، و يبارك فيه. و

عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنّ اللّه يقبل الصدقات،

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 431

و لا يقبل منها إلّا الطيّب، فيربيها كما يربي أحدكم مهره «1» أو فصيله، حتى إنّ اللقمة لتصير مثل أحد».

و

عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما نقصت زكاة من مال قطّ».

وَ اللَّهُ لا يُحِبُ محبّته للتّوابين و لا يرتضي كُلَّ كَفَّارٍ مصرّ على تحليل المحرّمات أَثِيمٍ منهمك في ارتكابه. هذا تغليظ في أمر الربا، و إيذان بأنّه من فعل الكفّار لا من فعل المسلمين.

[سورة البقرة (2): آية 277]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (277)

و بعد توعيد أصحاب الرّبا وعد المنفقين

المنتهين عنه بقوله: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا باللّه و برسله و بما جاءهم منه وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ عطفهما على ما يعمّهما لشرافتهما على سائر الأعمال الصالحة لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من آت وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ على فائت.

[سورة البقرة (2): الآيات 278 الى 281]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (278) فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِنْ تُبْتُمْ فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ وَ لا تُظْلَمُونَ (279) وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ وَ أَنْ تَصَدَّقُوا خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (280) وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (281)

______________________________

(1) المهر: ولد الفرس.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 432

روي عن الباقر عليه السّلام: أنّ الوليد بن المغيرة كان يربي في الجاهليّة، و بقي له بقايا على ثقيف، فأراد خالد بن الوليد المطالبة بها بعد أن أسلّم، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ذَرُوا ما بَقِيَ مِنَ الرِّبا

أي: و اتركوا بقايا ما شرطتم على الناس من الربا، و اقتصروا على رؤوس أموالكم إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بقلوبكم، فإنّ دليل الإيمان امتثال ما أمرتم به.

فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ أي: فاعلموا بها، من: أذن بالشي ء إذا علم به. و قرأ حمزة و عاصم في رواية ابن عيّاش: فآذنوا، أي: فأعلموا بها من لم ينته عن ذلك، من الإذن و هو الاستماع، فإنّه من طرق العلم. و تنكير حرب للتعظيم، أي: نوع عظيم من الحرب. و حرب اللّه هو حرب رسوله.

و قيل: حرب اللّه بالنار، و

حرب رسوله بالقتال. و ذلك يقتضي أن يقاتل المربي بعد الاستنابة حتى يفي ء إلى أمر اللّه، كالباغي.

عن الصادق عليه السّلام: «آكل الربا بعد البيّنة يؤدّب، فإن عاد أدّب، و إن عاد قتل».

و قيل: كان العبّاس و خالد شريكين في الجاهليّة، يسلفان في الربا، فجاء الإسلام و لهما أموال عظيمة، فأنزل اللّه هذه الآية،

فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ألا إنّ كلّ ربا في الجاهليّة موضوع، و أوّل ربا أضعه ربا العبّاس بن عبد المطّلب، و كلّ دم في الجاهليّة موضوع، و أوّل دم أضعه دم ربيعة بن حارث بن عبد المطّلب».

وَ إِنْ تُبْتُمْ من الارتباء و اعتقاد حلّه فَلَكُمْ رُؤُسُ أَمْوالِكُمْ لا تَظْلِمُونَ بأخذ الزيادة وَ لا تُظْلَمُونَ بالمطل و النقصان.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 433

و لمّا أمر اللّه تعالى بأخذ رأس المال من الموسر بيّن بعده حال المعسر، فقال: وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ أي: إن وقع غريم من غرمائكم ذو عسرة فَنَظِرَةٌ أي: فالحكم، أو فالأمر، أو فعليكم، أو فليكن نظرة، و هي الإنظار إِلى مَيْسَرَةٍ إلى وقت يساره. و هو خبر في معنى الأمر. و المراد فأنظروه إلى وقت يساره. و قرأ نافع بضمّ السين. و هما لغتان، كمشرقة و مشرقة.

وَ أَنْ تَصَدَّقُوا تصدّقوا بالإبراء خَيْرٌ لَكُمْ أكثر ثوابا من الإنظار، أو خير ممّا تأخذون، لمضاعفة ثوابه و دوامه. و قيل: المراد بالتصدّق الإنظار، لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

«لا يحلّ دين رجل مسلّم فيؤخّره إلا كان له بكلّ يوم صدقة». إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما فيه من الذكر الجميل و الأجر الجزيل.

ثمّ حذّر سبحانه المكلّفين من بعد ما تقدّم من أمر الحدود و الأحكام، فقال:

وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ

فِيهِ إِلَى اللَّهِ إلى جزاء يوم القيامة أو يوم الموت، فتأهّبوا لمصيركم إليه. و قرأ أبو عمرو و يعقوب بفتح التاء و كسر الجيم. ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ جزاء ما عملت من خير أو شرّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ بنقص ثواب و تضعيف عقاب.

و

عن ابن عبّاس: أنّها آخر آية نزل بها جبرئيل عليه السّلام، و قال: ضعها في رأس المائتين و الثمانين من البقرة. و عاش رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعدها أحدا و عشرين يوما.

و قيل: أحدا و ثمانين. و قيل: سبعة أيّام. و قيل: ثلاث ساعات. و روي أصحابنا أنّه توفّي لليلتين بقيتا من صفر سنة إحدى عشرة من الهجرة، و لسنة واحدة من ملك أردشير بن شيرويه بن أبرويز بن هرمز بن أنو شيروان.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 434

[سورة البقرة (2): آية 282]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَاكْتُبُوهُ وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ أَنْ يَكْتُبَ كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ فَلْيَكْتُبْ وَ لْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ وَ لْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَ لا يَبْخَسْ مِنْهُ شَيْئاً فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً أَوْ ضَعِيفاً أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ مِنْ رِجالِكُمْ فَإِنْ لَمْ يَكُونا رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى وَ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا وَ لا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ صَغِيراً أَوْ كَبِيراً إِلى أَجَلِهِ ذلِكُمْ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ وَ أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ وَ أَدْنى أَلاَّ تَرْتابُوا إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَلاَّ تَكْتُبُوها وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ

لا شَهِيدٌ وَ إِنْ تَفْعَلُوا فَإِنَّهُ فُسُوقٌ بِكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ يُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (282)

لمّا أمر سبحانه بإنظار المعسر و تأجيله، عقّبه ببيان أحكام الحقوق المؤجّلة و عقود المداينة، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَدايَنْتُمْ بِدَيْنٍ أي: إذا داين بعضكم بعضا، تقول: داينته إذا عاملته بدين نسيئة معطيا أو آخذا، كما تقول: بايعته إذا بعته أو باعك. و فائدة ذكر الدّين لئلّا يتوهّم من التداين المجازاة، و يعلم تنوّعه إلى المؤجّل و الحالّ، و أنّه الباعث على الكتبة، و أن يكون مرجع ضمير «فاكتبوه».

إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى معلوم مؤقّت بالأيّام أو الأشهر أو السنين، لا بالحصاد و قدوم

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 435

الحاجّ، لأنّه غير معلوم فَاكْتُبُوهُ في صكّ، لأنّه أوثق و أدفع للنزاع. و بالإجماع هذا الأمر يكون مندوبا إليه. و عن ابن عبّاس: أنّ المراد به السلم. و قال: لمّا حرّم اللّه الربا أباح السّلم.

وَ لْيَكْتُبْ بَيْنَكُمْ كاتِبٌ بِالْعَدْلِ أي: كاتب مأمون على ما يكتب بالاحتياط و النصفة، لا يزيد على ما يجب أن يكتب و لا ينقص. فقوله: «بالعدل» صفة ل «كاتب». و في هذا دلالة على أنّ الكاتب ينبغي أن يكون فقيها، عالما بدقائق أحكام المعاملات و شروطها، عادلا حتى يكون مكتوبه موثوقا معدّلا بالشرع.

و الأمر في الحقيقة للمتداينين باختيار كاتب فيه ديّن.

وَ لا يَأْبَ كاتِبٌ لا يمتنع أحد من الكتّاب أَنْ يَكْتُبَ في الصكّ على الوجه المأمور به كَما عَلَّمَهُ اللَّهُ مثل ما علّمه من كتبة الوثائق. و قيل: معناه: لا يأب أن ينفع الناس بكتابته كما نفعه اللّه بتعليمها، كقوله: و أحسن كما أحسن اللّه إليك. و هو فرض على الكفاية عند أكثر المفسّرين.

فَلْيَكْتُبْ

تلك الكتابة المعلّمة، أمر بها بعد النهي عن الإباء عنها تأكيدا.

و يجوز أن تتعلّق الكاف بالأمر، فيكون النهي عن الامتناع منها مطلقة ثمّ الأمر مقيّدة. وَ لْيُمْلِلِ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُ و ليكن المملي من وجب عليه الحقّ، لأنّه هو المقرّ المشهود عليه في ذمّته و إقراره به. و الإملاء و الإملال لغتان نطق بهما القرآن: فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ «1».

وَ لْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ أي: المملي أو الكاتب وَ لا يَبْخَسْ و لا ينقص مِنْهُ أي: من الحقّ أو ممّا أملى عليه شَيْئاً قدرا و صفة.

فَإِنْ كانَ الَّذِي عَلَيْهِ الْحَقُّ سَفِيهاً مبذّرا محجورا عليه لسفهه و تبذيره، و هو الّذي يصرف أمواله في غير الأغراض الصحيحة أَوْ ضَعِيفاً صبيّا أو شيخا

______________________________

(1) الفرقان: 5.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 436

مختلّا أَوْ لا يَسْتَطِيعُ أَنْ يُمِلَّ هُوَ أو غير مستطيع للإملاء بنفسه، لعيّ أو لخرس أو جهل باللغة فَلْيُمْلِلْ وَلِيُّهُ بِالْعَدْلِ أي: الّذي يلي أمره و يقوم مقامه، من قيّم إن كان صبيّا أو مختلّ العقل، أو وكيل أو مترجم عملا عنه إن كان غير مستطيع.

وَ اسْتَشْهِدُوا شَهِيدَيْنِ و اطلبوا أن يشهد على الدين شاهدان مِنْ رِجالِكُمْ من رجال المؤمنين. و هو دليل اشتراط إيمان الشهود، و إليه ذهب علماؤنا و أكثر العامّة. فَإِنْ لَمْ يَكُونا فإن لم يكن الشهيدان رَجُلَيْنِ فَرَجُلٌ وَ امْرَأَتانِ فليشهد، أو فليستشهد رجل و امرأتان.

و شهادة النساء مقبولة عندنا في غير رؤية الهلال و الطلاق مع الرجال. و هي مقبولة على الانفراد فيما لا يستطيع الرجال النظر إليه، مثل العذرة و الأمور الباطنة للنساء. و تفصيل ذلك في كتب الفقه، فليطالع ثمّة.

مِمَّنْ تَرْضَوْنَ مِنَ الشُّهَداءِ لعلمكم بعدالتهم أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما في موضع النصب بأنّه مفعول له.

فهذا علّة اعتبار العدد، أي: لأجل أنّ إحداهما إن ضلّت الشهادة بأن نسيتها فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى و العلّة في الحقيقة التذكير، و لكن لمّا كان الضلال سببا للتذكير نزّل منزلته، و مثله قولهم: أعددت الخشبة أن يميل الحائط فأدعمه، و كأنّه قيل: إرادة أن تذكّر إحداهما الأخرى إن ضلّت. و فيه إشعار بنقصان عقلهنّ، و قلّة ضبطهنّ.

و قرأ حمزة: إن تضلّ، على الشرط، «فتذكّر» بالرفع، كقوله: وَ مَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ «1». و يعقوب: فتذكر من الإذكار.

وَ لا يَأْبَ الشُّهَداءُ إِذا ما دُعُوا لأداء الشهادة أو التحمّل. و سمّوا شهداء قبل التحمّل تنزيلا لما يشارف منزلة الواقع. و «ما» مزيدة. وَ لا تَسْئَمُوا أَنْ تَكْتُبُوهُ و لا تملّوا من كثرة مدايناتكم أن تكتبوا الدّين أو الحقّ أو الكتاب صَغِيراً كان الحقّ

______________________________

(1) المائدة: 95.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 437

أَوْ كَبِيراً أو مختصرا كان الكتاب أو مشبعا إِلى أَجَلِهِ إلى وقت حلوله الّذي اتّفق الغريمان على تسميته.

ذلِكُمْ إشارة إلى «أن تكتبوه» لأنّه في معنى المصدر، أي: ذلكم الكتب أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ أكثر قسطا وَ أَقْوَمُ لِلشَّهادَةِ و أثبت لها، و أعون على إقامتها.

و هما مبنيّان من: أقسط و أقام على غير قياس، أو من قاسط، على طريق النسب، بمعنى: ذي قسط، و أقوم من قويم، أي: ذي قويم. و إنّما صحّت الواو في أقوم كما صحّت في التعجّب لجموده. وَ أَدْنى أَلَّا تَرْتابُوا و أقرب في أن لا تشكّوا في جنس الدين و قدره و أجله و الشهود و نحو ذلك.

إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً حاضِرَةً تُدِيرُونَها بَيْنَكُمْ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ حرج و ضيق أَلَّا تَكْتُبُوها في ترك كتابتها، الاستثناء يكون من الأمر بالكتابة.

و المراد بالتجارة ما

يتّجر فيه من الأبدال. و التجارة الحاضرة تعمّ المبايعة بعين أو دين. و بإدارتها بينهم تعاطيهم إيّاها يدا بيد. فالمعنى: إلّا أن تتبايعوا بيعا ناجزا يدا بيد، فلا بأس أن لا تكتبوه، لأنّه لا يتوهّم فيه ما يتوهّم في التداين من التنازع و النسيان.

و نصب عاصم «تجارة» على أنّه الخبر، و الاسم مضمر، تقديره: إلّا أن تكون التجارة تجارة حاضرة. و رفعها الباقون على أنّه الاسم، و الخبر «تديرونها» أو على «كان» التامّة.

وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ هذا التبايع أو مطلقا، لأنّه أحوط. و الأوامر في هذه الآية إلى هنا للاستحباب عندنا و عند جمهور العامّة إلّا شاذّا منهم، فإنّها للوجوب.

ثمّ اختلف في أحكامها و نسخها.

وَ لا يُضَارَّ كاتِبٌ وَ لا شَهِيدٌ يحتمل البناء للفاعل و المفعول. و المعنى: نهي الكاتب و الشهيد عن ترك الإجابة إلى ما يطلب منهما، و عن التحريف و الزيادة و النقصان، أو النهي عن الضرار بهما، بأن يعجلا عن مهمّ، أو لا يكلّف الكاتب

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 438

الكتابة في حال عذر لا يتفرّغ إليها، و لا يدعى الشاهد إلى إثبات الشهادة و إقامتها في وقت لا يتفرّغ لها وَ إِنْ تَفْعَلُوا الضرار أو ما نهيتم عنه فَإِنَّهُ فإنّ هذا الضرار فُسُوقٌ بِكُمْ خروج عن الطّاعة لا حق بكم.

وَ اتَّقُوا اللَّهَ في مخالفة أمره و نهيه وَ يُعَلِّمُكُمُ اللَّهُ أحكامه المتضمّنة لمصالحكم وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ كرّر لفظ «اللّه» في الجمل الثلاث لاستقلالها، فإنّ الأولى حثّ على التقوى، و الثانية وعد بإنعامه، و الثالثة تعظيم لشأنه، و لأنّه أدخل في التعظيم من الكناية. و في ذلك دلالة على أنّ الأحكام كلّها بتعليم اللّه، لا بالقياس و الاستحسان.

ذكر عليّ بن

إبراهيم «1» في تفسيره أنّ في سورة البقرة خمسمائة حكم، و في هذه الآية خاصّة خمسة عشر حكما.

[سورة البقرة (2): آية 283]

وَ إِنْ كُنْتُمْ عَلى سَفَرٍ وَ لَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ وَ لْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ وَ لا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (283)

ثمّ ذكر سبحانه حكم الوثيقة بالرهن عند عدم الوثيقة بالاشهاد، فقال: وَ إِنْ كُنْتُمْ أيّها المتداينون المبايعون عَلى سَفَرٍ أي: مسافرين وَ لَمْ تَجِدُوا كاتِباً فَرِهانٌ مَقْبُوضَةٌ أي: فالّذي يستوثق به رهان، أو فعليكم رهان، أو فليؤخذ رهان. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو: فرهن، كسقف. و كلاهما جمع رهن بمعنى مرهون. و ليس الغرض تخصيص الارتهان بحال السفر، و لكنّ السفر لمّا كان مظنّة

______________________________

(1) تفسير القمّي 1: 94.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 439

لإعواز الكتب و الإشهاد، أمر المسافر بأن يقيم الارتهان مقام الكتاب و الاشهاد، على سبيل الإرشاد إلى حفظ المال. و القبض شرط في صحّة الرهن عند أكثر علمائنا و الجمهور غير مالك.

فَإِنْ أَمِنَ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي: أمن بعض الدائنين بعض المديونين لحسن ظنّه به فَلْيُؤَدِّ الَّذِي اؤْتُمِنَ أَمانَتَهُ و هو الّذي عليه الحقّ. أمر بأن يؤدّي الدين إلى صاحب الحقّ وافيا وقت محلّه من غير مطل و لا تسويف. و سمّي الدين أمانة لائتمانه عليه بترك الارتهان منه وَ لْيَتَّقِ اللَّهَ رَبَّهُ في الخيانة و إنكار الحقّ. و فيه مبالغات.

ثمّ خاطب الشهود بقوله: وَ لا تَكْتُمُوا الشَّهادَةَ أيّها الشهود. و يحتمل أن يكون الخطاب للمديونين بشهادتهم إقرارهم على أنفسهم وَ مَنْ يَكْتُمْها مع علمه بالمشهود به و تمكّنه من أدائها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ رفع قلبه بآثم،

كأنّه قيل: يأثم قلبه.

و الجملة خبر إنّ. و إسناد الإثم إلى القلب لأنّ الكتمان مقترفه، و نظيره: العين زانية و الأذن زانية، أو للمبالغة، فإنّه رئيس الأعضاء، و أفعاله أعظم الأفعال، فكأنّه تمكّن الإثم في نفسه و أخذ أشرف أجزائه. وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ تهديد و وعيد.

و هذه الآية و ما قبلها من بدائع لطف اللّه تعالى لعباده في أمر معاشهم و معادهم، و تعليمهم ما لا يسعهم جهله، و فيها بصيرة لمن تبصّر، و كفاية لمن تفكّر.

[سورة البقرة (2): آية 284]

لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ إِنْ تُبْدُوا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (284)

و لمّا بيّن بيان الشرائع الّتي هي سبب انتظام أمورهم في الدنيا، ذكر التوحيد

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 440

و الموعظة و الإقرار بالجزاء ليستعدّوا له في الامتثال بالأوامر و الانتهاء عن المناهي، فقال: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ خلقا و ملكا وَ إِنْ تُبْدُوا تظهروا ما فِي أَنْفُسِكُمْ أَوْ تُخْفُوهُ يعني: ما فيها ممّا يدخل في التكليف، من السوء و العزم عليه، لترتّب المغفرة و العذاب عليه يُحاسِبْكُمْ بِهِ اللَّهُ و يجازيكم عليه يوم القيامة فَيَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ مغفرته وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ تعذيبه. و قد رفعهما ابن عامر و يعقوب على الاستئناف، و جزمهما الباقون عطفا على جواب الشرط. و من جزم بغير فاء جعلهما بدلا منه، بدل البعض من الكلّ أو الاشتمال. وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فيقدر على الإحياء و المحاسبة.

عن عبد اللّه بن عمر أنّه تلاها فقال: لئن أخذنا اللّه بهذا لنهلكنّ، فذكر لابن عبّاس فقال: يغفر

اللّه لأبي عبد الرحمن، و قد وجد المسلمون منها مثل ما وجد، فنزل لا يُكَلِّفُ اللَّهُ «1» إلخ.

[سورة البقرة (2): آية 285]

آمَنَ الرَّسُولُ بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ وَ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا غُفْرانَكَ رَبَّنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ (285)

و لمّا ذكر سبحانه فرض الصلاة و الزكاة و أحكام الشرع المنتجر «2» للندائد الدنيويّة و الأخرويّة، ختم السورة بذكر تصديق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أمّته بجميع

______________________________

(1) يأتي تفسيرها في ص: 442.

(2) كذا في النسخة الخطّية، و لم نهتد إلى معنى صحيح له، و لعلّه تحريف: المنجّز للفوائد الدنيويّة ...

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 441

أحكامه تعالى و إيمانهم، فقال: آمَنَ الرَّسُولُ أي: صدّق محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بِما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مِنْ رَبِّهِ من الأحكام المذكورة في هذه السورة و غيرها. فهو شهادة و تنصيص من اللّه تعالى على صحّة إيمانه و الاعتداد به، و أنّه جازم في أمره غير شاكّ فيه.

وَ الْمُؤْمِنُونَ كُلٌّ آمَنَ كلّ واحد منهم. يجوز أن يكون عطفا على الرسول، فيكون الضمير- الّذي التنوين نائب عنه في قوله: «كلّ»- راجعا إلى الرسول و المؤمنين بِاللَّهِ أي: صدّق بثبوت وحدانيّته و صفاته، و نفي التشبيه عنه، و تنزيهه عمّا لا يليق به وَ مَلائِكَتِهِ أي: و بملائكته، بأنّهم معصومون مطهّرون وَ كُتُبِهِ أي: و بأنّ القرآن و جميع ما أنزل من الكتب حقّ و صدق وَ رُسُلِهِ و بجميع أنبيائه. فعلى هذا يوقف عليه.

و يجوز أن يكون مبتدأ، فيكون الضمير للمؤمنين، و معناه: كلّ واحد منهم آمن. و بهذا الاعتبار يصحّ

وقوع «كلّ» بخبره خبر المبتدأ. و يكون إفراد «الرسول» بالحكم إمّا لتعظيمه، أو لأنّ إيمانه عن مشاهدة و عيان، و إيمانهم عن نظر و استدلال.

و قرأ حمزة و الكسائي: و كتابه، يعني: القرآن، أو الجنس. و الفرق بينه و بين الجمع أنّه شائع مع وحدان الجنس، لا يخرج منه شي ء، و الجمع في جموعه، فلا يدخل تحته إلّا ما فيه الجنس من الجموع، و لذلك الكتاب أكثر من الكتب.

لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ أي: يقولون: لا نفرّق. و قرأ يعقوب: لا يفرّق بالياء، على أنّ الفعل ل «كلّ». و المراد اعترافهم بنفي الفرق بتصديق بعض و تكذيب بعض، كما فعله أهل الكتاب من اليهود و النصارى.

وَ قالُوا سَمِعْنا أجبنا وَ أَطَعْنا أمرك غُفْرانَكَ رَبَّنا اغفر لنا غفرانك، أو نطلب غفرانك وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ و إلى جزائك و ثوابك المرجع بعد الموت. و هو إقرار منهم بالبعث.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 442

[سورة البقرة (2): آية 286]

لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها لَها ما كَسَبَتْ وَ عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أَوْ أَخْطَأْنا رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ وَ اعْفُ عَنَّا وَ اغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا أَنْتَ مَوْلانا فَانْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (286)

ثمّ بيّن سبحانه أنّه حيثما أمر و نهى لا يكلّف إلّا دون الطاقة، فقال:

لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها الوسع ما تسع له قدرة الإنسان و لا يضيق عليه، أي: لا يأمر و لا ينهى أحدا إلّا ما يسعه. و هذا إخبار عن عدله و رحمته.

لَها ما كَسَبَتْ أي: ثواب ما اكتسبت من الطاعات، لا يثاب بطاعتها غيرها وَ

عَلَيْها مَا اكْتَسَبَتْ أي: عقاب ما اكتسبت من المعاصي و السيّئات، لا يؤاخذ بذنبها غيرها. و تخصيص الكسب بالخير و الاكتساب بالشرّ لأنّ الاكتساب اعتمال، و الشرّ تشتهيه النفس و تنجذب إليه، فكانت أجدّ في تحصيله و أعمل، بخلاف الخير.

رَبَّنا لا تُؤاخِذْنا إِنْ نَسِينا أي: إن لم نفعل فعلا يجب فعله على سبيل السهو أَوْ أَخْطَأْنا أي: فعلنا فعلا يجب تركه من غير قصد، يعني: ترك واجب أو فعل حرام يكون سببهما النسيان و الخطأ. و يحسن هذا في الدعاء على سبيل الانقطاع إلى اللّه تعالى و إظهار الفقر إلى مسألته و الاستعانة به، و إن كان مأمونا منه المؤاخذة بمثله، لاستلزامها القبح، و اللّه تعالى منزّه عنه. و يجري ذلك مجرى قوله

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 443

فيما بعد: وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا و قوله: قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ «1».

رَبَّنا وَ لا تَحْمِلْ عَلَيْنا إِصْراً عبأ «2» ثقيلا يأصر صاحبه، أي: يحبسه في مكانه، يريد به التكاليف الشاقّة كَما حَمَلْتَهُ عَلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِنا حملا مثل حملك إيّاه من قبلنا، أو مثل الّذي حملته إيّاهم، فيكون صفة ل «إصرا».

و المراد به ما كلّف به بني إسرائيل من قتل الأنفس، و قطع موضع النجاسة، و خمسين صلاة في اليوم و الليلة، و صرف ربع المال في الزكاة، أو ما أصابهم من الشدائد و المحن.

رَبَّنا وَ لا تُحَمِّلْنا ما لا طاقَةَ لَنا بِهِ من العقوبات الّتي لا تحملها الطاقة البشريّة النازلة بمن قبلنا. طلبوا الإعفاء عن التكاليف الشاقّة الّتي كلّفها من قبلهم، ثمّ عمّا نزل عليهم من العقوبات على تفريطهم. و التشديد هاهنا لتعدية الفعل إلى المفعول الثاني.

وَ اعْفُ عَنَّا و امح ذنوبنا وَ

اغْفِرْ لَنا و استر عيوبنا، و لا تفضحنا بالمؤاخذة وَ ارْحَمْنا و تعطّف بنا، و تفضّل علينا أَنْتَ مَوْلانا سيّدنا و نحن عبيدك، أو أنت متولّي أمورنا و ناصرنا فَانْصُرْنا أعنّا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ بالقهر لهم، و الغلبة بالحجّة عليهم، فإنّ من حقّ المولى أن ينصر مواليه على الأعداء. و المراد به عامّة الكفّار.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنّ اللّه سبحانه قال عند كلّ فصل من هذا الدعاء:

فعلت و استجبت».

و لهذا استحبّ الإكثار من هذا الدعاء.

ففي الحديث المشهور عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أوتيت خواتيم سورة البقرة من كنز تحت العرش، لم يؤتهنّ نبيّ قبلي».

______________________________

(1) الأنبياء: 112.

(2) العب ء- بكسر العين و سكون الباء-: الحمل و الثقل من أيّ شي ء كان.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 444

و

عنه عليه السّلام: «أنزل اللّه آيتين من كنوز الجنّة، كتبهما الرحمن بيده قبل أن يخلق الخلق بألفي سنة، من قرأهما بعد العشاء الأخيرة أجزأتاه عن قيام الليل».

و مثل ذلك ما

روي عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأ الآيتين من آخر سورة البقرة في ليلة كفتاه، أي: كفتا قيام ليلته».

و

عن عبد اللّه بن مسعود قال: «لمّا أسري برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انتهي به إلى سدرة المنتهي، فأعطي ثلثا الصلوات الخمس و خواتيم سورة البقرة، و غفر لمن لا يشرك باللّه من أمّته إلا المقحمات» «1».

و

في تفسير الكلبي بإسناد ذكره، عن ابن عبّاس قال: «بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذ سمع نقيضا، أي: صوتا، فرفع رأسه فإذا باب من السماء قد فتح، فنزل عليه ملك و قال: اللّه يبشّرك بنورين لم يعطهما

نبيّا قبلك: فاتحة الكتاب و خواتيم سورة البقرة، لا يقرأهما أحد إلّا أعطيته حاجته».

______________________________

(1) أي: الذنوب العظام التي تقحم أصحابها في النار، أي: تلقيهم فيها.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 445

(3) سورة آل عمران

اشارة

هي مدنيّة كلّها. و عدد آياتها مائتان. وعدّ الكوفي «الم» آية، و الإنجيل «1» الثانية آية، و ترك «وَ أَنْزَلَ الْفُرْقانَ».

روي أبيّ بن كعب، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ سورة آل عمران أعطي بكلّ آية منها أمانا على جسر جهنّم».

ابن عبّاس قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من قرأ سورة آل عمران يوم الجمعة صلّى اللّه عليه و ملائكته حتى تجب الشمس».

بريدة قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: تعلّموا سورة البقرة و سورة آل عمران، فإنّهما الزهراوان، و إنهما تظلّان صاحبهما يوم القيامة كأنّهما غمامتان، أو غيابتان، أو فرقان من طير صوافّ».

[سورة آل عمران (3): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (1) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ (2) نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ (3) مِنْ قَبْلُ هُدىً لِلنَّاسِ وَ أَنْزَلَ الْفُرْقانَ إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (4)

______________________________

(1) آل عمران: 48.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 446

و اعلم أنّه سبحانه لمّا ختم سورة البقرة بذكر التوحيد و الإيمان افتتح هذه السورة بالتوحيد و الإيمان أيضا، فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ قيل: الألف إشارة إلى الآية العميمة، و اللام إلى لقاء مرحمته العظيمة، و الميم إلى محبّته القديمة. فبركة الآية في الدنيا شاملة، و نعمة لقائه- الّتي هي عبارة عن نهاية قرب عباده و منزلتهم لديه- إلى أرباب الخصوص واصلة، و فيض محبّة الغير المتناهية في الدارين إلى أخصّ خواصّه حاصلة. و باقي وجوه الحروف المقطّعة مذكورة في صدر سورة البقرة،

فليطالع ثمّة.

و إنّما فتح الميم في المشهور، و كان حقّها أن يوقف عليها، لإلقاء حركة الهمزة عليها، ليدلّ على أنّها في حكم الثابت، لأنّها أسقطت للتخفيف لا للدرج، فإنّ الميم في حكم الوقف، كقولهم: واحد اثنان، لا لالتقاء الساكنين بين الياء و الميم، فإنّه غير محذور في باب الوقف. و قرأ أبو بكر بسكونها، و الابتداء بما بعدها على الأصل.

الْحَيُّ الْقَيُّومُ و تفسيرهما في آية الكرسي «1».

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنّ اسم اللّه الأعظم في ثلاث سور: في البقرة «2»:

اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ و في آل عمران: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ الْحَيُّ الْقَيُّومُ و في طه «3»: وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ

نَزَّلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ القرآن نجوما «4» بِالْحَقِ بالعدل، أو بالصدق في إخباره، أو بالحجج المحقّقة أنّه من عند اللّه تعالى. و هو في موضع الحال. مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب وَ أَنْزَلَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ جملة على موسى و عيسى

______________________________

(1) راجع ص: 401.

(2) البقرة: 255.

(3) طه: 111.

(4) أي: متفرّقا.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 447

مِنْ قَبْلُ من قبل تنزيل القرآن. و هما لفظان أعجميّان على الصحيح. و اشتقاقهما من الورى و النجل، و وزنهما تفعلة و إفعيل، تكلّف و تعسّف. هُدىً لِلنَّاسِ أي:

لقوم موسى و عيسى. و من قال: نحن متعبّدون بشرائع من قبلنا، فسّره على العموم.

وَ أَنْزَلَ الْفُرْقانَ يعني: القرآن. كرّر ذكره بما هو نعت له و مدح، من كونه فارقا بين الحقّ و الباطل، بعد ذكره باسم الجنس، تعظيما لشأنه، أو أراد جنس الكتب السماويّة، لأنّ كلّها فرقان يفرّق بين الحقّ و الباطل.

روي عن الصادق عليه السّلام قال: «الفرقان كلّ آية

محكمة في الكتاب».

و قيل: المراد به الحجّة القاطعة على من حاجّ رسول اللّه في أمر عيسى، كما قال الكلبي و محمد بن إسحاق و الربيع بن أنس: «أنّ وفد نجران قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كانوا ستّين راكبا، فيهم أربعة عشر رجلا من أشرافهم، و كان العاقب أميرهم و صاحب مشورتهم، و هم لا يصدرون إلّا عن رأيه، و اسمه عبد المسيح، و السيّد صاحب رحلهم، و اسمه الأيهم، و أبو حارثة بن علقمة أسقفهم و حبرهم و إمامهم و صاحب مدارسهم، و كان قد شرف فيهم، و كان ملوك أهل الروم قد شرّفوه و بنوا له الكنائس لعلمه و اجتهاده.

فقدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المدينة، و دخلوا مسجده حين صلّى العصر، عليهم الثياب الحبرات و جبب و أردية.

يقول بعض من رآهم من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما رأينا وفدا مثلهم، و

قد حانت صلاتهم، فأقبلوا يضربون بالناقوس، و قاموا فصلّوا في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فقال الصحابة: يا رسول اللّه هذا في مسجدك؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

دعوهم، فصلّوا إلى المشرق.

فكلّم السيّد و العاقب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فقال لهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أسلما؟

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 448

قالا: أسلمنا قبلك.

قال: كذبتما، يمنعكما من الإسلام دعاؤكما للّه ولدا، و عبادتكما الصليب، و أكلكما الخنزير.

قالا: إن لم يكن ولد اللّه فمن أبوه؟ و خاصموه جميعا في عيسى.

فقال لهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ألستم

تعلمون أنّه لا يكون له ولد إلّا و يشبه أباه؟

قالوا: بلى.

قال: ألستم تعلمون أنّ ربّنا حيّ لا يموت، و أنّ عيسى يأتي عليه الفناء؟

قالوا: بلى.

قال: ألستم تعلمون أنّ ربّنا قيّم على كلّ شي ء يحفظه و يرزقه؟

قالوا: بلى.

قال: فهل يملك عيسى عليه السّلام من ذلك شيئا؟

قالوا: لا.

قال: ألستم تعلمون أنّ اللّه لا يخفى عليه شي ء في الأرض و لا في السماء؟

قالوا: بلى.

قال: فهل يعلم عيسى من ذلك إلّا ما علّم؟

قالوا: لا.

قال: فإنّ ربّنا صوّر عيسى في الرحم كيف شاء، و ربّنا لا يأكل و لا يشرب و لا يحدث.

قالوا: بلى.

قال: ألستم تعلمون أنّ عيسى حملته أمّه كما تحمل المرأة، و وضعته كما تضع المرأة ولدها، ثمّ غذّي كما يغذّى الصبيّ، ثمّ كان يطعم و يشرب و يحدث؟

قالوا: بلى.

قال: فكيف يكون هذا كما زعمتم؟

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 449

فسكتوا، فأنزل اللّه تعالى فيهم صدر سورة آل عمران إلى بضع و ثمانين آية.

ففي شأنهم قوله عزّ و جلّ: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ من كتبه المنزلة و غيرها من الحجج الهادية لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بسبب كفرهم وَ اللَّهُ عَزِيزٌ غالب لا يمنع من التعذيب ذُو انْتِقامٍ لا يقدر على مثله منتقم. و النقمة عقوبة المجرم، و الفعل منه: نقم بالفتح و الكسر. و هو وعيد جي ء به بعد تقرير التوحيد، و الإشارة إلى ما هو العمدة في إثبات النبوّة، تعظيما للأمر، و زجرا عن الإعراض عنه.

[سورة آل عمران (3): الآيات 5 الى 6]

إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْ ءٌ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ (5) هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (6)

إِنَّ اللَّهَ لا يَخْفى عَلَيْهِ شَيْ ءٌ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ أيّ شي ء كائن في العالم،

كلّيا أو جزئيّا. و إنّما قدّم الأرض ترقّيا من الأدنى إلى الأعلى، و لأنّ المقصود بالذكر عدم خفاء ما اقترف فيها من الإيمان و الطاعة و الكفر و المعصية على اللّه تعالى، و هو كالدليل على كونه حيّا.

و قوله: هُوَ الَّذِي يُصَوِّرُكُمْ فِي الْأَرْحامِ كَيْفَ يَشاءُ أي: من الصور المختلفة المتفاوتة على أيّ صفة يشاء، من قبيح أو صبيح، ذكر أو أنثى، طويل أو قصير، كالدليل على القيّوميّة، و الاستدلال على أنّه عالم بإتقان فعله في خلق الجنين و تصويره.

لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إذ لا يعلم غيره جملة ما يعلمه، و لا يقدر على مثل ما يفعله الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ إشارة إلى كمال قدرته و تناهي حكمته، و تنبيه على كون عيسى مصوّرا في الرحم، و يخفى عليه ما لا يخفى على اللّه، فكيف يكون ربّا كما زعم أهل وفد نجران؟!

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 450

زبدة التفاسير ج 1 499

روي عن الصادق عليه السّلام: أنّ هذه الآية دلّت على وحدانيّة اللّه سبحانه، و كمال قدرته، و تمام حكمته، حيث صوّر الولد في رحم الأمّ على صفة مخصوصة، و ركّب فيه من أنواع البدائع من غير آلة و لا كلفة، و قد تقرّر في عقل كلّ عاقل أنّ العالم لو اجتمعوا على أن يخلقوا من الماء بعوضة، و يصوّروا منه صورة في حال ما يشاهدونه و يصرفونه، لم يقدروا على ذلك، و لا وجدوا إليه سبيلا، فكيف يقدرون على الخلق في الأرحام؟ فتبارك اللّه أحسن الخالقين.

[سورة آل عمران (3): آية 7]

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ وَ ما يَعْلَمُ

تَأْوِيلَهُ إِلاَّ اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا وَ ما يَذَّكَّرُ إِلاَّ أُولُوا الْأَلْبابِ (7)

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ عَلَيْكَ الْكِتابَ أي: القرآن مِنْهُ آياتٌ مُحْكَماتٌ أحكمت عبارتها، بأن حفظت من الاحتمال و الاشتباه هُنَّ أُمُّ الْكِتابِ أصله، تحمل المتشابهات عليها، و تردّ إليها. و القياس: أمّهات، فأفرد على تأويل كلّ واحدة، أو على أنّ الكلّ بمنزلة آية واحدة.

وَ أُخَرُ مُتَشابِهاتٌ مشبّهات محتملات، لا يتّضح مقصودها- لإجمال أو مخالفة ظاهر- إلّا بالفحص و النظر، ليظهر فيها فضل العلماء، و يزداد حرصهم على أن يجتهدوا في تدبّرها، و تحصيل العلوم المتوقّف عليها استنباط المراد بها، فينالوا بها و بإتعاب القرائح في استخراج معانيها و التوفيق بينها و بين المحكمات معالي الدرجات. و لو كان القرآن كلّه محكمات لتعلّق به الناس بسهولة أخذه، و لأعرضوا

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 451

عمّا يحتاجون فيه إلى النظر و الاستدلال. و لو فعلوا ذلك لعطّلوا الطريق الّذي يتوصّل إلى معرفة اللّه و توحيده، و لكان لا يتبيّن فضل العلماء الّذين ينقّبون بقرائحهم في استخراج المعاني المتشابهة، و ردّ ذلك إلى المحكم.

و أمّا قوله: الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ «1» فمعناه: أنّها حفظت من فساد المعنى و ركاكة اللفظ. و قوله: كِتاباً مُتَشابِهاً «2» فمعناه: أنّه يشبه بعضه بعضا في صحّة المعنى و جزالة اللفظ.

و «أخر» جمع أخرى. و إنّما لم ينصرف لأنّه وصف معدول عن الآخر، و لا يلزم منه معرفته، لأنّ معناه أنّ القياس أن يعرّف و لم يعرّف، لا أنّه في معنى المعرّف، أو عن: آخر من.

فَأَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ زَيْغٌ أي: ميل و عدول عن الحقّ، فيتّبعون ما تشابه منه كالمبتدعة فَيَتَّبِعُونَ ما تَشابَهَ مِنْهُ فيتعلّقون

بالمتشابه الّذي يحتمل ما يذهب إليه أهل البدعة ممّا لا يطابق المحكم، و يحتمل ما يطابقه من قول أهل الحقّ ابْتِغاءَ الْفِتْنَةِ طلب أن يفتنوا الناس عن دينهم بالتشكيك و التلبيس و مناقضة المحكم بالمتشابه، فيضلّونهم وَ ابْتِغاءَ تَأْوِيلِهِ و طلب أن يؤوّلوه على ما يشتهونه. و يحتمل أن يكون الداعي إلى الاتّباع مجموع الطلبتين، أو كلّ واحدة منهما على التعاقب. و الأوّل يناسب المعاند، و الثاني يلائم الجاهل.

وَ ما يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ الّذي يجب أن يحمل عليه إِلَّا اللَّهُ وَ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ و العلماء الّذين رسخوا في العلم، أي: ثبتوا فيه و تمكّنوا. و من وقف على «اللّه» فسّر المتشابه بما استأثر اللّه تعالى بعلمه، كمدّة بقاء الدنيا، و وقت قيام الساعة، و خواصّ الأعداد كعدد الزبانية، أو بما دلّ القاطع على أنّ ظاهره غير مراد،

______________________________

(1) هود: 1.

(2) الزمر: 23.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 452

و لم يدلّ على ما هو المراد. و الوجه الأوّل

مرويّ عن الباقر عليه السّلام، قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أفضل الراسخين في العلم».

يَقُولُونَ آمَنَّا بِهِ استئناف موضح لحال كلّ الراسخين. و المعنى: هؤلاء الراسخون العاملون بالتأويل يقولون: آمنّا به، أي: بالمتشابه، أو حال منهم، أو خبر إن جعلته مبتدأ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ رَبِّنا أي: كلّ واحد منه و من المحكم من عند اللّه الحكيم الّذي لا يتناقض كلامه وَ ما يَذَّكَّرُ إِلَّا أُولُوا الْأَلْبابِ أي: لا يتلفّظ بالقرآن إلّا ذوو العقول الصافية، الخالصة عن الشوائب النفسانيّة و الكدورات الشهوانيّة.

و هذا مدح للراسخين بجودة الذهن، و حسن التأمّل و التفكّر و التذكّر. و إشارة إلى ما استعدّوا به للاهتداء إلى تأويله، و هو تجرّد العقل

عن غواشي الحسّ.

و اتّصال هذه الآية بما قبلها من حيث إنّها في تصوير الروح بالعلم و تربيته، و ما قبلها في تصوير الجسد و تسويته، أو أنّها جواب عن تشبّث النصارى بنحو قوله: وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ «1»، كما أنّه جواب عن قولهم: لا أب له غير اللّه، فتعيّن أن يكون هو ابنه. و أجيب بأنّه مصوّر الأجنّة كيف يشاء، فيصوّر من نطفة أب و من غيرها، و بأنّه مصوّره في الرحم، و المصوّر لا يكون أب المصوّر.

[سورة آل عمران (3): الآيات 8 الى 9]

رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (8) رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (9)

قوله: رَبَّنا لا تُزِغْ قُلُوبَنا من مقال الراسخين. و قيل: استئناف. و المعنى:

لا تمنعنا لطفك الّذي معه تستقيم القلوب، فتميل قلوبنا عن نهج الحقّ إلى اتّباع

______________________________

(1) النساء: 171.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 453

المتشابه بتأويل لا ترتضيه بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا بعد إذ لطفت بنا و وفّقتنا طريق الهداية.

أو معناه: لا تختبرنا ببلايا تزيغ فيها قلوبنا بعد إذ أرشدتنا إلى دينك. و نظيره قوله:

فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ تَوَلَّوْا إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ «1». فأضافوا ما يقع من زيغ القلوب إليه سبحانه، لأنّه كان عند امتحانه و تشديد تكليفه. و «بعد» نصب على الظرف، و «إذ» في موضع الجرّ بإضافته إليه.

وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً من عندك، نعمة بالتوفيق و المعونة للثبات على الحقّ، تزلفنا إليك، و نفوز بها عندك. أو مغفرة للذنوب إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ لكلّ سؤل.

رَبَّنا إِنَّكَ جامِعُ النَّاسِ لِيَوْمٍ يجمعهم لحساب يوم أو لجزائه، كقوله تعالى:

يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ «2» لا رَيْبَ فِيهِ

في وقوع اليوم، و ما فيه من الحشر و الجزاء. نبّهوا به على أنّ معظم غرضهم من قولهم: «لا تُزِغْ قُلُوبَنا بَعْدَ إِذْ هَدَيْتَنا وَ هَبْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً» ما يتعلّق بالآخرة، فإنّها المقصد الأصلي و المال الحقيقي.

إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ أي: لا يخلف ما وعد المسلمين و الكافرين من الثواب و العقاب، فإنّ الإلهيّة تنافي خلف الميعاد. و الانتقال من الخطاب إلى الغيبة للإشعار بذلك، و تعظيم الموعود. و استدلّ به الوعيديّة. و أجيب بأنّ وعيد الفسّاق مشروط بعدم العفو، لدلائل قاطعة، كما هو مشروط بعدم التوبة وفاقا.

[سورة آل عمران (3): الآيات 10 الى 13]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ أُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ (10) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَ اللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (11) قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمِهادُ (12) قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا فِئَةٌ تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ أُخْرى كافِرَةٌ يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ رَأْيَ الْعَيْنِ وَ اللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (13)

______________________________

(1) البقرة: 246.

(2) التغابن: 9.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 454

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عامّ في الكفرة. و قيل: المراد به وفد نجران، أو اليهود، أو مشركو العرب لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي: من رحمته على معنى البدليّة. ف «من» في قوله: «من اللّه» مثل الّذي في قوله: وَ إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً «1». و مثله: و لا ينفع ذا الجدّ منك الجدّ، أي: لا ينفعه جدّه من الدنيا بدلك، أي: بدل طاعتك و عبادتك و ما عندك. و

قيل: معناه: من عذابه شيئا، أي: لا يدفع عنهم أموالهم و أولادهم من عذاب اللّه شيئا وَ أُولئِكَ هُمْ وَقُودُ النَّارِ حطبها، تتّقد النار بأجسامهم.

و قوله: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ منصوب المحلّ بقوله: «لن تغني» أو بالوقود.

و المعنى: لن تغني عنهم كما لم تغن عن أولئك، أو توقد بهم كما توقد بأولئك، كما تقول: إنّك لتظلم الناس كدأب أبيك، تريد: كظلم أبيك، و إنّ فلانا لمحارف كدأب أبيه، تريد: كما حورف أبوه. أو استئناف مرفوع المحلّ، و تقديره: دأب هؤلاء كدأبهم في الكفر و العذاب. و هو مصدر: دأب في العمل إذا كدح فيه، فنقل إلى معنى

______________________________

(1) النجم: 28.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 455

ما عليه الإنسان من شأنه و حاله.

وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ عطف على آل فرعون. و قيل: كلام مستأنف. كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ حال بإضمار «قد». أو استئناف مفسّر ذاتهم و حالهم، كأنّه جواب لمن يسأل عن حالهم. أو خبر إن ابتدأت ب «الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ».

وَ اللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ تهويل للمؤاخذة، و زيادة تخويف للكفرة.

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ إِلى جَهَنَّمَ قيل: خطاب لمشركي مكّة، فإنّهم غلبوا يوم بدر. و

قيل: هم اليهود جمعهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد وقعة بدر في سوق بني قينقاع، فقال: يا معشر اليهود احذروا ما نزل بقريش، و أسلموا قبل أن ينزل بكم مثل ما نزل بهم، فقد عرفتم أنّي نبيّ مرسل، فقالوا: لا يغرّنّك أنّك لقيت قوما أغمارا «1» لا علم لهم بالحرب فأصبت منهم فرصة، و لئن قاتلتنا لعرفت أنّا نحن الناس، فنزلت.

و قد صدق اللّه وعده لهم بقتل قريظة، و إجلاء بني النضير، و فتح خيبر، و ضرب الجزية

على من عداهم، و هو من دلائل النبوّة. و المعنى:

ستصيرون مغلوبين في الدنيا، و تحشرون إلى جهنّم في الآخرة.

و قرأ حمزة و الكسائي بالياء فيهما، على أن الأمر بأن يحكي النبيّ لهم ما أخبره به من وعيدهم بلفظه، فهو مثل قوله: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ «2» أي: قل لهم قولي: سيغلبون.

وَ بِئْسَ الْمِهادُ تمام ما يقال لهم أو استئناف، و تقديره: بئس المهاد جهنّم، أو ما يمهّدونه لأنفسهم.

قَدْ كانَ لَكُمْ آيَةٌ الخطاب لقريش أو لليهود. و قيل: للمؤمنين. فِي فِئَتَيْنِ الْتَقَتا يوم بدر فِئَةٌ أي: فرقة تُقاتِلُ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي: في دينه و طاعته، و هم الرسول و أصحابه وَ أُخْرى و فرقة أخرى كافِرَةٌ و هم مشركو مكّة

______________________________

(1) الأغمار جمع غمر، و هو الجاهل الغرّ الذي لم يجرّب الأمور.

(2) الأنفال: 38.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 456

يَرَوْنَهُمْ مِثْلَيْهِمْ يرى المشركون المؤمنين مثلي عدد المشركين، و كان عددهم قريب ألف، أو مثلي عدد المسلمين، و كان عددهم ثلاثمائة و بضعة عشر. و ذلك كان بعد ما قلّلهم في أعينهم حتى اجترءوا عليهم و توجّهوا إليهم، فلمّا لا قوهم كثّروا في أعينهم حتى غلبوا، مددا من اللّه تعالى للمؤمنين. فلا منافاة بينه و بين قوله في سورة الأنفال: وَ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ «1». أو يرى المؤمنون المشركين مثلي المؤمنين- و كانوا ثلاثة أمثالهم- ليثبتوا لهم، و يتيقّنوا بالنصر الذي وعدهم اللّه تعالى به في قوله: فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ «2». و يؤيّده قراءة نافع و يعقوب بالتاء.

رَأْيَ الْعَيْنِ رؤية ظاهرة معاينة مكشوفة.

وَ اللَّهُ يُؤَيِّدُ بِنَصْرِهِ مَنْ يَشاءُ نصره، كما أيّد المسلمين في بدر إِنَّ فِي ذلِكَ أي: في

التقليل و التكثير، أو غلبة القليل عديم العدّة على الكثير شاكي السلاح لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ لعظة لذوي البصائر. و قيل: لمن أبصرهم.

[سورة آل عمران (3): آية 14]

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ مِنَ النِّساءِ وَ الْبَنِينَ وَ الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ وَ الْأَنْعامِ وَ الْحَرْثِ ذلِكَ مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ (14)

زُيِّنَ لِلنَّاسِ حُبُّ الشَّهَواتِ أي: المشتهيات. جعل اللّه سبحانه الأعيان الّتي ذكرها شهوات مبالغة في كونها مشتهاة محروصا على الاستمتاع بها، و إيماء على

______________________________

(1) الأنفال: 44.

(2) الأنفال: 66.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 457

أنّهم انهمكوا في محبّتها حتى أحبّوا شهوتها. و المزيّن هو اللّه سبحانه بما جعل في الطباع من الميل إليها، ابتلاء و تشديدا للتكليف، كقوله: إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ «1». أو لأنّه يكون وسيلة إلى السعادة الأخرويّة إذا كان على وجه يرتضيه اللّه، أو لأنّه من أسباب التعيّش و بقاء نوع الإنسان. و عن الحسن: زيّنها الشيطان لهم، لأنّا لا نعلم أحدا أذمّ لها من خالقها. و عند الجبائي: للشهوة المباحة هو اللّه تعالى «2»، للشهوة المحرّمة هو الشيطان.

ثمّ بيّن الشهوات بقوله: مِنَ النِّساءِ قدّمهنّ لأنّ الفتنة بهنّ أعظم، كما

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما تركت بعدي فتنة أضرّ على الرجال من النساء».

و

قال: «النساء حبائل الشيطان».

و

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «المرأة شرّ كلّها، و شرّ ما فيها أنّه لا بدّ منها، و هي عقرب حلوة اللسعة».

ثمّ ثنّى بقوله: وَ الْبَنِينَ لأنّ حبّهم داع إلى جمع الحرام.

ثمّ ثلّث بقوله: وَ الْقَناطِيرِ الْمُقَنْطَرَةِ مِنَ الذَّهَبِ وَ الْفِضَّةِ لأنّهما- لكونهما وسيلة إلى تحصيل سائر المقاصد و المطالب- أحبّ إلى الناس من غيرهما من الأمتعة الدنيويّة. و

القنطار المال الكثير. و قيل: سبعون ألف دينار. و قيل: مائة ألف دينار. و قيل: مل ء مسك ثور. و اختلف في أنّه فعلال أو فنعال. و المقنطرة مأخوذ منه للتأكيد، كقولهم: بدرة مبدّرة، و ألف مؤلّفة.

وَ الْخَيْلِ الْمُسَوَّمَةِ المعلمة. و هي من السومة، و هي العلامة، أو المرعيّة من: أسام الدابّة و سوّمها. و لمّا كانت الخيل أشرف الحيوانات بعد الإنسان قدّمها على قوله: وَ الْأَنْعامِ و هي: الإبل و البقر و الغنم. و لشرف الحيوانات على الجمادات قدّمها على قوله: وَ الْحَرْثِ و هو جنس المزروعات.

______________________________

(1) الكهف: 7.

(2) أي: المزيّن هو اللّه تعالى.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 458

ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا أي: ما يتمتّع بها الإنسان في زمان الحياة الدنيويّة وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الْمَآبِ أي: المرجع. و هو تحريض على استبدال ما عنده من اللذّات الحقيقيّة الأبديّة بالشهوات الناقصة الفانية.

[سورة آل عمران (3): الآيات 15 الى 17]

قُلْ أَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (15) الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ قِنا عَذابَ النَّارِ (16) الصَّابِرِينَ وَ الصَّادِقِينَ وَ الْقانِتِينَ وَ الْمُنْفِقِينَ وَ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ (17)

ثمّ استأنف كلاما مقرّرا، و تقريره: أنّ ثواب اللّه خير من مستلذّات الدنيا، فقال: قُلْ أَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ أي: من متاع الدنيا و مستلذّاتها لِلَّذِينَ اتَّقَوْا عِنْدَ رَبِّهِمْ اللام متعلّقة ب «خير». و اختصّ المتّقين لأنّهم المنتفعون به. و يجوز أن يكون خبرا لقوله: جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها، أو يكون استئنافا لبيان ما هو خير، و يرتفع بالخبر على تقدير: هو جنّات وَ

أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ ممّا يستقذر و ينفر من النساء وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ قرأ أبو بكر بضمّ الراء حيث كان إلّا الثاني «1» من المائدة، و هو قوله: رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ و هما لغتان. وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ أي: بأعمالهم، فيثيب المحسن و يعاقب المسي ء، أو بأحوال الّذين اتّقوا، فلذلك أعدّ لهم جنّات.

و قد نبّه بهذه الآية على مراتب نعمه، فأدناها متاع الدنيا، و أعلاها رضوان

______________________________

(1) المائدة: 16، و الأول هو الآية (2) منها.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 459

اللّه، لقوله تعالى: وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ «1»، و أوسطها الجنّة و نعيمها.

الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا إِنَّنا آمَنَّا أي: صدّقنا باللّه و رسوله فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا استرها علينا و تجاوزها عنّا وَ قِنا عَذابَ النَّارِ. و الموصول موضع جرّ، لكونه صفة للمتّقين، أو للعباد، أو موضع رفع، أو نصب على المدح. و في ترتيب السؤال على مجرّد الإيمان دليل على أنّه كاف في استحقاق المغفرة أو الاستعداد لها.

ثمّ بيّن صفاتهم الحسنة و سماتهم السيّئة بقوله: الصَّابِرِينَ على فعل ما أمرهم اللّه به، و ترك ما نهاهم عنه وَ الصَّادِقِينَ في إيمانهم و أقوالهم وَ الْقانِتِينَ المطيعين. و قيل: الدائمين على العبادة وَ الْمُنْفِقِينَ أموالهم في سبيل اللّه وَ الْمُسْتَغْفِرِينَ بِالْأَسْحارِ أي: المصلّين وقت السحر. و قيل:

الّذين تنتهي صلاتهم إلى وقت السحر، ثمّ يستغفرونه و يدعون. و توسيط الواو بين الصّفات للدلالة على استقلال كلّ واحد منها و كمالهم فيها، أو لتغاير الموصوفين بها.

و حصر هذه الصفات لمقامات السالك على أحسن ترتيب، فإنّ معاملته مع اللّه تعالى إمّا توسّل و إمّا طلب. و التوسّل إمّا بالنفس، و هو منعها عن الرذائل، و حبسها على الفضائل، و الصّبر يشملهما. و

إمّا بالبدن، و هو إمّا قول، و هو الصدق، و إمّا فعل، و هو القنوت الّذي هو ملازمة الطاعة. و إمّا بالمال، و هو الإنفاق في سبيل الخير. و أمّا الطلب فبالاستغفار، لأنّ المغفرة أعظم المطالب، بل الجامع لها. و تخصيص الأسحار، لأنّ الدعاء فيها للمتهجّدين أقرب إلى الإجابة، لأنّ العبادة حينئذ أشقّ، و النفس أصفى، و القلب أجمع، سيّما للمتهجّدين.

______________________________

(1) التوبة: 72.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 460

[سورة آل عمران (3): الآيات 18 الى 19]

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَ الْمَلائِكَةُ وَ أُولُوا الْعِلْمِ قائِماً بِالْقِسْطِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18) إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (19)

ثمّ بيّن وحدانيّته بنصب الدلائل الدالّة عليها، و إنزال الآيات الناطقة بها، فقال: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ شبّه سبحانه دلالته على وحدانيّته بالأفعال الّتي لا يقدر عليها غيره، و الآيات الناطقة بتوحيده، مثل سورة الإخلاص و آية الكرسي و غيرهما، بشهادة الشاهد في البيان و الكشف. و كذلك قوله: وَ الْمَلائِكَةُ بالإقرار بها وَ أُولُوا الْعِلْمِ بالإيمان بها و الاحتجاج عليها. فشبّه إقرار الملائكة و أولي العلم بشهادة الشاهد في الكشف و البيان.

قائِماً بِالْقِسْطِ مقيما للعدل فيما يقسم للعباد من الأرزاق و الآجال، و فيما يأمر به عباده من الإنصاف و العمل على التسوية فيما بينهم. و انتصابه على أنّه حال مؤكّدة من اسم اللّه، كقوله: وَ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً «1». و إنّما جاز إفراده بها، و لم يجز:

جاء زيد و عمرو راكبا، لعدم اللبس، كقوله تعالى: وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ نافِلَةً «2».

لا إِلهَ

إِلَّا هُوَ كرّره للتأكيد، و مزيد الاعتناء بمعرفة أدلّة التوحيد، و الحكم به بعد إقامة الحجّة، و ليبني عليه قوله: الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ فيعلم أنّه الموصوف بهما.

______________________________

(1) البقرة: 91.

(2) الأنبياء: 72.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 461

و قدّم العزيز لتقدّم العلم بقدرته على العلم بحكمته. و رفعهما على البدل من الضمير، أو الصفة لفاعل «شهد».

و

في المدارك «1» «روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأ هذه الآية عند منامه خلق اللّه تعالى منها سبعين ألف خلق يستغفرون له إلى يوم القيامة. و من قال بعدها: و أنا أشهد بما شهد اللّه به، و أستودع اللّه هذه الشهادة، و هي لي عند اللّه وديعة، يقول اللّه تعالى يوم القيامة: إنّ لعبدي عندي عهدا و أنا أحقّ من و في بالعهد، أدخلوا عبدي الجنّة».

و قال سعيد بن جبير: «كان حول الكعبة ثلاثمائة و ستّون صنما، فلمّا نزلت:

شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ، خررن سجّدا». و هو دليل على فضل علم أصول الدين و شرف أهله.

و قوله: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ جملة مستأنفة مؤكّدة للأولى، أي: لا دين مرضيّ عند اللّه تعالى سوى الإسلام، و هو التوحيد و التدرّع بالشرع الّذي جاء به محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و قرأ الكسائي بالفتح «2» على أنّه بدل من «أنّه»، بدل الكلّ إن فسّر الإسلام بالإيمان أو بما يتضمّنه، و بدل الاشتمال إن فسّر بالشريعة.

وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من اليهود و النصارى، أو من أرباب الكتب المتقدّمة، في دين اللّه الّذي بيّنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فقال قوم: إنّه حقّ، و قال قوم: إنّه مخصوص بالعرب، و نفاه

آخرون مطلقا أو في التوحيد. فثلّث النصارى، و قالت اليهود: عزير ابن اللّه. و قيل: هم قوم موسى اختلفوا بعده. و قيل: هم النصارى

______________________________

(1) مدارك التنزيل المطبوع بهامش تفسير الخازن 1: 217.

(2) أي: بفتح «أن» في قوله تعالى: إِنَّ الدِّينَ عِنْدَ اللَّهِ الْإِسْلامُ على أنه بدل من «أنه» في قوله تعالى: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 462

اختلفوا في أمر عيسى عليه السّلام. إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ أي: من بعد ما علموا حقيقة الأمر، و تمكّنوا من العلم بها بالآيات و الحجج بَغْياً بَيْنَهُمْ حسدا بينهم، و طلبا للرئاسة، لا لشبهة لهم في الإسلام و خفاء في الأمر.

وَ مَنْ يَكْفُرْ بِآياتِ اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ لا يفوته شي ء من أعمالهم.

هذا وعيد لمن كفر منهم.

[سورة آل عمران (3): آية 20]

فَإِنْ حَاجُّوكَ فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ وَ مَنِ اتَّبَعَنِ وَ قُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْأُمِّيِّينَ أَ أَسْلَمْتُمْ فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (20)

فَإِنْ حَاجُّوكَ في الدين، و جادلوك فيه بعد ما أقمت الحجج فَقُلْ أَسْلَمْتُ وَجْهِيَ لِلَّهِ أخلصت نفسي و جملتي للّه وحده، لا أشرك فيها غيره. و المعنى: ديني التوحيد، و هو الأصل الّذي يلزم جميع المكلّفين الإقرار به. و إنّما عبّر بالوجه عن النفس لأنّه أشرف الأعضاء الظاهرة، و مظهر القوى و الحواسّ. وَ مَنِ اتَّبَعَنِ عطف على التاء، و حسن للفصل، أو مفعول معه.

وَ قُلْ لِلَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ من اليهود و النصارى وَ الْأُمِّيِّينَ الّذين لا كتاب لهم، كمشركي العرب أَ أَسْلَمْتُمْ كما أسلمت، لمّا وضحت لكم الحجّة على صحّة الإسلام، أم أنتم بعد على كفركم؟! و نظيره قوله: فَهَلْ

أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ «1».

و فيه تعيير لهم بالبلادة أو المعاندة. لفظه لفظ الاستفهام، و المراد الأمر.

فَإِنْ أَسْلَمُوا فَقَدِ اهْتَدَوْا فقد نفعوا أنفسهم، بأن أخرجوها من الضلال إلى الهدى وَ إِنْ تَوَلَّوْا أي: كفروا و لم يقبلوا، و أعرضوا عنه، فلم يضرّوك

______________________________

(1) المائدة: 91.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 463

فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ إذ ما عليك إلا أن تبلّغ و قد بلّغت وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ وعد و وعيد.

[سورة آل عمران (3): الآيات 21 الى 22]

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ يَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (21) أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (22)

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ يجحدون حجج اللّه و بيّناته وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍ أي: قتلهم لا يكون إلا بغير حقّ.

روي عن أبي عبيدة بن الجرّاح قال: «قلت: يا رسول اللّه أيّ الناس أشدّ عذابا يوم القيامة؟ قال: رجل قتل نبيّا أو رجلا أمر بمعروف أو نهى عن منكر، ثمّ قرأ عليه السّلام: وَ يَقْتُلُونَ النَّبِيِّينَ بِغَيْرِ حَقٍ وَ يَقْتُلُونَ الَّذِينَ يَأْمُرُونَ بِالْقِسْطِ مِنَ النَّاسِ ثمّ قال عليه السّلام: يا أبا عبيدة قتلت بنو إسرائيل ثلاثة و أربعين نبيّا من أوّل النهار في ساعة واحدة، فقام مائة رجل و اثنا عشر رجلا من عبّاد بني إسرائيل، فأمروا من قتلوهم بالمعروف و نهوهم عن المنكر، فقتلوا جميعا من آخر النهار في ذلك اليوم، و هو الّذي ذكره اللّه تعالى».

و كذا قال المفسّرون «1».

فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ هم أهل الكتاب الّذين في عصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قتل أوّلوهم الأنبياء و متابعيهم من عبّاد بني إسرائيل، و كان هؤلاء راضين بما فعلوا، و قصدوا

قتل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنين، و لكنّ اللّه عصمهم. و قد سبق «2» مثله في سورة البقرة.

______________________________

(1) الكشّاف 1: 347- 348، مجمع البيان 2: 423.

(2) في ص: 159 ذيل الآية 61.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 464

و قرأ حمزة: و يقاتلون الّذين. و قد منع سيبويه إدخال الفاء في خبر «إنّ»، ك: ليت و لعلّ، و لذلك قيل: الخبر قوله: أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا إذ لم ينالوا بها الثناء و المدح، و لم تحقن دماؤهم و أموالهم وَ الْآخِرَةِ بأنّهم لم يستحقّوا بها الثواب، فصارت كأنّها لم تكن. و هذا هو حقيقة الحبوط، و هو الوقوع على خلاف الوجه المأمور به، فلا يستحقّ عليه الثواب و الأجر. و هذا التركيب عند سيبويه كقولك: زيد فافهم رجل صالح. و الفرق بين «إنّ» و «ليت و لعلّ» أنه لا يغيّر معنى الابتداء، بخلافهما. وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يدفعون عنهم العذاب.

[سورة آل عمران (3): الآيات 23 الى 25]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ وَ هُمْ مُعْرِضُونَ (23) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلاَّ أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ وَ غَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24) فَكَيْفَ إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ لا رَيْبَ فِيهِ وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (25)

أَ لَمْ تَرَ ألم ينته علمك إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً أعطوا حظّا وافرا مِنَ الْكِتابِ أي: التوراة، أو جنس الكتب السماويّة. و «من» للتبعيض أو البيان.

و تنكير النصيب يحتمل التعظيم و التحقير. يُدْعَوْنَ إِلى كِتابِ اللَّهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ الداعي محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و كتاب اللّه تعالى القرآن و

التوراة، لما

روي: «أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دخل مدارسهم فدعاهم، فقال له نعيم بن عمرو و الحارث بن زيد: على أيّ دين أنت؟

فقال عليه السّلام: على دين إبراهيم، فقالا له: إنّ إبراهيم كان يهوديّا، فقال: هلموا إلى

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 465

التوراة، فإنّها بيننا و بينكم، فأبيا، فنزلت».

و قيل: نزلت في الرجم. و قد اختلفوا فيه، لما

روي عن ابن عبّاس: «أنّ رجلا و امرأة من أهل خيبر زنيا- و كانا ذوي شرف فيهم، و كان في كتابهم الرجم- فكرهوا رجمهما لشرفهما، و رجوا أن يكون عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رخصة في أمرهما، فرفعوا أمرهما إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فحكم عليهما بالرجم.

فقال له النعمان بن أوفى و بحريّ بن عمرو: جرت عليهما يا محمّد، ليس عليهما الرجم.

فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: بيني و بينكم التوراة.

قالوا: قد أنصفتنا.

قال: فمن أعلمكم بالتوراة؟

قالوا: رجل أعور يسكن فدك، يقال له: ابن صوريا. فأرسلوا إليه، فقدم المدينة، و كان جبرئيل عليه السّلام قد وصفه لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنت ابن صوريا؟

قال: نعم.

قال: أنت أعلم اليهود؟

قال: كذلك يزعمون.

قال: فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بشي ء من التوراة فيها الرجم مكتوب، فقال له:

اقرأ، فلمّا أتى على آية الرجم وضع كفّه عليها و قرأ ما بعدها.

فقال ابن سلام: يا رسول اللّه قد جاوزها، و قام إلى ابن صوريا و رفع كفّه عنها، ثمّ قرأ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

و على اليهود بأنّ المحصن و المحصنة إذا زنيا و قامت عليهما البيّنة رجما، و إن كانت المرأة حبلى تربّص بها حتى تضع ما في بطنها.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 466

فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم باليهوديّين فرجما، فغضب اليهود لذلك، فنزلت».

ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ طائفة منهم عن الداعي. و في «ثمّ» استبعاد لتولّيهم مع علمهم بأن الرجوع إلى كتاب اللّه واجب. وَ هُمْ مُعْرِضُونَ و هم قوم عادتهم الإعراض. و الجملة حال من «فريق»، و إنّما ساغ لتخصّصه بالصفة.

ذلِكَ إشارة إلى التولّي و الاعراض بِأَنَّهُمْ قالُوا لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ أي: قلائل، أربعين يوما عدد أيّام عبادتهم العجل، أو سبعة أيّام. يعني:

جرأتهم على التولّي و التعرّض بسبب تسهيلهم أمر العقاب على أنفسهم، لهذا الاعتقاد الزائغ و الطمع الفارغ، من خوف الخلود في النار وَ غَرَّهُمْ فِي دِينِهِمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ من أنّ النار لن تمسّهم إلّا أيّاما قلائل، أو أنّ آباءهم الأنبياء يشفعون لهم، أو أنّه تعالى وعد يعقوب عليه السّلام أن لا يعذّب أولاده إلّا تحلّة القسم، أو أنّهم أبناء اللّه و أحبّاؤه.

فَكَيْفَ يصنعون إِذا جَمَعْناهُمْ لِيَوْمٍ أي: لجزاء يوم لا رَيْبَ فِيهِ أي:

لا شكّ في وقوعه لمن نظر في الأدلّة. فهذا استعظام لما يحيق بهم في الآخرة، و تكذيب لقولهم: «لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُوداتٍ».

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنّ أوّل راية ترفع يوم القيامة من رايات الكفّار راية اليهود، فيفضحهم اللّه تعالى على رؤوس الأشهاد، ثمّ يأمر بهم إلى النار».

وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ جزاء ما كسبت وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ الضمير يرجع إلى «كلّ نفس» على المعنى، لأنّه

في معنى: كلّ إنسان.

و في الآية دلالة على أنّ العبادة لا تحبط، و أنّ المؤمن لا يخلّد في النار، لأنّ توفية جزاء إيمانه و عمله الصالح لا تكون في النار و لا قبل دخولها، فإذن هي بعد الخلاص منها.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 467

[سورة آل عمران (3): الآيات 26 الى 27]

قُلِ اللَّهُمَّ مالِكَ الْمُلْكِ تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ بِيَدِكَ الْخَيْرُ إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (26) تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ تُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ تُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَ تَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (27)

روي أنه لمّا فتح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مكّة و وعد أمّته ملك فارس و الروم، قال المنافقون و اليهود: هيهات من أين لمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ملك فارس و الروم؟ ألم تكفه المدينة و مكّة حتى طمع في الروم و فارس؟ فنزلت.

قُلِ اللَّهُمَ الميم عوض عن «يا» و لذلك لا يجتمعان، و هو من خصائص هذا الاسم، كاختصاص دخول «يا» عليه مع لام التعريف و قطع همزته، و تاء القسم.

و قيل: أصله: يا اللّه أمّنا بخير، فخفّف بحذف حرف النداء و متعلّقات الفعل و همزته.

مالِكَ الْمُلْكِ يتصرّف فيما يمكن التصرّف فيه تصرّف الملّاك فيما يملكون.

و هو نداء ثان عند سيبويه، فإنّ الميم تمنع الوصفيّة.

تُؤْتِي الْمُلْكَ مَنْ تَشاءُ تعطي منه ما تشاء لمن تشاء، من النصيب الّذي قسّمته له من أسباب الدنيا وَ تَنْزِعُ الْمُلْكَ مِمَّنْ تَشاءُ و تستردّ منه على وفق المصلحة و الحكمة، و من ذلك إعطاؤه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أصحابه

و أمّته، و نزعه من صناديد قريش و من الروم و فارس. فالملك الأوّل عامّ، و الآخران بعضان منه.

و قيل: المراد بالملك النبوّة، و نزعها نقلها من قوم إلى قوم. و قيل: المراد بإيتاء الملك ملك القناعة. و

قال عليه السّلام: «ملوك الجنّة من أمّتي القانعون بالقوت يوما فيوما».

أو ملك العافية، أو ملك قيام الليل، و نزعه بالعكس.

وَ تُعِزُّ مَنْ تَشاءُ من أوليائك في الدنيا، أو في الآخرة، أو فيهما، بالنصر

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 468

و التوفيق وَ تُذِلُّ مَنْ تَشاءُ من أعدائك في أحدهما، أو فيهما، بالتخلية و الخذلان.

و عن الشبلي: تعزّ بالمعرفة من استغنى بالمكوّن عن الكونين، و تذلّ من استغنى بالخلق عن الخالق، أو المراد عزّ القناعة و ذلّ الحرص.

بِيَدِكَ الْخَيْرُ تؤتيه أولياءك على رغم أعدائك. و اللام للجنس، أي: الخير كلّه في الدنيا و الآخرة من قبلك. و إنّما قال: «بِيَدِكَ الْخَيْرُ» و إن كان بيده كلّ شي ء من خير أو شرّ، لأنّ الآية تضمّنت إيجاب الرغبة إليه، فلا يحسن في هذه الحالة إلّا ذكر الخير، لأنّ الترغيب لا يكون إلّا في الخير، أو ليكون مشعرا بأنّ الخير بالذات من اللّه تعالى، و الشرّ لا يكون منه إلّا بالعرض إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ لا يعجزك شي ء، تقدر على إيجاد المعدوم، و إفناء الموجود، و إعادة ما كان موجودا.

و

روي الثعلبي بإسناده عن عمرو بن عوف ما حاصله: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في وقعة الأحزاب حين خطّ الخندق، و قطع لكلّ عشرة أربعين ذراعا، و أخذوا يحفرون، فظهر فيه صخرة عظيمة لم تعمل فيها المعاول، فوجّهوا سلمان إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يخبره،

فجاء صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأخذ المعول منه فضربها به ضربة صدّعها «1»، و برق منها برق أضاء ما بين لابتي «2» المدينة، كأنّ مصباحا في جوف بيت مظلم، فكبّر و كبّر معه المسلمون، و قال: أضاءت لي منها قصور الحيرة «3» كأنّها أنياب الكلاب.

ثمّ ضرب الثانية فقال: أضاءت لي منها قصور الحمر من أرض الروم.

ثمّ ضرب الثالثة فقال: أضاءت لي قصور صنعاء و اليمن، و أخبرني جبرئيل عليه السّلام أنّ أمّتي ظاهرة على كلّها، فأبشروا.

فقال المنافقون: ألا تعجبون من محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يمنّيكم و يعدكم الباطل،

______________________________

(1) أي: قطعها.

(2) اللابتان: حرّتان يكتنفان المدينة، و الحرّة: كلّ أرض ذات حجارة سود.

(3) في هامش النسخة الخطّية: «الحيرة بكسر الحاء البلد القديم بظهر الكوفة، شبّه انضمام بعضها ببعض مع بياضها و صغرها بأنياب الكلاب، منه».

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 469

و يخبركم أنّه يبصر من يثرب قصور الحيرة و مدائن كسرى، و أنّها تفتح لكم و أنتم تحفرون من شدّة الخوف.

فأنزل اللّه تعالى هذه الآية في ذلك، و عقّبه ببيان قدرته على معاقبة الليل و النهار و الموت و الحياة، وسعة فضله، فقال: تُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ تُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ تُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ تُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَ تَرْزُقُ مَنْ تَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ بغير تقتير، دلالة على أنّ من قدر على معاقبة الذلّ و العزّ و إيتاء الملك و نزعه، قدر على إعطاء المؤمنين الملك و العزّ و النصر، و الغلبة على أهل الكفر.

و الولوج: الدخول في مضيق. و إيلاج الليل و النهار إدخال أحدهما في الآخر بالتعقيب أو الزيادة و النقص.

و المراد بإخراج الحيّ من الميّت

و بالعكس إنشاء الحيوانات من موادّها و إماتتها، أو إنشاء الحيوان من النطفة و النطفة منه. و قيل: إخراج المؤمن من الكافر، و الكافر من المؤمن.

و قرأ نافع و حمزة و الكسائي و حفص و يعقوب الميّت بالتشديد، و الباقون بالتخفيف.

روي جعفر بن محمد عن أبيه، عن آبائه، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «لمّا أراد اللّه تعالى أن ينزل فاتحة الكتاب، و آية الكرسي «1»، و شهد اللّه «2»، و قل اللّهمّ مالك الملك- إلى قوله:- «بغير حساب»، تعلّقن بالعرش و ليس بينهنّ و بين اللّه حجاب، و قلن:

يا ربّ تهبطنا إلى دار الذنوب، و إلى من يعصيك، و نحن معلّقات بالطهور و بالقدس! فقال تعالى: و عزّتي و جلالي ما من عبد قرأكنّ في دبر كلّ صلاة إلّا أسكنته حظيرة القدس على ما كان فيه، و إلّا نظرت إليه بعيني المكنونة في كلّ يوم سبعين نظرة،

______________________________

(1) البقرة: 255.

(2) آل عمران: 18. زبدة التفاسير، ج 1، ص: 470

و إلّا قضيت له في كلّ يوم سبعين حاجة أدناها المغفرة، و إلّا أعذته من كلّ عدوّ و نصرته عليه، و لا يمنعه دخول الجنّة إلّا الموت».

و

قال معاذ بن جبل: «احتبست عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوما لم أصلّ معه الجمعة، فقال: يا معاذ ما منعك من صلاة الجمعة؟

قلت: يا رسول اللّه كان ليوحنّا اليهودي عليّ أوقية من برّ، و كان على بابي يرصدني، فأشفقت أن يحبسني دونك.

قال: أ تحبّ يا معاذ أن يقضي اللّه دينك؟

قلت: نعم يا رسول اللّه.

قال: قل: «اللّهمّ مالك الملك- إلى قوله- بغير حساب». و قل: يا رحمن الدّنيا و الآخرة و رحيمهما، تعطي منهما

ما تشاء، و تمنع منهما ما تشاء، صلّ على محمّد و آله، و اقض عنّي ديني. فإن كان عليك مل ء الأرض ذهبا لأدّاه اللّه عنك».

[سورة آل عمران (3): آية 28]

لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ فِي شَيْ ءٍ إِلاَّ أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (28)

و لمّا بيّن سبحانه أنّه مالك الدنيا و الآخرة، القادر على الإعزاز و الاذلال، نهى المؤمنين أن يوالوا الكافرين لقرابة بينهم أو صداقة جاهليّة قبل الإسلام، أو غير ذلك من الأسباب الّتي يتصادق بها، حتى لا يكون حبّهم و بغضهم إلّا في اللّه، لأنّ الإعزاز لا يكون إلّا عنده و عند أوليائه المؤمنين، دون أعدائه الكافرين المتّصفين بالذلّة من عنده، فإنّ هذا أصل كبير من أصول الإيمان، فقال: لا يَتَّخِذِ الْمُؤْمِنُونَ أي: لا ينبغي للمؤمنين أن يتّخذوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ لنفوسهم، و أن يستعينوا بهم

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 471

و يلتجؤا إليهم و يظهروا المحبّة لهم مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ لأنّ المؤمنين هم الّذين أحقّاء بالموالاة، لأنّ في موالاتهم كفاية عن موالاة الكفرة.

وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي: اتّخاذهم أولياء فَلَيْسَ مِنَ اللَّهِ من ولايته فِي شَيْ ءٍ يصحّ أن يسمّى ولاية، فإنّ موالاتي المتعاديين لا يجتمعان.

و قوله: «من اللّه» في موضع النصب على الحال، لأنّه في الأصل: فليس في شي ء ثابت من اللّه، فلمّا تقدّم انتصب على الحال.

إِلَّا أَنْ تَتَّقُوا مِنْهُمْ تُقاةً إلّا أن تخافوا من جهتهم ما يجب اتّقاؤه أو اتّقاء.

و الفعل معدّى ب «من»، لأنّه في معنى: تحذروا أو تخافوا. و قرأ يعقوب: تقيّة. و هذه رخصة في موالاتهم عند الخوف. و المراد بهذه الموالاة المخالفة الظاهرة، و القلب مطمئنّ بالعداوة،

فمنع اللّه تعالى من موالاتهم ظاهرا و باطنا في الأوقات كلّها إلّا وقت المخافة باطنا، فإنّ إظهار الموالاة جائز للتقيّة.

وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ يخوّفكم اللّه على موالاة الكفّار عذاب نفسه وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ فلا تتعرّضوا لسخطه بموالاة أعدائه و مخالفة أحكامه. و هذا وعيد شديد مشعر بتناهي المنهيّ في القبح. و ذكر النفس ليعلم أنّ المحذّر منه عقاب يصدر من اللّه، فلا يبالى دونه بما يحذر من الكفرة.

[سورة آل عمران (3): الآيات 29 الى 30]

قُلْ إِنْ تُخْفُوا ما فِي صُدُورِكُمْ أَوْ تُبْدُوهُ يَعْلَمْهُ اللَّهُ وَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (29) يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ أَمَداً بَعِيداً وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ (30)

و لمّا تقدّم النهي عن اتّخاذ الكفّار أولياء خوّفوا من الإبطان- بخلاف

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 472

الإظهار- فيما نهوا عنه، فقال: قُلْ إِنْ تُخْفُوا تسرّوا ما فِي صُدُورِكُمْ ما في قلوبكم من ولاية الكفّار أو غيرها ممّا لا يرضى اللّه. و إنّما ذكر الصدر لأنّه محلّ القلب أَوْ تُبْدُوهُ تظهروه يَعْلَمْهُ اللَّهُ و لم يخف عليه، فلا ينفعكم إخفاؤه وَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ فيعلم سرّكم و علنكم وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فيقدر على عقوبتكم إن لم تنتهوا عمّا نهيتم عنه.

و الآية بيان لقوله: «وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ»، فكأنّه قال: و يحذّركم ذاته المميّزة من سائر الذوات، لأنّها متّصفة بعلم ذاتيّ محيط بالمعلومات كلّها، و قدرة ذاتيّة تعمّ المقدورات بأسرها، فلا تجسروا على عصيانه، إذ ما من معصية إلّا و هو مطلّع عليها، قادر

على العقاب بها.

و لمّا حذّر العقاب في الآية المتقدّمة بيّن وقت العقاب، فقال: يَوْمَ تَجِدُ منصوب ب «اذكر»، يعني: اذكر يَوْمَ تَجِدُ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ في الدنيا مِنْ خَيْرٍ مُحْضَراً أي: مكتوبا في صحفهم يقرءونه، و نحوه: وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً «1» وَ ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ و المعنى: تجد كلّ نفس صحائف أعمالها أو جزاء أعمالها من الخير و الشرّ حاضرة تَوَدُّ لَوْ أَنَّ بَيْنَها وَ بَيْنَهُ و بين ذلك اليوم أَمَداً بَعِيداً.

و هذه الجملة الفعليّة حال من الضمير في «عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ». أو خبر ل «ما عَمِلَتْ مِنْ سُوءٍ» و «تجد» مقصور على مفعول «ما عَمِلَتْ مِنْ خَيْرٍ». أو يكون «يَوْمَ تَجِدُ» منصوبا ب «تودّ» يعني: تتمنّى كلّ نفس يوم تجد جزاء أعمالها لو أنّ بينها و بينه مدّة بعيدة متمادية، كقوله: يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ «2». و لا تكون «ما» شرطيّة، لارتفاع «تودّ».

______________________________

(1) الكهف: 49.

(2) الزخرف: 38.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 473

وَ يُحَذِّرُكُمُ اللَّهُ نَفْسَهُ كرّره للتوكيد و التذكير وَ اللَّهُ رَؤُفٌ بِالْعِبادِ هذا إشارة إلى أنّه تعالى إنّما نهاهم و حذّرهم رأفة بهم و مراعاة لصلاحهم.

أو المعطوف و المعطوف عليه مشعران بأنّه ذو عقاب ليخشى عذابه، و ذو مغفرة لترجى رحمته.

[سورة آل عمران (3): الآيات 31 الى 32]

قُلْ إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ فَاتَّبِعُونِي يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (31) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (32)

قيل: إنّ وفد نجران لمّا قالوا: إنّما نعبد المسيح حبّا للّه، فردّ اللّه سبحانه عليهم، و جعل مصداق ذلك اتّباع رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: قُلْ يا محمّد لهؤلاء إِنْ كُنْتُمْ تُحِبُّونَ اللَّهَ

أي: إن كنتم صادقين في دعوى محبّة اللّه فَاتَّبِعُونِي فيما أمرتكم و نهيتكم.

و المحبّة عبارة عن ميل النفس إلى الشي ء لكمال أدركته فيه، بحيث يحملها على ما يقرّبها إلى ذلك الشي ء. و العبد إذا علم أنّ الكمال الحقيقي ليس إلّا للّه، و أنّ كلّ ما يراه كمالا من نفسه أو غيره فهو من اللّه و باللّه و إلى اللّه، لم يكن حبّه إلّا للّه و في اللّه، و ذلك يقتضي إرادة طاعته، و الرغبة فيما يقرّبه إليه. فلذلك فسّرت المحبّة بإرادة الطاعة، و جعلت مستلزمة لاتّباع الرسول في عبادته، و الحرص على مطاوعته.

و قوله: يُحْبِبْكُمُ اللَّهُ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ جواب الأمر، أي: يرض عنكم، و يكشف الحجب المانعة الوصول إليه عن قلوبكم، بالتجاوز عمّا فرط منكم، فيقرّبكم من جناب عزّه، و يبوّئكم في جوار قدسه. عبّر عن ذلك بالمحبّة على

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 474

طريق الاستعارة أو المقابلة. وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لمن تحبّب إليه بطاعته و اتّباع نبيّه.

و قيل: نزلت هذه الآية لمّا قالت اليهود: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ «1».

في أقوام زعموا على عهده أنّهم يحبّون اللّه، فأمروا أن يجعلوا لقولهم تصديقا من العمل.

ثمّ أكّد ذلك بقوله: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا يحتمل المضيّ و المضارع، بمعنى: فإن تتولّوا فَإِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ أي: لا يرضى عنهم، و لا يثني عليهم. و إنّما لم يقل: و لا يحبّهم، لقصد العموم، و الدلالة على أنّ التولّي كفر، و أنّه من هذه الحيثيّة ينفي محبّة اللّه تعالى، و أنّ محبّته مخصوصة بالمؤمنين.

[سورة آل عمران (3): الآيات 33 الى 41]

إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ (33) ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ

وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (34) إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً فَتَقَبَّلْ مِنِّي إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (35) فَلَمَّا وَضَعَتْها قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها أُنْثى وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى وَ إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ وَ إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَ ذُرِّيَّتَها مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (36) فَتَقَبَّلَها رَبُّها بِقَبُولٍ حَسَنٍ وَ أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً وَ كَفَّلَها زَكَرِيَّا كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (37)

هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ (38) فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ سَيِّداً وَ حَصُوراً وَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (39) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ قَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ وَ امْرَأَتِي عاقِرٌ قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (40) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ إِلاَّ رَمْزاً وَ اذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً وَ سَبِّحْ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكارِ (41)

______________________________

(1) المائدة: 18.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 475

و لمّا أوجب طاعة الرسل، و بيّن أنّها الجالبة لمحبّة اللّه تعالى، عقّب ذلك ببيان مناقبهم، تحريضا على إطاعتهم، فقال: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى آدَمَ وَ نُوحاً وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ عَلَى الْعالَمِينَ بالرسالة، و الخصائص الروحانيّة، و الفضائل الجسمانيّة، و لذلك قووا على ما لم يقو عليه غيرهم.

و آل إبراهيم: إسماعيل و إسحاق و أولادهما. و قد دخل فيهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و قيل: إنّ آل إبراهيم هم

آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، الّذين هم أهل بيته، و من اصطفاه اللّه تعالى و اختاره من خلقه، لا يكون إلّا معصوما مطهّرا عن القبائح. و على هذا، فيجب أن يكون الاصطفاء مخصوصا بمن كان معصوما من آل إبراهيم، نبيّا كان أو إماما.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 476

و آل عمران: موسى و هارون ابنا عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب. أو «1» عيسى و أمّه مريم بنت عمران بن ماثان بن العازار بن أبي يوذ بن رب بابل بن ساليان بن يوحنّا بن أوشيا بن أموذ بن مشكي بن حارقار بن أجاز بن يونام ابن عرزيا بن يوزام بن ساقط بن ايشا بن راجعيم بن سليمان بن داود بن ايشا بن عومل بن اينا بن سلمون بن ياعر بن يخشون بن عمياد بن رام بن خضروم بن فارص بن يهودا بن يعقوب «2» عليه السّلام. و كان بين العمرانين ألف و ثمانمائة سنة.

ذُرِّيَّةً بَعْضُها مِنْ بَعْضٍ حال أو بدل من الآلين، أو منهما و من نوح، أي:

أنّهم ذرّيّة واحدة متسلسلة متشعّبة بعضها من بعض. و قيل: بعضها من بعض في الدين. و الذرّيّة الولد، تقع على الواحد و الجمع، فعليّة من الذرّ، أو فعّولة من الذرء، أبدلت همزتها ياء، ثمّ قلبت الواو ياء و أدغمت.

وَ اللَّهُ سَمِيعٌ بأقوال الناس عَلِيمٌ بأعمالهم، فيصطفي من كان مستقيم القول و العمل. أو سميع بقول امرأة عمران، عليم بنيّتها.

إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي فينتصب به «إذ».

و قيل: نصبه بإضمار «اذكر». و هذه حنّة بنت فاقوذا، و أخت إيشاع زوجة زكريّا، جدّة «3» عيسى عليه السّلام. و كان

يحيى و مريم ابني خالة من الأب.

روي أنّ حنّة كانت عجوزا، فبينا هي في ظلّ شجرة إذ رأت طائرا يطعم فرخه، فحنّت إلى الولد و تمنّته، فقالت: اللّهمّ إنّ لك عليّ نذرا إن رزقتني ولدا أن أتصدّق به على بيت المقدس، فيكون من خدمه، فحملت بمريم و هلك عمران.

و كان هذا النذر مشروعا في عهدهم للغلمان، فلعلّها بنت الأمر على التقدير، أو

______________________________

(1) أي: آل عمران: عيسى و أمّه ...

(2) في ضبط هذه الأسماء اختلاف، راجع تفسير البيضاوي 2: 14.

(3) أي: أن حنّة- و هي أم مريم- جدّة عيسى عليه السّلام.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 477

طلبت ذكرا.

مُحَرَّراً معتقا لخدمته، لا يد لي عليه، و لا أستخدمه، و لا أشغله بشي ء، أو مخلصا للعبادة. و نصبه على الحال.

روي عن الصادق عليه السّلام: «أنّ اللّه عزّ و جلّ أوحى إلى عمران أنّي واهب لك ولدا مباركا يبرئ الأكمه و الأبرص، و يحيي الموتى بإذن اللّه، فحملت حنّة، فقالت: رَبِّ إِنِّي نَذَرْتُ لَكَ ما فِي بَطْنِي مُحَرَّراً».

فَتَقَبَّلْ مِنِّي ما نذرته قبول رضا إِنَّكَ أَنْتَ السَّمِيعُ بما أقول الْعَلِيمُ بما أنوي.

فَلَمَّا وَضَعَتْها و كانت ترجو أن يكون غلاما، خجلت و استحيت منكّسة الرأس قالَتْ رَبِّ إِنِّي وَضَعْتُها حال كونها أُنْثى الضمير لما في بطنها، و تأنيثه لأنّه كان أنثى.

فإن قلت: كيف جاز انتصاب «أنثى» حالا من الضمير في «وضعتها» و هو كقولك: وضعت الأنثى أنثى؟

قلت: الأصل: وضعته أنثى، و إنّما أنث لأنّ تأنيثها علم من الحال، فإنّ الحال و صاحبها بالذات واحد، أو على تأويل مؤنّث، كالنفس و الحبلة. و إنّما قالته تحسّرا و تحزّنا إلى ربّها، لأنّها كانت ترجو أن تلد ذكرا، و لذلك نذرت تحريره.

و قال اللّه تعالى في

جوابها: وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ أي: بالشي ء الّذي وضعته. و هو استئناف من اللّه تعالى، تعظيما لموضوعها، و تجهيلا لها بشأنها. و قرأ ابن عامر و أبو بكر عن عاصم و يعقوب:

وضعت، على أنّه من كلامها تسلية لنفسها.

و رويت هذه الرواية عن عليّ عليه السّلام،

أي: و لعلّ هذه الأنثى خير من الذكر تسلية.

وَ لَيْسَ الذَّكَرُ كَالْأُنْثى بيان لقوله: «و اللّه أعلم» أي: و ليس الذكر الّذي طلبت كالأنثى الّتي وهبت. و اللام فيهما للعهد. و يجوز أن يكون من قولها بمعنى:

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 478

و ليس الذكر و الأنثى سيّان في ما نذرت، فتكون اللام للجنس وَ إِنِّي سَمَّيْتُها مَرْيَمَ عطف على ما قبلها من مقالها، و ما بينهما اعتراض. و إنّما ذكرت ذلك لربّها تقرّبا إليه، و طلبا لأنّ يعصمها و يصلحها، حتى يكون فعلها مطابقا لاسمها، فإنّ مريم في لغتهم بمعنى العابدة.

روي الثعلبي بإسناده عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «حسبك من نساء العالمين أربع: مريم بنت عمران، و آسية امرأة فرعون، و خديجة بنت خويلد، و فاطمة بنت محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

وَ إِنِّي أُعِيذُها بِكَ وَ ذُرِّيَّتَها أجيرها بحفظك مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ المطرود. و أصل الرجم الرمي بالحجارة.

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «ما من مولود يولد إلّا و الشيطان يمسّه حين يولد، فيستهلّ صارخا من مسّه، إلّا مريم و ابنها». و معناه: أنّ الشيطان يطمع في إغواء كلّ مولود بحيث يتأثّر منه، إلّا مريم و ابنها، فإنّ اللّه عصمهما ببركة هذه الاستعاذة».

فَتَقَبَّلَها رَبُّها فرضي بها في النذر مكان الذكر بِقَبُولٍ حَسَنٍ بوجه حسن تقبل

به النذائر، و هو إقامتها مقام الذكر، أو تسلّمها من أمّها عقيب ولادتها قبل أن تكبر و تصلح للسدانة. و يجوز أن يكون مصدرا على تقدير مضاف، أي:

بأمر ذي قبول حسن، و أن يكون «تقبّل» بمعنى: استقبل، كتقضّى و تعجّل، بمعنى:

استقضى و استعجل، يقال: استقبل الأمر إذا أخذ بأوّله و عنفوانه، أي: فيأخذها في أوّل أمرها حين ولدت قبل أن تكبر و تصلح للسدنة بقبول حسن.

روي: «أنّ حنّة لمّا ولدتها لفّتها في خرقة و حملتها إلى المسجد و وضعتها عند الأحبار و قالت: خذوا هذه النذيرة، فتنافسوا فيها لأنّها كانت بنت إمامهم و صاحب قربانهم، فإنّ بني ماثان كانت رؤوس بني إسرائيل و ملوكهم، فقال زكريّا:

أنا أحقّ بها، لأنّ خالتها كانت عندي، فأبوا إلّا القرعة، و كانوا سبعة و عشرين،

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 479

فانطلقوا إلى نهر فالقوا فيه أقلامهم، فطفا قلم زكريّا و رسبت أقلامهم، فتكفّلها».

وَ أَنْبَتَها نَباتاً حَسَناً مجاز عن تربيتها بما يصلحها في جميع أحوالها، أي: جعل نشوءها نشوءا حسنا، و ربّاها تربية حسنة، و أصلح أمرها في جميع حالاتها وَ كَفَّلَها زَكَرِيَّا شدّد الفاء حمزة و عاصم، و الفعل للّه تعالى، بمعنى:

و ضمّها إليه، و جعله كافلا لها و ضامنا لمصالحها. و قصّروا زكريّا غير عاصم في رواية ابن عيّاش، و خفّف الباقون و مدّوا زكريّاء مرفوعا.

كُلَّما دَخَلَ عَلَيْها زَكَرِيَّا الْمِحْرابَ قيل: إنّه بنى لها زكريّا محرابا في المسجد، أي: الغرفة الّتي بنيت لها يصعد إليها بسلّم كباب الكعبة. و قيل: أشرف مواضعه و مقدّمها، سمّي به لأنّه محلّ محاربة الشيطان، كأنّها وضعت في أشرف موضع من بيت المقدس وَجَدَ عِنْدَها رِزْقاً جواب «كلّما» و ناصبه.

و روي أنّه كان لا يدخل عليها

غيره، و إذا خرج أغلق عليها سبعة أبواب، فكان يجد عندها فاكهة الشتاء في الصيف، و فاكهة الصيف في الشتاء.

قالَ يا مَرْيَمُ أَنَّى لَكِ هذا من أين هذا الرزق الآتي في غير أوانه، و الأبواب مغلقة عليك؟ و هو دليل على جواز الكرامة للأولياء. و جعل ذلك معجزة زكريّا يدفعه اشتباه الأمر عليه.

قالَتْ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فلا تستبعده. قيل: تكلّمت صغيرة كعيسى، و لم ترضع ثديا قطّ، و كان رزقها ينزل عليها من الجنّة إِنَّ اللَّهَ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ بغير تقدير، لكثرته، أو بغير استحقاق، تفضّلا منه بغير محاسبة و مجازاة على عمل. و هو يحتمل أن يكون من كلامها، و أن يكون من كلام اللّه تعالى.

روي صاحب الكشّاف «1» و غيره من المفسّرين المخالفين و المنافقين أنّ

______________________________

(1) الكشّاف 1: 358، تفسير البيضاوي 2: 17. زبدة التفاسير، ج 1، ص: 480

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جاع في زمن قحط، فأهدت له فاطمة رغيفين و بضعة لحم آثرته بها، فرجع بها إليها و قال: هلمّي يا بنيّة، فكشفت عن الطبق فإذا هو مملوء خبزا و لحما، فبهتت و علمت أنّها نزلت من عند اللّه.

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لها: أنّى لك هذا؟

فقالت: هو من عند اللّه، إنّ اللّه يرزق من يشاء بغير حساب.

فقال عليه الصلاة و السلام: «الحمد للّه الّذي جعلك شبيهة سيّدة نساء بني إسرائيل. ثمّ جمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليّ بن أبي طالب و الحسن و الحسين و جميع أهل بيته، فأكلوا عليه حتى شبعوا، و بقي الطعام كما هو، فأوسعته فاطمة على جيرانها».

هُنالِكَ دَعا زَكَرِيَّا رَبَّهُ في ذلك

المكان أو الوقت، إذ يستعار هنا و ثمّ و حيث للزمان و إن كانت موضوعة للمكان.

لمّا رأي حال مريم من كرامتها على اللّه و منزلتها من اللّه قالَ رَبِّ هَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ ذُرِّيَّةً طَيِّبَةً ولدا مباركا تقيّا نقيّا من ايشاع، كما وهبتها لأختها حنّة العجوز العاقر، أي: لمّا رأي الفواكه في غير أوانها انتبه على جواز ولادة العاقر من الشيخ، فسأل و قال: ربّ هب لي من لدنك ذرّيّة، لأنّه لم يكن على الوجوه المعتادة و بالأسباب المعهودة إِنَّكَ سَمِيعُ الدُّعاءِ مجيبه.

فَنادَتْهُ الْمَلائِكَةُ أي: من جنسهم، كقولهم: زيد يركب الخيل، فإنّ المنادي كان جبرئيل. و قرأ حمزة و الكسائي: فناداه بالإمالة و التذكير. وَ هُوَ قائِمٌ يُصَلِّي فِي الْمِحْرابِ أي: قائما في الصلاة. و «يصلّي» صفة «قائم» أو خبر آخر، أو حال عن الضمير في «قائم».

أَنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكَ بِيَحْيى أي: بأنّ اللّه. و قرأ ابن عامر و حمزة بالكسر على إرادة القول، أو لأنّ النداء ضرب من القول. و قرأ حمزة و الكسائي: يبشرك بفتح

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 481

الياء و التخفيف، من: بشره يبشره. و يحيى إن كان أعجميّا فإنّما منع من الصرف للتعريف و العجمة، و إن كان عربيّا فللتعريف و وزن الفعل.

مُصَدِّقاً بِكَلِمَةٍ مِنَ اللَّهِ أي: بعيسى، سمّي بذلك لأنّه لم يوجد إلا بكلمة اللّه، و هو قوله: كن من غير سبب، أي: وجد بأمره تعالى دون أب، فشابه البدعيّات الّتي هي عالم الأمر. أو بكتاب اللّه تعالى، سمّي كلمة كما قيل كلمة الحويدرة «1» لقصيدته وَ سَيِّداً يسود قومه و يفوقهم في الشرف و العلم و العبادة أو الحال، و كان فائقا للناس كلّهم في أنّه ما همّ بمعصية وَ

حَصُوراً مبالغا في حبس النفس عن مقاربة النساء و سائر الشهوات و الملاهي.

روي: «أنّه مرّ في صباه بصبيان فدعوه إلى اللعب، فقال: ما للّعب خلقت».

وَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ أي: رسولا شريفا رفيع المنزلة ناشئا من الأنبياء الصالحين، أو كائنا من عدادهم.

قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ استبعادا من حيث العادة، أو استعظاما، أو تعجّبا، أو استفهاما عن كيفيّة حدوثه وَ قَدْ بَلَغَنِيَ الْكِبَرُ أدركني كبر السنّ و أثّر فيّ و أضعفني. و كان له تسع و تسعون سنة. و قيل: مائة و عشرون سنة، و لامرأته ثمان و تسعون سنة. وَ امْرَأَتِي عاقِرٌ لا تلد، من العقر و هو القطع، لأنّها ذات عقر من الأولاد.

قالَ كَذلِكَ اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ أي: يفعل ما يشاء من الأفعال العجيبة الخارقة للعادة، مثل ذلك الفعل، و هو إنشاء الولد من شيخ فإن و عجوز عاقر، أو كما أنت عليه و زوجك من الكبر و العقر يفعل ما يشاء من خلق الولد. أو «كَذلِكَ اللَّهُ» مبتدأ

______________________________

(1) اسم شاعر.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 482

و خبر، أي: اللّه على مثل هذه الصفة، و «يَفْعَلُ ما يَشاءُ» بيان له. أو «كذلك» خبر مبتدأ محذوف، أي: الأمر كذلك، و «اللَّهُ يَفْعَلُ ما يَشاءُ» بيان له.

قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً أي: علامة أعرف بها وقت الحمل لاستقبله بالبشاشة و الشكر، و تزيح مشقّة الانتظار.

قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ أن لا تقدر على تكليم الناس ثلاثا.

و إنّما حبس لسانه عن مكالمتهم خاصّة ليخلص المدّة لذكر اللّه و شكره، قضاء لحقّ النعمة. إِلَّا رَمْزاً إشارة بنحو يد أو رأس. و أصله التحرّك، و منه الراموز للبحر.

و الاستثناء منقطع. و قيل: متّصل. و المراد بالكلام ما

دلّ على الضمير، و هي المعجزات الباهرة.

وَ اذْكُرْ رَبَّكَ كَثِيراً في أيّام الحبسة. و هو مؤكّد لما قبله، مبيّن للغرض منه.

و تقييد الأمر بالكثرة يدلّ على أنّه لا يفيد التكرار وَ سَبِّحْ بِالْعَشِيِ من زوال الشمس إلى أن تغيب. و قيل: من العصر. وَ الْإِبْكارِ من طلوع الفجر إلى وقت الضحى.

[سورة آل عمران (3): الآيات 42 الى 43]

وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ وَ طَهَّرَكِ وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ (42) يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ اسْجُدِي وَ ارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ (43)

وَ إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ معطوفة على إِذْ قالَتِ امْرَأَتُ عِمْرانَ «1»، أي:

اذكر، إذ كلّموها شفاها- كرامة لها- هذا القول إِنَّ اللَّهَ اصْطَفاكِ أوّلا حين تقبّلك

______________________________

(1) آل عمران: 35.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 483

من أمّك، و لم يقبل قبلك أنثى، و ربّاك و اختصّك بأنواع الكرامة، و فرّغك للعبادة، و أغناك برزق الجنّة عن الكسب.

وَ طَهَّرَكِ من الأدناس و الأقذار العارضة للنساء، من الحيض و النفاس.

وَ اصْطَفاكِ عَلى نِساءِ الْعالَمِينَ ثانيا، بأنّ أرسل إليك الملائكة، و وهب لك عيسى من غير أب، و لم يكن ذلك لأحد من النساء، و برّأك ممّا قذفه اليهود بإنطاق الطفل، و جعلك و ابنك آية للعالمين. و من أنكر الكرامة لغير الأنبياء زعم أنّ ذلك إنّما كانت معجزة زكريّا، أو تقدمة لنبوّة عيسى، فإنّ الإجماع ثابت على أنّه تعالى لم يستنبئ امرأة، لقوله: وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا «1»، و بإجماع أهل البيت و الشافعيّة يجوز ظهور الكرامة لغير الأنبياء من أهل التقوى و الصلاح.

يا مَرْيَمُ اقْنُتِي لِرَبِّكِ وَ اسْجُدِي وَ ارْكَعِي مَعَ الرَّاكِعِينَ أمرت بالصلاة في الجماعة بذكر هيآتها و أركانها، من القنوت و الركوع و السجود، مبالغة

في المحافظة عليها. و قدّم السجود على الركوع إمّا لكونه كذلك في شريعتهم، أو للتنبيه على أنّ الواو لا توجب الترتيب، أو ليقترن «اركعي» بالراكعين، للإيذان بأنّ من ليس في صلاتهم ركوع ليسوا مصلّين.

و قيل: المراد بالقنوت إدامة الطاعة، كقوله تعالى: أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَ قائِماً «2». و بالسجود الصلاة، كقوله تعالى: وَ أَدْبارَ السُّجُودِ «3».

و بالركوع الخشوع و الإخبات.

______________________________

(1) الأنبياء: 7.

(2) الزّمر: 9.

(3) ق: 40.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 484

[سورة آل عمران (3): الآيات 44 الى 51]

ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ (44) إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (45) وَ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلاً وَ مِنَ الصَّالِحِينَ (46) قالَتْ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (47) وَ يُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ (48)

وَ رَسُولاً إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ وَ أُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (49) وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ وَ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (50) إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (51)

ذلِكَ إشارة إلى ما سبق

من قصّة زكريّا و يحيى و مريم مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 485

نُوحِيهِ إِلَيْكَ أي: من الغيوب الّتي لم تعرفها إلّا بالوحي، لأنّ علم ما غاب عن الإنسان لا يمكن حصوله إلّا بدراسة الكتب أو بالتعلّم أو بالوحي، و معلوم أنّك لم تشاهد القصص و لم تقرأها من كتاب و لا تعلّمتها، إذ كان نشؤك بين قوم لم يكونوا أهل كتاب، فوضح أنّك لم تعرف ذلك إلّا بالوحي.

وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أقداحهم الّتي يكتبون بها التوراة في النهر تبرّكا، يقترعون بها على مريم، فارتزّ «1» قلم زكريّا و ارتفع فوق الماء، و رسبت أقلام الباقين من الأحبار كما ذكر. و المراد تقرير كونه وحيا على سبيل التهكّم بمنكريه، فإنّ طريق معرفة الوقائع المشاهدة و السماع، و كان عدم السماع معلوما عندهم علما يقينيّا لا شبهة فيه عندهم، فبقي أن يكون الاتّهام باحتمال العيان، و لا يظنّ به عاقل، و نحوه: وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِ «2» وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ «3».

و قوله: أَيُّهُمْ يَكْفُلُ مَرْيَمَ متعلّق بمحذوف دلّ عليه «يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ»، أي:

يلقونها ليعلموا أو لينظروا أو ليقولوا أيّهم يكفل مريم وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يَخْتَصِمُونَ في شأنها تنافسا في كفالتها.

و في هذه الآية دلالة على أن للقرعة مدخلا في تميّز الحقوق. و

قد قال الصادق عليه السّلام: «ما تقارع قوم ففوّضوا أمورهم إلى اللّه تعالى إلّا خرج سهم المحقّ».

و

قال: «أيّ قضيّة أعدل من القرعة إذا فوّض الأمر إلى اللّه تعالى، أليس اللّه تعالى يقول: فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ «4»».

و

قال الباقر عليه السّلام: «أوّل من سوهم عليه مريم بنت عمران، ثمّ تلا: وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ يُلْقُونَ أَقْلامَهُمْ أَيُّهُمْ

يَكْفُلُ مَرْيَمَ

و السهام ستّة، ثمّ استهموا في يونس. ثمّ كان عبد المطّلب ولد له تسعة بنين، فنذر في العاشر إن رزقه اللّه غلاما أن يذبحه،

______________________________

(1) أي: ثبت.

(2) القصص: 44 و 46.

(3) القصص: 44 و 46.

(4) الصافّات: 141.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 486

فلمّا ولد عبد اللّه لم يقدر أن يذبحه و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في صلبه، فجاء بعشرة من الإبل فساهم عليها و على عبد اللّه، فخرجت السهام على عبد اللّه، فزاد عشرا، فلم تزل السهام تخرج على عبد اللّه و يزيد عشرا، فلمّا أن أخرجت مائة خرجت السهام على الإبل، فقال عبد المطّلب: ما أنصفت ربّي، فأعاد السهام ثلاثا فخرجت على الإبل، فقال: الآن علمت أنّ ربّي قد رضي بها، فنحرها».

إِذْ قالَتِ الْمَلائِكَةُ بدل من «إذ قالت» «1» الأولى، و ما بينهما اعتراض.

و يجوز أن يبدل من «إذ يختصمون»، على أنّ وقوع الاختصام و البشارة في زمان متّسع، كقولك: لقيته سنة كذا. يا مَرْيَمُ إِنَّ اللَّهَ يُبَشِّرُكِ بِكَلِمَةٍ مِنْهُ اسْمُهُ الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ المسيح لقبه، و هو من الألقاب المشرّفة، كالصدّيق و الفاروق اللّذين من ألقاب أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه و على آبائه. و أصله بالعبرانيّة:

مشيحا، فعرّبته العرب. و معناه: المبارك، كقوله: وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ «2».

و كذلك عيسى معرّب ايشوع.

و اشتقاق المسيح من المسح، لأنّه مسحه جبرئيل عليه السّلام بجناحه وقت ولادته، يعوّذه بذلك من الشيطان. و قيل: لأنّه مسح بالبركة، فإنّه كان لا يمسح ذا عاهة بيده إلّا برى ء. و قيل: لأنّه مسح الأرض و لم يقم في موضع. و قيل: عيسى من العيس، و هو بياض تعلوه حمرة.

و إنّما قيل: اسمه المسيح

عيسى بن مريم، و هذه ثلاثة أشياء، و الاسم منها عيسى، و المسيح لقب من ألقابه الشريفة. و الابن صفة، لأنّ الاسم يكون علامة للمسمّى يتميّز بها عن غيره، فكأنّه قيل: إنّ مجموع هذه الثلاثة هو الّذي يتميّز بذلك عن غيره. و يجوز أن يكون عيسى خبر مبتدأ محذوف، أي: هو عيسى، و ابن مريم صفته.

______________________________

(1) مرّ تفسيرها في ص: 482.

(2) مريم: 31.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 487

و إنّما قيل: ابن مريم و الخطاب لها تنبيها على أنّه يولد من غير أب، إذ الأولاد تنسب إلى الآباء، و لا تنسب إلى الأمّ إلّا إذا فقد الأب، و بذلك فضّلت و اصطفيت على نساء العالمين.

وَجِيهاً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ حال مقدّرة من «كلمة». و هي و إن كانت نكرة لكنّها موصوفة. و تذكيره للمعنى. و الوجاهة في الدنيا النبوّة و الرئاسة على الناس، و في الآخرة الشفاعة و علوّ الرتبة. وَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ من اللّه تعالى. و هذا أيضا حال. و قيل: إشارة إلى علوّ درجته في الجنّة، أو رفعه إلى السماء و صحبة الملائكة.

وَ يُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ في موضع الحال من «يكلّم» وَ كَهْلًا عطف عليه، أي: يكلّمهم حال كونه طفلا و كهلا كلام الأنبياء، من غير تفاوت بين حال الطفوليّة و حال الكهولة الّتي يستحكم فيها العقل، و يستنبأ فيها الأنبياء عليهم السّلام. و المهد مصدر، سمّي به ما يمهّد للصبيّ من مضجعه. و قيل: إنّه رفع شابّا، و المراد كهلا بعد نزوله. و ذكر أحواله المختلفة المتنافية إرشاد إلى أنّه بمعزل عن الألوهيّة. وَ مِنَ الصَّالِحِينَ حال ثالث من «كلمة» أو ضميرها الذي في «يكلّم».

قالَتْ تعجّبا و استبعادا عاديّا، أو استفهاما عن أنّه

يكون بتزوّج أو غيره رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي وَلَدٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ قالَ كَذلِكِ اللَّهُ يَخْلُقُ ما يَشاءُ القائل جبرئيل عليه السّلام، أو اللّه جلّ جلاله و جبرئيل عليه السّلام حكى لها قوله تعالى إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ إشارة إلى أنّه تعالى كما يقدر أن يخلق الأشياء مدرّجا بأسباب و موادّ، يقدر أن يخلقها دفعة من غير ذلك.

و قوله: وَ يُعَلِّمُهُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ و علم الشريعة وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ كلام مبتدأ ذكر تطييبا لقلبها، و إزاحة لما همّها من خوف اللوم لمّا علمت أنّها تلد من غير زواج، أو عطف على «يبشّرك» أو «وجيها». و الكتاب الكتبة، عن ابن جريج. أعطى اللّه عزّ و جلّ عيسى عليه السّلام تسعة أجزاء من الخطّ، و سائر الناس جزءا. و قيل:

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 488

أراد به جنس الكتب المنزلة، و خصّ الكتابان لفضلهما.

وَ رَسُولًا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ منصوب بمضمر على إرادة القول، تقديره: و يقول: أرسلت رسولا بأنّي قد جئتكم، أو بالعطف على الأحوال المتقدّمة، متضمّنا معنى النطق، و كأنّه قال: و ناطقا بأنّي قد جئتكم.

و تخصيص بني إسرائيل لخصوص بعثته إليهم، أو للردّ على من زعم أنّه مبعوث إلى غيرهم.

أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ في موضع النصب بدل من أَنِّي قَدْ جِئْتُكُمْ أو في موضع جرّ بدل من «آية». أو في موضع رفع على: هي أنّي أخلق لكم. و معناه: أقدّر لكم و أصوّر شيئا مثل صورة الطير. فَأَنْفُخُ فِيهِ الضمير للكاف، أي: في ذلك المماثل فَيَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِ اللَّهِ فيصير حيّا طيّارا بأمر اللّه تعالى. نبّه به على أنّ إحياءه من

اللّه تعالى لا منه. و قرأ نافع: فيكون طائرا. قيل: لم يخلق غير الخفّاش.

وَ أُبْرِئُ الْأَكْمَهَ أي: الذي ولد أعمى. و قيل: الممسوح العين.

وَ الْأَبْرَصَ الذي به وضح «1».

روي أنّه ربما يجتمع عليه ألوف من المرضى، و ما يداوي إلّا بالدّعاء.

و في الكشّاف: «و روي أنّه ربما اجتمع عليه خمسون ألفا من المرضى، من أطاق منهم أتاه، و من لم يطق أتاه عيسى، و ما كانت مداواته إلّا بالدعاء وحده» «2».

وَ أُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ كرّر «بإذن اللّه» دفعا لتوهّم الألوهيّة، فإنّ الإحياء ليس من جنس الأفعال البشريّة.

قيل: إنّه أحيا أربعة أنفس:

عازر؛ و كان صديقا له، و كان قد مات منذ ثلاثة أيّام، فقال لأخته: انطلقي بنا

______________________________

(1) الوضح: البرص.

(2) الكشّاف 1: 364.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 489

إلى قبره، ثمّ قال: اللّهمّ ربّ السماوات السبع، و ربّ الأرضين السبع، إنّك أرسلتني إلى بني إسرائيل أدعوهم إلى دينك، و أخبرهم بأنّي أحيي الموتى، فأحي عازر، فقام عازر فخرج من قبره، و بقي و ولد له.

و ابن العجوز؛ مرّ به ميّتا على سريره، فدعا اللّه عيسى عليه السّلام فجلس على سريره، و نزل عن أعناق الرّجال، و لبس ثيابه، و رجع إلى أهله، و بقي و ولد له.

و ابنة العاشر؛ قيل له: أ تحييها و قد ماتت أمس؟ فدعا اللّه عزّ و جلّ فعاشت و بقيت، و ولدت.

و سام بن نوح؛ دعا عليه باسم اللّه الأعظم، فخرج من قبره و قد شاب نصفه، فقال: قد قامت القيامة؟ قال: لا، و لكنّي دعوتك باسم اللّه الأعظم. قال: و لم يكونوا يشيبون في ذلك الزمان، لأن سام بن نوح قد عاش خمسمائة سنة و هو شابّ، ثمّ قال له: مت، قال:

بشرط أن يعيذني اللّه من سكرات الموت، فدعا اللّه سبحانه ففعل.

قال الكلبي: «كان عيسى عليه السّلام يحيي الأموات ب «يا حيّ يا قيّوم».

و إنّما خصّ عيسى عليه السّلام بهذه المعجزات لأنّ الغالب كان في زمانه الطبّ، فأراهم اللّه سبحانه الآيات من جنس ما هم عيه لتكون المعجزة أظهر، كما أنّ الغالب لمّا كان في زمان موسى عليه السّلام السحر أتاهم من جنس ذلك بما أعجزهم عن الإتيان بمثله، و كان الغالب في زمن نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم البيان و البلاغة و الفصاحة، فأراهم اللّه سبحانه المعجزة بالقرآن الذي بهرهم ما فيه من عجائب النظم و غرائب البيان، ليكون أبلغ في باب الإعجاز.

وَ أُنَبِّئُكُمْ أخبركم بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ بالمغيّبات من أحوالكم الّتي لا تشكّون فيها، كأن يقول: يا فلان تغدّيت بكذا و كذا، و خبئ لك كذا.

إِنَّ فِي ذلِكَ أي: فيما ذكرت لكم لَآيَةً حجّة و معجزة و دلالة لَكُمْ إِنْ

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 490

كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ موفّقين للإيمان، فإنّ غيرهم لا ينتفع بالمعجزات، أو مصدّقين للحقّ غير معاندين.

وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ عطف على «رسولا» على الوجهين، أو منصوب بإضمار فعل دلّ عليه «قد جئتكم» أي: و جئتكم مصدّقا.

وَ لِأُحِلَّ لَكُمْ مقدّر بإضمار «جئتكم». أو محمول على قوله: «بآية» أي:

جئتكم بآية من ربّكم و لأحلّ لكم، أو معطوف على معنى «مصدّقا» كقولهم: جئتك معتذرا و لأطيّب قلبك بَعْضَ الَّذِي حُرِّمَ عَلَيْكُمْ أي: في شريعة موسى عليه السّلام، كالشحوم، و الثروب «1»، و السّمك، و لحوم الإبل، و العمل في السبت. و هو يدلّ على أنّ شرعه كان ناسخا لشرع موسى. و لا يخلّ ذلك بكونه

مصدّقا للتوراة، كما لا يعود نسخ القرآن بعضه ببعض عليه بتناقض و تكاذب، فإنّ النسخ في الحقيقة بيان و تخصيص في الأزمان.

وَ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ أي: جئتكم بآية أخرى ألهمنيها ربّكم، و هي قوله: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ فإنّه دعوة الحقّ المجمع عليها فيما بين الرّسل، الفارقة بين النبيّ و الساحر. أو جئتكم بآية على أنّ اللّه ربّي و ربّكم.

و قوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ اعتراض. و الظاهر أنّه تكرير لقوله: قَدْ جِئْتُكُمْ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ أي: جئتكم بآية أخرى ممّا ذكرت لكم. و قوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ مرتّب عليه، أي: لمّا جئتكم بالمعجزات القاهرة و الآيات الباهرة فاتّقوا اللّه في مخالفتي و تكذيبي، و أطيعوني فيما أدعوكم إليه. ثمّ شرع في الدعوة و أشار إليها بالقول المجمل، فقال: إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ إشارة إلى استكمال القوّة النظريّة بالاعتقاد الحقّ الذي غايته التوحيد. و قال: فَاعْبُدُوهُ إشارة إلى استكمال القوّة

______________________________

(1) الثروب جمع الثرب، و هو الشحم الرقيق الذي على الكرش و الأمعاء.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 491

العمليّة، فإنّه بملازمة الطاعة التي هي الإيمان بالأوامر و الانتهاء عن المناهي. و هذا حجّة على النصارى في قولهم: الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ «1». و المعنى: لا تنسبوني إليه، فأنا عبد له كما أنّكم عبيد له. ثمّ قرّر ذلك بأن بيّن أنّ الجمع بين الأمرين هو الطريق المشهود له بالاستقامة.

[سورة آل عمران (3): الآيات 52 الى 58]

فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ اشْهَدْ بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (52) رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَ اتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (53) وَ مَكَرُوا وَ مَكَرَ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ

الْماكِرِينَ (54) إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ إِلَيَّ وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (55) فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (56)

وَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (57) ذلِكَ نَتْلُوهُ عَلَيْكَ مِنَ الْآياتِ وَ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ (58)

فَلَمَّا أَحَسَّ عِيسى مِنْهُمُ الْكُفْرَ أي: تحقّق كفرهم عنده تحقّق ما يدرك

______________________________

(1) التوبة: 30.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 492

بالحواسّ قالَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ ملتجأ إلى اللّه أو ذاهبا إليه. و يجوز أن يتعلّق الجارّ ب «أنصاري» مضمّنا معنى الإضافة، أي: من الّذين يضيفون أنفسهم إلى اللّه تعالى في نصري، بأن ينصروني كما ينصرني اللّه. و قيل: «إلى» هنا بمعنى: مع، أو في، أو اللّام.

قالَ الْحَوارِيُّونَ حواريّ الرجل صفوته و خاصّته و خالصته، من الحور و هو البياض الخالص. و يقال للنساء الحضريّات الحواريّات، لخلوص ألوانهنّ و نظافتهنّ. سمّي به أصحاب عيسى لخلوص نيّتهم و نقاء سريرتهم، أو لأنّهم كانوا نورانيّين، عليهم أثر العبادة. قيل: كانوا ملوكا يلبسون البيض، استنصر بهم عيسى عليه السّلام من اليهود. و قيل: قصّارين يحوّرون الثياب، أي: يبيّضونها. و قيل: كانوا اثني عشر رجلا قالوا لجوابه: نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ أي: أنصار دينه آمَنَّا بِاللَّهِ وَ اشْهَدْ كن شاهدا لنا يوم القيامة حين تشهد الرسل لقومهم و عليهم بِأَنَّا مُسْلِمُونَ

ثمّ ناجوا ربّهم و قالوا: رَبَّنا آمَنَّا بِما أَنْزَلْتَ وَ اتَّبَعْنَا الرَّسُولَ فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ أي: مع الشاهدين بوحدانيّتك، أو مع الأنبياء الذين يشهدون لأتباعهم، أو

مع أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإنّهم شهداء على النّاس.

روي: أنّهم اتّبعوا عيسى، و كانوا إذا جاعوا قالوا: يا روح اللّه جعنا، فيضرب بيده على الأرض سهلا كان أو جبلا، فيخرج لكلّ إنسان منهم رغيفين يأكلهما، و إذا عطشوا قالوا: يا روح اللّه عطشنا، فيضرب بيده على الأرض سهلا كان أو جبلا، فيخرج ماء فيشربون. قالوا: يا روح اللّه من أفضل منّا، إذا شئنا أطعمتنا، و إذا شئنا سقيتنا، و قد آمنّا بك و اتّبعناك؟ قال: أفضل منكم من يعمل بيده و يأكل من كسبه، فصاروا يغسلون الثياب بالكراء».

وَ مَكَرُوا أي: الذين أحسّ عيسى منهم الكفر من اليهود، بأن و كلّوا عليه

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 493

من يقتله غيلة وَ مَكَرَ اللَّهُ حين رفع عيسى عليه السّلام و ألقى شبهه على من قصد اغتياله حتى قتل. و المكر من حيث إنّه في الأصل حيلة يجلب بها غيره إلى مضرّة لا يسند إلى اللّه تعالى، إلّا على سبيل المقابلة و الازدواج وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أقواهم مكرا، و أقدرهم على إيصال الضرر من حيث لا يحتسب.

عن ابن عبّاس: «لمّا أراد ملك بني إسرائيل قتل عيسى عليه السّلام دخل خوخته «1» و فيها كوّة، فرفعه جبرئيل من الكوّة إلى السّماء، فقال الملك لرجل منهم خبيث:

ادخل عليه فاقتله، فدخل الخوخة فألقى اللّه عليه شبه عيسى، فخرج إلى أصحابه يخبرهم أنّه ليس في البيت، فقتلوه و صلبوه و ظنّوا أنّه عيسى».

قال وهب: «أسّروه و نصبوا له خشبة ليصلبوه، فأظلمت الأرض، و أرسل اللّه الملائكة فحالوا بينه و بينهم، فأخذوا رجلا ألقى اللّه عليه شبه عيسى يقال له يهوذا، و هو الذي دلّهم على المسيح، فصلبوه

ظنّا منهم أنّه عيسى».

و لمّا بيّن سبحانه ما همّ به قوم عيسى من المكر به و قتله، عقّبه بما أنعم عليه من لطف التدبير و حسن التقدير، فقال: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى ظرف ل «مكر اللّه» أو «خير الماكرين»، أو لمضمر مثل: وقع ذلك «إنّي متوفّيك» مستوفي أجلك، يعني:

أنّي عاصمك من أن يقتلك الكفّار، و مؤخّرك إلى أجل كتبته لك، و مميتك حتف أنفك لا قتلا بأيديهم أو قابضك من الأرض، من: توفّيت مالي على فلان إذا استوفيته.

و يدلّ على القولين ما

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «إنّ عيسى لم يمت، و إنّه راجع إليكم قبل يوم القيامة».

و

قد صحّ عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «كيف أنتم إذا نزل ابن

______________________________

(1) الخوخة: مخترق ما بين كلّ دارين لم ينصب عليها باب. و الكوّة: خرق في الحائط تؤدّي الضوء إلى البيت. لسان العرب 3: 14. زبدة التفاسير، ج 1، ص: 494

مريم فيكم و إمامكم منكم؟!». رواه البخاري «1» و مسلّم «2» في الصحيح.

و قيل: معناه متوفّي نفسك بالنوم، إذ روي أنّه رفع نائما لئلّا يلحقه خوف، فلمّا استيقظ وجد نفسه في السماء آمنا مقرّبا.

و قيل: مميتك من الشهوات العائقة عن العروج إلى عالم الملكوت.

و قيل: أماته اللّه سبع ساعات، ثم رفعه إلى السماء.

وَ رافِعُكَ إِلَيَ إلى سمائي التي هي محلّ كرامتي و مقرّ ملائكتي وَ مُطَهِّرُكَ مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا من سوء جوارهم أو قصدهم.

وَ جاعِلُ الَّذِينَ اتَّبَعُوكَ فَوْقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ يعلونهم بالحجّة أو السيف في أكثر الأحوال. و متّبعوه: من آمن بنبوّته من المسلمين و من اليهود و النصارى. و إلى الآن لم

تسمع غلبة اليهود عليهم، و لم يتّفق لهم ملك و دولة.

ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ الضمير لعيسى و من تبعه و كفر به، و غلّب المخاطبين على الغائبين فَأَحْكُمُ بَيْنَكُمْ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من أمر الدين.

و يفسّر الحكم و يفصّله قوله: فَأَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فَأُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً فِي الدُّنْيا بإذلالهم بالقتل و الأسر و السبي و الخسف و الجزية وَ الْآخِرَةِ بالعذاب الأبدي في النار وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ أعوان يدفعون عنهم عذاب اللّه.

وَ أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ أي: يوفّر عليهم و يتمّ أجور أعمالهم. و قرأ حفص و رويس عن يعقوب: فيوفّيهم بالياء، و الباقون بالنون. وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ أي: لا يريد تعظيمهم و إثابتهم، و لا يرحمهم و لا يثني عليهم. هذا تقرير للتفصيل المذكور.

و هذه الآية حجّة على من قال بالإحباط، لأنّه تعالى وعد بتوفية الأجر، و هو

______________________________

(1) صحيح البخاري 4: 205.

(2) صحيح مسلم 1: 136 ح 244.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 495

الثواب، و التوفية منافية للإحباط.

ذلِكَ إشارة إلى ما سبق من نبأ عيسى و غيره. و هو مبتدأ خبره نَتْلُوهُ عَلَيْكَ بواسطة جبرئيل. و قوله: مِنَ الْآياتِ خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف، أو حال من الهاء. و يجوز أن يكون خبرا و «نتلوه» حالا، على أنّ العامل معنى الإشارة، و أن يكونا خبرين. و معناه: من جملة الحجج الدالّة على صدق نبوّتك، إذا علمتهم بما لا يعلمه إلّا قارئ كتاب أو معلّم، و لست بواحد منهما، فلم يبق إلّا أنّك قد عرفته من طريق الوحي. وَ الذِّكْرِ الْحَكِيمِ المشتمل على الحكم، أو الحكم الممنوع عن تطرّق الخلل إليه. و المراد به القرآن.

و قيل: اللوح.

[سورة آل عمران (3): آية 59]

إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (59)

عن ابن عباس: أن العاقب و السيّد و من معهما من وفد نجران قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: هل رأيت ولدا من غير ذكر؟ فنزلت: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ إنّ شأن عيسى و حاله العجيبة كشأن آدم. و قوله: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ جملة مفسّرة للتمثيل، مبيّنة لما به الشبه، أي: خلق آدم من تراب و لا أب هناك و لا أمّ، فكذلك عيسى خلق من غير أب، فهو مثيله في أحد الطرفين، و الوجود من غير أب و أمّ أغرب و أدخل في باب خرق العادة من الوجود من غير أب، فشبّه الغريب بالأغرب، ليكون أقطع للخصم، و أحسم لمادّة الشبهة. و المعنى: قدّره جسدا من طين بدون وساطة الأب و الأمّ.

ثُمَّ قالَ لَهُ كُنْ أي: أنشأه بشرا حيّا سويّا، كقوله: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 496

آخَرَ «1» أو معناه: قدّر تكوينه من التراب ثمّ كوّنه فَيَكُونُ حكاية حال ماضية، أي: فكان في الحال على ما أراد. و المعنى: خلق اللّه عيسى من الريح، و لم يخلق أحدا قبله من الريح، كما خلق آدم من التراب، و لم يخلق قبله أحدا من التراب.

و عن بعض العلماء: أنّه أسر بالروم فقال لهم: لم تعبدون عيسى؟

قالوا: لأنّه لا أب له.

قال: فآدم أولى منه، لأنّه لا أب و لا أمّ له.

قالوا: كان يحيي الموتى.

قال: فحزقيل أولى، لأنّ عيسى أحيا أربعة نفر، و أحيا حزقيل ثمانية آلاف.

فقالوا: كان يبرئ الأكمه و الأبرص.

قال: فجرجيس أولى، لأنّه طبخ و أحرق ثمّ قام سالما، أي: قام سالما و

ما برص، لأنّ الإنسان إذا طبخ صار أبرص.

[سورة آل عمران (3): الآيات 60 الى 63]

الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (60) فَمَنْ حَاجَّكَ فِيهِ مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ فَقُلْ تَعالَوْا نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ ثُمَّ نَبْتَهِلْ فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ (61) إِنَّ هذا لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُّ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (62) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ (63)

الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ خبر مبتدأ محذوف، أي: هو الحقّ. و قيل: الحقّ مبتدأ،

______________________________

(1) المؤمنون: 14.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 497

و «من ربّك» خبره، أي: الحقّ المذكور من اللّه فَلا تَكُنْ مِنَ الْمُمْتَرِينَ خطاب للنبيّ على طريقة التهييج، لزيادة الطمأنينة و اليقين، أو لكلّ سامع.

فَمَنْ حَاجَّكَ جادلك و خاصمك يا محمّد من النصارى فِيهِ في شأن عيسى مِنْ بَعْدِ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ أي: من الأدلّة البيّنة الموجبة للعلم بأنّ عيسى عبدي و رسولي فَقُلْ تَعالَوْا هلمّوا أيّها النصارى بالرأي و العزم إلى حجّة أخرى قاضية فاصلة تميّز الصادق من الكاذب. و قوله: نَدْعُ أَبْناءَنا وَ أَبْناءَكُمْ وَ نِساءَنا وَ نِساءَكُمْ وَ أَنْفُسَنا وَ أَنْفُسَكُمْ جواب الأمر، أي: يدع كلّ منّي و منكم أبناءه أو نساءه أو من نفسه كنفسه إلى المباهلة. و إنّما قدّم الأبناء و النساء على النفس لأنّ الرجل يخاطر بنفسه لهم و يحارب دونهم.

قال في الكشّاف: «فإن قلت: ما كان دعاؤه إلى المباهلة إلا ليتبيّن الكاذب منه و من خصمه، و ذلك أمر يختصّ به و بمن يكاذبه، فما معنى ضمّ الأبناء و النساء؟

قلت: ذلك آكد في الدلالة على ثقته بحاله و استيقانه بصدقه، حين استجرأ على تعريض أعزّته و أفلاذ كبده

و أحبّ النّاس إليه ذلك، و لم يقتصر على تعريض نفسه له، و على ثقته بكذب خصمه حتّى هلك خصمه مع أحبّته و أعزّته هلاك الاستئصال إن تمّت المباهلة.

و خصّ الأبناء و النساء لأنّهم أعزّ الأهل و ألصقهم بالقلوب، و ربما فداهم الرجل بنفسه و حارب دونهم حتى يقتل، و من ثمّ كانوا يسوقون مع الظعائن في الحروب لتمنعهم من الهرب، و يسمّون الذادة عنها بأرواحهم حماة الحقائق.

و قدّمهم في الذكر على الأنفس لينبّه على لطف مكانهم و قرب منزلتهم، و ليؤذن بأنّهم مقدّمون على الأنفس مفدون بها.

و فيه دليل لا شي ء أقوى منه على فضل أصحاب الكساء عليهم السّلام. و فيه برهان واضح على صحّة نبوّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لأنّه لم يروا أحد من موافق و لا مخالف أنّهم

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 498

أجابوا إلى ذلك» «1» انتهى كلامه.

و اعلم أنّه أجمع المفسّرون على أنّ المراد بأبنائنا الحسن و الحسين عليهما السّلام. قال أبو بكر الرازي: هذا يدلّ على أنّ الحسن و الحسين عليهما السّلام ابنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أنّ ولد الابنة ابن في الحقيقة.

و

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حقّهما أيضا: «ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا».

و فيه تنبيه على كمال فضلهما، و مزيّة مرتبتهما عند اللّه و عند رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و بنسائنا «2» فاطمة عليها السّلام، لأنّه لم يحضر المباهلة غيرها من النساء. و هذا يدلّ على تفضيل الزهراء على جميع النساء. و يعضده ما

جاء في الخبر أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «فاطمة بضعة منّي، من آذاها

فقد آذاني».

و

قال عليه الصلاة و السلام: «إنّ اللّه ليغضب لغضب فاطمة عليها السّلام، و يرضى لرضاها».

و

قد صحّ عن حذيفة أنّه قال: سمعت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «آتاني ملك فبشّرني أنّ فاطمة سيّدة نساء أهل الجنّة، أو نساء أمّتي».

و

عن الشعبي، عن مسروق، عن عائشة قالت: «أسرّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شيئا فضحكت، فسألتها، فقالت عليها السّلام: قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لي: ألا ترضين أن تكوني سيّدة نساء هذه الأمّة أو نساء المؤمنين، فضحكت لذلك».

و بأنفسنا علي عليه السّلام خاصّة. و هذا يدلّ على غاية الفضل، و علوّ الدرجة، و البلوغ منه إلى حيث لا يبلغه أحد، إذ جعله نفس الرسول، و هذا لا يدانيه فيه أحد و لا يقاربه. و ممّا يعضده من الآيات ما

صحّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه سئل عن بعض أصحابه، فقال له قائل: فعليّ؟ فقال: إنّما سألتني عن الناس، و لم تسألني عن

______________________________

(1) الكشّاف 1: 369.

(2) أي: المراد بنسائنا ...، عطفا على قوله: المراد بأبنائنا قبل أسطر. زبدة التفاسير، ج 1، ص: 499

نفسي.

و

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لبريدة الأسلمي: «يا بريدة لا تبغض عليّا، فإنّه منّي و أنا منه، إن النّاس خلقوا من شجر شتّى، و خلقت أنا و عليّ من شجرة واحدة».

و

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأحد و قد ظهرت نكايته في المشركين، و وقايته إيّاه بنفسه، حتى قال جبرئيل: يا محمد إنّ هذه هي المواساة، فقال: «يا جبرئيل إنّه منّي و أنا منه، فقال جبرئيل: و أنا منكما».

ثُمَّ نَبْتَهِلْ أي: نتباهل، بأن نلعن الكاذب منّا. و

البهلة بالضمّ و بالفتح اللعنة. و أصله الترك، من قولهم: بهلت الناقة إذا تركتها بلا صرار. و الصرار: خيط يشدّ فوق الخلف «1» لئلّا يرضعها ولدها. فَنَجْعَلْ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَى الْكاذِبِينَ عطف فيه بيان.

قال في الكشّاف «2» و الأنوار «3» و المجمع «4» على اختلاف الألفاظ و اتّفاق المعاني: و

روي أنّ رسول اللّه لمّا دعاهم إلى المباهلة استمهلوا إلى صبيحة غد من يومهم ذلك، فلمّا رجعوا إلى رحالهم قالوا للعاقب- و كان ذا رأيهم-: يا عبد المسيح ما ترى؟

قال: و اللّه لقد عرفتم أنّ محمدا نبيّ مرسل، و لقد جاءكم بالفصل من أمر صاحبكم، و اللّه ما باهل قوم نبيّا قطّ فعاش كبيرهم و لا نبت صغيرهم، و لئن فعلتم لتهلكنّ، فإن أبيتم إلّا إلف دينكم و الإقامة على ما أنتم عليه، فوادعوا الرجل و انصرفوا إلى بلادكم.

______________________________

(1) الخلف: حلمة ضرع الناقة.

(2) الكشّاف 1: 368- 369.

(3) أنوار التنزيل 2: 22.

(4) مجمع البيان 2: 451- 452. زبدة التفاسير، ج 1، ص: 500

زبدة التفاسير ج 1 549

قال لهم الأسقف: انظروا محمدا في غد، فإن غدا بولده و أهله فاحذروا مباهلته، و إن غدا بأصحابه فباهلوه، فإنّه على غير شي ء.

فلمّا كان الغد جاء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آخذا بيد عليّ، محتضنا الحسين، و الحسن يمشي بين يديه، و فاطمة ابنته تمشي خلفه، و هو يقول: إذا أنا دعوت فأمّنوا.

و خرج النصارى يتقدّمهم أسقفهم، فلمّا رأي النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد أقبل بمن معه سأل عنهم، فقيل له: هذا ابن عمّه، و زوج ابنته، و أحبّ الخلق إليه. و هذان ابنا بنته من علي عليه السّلام. و هذه الجارية بنته فاطمة،

أعزّ الناس عليه، و أقربهم إلى قلبه.

و تقدّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و جثا على ركبتيه.

فقال أبو حارثة الأسقف: و اللّه جثا كما جثا الأنبياء للمباهلة. فجبن و لم يقدم على المباهلة.

فقال له السيّد: ادن يا أبا حارثة للمباهلة.

فقال: لا، إنّي لأرى رجلا جريئا على المباهلة، و أنا أخاف أن يكون صادقا، و لئن كان صادقا لم يحل و اللّه علينا الحول و في الدنيا نصرانيّ يطعم الماء! فقال الأسقف: يا أبا القاسم رأينا أن لا نباهلك، و أن نقرّك على دينك، و نثبت على ديننا.

قال: فإذا أبيتم المباهلة فأسلموا، يكن لكم ما للمسلمين، و عليكم ما عليهم.

فأبوا.

قال: فإنّي أناجزكم.

فقالوا: مالنا بحرب العرب طاقة، و لكن نصالحك، فصالحنا على أن لا تغزونا، و لا تخيفنا، و لا تردّنا عن ديننا، على أن نؤدّي إليك كلّ عام ألفي حلّة من حلل الأواقي، ألفا في صفر، و ألفا في رجب، قيمة كلّ حلّة أربعون درهما، فما زاد أو نقص فعلى حساب ذلك. و على ثلاثين درعا عادية من حديد، و ثلاثين رمحا،

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 501

و ثلاثين فرسا، إن كان باليمن كيد. فصالحوا على ذلك، و كتب صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لهم بذلك كتابا».

و روي أنّ الأسقف قال لهم: «إنّي لأرى وجوها لو سألوا اللّه أن يزيل جبلا من مكانه لأزاله، فلا تبتهلوا فتهلكوا، و لا يبقى على وجه الأرض نصرانيّ».

و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «و الذي نفسي بيده لو لا عنوني لمسخوا قردة و خنازير، و لاضطرم الوادي عليهم نارا، و لما حال الحول على النصارى حتى يهلكوا كلّهم، حتى الطير على الشجر».

فلمّا

رجع وفد نجران لم يلبث السيّد و العاقب إلّا يسيرا حتى رجعا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أهدى العاقب له حلّة و عصا و قدحا و نعلين، و أسلما.

و

عن عائشة: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خرج و عليه مرط «1» مرجّل من شعر أسود، فجاء الحسن عليه السّلام فأدخله، ثمّ جاء الحسين عليه السّلام فأدخله، ثمّ جاءت فاطمة فأدخلها، ثمّ جاء عليّ فأدخله، ثم قال: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً «2».

و في هذه الآية أوضح دلالة على فضل أصحاب الكساء عليهم السّلام و علوّ درجتهم، و بلوغ مرتبتهم في الكمال إلى حدّ لا يدانيهم أحد من الخلق، و على أنّهم علموا أنّ الحقّ مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لأنّهم امتنعوا من المباهلة، و أقرّوا بالذلّ و الخزي، و انقادوا لقبول الجزية، فلو لم يعلموا ذلك لباهلوه، و كان يظهر ما زعموا من بطلان قوله في الحال، و لو لم يكن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم متيقّنا بنزول العقوبة بعدوّه دونه لو باهلوا، لما أدخل أولاده و خواصّ أهله في ذلك، مع شدّة إشفاقه عليهم.

إِنَّ هذا أي: ما قصّ عليك من نبأ عيسى و غيره لَهُوَ الْقَصَصُ الْحَقُ

______________________________

(1) المرط: كلّ ثوب غير مخيط، أو كساء من صوف و نحوه يؤتزر به، و جمعه: مروط.

(2) الأحزاب: 33.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 502

و الحديث الصدق، فمن خالفك فيه مع وضوح الأمر فهو معاند. هذه بجملتها خبر «إنّ»، أو هو فصل يفيد أنّ ما ذكره في شأن عيسى و مريم حقّ. و اللام دخلت فيه لأنّه

أقرب إلى المبتدأ من الخبر، و أصلها أن تدخل على المبتدأ، فإذا جاز دخولها على الخبر كان دخولها على الفصل الذي هو أقرب إلى المبتدأ أجوز.

وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلَّا اللَّهُ صرّح فيه ب «من» الزائدة للاستغراق، تأكيدا للردّ على النصارى في تثليثهم. فالمعنى: و ما لكم أحد يستحقّ إطلاق اسم الإلهيّة إلّا اللّه، و انّ عيسى ليس بإله كما زعموا، و إنّما هو عبد اللّه و رسوله. و لو قال: ما إله إلّا اللّه بغير «من» لم يفد هذا المعنى. وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ لا أحد يساويه في القدرة التامّة و الحكمة البالغة ليشاركه في الألوهيّة.

فَإِنْ تَوَلَّوْا فإن أعرضوا عن اتّباعك و تصديقك، و عمّا أتيت به من الدلالات و البيّنات فَإِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِالْمُفْسِدِينَ وعيد لهم. و وضع المظهر موضع المضمر ليدلّ على أنّ التولّي عن الحجج و الإعراض عن التوحيد إفساد للدين و الاعتقاد المؤدّي إلى فساد النفس، بل و إلى فساد العالم.

[سورة آل عمران (3): آية 64]

قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ أَلاَّ نَعْبُدَ إِلاَّ اللَّهَ وَ لا نُشْرِكَ بِهِ شَيْئاً وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُولُوا اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ (64)

و لمّا تمّ الحجاج على القوم دعاهم سبحانه إلى التوحيد، فقال: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ يعمّ أهل الكتابين. و قيل: يريد به وفد نجران أو يهود المدينة. تَعالَوْا إِلى كَلِمَةٍ سَواءٍ أي: عدل بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ لا يختلف فيها الرسل و القرآن و التوراة و الإنجيل و غيرها من الكتب الإلهيّة. و يفسّر الكلمة قوله: أَلَّا نَعْبُدَ إِلَّا اللَّهَ أن

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 503

نوحّده بالعبادة، و نخلص فيها وَ لا نُشْرِكَ

بِهِ شَيْئاً و لا نجعل له شريكا في استحقاق العبادة، و لا نراه أهلا لأن يعبد وَ لا يَتَّخِذَ بَعْضُنا بَعْضاً أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ فلا نقول: عزير ابن اللّه، و لا المسيح ابن اللّه، و لا نطيع الأحبار فيما أحدثوا من التحريم و التحليل، لأنّ كلّا منهم بعضنا بشر مثلنا.

روي: «أنّه لمّا نزلت اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ «1» قال عديّ بن حاتم: ما كنّا نعبدهم يا رسول اللّه! قال: أليس كانوا يحلّون لكم و يحرّمون، فتأخذون بقولهم؟ قال: نعم، قال: هو ذاك».

يعني: الأخذ بقولهم هو اتّخاذكم إيّاهم أربابا.

و

روي أيضا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «ما عبدوهم من دون اللّه، و لكن حرّموا لهم حلالا و أحلّوا لهم حراما، فكان ذلك اتّخاذهم أربابا من دون اللّه».

و عن الفضيل قال: لا أبالي أطعت مخلوقا في معصية الخالق، أو صلّيت لغير القبلة.

فَإِنْ تَوَلَّوْا عن التوحيد فَقُولُوا مقابلة لإعراضهم عن الحقّ اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ أي: لزمتكم الحجّة، فوجب عليكم أن تعترفوا بأنّا مخلصون مقرّون بالتوحيد، كما يقول الغالب للمغلوب في جدال أو صراع أو غيرهما: اعترف بأنّي أنا الغالب، و سلّم لي الغلبة. و يجوز أن يكون من باب التعريض، و معناه: اشهدوا بأنّكم كافرون بما نطقت به الكتب و تطابقت عليه الرسل، حيث تولّيتم عن الحقّ بعد ظهوره.

و أحسن بما راعى اللّه سبحانه في هذه القصّة من المبالغات في الإرشاد و حسن التدرّج في الحجاج، فإنّه سبحانه بيّن أوّلا أحوال عيسى و ما تعاور عليه من الأطوار المنافية للألوهيّة. ثمّ ذكر ما يحلّ عقدتهم و يزيح شبهتهم، فلمّا رأى

______________________________

(1) التوبة: 31.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 504

عنادهم و لجاجهم دعاهم إلى

المباهلة بنوع من الإعجاز. ثمّ لمّا أعرضوا عنها و انقادوا بعض الانقياد عاد عليهم بالإرشاد، و سلك طريقا أسهل و ألزم، بأن دعاهم إلى ما وافق عليه عيسى عليه السّلام و الإنجيل و سائر الأنبياء و الكتب. ثمّ لمّا لم يجد ذلك أيضا عليهم، و علم أنّ الآيات و النذر لا تغني عنهم، أعرض عن ذلك و قال:

«اشْهَدُوا بِأَنَّا مُسْلِمُونَ».

[سورة آل عمران (3): الآيات 65 الى 68]

يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَ ما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَ الْإِنْجِيلُ إِلاَّ مِنْ بَعْدِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (65) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ حاجَجْتُمْ فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (66) ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لا نَصْرانِيًّا وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً مُسْلِماً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (67) إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ وَ هذَا النَّبِيُّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ (68)

قال ابن عبّاس و الحسن و قتادة: إنّ أحبار اليهود و نصارى نجران اجتمعوا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فتنازعوا في إبراهيم عليه السّلام. فقالت اليهود: ما كان إبراهيم إلّا يهوديّا. و قالت النصارى: ما كان إلّا نصرانيّا. فنزلت: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تُحَاجُّونَ فِي إِبْراهِيمَ وَ ما أُنْزِلَتِ التَّوْراةُ وَ الْإِنْجِيلُ إِلَّا مِنْ بَعْدِهِ يعني: أنّ اليهوديّة و النصرانيّة حدثنا بنزول التوراة و الإنجيل على موسى و عيسى عليهما السّلام، و كان إبراهيم عليه السّلام قبل موسى عليه السّلام بألف سنة، و عيسى بألفين، فكيف يكون على اليهوديّة و النصرانيّة اللّتين

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 505

لم تحدثا إلا بعد عهده بأزمنة متطاولة؟! أَ فَلا تَعْقِلُونَ حتى لا تجادلوا مثل هذا الجدال المحال.

ها

حرف تنبيه نبّهوا بها على حالهم التي غفلوا عنها أَنْتُمْ مبتدأ هؤُلاءِ خبره حاجَجْتُمْ جملة أخرى مستأنفة مبيّنة للأولى، أي: أنتم هؤلاء الأشخاص الحمقى الجهّال. و بيان حماقتكم و جهالتكم أنّكم جادلتم فِيما لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ ممّا وجدتموه في التوراة و الإنجيل عنادا فَلِمَ تُحَاجُّونَ فِيما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ و لا ذكر في كتابيكم من دين إبراهيم.

و قيل: «هؤلاء» بمعنى الّذين، و «حاججتم» صلته. و قيل: «ها أنتم» أصله أ أنتم على الاستفهام، للتعجّب من حماقتهم، فقلبت الهمزة هاء.

وَ اللَّهُ يَعْلَمُ شأن إبراهيم عليه السّلام و دينه و ما حاججتم فيه وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ و أنتم جاهلون به، فلا تتكلّموا فيه.

ثمّ كذّب اليهود و النصارى، و أعلمهم بأنّ إبراهيم بري ء من دينهم، فقال: ما كانَ إِبْراهِيمُ يَهُودِيًّا وَ لا نَصْرانِيًّا فهو تصريح بمقتضى ما قرّره من البرهان وَ لكِنْ كانَ حَنِيفاً مائلا عن العقائد الزائغة مُسْلِماً كائنا على دين الإسلام، أو منقادا للّه تعالى وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أراد بالمشركين اليهود و النصارى، لإشراكهم باللّه عزيرا و المسيح. فهذا ردّ لادّعاء المشركين أنّهم على ملّة إبراهيم، و تعريض بأنّهم مشركون.

و هذه الآية تدلّ على أنّ موسى أيضا لم يكن يهوديّا، و لم يكن عيسى نصرانيّا، فإنّ الدين عند اللّه الإسلام، و اليهوديّة ملّة محرّفة عن شرع موسى عليه السّلام، و النصرانيّة ملّة محرّفة عن شرع عيسى عليه السّلام، فهما صفتا ذمّ جرتا على الفرقتين الضالّتين.

إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ إنّ أخصّهم و أقربهم منه، من الولي، و هو القرب.

أو أحقّهم بنصرته بالحجّة لَلَّذِينَ اتَّبَعُوهُ من أمّته في زمانه و بعده وَ هذَا النَّبِيُ

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 506

يعني محمّدا صلّى اللّه عليه و

آله و سلّم وَ الَّذِينَ آمَنُوا من أمّته المرحومة، لموافقتهم له في أصول ملّة الإسلام و أكثر فروعاته. و إفراد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالذّكر تعظيما لأمره، و إجلالا لقدره، كما أفرد جبرئيل و ميكائيل. وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُؤْمِنِينَ ينصرهم و يجازيهم بالمثوبة الحسنى لإيمانهم.

و

روي عمر بن يزيد قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: أنتم و اللّه من آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

قلت: من أنفسهم جعلت فداك؟ قال: نعم، و اللّه من أنفسهم. قالها ثلاثا. ثمّ نظر إليّ و نظرت إليه، فقال: يا عمر إنّ اللّه يقول في كتابه: «إِنَّ أَوْلَى النَّاسِ بِإِبْراهِيمَ» الآية.

رواه عليّ بن إبراهيم «1»، عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن منصور بن يونس، عن عمر بن يزيد، عنه عليه السّلام.

و في هذه الآية دلالة على أنّ الولاية تثبت بالدين لا بالنسب. و يعضد ذلك

قول أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام: «إنّ أولى النّاس بالأنبياء أعملهم بما جاؤا به، ثمّ تلا هذه الآية و قال: إنّ وليّ محمّد من أطاع اللّه و إن بعدت لحمته، و إنّ عدوّ محمّد من عصى اللّه و إن قربت قرابته».

[سورة آل عمران (3): الآيات 69 الى 71]

وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَوْ يُضِلُّونَكُمْ وَ ما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (69) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ (70) يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَّ بِالْباطِلِ وَ تَكْتُمُونَ الْحَقَّ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (71)

ثمّ بيّن اللّه سبحانه أنّ هؤلاء كما ضلّوا دعوا إلى الضلال، فقال: وَدَّتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ

______________________________

(1) تفسير القمي: 105.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 507

تمنّت جماعة من اليهود لَوْ يُضِلُّونَكُمْ نزلت في اليهود لمّا دعوا حذيفة

و عمّارا و معاذا إلى اليهوديّة. و «لو» بمعنى أن. وَ ما يُضِلُّونَ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ و ما يتخطّاهم الإضلال و لا يعود وباله إلّا عليهم، لأنّ العذاب يضاعف لهم بضلالهم و إضلالهم، أو ما يقدرون على إضلال المسلمين، و إنّما يضلّون أمثالهم وَ ما يَشْعُرُونَ و ما يعلمون أنّ وبال ذلك يعود عليهم، و اختصاص ضرره بهم.

ثمّ خاطب اللّه سبحانه الفريقين فقال: يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ لم لا تؤمنون بما نطقت به التوراة و الإنجيل، و دلّت على نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و نعته؟

وَ أَنْتُمْ تَشْهَدُونَ تعترفون بأنّها آيات اللّه. أو تكفرون بالقرآن و دلائل نبوّة الرسول، و أنتم تشهدون نعته في الكتابين، أو تعلمون بالمعجزات أنّه حقّ في نبوّته.

يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَلْبِسُونَ الْحَقَ تخلطونه بِالْباطِلِ بما حرّفتموه من التوراة بالتحريف، و أبرزتم الباطل في صورة الحقّ، أو بما قصّرتم في التمييز بينهما وَ تَكْتُمُونَ الْحَقَ نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و نعته وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ عالمين بما تكتمونه.

[سورة آل عمران (3): الآيات 72 الى 74]

وَ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَ اكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (72) وَ لا تُؤْمِنُوا إِلاَّ لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (73) يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (74)

قيل: تواطأ اثنا عشر رجلا من أحبار يهود خيبر و قرى عرينة، و قال بعضهم

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 508

لبعض: ادخلوا في دين محمد أوّل النهار باللسان دون الاعتقاد،

و اكفروا به آخر النهار، و قولوا: إنّا نظرنا في كتبنا و شاورنا علماءنا فلم نجد محمّدا بالنعت الذي ورد في التوراة، و ظهر لنا كذبه و بطلان دينه، فإذا فعلتم ذلك شكّ أصحابه في دينه و قالوا: إنّهم أهل الكتاب و هم أعلم به منّا، فيرجعون عن دينهم إلى دينكم، فنزلت:

وَ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ أي:

أظهروا الإيمان بالقرآن أوّل النهار وَ اكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ و اكفروا به آخر النّهار، لعلّهم يشكّون في دينهم ظنّا بأنّكم رجعتم لخلل ظهر لكم.

و قيل: المراد بالطائفة كعب بن الأشرف و مالك بن الصيف، قالا لأصحابهما لمّا حوّلت القبلة: آمنوا بما أنزل عليهم من الصلاة إلى الكعبة، و صلّوا إليها أوّل النهار، ثمّ صلّوا إلى الصخرة آخره، لعلّهم يقولون هم أعلم منّا، أي: لا تظهروا إيمانكم وجه النهار إلّا لمن كان على دينكم ممّن أسلموا منكم، فإنّ رجوعهم أرجى و أهمّ، و قد رجعوا فيرجعون.

وَ لا تُؤْمِنُوا إِلَّا لِمَنْ تَبِعَ دِينَكُمْ و لا تقرّوا عن تصديق قلب إلّا لأهل دينكم قُلْ إِنَّ الْهُدى هُدَى اللَّهِ يهدي من يشاء إلى الإيمان و يثبّته عليه، أي: يوفّق الهداية لمن طلبها، و لم ينفع حيلتكم و مكركم.

و قوله: أَنْ يُؤْتى أَحَدٌ مِثْلَ ما أُوتِيتُمْ متعلّق بمحذوف، أي: دبّرتم ذلك و قلتم: لأن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم من النبوّة. و المعنى: أنّ الحسد حملكم على ذلك. أو متعلّق ب «لا تؤمنوا» و ما بينهما اعتراض يدلّ على أن كيدهم لا ينفعهم، أي:

لا تظهروا إيمانكم بأن يؤتى أو كراهة أن يؤتى أحد مثل ما أوتيتم إلّا لأهل دينكم دون غيركم، و لا تفشوه

إلى المسلمين لئلّا يزيد ثباتهم، و لا إلى المشركين لئلّا يدعوهم إلى الإسلام. أو خبر «إنّ» على أنّ «هدى اللّه» بدل من الهدى. و قراءة ابن كثير «أ أن يؤتى» على الاستفهام للتقريع، تؤيّد الوجه الأوّل، أي: أ لأن يؤتى أحد دبّرتم.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 509

و قوله: أَوْ يُحاجُّوكُمْ عِنْدَ رَبِّكُمْ عطف على «أن يؤتى»، و الواو ضمير «أحد»، لأنّه في معنى الجمع، إذ المراد به غير أتباعهم، و هم الرسول و المؤمنون.

قُلْ إِنَّ الْفَضْلَ أي: النبوّة، أو الحجج التي أوتيها محمد، أو نعم الدّين و الدنيا «بيد اللّه» في ملكه، و هو القادر عليه العالم بمحلّه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ على وفق المصلحة وَ اللَّهُ واسِعٌ أي: واسع الرحمة و الجود عَلِيمٌ بمصالح الخلق، و من جملتها يعلم حيث يجعل رسالته.

يَخْتَصُّ بِرَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ و تفسيرها في سورة «1» البقرة.

و في هذه الآيات معجزة باهرة لنبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، إذ فيها إخبار عن سرائر القوم التي لا يعلمها إلّا علّام الغيوب، و فيها دفع لمكائدهم، و لطف للمؤمنين في الثبات على عقائدهم، و ردّ و إبطال لما زعموه بالحجّة الواضحة.

[سورة آل عمران (3): الآيات 75 الى 76]

وَ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ إِلاَّ ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (75) بَلى مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَ اتَّقى فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (76)

قيل: إن عبد اللّه بن سلام استودعه قرشيّ ألفا و مائتي أوقيّة «2» فأدّاه إليه،

______________________________

(1) راجع ص: 207 ذيل آية: 105 من سورة البقرة.

(2) في

هامش النسخة الخطّية: «أوقيّة بالتشديد: أربعون درهما. و هي أفعولّة من الوقاية، لأنها تقي صاحبها من الصير. و قيل: فعليّة من الأوق، و هو الثقل. و الجمع الأواقي، بالتخفيف و التشديد. منه». و الصير: منتهى الأمر و عاقبته.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 510

و فنحاص بن عازوراء استودعه قرشيّ آخر دينارا فجحده، فنزلت فيهما: وَ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِقِنْطارٍ أي: تجعله أمينا على مال كثير يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ يردّه إليك عند المطالبة، و لا يخون فيه، كعبد اللّه بن سلام وَ مِنْهُمْ مَنْ إِنْ تَأْمَنْهُ بِدِينارٍ أي: بمال قليل حقير لا يُؤَدِّهِ إِلَيْكَ عند المطالبة. كفنحاص. و في بعض التفاسير «1»: المأمونون على الكثير النصارى، و الغالب فيهم الأمانة، و الخائنون في القليل اليهود، إذ الغالب عليهم الخيانة. إِلَّا ما دُمْتَ عَلَيْهِ قائِماً إلّا مدّة دوامك قائما على رأسه، مبالغا في مطالبته بالتقاضي و الترافع إلى الحاكم و إقامة البيّنة.

ذلِكَ إشارة إلى ترك أداء الحقوق المدلول عليه بقوله: «لا يؤدّه» بِأَنَّهُمْ قالُوا بسبب قولهم: لَيْسَ عَلَيْنا فِي الْأُمِّيِّينَ سَبِيلٌ أي: ليس علينا في شأن من ليسوا من أهل الكتاب، و لم يكونوا على ديننا، عتاب و ذمّ في ترك أداء الحقوق إليهم وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بادّعائهم ذلك وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أنّهم كاذبون، و ذلك لأنّهم استحلّوا ظلم من خالفهم و قالوا: لم يجعل لهم في التوراة حرمة.

و قيل: عامل اليهود رجالا من قريش، فلمّا أسلموا تقاضوهم، فقالوا: سقط حقّكم حيث تركتم دينكم، و زعموا أنّه كذلك في كتابهم.

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال عند نزولها: «كذب أعداء اللّه، ما من شي ء في الجاهليّة إلّا و هو تحت قدميّ- يعني:

جميع ما في أديان الجاهليّة منسوخة- إلّا الأمانة، فإنّها مؤدّاة إلى البرّ و الفاجر».

بَلى إثبات لما نفوه، أي: بلى عليهم سبيل في الأميّين. و قوله: مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ وَ اتَّقى في ترك الخيانة و الغدر فَإِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ جملة مستأنفة، أي: مقرّرة للجملة التي سدّت «بلى» مسدّها، و الضمير المجرور ل «من» و معناه: من أوفى بعهد نفسه أو للّه. و عهد اللّه إلى عباده عبارة عن أمره و نهيه.

______________________________

(1) الكشّاف 1: 375، تفسير البيضاوي 2: 26.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 511

و عموم «للمتّقين» ناب عن الراجع من الجزاء إلى «من» أعني: ضمير «يحبّه»، إشعارا بأن التقوى أصل الأمر. و هو يعمّ الوفاء و غيره، من أداء الواجبات و الاجتناب عن المناهي.

[سورة آل عمران (3): الآيات 77 الى 78]

إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لا يُزَكِّيهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (77) وَ إِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ لِتَحْسَبُوهُ مِنَ الْكِتابِ وَ ما هُوَ مِنَ الْكِتابِ وَ يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ ما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (78)

روي: أنّ جماعة من أحبار اليهود، مثل أبي رافع و كنانة بن أبي الحقيق و حيّي بن الأخطب و كعب بن الأشرف، كتموا في التوراة نعت محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و حكم الأمانات، و كتبوا بأيديهم غيره، و حلفوا أنّه من اللّه لئلّا تفوتهم الرئاسة، و ما كان لهم على أتباعهم من الوظائف المقرّرة، فنزلت في شأنهم: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ يستبدلون بِعَهْدِ اللَّهِ بما عاهدوا عليه من الإيمان بالرّسول و الوفاء

بالأمانات وَ أَيْمانِهِمْ الكاذبة، و بما حلفوا به من قولهم: و اللّه لنؤمننّ به و لننصرنّه ثَمَناً قَلِيلًا متاع الدّنيا من الرئاسة و أخذ الرشا و الوظائف، فإنّه قليل في جنب ما يفوتهم من الثواب الأبدي أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ لا نصيب وافر لهم فِي الْآخِرَةِ وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ بما يسرّهم، أو بشي ء أصلا، و إنّ الملائكة يسألونهم يوم القيامة. أو لا

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 512

ينتفعون بكلمات اللّه تعالى و آياته. و الظاهر أنّه كناية عن غضبه عليهم، لقوله: وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ مجاز عن الاستهانة، فإنّ من سخط على غيره و استهان به أعرض عنه و عن التكلّم معه و الالتفات نحوه، كما أنّ من أعتدّ بغيره يقاوله و يكثر النظر إليه وَ لا يُزَكِّيهِمْ و لا يثني عليهم وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ على ما فعلوه.

قيل: نزلت هذه الآية في ترافع كان بين الأشعث بن قيس و يهوديّ في بئر أو أرض قام ليحلف عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فلمّا نزلت هذه الآية نكل الأشعث و اعترف بالحقّ و ردّ الأرض.

و

عن ابن مسعود قال: «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: من حلف على يمين كاذبة ليقتطع بها مال أخيه المسلّم، لقي اللّه و هو عليه غضبان، و تلا هذه الآية».

و

روي مسلّم بن الحجّاج في الصحيح بإسناده من عدّة طرق عن أبي ذرّ الغفاري عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «ثلاثة لا يكلّمهم اللّه يوم القيامة، و لا ينظر إليهم، و لا يزكّيهم، و لهم عذاب أليم: المنّان الّذي لا يعطي شيئا إلّا منّة، و المنفق سلعته بالحلف

الفاجر، و المسبل إزاره» «1».

وَ إِنَّ مِنْهُمْ لَفَرِيقاً يعني: المحرّفين، ككعب و مالك و حييّ يَلْوُونَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالْكِتابِ يفتلونها بقراءته، فيميلونها عن المنزل إلى المحرّف، أو يعطفونها بشبه الكتاب لِتَحْسَبُوهُ لتظنّوه أيّها المسلمون مِنَ الْكِتابِ من كتاب اللّه المنزل على موسى عليه السّلام وَ ما هُوَ مِنَ الْكِتابِ الضمير للمحرّف المدلول عليه بقوله:

«يلوون» أي: لا يكون ذلك المحرّف من التوراة، و لكنّهم يخترعونه.

وَ يَقُولُونَ هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ ما هُوَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي: ليس هذا نازلا من عند اللّه. و هذا تأكيد لقوله: وَ ما هُوَ مِنَ الْكِتابِ و زيادة تشنيع عليهم و تسجيل بالكذب، و دلالة على أنّهم لا يعرّضون و لا يورون، و إنّما يصرّحون بأنّه في التوراة

______________________________

(1) صحيح مسلّم 1: 102 ح 171.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 513

هكذا، و قد أنزل اللّه تعالى على موسى كذلك، لفرط جرأتهم على اللّه، و قساوة قلوبهم، و يأسهم من الآخرة. وَ يَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ تأكيد و تسجيل عليهم بالكذب على اللّه و التعمّد فيه.

[سورة آل عمران (3): الآيات 79 الى 80]

ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ كُونُوا رَبَّانِيِّينَ بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَ بِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ (79) وَ لا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَ النَّبِيِّينَ أَرْباباً أَ يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (80)

قيل: إنّ أبا رافع القرظي من اليهود و رئيس وفد نجران قالا: يا محمّد أ تريد أن نعبدك و نتّخذك إلها؟ فقال: معاذ اللّه أن أعبد غير اللّه أو آمر بعبادة غير اللّه، ما بذلك بعثني، و لا بذلك أمرني، فنزلت: ما كانَ أي: ما ينبغي، أو

لا يحلّ لِبَشَرٍ أَنْ يُؤْتِيَهُ اللَّهُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ أي: علم الشريعة وَ النُّبُوَّةَ أي: الرسالة إلى الخلق ثُمَّ يَقُولَ لِلنَّاسِ كُونُوا عِباداً لِي مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: اعبدوني من دون اللّه. و قيل:

ذلك تكذيب و ردّ على عبدة عيسى.

و قيل: قال رجل: يا رسول اللّه نسلّم عليك كما يسلّم بعضنا على بعض، أ فلا نسجد لك؟ قال: لا ينبغي أن يسجد لأحد من دون اللّه، و لكن أكرموا نبيّكم، و اعرفوا الحقّ لأهله.

وَ لكِنْ يقول كُونُوا رَبَّانِيِّينَ الربّاني منسوب إلى الربّ بزيادة «الألف و النون، كاللحياني و الرقباني. و هو الذي يكون شديد التمسّك بدين اللّه و طاعته، يعني: الكامل في العلم و العمل. بِما كُنْتُمْ تُعَلِّمُونَ الْكِتابَ وَ بِما كُنْتُمْ تَدْرُسُونَ

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 514

بسبب كونكم معلّمين الكتاب، و بسبب كونكم دارسين له، فإنّ فائدة التعليم و التعلّم معرفة الحقّ و الخير للاعتقاد و العمل. و قرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو و يعقوب:

تعلمون بمعنى عالمين.

وَ لا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَ النَّبِيِّينَ أَرْباباً نصبه ابن عامر و عاصم و حمزة و يعقوب عطفا على «ثم يقول»، و تكون «لا» مزيدة لتأكيد معنى النفي في قوله: «ما كان»، أي: ما كان لبشر أن يستنبئه اللّه ثمّ يأمر الناس بعبادة نفسه، و يأمر باتّخاذ الملائكة و النبيّين أربابا. أو غير مزيدة، على معنى أنّه ليس له أن يأمر بعبادته، و لا يأمر باتّخاذ أكفائه أربابا، بل ينهى عنه.

و يؤيّد ما

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان ينهى قريشا عن عبادة الملائكة، و ينهى اليهود و النصارى عن عبادة عزير و المسيح، فلمّا قالوا له: أ نتّخذك

ربّا؟ قيل لهم: ما كان لبشر أن يستنبئه اللّه، ثمّ يأمر الناس بعبادته، و ينهاهم عن عبادة الملائكة و الأنبياء.

و رفعه الباقون على الاستئناف، و يحتمل الحال.

أَ يَأْمُرُكُمْ بِالْكُفْرِ إنكار، و الضمير فيه للبشر. و قيل: للّه. بَعْدَ إِذْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ معتقدون التوحيد. و المعنى: أنّ اللّه إنما يبعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليدعو النّاس إلى الإيمان، فكيف يدعو المسلمين إلى الكفر؟ و هذا دليل على أنّ الخطاب للمسلمين، و هم المستأذنون لأن يسجدوا له.

[سورة آل عمران (3): الآيات 81 الى 89]

وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ قالَ أَ أَقْرَرْتُمْ وَ أَخَذْتُمْ عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي قالُوا أَقْرَرْنا قالَ فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (81) فَمَنْ تَوَلَّى بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (82) أَ فَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ وَ لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (83) قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ عَلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ عَلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى وَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (84) وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (85)

كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَ شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَ جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (86) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ (87) خالِدِينَ فِيها لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (88) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا

فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (89)

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 515

وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ قيل: إنّه على ظاهره. و إذا كان هذا حكم الأنبياء كان الأمم به أولى.

و

عن الصادق عليه السّلام: أنّ المعنى: و إذ أخذ اللّه ميثاق أمم النبيّين كلّ أمّة بتصديق

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 516

نبيّها و العمل بما جاءهم به، فما وفوا به، و تركوا كثيرا من شرائعهم.

و قيل: معناه: أنّه تعالى أخذ الميثاق من النبيّين و أممهم، و استغنى بذكرهم عن ذكر الأمم.

و قيل: إضافة الميثاق إلى النبيّين إضافة إلى الفاعل. و المعنى: و إذ أخذ اللّه الميثاق الذي وثّقه الأنبياء على أممهم.

و قيل: المراد أولاد النبيّين، على حذف المضاف، و هم بنو إسرائيل. أو سمّاهم نبيّين تهكّما، لأنّهم كانوا يقولون: نحن أولى بالنبوّة من محمّد، لأنّا أهل الكتاب، و النبيّون كانوا منّا.

لَما آتَيْتُكُمْ مِنْ كِتابٍ وَ حِكْمَةٍ ثُمَّ جاءَكُمْ رَسُولٌ مُصَدِّقٌ لِما مَعَكُمْ لَتُؤْمِنُنَّ بِهِ وَ لَتَنْصُرُنَّهُ اللام في «لما آتيتكم» توطئة للقسم. لأنّ أخذ الميثاق بمعنى الاستحلاف. و «ما» تحتمل الشرطيّة. و «لتؤمننّ» سادّ مسدّ جواب القسم و الشرط.

و قرأ حمزة لما بالكسر، على أنّ «ما» مصدريّة، أي: لأجل إيتائي إيّاكم بعض الكتاب، ثمّ لمجي ء رسول مصدّق، أو موصولة، و المعنى: أخذه للّذي آتيتكموه و جاءكم رسول مصدّق له.

قالَ أي: قال اللّه تعالى لأنبيائه أَ أَقْرَرْتُمْ و صدّقتموه وَ أَخَذْتُمْ أي:

قبلتم عَلى ذلِكُمْ إِصْرِي أي: عهدي، سمّي به لأنّه ممّا يؤصر، أي: يشدّ.

و نظيره: إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ «1».

قالُوا أي: الأنبياء و أممهم أَقْرَرْنا بما أمرتنا بالإقرار به قالَ فَاشْهَدُوا أي: فليشهد بعضكم على بعض بالإقرار. و قيل: الخطاب فيه للملائكة.

وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ و أنا أيضا على

إقراركم و تشاهدكم شاهد. و هو توكيد

______________________________

(1) المائدة: 41.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 517

بليغ و تحذير عظيم من الرجوع.

روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «لم يبعث اللّه نبيّا إلّا أخذ عليه العهد لئن بعث اللّه محمّدا ليؤمننّ به و لينصرنّه، و أمره بأن يأخذ العهد بذلك على أمّته».

فَمَنْ تَوَلَّى أي: فمن أعرض عن الإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بَعْدَ ذلِكَ بعد الميثاق و التوكيد بالإقرار و الشهادة فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ المتمرّدون من الكفّار.

و لم يقل: الكافرون، لأنّ المراد الخارجون في الكفر إلى أفحش مراتب الكفر بتمرّدهم، و ذلك لأنّ أصل الفسق الخروج عن أمر اللّه إلى حال توبقه «1»، و في الكفر ما هو أكبر.

أَ فَغَيْرَ دِينِ اللَّهِ يَبْغُونَ عطف على الجملة المتقدّمة، و الهمزة متوسّطة بينهما للإنكار، أو على محذوف، تقديره: أ يتولّون فغير دين اللّه يبغون. و تقديم المفعول لأنّه المقصود بالإنكار، من حيث إن الإنكار الذي هو معنى الهمزة متوجّه إلى المعبود بالباطل. و الفعل بلفظ الغيبة عند أبي عمرو و عاصم في رواية حفص و يعقوب، و بالتاء عند الباقين على تقدير: و قل لهم.

وَ لَهُ أَسْلَمَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً أي: طائعين بالنظر و اتّباع الحجّة وَ كَرْهاً أي: كارهين بالسّيف و معاينة ما يلجئ إلى الإسلام، كنتق «2» الجبل، و إدراك الغرق «3»، و الإشراف على الموت. و قيل: طوعا لأهل السّموات خاصّة، و أمّا أهل الأرض فمنهم من أسلم طوعا بالنظر في الأدلّة، و منهم من أسلّم كرها بالسيف أو غيره من الأسباب الملجئة إلى الإسلام. وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ و قرأ حفص و يعقوب بالياء على أنّ الضمير ل «من».

______________________________

(1) أي:

تهلكه.

(2) الأعراف: 171.

(3) يونس: 90.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 518

قُلْ آمَنَّا بِاللَّهِ خطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أمر له بأن يخبر عن نفسه و عن متابعيه بالإيمان باللّه، فلذلك و حدّ الضمير في «قل» و جمع في «آمنّا».

وَ ما أُنْزِلَ أي: و بما أنزل عَلَيْنا و هو القرآن، فإنّه كما أنزل عليه أنزل عليهم بتوسّط تبليغه إليهم. و أيضا المنسوب إلى واحد من الجمع ينسب إليهم. أو بأن يتكلّم عن نفسه على طريقة الملوك، إجلالا من اللّه لقدر نبيّه. و النزول كما يعدّى ب «إلى» لأنّه ينتهي إلى الرسل، يعدّى ب «على» لأنّه من فوق، فجاء تارة بأحد المعنيين و الاخرى بالآخر. و إنّما قدّم المنزل عليه على المنزل على سائر الرسل لأنّه المعرّف له.

وَ ما أُنْزِلَ و بما أنزل عَلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ ما أُوتِيَ مُوسى وَ عِيسى وَ النَّبِيُّونَ مِنْ رَبِّهِمْ لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ بالتصديق و التكذيب وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ منقادون، أو مخلصون أنفسنا في عبادته، لا نجعل له شريكا فيها.

وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً أي: غير التوحيد و الانقياد لحكم اللّه تعالى فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ بل يعاقب عليه وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ الواقعين في الخسران مطلقا من غير تقييد للشياع. و المعنى: أنّ المعرض عن الإسلام و الطالب لغيره فاقد للنفع، واقع في الخسران بإبطال الفطرة السليمة التي فطر الناس عليها.

كَيْفَ يَهْدِي اللَّهُ قَوْماً كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ وَ شَهِدُوا أَنَّ الرَّسُولَ حَقٌّ وَ جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ استبعاد لأن يهديهم اللّه، فإنّ المائل عن الحقّ بعد ما وضح له منهمك في الضلال، بعيد عن الرشاد، فيبعد تأثير

التوفيق و اللطف فيه. و «شهدوا» عطف على ما في «إيمانهم» من معنى الفعل، تقديره: بعد أن آمنوا و شهدوا. و يجوز أن يكون الواو للحال بإضمار «قد»، أي: كفروا و قد شهدوا أنّ الرسول حقّ.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 519

و معنى الآية: كيف يهديهم اللّه إلى طريق الإيمان، و قد تركوا هذا الطريق؟! و قيل: معناه: كيف يلطف بهم اللّه و ليسوا من أهل اللطف، لما علم من تصميمهم على الكفر؟! و دلّ على تصميمهم أنّهم كفروا بعد ما شهدوا بأنّ الرسول حقّ، و بعد ما جاءتهم المعجزات التي تثبت النبوّة.

وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الذين ظلموا أنفسهم بالإخلال بالنظر، و وضع الكفر موضع الإيمان، فكيف من جاءهم الحقّ و عرفه ثم أعرض عنه، أي:

اللّه لا يسلك بالقوم الظالمين مسلك المهتدين، و لا يثيبهم و لا يهديهم إلى طريق الجنّة، بل أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ على أعمالهم و عقيدتهم أَنَّ عَلَيْهِمْ لَعْنَةَ اللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ هي إبعاده إيّاهم من رحمته و مغفرته، و هي دعاؤهم عليهم باللعنة، و بأن يبعّدهم اللّه من رحمته.

خالِدِينَ فِيها أي: في اللعنة، لخلودهم فيما استحقّوا باللعنة، و هو العذاب لا يُخَفَّفُ عَنْهُمُ الْعَذابُ لا يسهّل عليهم وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ و لا يمهلون للتوبة، و لا يؤخّر عنهم العذاب من وقت إلى وقت.

إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي: من بعد الارتداد وَ أَصْلَحُوا ما أفسدوا. و يجوز أن لا يقدّر له مفعول، بمعنى: و دخلوا في الصلاح فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ يقبل توبته رَحِيمٌ يتفضّل عليه.

قيل: إنّها نزلت في الحارث بن سويد بن الصامت، و كان قتل المحذر بن زياد البلوي غدرا، و هرب و ارتدّ عن الإسلام،

و لحق بمكّة، ثمّ حين ندم على ردّته، فأرسل إلى قومه أن يسألوا هل لي من توبة؟ فأرسل إليه أخوه الجلاس بهذه الآية، فرجع إلى المدينة فتاب.

و قيل: نزلت في أهل الكتاب الّذين كانوا يؤمنون بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قبل مبعثه، ثمّ كفروا بعد البعثة حسدا و بغيا. و القول الأوّل مرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 520

[سورة آل عمران (3): الآيات 90 الى 92]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ (90) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْ ءُ الْأَرْضِ ذَهَباً وَ لَوِ افْتَدى بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (91) لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ (92)

و لمّا تقدّم ذكر التوبة المقبولة عقّبه سبحانه بما لا يقبل منها، فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْدَ إِيمانِهِمْ ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً كاليهود كفروا بعيسى و الإنجيل بعد الإيمان بموسى عليه السّلام و التوراة، ثمّ ازدادوا كفرا بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و القرآن. أو كفروا بمحمد بعد ما آمنوا به قبل مبعثه، ثمّ ازدادوا كفرا بالإصرار و العناد و الطعن فيه، و الصدّ عن الإيمان، و نقض الميثاق. أو كقوم ارتدّوا و لحقوا بمكّة، ثمّ ازدادوا كفرا بقولهم:

نتربّص بمحمد ريب المنون، أو نرجع إليه و ننافقه بإظهار التوبة. لَنْ تُقْبَلَ تَوْبَتُهُمْ لأنّها لم تقع على وجه الإخلاص. و يدلّ عليه قوله: وَ أُولئِكَ هُمُ الضَّالُّونَ عن الحقّ، الثابتون على الضلال.

و قيل: لن تقبل توبتهم عند رؤية اليأس. و المعنى: أنّهم لا يتوبون إلّا عند معاينة

الموت، أو لا يتوبون إلّا نفاقا، لا لارتدادهم و زيادة كفرهم، و لذلك لم تدخل الفاء فيه، لأنّ الكفر و الزيادة لا يكون سبب عدم قبول التوبة، بل عدم التوبة.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْ ءُ الْأَرْضِ ذَهَباً لمّا كان الموت على الكفر سببا لامتناع قبول الفدية أدخل الفاء هنا للإشعار به. و مل ء

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 521

الشي ء ما يملؤه. و «ذهبا» نصب على التمييز. وَ لَوِ افْتَدى بِهِ محمول على المعنى، كأنّه قيل: فلن يقبل من أحدهم فدية و لو افتدى بمل ء الأرض ذهبا. أو معطوف على مضمر تقديره: فلن يقبل من أحدهم مل ء الأرض ذهبا لو تقرّب به في الدنيا، و لو افتدى به من العذاب في الآخرة. أو المراد: و لو افتدى بمثله. و المثل يحذف كثيرا في كلامهم، قالوا: ضربته ضرب زيد، أي: مثل ضربه، و قضيّة و لا أبا حسن لها، أي: لا مثل أبي حسن، كما أنّه يراد في نحو قولهم: مثلك لا يفعل كذا، أي: أنت لا تفعل.

أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ مبالغة في التحذير و إقناط كلّي، لأنّ من لا يقبل منه الفداء ربما يعفى عنه تكرّما وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ في دفع العذاب. و «من» مزيدة للاستغراق.

و لمّا ذكر في هذه الآية «فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْ أَحَدِهِمْ مِلْ ءُ الْأَرْضِ ذَهَباً» وصل ذلك بقوله: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ لئلّا يؤدّي امتناع غناء الفدية إلى الفتور في الصدقة، و ما جرى مجراها من وجوه الطاعة.

و معنى الآية: لن تبلغوا حقيقة البرّ الذي هو كمال الخير. و قيل: لن تنالوا برّ اللّه- و هو الثواب و الرحمة و الرضا- حتى تنفقوا

من أموالكم الّتي تحبّونها، كقوله:

أَنْفِقُوا مِنْ طَيِّباتِ ما كَسَبْتُمْ ... وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ «1» الآية، أو ممّا يعمّ الأموال و غيرها، كبذل الجاه في معاونة الناس، و البدن في طاعة اللّه، و المهجة في سبيله.

روي عن أبي الطفيل قال: «اشترى عليّ عليه السّلام ثوبا فأعجبه فتصدّق به و قال:

سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: من آثر على نفسه آثره اللّه يوم القيامة بالجنّة، و من أحبّ شيئا فجعله للّه قال اللّه تعالى يوم القيامة: قد كان العباد يكافئون فيما بينهم بالمعروف، و أنا أكافئك اليوم بالجنّة».

______________________________

(1) البقرة: 267.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 522

و

روي أنّها لمّا نزلت جاء أبو طلحة: فقال: «يا رسول اللّه إنّ أحبّ أموالي إليّ بئر حا «1»، فضعها حيث أراك اللّه. فقال: بخ بخ ذاك مال رابح أو رائح لك، و إنّي أرى أن تجعلها في الأقربين. فقال أبو طلحة: أفعل يا رسول اللّه، فقسّمها في أقاربه».

و

جاء زيد بن حارثة بفرس كان يحبّها فقال: هذه في سبيل اللّه، فحمل عليها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أسامة بن زيد. فقال زيد: إنّما أردت أن أتصدّق بها. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه قد قبلها منك.

و ذلك يدلّ على أنّ إنفاق أحبّ الأموال على أقرب الأقارب أفضل، و أنّ الآية تعمّ الإنفاق الواجب و المستحبّ.

و

يروي عن ابن عمر أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سئل عن هذه الآية فقال: «هو أن ينفق العبد المال و هو شحيح، يأمل الدنيا و يخاف الفقر».

وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ من ايّ شي ء كان، طيّب تحبّونه، أو خبيث تكرهونه. و «من» لبيان

«ما». فَإِنَّ اللَّهَ بِهِ عَلِيمٌ فيجازيكم بحسبه.

[سورة آل عمران (3): الآيات 93 الى 95]

كُلُّ الطَّعامِ كانَ حِلاًّ لِبَنِي إِسْرائِيلَ إِلاَّ ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ عَلى نَفْسِهِ مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (93) فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (94) قُلْ صَدَقَ اللَّهُ فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (95)

و لمّا بيّن اللّه سبحانه محاجّتهم في ملّة إبراهيم، و كان ممّا أنكروا على

______________________________

(1) بئر حابستان من بساتين المدينة، أي: البستان الذي فيه بئر حا، أضيف البئر إلى حا، و كانت بساتين المدينة تدعى بالآبار التي فيها.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 523

نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تحليله لحم الجزور، و ادّعوا تحريمه على إبراهيم، و أنّ ذلك مذكور في التوراة، فكذّب اللّه قولهم فقال: كُلُّ الطَّعامِ أي: كلّ أنواع الطعام، أو كلّ المطعومات. و المراد أكلها. كانَ حِلًّا لِبَنِي إِسْرائِيلَ حلالا لهم. و هو مصدر نعت به، و لذلك يستوي فيه الواحد و الجمع، و المذكّر و المؤنّث، قال اللّه تعالى: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ «1».

إِلَّا ما حَرَّمَ إِسْرائِيلُ يعقوب عليه السّلام عَلى نَفْسِهِ كلحوم الإبل و ألبانها.

قيل: كان به عرق النساء، فنذر إن شفي لم يأكل أحبّ الطعام إليه، و كان ذلك أحبّه إليه. و قيل: فعل ذلك للتداوي بإشارة الأطبّاء. مِنْ قَبْلِ أَنْ تُنَزَّلَ التَّوْراةُ أي: من قبل إنزالها مشتملة على تحريم ما حرّم عليه لظلمهم و بغيهم، عقوبة و تشديدا.

و حاصل المعنى: أنّ المطاعم كلّها لم تزل حلالا لبني إسرائيل من قبل إنزال التوراة و تحريم ما حرّم عليهم منها لظلمهم و بغيهم، لم يحرم منها شي ء قبل ذلك، غير المطعوم الواحد الّذي

حرّمه أبوهم إسرائيل على نفسه، فتبعوه على تحريمه.

و هذا ردّ على اليهود في دعوى براءة ساحتهم عمّا نطق به القرآن من تحريم الطيّبات عليهم ببغيهم و ظلمهم، في قوله: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ «2». و قوله: وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ «3» الآيتين، بأن قالوا:

لسنا أوّل من حرّمت عليه، و إنّما كانت محرّمة على نوح و إبراهيم و من بعده، حتى انتهى الأمر إلينا، فحرّمت علينا كما حرّمت على من قبلنا. و في منع «4» النسخ.

فكذّبهم اللّه، ثم قال: قُلْ فَأْتُوا بِالتَّوْراةِ فَاتْلُوها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أمر

______________________________

(1) الممتحنة: 10.

(2) النساء: 160.

(3) الأنعام: 146.

(4) عطف على قوله: في دعوى براءة ساحتهم ... قبل أسطر.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 524

بمحاجّتهم بكتابهم، و تبكيتهم بما فيه من أنّه قد حرّم عليهم بسبب ظلمهم ما لم يكن محرّما.

روي: «أنّه عليه السّلام لمّا قال لهم بهتوا، و لم يجسروا أن يخرجوا التوراة».

و فيه دليل على نبوّته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فَمَنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ ابتدعه على اللّه تعالى، بزعمه أنّ ذلك كان محرّما قبل نزول التوراة على بني إسرائيل و من قبلهم مِنْ بَعْدِ ذلِكَ أي: من بعد ما لزمتهم الحجّة فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ الّذين لا ينصفون من أنفسهم، و يكابرون الحقّ بعد ما وضح لهم.

ثمّ عرّض بكذبهم فقال: قُلْ صَدَقَ اللَّهُ أي: ثبت أنّ اللّه تعالى صادق فيما أنزل و أنتم الكاذبون فَاتَّبِعُوا مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً أي: ملّة الإسلام الّتي هي في الأصل ملّة إبراهيم عليه السّلام، أو مثل ملّته، حتى تتخلّصوا من اليهوديّة الّتي اضطرّتكم إلى التحريف و المكابرة لتسوية الأغراض الدنيويّة، و ألزمتكم تحريم طيّبات أحلّها اللّه لإبراهيم و

من تبعه.

و الصحيح أنّ نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يكن متعبّدا بشريعة من تقدّم من الأنبياء، و لكن وافقت شريعته شريعة إبراهيم، فلذلك قال: اتّبعوا ملّة إبراهيم، و إلّا فاللّه هو الّذي أوحى بها إليه و أوجبها عليه، فكانت شريعة له. فالتفسير الثاني هو الحقّ. و إنما رغّب اللّه في شريعة الإسلام بأنّها ملّة إبراهيم لأن المصالح إذا وافقت ما تميل النفس إليه و يقبله العقل بغير كلفة كانت أحقّ بالرغبة فيها، و كان المشركون يميلون إلى اتّباع ملّة إبراهيم، فلذلك خوطب بذلك.

وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ فيه إشارة إلى أن اتّباعه واجب في التوحيد الصرف، و الاستقامة في الدين، و التجنّب عن الإفراط و التفريط. و تعريض بشرك اليهود.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 525

[سورة آل عمران (3): الآيات 96 الى 97]

إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ (96) فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ مَقامُ إِبْراهِيمَ وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلاً وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (97)

و لمّا أمر اللّه سبحانه أهل الكتاب باتّباع ملّة إبراهيم، و من ملّته تعظيم البيت الحرام، فذكر البيت و فضله و حرمته و ما يتعلّق به، فقال: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ أي: وضع للعبادة، و جعل متعبّدا لهم. و الواضع هو اللّه تعالى. و يدلّ عليه أنّه قرئ على البناء للفاعل.

عن مجاهد: أنّ المسلمين و اليهود تفاخروا، فقالت اليهود: بيت المقدس أعظم و أفضل من الكعبة، لأنّها مهاجر الأنبياء و في الأرض المقدّسة، فقال المسلمون: بل الكعبة أفضل، فأنزل اللّه ردّا على قول اليهود: «إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ» لَلَّذِي بِبَكَّةَ للبيت الّذي ببكّة. و هي

لغة في مكّة، كالنبيط و النميط، و أمر راتب و راتم، و لازب و لازم. و قيل: بكّة موضع المسجد، و مكّة البلد. و

عن أبي جعفر عليه السّلام: «بكّة المسجد، و مكّة الحرم كلّه».

من: بكّة إذا دقّه، فإنّها تبكّ أعناق الجبابرة حين قصدوه، أو من: بكّ بصيغة المجهول، لأنّها مزدحم الناس للطواف.

روي: «أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سئل عن أوّل بيت وضع للناس. فقال: المسجد الحرام، ثم بيت المقدس. و سئل كم بينهما؟ فقال: أربعون سنة».

روي عن مجاهد و قتادة و السدّي: أنّ الكعبة هي أوّل بيت ظهر على وجه الماء عند خلق اللّه السماء و الأرض، خلقه اللّه قبل الأرض بألفي عام، و كانت زبدة بيضاء على الماء».

و

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنّها كانت مهاة بيضاء»

يعني: درّة.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 526

و

روي عن أبي خديجة عنه عليه السّلام قال: «إن اللّه أنزله لآدم من الجنّة، و كان درّة بيضاء، فرفعه اللّه إلى السماء و بقي أسّه، و هو بحيال هذا البيت، يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك لا يرجعون إليه أبدا، فأمر اللّه إبراهيم و إسماعيل ببنيان البيت على القواعد».

و روي أصحابنا أنّ أوّل شي ء خلق اللّه عزّ و جلّ موضع الكعبة، ثم دحيت الأرض من تحتها.

و قيل: أوّل من بناه إبراهيم عليه السّلام، ثم هدم فبناه قوم من جرهم، ثم العمالقة، ثم قريش.

و قيل: هو أوّل بيت بناه آدم عليه السّلام، فانطمس في الطوفان، ثم بناه إبراهيم عليه السّلام.

و قيل: كان في موضعه قبل آدم عليه السّلام بيت يقال له الضراح «1»، تطوف به الملائكة، فلمّا أهبط آدم أمر بأن يحجّه و يطوف حوله، و رفع في الطوفان إلى

السماء الرابعة، تطوف به ملائكة السموات.

و قيل: المراد أنّه أوّل بيت بالشرف لا بالزمان.

مُبارَكاً كثير النفع و الخير و البركة لمن حجّة و اعتمره و اعتكف دونه و طاف حوله. و انتصابه على الحال من الضمير في الظرف.

و قيل: بركته لثبوت العبادة فيه دائما، حتى يحكى أنّ الطواف به لا ينقطع عنه أبدا. و قيل: لأنّه يضاعف فيه ثواب العبادة. و قيل: لأنّه يغفر فيه الذنوب. و الأولى حمله على الجميع.

وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ لأنّه قبلتهم و متعبّدهم، و لأنّ فيه دلالة لهم على اللّه عزّ اسمه بإهلاكه كلّ من قصده من الجبابرة، كأصحاب الفيل، و غير ذلك من الآيات العجيبة، كما قال: فِيهِ آياتٌ بَيِّناتٌ كانحراف الطير عن موازاة البيت على مدى

______________________________

(1) في هامش النسخة الخطّية: «ضرح أي: بعد، فقيل: ضراحا لبعده من الأرض. منه».

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 527

الأعصار و لا تعلوه، و أنّ السباع الضارية تخالط الصيود في الحرم و لا تتعرّض لها، و بانمحاق «1» الجمار على كثرة الرماة، فلو لا أنها ترفع لكان يجتمع هناك من الحجارة مثل الجبال، و باستئناس الطيور فيه بالناس، و بالاستشفاء بالبيت، و أنّه إذا كان الغيث من ناحية الركن اليماني كان الخصب باليمن، و إذا كان من ناحية الركن الشامي كان الخصب بالشام، و إذا عمّ البيت كان في جميع البلدان، و غير ذلك من الآيات. و الجملة مفسّرة للهدى، أو حال أخرى.

و قوله: مَقامُ إِبْراهِيمَ مبتدأ محذوف خبره، أي: منها مقام إبراهيم، أو بدل من «آيات» بدل بعض من الكلّ. و قيل: عطف بيان على أنّ المراد بالآيات أثر القدم في الصخرة الصمّاء، و غوصها فيها إلى الكعبين، و تخصيصها بهذه الإلانة «2» من

بين الصخار، و إبقاؤه دون سائر آثار الأنبياء عليهم السّلام، و حفظه مع كثرة أعدائه ألوف سنة.

و قيل: سبب هذا الأثر أنّه لمّا ارتفع بنيان الكعبة قام على هذا الحجر ليتمكّن من رفع الحجارة، فغاصت فيه قدماه. و فيه قول آخر مرّ «3» في سورة البقرة.

سئل الصادق عليه السّلام عن الحطيم فقال: «هو ما بين الحجر الأسود و الباب. قيل:

و لم سمّي الحطيم؟ قال عليه السّلام: لأنّ الناس يحطم بعضهم بعضا. و هو الموضع الّذي فيه تاب اللّه على آدم».

و

قال عليه السّلام: «إن تهيّأ لك أن تصلّي صلواتك كلّها الفرائض و غيرها عند الحطيم فافعل، فإنّه أفضل بقعة على وجه الأرض، و بعده الصلاة في الحجر أفضل».

و

روي عن أبي حمزة الثمالي قال: «قال لنا عليّ بن الحسين عليهما السّلام: أيّ البقاع أفضل؟ فقلنا: اللّه و رسوله و ابن رسوله أعلم. فقال لنا: أفضل البقاع ما بين الركن

______________________________

(1) انمحق الشي ء: اضمحلّ و بطل و امّحى.

(2) مصدر ألان يلين، أي: جعله ليّنا.

(3) في ص: 228 ذيل الآية 125. زبدة التفاسير، ج 1، ص: 528

و المقام، و لو أن رجلا عمّر ما عمّر نوح عليه السّلام في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما، يصوم النهار و يقوم الليل في ذلك المكان، ثم لقي اللّه عزّ و جلّ بغير ولايتنا لم ينفعه ذلك شيئا».

و

قال الصادق عليه السّلام: «الركن اليماني بابنا الّذي ندخل منه الجنّة».

و

روي: «أنّه من روي من ماء زمزم أحدث له به شفاء، و صرف عنه داء».

وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً جملة ابتدائيّة أو شرطيّة معطوفة من حيث المعنى على «مقام»، لأنّه في معنى: آمن من دخله، أي: و منها آمن من دخله. أو فيه آيات بيّنات: مقام

إبراهيم، و آمن من دخله. اقتصر بذكرهما من الآيات الكثيرة و طوى ذكر غيرهما،

كقوله: «حبّب إليّ من دنياكم ثلاث: النساء، و الطيب، و قرّة عيني في الصلاة» «1»،

لأنّ فيهما غنية عن غيرهما في الدارين، من بقاء الأثر مدى الدهر و الأمن من العذاب يوم القيامة، كأنّه قيل: فيه آيات بيّنات: مقام إبراهيم، و آمن من دخله، و كثير سواهما. و قيل: قد يطلق الجمع و يراد منه التثنية، لأنّها نوع من الجمع.

قال عليه السّلام: «من مات في أحد الحرمين بعث يوم القيامة آمنا».

و

روي عن أبي جعفر عليه السّلام: «أنّ من دخله عارفا بما أوجبه اللّه عليه كان آمنا في الآخرة من النار».

و عند أصحابنا و الحنفيّة: من لزمه القتل بقصاص أو غيره لم يتعرّض له، و لكن ضيّق عليه المأكل و المشرب ليخرج منه.

وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ قصده للزيارة على الوجه المخصوص. و قرأ حمزة و الكسائي و عاصم في رواية حفص: حجّ بالكسر. و هو لغة نجد.

______________________________

(1) في هامش النسخة الخطية: «فإن قوله: قرة عيني، ابتداء كلام، لما ذكر الأولين أعرض عنهما و قال: مالي و ما الدنيا، و أعرض عن ذكر الثالث و قال: قرة عيني في الصلاة. منه».

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 529

مَنِ اسْتَطاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا بدل من الناس مخصّص له. و الضمير راجع إلى البيت أو الحجّ. و كلّ مأتيّ إلى الشي ء فهو سبيله.

روي عن أئمّتنا عليهم السّلام أنّ الاستطاعة هي: الزاد و الراحلة، و نفقة من تلزمه نفقته، و الرجوع إلى كفاية، إمّا من مال أو ضياع أو حرفة، مع الصحّة في النفس، و تخلية السّرب من الموانع، و إمكان السير.

وَ مَنْ كَفَرَ وضع «كفر» موضع «لم يحجّ» تأكيدا

لوجوبه، و تغليظا على تارك الحجّ، و لذلك

قال عليه السّلام: «من مات و لم يحجّ فليمت إن شاء يهوديّا أو نصرانيّا».

كما

جاء في الحديث: «من ترك الصلاة متعمّدا فقد كفر».

فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ لم يقل: عنه، ليكون بدلالته على الاستغناء الكامل أدلّ على عظم سخط اللّه الّذي وقع الاستغناء عبارة عنه. و في الأثر: لو ترك الناس الحجّ عاما واحدا ما نوظروا، أي: ما أمهلوا.

و في الأنوار: «قد أكّد أمر الحجّ في هذه الآية من وجوه: الدلالة على وجوبه بصيغة الخبر، و إبرازه في الصورة الاسميّة، و إيراده على وجه يفيد أنّه حقّ واجب للّه تعالى في رقاب الناس، و تعميم الحكم أوّلا ثم تخصيصه ثانيا، فإنّه كإيضاح بعد إبهام، و تثنية و تكرير للمراد، و تسمية ترك الحجّ كفرا من حيث إنّه فعل الكفرة، و ذكر الاستغناء، فإنّه في هذا الموضع ممّا يدلّ على المقت و الخذلان. و قوله: «عن العالمين» يدلّ عليه، لما فيه من مبالغة التعميم، و الدلالة على الاستغناء عنه بالبرهان، و هو غناؤه من جميع العالم، و الإشعار بعظم السخط، لأنّه تكليف شاقّ جامع بين كسر النفس و إتعاب البدن، و صرف المال، و التجرّد عن الشهوات، و الإقبال على اللّه تعالى» «1».

روي أنّه لمّا نزل صدر الآية جمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أرباب الملل فخطبهم

______________________________

(1) أنوار التنزيل 2: 32- 33. زبدة التفاسير، ج 1، ص: 530

و قال: «إنّ اللّه كتب عليكم الحجّ فحجّوا، فآمنت به ملّة واحدة، أي: المسلمون، و كفرت به خمس، فنزل: و من كفر».

[سورة آل عمران (3): الآيات 98 الى 99]

قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ (98) قُلْ

يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَ أَنْتُمْ شُهَداءُ وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (99)

ثمّ عاد الكلام إلى حجاج أهل الكتاب، فقال مخاطبا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ أي: بآياته السمعيّة و العقليّة الدالّة على صدق محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيما يدّعيه من وجوب الحجّ و غيره. و تخصيص أهل الكتاب بالخطاب دليل على أنّ كفرهم أقبح، و أنّهم إن زعموا أنّهم مؤمنون بالتوراة و الإنجيل فهم كافرون بهما.

وَ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ الواو للحال. و المعنى: لم تكفرون بالآيات الّتي دلّتكم على صدق محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الحال أنّ اللّه شهيد مطّلع على أعمالكم، فيجازيكم عليها، لا ينفعكم التحريف و الاستسرار، فكيف تجسرون على الكفر بآياته؟! قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لِمَ تَصُدُّونَ لم تمنعون عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ هو دين الإسلام مَنْ آمَنَ كرّر الخطاب و الاستفهام مبالغة في التقريع و نفي العذر لهم، و إشعارا بأنّ كلّ واحد من الأمرين مستقبح في نفسه، مستقلّ باستجلاب العذاب. و سبيل اللّه دينه الحقّ المأمور بسلوكه، و هو الإسلام.

قيل: كانوا يفتنون المؤمنين، و يغرّون بينهم بأسباب العداوة، حتى أتوا

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 531

الأوس و الخزرج، فذكّروهم الحروب الّتي كانت بينهم في الجاهليّة ليعودوا لمثلها.

تَبْغُونَها عِوَجاً تطلبون لها اعوجاجا و ميلا عن الاستقامة. و هو حال من الواو، أي: باغين طالبين لها اعوجاجا، بأن تلبسوا على الناس و توهموا أنّ فيه عوجا عن الحقّ، بمنع النسخ في شريعة موسى، و تغيير صفة رسول اللّه، و نحوهما، أو بأن تحرّشوا بين

المؤمنين لتختلف كلمتهم و يختلّ أمر دينهم. وَ أَنْتُمْ شُهَداءُ بأنّها سبيل اللّه الّذي ارتضاه، و تجدون ذلك في كتابكم، أو أنتم عدول بين أهل دينكم، يثقون بأقوالكم، و يستشهدونكم في القضايا وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ وعيد لهم.

و لمّا كان المنكر في الآية الأولى كفرهم و هم يجهرون به، ختمها بقوله:

«وَ اللَّهُ شَهِيدٌ». و لمّا كان في هذه الآية صدّهم للمؤمنين عن الإسلام، و كانوا يخفونه و يحتالون فيه، قال: «وَ مَا اللَّهُ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ».

[سورة آل عمران (3): الآيات 100 الى 101]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ (100) وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ وَ أَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ وَ فِيكُمْ رَسُولُهُ وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (101)

روي أنّ نفرا من الأوس و الخزرج كانوا جلوسا يتحدّثون فمرّ بهم شاس بن قيس اليهودي، فغاظه تألّفهم و اجتماعهم، فأمر شابّا من اليهود أن يجلس إليهم و يذكّرهم يوم بعاث- بالعين المهملة، و هو اسم حصن للأوس- و ينشدهم بعض ما قيل فيه، و كان الظفر في ذلك اليوم للأوس، ففعل فتنازع القوم و تفاخروا و تغاضبوا و قالوا: السلاح السلاح، و اجتمع من القبيلتين خلق عظيم، فتوجّه إليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أصحابه فقال: أ تدعون الجاهليّة و أنا بين أظهركم بعد إذ أكرمكم اللّه

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 532

بالإسلام، و قطع به عنكم أمر الجاهليّة، و ألّف بينكم، فعلموا أنّها نزغة من الشيطان وكيد من عدوّهم، فألقوا السلاح، و استغفروا، و عانق بعضهم بعضا، و انصرفوا مع الرسول. فخاطبهم اللّه بعد ما أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

بأن يخاطب أهل الكتاب، إظهارا لجلالة قدرهم، و إشعارا بأنّهم الأحقّاء بأن يخاطبهم اللّه تعالى و يكلّمهم،

فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا فَرِيقاً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ في إحياء الضغائن الّتي كانت بينكم في الجاهليّة يَرُدُّوكُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ كافِرِينَ

ثم عظّم الشأن عليهم بأن قال: وَ كَيْفَ تَكْفُرُونَ أي: و من أين يتطرّق إليكم الكفر وَ أَنْتُمْ تُتْلى عَلَيْكُمْ آياتُ اللَّهِ و الحال أنّ آيات اللّه تتلى عليكم على لسان رسوله وَ فِيكُمْ رَسُولُهُ و هو بين أظهركم يعظكم و ينبّهكم. هذا إنكار و تعجيب لكفرهم في حال اجتمع لهم الأسباب الداعية إلى الإيمان، الصارفة عن الكفر.

وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ و من يتمسّك بدين اللّه، أو يلتجئ إليه في مجامع أموره فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ فقد حصل له الهدى لا محالة.

[سورة آل عمران (3): الآيات 102 الى 103]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ وَ لا تَمُوتُنَّ إِلاَّ وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (102) وَ اعْتَصِمُوا بِحَبْلِ اللَّهِ جَمِيعاً وَ لا تَفَرَّقُوا وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (103)

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ حقّ تقواه و ما يجب منها، و هو

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 533

استفراغ الوسع في القيام بالواجب، و الاجتناب عن المحارم. و

عن الصادق عليه السّلام: «هو أن يطاع فلا يعصى، و يشكر فلا يكفر، و يذكر فلا ينسى».

و قيل: هو أن ينزّه الطاعة عن الالتفات إليها، و عن توقّع المجازاة عليها. و نحوه قوله تعالى: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ «1» أي: بالغوا في التقوى حتّى لا تتركوا من المستطاع فيها شيئا.

و

في هذا الأمر تأكيد للنهي عن طاعة أهل الكتاب. و أصل تقاة وقية، فقلبت واوها المضمومة تاء، كما في تؤدة و تخمة، و الياء ألفا.

وَ لا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ أي: و لا تكوننّ على حال سوى حال الإسلام إذا أدرككم الموت، كما تقول لمن تستعين به على القتال: لا تأتني إلّا و أنت على فرس، فلا تنهاه عن الإتيان، و لكنّك تنهاه عن خلاف الحال الّتي ذكرتها في وقت الإتيان، فإنّ النهي عن المقيّد بحال أو غيرها قد يتوجّه بالذات نحو الفعل تارة و القيد أخرى، و قد يتوجّه نحو المجموع دونهما، و كذلك النفي، و مثل ذلك مرّ «2» في سورة البقرة.

وَ اعْتَصِمُوا و تمسّكوا بِحَبْلِ اللَّهِ بدين الإسلام أو بكتابه،

لقوله عليه السّلام: «القرآن حبل اللّه المتين».

استعير له الحبل من حيث إنّ التمسّك به سبب النجاة من الردى، كما أنّ التمسّك بالحبل سبب للسلامة من التردّي. و استعير للوثوق به و الاعتماد عليه الاعتصام ترشيحا للمجاز. جَمِيعاً أي: مجتمعين. و معناه:

و اجتمعوا على التمسّك بعهد اللّه، و هو الإيمان أو القرآن.

و

روي أبان بن تغلب عن الصادق عليه السّلام: «نحن حبل اللّه الّذي قال: و اعتصموا بحبل اللّه جميعا».

و الأولى حمله على الجميع. و الّذي يؤيّده ما

رواه أبو سعيد الخدري

______________________________

(1) التغابن: 16.

(2) راجع ص: 244. زبدة التفاسير، ج 1، ص: 534

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «أيّها الناس إنّي قد تركت فيكم حبلين إن أخذتم بهما لن تضلّوا بعدي، أحدهما أكبر من الآخر: كتاب اللّه حبل ممدود من السماء إلى الأرض، و عترتي أهل بيتي، ألا و إنّهما لن يفترقا حتى يردا عليّ الحوض».

وَ لا تَفَرَّقُوا و لا

تتفرّقوا عن الحقّ بوقوع الاختلاف بينكم كما اختلف اليهود و النصارى، أو لا تتفرّقوا تفرّقكم في الجاهليّة يحارب بعضكم بعضا، أو لا تذكروا ما يوجب التفرّق و يزيل الألفة، بل اثبتوا عليه، و الزموا الجماعة و الائتلاف على الطاعة.

وَ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ الّتي من جملتها الهداية و التوفيق للإسلام المؤدّي إلى زوال الغلّ بينكم إِذْ كُنْتُمْ أَعْداءً في الجاهليّة متقابلين فَأَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِكُمْ بالإسلام فَأَصْبَحْتُمْ بِنِعْمَتِهِ إِخْواناً متحابّين مجتمعين على الأخوّة في اللّه تعالى.

و قيل: كان الأوس و الخزرج أخوين لأبوين، فوقع بين أولادهما العداوة، و تطاولت الحروب بينهم مائة و عشرين سنة، حتّى أطفأها اللّه تعالى بالإسلام، و ألّف بينهم برسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

وَ كُنْتُمْ عَلى شَفا حُفْرَةٍ مِنَ النَّارِ مشرفين على الوقوع في نار جهنّم لكفركم، إذ لو أدرككم الموت في تلك الحالة لوقعتم في النار فَأَنْقَذَكُمْ مِنْها بالإسلام. و الضمير للحفرة أو للنار أو للشفا. و تأنيثه لتأنيث ما أضيف إليه، أو لأنّه بمعنى الشفة، فإنّ شفا البئر و شفتها طرفها، كالجانب و الجانبة. و أصله شفو، فقلبت الواو ألفا في المذكّر، و حذفت في المؤنّث.

كَذلِكَ مثل ذلك التبيين يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ دلائله لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ إرادة ثباتكم على الهدى و ازديادكم فيه.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 535

[سورة آل عمران (3): الآيات 104 الى 109]

وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (104) وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (105) يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (106) وَ أَمَّا الَّذِينَ

ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (107) تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ (108)

وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (109)

وَ لْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ «من» للتبعيض، لأنّ الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر من فروض الكفاية، و لا يصلح لذلك إلّا من يعلم المعروف معروفا و المنكر منكرا، فإنّ الجاهل ربّما نهى عن معروف أو أمر بمنكر. و لأنّه لا يصلح له كلّ أحد، إذ للمتصدّي له شروط لا يشترك فيها جميع الأمّة، كالعلم بالأحكام و مراتب الاحتساب، و كيفيّة إقامتها، و كالتمكّن من القيام بها. أو للتبيين، بمعنى: و كونوا أمّة تأمرون، كقوله: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ «1». و الدعاء إلى الخير يعمّ الدعاء إلى ما فيه

______________________________

(1) آل عمران: 110.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 536

صلاح دينيّ أو دنيوي. و عطف الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر عليه عطف الخاصّ على العامّ، للإيذان بفضله.

وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ المخصوصون بكمال الفلاح، الأحقّاء به دون غيرهم.

و في هذه الآية دلالة على وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و عظم محلّهما و موقعهما في الدين، لأنّه سبحانه علّق الفلاح بهما.

روي أنّه عليه السّلام سئل: «من خير النّاس؟ فقال: آمرهم بالمعروف، و أنهاهم عن المنكر، و أتقاهم للّه، و أوصلهم للرحم».

و الأمر بالمعروف يكون واجبا و مندوبا على حسب ما يؤمر به. و النهي عن المنكر واجب كلّه، لأنّ جميع ما أنكره الشرع حرام.

و اعلم أنّ العاصي يجب عليه أن ينهى عمّا يرتكبه، لأنّه يجب عليه تركه و إنكاره، فلا

يسقط بترك أحدهما وجوب الآخر.

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من أمر بالمعروف و نهى عن المنكر فهو خليفة اللّه في أرضه، و خليفة رسوله، و خليفة كتابه».

و

عن درّة بنت أبي لهب قالت: «جاء رجل إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو على المنبر فقال: يا رسول اللّه من خير النّاس؟ قال: آمرهم بالمعروف، و أنهاهم عن المنكر، و أتقاهم للّه، و أرضاهم».

وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ تَفَرَّقُوا وَ اخْتَلَفُوا ذكر الاختلاف بعد التفريق للتأكيد و اختلاف اللفظين. و قيل: معناه: كالّذين تفرّقوا بالعداوة، و اختلفوا بالديانة، و هم اليهود و النصارى، اختلفوا في التوحيد و التنزيه و أحوال الآخرة على ما عرفت. مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْبَيِّناتُ الآيات البيّنة، و الحجج المبيّنة للحقّ، الموجبة للاتّفاق و الائتلاف و الاجتماع على كلمة الحقّ. و الأظهر أن

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 537

النهي فيه مخصوص بالتفرّق في الأصول دون الفروع،

لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «اختلاف أمّتي رحمة».

و

لقوله عليه السّلام: «من اجتهد فأصاب فله أجران، و من أخطأ فله أجر واحد».

و قيل: هم مبتدعوا هذه الأمّة، و هم المجبّرة و الحشويّة و سائر المخالفين المعاندين للحقّ.

وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ وعيد للّذين تفرّقوا، و تهديد على التشبّه بهم.

و قوله: يَوْمَ تَبْيَضُّ وُجُوهٌ وَ تَسْوَدُّ وُجُوهٌ منصوب بما في «لهم» من معنى الفعل، أو بإضمار «اذكر». و بياض الوجه و سواده كنايتان عن ظهور بهجة السرور و كآبة الخوف فيه.

و قيل: إنّه يوسم أهل الحقّ ببياض الوجه و الصحيفة، و إشراق البشرة، و سعي النور بين يديه و بيمينه. و أهل الباطل بسواد اللون، و كسف وجهه، و اسوداد صحيفته،

و إحاطة الظلمة به من كلّ جانب. نعوذ باللّه.

و إنّما تبيضّ فيه وجوه المؤمنين ثوابا لهم على الإيمان و الطاعة، و تسودّ وجوه الكافرين عقوبة لهم على الكفر و السيّئات، بدلالة ما بعده، و هو قوله:

فَأَمَّا الَّذِينَ اسْوَدَّتْ وُجُوهُهُمْ أَ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ على إرادة القول، أي: فيقال لهم:

أكفرتم. و الهمزة للتوبيخ و التعجيب من حالهم. و هم أهل الكتاب كفروا برسول اللّه بعد إيمانهم به قبل مبعثه، أو جميع الكفّار كفروا بعد ما أقرّوا به حين أشهدهم على أنفسهم، إذ قيل لهم: أ لست بربّكم؟ قالوا: بلى، أو بعد ما تمكّنوا من الإيمان بالنظر في الدلائل و الآيات. و قيل: هم المرتدّون.

و

عن عليّ عليه السّلام و قتادة: هم أهل البدع و الأهواء و الآراء الباطلة من هذه الأمّة.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 538

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «و الّذي نفسي بيده ليردنّ عليّ الحوض ممّن صحبني أقوام حتى إذا رأيتهم اختلجوا دوني، فلأقولنّ: أصحابي أصحابي، فيقال لي: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك، إنّهم ارتدّوا على أعقابهم القهقرى». ذكره الثعلبي في تفسيره.

و قال أبو أمامة الباهلي: هم الخوارج. و لمّا رآهم على درج دمشق دمعت عيناه ثم قال: كلاب النار هؤلاء شرّ قتلى تحت أديم السماء، و خير قتلى تحت أديم السماء الّذين قتلهم هؤلاء. فقال له أبو غالب: أ شي ء تقوله برأيك أم شي ء سمعته من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟ قال: بل سمعته من رسول اللّه غير مرّة. قال: فما شأنك دمعت عيناك؟ قال: رحمة لهم، كانوا من أهل الإسلام فكفروا. ثم قرأ هذه الآية، ثم أخذ بيده فقال: إن بأرضك منهم

كثيرا، فأعاذك اللّه منهم.

و

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنّهم يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية».

و على كلّ التقادير يقال لهم: أكفرتم بعد إيمانكم فَذُوقُوا الْعَذابَ أمر إهانة بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بسبب كفركم، أو جزاء لكفركم.

وَ أَمَّا الَّذِينَ ابْيَضَّتْ وُجُوهُهُمْ فَفِي رَحْمَتِ اللَّهِ يعني: الجنّة و الثواب المخلّد.

سمّى اللّه سبحانه الثواب رحمة، و هو نعمة يستحقّ بها الشكر، و كلّ نعمة تفضّل، لأنّ سبب الثواب الّذي هو التكليف تفضّل، ليكون الثواب على هذا الوجه تفضّلا.

و كان حقّ الترتيب أن يقدّم ذكر المؤمنين، و لكن قصد أن يكون مطلع الكلام و مقطعه حلية المؤمنين و ثوابهم.

و قوله: هُمْ فِيها خالِدُونَ استئناف للتأكيد، كأنّه قيل: كيف يكونون فيها؟

فقيل: هم فيها خالدون، و لا يظعنون «1» عنها و لا يموتون.

تِلْكَ آياتُ اللَّهِ الواردة في الوعد و الوعيد نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِ ملتبسة

______________________________

(1) أي: لا يرحلون عنها.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 539

بالحقّ و العدل لا شبهة فيها وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعالَمِينَ أي: ما يريد شيئا من الظلم لأحد من خلقه، إذ يستحيل الظلم منه، لأنّ فاعل الظلم إمّا لجهله بقبح الظلم أو لحاجته إليه من دفع ضرر أو جرّ نفع، و هو العالم بالذات بجميع المعلومات، و الغنيّ المطلق، فلا يأخذ أحدا بغير جرم، و لا يزيد في عقاب مجرم، و لا ينقص من ثواب محسن.

ثمّ بيّن وجه استغنائه عن الظلم بقوله: وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ملكا و ملكا و خلقا وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ أي: أمور العباد، فيجازي كلّا بما وعد له و أوعد. و وضع هذا في موضع «ترجعون» ليكون أفحم في الذكر.

[سورة آل عمران (3): آية 110]

كُنْتُمْ خَيْرَ

أُمَّةٍ أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ وَ أَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ (110)

و لمّا تقدّم ذكر الأمر و النهي عقّبه سبحانه بذكر من تصدّى للقيام بذلك، و مدحهم ترغيبا في الاقتداء بهم، فقال: كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ أي: وجدتم خير أمّة، لأن «كان» عبارة عن وجود الشي ء في زمان مّا، و لم يدلّ على طروء انقطاع الخيريّة، كقوله: وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً «1». و قيل: كنتم في علم اللّه أو في اللوح خير أمّة، أو كنتم في الأمم المتقدّمين مذكورين بأنّكم خير أمّة موصوفين به.

أُخْرِجَتْ لِلنَّاسِ أظهرت لهم.

و قوله: تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ أي: بالطاعات وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ أي:

______________________________

(1) النساء: 96.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 540

عن المعاصي. كلام مستأنف بيّن به كونهم خير أمّة، كما يقال: زيد كريم يطعم الناس و يكسوهم و يحسن إليهم.

و قوله: وَ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ يتضمّن الإيمان بكلّ ما يجب أن يؤمن به، لأنّ الإيمان باللّه إنّما يثبت و يعتدّ به إذا حصل الإيمان بكلّ ما أمر أن يؤمن به. و إنّما أخّره و حقّه أن يقدّم لأنّه قصد بذكره الدلالة على أنّهم أمروا بالمعروف و نهوا عن المنكر، إيمانا باللّه و تصديقا به، و إظهارا لدينه.

و استدلّ بهذه الآية على أنّ الإجماع حجّة، لأنّها تقتضي كونهم آمرين بكلّ معروف و ناهين عن كلّ منكر، إذ اللام فيهما للاستغراق، فلو أجمعوا على باطل كان أمرهم على خلاف ذلك. و عندنا أنّ اجماع الأمّة إنّما يكون حجّة لوجود المعصوم فيهم، و في الحقيقة إنّما تكون الحجّة في قوله. و تبيين ذلك مذكور في كتب الأصول.

وَ لَوْ آمَنَ أَهْلُ الْكِتابِ إيمانا كما

ينبغي، و هو الإيمان بالنبيّ و بجميع ما جاء به، كما أنهم يؤمنون باللّه حقّ الإيمان به لَكانَ ذلك الإيمان خَيْراً لَهُمْ في الدنيا و الآخرة ممّا هم عليه من الرئاسة و حظوظ الدنيا، لأنّهم ينجون به في الدنيا من القتل، و في الآخرة من العذاب، و يفوزون بالجنّة.

مِنْهُمُ الْمُؤْمِنُونَ أي: المعترفون بما دلّت عليه كتبهم من صفة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و البشارة به، المقرّون به، كعبد اللّه بن سلام و أصحابه من اليهود، و النجاشي و أصحابه من النصارى وَ أَكْثَرُهُمُ الْفاسِقُونَ أي: الخارجون عن طاعة اللّه و رسوله، المتمرّدون في الكفر. و هذه «1» الجملة و الّتي «2» بعدها واردتان على سبيل الاستطراد.

______________________________

(1) في هامش النسخة الخطّية: «يعني: منهم المؤمنون. منه».

(2) في هامش النسخة الخطّية: «يعني: لن يضرّوكم. منه».

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 541

[سورة آل عمران (3): الآيات 111 الى 112]

لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلاَّ أَذىً وَ إِنْ يُقاتِلُوكُمْ يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (111) ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ أَيْنَ ما ثُقِفُوا إِلاَّ بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَ حَبْلٍ مِنَ النَّاسِ وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ (112)

روي أنّ رؤوس اليهود- مثل كعب و أبي رافع و أبي ياسر و كنانة و ابن صوريا- عمدوا إلى مؤمنيهم- كعبد اللّه بن سلام و أصحابه- فعيّروهم على إسلامهم، فنزلت:

لَنْ يَضُرُّوكُمْ إِلَّا أَذىً ضررا يسيرا مقصورا بقول من طعن في الدين أو الوعيد وَ إِنْ يُقاتِلُوكُمْ و إن يجاوزوا عن الإيذاء باللسان إلى القتال و المحاربة يُوَلُّوكُمُ الْأَدْبارَ ينهزموا، و لا يضرّوكم بقتل و أسر ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ ثم لا يكون أحد

ينصرهم عليكم، أو يدفع بأسكم عنهم. فنفي إضرارهم سوى ما يكون بقول، و قرّر ذلك بأنّهم لو قاموا إلى القتال كانت الدبرة عليهم، ثم أخبر بأنّ عاقبتهم العجز و الخذلان.

و هذه الآية من المغيّبات الّتي وافقها الواقع، إذ كان كذلك حال قريظة و النظير و بني قينقاع و يهود خيبر.

و إنّما لم يجزم قوله: «لا ينصرون» لأنّه عدل به عن حكم الجزاء إلى حكم الإخبار ابتداء، فكأنّه قيل: ثم أخبركم أنّهم لا ينصرون. و هذا تثبيت لمن أسلّم من اليهود، و وعد لهم بأنّهم منصورون، فإنّهم كانوا يؤذونهم بالتوبيخ و التهديد.

ثم أخبر عن ذلّتهم و صغارهم بقوله: ضُرِبَتْ أثبتت عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ هدر النفس و المال و الأهل، أو ذلّ التمسّك بالباطل و الجزية. و جعلت هذه الأمور محيطة بهم، كما يضرب و يجعل البيت و الخيام و القباب على أهله، و تحاط عليهم أَيْنَ ما

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 542

ثُقِفُوا وجدوا إِلَّا بِحَبْلٍ مِنَ اللَّهِ وَ حَبْلٍ مِنَ النَّاسِ في محلّ النصب على الحال بتقدير: إلّا معتصمين أو متمسّكين أو ملتبسين بحبل من اللّه و هو استثناء من أعمّ الأحوال، أي: ضربت عليهم الذلّة في عامّة الأحوال، إلّا في حال اعتصامهم بعهد من اللّه، و عهد من المسلمين على وجه الذمّة، و هي قبول الجزية، أو بدين الإسلام، و اتّباع سبيل المؤمنين.

وَ باؤُ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ رجعوا به مستوجبين له وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الْمَسْكَنَةُ فهي محيطة بهم إحاطة البيت المضروب على أهله. و اليهود في غالب الأمر فقراء و مساكين.

ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من ضرب الذلّة و المسكنة و البوء بغضب اللّه بِأَنَّهُمْ كانُوا يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ بسبب كفرهم بالآيات

و قتلهم الأنبياء.

ذلِكَ أي: الكفر و القتل بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ بسبب عصيانهم و اعتدائهم حدود اللّه تعالى، فإنّ الإصرار على الصغائر يفضي إلى الكبائر، و الاستمرار عليها يؤدّي إلى الكفر. و التقييد بغير حقّ، مع أنّه كذلك في نفس الأمر، للدلالة على أنّه لم يكن حقّا بحسب اعتقادهم أيضا.

[سورة آل عمران (3): الآيات 113 الى 115]

لَيْسُوا سَواءً مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ آناءَ اللَّيْلِ وَ هُمْ يَسْجُدُونَ (113) يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَ أُولئِكَ مِنَ الصَّالِحِينَ (114) وَ ما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (115)

روي أنّه لمّا أسلّم عبد اللّه بن سلام و جماعة قالت أحبار اليهود: ما آمن

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 543

بمحمد إلّا شرارنا، فنزلت ردّا عليهم: لَيْسُوا سَواءً أي: مستوين. و الضمير لمسلمي اليهود و الأحبار. و قيل: إنّها نزلت في أربعين من أهل نجران، و اثنين و ثلاثين من الحبشة، و ثمانية من الروم، كانوا على عهد عيسى، و صدّقوا محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و المعنى: ليس الّذين آمنوا من أهل الكتاب كعبد اللّه بن سلام و النجاشي و أصحابهما، و الّذين لم يؤمنوا، سواء في الدرجة و المنزلة.

و قوله: مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ أُمَّةٌ قائِمَةٌ كلام مستأنف لبيان قوله: لَيْسُوا سَواءً، كما أنّ قوله «1»: «تَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ تَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ» بيان لقوله: «كُنْتُمْ خَيْرَ أُمَّةٍ». و القائمة: المستقيمة العادلة، من: أقمت العود فقام. و هم الّذين أسلموا من أهل الكتاب.

يَتْلُونَ آياتِ اللَّهِ أي: القرآن آناءَ اللَّيْلِ أي: في تهجّدهم وَ هُمْ يَسْجُدُونَ عبّر عن التهجّد و صلاتهم باللّيل بتلاوة آيات اللّه

في ساعات الليل مع السجود ليكون أبين و أبلغ في المدح. و هذا يدلّ على عظم موقع صلاة الليل من اللّه سبحانه، و

قد صحّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «ركعتان يركعهما العبد في جوف الليل الأخير خير له من الدنيا و ما فيها، و لولا أن أشقّ على أمّتي لفرضتهما عليهم».

و

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «إنّ البيوت الّتي يصلّى فيها بالليل بتلاوة القرآن تضي ء لأهل السماء كما تضي ء نجوم السماء لأهل الأرض. و قال: عليكم بصلاة الليل، فإنّها سنّة نبيّكم، و دأب الصالحين قبلكم، و مطردة الداء عن أجسادكم».

و قيل: المراد صلاة العشاء، لأنّ أهل الكتاب لا يصلّونها، لما

روي أنّه عليه السّلام أخّرها ثم خرج فإذا الناس ينتظرون الصلاة فقال: «أما إنّه ليس من أهل الأديان أحد يذكر اللّه هذه الساعة غيركم».

______________________________

(1) راجع ص: 539.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 544

يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ بتوحيده و صفاته اللائقة به وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ المتأخّر عن الدنيا، يعني: البعث ليوم القيامة وَ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ بالإقرار بنبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و بجميع ما جاء به من المأمورات وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ عن إنكار نبوّته و بما جاء به من المنهيّات وَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ يبادرون إلى فعل الطاعات خوف الفوات بالموت.

و هذه صفات أخر ل «أمّة»، وصفهم بخصائص ما كانت في اليهود، فإنّهم منحرفون عن الحقّ، غير متعبّدين في الليل، مشركون باللّه، ملحدون في صفاته، واصفون اليوم الآخر بخلاف صفته، مداهنون في الاحتساب، متباطئون في الخيرات.

وَ أُولئِكَ أي: الموصوفون بتلك الصفات مِنَ الصَّالِحِينَ ممّن صلحت أحوالهم عند اللّه تعالى، و استحقّوا رضاه و ثناءه. و لا يحتاج إلى ذكر مقابليهم

من أمّة غير قائمة، لأنّه قد تقدّم «1» صفتهم في قوله: يَكْفُرُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ يَقْتُلُونَ الْأَنْبِياءَ ... إلخ».

وَ ما يَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَلَنْ يُكْفَرُوهُ فلن يضيع و لا ينقص ثوابه البتّة.

سمّى ذلك كفرانا كما سمّى توفية الثواب شكرا، و عدّاه إلى مفعولين، لتضمّنه معنى الحرمان، كأنّه قال: فلن تحرموه، أي: لن تحرموا جزاءه. و قرأ أهل الكوفة إلّا أبا بكر بالياء فيهما، و الباقون بالتاء، إلّا أبا عمرو، فإنّه كان يخيّر.

وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ بشارة لهم، و إشعار بأنّ التقوى مبدأ الخير و حسن العمل، و أنّ الفائز عند اللّه هو أهل التقوى. و الآية تدلّ على أنّ شيئا من أعمال الخير و الطاعة لا تبطل البتّة، خلافا لقول من قال بالإحباط.

______________________________

(1) في ص: 542.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 545

[سورة آل عمران (3): الآيات 116 الى 117]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (116) مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَأَهْلَكَتْهُ وَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَ لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (117)

و لمّا تقدّم وصف المؤمنين عقّبه سبحانه ببيان حال الكافرين، فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا باللّه و رسوله لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ لن تدفع عنهم أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً من العذاب أو من الفناء، فيكون مصدرا. و إنّما خصّ الأموال و الأولاد بالذكر لأنّ هذين معتمد الخلق و أعزّ الأشياء عليهم، فإذا لم يغنيا عن الإنسان شيئا فغيرهما غناؤه أبعد. وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ ملازموها هُمْ فِيها خالِدُونَ أي:

دائمون.

ثم ضرب لهم مثلا لإنفاقهم فقال: مَثَلُ ما يُنْفِقُونَ شبّه ما يخرجون من أموالهم لا يبتغون بها وجه اللّه، بل

مفاخرة و سمعة. و قيل: ما ينفقون على الكفّار في عداوة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، كما أنفقه أبو سفيان و أصحابه ببدر و أحد لمّا تظاهروا على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أو ما أنفق سفلة اليهود على علمائهم، أي: ما أنفقوا جميع صدقاتهم و نفقاتهم، أو ما ينفق المنافقون رياء و خوفا.

فِي هذِهِ الْحَياةِ الدُّنْيا كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ برد شديد. و الشائع إطلاقه للريح الباردة كالصرصر. و هو في الأصل مصدر نعت به، أو نعت وصف به للمبالغة، كقولك: برد بارد. أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر و المعاصي فَأَهْلَكَتْهُ عقوبة لهم، لأنّ الإهلاك عن سخط أشدّ و أبلغ.

و المراد تشبيه ما أنفقوا في ضياعه بحرث كفّار ضربته صرّ فاستأصلته، و لم

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 546

يبق لهم فيه منفعة مّا في الدنيا و الآخرة، بخلاف حرث المسلم المؤمن، فلا يذهب على الكلّية، لأنّه و إن كان يذهب صورة إلّا أنّه لا يذهب معنى، لما فيه من حصول الأعواض لهم في الآخرة، و الثواب بالصبر على الذهاب.

و هذا من التشبيه المركّب، أعني: تشبيه كفرهم يبطل ثواب نفقتهم بالريح الباردة تهلك الحرث، و لذلك لم يبال بإيلاء كلمة التشبيه الريح دون الحرث. فلا يقال: الكلام غير مطابق للغرض حيث جعل «ما ينفقون» ممثّلا بالريح. و يجوز أن يقدّر: كمثل مهلك ريح، و هو الحرث، فهو من تشبيه المفرد.

وَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ في إهلاك زرعهم وَ لكِنْ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ أي: ما ظلم المنفقين بضياع نفقاتهم، و لكن ظلموا أنفسهم حيث لم يأتوا بها على الوجه الّذي يستحقّ به الثواب.

[سورة آل عمران (3): الآيات 118 الى 120]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً مِنْ دُونِكُمْ

لا يَأْلُونَكُمْ خَبالاً وَدُّوا ما عَنِتُّمْ قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ وَ ما تُخْفِي صُدُورُهُمْ أَكْبَرُ قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (118) ها أَنْتُمْ أُولاءِ تُحِبُّونَهُمْ وَ لا يُحِبُّونَكُمْ وَ تُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ وَ إِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (119) إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ يَفْرَحُوا بِها وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (120)

و لمّا بيّن اللّه أن مآل شأن الكفّار خسارة الدارين نهى المؤمنين عن موالاتهم

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 547

و مخالطتهم، خوف الفتنة منهم عليهم، فيصيبهم ما أصابهم، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا بِطانَةً أي: لا تتّخذوا الكافرين خواصّ أوليائكم و خلّصكم، فإنّ بطانة الرجل وليجته و خاصّته و صفيّه الّذي يعرفه الرجل و يفشي إليه أسراره ثقة به.

شبّه ببطانة الثوب، كما شبّه بالشعار. و

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الأنصار شعار، و الناس دثار».

مِنْ دُونِكُمْ من غير أبناء جنسكم، و هم المسلمون. و هو متعلّق ب «لا تتّخذوا»، أو بمحذوف هو صفة بطانة، أي: بطانة كائنة من دونكم.

ثمّ بيّن العلّة في المنع من مواصلتهم فقال: لا يَأْلُونَكُمْ خَبالًا لا يقصّرون لكم في ما يؤدّي إلى فساد أمركم، و لا يتركون جهدهم و طاقتهم فيما يورثكم الشرّ، و الألو: التقصير. و أصله أن يعدّى بالحرف، ثمّ عدّي إلى المفعولين، كقولهم: لا آلوك نصحا و لا آلوك جهدا، على تضمين معنى المنع أو النقص. و المعنى: لا أمنعك نصحا و لا أنقصك. و الخبال: الفساد.

وَدُّوا ما عَنِتُّمْ تمنّوا عنتكم، و هو

شدّة الضرر و المشقّة. و أصله: إنهاض العظم بعد جبره. و «ما» مصدريّة. قَدْ بَدَتِ الْبَغْضاءُ مِنْ أَفْواهِهِمْ أي: ظهرت على ألسنتهم و في فلتات كلامهم أمارات العداوة لكم، لأنهم لا يتمالكون أنفسهم لفرط بغضهم وَ ما تُخْفِي صُدُورُهُمْ من البغضاء أَكْبَرُ ممّا بدا، لأنّ بدوّه ليس عن فكرة و اختيار قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ قد أظهرنا لكم الدلالات الواضحات الدالّة على وجوب الإخلاص، و موالاة المؤمنين، و معاداة الكافرين إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ ما يبيّن لكم.

و الجمل الأربع جاءت مستأنفات على التعليل للنهي عن اتّخاذهم بطانة.

و يجوز أن تكون الثلاث الأول صفات ل «بطانة». و أما «قد بيّنّا» فكلام مبتدأ.

عن ابن عبّاس: أنّ نزول هذه الآية في شأن رجال من المسلمين كانوا يواصلون رجالا من اليهود، لما كان بينهم من الصداقة و القرابة و الجوار و الحلف و الرضاع.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 548

ثم بيّن سبحانه ما هم عليه من عداوة المؤمنين، تأكيدا للنهي عن مصافاتهم، فقال: ها للتنبيه أَنْتُمْ مبتدأ أُولاءِ خبره، أي: أنتم أولاء الخاطئون في موالاة الكفّار. و قوله تُحِبُّونَهُمْ وَ لا يُحِبُّونَكُمْ بيان لخطئهم في موالاتهم. و هو خبر ثان، أو خبر ل «أولاء»، و الجملة خبر «أنتم» كقولك: أنت زيد تحبّه، أو صلته، أو حال و العامل فيها معنى الاشارة. و يجوز أن ينتصب «أولاء» بفعل يفسّره ما بعده، أي: أنتم تحبّون هؤلاء، و تكون الجملة خبرا.

وَ تُؤْمِنُونَ بِالْكِتابِ كُلِّهِ أي: و أنتم تؤمنون، لتكون الجملة اسميّة، فيجوز دخول واو الحال عليها. و المراد بالكتاب جنس الكتاب كلّه. و ذو الحال هو ضمير مفعول «يحبّونكم». و المعنى: أنّهم لا يحبّونكم و الحال أنّكم تؤمنون بكتابهم أيضا، فما بالكم تحبّونهم و هم

لا يؤمنون بكتابكم؟! و فيه توبيخ بأنّهم في باطلهم أصلب منكم في حقّكم.

وَ إِذا لَقُوكُمْ قالُوا آمَنَّا نفاقا و تغريرا وَ إِذا خَلَوْا عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ أطراف الأصابع مِنَ الْغَيْظِ من أجل الغيظ و الغضب، لما يرون من ائتلاف المؤمنين و اجتماع كلمتهم، و نصرة اللّه إيّاهم، تأسّفا و تحسّرا حيث لم يجدوا إلى التشفّي سبيلا. و عضّ الأنامل و البنان من صفة المغتاظ و النادم.

قُلْ مُوتُوا بِغَيْظِكُمْ دعاء عليهم بدوام غيظهم و زيادة ما يغيظهم بتضاعف قوّة الإسلام و عزّ أهله، و ما لهم في ذلك من الذلّ و الخزي حتى يهلكوا به و يصلوا إلى النار. فكأنّه قال: أماتكم اللّه بغيظكم. و يجوز أن يكون هذا أمرا للرسول بطيب النفس و قوّة الرجال، و الاستبشار بوعد اللّه أن يهلكوا غيظا، بإعزاز الإسلام و إذلالهم به، و لا يكون هناك قول، كأنّه قيل: حدّث نفسك بذلك.

إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فيعلم ما في صدورهم من الغيظ و النفاق. و هذا يحتمل أن يكون من المقول، أي: و قل لهم إنّ اللّه عليم بما هو أخفى ما تخفونه من عضّ الأنامل غيظا، و أن يكون خارجا عن القول، يعني: قل لهم ذلك، و لا تتعجّب

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 549

من اطّلاعي إيّاك على أسرارهم، فإنّي عليم بالأخفى من ضمائرهم.

ثمّ بيّن اللّه تناهي عداوتهم بقوله: إِنْ تَمْسَسْكُمْ حَسَنَةٌ من نصرة و غنيمة و نعمة من اللّه تَسُؤْهُمْ تحزنهم وَ إِنْ تُصِبْكُمْ سَيِّئَةٌ محنة بإصابة العدوّ منكم و نحوها يَفْرَحُوا بِها أي: حسدوا ما أنالكم من خير و منفعة، و شمتوا بما أصابكم من ضرّ و شدّة. و المسّ مستعار للإصابة، فكان المعنى واحدا، ألا ترى إلى

قوله:

إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ «1». و قوله: ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ «2». و قوله: إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً وَ إِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً «3».

وَ إِنْ تَصْبِرُوا على عداوتهم و أذاهم أو على مشاقّ التكاليف الشرعيّة وَ تَتَّقُوا عن موالاتهم، أو عمّا حرّم اللّه عليكم لا يَضُرُّكُمْ كَيْدُهُمْ مكر المنافقين و سائر المشركين شَيْئاً بفضل اللّه و حفظه الموعود للصابرين و المتّقين، فكنتم في كنف اللّه و حفظه. و أيضا المجدّ في الأمر المعتاد بالاتّقاء و الصبر يكون قليل الانفعال عن المصيبة، جريئا على الخصم. و ضمّ الراء لاتباع العين، كضمّ مدّ. و قرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو و يعقوب: لا يضركم، من: ضاره يضره.

إِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ من الصبر و التقوى و غيرهما مُحِيطٌ محيط علمه، أي: عالم بذلك من جميع جهاته، فيجازيكم بما أنتم أهله.

[سورة آل عمران (3): آية 121]

وَ إِذْ غَدَوْتَ مِنْ أَهْلِكَ تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ مَقاعِدَ لِلْقِتالِ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (121)

و لمّا أمر اللّه سبحانه بالصبر في قوله: «وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا» عقّبه بنصرة

______________________________

(1) التوبة: 50.

(2) النساء: 79.

(3) المعارج: 20- 21.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 550

زبدة التفاسير ج 1 599

المسلمين يوم بدر و صبرهم على القتال، ثم ذكر امتحانهم يوم أحد لمّا تركوا الصبر، فقال: وَ إِذْ غَدَوْتَ أي: و اذكر إذ خرجت غدوة مِنْ أَهْلِكَ من حجرة عائشة إلى احد تُبَوِّئُ الْمُؤْمِنِينَ تنزلهم، أو تسوّي و تهيّ ء لهم. و يؤيّده القراءة باللام مَقاعِدَ لِلْقِتالِ مواقف و أماكن له. و قد يستعمل المقعد و المقام بمعنى المكان على الاتّساع، كقوله: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ «1»، و قوله: قَبْلَ أَنْ تَقُومَ

مِنْ مَقامِكَ «2».

وَ اللَّهُ سَمِيعٌ لأقوالكم عَلِيمٌ بنيّاتكم.

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «كان سبب غزاة أحد أنّ قريشا لمّا رجعت من بدر إلى مكّة و قد أصابهم ما أصابهم من القتل و الأسر، لأنّه قتل منهم سبعون و أسر سبعون، قال أبو سفيان: يا معشر قريش لا تدعوا نساءكم يبكين على قتلاكم، فإنّ الدمعة إذا خرجت أذهبت الحزن و العداوة لمحمّد. فلمّا غزوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم أحد أذنوا لنسائهم في البكاء و النوح، و خرجوا من مكّة في ثلاثة آلاف فارس و ألفي راجل، و أخرجوا معهم النساء. فلمّا بلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذلك جمع أصحابه و حثّهم على الجهاد.

فقال عبد اللّه بن أبي سلول: يا رسول اللّه لا نخرج من المدينة حتى نقاتل في أزقّتها، فيقاتل الرجل الضعيف و المرأة و العبد و الأمة على أفواه السكك و على السطوح، و نحن على حصوننا و دروبنا نرميهم السهام و الأحجار، فيكون الظفر لنا، و ما خرجنا إلى عدوّ لنا قطّ إلّا كان له الظفر علينا.

فقام سعد بن معاذ و غيره من الأوس فقالوا: يا رسول اللّه ما طمع فينا أحد من العرب و نحن مشركون نعبد الأصنام، فكيف يطمعون بنا و أنت فينا؟! فنخرج إليهم نقاتلهم، فمن قتل منّا كان شهيدا، و من نجا منّا كان مجاهدا في سبيل اللّه.

______________________________

(1) القمر: 55.

(2) النمل: 39. زبدة التفاسير، ج 1، ص: 551

فقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رأيه. فقال عليه السّلام: رأيت في منامي بقرا مذبوحا حولي، فأوّلتها خيرا. و رأيت في ذباب «1» سيفي ثلما، فأوّلته هزيمة.

و رأيت كأنّي أدخلت يدي في درع حصينة، فأوّلتها المدينة.

فخرج مع نفر من أصحابه يتبوّءون موضع القتال. و قعد عنه عبد اللّه بن أبي سلول، و تبع رأيه جماعة من الخزرج. و وافت قريش إلى أحد. و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عبّأ أصحابه، و كانوا سبعمائة رجل، و وضع عبد اللّه بن جبير في خمسين من الرماة على باب الشعب كمينا، فقال لهم: إن رأيتمونا قد هزمناهم حتى أدخلناهم مكّة فلا تبرحوا من هذا المكان، و إن رأيتموهم قد هزمونا حتى أدخلونا المدينة فلا تبرحوا و الزموا مراكزكم.

و وضع أبو سفيان خالد بن الوليد في مائتي فارس كمينا، و قال: إذا رأيتمونا قد اختلطنا فاخرجوا عليهم من هذا الشعب حتى تكونوا وراءهم.

و عبّأ رسول اللّه أصحابه، و دفع الراية إلى أمير المؤمنين عليه السّلام. فحمل الأنصار على مشركي قريش فانهزموا هزيمة قبيحة، و أصحاب رسول اللّه وقعوا في سوادهم حتى ظهروا عليهم. و نظر أصحاب عبد اللّه بن جبير إلى أصحاب رسول اللّه ينتهبون سواد القوم فقالوا لعبد اللّه بن جبير: قد غنم أصحابنا و نبقى نحن بلا غنيمة. فقال لهم عبد اللّه: اتّقوا اللّه، فإنّ رسول اللّه قد أمرنا أن لا نبرح من هاهنا، فلم يقبلوا منه، فانسلّ رجل فرجل حتى أخلوا مراكزهم، و بقي عبد اللّه بن جبير في اثني عشر رجلا.

و كانت راية قريش مع طلحة بن أبي طلحة العبدي من بني عبد الدار، فقتله عليّ عليه السّلام. فأخذ الراية أبو سعيد بن أبي طلحة، فقتله عليّ عليه السّلام. و سقطت الراية فأخذه مسافع بن أبي طلحة فقتله عليّ عليه السّلام، حتى قتل تسعة من بني

عبد الدار، حتى

______________________________

(1) ذباب السّيف: طرفه الذي يضرب به. زبدة التفاسير، ج 1، ص: 552

صار لواؤهم إلى عبد لهم أسود يقال له: ثواب، فانتهى إليه عليّ عليه السّلام فقطع يده اليمنى، فأخذ اللواء باليسرى فضرب يسراه فقطعها، فاعتنقها بالجذماوين «1» إلى صدره، ثم التفت إلى أبي سفيان فقال: هل أعذرت في بني عبد الدار، فضربه عليّ عليه السّلام على رأسه فقتله. فسقط اللواء، فأخذتها عمرة بنت علقمة الكنانيّة فرفعتها.

و انحطّ خالد بن الوليد على عبد اللّه بن جبير و قد فرّ أصحابه و بقي في نفر قليل، فقتلهم على باب الشعب، ثم أتى المسلمين من أدبارهم. و نظرت قريش في هزيمتها إلى الراية قد رفعت فلاذوا بها. و انهزم أصحاب رسول اللّه هزيمة عظيمة، و أقبلوا يصعدون في الجبال و في كلّ وجه. فلمّا رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الهزيمة كشف البيضة عن رأسه و قال: إليّ أنا رسول اللّه، إلى أين تفرّون؟ عن اللّه و عن رسوله! و كانت هند بنت عتبة في وسط العسكر، فكلّما انهزم رجل من قريش دفعت إليه ميلا و مكحلة و قالت: إنّما أنت امرأة فاكتحل بهذا.

و كان حمزة بن عبد المطّلب يحمل على القوم، فإذا رأوه انهزموا و لم يثبت له أحد. و كانت هند قد أعطت وحشيّا عهدا لئن قتلت محمّدا أو عليّا أو حمزة لأعطينّك كذا و كذا. و كان وحشي عبدا لجبير بن مطعم حبشيّا. فقال وحشي: أمّا محمّد فلا أقدر عليه، و أمّا عليّ فرأيته حذرا كثير الالتفات فلا مطمح فيه، فكمنت لحمزة. قال: فرأيته يهدّ «2» الناس هدّا، فمرّ بي فوطئ على جرف نهر فسقط، فأخذت حربتي فهززتها

و رميته بها فوقعت في خاصرته و خرجت من ثنّته «3»،

______________________________

(1) تثنية الجذماء، أي: اليدين المقطوعتين.

(2) أي: يكسرهم و يوهي جمعهم، من: هدّ البناء، أي: كسره و ضعضعه.

(3) الثّنّة: ما دون السرّة فوق العانة أسفل البطن. زبدة التفاسير، ج 1، ص: 553

فشققت بطنه فأخذت كبده و جئت به إلى هند فقلت: هذه كبد حمزة، فأخذتها في فمها فلاكتها، فجعله اللّه في فمها مثل الداعضة، و هي عظم رأس الركبة، فلفظتها و رمتها. قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: فبعث اللّه ملكا فحمله و ردّه إلى موضعه. قال: فجاءت إليه فقطعت مذاكيره، و قطعت أذنيه، و قطعت يده و رجله.

و لم يبق مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلّا أبو دجانة سماك بن خرشة و عليّ عليه السّلام.

فكلّما حملت طائفة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم استقبلهم عليّ عليه السّلام فدفعهم عنه، حتى تقطّع سيفه، فدفع إليه رسول اللّه سيفه ذا الفقار. و انحاز رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى ناحية أحد فوقف. و كان القتال من وجه واحد، فلم يزل عليّ عليه السّلام يقاتلهم حتى أصابه في وجهه و رأسه و يديه و بطنه و رجليه سبعون جراحة. فقال جبرائيل عليه السّلام: إنّ هذه لهي المواساة يا محمّد. فقال: إنّه منّي، و أنا منه. فقال جبرائيل: و أنا منكما.

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «نظر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى جبرائيل عليه السّلام بين السماء و الأرض على كرسيّ من ذهب و هو يقول: لا سيف إلّا ذو الفقار، و لا فتى إلّا علي».

كذا أورده

عليّ بن إبراهيم في تفسيره «1».

و

روي ابن أبي إسحاق و السدّي و الواقدي و ابن جرير و غيرهم قالوا: كان المشركون نزلوا بأحد يوم الأربعاء اثني عشر شوّال سنة ثلاث من الهجرة، و خرج رسول اللّه إليهم يوم الجمعة، و كان القتال يوم السبت للنصف من الشهر. و كسرت رباعية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و شجّ في وجهه. ثم رجع المهاجرون و الأنصار بعد الهزيمة، و قد قتل من المسلمين سبعون. و شدّ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الأمر، فوقى اللّه المسلمين و نصرهم، فانهزم الكفّار، و غلب المسلمون عليهم.

______________________________

(1) راجع تفسير عليّ بن إبراهيم القمّي 1: 110- 116.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 554

[سورة آل عمران (3): الآيات 122 الى 129]

إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ أَنْ تَفْشَلا وَ اللَّهُ وَلِيُّهُما وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (122) وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (123) إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ (124) بَلى إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ (125) وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى لَكُمْ وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ وَ مَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (126)

لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَوْ يَكْبِتَهُمْ فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ (127) لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ (128) وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (129)

و روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم متى كان يخرج من المدينة مع أصحابه وعد

لهم النصر إن صبروا، فلمّا بلغوا طرف الوادي انخزل عبد اللّه بن أبيّ في ثلاثمائة رجل و قال:

علام نقتل أنفسنا و أولادنا؟ فتبعهم عمرو بن حزم الأنصاري و قال: أنشدكم اللّه في نبيّكم و أنفسكم. فقال ابن أبيّ: لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ «1». فهمّ بنو سلمة من

______________________________

(1) آل عمران: 167.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 555

الخزرج و بنو الحارثة من الأوس- و كانا جناحي العسكر- أن يتبعا ابن أبيّ فعصمهم اللّه، فمضوا مع رسول اللّه، فقال تعالى في حقّهما: إِذْ هَمَّتْ طائِفَتانِ مِنْكُمْ حيّان منكم: بنو سلمة و بنو حارثة. و هذه الشرطيّة متعلّقة بقوله: «سميع عليم»، أو بدل من «إذ غدوت» أَنْ تَفْشَلا أن تجبنا و تضعفا وَ اللَّهُ وَلِيُّهُما أي:

متولّي أمرهما و عاصمهما من اتّباع ابن أبيّ المنافق، أو ناصرهما وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فليتوكّلوا عليه و لا يتوكّلوا على غيره، لينصركم اللّه كما نصركم ببدر.

ثمّ بيّن سبحانه ما فعله بهم من النصر يوم بدر، فقال: وَ لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ بِبَدْرٍ بتقوية قلوبكم، و بما أمدّكم من الملائكة، و بإلقاء الرعب في قلوب أعدائكم. و بدر ماء بين مكّة و المدينة، كان لرجل يسمّى بدرا فسمّي به وَ أَنْتُمْ أَذِلَّةٌ حال من الضمير. و إنّما قال: أذلّة، و لم يقل: ذلائل، ليدلّ على قلّتهم مع ذلّتهم، لضعف الحال، و قلّة المراكب و السلاح. و ذلك لأنّهم كانوا ثلاثمائة و بضعة عشر رجلا، سبعة و سبعين من المهاجرين، و مائتان و ستّة و ثلاثين من الأنصار.

و خرجوا على النواضح يعتقب النفر منهم على البعير الواحد، و ما كان معهم إلّا فرسان، فرس لمقداد بن عمرو، و فرس لمرثد بن أبي مرثد. و كان معهم

من السلاح ستّة أدرع و ثمانية أسياف، و من الإبل سبعون بعيرا. و كان عدد المشركين نحو ألف مقاتل، و معهم مائة فرس.

فَاتَّقُوا اللَّهَ في الثبات لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لتقوموا بشكر ما أنعم به عليكم- بتقواكم- من نصره، أو لعلّكم ينعم اللّه عليكم فتشكرون، فوضع الشكر موضع الإنعام، لأنّه سببه. و

قد روي عن الموافقين و المخالفين أنّ صاحب راية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم بدر أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.

و قوله: إِذْ تَقُولُ لِلْمُؤْمِنِينَ ظرف ل «نصركم» على أن يكون قال لهم ذلك يوم بدر، و الخطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قيل: بدل ثان من «إذ غدوت» على أن قوله ذلك

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 556

لهم يوم أحد مع اشتراط الصبر و التقوى عن المخالفة، فلمّا لم يصبروا عن الغنائم و لم يتّقوا حيث خالفوا أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. لم تنزل الملائكة.

و قوله: أَ لَنْ يَكْفِيَكُمْ أَنْ يُمِدَّكُمْ رَبُّكُمْ بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ إنكار أن لا يكفيهم ذلك. و إنّما جي ء ب «لن» إشعارا بأنّهم كانوا كالآيسين من النصر، لضعفهم و قلّتهم، و قوّة العدوّ و كثرتهم. و قيل: أمدّهم اللّه تعالى يوم بدر أوّلا بنزول ألف من الملائكة، ثم صاروا ثلاثة آلاف، ثم صاروا خمسة آلاف. و قرأ ابن عامر:

منزّلين بالتشديد، للتكثير أو للتدريج. و عن ابن عبّاس: أنّ الملائكة لم يقاتلوا إلّا يوم بدر، و كانوا في غيره من الأيّام عدّة و مددا.

بَلى إيجاب لما بعد «لن» أي: بلى يكفيكم الإمداد.

ثم وعد لهم الزيادة على الصبر و التقوى، حثّا عليهما و تقوية لقلوبهم، فقال:

إِنْ تَصْبِرُوا

وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ أي: المشركون مِنْ فَوْرِهِمْ هذا من ساعتهم هذه.

و هو في الأصل مصدر: فارت القدر إذا غلت، فاستعير للسرعة، ثم للحال الّتي لا مكث فيها و لا تراخي. و المعنى: إن يأتوكم في الحال يُمْدِدْكُمْ رَبُّكُمْ بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ في حال إتيان الكفّار بلا تراخ و تأخير مُسَوِّمِينَ معلمين، من التسويم الّذي هو إظهار سيما الشي ء،

لقوله عليه السّلام: «تسوّموا، فإنّ الملائكة قد تسوّمت».

عن ابن عبّاس و الحسن و قتادة: أنّ الملائكة أعلموا بالصوف في نواصي الخيل و أذنابها. و قال عروة: نزلت الملائكة يوم بدر على خيل بلق «1»، و عليهم عمائم صفر. و

قال عليّ عليه السّلام: «كانت عليهم عمائم بيض أرسلوها بين أكتافهم».

و قال السدّي: معنى مسوّمين- بالفتح-: مرسلين، من الناقة السائمة، أي:

المرسلة في المرعى.

______________________________

(1) بلق و أبلق بلقا: كان في لونه سواد و بياض، فهو أبلق، و جمعه بلق.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 557

و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و عاصم و يعقوب بكسر الواو، بمعنى: المعلمين أنفسهم أو خيلهم.

وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ و ما جعل إمدادكم بالملائكة إِلَّا بُشْرى لَكُمْ إلّا بشارة لكم بالنصر وَ لِتَطْمَئِنَّ قُلُوبُكُمْ بِهِ و لتسكن إليه قلوبكم من الخوف وَ مَا النَّصْرُ بإمداد الملائكة إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ لا من العدّة و العدد. و هو تنبيه على أنّه لا حاجة في نصرهم إلى مدد، و إنّما أمدّهم و وعد لهم بالمدد بشارة لهم، و ربطا على قلوبهم، من حيث إنّ نظر العامّة إلى الأسباب أكثر، و حثّا على أن لا يبالوا بمن تأخّر عنهم الْعَزِيزِ الّذي لا يغالب في حكمه الْحَكِيمِ الّذي يعطي النصر و يمنعه بحسب ما يراه من المصلحة و الحكمة.

و

قوله: لِيَقْطَعَ طَرَفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا متعلّق ب «نصركم»، أو «و ما النصر» إن كان اللام فيه للعهد. و المعنى: لينقص الكفرة بقتل بعض و أسر آخرين، و هو ما كان يوم بدر من قتل سبعين و أسر سبعين من صناديدهم. و إنّما لم يقل: ليقطع وسطا منهم، لأنّه لا يوصل إلى الوسط منهم إلّا بقطع الطرف، و لأنّ الطرف أقرب إلى المؤمنين، فهو كما قال: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ «1».

أَوْ يَكْبِتَهُمْ أو يخزيهم بالخيبة ممّا أملوا من الظفر بكم و يغيظهم بالهزيمة.

و الكبت: شدّة الغيظ، أو وهن يقع في القلب. و «أو» للتنويع دون الترديد.

فَيَنْقَلِبُوا خائِبِينَ فينهزموا منقطعي الآمال غير ظافرين.

لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ جملة معترضة أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أَوْ يُعَذِّبَهُمْ عطف على قوله: «أو يكبتهم». و المعنى: أنّ اللّه تعالى مالك أمرهم، فإمّا أن يهلكهم، أو يكبتهم، أو يتوب عليهم إن أسلموا، أو يعذّبهم إن أصرّوا، فليس لك من أمرهم شي ء، و إنّما أنت نبيّ مبعوث مأمور لإنذارهم و جهادهم. و يحتمل أن يكون

______________________________

(1) التوبة: 123.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 558

معطوفا على «الأمر» أو «شي ء» بإضمار «أن»، أي: ليس لك من أمرهم أو من التوبة عليهم أو من تعذيبهم شي ء، أو ليس لك من أمرهم شي ء أو التوبة عليهم أو تعذيبهم. و أن تكون «أو» بمعنى «إلّا أن» أي: ليس لك من أمرهم شي ء إلّا أن يتوب اللّه عليهم فتسرّ به، أو يعذّبهم فتشفّى منهم.

روي: أنّ عتبة بن أبي وقّاص شجّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم أحد و كسر رباعيته، فجعل يمسح الدم عن وجهه و يقول: كيف يفلح قوم خضبوا وجه نبيّهم بالدم؟ فنزلت. و قيل:

همّ أن يدعو عليهم فنهاه اللّه تعالى، لعلمه بأنّ فيهم من يؤمن.

فَإِنَّهُمْ ظالِمُونَ قد استحقّوا التعذيب بظلمهم.

لمّا قال: «لَيْسَ لَكَ مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ» عقّب ذلك بأنّ الأمر كلّه له، فقال: وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ خلقا و ملكا و ملكا، فله الأمر كلّه يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ و إنّما أبهم الأمر في التعذيب و المغفرة ليقف المكلّف بين الخوف و الرجاء، فلا يأمن من عذاب اللّه، و لا ييأس من روح اللّه و رحمته وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ بعباده، فلا تبادر إلى الدعاء عليهم.

[سورة آل عمران (3): الآيات 130 الى 136]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (130) وَ اتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ لِلْكافِرِينَ (131) وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (132) وَ سارِعُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ (133) الَّذِينَ يُنْفِقُونَ فِي السَّرَّاءِ وَ الضَّرَّاءِ وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ وَ الْعافِينَ عَنِ النَّاسِ وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (134)

وَ الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ ذَكَرُوا اللَّهَ فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلاَّ اللَّهُ وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (135) أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (136)

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 559

و لمّا ذكر سبحانه أنّ له التعذيب لمن يشاء و يغفر لمن يشاء، وصل ذلك بالنهي عمّا لو فعلوه لاستحقّوا عليه العذاب، و هو الربا، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا الرِّبَوا أَضْعافاً مُضاعَفَةً لا تزيدوا زيادات مكرّرة. و التخصيص بحسب الواقع، إذ كان الرجل منهم إذا بلغ الدّين محلّه زاد في

الأجل، فربّما استغرق بالشي ء اليسير مال المديون. و ذكر الأكل لأنّه معظم الانتفاع، و إن كان غيره من التصرّفات أيضا منهيّا عنه. و قرأ ابن كثير و ابن عامر و يعقوب: مضعفة.

وَ اتَّقُوا اللَّهَ فيما نهيتم عنه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ راجين الفلاح، أو لكي تنجحوا بإدراك ما تأملونه، و تفوزوا بثواب الجنّة.

وَ اتَّقُوا النَّارَ الَّتِي أُعِدَّتْ هيّئت لِلْكافِرِينَ بالتحرّز عن متابعتهم و تعاطي أفعالهم. و الوجه في تخصيص الكافرين بإعداد النار لهم أنّهم معظم أهل النار. و فيه تنبيه على أنّ النار بالذات معدّة للكفّار، و بالعرض للعصاة. و كان أبو حنيفة يقول:

هي أخوف آية في القرآن، حيث أوعد اللّه المؤمنين بالنار المعدّة للكافرين إن لم يتّقوه في اجتناب محارمه.

ثم أتبع الوعيد بالوعد، ترهيبا عن المخالفة، و ترغيبا في الطاعة، فقال:

وَ أَطِيعُوا اللَّهَ فيما أمركم به وَ الرَّسُولَ فيما شرع لكم لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ راجين الرحمة، أو لكي ترحموا فلا يعذّبكم. و طاعة الرسول هي طاعة اللّه، فوجه

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 560

ذكرهما معا شيئان: أحدهما: أن المقصد بهما طاعة الرسول فيما دعا إليه مع القصد لطاعة اللّه. و الثاني: ليعلم أنّ من أطاعه فيما دعا إليه فهو كمن أطاع اللّه، فيسارع إلى ذلك بأمر اللّه تعالى. و في ذكر «لعلّ» و «عسى» في نحو هذه المواضع ما لا يخفى على العارف الفطن، من دقّة مسلك التقوى، و صعوبة إصابة رضا اللّه، و عزّة التوصّل إلى رحمته و ثوابه.

وَ سارِعُوا و بادروا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ و معنى المسارعة إلى المغفرة و الجنّة الإقبال على ما يستحقّ به المغفرة، كالاسلام و التوبة و الإخلاص في الطاعات الواجبة و المندوبة. و

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: في أداء الفرائض.

و

قرأ نافع و ابن عامر: سارعوا بلا واو.

وَ جَنَّةٍ عَرْضُهَا السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ و المراد وصفها بالسعة و البسطة، فشبّهت بأوسع ما علمه الناس من خلق اللّه و أبسطه. و خصّ العرض على طريق التمثيل، لأنّه دون الطول في العادة، فيدلّ على أنّ الطول أعظم، و ليس كذلك لو ذكر الطول دون العرض. أو لم يرد به العرض الّذي هو خلاف الطول، و إنّما أراد سعتها و عظمها، و العرب إذا وصفت الشي ء بالسعة وصفته بالعرض. و لمّا كانت الجنّة فوق السماوات السبع تحت العرش، و النار تحت الأرضين السبع، كما هو المرويّ، فلا يقال: إذا كانت الجنّة في السماء فكيف يكون لها هذا العرض؟ أو إذا كانت الجنّة عرضها السماوات و الأرض فأين تكون النار؟ و عن ابن عبّاس: كسبع سماوات و سبع أرضين لو وصل بعضها ببعض.

أُعِدَّتْ لِلْمُتَّقِينَ هيّئت لهم. و فيه دليل على أنّ الجنّة مخلوقة، لأنّها لا تكون معدّة إلّا و هي مخلوقة، و أنّها خارجة عن هذا العالم.

الَّذِينَ يُنْفِقُونَ صفة مادحة للمتّقين، أو مدح منصوب أو مرفوع فِي السَّرَّاءِ وَ الضَّرَّاءِ في حال الرخاء و اليسر، و في حال الضيق و العسر، أو الأحوال كلّها، إذ الإنسان لا يخلو عن مسرّة أو مضرّة، أي: لا يخلون في حال ما بإنفاق ما

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 561

قدروا عليه من قليل أو كثير. و افتتح بذكر الإنفاق لأنّه أشقّ شي ء على النفس، و أدلّه على الإخلاص، و لأنّه كان في ذلك الوقت أعظم الأعمال، للحاجة إليه في مجاهدة العدوّ و مواساة فقراء المسلمين.

و

في الحديث أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «السخاء شجرة في الجنّة، و أغصانها في الدنيا، من

تعلّق بغصن من أغصانها قادته إلى الجنّة. و البخل شجرة في النار، أغصانها في الدنيا، فمن تعلّق بغصن من أغصانها قادته إلى النار».

و

قال عليّ عليه السّلام: «الجنّة دار الأسخياء».

و

قال: «السخيّ قريب من اللّه، قريب من الجنّة، قريب من الناس، بعيد من النار. و البخيل بعيد من اللّه، بعيد من الجنّة، بعيد من الناس، قريب من النار».

وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ الممسكين على ما في أنفسهم من الغيظ، المتجرّعين له بالصبر، الكافّين عن إمضائه مع القدرة، من: كظم القربة، إذا ملأها و شدّ فاها.

و

في الحديث: «من كظم غيظا و هو يقدر على إنفاذه ملأ اللّه قلبه أمنا و إيمانا».

و

في خبر آخر: «ملأه اللّه يوم القيامة رضا». رواه أبو أمامة.

و

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «ليس الشديد بالصرعة، و لكن الشديد الّذي يملك نفسه عند الغضب».

وَ الْعافِينَ عَنِ النَّاسِ التاركين عقوبة من استحقّوا مؤاخذته. و

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنّ هؤلاء في أمّتي قليل إلّا من عصم اللّه، و قد كانوا كثيرا في الأمم الّتي مضت».

و

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما عفا رجل عن مظلمة قطّ إلّا زاده اللّه بها عزّا».

و

روي: «ينادى يوم القيامة: أين الّذين كانت أجورهم على اللّه؟ فلا يقوم إلّا من عفا».

وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ يحتمل الجنس و يدخل تحته هؤلاء، و العهد فتكون الاشارة إليهم.

روي: «أن جارية لعليّ بن الحسين عليه السّلام جعلت تسكب عليه الماء ليتهيّأ

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 562

للصلاة، فسقط الإبريق من يدها فشجّه، فرفع رأسه إليها، فقالت له الجارية: إنّ اللّه تعالى يقول: وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ، فقال لها: قد كظمت غيظي، قالت: وَ الْعافِينَ عَنِ النَّاسِ قال: عفا

اللّه عنك، قالت: وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ قال: اذهبي فأنت حرّة لوجه اللّه».

ثم عطف على المتّقين قوله: وَ الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً فعلة بالغة في القبح كالزنا أَوْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بأن أذنبوا أيّ ذنب كان. و قيل: الفاحشة الكبيرة، و ظلم النفس الصغيرة. و لعلّ الفاحشة ما يتعدّى، و ظلم النفس ما ليس كذلك. ذَكَرُوا اللَّهَ أي: ذكروا نهي اللّه أو وعيده أو عقابه فانزجروا عن المعصية، أو حقّه العظيم و جلاله الموجب للخشية و الحياء منه فَاسْتَغْفَرُوا لِذُنُوبِهِمْ و قالوا: اللّهمّ اغفر لنا ذنوبنا ندما و توبة.

وَ مَنْ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ إِلَّا اللَّهُ استفهام بمعنى النفي، يعني: الذنوب الّتي يستحقّ عليها العقاب لا يغفرها إلّا اللّه. و الجملة معترضة بين المعطوف و المعطوف عليه، منبّهة على لطيف فضله و جليل عفوه و كرمه، باعثة على التوبة و طلب المغفرة، دالّة على سعة الرحمة و عموم المغفرة، و وعد بقبول التوبة، و ردع عن اليأس و القنوط.

وَ لَمْ يُصِرُّوا عَلى ما فَعَلُوا و لم يقيموا على أفعالهم القبيحة غير مستغفرين.

و

في الحديث: «ما أصرّ من استغفر، و لو عاد في اليوم سبعين مرّة».

و

روي: «لا كبيرة مع الاستغفار، و لا صغيرة مع الإصرار».

وَ هُمْ يَعْلَمُونَ حال من فعل الإصرار، و المعنى: و ليسوا ممّن يصرّون على قبيح فعلهم عالمين بالنهي عنه و الوعيد عليه.

ثمّ وعد المتّقين و التائبين منهم الجنّة و المغفرة، فقال: أُولئِكَ جَزاؤُهُمْ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها. فهذه جملة مستأنفة مبيّنة لما قبلها، و ذلك إن عطفت الجملة الموصولة- أعني: قوله: «الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً»

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 563

على «المتّقين» أو على «الّذين ينفقون». و إن ابتدأت به فهذا

خبره.

و لا يلزم من إعداد الجنّة للمتّقين و التائبين جزاء لهم أن لا يدخلها المصرّون، كما لا يلزم من إعداد النار للكفّار جزاء لهم أن لا يدخلها غيرهم.

و تنكير «جنّات» على الثاني يدلّ على أنّ ما لهم أدون ممّا للمتّقين الموصوفين بالصفات المذكورة في الآية المتقدّمة، فإنّ التنكير لا يفيد العموم، فتخصيصه بهم مشعر بتقليل نصيبهم منها. و كفاك فارقا بين القبيلين أنّه تعالى ختم آيتهم بأنّهم محسنون مستوجبون لمحبّة اللّه، و ذلك لأنّهم حافظوا على حدود الشرع، و تخطّوا إلى التخصّص بمكارمه، و ختم هؤلاء بقوله: وَ نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ لأنّ المتدارك لتقصيره كالعامل لتحصيل ما فوّت على نفسه، و كم من فرق بين المحسن و المتدارك، و المحبوب و الأجير! و لعلّ تبديل لفظ الجزاء بالأجر لهذه النكتة.

و المخصوص بالمدح محذوف تقديره: و نعم أجر العاملين ذلك، يعني:

المغفرة و الجنّات. و في هذا بيان أنّ المؤمنين ثلاث طبقات: متّقون، و تائبون، و مصرّون، و أن للمتّقين و التائبين منهم الجنّة و المغفرة.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنّ اللّه عزّ و جلّ أوحى إلى موسى: ما أقلّ حياء من يطمع في جنّتي بغير عمل، كيف أجود برحمتي على من يبخل بطاعتي؟!».

و عن شهر بن حوشب: طلب الجنّة بلا عمل ذنب من الذنوب، و انتظار الشفاعة بلا سبب نوع من الغرور، و ارتجاء الرحمة ممّن لا يطاع حمق و جهالة.

و عن الحسن: يقول اللّه يوم القيامة: جوزوا الصراط بعفوي، و ادخلوا الجنّة برحمتي، و اقتسموها بأعمالكم».

و عن رابعة البصريّة أنّها كانت تنشد:

ترجو النجاة و لم تسلك مسالكهاإنّ السفينة لا تجري على اليبس

عن ابن مسعود: السبب في نزول هذه الآية

أنّ قوما من المؤمنين قالوا: يا

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 564

رسول اللّه بنو إسرائيل أكرم على اللّه منّا، كان أحدهم إذا أذنب أصبحت كفّارة ذنبه مكتوبة على عتبة بابه: اجدع أنفك أو أذنك، أو افعل كذا و كذا. فسكت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فنزلت الآية، فقال عليه السّلام: ألا أخبركم بخير من ذلكم؟ و قرأ عليهم هذه الآية.

و

عن عطاء: أنّ نبهان التمّار أتته امرأة تبتاع منه تمرا، فقال لها: هذا التمر ليس بجيّد، و في البيت أجود منه، و ذهب بها إلى بيته فضمّها إلى نفسه و قبّلها.

فقالت له: اتّق اللّه. فتركها و ندم، و أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ذكر له، فنزلت الآية.

[سورة آل عمران (3): الآيات 137 الى 138]

قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (137) هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (138)

و لمّا بين سبحانه ما يفعله بالمؤمن و الكافر في الدنيا و الآخرة، بيّن أنّ ذلك عادته سبحانه في خلقه، فقال: قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ سُنَنٌ وقائع سنّها اللّه تعالى في الأمم الخالية المكذّبة رسلها، من الاستئصال بالعذاب، و تبقية الديار للاتّعاظ و الانزجار و الاعتبار، كقوله وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلًا سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ «1».

و قيل: أمم. فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُروا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ لتعتبروا بما ترون من آثار هلاكهم، و تنتهوا عن مثل ما فعلوه.

هذا بَيانٌ لِلنَّاسِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةٌ لِلْمُتَّقِينَ إشارة إلى قوله: «قد خلت» أو مفهوم قوله: «فانظروا»، أي: أنّه مع كونه بيانا و إيضاحا لسوء عاقبة المكذّبين، فهو زيادة بصيرة و موعظة للمتّقين. أو إشارة إلى ما لخّص و بيّن من

أمر المتّقين و التائبين و المصرّين. و قوله: «قد خلت» اعتراض للبعث على الإيمان و التوبة. و قيل: إلى

______________________________

(1) الأحزاب: 61- 62.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 565

القرآن. و إنّما خصّ المتّقين به مع كونه بيانا و هدى و موعظة للناس كافّة، لأنّ المتّقين هم المنتفعون به، و المهتدون بهداه، و المتّعظون بمواعظه.

[سورة آل عمران (3): الآيات 139 الى 141]

وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (139) إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (140) وَ لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ يَمْحَقَ الْكافِرِينَ (141)

قيل: لمّا انهزم المسلمون في الشعب، و أقبل خالد بن الوليد بخيل المشركين يريد أن يعلو عليهم الجبل، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اللّهمّ لا يعلنّ علينا، اللّهمّ لا قوّة لنا إلّا بك، اللّهمّ ليس يعبدك بهذه البلدة إلّا هؤلاء النفر، فنزلت: وَ لا تَهِنُوا وَ لا تَحْزَنُوا

تسلية من اللّه لرسوله و للمؤمنين عمّا أصابهم يوم أحد. و المعنى: لا تضعفوا عن الجهاد بما أصابكم، و لا تبالوا بذلك، و لا تحزنوا على من قتل منكم.

وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ و حالكم أنّكم أعلى منهم شأنا و أغلب، فإنّكم على الحقّ، و قتالكم للّه و لإعلاء كلمته، و قتلاكم في الجنّة، و أنّهم على الباطل، و قتالهم للشيطان، و قتلاهم في النار. أو لأنّكم أصبتم منهم يوم بدر أكثر ممّا أصابوا منكم اليوم. أو تكون هذه بشارة لهم بالعلوّ و الغلبة في العاقبة، كقوله: وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ «1».

______________________________

(1) الصافّات: 173.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 566

إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ متعلّق بالنهي، أي:

و لا تهنوا إن صحّ إيمانكم، لأنّ صحّة الإيمان توجب قوّة القلب، و تقتضي الثقة باللّه، و قلّة المبالاة بأعداء اللّه. أو متعلّق ب «الأعلون»، أي: أنتم الأعلون إن كنتم مصدّقين بما يعدكم اللّه من الغلبة.

إِنْ يَمْسَسْكُمْ قَرْحٌ فَقَدْ مَسَّ الْقَوْمَ قَرْحٌ مِثْلُهُ قرأ حمزة و الكسائي و ابن عيّاش عن عاصم بضمّ القاف، و الباقون بالفتح. و هما لغتان، كالضّعف و الضّعف.

و قيل: هو بالفتح الجراحات، و بالضمّ ألمها. يعني: إن أصابوا منكم يوم أحد فقد أصبتم منهم قبله يوم بدر مثله، ثم إنّهم لم يضعفوا و لم يجبنوا، فأنتم أولى بأن لا تضعفوا، فإنّكم ترجون من اللّه ما لا يرجون.

و قيل: كلا المسّين كان يوم أحد، فإنّ المسلمين نالوا من الكفّار قبل أن يخالفوا أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

عن أنس بن مالك: أتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعليّ يومئذ و فيه نيّف و ستّون جراحة، من طعنة و ضربة و رمية، فجعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يمسحها و هي تلتئم بإذن اللّه كأن لم تكن.

و

عن ابن عبّاس قال: لمّا كان يوم أحد صعد أبو سفيان الجبل، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اللّهمّ إنّه ليس لهم أن يعلونا. فمكث أبو سفيان ساعة و قال: يوما بيوم، إنّ الأيّام دول، و إنّ الحرب سجال. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أجيبوه. فقالوا: لا سواء، قتلانا في الجنّة، و قتلاكم في النار. فقال: لنا عزّى، و لا عزّى لكم. فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اللّه مولانا، و لا مولى لكم. فقال

أبو سفيان: أعل هبل. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اللّه أعلى و أجلّ.

وَ تِلْكَ الْأَيَّامُ نُداوِلُها بَيْنَ النَّاسِ نصرفها بينهم، نديل لهؤلاء تارة و لهؤلاء أخرى، كقوله:

فيوما علينا و يوما لناو يوما نساء و يوما نسرّ

و المداولة كالمعاودة، يقال: داولت الشي ء بينهم فتداولوه. و الأيّام تحتمل

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 567

الوصف و الخبر. و «نداولها» يحتمل الخبر و الحال. و المراد بها أوقات النصر و الغلبة.

و قوله: وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا عطف على علّة محذوفة، أي: نداولها ليكون كيت و كيت و ليعلم اللّه، إيذانا بأنّ العلّة في هذه المداولة غير واحدة من المصالح ما لا يعلم غير اللّه. أو الفعل المعلّل به محذوف تقديره: و ليتميّز الثابتون على الإيمان من غيرهم فعلنا ذلك. و هو من باب التمثيل، أي: فعلنا ذلك فعل من يريد أن يعلم من الثابت على الإيمان منكم و من غير الثابت، و إلّا فإنّه سبحانه لم يزل عالما بما يكون قبل كونه. فالقصد في أمثاله و نقائضه ليس إلى إثبات علمه تعالى و نفيه، بل إلى إثبات المعلوم و نفيه على طريقة البرهان.

و قيل: معناه: و ليعلمهم علما يتعلّق به الجزاء، و هو أن يعلمهم موجودا. أو المراد بالعلم لازمه، و هو التمييز، أي: ليتميّز المؤمنون الثابتون على الإيمان من الّذين على حرف.

و قيل: معناه: ليظهر المعلوم من صبر من يصبر، و جزع من يجزع.

وَ يَتَّخِذَ مِنْكُمْ شُهَداءَ أي: و ليكرم ناسا منكم بالشهادة، يريد شهداء أحد.

أو يتّخذ منكم شهودا معدّلين على الأمم يوم القيامة، بما صودف منهم من الثبات و الصبر على الشدائد، كقوله: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ «1».

وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ الّذين

يضمرون خلاف ما يظهرونه، أو الكافرين.

و هو اعتراض بين بعض التعليل. و فيه تنبيه على أنّه تعالى لا ينصر الكافرين على الحقيقة، و إنّما يغلّبهم أحيانا استدراجا لهم، و ابتلاء للمؤمنين.

وَ لِيُمَحِّصَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا ليطهّرهم و يصفّيهم من الذنوب إن كانت الدولة عليهم وَ يَمْحَقَ اللّه الْكافِرِينَ و يهلكهم إن كانت عليهم. و المحق نقص الشي ء قليلا قليلا.

______________________________

(1) البقرة: 143.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 568

[سورة آل عمران (3): الآيات 142 الى 148]

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ (142) وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ (143) وَ ما مُحَمَّدٌ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ أَ فَإِنْ ماتَ أَوْ قُتِلَ انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ (144) وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ كِتاباً مُؤَجَّلاً وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها وَ سَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ (145) وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ ما ضَعُفُوا وَ مَا اسْتَكانُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ (146)

وَ ما كانَ قَوْلَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ إِسْرافَنا فِي أَمْرِنا وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا وَ انْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (147) فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَ حُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (148)

و لمّا حثّ اللّه تعالى العباد على الجهاد و رغّب فيه، زاد في البيان بأنّ الجنّة لا تنال إلّا بالبلوى و الاختبار، فقال: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ أم منقطعة، و التقدير: بل أ حسبتم. و معنى

الهمزة فيها للإنكار. وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 569

مِنْكُمْ أي: و لمّا تجاهدوا، لأنّ العلم يتعلّق بالمعلوم كما مرّ، فنزّل نفي العلم منزلة نفي متعلّقة، لأنّه ينتفي بانتفائه، تقول: ما علم اللّه في فلان خيرا، تريد: ما فيه خير حتى يعلمه. و «لمّا» بمعنى «لم» إلّا أن فيها ضربا من التوقّع، فدلّ على نفي الجهاد فيما مضى، و على توقّعه فيما يستقبل. وَ يَعْلَمَ الصَّابِرِينَ نصب بإضمار «أن» على أنّ الواو للجمع، كقولك: لا تأكل السمك و تشرب اللبن. و المعنى: أ ظننتم أنّكم تدخلون الجنّة و لمّا يقع العلم بوجود المجاهدين منكم و العلم بصبر الصابرين؟! وَ لَقَدْ كُنْتُمْ تَمَنَّوْنَ الْمَوْتَ أي: الحرب، فإنّها من أسباب الموت، أو الموت بالشهادة مِنْ قَبْلِ أَنْ تَلْقَوْهُ قبل أن تشاهدوه و تعرفوا شدّته و صعوبة مقاساته.

و الخطاب للّذين لم يشهدوا بدرا، و تمنّوا أن يشهدوا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مشهدا لينالوا ما نال شهداء بدر من الكرامة، فألحّوا يوم أحد على الخروج.

فَقَدْ رَأَيْتُمُوهُ وَ أَنْتُمْ تَنْظُرُونَ أي: فقد رأيتم الموت معاينين له، حين قتل دونكم من قتل من إخوانكم، و شارفتم أنتم أن تقتلوا. فهذا تأكيد للرؤية، كما يقال:

رأيته عيانا، و رأيته بعيني و سمعته بأذني، لئلّا يتوهّم رؤية القلب و سمع العلم.

و يجوز تمنّي الشهادة، لأنّ المراد منه نيل كرامة الشهداء لا غير، كما أنّ من شرب دواء الطبيب النصراني قاصدا إلى حصول المأمول من الشفاء، لا يخطر بباله أنّ فيه جرّ منفعة و إحسان إلى عدوّ اللّه. فلا يقال: كيف يجوز تمنّي الشهادة، و في تمنّيها تمنّي غلبة الكافر على المسلم؟! و قيل: معناه: تمنّي

توفيق الصبر على الجهاد إلى أن يقتلوا. و هو توبيخ لهم على أنّهم تمنّوا الحرب، و تسبّبوا خروج رسول اللّه بإلحاحهم، ثم جبنوا و انهزموا عنها.

روي أنّه لمّا رمى عبد اللّه بن قمئة الحارثي رسول اللّه بحجر فكسر رباعيته

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 570

و شجّ وجهه، فذبّ عنه مصعب بن عمير، و كان صاحب الراية، فقتله ابن قمئة و هو يرى أنّه قتل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: قد قتلت محمدا، و صرخ صارخ: ألا إنّ محمدا قد قتل، قيل: الصارخ هو إبليس، فنكص الناس فانهزموا. و جعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: إليّ عباد اللّه، حتّى انحاز إليه ثلاثون من أصحابه، فلامهم على الفرار. فقالوا:

يا رسول اللّه أتانا الخبر بأنّك قد قتلت، فرعبت قلوبنا فولّينا مدبرين. ثم حموا الرسول حتى كشفوا عن المشركين، و تفرّق الباقون.

و روي أنّه قال بعضهم: ليت عبد اللّه بن أبيّ يأخذ لنا أمانا من أبي سفيان.

و قال أنس بن النضر- عمّ أنس بن مالك-. إن كان محمد قتل فإنّ ربّ محمد حيّ لا يموت، و ما تصنعون بالحياة بعد رسول اللّه، فقاتلوا على ما قاتل عليه رسول اللّه، و موتوا على ما مات عليه. ثم قال: اللّهمّ إنّي أعتذر إليك ممّا يقول هؤلاء- يعني: المسلمين- و أبرأ منه، ثم شدّ بسيفه فقاتل حتى قتل، فنزلت:

وَ ما مُحَمَّدٌ إِلَّا رَسُولٌ يعني: أنّه بشر اختاره اللّه لرسالته إلى خلقه قَدْ خَلَتْ مضت مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ فسيخلوا كما خلوا بالموت أو القتل أَ فَإِنْ ماتَ حتف أنفه أَوْ قُتِلَ أو قتله الكفّار انْقَلَبْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ ارتددتم كفّارا بعد إيمانكم. فسمّى الارتداد انقلابا على

العقب، و هو الرجوع القهقرى، لأنّ الردّة خروج إلى أقبح الأديان، كما أنّ الانقلاب على العقب خروج إلى أقبح ما يكون من المشي. و الفاء معلّقة للجملة الشرطيّة بالجملة قبلها، على معنى التسبيب. و الهمزة لإنكار ارتدادهم و انقلابهم على أعقابهم عن الدين، لخلوّه بموت أو قتل، بعد علمهم بخلوّ الرسل قبله و بقاء دينهم متمسّكا به.

و المعنى: كما أنّ أتباع الرسل بقوا متمسّكين بدينهم بعد خلوّهم، فعليكم أن تتمسّكوا بدينه بعد خلوّه، لأنّ الغرض من بعثة الرسول تبليغ الرسالة و إلزام الحجّة، لا وجوده بين أظهر قومه.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 571

و قيل: الفاء للسببيّة، و الهمزة لإنكار أن يجعلوا خلوّ الرسل قبله سببا لانقلابهم على أعقابهم بعد وفاته.

وَ مَنْ يَنْقَلِبْ عَلى عَقِبَيْهِ و من يرتدد عن دينه فَلَنْ يَضُرَّ اللَّهَ شَيْئاً بارتداده، بل لا يضرّ إلّا نفسه، لأنّه يستحقّ العقاب الدائم وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ الّذين لم ينقلبوا، لأنّهم شكروا على نعمة الإسلام بالثبات عليه، كأنس و أضرابه.

وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تَمُوتَ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ يعني: أنّ موت النفوس محال أن يكون إلا بمشيئة اللّه تعالى، أو بإذنه لملك الموت في قبض روحه. فأخرجه مخرج فعل لا ينبغي لأحد أن يقدم عليه إلّا أن يأذن اللّه له فيه. و ملخّص المعنى: أنّ لكلّ نفس أجلا مسمّى في علمه تعالى و قضائه، لا يستأخرون و لا يستقدمون بالتقاعد عن القتال و الإقدام عليه. و فيه تحريض و تشجيع على القتال، و وعد للرسول بالحفظ، و تأخير الأجل.

و قوله: كِتاباً مصدر مؤكّد، إذ المعنى: كتب الموت كتابا مُؤَجَّلًا صفة له، أي: مؤقّتا له أجل معلوم لا يتقدّم و لا يتأخّر.

وَ مَنْ يُرِدْ بجهاده ثَوابَ الدُّنْيا

يعني: الغنيمة نُؤْتِهِ مِنْها أي: من ثوابها. هذا تعريض لمن شغلتهم الغنائم يوم أحد، فإنّ المسلمين كما مرّ حملوا على المشركين و هزموهم و أخذوا ينهبون، فلمّا رأى الرماة ذلك أقبلوا على النهب و خلّوا مكانهم، فانتهز المشركون و حملوا عليهم من ورائهم فهزموهم.

وَ مَنْ يُرِدْ ثَوابَ الْآخِرَةِ نُؤْتِهِ مِنْها أي: من ثوابها وَ سَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ الّذين شكروا نعمة اللّه، فلم يشغلهم شي ء عن الجهاد. و في تكراره تأكيد و تنبيه على عظم منزلة الشاكر.

و

روي أبان بن عثمان عن أبي جعفر عليه السّلام: «أنّه أصاب عليّا عليه السّلام يوم أحد

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 572

ستّون جراحة، فأمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمّ سليم و أمّ عطيّة أن تداوياه، فقالتا: إنّا لا نعالج منه مكانا إلّا انفتق مكان آخر، و قد خفنا عليه. فدخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المسلمون يعودونه، فجعل يمسح جراحاته بيده و يقول: إنّ رجلا لقي هذا في اللّه فقد أبلى و أعذر. و كان القرح الّذي يمسحه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يلتئم. فقال عليّ عليه السّلام: الحمد للّه إذ لم أفرّ و لم أولّ الدبر. فذكر اللّه تعالى له ذلك الشكر في موضعين من القرآن، و هو قوله: «وَ سَيَجْزِي اللَّهُ الشَّاكِرِينَ» «1»، «وَ سَنَجْزِي الشَّاكِرِينَ».

وَ كَأَيِّنْ أصله «أي» دخلت الكاف عليها فصارت بمعنى «كم»، و النون تنوين أثبت في الخطّ على غير قياس. و قرأ ابن كثير: و كائن كطاعن. و وجهه: أنه قلب الكلمة الواحدة، كقولهم: رعملي في لعمري، فصار كيّأن، ثم حذفت الياء الثانية للتخفيف، ثم أبدلت الياء الأخرى ألفا، كما أبدلت من طائي.

مِنْ نَبِيٍ

بيان له قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ ربّانيّون علماء أتقياء صبّر، أو عابدون لربّهم. و قيل: جماعات. و الربّي منسوب إلى ربّة، و هي الجماعة للمبالغة.

و قرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو و يعقوب: قتل. و إسناده إلى «ربّيون»، أو ضمير النبيّ، و «معه ربّيّون» حال منه، يعنى: قتل كائنا معه ربّيون.

فَما وَهَنُوا فما فتروا، و لم ينكسر جدّهم لِما أَصابَهُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ من قتل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أو بعضهم وَ ما ضَعُفُوا عن جهاد العدوّ بعده، أو في الدين وَ مَا اسْتَكانُوا و ما خضعوا للعدوّ. و أصله: استكن من السكون، لأنّ الخاضع يسكن لصاحبه ليفعل به ما يريده، و الألف من إشباع الفتحة. أو استكون من الكون، لأنّه يطلب من نفسه أن يكون لمن يخضع له. و هذا تعريض بالوهن الّذي أصابهم عند الإرجاف بقتله عليه السّلام، و بضعفهم عند ذلك، و استكانتهم للمشركين حين أرادوا أن يعتضدوا بالمنافق عبد اللّه بن أبيّ في طلب الأمان من أبي سفيان. وَ اللَّهُ يُحِبُّ الصَّابِرِينَ

______________________________

(1) آل عمران: 144.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 573

فينصرهم و يعظّم قدرهم.

وَ ما كانَ قَوْلَهُمْ عند لقاء العدوّ مع ثباتهم و قوّتهم في الدين و كونهم ربّانيّين إِلَّا أَنْ قالُوا أي: إلّا قولهم: رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا استرها علينا بترك عقابنا وَ إِسْرافَنا فِي أَمْرِنا و تجاوزنا الحدّ. و إضافة الذنوب و الإسراف إلى أنفسهم و الاستغفار عنهما هضما لأنفسهم و استقصارا وَ ثَبِّتْ أَقْدامَنا في مواطن الحرب بتقوية القلوب، و فعل الألطاف الّتي معها تثبت الأقدام، فلا تزول للانهزام وَ انْصُرْنا عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ الّذين هم عدوّنا، بإلقاء الرعب في قلوبهم، و إمدادنا

بالملائكة.

و إنّما قدّموا الاستغفار من الذنوب على طلب تثبيت الأقدام في مواطن الحرب و النصر على العدوّ، ليكون طلبهم إلى ربّهم عن زكاء و طهارة و خضوع، فيكون أقرب إلى الاستجابة. و إنّما جعل «قولهم» خبرا، لأنّ «أن قالوا» أعرف، لدلالته على جهة النسبة و زمان الحدث.

فَآتاهُمُ اللَّهُ بسبب الاستغفار و اللجأ إلى اللّه ثَوابَ الدُّنْيا النصر و الغنيمة و العزّ و حسن الذكر في الدنيا وَ حُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ و هو الجنّة و النعيم في الآخرة. و خصّ ثوابها بالحسن إشعارا بفضله، و أنّه المعتدّ به عنده. و الثواب: هو النفع المستحقّ المقارن للتعظيم و التبجيل. وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ في أقوالهم و أفعالهم.

[سورة آل عمران (3): الآيات 149 الى 152]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (149) بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَ هُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ (150) سَنُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ مَأْواهُمُ النَّارُ وَ بِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ (151) وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ إِذْ تَحُسُّونَهُمْ بِإِذْنِهِ حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ وَ تَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَ عَصَيْتُمْ مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ لِيَبْتَلِيَكُمْ وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (152)

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 574

عن علي عليه السّلام: لمّا قال المنافقون للمؤمنين يوم أحد عند الهزيمة و إرجاف قتل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: راجعوا إلى إخوانكم و ارجعوا إلى دينهم، أمر سبحانه بترك الائتمار لمن ثبّطهم عن الجهاد من الكفّار و المنافقين، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تُطِيعُوا الَّذِينَ كَفَرُوا

أي: إن أصغيتم إلى قول الكفّار

و المنافقين أنّ محمدا قتل، فارجعوا إلى عشائركم يَرُدُّوكُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ لأنفسكم. و لا خسران أعظم من أن يبدّلوا الكفر بالإيمان، و النار بالجنّة.

و عن الحسن: معناه: إن تستنصحوا اليهود و النصارى و تقبلوا منهم يردّوكم على أعقابكم، لأنّهم كانوا يستغوونهم و يوقعون لهم الشبه في الدين، و يقولون: لو كان نبيّا حقّا لما غلب، و لما أصابه و أصحابه ما أصابهم، و إنّما هو رجل حاله كحال غيره من الناس، يوما له و يوما عليه.

و عن السدّي: إن تستكينوا لأبي سفيان و أصحابه و تستأمنوهم يردّوكم إلى دينهم.

و قيل: هذا عامّ في مطاوعة الكفر و النزول على حكمهم.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 575

بَلِ اللَّهُ مَوْلاكُمْ ناصركم و أولى بنصرتكم وَ هُوَ خَيْرُ النَّاصِرِينَ لأنّ منصوره لا يصير مغلوبا أبدا، بخلاف منصور الغير، فاستغنوا به عن ولاية غيره و نصره.

روي أنّه لمّا ارتحل أبو سفيان و المشركون يوم أحد متوجّهين إلى مكّة قالوا:

بئس ما صنعنا، قتلناهم حتّى إذا لم يبق منهم إلّا الشريد تركناهم، ارجعوا فاستأصلوهم. فلمّا عزموا على ذلك ألقى اللّه في قلوبهم الرعب حتى رجعوا عمّا همّوا به، فقبل وقوع هذه القضيّة نزلت: سَنُلْقِي سنقذف فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ وضع الظاهر موضع المضمر للتغليظ و التعليل. و قيل: المراد ما قذف في قلوبهم من الخوف يوم أحد حتى تركوا القتال و رجعوا من غير سبب، و

نادى أبو سفيان: يا محمد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إن شاء اللّه.

و قرأ ابن عامر و الكسائي و يعقوب بضمّ العين في كلّ القرآن.

بِما أَشْرَكُوا بِاللَّهِ بسبب إشراكهم به ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً أي: آلهة

لم ينزل اللّه على إشراكها حجّة قويّة. و أصل السلطنة القوّة، و منه: السليط لقوّة اشتعاله، و السلاطة: لحدّة اللسان.

و ملخّص المعنى: كان السبب في إلقاء الرعب في قلوبهم إشراكهم باللّه آلهة ليس على إشراكها حجّة. و ما عنى اللّه سبحانه أنّ هناك حجّة لم تنزل عليهم، و إنّما أراد نفي الحجّة و نزولها جميعا، و هو كقوله: و لا ترى الضبّ بها ينجحر «1».

وَ مَأْواهُمُ النَّارُ وَ بِئْسَ مَثْوَى الظَّالِمِينَ أي: مثواهم. و المخصوص محذوف، أي: بئس مثوى الظالمين هي.

روي: «أنّ الكفّار دخلوا مكّة منهزمين مخافة أن يكون لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

______________________________

(1) في هامش النسخة الخطّية: «أولها: لا تفزع الأرنب أهوالها، أي: ليس بها أهوال فيفزع الأرنب. أو ليس بها إرنب فتفزعه الأهوال، يصف مفازة خالية عن الحيوان. منه». زبدة التفاسير، ج 1، ص: 576

و أصحابه الكرّة عليهم، و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: نصرت بالرعب مسيرة شهر».

وَ لَقَدْ صَدَقَكُمُ اللَّهُ وَعْدَهُ أي: و في اللّه لكم بما وعدكم من النصر على عدوّكم بشرط الصبر و التقوى، في قوله: إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا وَ يَأْتُوكُمْ مِنْ فَوْرِهِمْ هذا يُمْدِدْكُمْ «1». فكان كذلك حتى خالف الرماة، فإنّ المشركين لمّا أقبلوا جعل الرماة يرشقونهم و الباقون يضربونهم بالسيف، حتّى انهزموا و المسلمون على آثارهم. و ذلك قوله: إِذْ تَحُسُّونَهُمْ أي: تقتلونهم، من: حسّه إذا أبطل حسّه بِإِذْنِهِ بعلمه. و قيل: بلطفه، لأنّ أصل الإذن الإطلاق في الفعل، و اللطف تيسير للفعل، كما أن الإذن كذلك، فحسن إجراء اسمه إليه.

حَتَّى إِذا فَشِلْتُمْ إذا جبنتم و ضعف رأيكم، أو ملتم إلى الغنيمة، فإنّ الحرص من ضعف العقل وَ

تَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ اختلفتم في أمركم، يعني: اختلاف الرماة حين انهزم المشركون، فقال بعضهم: قد انهزم المشركون فما وقوفنا هنا؟

و قال آخرون: لا نخالف أمر رسول اللّه. فثبت مكانه عبد اللّه بن جبير- و هو أمير الرماة- في نفر دون العشرة، و هم المعنيّون بقوله: «وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ». و نفر الباقون للنهب، و هم المعنيّون بقوله: وَ عَصَيْتُمْ أمر نبيّكم في حفظ المكان مِنْ بَعْدِ ما أَراكُمْ ما تُحِبُّونَ من الظفر و الغنيمة و انهزام العدوّ. و جواب «إذا» محذوف، و هو: منعكم نصركم، أو أوقعكم في المحنة، أو ابتلاكم و امتحنكم.

مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الدُّنْيا و هم التاركون المركز للغنيمة وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرِيدُ الْآخِرَةَ و هم الثابتون محافظة على أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فكرّ المشركون على الرماة لعصيانهم و مخالفتهم أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قتلوا عبد اللّه بن جبير، و اقبلوا على المسلمين حتى هزموهم، و قتلوا من قتلوا، و هو قوله: ثُمَّ صَرَفَكُمْ عَنْهُمْ ثمّ كفّكم عنهم، بأن رفع النصرة عنكم، و وكّلكم إلى أنفسكم، بخلافكم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، حتّى

______________________________

(1) آل عمران: 125.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 577

حالت الحال فغلبوكم فانهزمتم لِيَبْتَلِيَكُمْ ليمتحن صبركم على المصائب، و ثباتكم على الإيمان عندها. يعني: يعاملكم معاملة المختبر في مظاهرة العدل.

وَ لَقَدْ عَفا عَنْكُمْ تفضّلا، و لما علم من ندمكم على المخالفة وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ يتفضّل عليهم بالعفو، أو في الأحوال كلّها، سواء أديل لهم أو عليهم، إذ الابتلاء يستعمل في الرحمة أيضا.

روي الواحدي «1» بإسناده عن سهل بن سعد الساعدي قال: «جرح رسول

اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم أحد، و كسرت رباعيته، و هشمت البيضة على رأسه. و كانت فاطمة بنته تغسل الدم عنه، و عليّ بن أبي طالب يسكب عليها الماء بالمجنّ «2». فلمّا رأت فاطمة أنّ الماء لا يزيد الدم إلّا كثرة أخذت قطعة حصير فأحرقته، حتى إذا صار رمادا ألزمته الجرح، فاستمسك الدم».

[سورة آل عمران (3): آية 153]

إِذْ تُصْعِدُونَ وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ فِي أُخْراكُمْ فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍّ لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا ما أَصابَكُمْ وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (153)

ثمّ ذكر سبحانه المنهزمين من أصحاب الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم أحد، فقال: إِذْ تُصْعِدُونَ متعلّق ب «صرفكم»، أو «ليبتليكم»، أو بمقدّر ك: أذكر. و الإصعاد الذهاب و الإبعاد في الأرض، يقال: أصعدنا من مكّة إلى المدينة. وَ لا تَلْوُونَ عَلى أَحَدٍ

______________________________

(1) الوسيط 1: 505.

(2) المجن: الترس.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 578

لا يقف أحد لأحد، و لا ينتظره، و لا تلتفتون إلى من خلّفتم وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ يناديكم من ورائكم، يقول: إليّ عباد اللّه، أنا رسول اللّه، من يكرّ فله الجنّة فِي أُخْراكُمْ في ساقتكم و جماعتكم المتأخّرة، تقول: جئت في آخر الناس و أخراهم، كما تقول: في أوّلهم و أولاهم، بتأويل مقدّمتهم و جماعتهم الأولى.

فَأَثابَكُمْ غَمًّا بِغَمٍ عطف على «صرفكم». و المعنى: فجازاكم اللّه عن فشلكم و عصيانكم غمّا متّصلا بغمّ، صادرا من الاغتمام بالقتل و الجرح و ظفر المشركين و فوت الغنيمة و الإرجاف بقتل الرسول. أو فجازاكم غمّا بسبب غمّ أذقتموه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعصيانكم له.

لِكَيْلا تَحْزَنُوا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا ما أَصابَكُمْ أي: لتتمرّنوا على

الصبر في الشدائد، فلا تحزنوا فيما بعد على نفع فائت و ضرّ لاحق. و قيل: «لا» مزيدة، و المعنى: لتأسفوا على ما فاتكم من الظفر و الغنيمة، و على ما أصابكم من الجرح و الهزيمة، عقوبة لكم.

و قيل: ضمير «فأثابكم» للرسول، أي: فواساكم في الاغتمام، فاغتمّ بما نزل عليكم، كما اغتممتم بما نزل عليه من الشجّ و غيره، و لم يعيّركم على عصيانكم تسلية لكم، فلا تحزنوا على ما فاتكم من النصر، و لا على ما أصابكم من الهزيمة.

وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ عالم بأعمالكم، و بما قصدتم. فيه ترغيب في الطاعة، و ترهيب عن المعصية.

[سورة آل عمران (3): الآيات 154 الى 155]

ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً يَغْشى طائِفَةً مِنْكُمْ وَ طائِفَةٌ قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ يَظُنُّونَ بِاللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ يَقُولُونَ هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ ءٍ قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ يَقُولُونَ لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ شَيْ ءٌ ما قُتِلْنا هاهُنا قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ وَ لِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ وَ لِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (154) إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا وَ لَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ حَلِيمٌ (155)

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 579

ثمّ ذكر سبحانه ما أنعم به عليهم بعد ذلك، من إنزال النعاس عليهم في تلك الحالة- حتّى كانوا يسقطون على الأرض- حتّى تراجعوا و أقبلوا يعتذرون إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: ثُمَّ أَنْزَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ بَعْدِ الْغَمِّ أَمَنَةً نُعاساً أي: أنزل اللّه الأمن على المؤمنين، و أزال

عنهم الخوف الّذي كان بهم، حتى نعسوا و غلبهم النوم.

و كان المنافقون لا يستقرّون، قد طارت عقولهم.

و الأمنة: الأمن، نصب على المفعول. و نعاسا بدل الاشتمال منها، أو هو المفعول، و «أمنة» حال منه متقدّمة، كقولك: رأيت راكبا رجلا، أو مفعول له، أو حال من المخاطبين، بمعنى: ذوي أمنة، أو على أنّه جمع آمن، ك: بارّ و بررة.

يَغْشى أي: النعاس طائِفَةً مِنْكُمْ عن أبي طلحة: غشينا النعاس في المصافّ حتى كان السيف يسقط من يد أحدنا فيأخذه ثمّ يسقط فيأخذه، و ما أحد إلّا و يميل تحت حجفته «1».

______________________________

(1) الحجفة: التّرس من جلد بلا خشب.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 580

و قرأ حمزة و الكسائي بالتاء ردّا على الأمنة. و الطائفة: المؤمنون حقّا.

وَ طائِفَةٌ هم المنافقون مبتدأ محذوف الخبر، أي: ثمّ طائفة. و قوله: قَدْ أَهَمَّتْهُمْ أَنْفُسُهُمْ صفة، أي: طائفة أوقعتهم أنفسهم في الهموم، إذ ما يهمّهم إلّا همّ أنفسهم و طلب خلاصها.

يَظُنُّونَ بِاللَّهِ صفة اخرى لطائفة، أو حال، أو استئناف على وجه البيان لما قبله. و قوله: غَيْرَ الْحَقِ نصب على المصدريّة، أي: يظنّون باللّه غير الظنّ الحقّ الّذي يحقّ أن يظنّ به. و قوله: ظَنَّ الْجاهِلِيَّةِ بدل منه، أي: الظنّ المختصّ بالملّة الجاهليّة و أهلها. و المعنى: يتوهّمون أنّ اللّه لا ينصر محمّدا و أصحابه، كظنّهم في الجاهليّة.

و قيل: ظنّهم ما ذكر بعده من قوله: يَقُولُونَ أي: لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فهو بدل من «بظنّون» هَلْ لَنا مِنَ الْأَمْرِ مِنْ شَيْ ءٍ هل لنا ممّا أمر اللّه تعالى و وعد من النصر و الظفر نصيب قطّ؟ قالوا ذلك على سبيل التعجّب و الإنكار، أي: أ نطمع أن يكون لنا الغلبة على

هؤلاء؟ أي: ليس لنا من ذلك شي ء. و قيل: أخبر ابن أبيّ بقتل بني الخزرج، فقال ذلك. و المعنى: أنّا منعنا تدبير أنفسنا و تصريفها باختيارنا، فلم يبق لنا من الأمر شي ء. أو هل يزول عنّا هذا القهر، فيكون لنا من الأمر شي ء؟

قُلْ إِنَّ الْأَمْرَ كُلَّهُ لِلَّهِ أي: الغلبة الحقيقيّة للّه و أوليائه، فإنّ حزب اللّه هم الغالبون. أو القضاء له، يفعل ما يشاء و يحكم ما يريد. و هو اعتراض. و قرأ أبو عمرو و يعقوب: كلّه بالرفع على الابتداء.

و قوله: يُخْفُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما لا يُبْدُونَ لَكَ حال من ضمير «يقولون»، أي:

يقولون مظهرين أنّهم مسترشدون طالبون للنصر، مبطنين الإنكار و التكذيب و ما لا يستطيعون إظهاره.

يَقُولُونَ هو بدل من «يخفون»، أو استئناف على وجه البيان لما يخفون، أي: يقولون في أنفسهم و إذا خلا بعضهم إلى بعض لَوْ كانَ لَنا مِنَ الْأَمْرِ من الظفر

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 581

الّذي وعدنا به شَيْ ءٍ كما وعد محمد، أو زعم أنّ الأمر كلّه للّه و لأوليائه، أو لو كان لنا اختيار و تدبير ما قُتِلْنا ما غلبنا هاهُنا و لما قتل من قتل منّا في هذه المعركة.

قُلْ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُيُوتِكُمْ لَبَرَزَ الَّذِينَ كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقَتْلُ إِلى مَضاجِعِهِمْ أي:

لخرج الّذين قدّر اللّه تعالى عليهم القتل- و كتبه في اللوح المحفوظ- إلى مصارعهم، و لم تنفعهم الإقامة بالمدينة، و لم ينج منهم أحد، فإنّه قدّر الأمور و دبّرها في سابق قضائه، لا معقّب لحكمه.

وَ لِيَبْتَلِيَ اللَّهُ ما فِي صُدُورِكُمْ و ليمتحن اللّه ما في صدوركم، بإظهار سرائرها من الإخلاص و النفاق، أي: ليعاملكم معاملة المبتلين مظاهرة في العدل عليكم. و هو علّة فعل محذوف، أي: و فعل ذلك

ليبتلي. أو عطف على محذوف، أي: لبرز لنفاذ القضاء، أو لمصالح كثيرة و للابتلاء. أو على قوله: «لِكَيْلا تَحْزَنُوا».

وَ لِيُمَحِّصَ ما فِي قُلُوبِكُمْ ليكشفه و يزيله، أو ليخلّصه من الوساوس، بما يريكم من عجائب صنعه. يقال: محّصته تمحيصا، إذا خلّصته من كلّ عيب.

و محّص اللّه العبد من الذنب، إذا طهّره منه.

وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بخفيّاتها قبل إظهارها. و فيه وعد و وعيد، و تنبيه على أنّه غنيّ عن الابتلاء، و إنّما فعل ذلك لتمرين المؤمنين، و إظهار حال المنافقين.

إِنَّ الَّذِينَ تَوَلَّوْا مِنْكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ جمع المسلمين و جمع الكافرين.

و المراد يوم أحد، أي: إنّ الّذين انهزموا يوم أحد إِنَّمَا اسْتَزَلَّهُمُ الشَّيْطانُ بِبَعْضِ ما كَسَبُوا من المعاصي، إنّما كان السبب في انهزامهم أنّ الشيطان طلب منهم الزلّة فأطاعوه، و اقترفوا ذنوبا بترك المركز و الحرص على الغنيمة أو الحياة، لمخالفة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فمنعوا التأييد و قوّة القلب حتّى تولّوا.

و قيل: استزلال الشيطان تولّيهم، و ذلك بسبب ذنوب تقدّمت لهم، فإنّ المعاصي يجرّ بعضها بعضا كالطاعة.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 582

و قيل: استزلّهم بذكر ذنوب سلفت منهم، فكرهوا القتل قبل إخلاص التوبة و الخروج من المظلمة.

وَ لَقَدْ عَفَا اللَّهُ عَنْهُمْ لتوبتهم و اعتذارهم إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ للذنوب حَلِيمٌ لا يعاجل بعقوبة المذنب كي يتوب.

ذكر البلخي و غيره أنّه لم يبق يوم أحد مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلّا ثلاثة عشر نفسا، خمسة من المهاجرين، و ثمانية من الأنصار. و قد اختلف في الخمسة إلّا في عليّ عليه السّلام و طلحة.

و

روي عن الصادق عليه السّلام قال: «نظر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى

جبرئيل بين السماء و الأرض على كرسيّ من ذهب و هو يقول: لا سيف إلّا ذو الفقار، و لا فتى إلّا علي».

[سورة آل عمران (3): آية 156]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا وَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أَوْ كانُوا غُزًّى لَوْ كانُوا عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ وَ اللَّهُ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (156)

ثمّ نهى اللّه سبحانه المؤمنين عن الاقتداء بالمنافقين في أفعالهم و أقوالهم، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ كَفَرُوا يعني: المنافقين وَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ أي: لأجل إخوانهم و في حقّهم. و معنى أخوّتهم اتّفاقهم في النسب أو المذهب إِذا ضَرَبُوا فِي الْأَرْضِ أي: سافروا فيها و أبعدوا للتجارة أو غيرها. و كان حقّه «إذ»، لقوله: «قالوا»، لكنّه جاء على حكاية الحال الماضية، أي: حين يضربون في الأرض. أَوْ كانُوا غُزًّى جمع غاز، كعاف و عفّى. و مفعول «قالوا» قوله: لَوْ كانُوا مقيمين عِنْدَنا ما ماتُوا وَ ما قُتِلُوا و هذا يدلّ على أنّ إخوانهم لم يكونوا مخاطبين به.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 583

لِيَجْعَلَ اللَّهُ ذلِكَ حَسْرَةً فِي قُلُوبِهِمْ متعلّق ب «قالوا» على أنّ اللام لام العاقبة، مثلها في لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً «1». أو ب «لا تكونوا»، أي: لا تكونوا مثلهم في النطق بذلك القول و في الاعتقاد ليجعله اللّه حسرة في قلوبهم خاصّة، و يصون منها قلوبكم، فإنّ مخالفتهم و مضادّتهم ممّا يغمّهم و يغيظهم. و إنّما أسند الفعل إلى اللّه لأنّه سبحانه عند ذلك الاعتقاد الفاسد يضع الحسرة في قلوبهم، و يضيّق صدورهم عقوبة، و هو كقوله تعالى: يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً «2».

وَ اللَّهُ يُحْيِي وَ يُمِيتُ

ردّ لقولهم، أي: هو المؤثّر في الحياة و الممات لا الاقامة و السفر، فإنّه تعالى قد يحيي المسافر و الغازي، و يميت المقيم و القاعد عن الغزو.

وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فلا تكونوا مثلهم. و هذا تهديد للمؤمنين على أن يماثلوهم.

و قرأ ابن كثير و حمزة و الكسائي بالياء، على أنّه وعيد للّذين كفروا.

[سورة آل عمران (3): الآيات 157 الى 158]

وَ لَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (157) وَ لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ لَإِلَى اللَّهِ تُحْشَرُونَ (158)

ثمّ حثّ سبحانه على الجهاد، و بيّن أنّ الشهادة خير من أموال الدنيا المستفادة، فقال: وَ لَئِنْ قُتِلْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوْ مُتُّمْ أي: متّم في سبيله. و قرأ نافع و حمزة و الكسائي بكسر الميم من: مات يمات لَمَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَحْمَةٌ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ جواب القسم، و هو سادّ مسدّ الجزاء، و كذا قوله فيما بعد: «لإلى اللّه

______________________________

(1) القصص: 8.

(2) الأنعام: 125.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 584

تحشرون».

كذّب اللّه سبحانه فيما قال الكفّار في زعمهم و اعتقادهم أن «لو كانوا عندنا ما ماتوا و ما قتلوا»، و نهى المسلمين عن ذلك الاعتقاد، و لأنّه سبب التخلّف عن الجهاد. و المعنى: أنّ السفر و الغزو ليس ممّا يجلب الموت و يقدّم الأجل. ثمّ قال لهم: و لئن تمّ عليكم ما تخافونه من الهلاك بالموت أو القتل في سبيل اللّه، فما تنالون من المغفرة و الرحمة بالموت في سبيل اللّه خير ممّا تجمعون من الدنيا و منافعها لو لم تموتوا. و عن ابن عبّاس: خير من طلاع الأرض، أي: ملؤها ذهبة حمراء.

وَ لَئِنْ مُتُّمْ أَوْ قُتِلْتُمْ على أيّ وجه اتّفق هلاككم لَإِلَى اللَّهِ لإلى معبودكم الّذي

توجّهتم إليه و بذلتم مهجكم لوجهه، لا إلى غيره، لا محالة تُحْشَرُونَ فيوفي جزاءكم، و يعظّم ثوابكم.

و قرأ نافع و حمزة و الكسائي: متّم بالكسر.

[سورة آل عمران (3): الآيات 159 الى 160]

فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ (159) إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ فَلا غالِبَ لَكُمْ وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (160)

ثمّ بيّن سبحانه أنّ مساهلة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إيّاهم، و تجاوزه عنهم، من رحمته

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 585

سبحانه، حيث جعله ليّن العطف حسن الخلق، فقال: فَبِما رَحْمَةٍ مِنَ اللَّهِ لِنْتَ لَهُمْ أي: فبرحمة. و «ما» زائدة للتأكيد، و نحوه فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ «1».

و المعنى: أنّ لينه لكم ما كان إلّا برحمة من اللّه، و هو ربطه على جأشه «2»، و توفيقه للرفق بهم، حتّى اغتمّ لهم بعد أن خالفوه.

وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا سيّ ء الخلق جافيا غَلِيظَ الْقَلْبِ قاسيه لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ لتفرّقوا عنك، و لم يسكنوا إليك.

فَاعْفُ عَنْهُمْ ما بينك و بينهم وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمْ ما بينهم و بيني، إتماما للشفقة عليهم وَ شاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ أمر الحرب، إذ الكلام فيه، أو فيما يصحّ أن يشاور فيه ممّا لم ينزل عليك فيه وحي، تطييبا لنفوسهم، و استظهارا برأيهم، و تمهيدا لسنّة المشاورة للأمّة.

و قال الحسن: قد علم اللّه أنّه ما به إليهم حاجة، و لكنّه أراد أن يستنّ به من بعده، و قد علم اللّه أنّه لم يكن يحتاج إليهم.

و

في الحديث: «ما تشاور قوم قطّ إلّا هدوا إلى أرشد

أمرهم».

و عن أبي هريرة: «ما رأيت أحدا أكثر مشاورة من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

و قيل: كان سادات العرب إذا لم يشاوروا في أمر شقّ عليهم، فأمر اللّه رسوله مشاورة أصحابه لئلّا يثقل عليهم استبداده بالرأي دونهم.

فَإِذا عَزَمْتَ فإذا وطّنت نفسك على شي ء، و قطعت الرأي عليه بعد الشورى فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فاعتمد عليه في إمضاء أمرك على ما هو أصلح لك، فإنّه لا يعلمه سواه إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَوَكِّلِينَ فينصرهم و يهديهم إلى الصلاح.

______________________________

(1) المائدة: 13.

(2) الجأش: القلب. يقال: فلان رابط الجأش، أي: شجاع.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 586

و لمّا أمر اللّه سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالتوكّل، بيّن معنى وجوب التوكّل عليه، فقال: إِنْ يَنْصُرْكُمُ اللَّهُ كما نصركم يوم بدر فَلا غالِبَ لَكُمْ فلا أحد يغلبكم وَ إِنْ يَخْذُلْكُمْ و يمنعكم معونته، و يخلّ بينكم و بين أعدائكم بمعصيتكم إيّاه، كما خذلكم يوم احد فَمَنْ ذَا الَّذِي يَنْصُرُكُمْ مِنْ بَعْدِهِ من بعد خذلانه، أو من بعد اللّه.

بمعنى: إذا جاوزتموه فلا ناصر لكم، من قولك: ليس لك من يحسن إليك من بعد فلان، تريد: إذا جاوزته. و هذا تنبيه على المقتضي للتوكّل، و تحريض على ما يستحقّ به النصر من اللّه، و تحذير عمّا يستجلب خذلانه.

وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فليخصّوه بالتوكّل عليه، لما علموا أن لا ناصر سواه و آمنوا به. و هذا تنبيه على وجوب التوكّل على اللّه سبحانه.

[سورة آل عمران (3): الآيات 161 الى 163]

وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَّ وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (161) أَ فَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ كَمَنْ باءَ بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ

وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (162) هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (163)

روي أن قطيفة حمراء فقدت يوم بدر، فقال بعض المنافقين: لعلّ رسول اللّه أخذها، فنزلت: وَ ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَغُلَ و ما صحّ أن يخون في الغنائم، فإنّ النبوّة تنافي الخيانة. يقال: غلّ شيئا من المغنم يغلّ غلولا، و أغلّ إغلالا، إذا أخذه في خفية. و يقال: أغلّ إذا وجده غالّا، كقولك: أبخلته إذا وجدته بخيلا. و المراد براءة الرسول عمّا اتّهم به.

و

قيل: نزلت في غنائم أحد حين ترك الرماة المركز و طلبوا الغنيمة و قالوا:

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 587

نخشى أن يقول رسول اللّه: من أخذ شيئا فهو له، و أن لا يقسّم الغنائم كما لم يقسّم يوم بدر. فقال لهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ألم أعهد إليكم أن لا تتركوا المركز حتى يأتيكم أمري؟ فقالوا: تركنا بقيّة إخواننا وقوفا. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: بل ظننتم أنّا نغلّ و لا نقسّم لكم.

و قيل: هذا مبالغة في النهي للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، على ما

روي أنّه بعث طلائع فغنمت غنائم، فقسّمها على من معه، و لم يقسّم للطلائع، فنزلت.

فيكون تسمية حرمان بعض المستحقّين غلولا تغليظا و تقبيحا لصورة الأمر.

و قرأ نافع و ابن عامر و حمزة و الكسائي و يعقوب: أن يغلّ على البناء للمفعول، من: غلّ، أو من: أغلّ، بالمعنى الأوّل أو الثاني. و المعنى: و ما صحّ له أن ينسب إلى الغلول، أو يوجد غالّا.

وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يأت بالّذي غلّه بعينه يحمله على عنقه، كما جاء في الحديث: من بعثناه على

عمل فغلّ شيئا جاء يوم القيامة يحمله على عنقه.

و

روي عن ابن عبّاس في خبر طويل عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «ألا لا يغلّنّ أحد بعيرا، فيأتي به على ظهره يوم القيامة له رغاء «1». ألا لا يغلّنّ أحد فرسا، فيأتي به على ظهره له حمحمة، فيقول: يا محمّد يا محمّد. فأقول: قد بلّغت قد بلّغت قد بلّغت، لا أملك لك من اللّه شيئا».

و قال الجبائي: ذلك ليفضح به على رؤوس الأشهاد. و قال البلخي: و يجوز أن يراد: يأت بما احتمل من وباله و إثمه.

ثُمَّ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ أي: يعدل بينهم في الجزاء، فكلّ جزاؤه على قدر كسبه. جي ء بالعامّ ليدخل تحته كلّ كاسب من غلّ و غيره، و يكون كالبرهان

______________________________

(1) رغا البعير: صوّت و ضجّ.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 588

على المقصود، و المبالغة فيه، فإنّه إذا كان كلّ كاسب مجزيّا بعمله، فالغالّ مع عظم جرمه بذلك أولى.

و المعنى: و يعطى كلّ نفس جزاء ما كسبت وافيا وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ فلا ينقص ثواب مطيعهم، و لا يزاد في عقاب عاصيهم.

و لمّا بيّن اللّه أنّ كلّ نفس توفّى جزاء ما كسبت من خير أو شرّ، عقّبه ببيان من كسب الخير و الشرّ، فقال: أَ فَمَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَ اللَّهِ رضا اللّه في ترك الغلول و امتثال الطاعة كَمَنْ باءَ رجع بِسَخَطٍ مِنَ اللَّهِ بسبب فعل الغلول و سائر المعاصي وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ. الفرق بين المصير و المرجع: أنّ المصير يجب أن يخالف الحالة الأولى، و لا كذلك المرجع.

هُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ اللَّهِ شبّهوا بالدرجات، أي: هم متفاوتون كما تتفاوت الدرجات، لما بينهم من التفاوت في الثواب و

العقاب. أو التقدير: ذوو درجات عنده، كما

جاء في الحديث: «إنّ أهل الجنّة ليرون أهل علّيّين كما يرى النجم في أفق السماء، و النار دركات بعضها أسفل من بعض».

وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ عالم بأعمالهم و درجاتها، فيجازيهم على حسبها.

[سورة آل عمران (3): آية 164]

لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولاً مِنْ أَنْفُسِهِمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (164)

ثمّ ذكر سبحانه عظيم نعمته على الخلق ببعثة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: لَقَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أنعم على من آمن مع الرسول من قومه. و تخصيصهم مع أنّ نعمة البعثة عامّة لزيادة انتفاعهم بها إِذْ بَعَثَ فِيهِمْ رَسُولًا مِنْ أَنْفُسِهِمْ من نسبهم، أو من

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 589

جنسهم، عربيّا مثلهم ليفهموا كلامه بسهولة، و يكونوا واقفين على حاله في الصدق و الأمانة، مفتخرين به يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ أي: القرآن بعد ما كانوا جهّالا لم يسمعوا الوحي وَ يُزَكِّيهِمْ يطهّرهم من دنس الطباع و سوء العقائد و الأعمال وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ القرآن و السنّة وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ

«إن» هي المخفّفة، و اللام هي الفارقة بينها و بين النافية. و المعنى: و إن الشأن كانوا من قبل بعثة الرسول في ضلال ظاهر.

[سورة آل عمران (3): الآيات 165 الى 168]

أَ وَ لَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها قُلْتُمْ أَنَّى هذا قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (165) وَ ما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَ لِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ (166) وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا وَ قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَوِ ادْفَعُوا قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالاً لاتَّبَعْناكُمْ هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ (167) الَّذِينَ قالُوا لِإِخْوانِهِمْ وَ قَعَدُوا لَوْ أَطاعُونا ما قُتِلُوا قُلْ فَادْرَؤُا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (168)

ثمّ عاد الكلام

إلى ذكر الجهاد، فقال: أَ وَ لَمَّا أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ يوم أحد من قتل سبعين منكم قَدْ أَصَبْتُمْ مِثْلَيْها و الحال أنّكم نلتم ضعفها يوم بدر من قتل سبعين و أسر سبعين. و الهمزة للتقريع و التقرير. و الواو عاطفة للجملة على ما سبق

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 590

من قصّة أحد. و «لمّا» ظرف «قلتم» مضافا إلى «أصابتكم» أي: حين أصابتكم مصيبة يوم أحد من قتل سبعين منكم قُلْتُمْ أَنَّى هذا من أين هذا أصابنا و فينا رسول اللّه، و نحن مسلمون و هم مشركون، و قد وعدنا اللّه النصر؟ قُلْ هُوَ مِنْ عِنْدِ أَنْفُسِكُمْ أي: ممّا اكتسبته أنفسكم من مخالفة الأمر و ترك المركز، فإنّ الوعد كان مشروطا بالثبات و المطاوعة.

و

عن قتادة: من مخالفتهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الخروج من المدينة للقتال يوم أحد، و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دعاهم إلى أن يتحصّنوا بها، و يدعوا المشركين إلى أن يقصدوهم فيها، فقالوا: كنّا نمتنع من ذلك في الجاهليّة و نحن الآن في الإسلام، و أنت يا رسول اللّه نبيّنا أحقّ بالاتّباع و أعزّ.

و

عن عليّ عليه السّلام: لأخذكم الفداء من أسارى بدر قبل أن يؤذن لكم. و هو المرويّ عن الباقر عليه السّلام.

إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فيقدر على النصر و منعه، و على أن يصيب بكم و يصيب منكم.

وَ ما أَصابَكُمْ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ جمع المسلمين و جمع المشركين، يريد يوم أحد فَبِإِذْنِ اللَّهِ فهو كائن بإذنه، أي: بتخليته الكفّار. سمّاها إذنا استعارة، لأنّها من لوازمه، و أنّه لم يمنعهم منهم ليبتليهم، فكأنّه أذن فيه، لأن الآذن مخلّ بين المأذون له و مراده. وَ

لِيَعْلَمَ الْمُؤْمِنِينَ

وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ نافَقُوا أي: و هو كائن ليتميّز المؤمنون و المنافقون، فيظهر إيمان هؤلاء و كفر هؤلاء.

وَ قِيلَ لَهُمْ عطف على «نافقوا» داخل في الصلة، أو كلام مبتدأ. و هم عبد اللّه بن أبيّ و أصحابه، انقطعوا عن المؤمنين يوم أحد و قالوا: علام نقتل أنفسنا؟

و كانوا ثلاثمائة، فقال لهم عبد اللّه بن عمرو بن حزام الأنصاري: تَعالَوْا قاتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ و اتّقوا اللّه و لا تخذلوا نبيّكم أَوِ ادْفَعُوا عن حريمكم إن لم تقاتلوا في

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 591

سبيل اللّه. فهذا تقسيم للأمر عليهم، و تخيير بين أن يقاتلوا للآخرة أو للدفع عن الأنفس و الأموال. و قيل: معناه: قاتلوا الكفرة أو ادفعوهم بتكثيركم سواد المجاهدين، فإنّ كثرة السواد ممّا يروّع العدوّ و يكسر منه، فهو بمنزلة القتال.

قالُوا لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ لو نعلم ما يصحّ أن يسمّى قتالا لاتّبعناكم فيه، لكن ما أنتم عليه ليس بقتال، بل إلقاء بالأنفس إلى التهلكة.

هُمْ لِلْكُفْرِ يَوْمَئِذٍ أَقْرَبُ مِنْهُمْ لِلْإِيمانِ لانخزالهم «1» عن عسكر المسلمين، و كلامهم هذا، فإنّها أوّل أمارات ظهرت منهم مؤذنة بكفرهم. يعني: أنّهم قبل ذلك اليوم كانوا يتظاهرون بالإيمان، و ما ظهرت منهم أمارة تؤذن بكفرهم، فلمّا انخزلوا عن عسكر المؤمنين و قالوا ما قالوا تباعدوا بذلك عن الإيمان المظنون بهم، و اقتربوا من الكفر.

و قيل: المعنى: هم لأهل الكفر أقرب نصرة منهم لأهل الإيمان، إذ كان انخزالهم عن عسكر المؤمنين و مقالهم تقوية للمشركين و تخذيلا للمؤمنين.

يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ يظهرون خلاف ما يضمرون، لا تواطئ قلوبهم ألسنتهم بالإيمان. و إضافة القول إلى الأفواه تأكيد و تصغير، أي: لا يجاوز إيمانهم أفواههم و مخارج الحروف

منهم، و لا تعي قلوبهم منه شيئا. و لا يخفى أنّ ذكر الأفواه مع القلوب تصوير لنفاقهم.

وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يَكْتُمُونَ من النفاق و ما يخلو به بعضهم إلى بعض، لأنّه يعلمه مفصّلا بعلم واجب، و أنتم تعلمونه مجملا بأمارات.

الَّذِينَ قالُوا رفع بدلا من «واو» يكتمون، أو نصب على الذمّ أو الوصف ل «الّذين نافقوا»، أو جرّ بدلا من الضمير في «بأفواههم» أو «قلوبهم» لِإِخْوانِهِمْ لأجلهم، يريد: من قتل يوم أحد من أقاربهم، أو من جنس المنافقين المقتولين يوم

______________________________

(1) انخزل من المكان: انفرد.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 592

أحد وَ قَعَدُوا حال مقدّرة ب «قد»، أي: قالوا قاعدين عن القتال لَوْ أَطاعُونا لو أطاعونا إخواننا فيما أمرناهم به من القعود في البيت و ترك الخروج إلى القتال ما قُتِلُوا كما لم نقتل.

قُلْ استهزاء بهم فَادْرَؤُا فادفعوا عَنْ أَنْفُسِكُمُ الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ ما تقولون من أنّكم تقدرون على دفع القتل عمّن كتب عليه، فادفعوا عن أنفسكم الموت و أسبابه، فإنّه أحرى بكم. و حذف الجزاء لدلالة ما قبله عليه.

و الأمر بدرء الموت عن الأنفس للاستهزاء، أي: إن كنتم رجالا دفّاعين لأسباب الموت فادرؤا جميع أسبابه حتّى لا تموتوا.

و لمّا كان معنى الآية أنّ القعود غير مغن، فإنّ أسباب الموت كثيرة، و كما أنّ القتال يكون سببا للإهلاك و القعود يكون سببا للنجاة، قد يكون الأمر بالعكس، فما يدريكم أنّ سبب نجاتكم القعود، و أنّكم صادقون في مقالتكم؟! و ما أنكرتم أن يكون غيره؟! فلا يقال: قد كانوا صادقين في أنّهم دفعوا القتل عن أنفسهم بالقعود، فما معنى قوله: «إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ»؟ و روي أنّه مات يوم قالوا هذه المقالة سبعون منافقا.

[سورة آل عمران (3): الآيات 169 الى 171]

وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا

فِي سَبِيلِ اللَّهِ أَمْواتاً بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ (169) فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ يَسْتَبْشِرُونَ بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (170) يَسْتَبْشِرُونَ بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ وَ أَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ (171)

و لمّا حكى اللّه قول المنافقين في المقتولين الشهداء، تثبيطا للمؤمنين عن جهاد الأعداء، ذكر بعده ما أعدّ اللّه تعالى للشهداء من الكرامة، و خصّهم به من

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 593

النعيم في دار المقامة، فقال: وَ لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ أي: في الجهاد و نصرة دين اللّه أَمْواتاً أي: موتى كما مات من لم يقتل في سبيل اللّه.

قيل: نزلت في شهداء بدر. و

قال الباقر عليه السّلام و كثير من المفسّرين: إنّها تتناول قتلى بدر و أحد معا. و الخطاب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أو لكلّ أحد.

و قرأ ابن عامر: قتّلوا بالتشديد، لكثرة المقتولين.

بَلْ هم أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذوو زلفى منه، كقوله: فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ «1» يُرْزَقُونَ من نعيم الجنّة مثل ما يرزق سائر الأحياء ممّا يأكلون و يشربون. و هو تأكيد لكونهم أحياء، و وصف لحالهم الّتي هم عليها من التنعّم برزق اللّه.

فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ و هو شرف الشهادة، و الفوز بالحياة الأبديّة، و القرب من اللّه بأنواع الكرامة، و التمتّع بنعيم الجنّة.

وَ يَسْتَبْشِرُونَ و يسرّون بالبشارة بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ بإخوانهم المجاهدين الذين لم يقتلوا فيلحقوا بهم مِنْ خَلْفِهِمْ أي: الّذين قد بقوا من خلفهم زمانا، أو الّذين لم يدركوا فضلهم و مراتبهم و منزلتهم أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ أي: يستبشرون بأن لا خوف

عليهم، لأنّه بدل الاشتمال من قوله:

«بِالَّذِينَ لَمْ يَلْحَقُوا بِهِمْ».

و معناه: لا خوف عليهم فيمن خلّفوه من ذرّيّتهم، لأنّ اللّه تعالى يتولّاهم، و لا هم يحزنون على ما خلّفوا من أموالهم، لأنّ اللّه تعالى قد أجزل ما عوّضهم. أو لا خوف عليهم في ما يقدمون عليه، لأنّ اللّه تعالى محّص ذنوبهم بالشهادة، و لا هم يحزنون على مفارقة الدنيا فرحا بالآخرة.

و ملخّص المعنى: أنّهم يسرّون بإخوانهم الّذين فارقوهم و هم أحياء في الدنيا على مناهجهم من الإيمان و الجهاد، لعلمهم بأنّهم إن استشهدوا أو ماتوا كانوا أحياء

______________________________

(1) فصّلت: 38.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 594

بحياة طيّبة، لا يكدّرها خوف وقوع محذور و حزن فوات محبوب.

و فيها حثّ على الجهاد، و ترغيب في الشهادة، و بعث على ازدياد الطاعة، و إحماد لمن يتمنّى لإخوانه مثل ما أنعم عليه، و بشرى للمؤمنين بالفلاح.

قال صاحب الأنوار: «و في الآية إشعار على أنّ الإنسان غير الهيكل المحسوس، بل هو جوهر مدرك بذاته لا يفنى بخراب البدن، و لا يتوقّف عليه إدراكه و تألّمه و التذاذه. و يؤيّد ذلك قوله تعالى في آل فرعون: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا «1» الآية. و

روي عن ابن عبّاس أنّه قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أرواح الشهداء في أجواف طير خضر، ترد أنهار الجنّة، و تأكل من ثمارها، و تأوي إلى قناديل معلّقة في ظلّ العرش» «2».

و أيضا

عن ابن عبّاس و ابن مسعود و جابر أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «لمّا أصيب إخوانكم بأحد جعل اللّه أرواحهم في حواصل طير خضر، ترد أنهار الجنّة، و تأكل من ثمارها».

و

روي عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال

لجعفر بن أبي طالب و قد استشهد في غزاة مؤتة:

«رأيته و له جناحان يطير بهما مع الملائكة في الجنّة».

و من أنكر ذلك و لم ير الروح إلا ريحا أو عرضا قال: هم أحياء يوم القيامة، و إنّما وصفوا في الحال لتحقّقه و دنوّه، أو أحياء بالذكر أو بالإيمان.

يَسْتَبْشِرُونَ كرّره للتوكيد، أو ليعلّق به ما هو بيان لقوله: «أَلَّا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ» من ذكر نعمة اللّه و فضله. و يجوز أن يكون الأول بحال إخوانهم، و هذا بحال أنفسهم. بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ ثوابا لأعمالهم وَ فَضْلٍ و زيادة عليه، كقوله تعالى:

لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَ زِيادَةٌ «3». و تنكيرهما للتعظيم. وَ أَنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُؤْمِنِينَ

______________________________

(1) المؤمن (غافر): 46.

(2) أنوار التنزيل 2: 53.

(3) يونس: 26.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 595

من جملة المستبشر به، عطف على «فضل»، أي: يوفّر جزاءهم.

و قرأ الكسائي بالكسر على أنه استئناف معترض دالّ على أنّ ذلك أجر لهم على إيمانهم، مشعر بأنّ من لا إيمان له أعماله محبطة و أجوره مضيّعة.

و اعلم أنّ ما ورد من الأخبار في ثواب الشهداء أكثر من أن يحصى، أعلاها إسنادا ما

رواه عليّ بن موسى الرضا عليه السّلام، عن آبائه، عن الحسين بن عليّ عليه السّلام قال: «بينما أمير المؤمنين عليه السّلام يخطب الناس و يحضّهم على الجهاد إذ قام إليه شابّ فقال:

يا أمير المؤمنين أخبرني عن فضل الغزاة في سبيل اللّه.

فقال عليه السّلام: كنت رديف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على ناقته العضباء و نحن منقلبون عن غزوة ذات السلاسل، فسألته عمّا سألتني عنه فقال:

إنّ الغزاة إذا همّوا بالغزو كتب اللّه لهم براءة من النار، فإذا تجهّزوا لغزوهم باهى اللّه بهم الملائكة، فإذا

ودّعهم أهلوهم بكت عليهم الحيطان و البيوت، و يخرجون من الذنوب كما تخرج الحيّة من سلخها، و يوكّل اللّه تعالى بكلّ رجل منهم أربعين ملكا يحفظونه من بين يديه و من خلفه و عن يمينه و عن شماله. و لا يعمل حسنة إلّا ضعّف له. و يكتب له كلّ يوم عبادة ألف رجل يعبدون اللّه ألف سنة، كلّ سنة ثلاثمائة و ستّون يوما، و اليوم مثل عمر الدنيا. و إذا صاروا بحضرة عدوّهم انقطع علم أهل الدنيا عن ثواب اللّه إيّاهم.

و إذا برزوا لعدوّهم، و أشرعت الأسنّة، و فوّقت السهام، و تقدّم الرجل إلى الرجل، حفّتهم الملائكة بأجنحتها، يدعون اللّه بالنصرة و التثبّت، فينادي مناد: الجنّة تحت ظلال السيوف، فتكون الطعنة و الضربة على الشهيد أهون من شرب الماء البارد في اليوم الصائف.

و إذا زال الشهيد من فرسه بطعنة أو ضربة لم يصل إلى الأرض حتى يبعث اللّه إليه زوجته من الحور العين، فتبشّره بما أعدّ اللّه له من الكرامة. فإذا وصل إلى الأرض تقول له الأرض: مرحبا بالروح الطيّب الّذي أخرج من البدن الطيّب، أبشر

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 596

فإنّ لك ما لا عين رأت، و لا أذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر.

و يقول اللّه عزّ و جلّ: أنا خليفته في أهله، من أرضاهم فقد أرضاني، و من أسخطهم فقد أسخطني.

و يجعل اللّه روحه في حواصل طير خضر تسرح في الجنّة حيث تشاء، تأكل من ثمارها، و تأوي إلى قناديل من ذهب معلّقة بالعرش.

و يعطى الرجل منهم سبعين غرفة من غرف الفردوس، سلوك كلّ غرفة ما بين صنعاء و الشام، يملأ نورها ما بين الخافقين، في كلّ غرفة سبعون بابا، على كلّ باب

سبعون مصراعا من ذهب، على كلّ باب سبعون مسبلة «1»، في كلّ غرفة سبعون خيمة، في كلّ خيمة سبعون سريرا من ذهب، قوائمها الدرّ و الزبرجد، مرمولة «2» بقضبان الزمرّد، على كلّ سرير أربعون فراشا، غلظ كلّ فراش أربعون ذراعا، على كلّ فراش زوجة من الحور العين عربا أترابا.

فقال: أخبرني يا أمير المؤمنين عن العروبة.

قال: هي الغنجة الرضيّة الشهيّة، لها سبعون ألف وصيف صفر الحلي بيض الوجوه، عليهنّ تيجان اللؤلؤ، على رقابهم المناديل، بأيديهم الأكوبة و الأباريق، فإذا كان يوم القيامة فو الّذي نفسي بيده لو كان الأنبياء على طريقهم لترجّلوا لهم، لما يرون من بهائهم، حتّى يأتوا إلى موائد من الجواهر فيقعدون عليها.

و يشفّع الرجل منهم في سبعين ألفا من أهل بيته و جيرانه، حتّى إن الجارين يتخاصمان أيّهما أقرب جوارا، فيقعدون معي و مع إبراهيم على مائدة الخلد، فينظرون إلى اللّه عزّ و جلّ في كلّ يوم بكرة و عشيّا».

روي أنّ أبا سفيان و أصحابه لمّا انصرفوا من أحد فبلغوا الروحاء ندموا و همّوا بالرجوع، فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ذلك بعد أن دخل هو و أصحابه

______________________________

(1) أي: سبعون سترا مرخاة، من: أسبل الستر، أرخاه.

(2) رمل السرير: زيّنه بالجوهر و نحوه. زبدة التفاسير، ج 1، ص: 597

المدينة، فأراد أن يريهم من نفسه و أصحابه قوّة، فندب أصحابه للخروج في طلبه و قال: لا يخرجنّ معنا إلّا من حضر يومنا بالأمس. فخرج عليه السّلام مع الجماعة حتى بلغوا حمراء الأسد، و هي على ثمانية أميال من المدينة، و كان بأصحابه القرح، فتحاملوا على أنفسهم حتّى لا يفوتهم الأجر، و ألقى اللّه تعالى الرعب على قلوب المشركين فذهبوا.

و

في

تفسير عليّ بن إبراهيم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «هل من رجل يأتينا بخبر القوم؟ فلم يجبه أحد.

فقال أمير المؤمنين عليه السّلام: أنا آتيك بخبرهم.

قال: اذهب فإن كانوا ركبوا الإبل و جنّبوا الخيل فإنّهم يريدون مكّة.

فمضى أمير المؤمنين عليه السّلام على ما به من الألم و الجراح حتى كان قريبا من القوم، فرآهم قد ركبوا الإبل و جنّبوا الخيل، فرجع و أخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بذلك.

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أرادوا مكّة.

[سورة آل عمران (3): الآيات 172 الى 174]

الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ (172) الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ فَزادَهُمْ إِيماناً وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ (173) فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ وَ اتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ (174)

فلمّا دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المدينة نزل جبرئيل و قال: يا محمد إنّ اللّه يأمرك أن تخرج و لا يخرج معك إلّا من به جراحة. فأقبلوا يضمّدون جراحاتهم

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 598

و يداوونها. فخرج عليه السّلام معهم على ما بهم من الألم و الجراح حتّى بلغوا حمراء الأسد» «1»، فنزلت: الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ مِنْ بَعْدِ ما أَصابَهُمُ الْقَرْحُ

أي:

نالهم الجراح يوم أحد. و هذا صفة للمؤمنين، أو نصب على المدح، أو مبتدأ خبره:

لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا مِنْهُمْ وَ اتَّقَوْا أَجْرٌ عَظِيمٌ بجملته، أي: لهم ثواب جزيل. و «من» للبيان، مثلها في قوله تعالى: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً «2». و المقصود

من ذكر الوصفين المدح و التعليل لا التقييد، لأنّ المستجيبين كلّهم متّقون.

الَّذِينَ قالَ لَهُمُ النَّاسُ يعني: الركب الّذي استقبلهم من عبد قيس أو نعيم بن مسعود الأشجعي. و أطلق عليه الناس لأنّه من جنسهم، كما يقال: فلان يركب الخيل و ماله إلا فرس واحد، أو لأنّه انضمّ إليه ناس من المدينة و أذاعوا كلامه. إِنَّ النَّاسَ قَدْ جَمَعُوا لَكُمْ فَاخْشَوْهُمْ يعني: أبا سفيان و أصحابه.

روي أنّه نادى عند انصرافه من أحد: يا محمّد موعدنا موسم بدر القابل إن شئت. فقال عليه السّلام: إن شاء اللّه. فلمّا كان القابل خرج أبو سفيان في أهل مكّة حتّى نزل بمرّ «3» الظهران، فأنزل اللّه تعالى الرعب في قلبه، و بدا له أن يرجع، فمرّ به ركب من عبد قيس يريدون المدينة للميرة «4»، فشرط لهم حمل بعير من زبيب إن ثبّطوا «5» المسلمين.

و

قال صاحب الجامع: «لقي أبو سفيان نعيم بن مسعود و قد قدم معتمرا، فقال: يا نعيم إنّي و أعدت محمدا أن نلتقي بموسم بدر، و أنّ هذا عام جدب، و لا

______________________________

(1) تفسير علي بن إبراهيم 1: 124- 125.

(2) الفتح: 29.

(3) في هامش الخطّية: «مرّ الظهران اسم موضع يسمّيه أهل مكّة بوادي مرّ. منه».

(4) في هامش الخطّية: «الميرة: الطعام الذي يؤتى من موضع إلى آخر للبيع أو لأجل العيال.

منه».

(5) ثبّطه عن الأمر: عوّقه و شغله عنه. زبدة التفاسير، ج 1، ص: 599

يصلحنا إلّا عام نرعى فيه الشجر و نشرب فيه اللبن، و قد بدا لي أن لا أخرج إليها، و أكره أن يخرج محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فالحق بالمدينة و ثبّطهم و لك عندي عشر من الإبل.

فخرج نعيم فوجد المسلمين يتجهّزون فقال: ما هذا

بالرأي أتوكم في دياركم فلم يفلت منكم أحد إلّا شريدا، فتريدون أن تخرجوا و قد جمعوا لكم عند الموسم، فو اللّه لا يفلت منكم أحد. فقال النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و الّذي نفسي بيده لأخرجنّ و إن لم يخرج معي أحد، فخرج في سبعين راكبا و هم يقولون: حسبنا اللّه و نعم الوكيل» «1».

فَزادَهُمْ إِيماناً الضمير المستكن للمقول، أو لمصدر «قال»، أو لفاعله إن أريد به نعيم وحده. و البارز للمقول لهم. و المعنى: أنّهم لم يلتفتوا إلى هذا القول و لم يضعفوا، بل ثبت به يقينهم باللّه، و ازداد إيمانهم، و أظهروا حميّة الإسلام، و أخلصوا النيّة عنده. و زيادة الإيمان ظاهر إن جعل الطاعة من جملته. و إن لم نجعلها منه فالمراد أنّ اليقين يزداد بالإلف و كثرة التأمّل، و تناصر الحجج، و مشاهدة كثرة البيّنات، كزيادة اطمئنان القلب و الاعتقاد، و بضمّ المشاهد بالشواهد في قول إبراهيم عليه السّلام: وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي «2».

وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ محسبنا و كافينا، من: أحسبه إذا كفاه. و يدلّ على أنّه بمعنى المحسب أنّه لا يستفيد بالإضافة تعريفا في قولك: هذا رجل حسبك، لأنّ إضافته لكونه في معنى اسم الفاعل غير حقيقيّة. وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ و نعم الموكول إليه هو.

فَانْقَلَبُوا فرجعوا من بدر بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ عافية و سلامة و ثبات على الإيمان وَ فَضْلٍ و ربح في التجارة، فإنّهم لمّا أتوا بدرا، و كانت موضع سوق لهم في الجاهليّة يجتمعون إليها في كلّ عام ثمانية أيّام، فأقاموا بها ثمان ليال ينتظرون أبا سفيان، و قد انصرف أبو سفيان فرجع إلى مكّة، فسمّى أهل مكّة جيشه جيش

______________________________

(1) جوامع الجامع 1:

259- 260.

(2) البقرة: 260.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 600

زبدة التفاسير ج 1 628

السويق، و قالوا: إنّما خرجتم لتشربوا السويق. و لم يلق رسول اللّه و أصحابه أحدا من المشركين ببدر، و وافقوا السوق، و كانت معهم أموال التجارة، فباعوها فاتّجروا و أصابوا للدرهم درهمين، فربحوا ربحا كثيرا، و أصابوا خيرا، ثمّ انصرفوا إلى المدينة سالمين غانمين.

لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ من جراحة وكيد عدوّ وَ اتَّبَعُوا رِضْوانَ اللَّهِ الّذي هو مناط الفوز بخير الدارين بجرأتهم و خروجهم وَ اللَّهُ ذُو فَضْلٍ عَظِيمٍ قد تفضّل عليهم بالتثبيت بالإيمان و تقويته، و التوفيق للمبادرة إلى الجهاد، و التصلّب في الدين، و إظهار الجرأة على العدوّ، و بالحفظ عن كلّ ما يسوؤهم، و إصابة النفع مع ضمان الأجر، حتّى انقلبوا بنعمة منه و فضل، و رجع أبو سفيان إلى مكّة خائبا خاسرا.

و فيه تحسير للمتخلّف، و تخطئة رأيه، حيث حرّم نفسه ما فازوا به، و تنبيه على أنّ كل من دهمه «1» أمر فينبغي أن يفزع إلى هذه الكلمة، أعني: حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ و

قد صحّت الرواية عن الصادق عليه السّلام قال: «عجبت لمن خاف كيف لا يفزع إلى قوله تعالى: حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ ! فإنّي سمعت اللّه يقول بعقبها:

«فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ».

و

روي عن ابن عبّاس قال: «آخر كلام إبراهيم عليه السّلام حين ألقي في النار:

«حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ». و قال نبيّكم مثل هذا، و تلا هذه الآية».

[سورة آل عمران (3): آية 175]

إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ فَلا تَخافُوهُمْ وَ خافُونِ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (175)

ثمّ ذكر سبحانه أنّ ذلك التخويف و التثبيط عن الجهاد من عمل الشيطان،

______________________________

(1) دهمه أمر: فاجأه أمر عظيم.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 601

فقال: إِنَّما ذلِكُمُ الشَّيْطانُ يريد

بالإشارة المثبّط نعيما أو أبا سفيان. و «الشيطان» خبر «ذلكم»، و ما بعده جملة مستأنفة بيان لشيطنته. أو صفته، و ما بعده خبر.

و يجوز أن يكون على تقدير حذف المضاف، بمعنى: إنّما ذلكم قول الشيطان، أي:

قول إبليس لعنه اللّه يُخَوِّفُ أَوْلِياءَهُ القاعدين عن الخروج مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. أو المعنى: يخوّفكم أولياءه الّذين هم أبو سفيان و أصحابه.

فَلا تَخافُوهُمْ الضمير للناس الثاني على الأوّل، و إلى الأولياء على الثاني وَ خافُونِ في مخالفة أمري، فجاهدوا مع رسولي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإنّ الإيمان يقتضي إيثار خوف اللّه تعالى على خوف الناس.

[سورة آل عمران (3): الآيات 176 الى 178]

وَ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً يُرِيدُ اللَّهُ أَلاَّ يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا فِي الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (176) إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (177) وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (178)

و لمّا علّم اللّه سبحانه المؤمنين ما يصلحهم عند تخويف الشيطان إيّاهم، خصّ رسوله بضرب من التعليم، فقال: وَ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ يقعون في الكفر سريعا حرصا عليه. و هم المنافقون من المتخلّفين، أو قوم ارتدّوا عن الإسلام. و المعنى: لا يحزنك خوف أن يضرّوك و يعينوا عليك، لقوله: إِنَّهُمْ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً أي: لن يضرّوا أولياء اللّه شيئا بمسارعتهم

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 602

في الكفر، و إنّما يضرّون بها أنفسهم. و نصب «شيئا» بالمفعوليّة أو المصدريّة.

ثمّ بيّن كيف يعود وبال الكفر عليهم بقوله: يُرِيدُ اللَّهُ أَلَّا يَجْعَلَ لَهُمْ حَظًّا نصيبا من الثواب فِي الْآخِرَةِ لتمادي طغيانهم، و

قوّة رسوخهم في الكفر. و في ذكر إرادة اللّه هنا إشعار بأنّ كفرهم بلغ الغاية حين سارعوا إلى الكفر، حتّى إنّ أرحم الراحمين أراد أن لا يرحمهم، فلا يكون لهم حظّ في الآخرة من رحمته.

و لهذا الاشعار لم يقل: لن يجعل اللّه لهم حظّا في الآخرة. وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ مع الحرمان عن الثواب.

و فيه دلالة على بطلان مذهب المجبّرة، لأنّه سبحانه نسب إليهم المسارعة إلى الكفر، و إذا كان اللّه قد خلق الكفر فيهم فكيف يصحّ نسبته إليهم؟! ثمّ استأنف سبحانه الإخبار بإبدالهم الكفر بالإيمان، فقال: إِنَّ الَّذِينَ اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ تكرير للتأكيد، أو تعميم للكفرة بعد تخصيص من نافق من المتخلّفين أو ارتدّ من الأعراب. و نصب «شيئا» على المصدر، لأنّ المعنى: شيئا من الضرر.

ثمّ بيّن سبحانه أنّ إمهال الكفّار لا ينفعهم إذا كان يؤدّي إلى العقاب لا الإهمال، فقال خطابا للرسول أو لكلّ من يحسب: وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ

«الّذين» مفعول، و «أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ» بدل منه. و إنّما اقتصر على مفعول واحد للتعويل على البدل، فإنّه ينوب عن المفعولين، كقوله: أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ «1». أو المفعول الثاني على تقدير مضاف، مثل: و لا تحسبنّ الّذين كفروا أصحاب أنّ الإملاء خير لأنفسهم. أو لا تحسبنّ حال الّذين كفروا أنّ الإملاء خير

______________________________

(1) الفرقان: 44.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 603

لأنفسهم. و «ما» مصدريّة، و كان حقّها أن تفصل في الخطّ، و لكنّها وقعت متّصلة في الامام فاتّبع.

و قرأ ابن كثير و نافع و ابن عامر و أبو عمرو و عاصم و الكسائي و يعقوب بالياء، على أنّ «الّذين» فاعل،

و «أنّ» مع ما في حيّزه مفعول. و فتح ابن عامر و حمزة و عاصم سينه في جميع القرآن.

و الإملاء: الإمهال و إطالة العمر. و قيل: تخليتهم و شأنهم، من: أملى لفرسه، إذا أرخى له الطول «1» ليرعى كيف يشاء.

و معنى الآية: لا يظنّنّ الكفّار أنّ إطالتنا لأعمارهم و إمهالنا إيّاهم خير لهم من القتل في سبيل اللّه بأحد، لأنّ قتل الشهداء أدّاهم إلى الجنّة، و بقاء هؤلاء في الكفر يؤدّيهم إلى العقاب.

إِنَّما نُمْلِي لَهُمْ لِيَزْدادُوا إِثْماً استئناف بما هو العلّة. و «ما» كافّة حقّها أن تكتب متّصلة. و اللام لام العاقبة. فازدياد الإثم علّة غائيّة للإملاء، أي: ليكون عاقبة أمرهم ازدياد الإثم.

و مثله قوله تعالى: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً «2»، فإنّهم إنّما أخذوه ليكون لهم سرورا و قرّة عين، و لكن لمّا علم اللّه أنّه يصير في آخر أمره عدوّا و حزنا قال كذلك.

و هاهنا أيضا لمّا كان في علم اللّه أنّهم يزدادون إثما ظنّ الكفّار أنّ الإملاء لهم خير، و لكن لمّا علم اللّه أن آخر أمرهم يصير موجبا لازدياد إثمهم قال كذلك.

و مثله: وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ «3»، أي: ذرأنا كثيرا من الخلق سيصيرون إلى جهنّم بسوء أفعالهم. و قد يقول الرجل لغيره و قد نصحه فلم

______________________________

(1) طوّل للدابّة: أرخى لها الحبل في المرعى.

(2) القصص: 8.

(3) الأعراف: 179.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 604

يقبل نصحه: ما زادك نصحي إلّا شرّا و وعظي إلّا فسادا.

و نظيره قوله تعالى: حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي «1». و معلوم انّ الرسل ما أنسوهم ذكر اللّه على الحقيقة، و ما بعثوا إلّا للتذكير و التنبيه دون الإنساء. مع أنّ الإنساء ليس

من فعلهم فلا يجوز إضافته إليهم، و لكنّه إنّما أضيف إليهم لأن دعاءه إيّاهم لمّا كان لا ينجع «2» فيهم، و لا يردّهم عن معاصيهم، فأضيف الإنساء إليهم.

و على هذا المعنى قوله تعالى حكاية عن نوح: فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً «3».

و مثله في قول الشاعر:

أموالنا لذوي الميراث نجمعهاو دورنا لخراب الدهر نبنيها

و أيضا مثله:

فللموت تغذوا الوالدات سخالهاكما لخراب الدهر تبنى المساكن

و قول الآخر:

أ أمّ سماك فلا تجزعي فللموت ما تلد الوالدة

و مثله:

لدوا للموت و ابنوا للخراب و لا يجوز أن يكون اللام لام الإرادة و الغرض كما زعمت الأشاعرة، لأنّ إرادة القبيح قبيحة، و اللّه تعالى منزّه عنها. و لأنّه لو كانت لام الإرادة لوجب أن يكون الكفّار مطيعين للّه سبحانه من حيث فعلوا ما وافق إرادته، و ذلك خلاف الإجماع، و قد قال اللّه تعالى: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «4».

______________________________

(1) المؤمنون: 110.

(2) أي: لا يؤثر.

(3) نوح: 6.

(4) الذاريات: 56.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 605

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ «1». وَ ما أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ «2».

وَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ يهينهم في نار جهنّم.

[سورة آل عمران (3): آية 179]

ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ مَنْ يَشاءُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ (179)

روي أنّ المؤمنين سألوا أن يعطوا علامة يفرّقون بها بين المؤمن و المنافق، فنزلت: ما كانَ اللَّهُ لِيَذَرَ الْمُؤْمِنِينَ أي: ليدعهم عَلى ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ من الإبهام و اشتباه المخلص بالمنافق، أي: لم يكن يجوز في حكم

اللّه أن يذرهم على ما كنتم عليه قبل مبعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، بل يتعبّدكم حَتَّى يَمِيزَ الْخَبِيثَ الكافر و المنافق مِنَ الطَّيِّبِ من المؤمن.

و الخطاب لعامّة المخلصين و المنافقين في عصره. و اللام لتأكيد النفي، كأنّه قيل: ما كان اللّه ليذر المخلصين منكم على الحال الّتي أنتم عليها- من اختلاط بعضكم ببعض، و أنّه لا يعرف مخلصكم من منافقكم، لاتّفاقكم على التصديق جميعا- حتّى يميز المنافق من المخلصين، بالوحي إلى نبيّه بأحوالكم، أو بالتكاليف الشاقّة الّتي لا يصبر عليها و لا يذعن لها إلّا الخلّص المخلصون منكم، كبذل الأموال و الأنفس في سبيل اللّه، ليختبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم به بواطنكم، و يستدلّ به على عقائدكم.

و قرأ حمزة: يميّز من: ميّز، و الباقون: يميز من: ماز.

______________________________

(1) النساء: 64.

(2) البيّنة: 5.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 606

روي أنّ الكفرة قالوا: إن كان محمد صادقا فليخبرنا من يؤمن منّا و من يكفر، فنزلت: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُطْلِعَكُمْ عَلَى الْغَيْبِ و ما كان اللّه ليؤتي أحدكم علم الغيب، فيطّلع على ما في القلوب من كفر و إيمان، فلا تظنّوا إذا أخبركم النبيّ بنفاق الرجل أنّه يطّلع على ما في القلوب بنفسه وَ لكِنَّ اللَّهَ يَجْتَبِي مِنْ رُسُلِهِ أي: يختار لرسالته مَنْ يَشاءُ و يخبره ببعض المغيّبات، أو ينصب له ما يدلّ عليها.

فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ بصفة الإخلاص، أو بأن تعلموا اللّه وحده مطّلعا على الغيب، و تعلموا رسله عبادا مجتبين لا يعلمون إلّا ما علّمهم اللّه تعالى، و لا يقولون إلّا ما أوحي إليهم.

عن السدّي: أنّ هذه الآية نزلت إذ قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: عرضت

عليّ أمّتي، و أعلمت من يؤمن بي و من يكفر.

فقال المنافقون: إنّه يزعم أنّه يعرف من يؤمن به و من يكفر، و نحن معه و لا يعرفنا.

وَ إِنْ تُؤْمِنُوا حقّ الإيمان وَ تَتَّقُوا النفاق فَلَكُمْ أَجْرٌ عَظِيمٌ لا يقادر قدره.

[سورة آل عمران (3): آية 180]

وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ هُوَ خَيْراً لَهُمْ بَلْ هُوَ شَرٌّ لَهُمْ سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (180)

و لمّا ذكر سبحانه إمساكهم عن الجهاد في سبيل اللّه، بيّن إمساكهم عن الإنفاق الواجب في سبيله، فقال: وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ بما أعطاهم من الأموال هُوَ خَيْراً لَهُمْ قد سبقت القراءات فيه. و من قرأ بالتاء هاهنا قدّر مضافا ليتطابق مفعولاه، أي: و لا تحسبنّ بخل الّذين يبخلون هو خيرا لهم.

و كذلك من قرأ بالياء، و جعل فاعل «يحسبنّ» ضمير رسول اللّه، أو ضمير أحد.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 607

و من جعل فاعله «الَّذِينَ يَبْخَلُونَ» كان المفعول الأول عنده محذوفا تقديره: لا يحسبنّ الّذين يبخلون بخلهم هو خيرا لهم، و إنّما حذف لدلالة «يبخلون» عليه.

و لفظ «هو» فصل.

بَلْ هُوَ أي: البخل شَرٌّ لَهُمْ لاستجلاب العقاب عليهم. و قوله:

سَيُطَوَّقُونَ ما بَخِلُوا بِهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ تفسير و بيان لقوله: «هُوَ شَرٌّ لَهُمْ» أي:

سيلزمون وبال ما بخلوا به إلزام الطوق. و في أمثال العرب: تقلّدها طوق الحمامة إذا فعل فعلة يذمّ بها.

و قيل:

يجعل ما بخل به من الزكاة حيّة يطوّقها في عنقه يوم القيامة، تنهشه من قرنه إلى قدمه، و تنقر رأسه و تقول: أنا مالك.

و هذا قول ابن عبّاس و ابن مسعود و السدّي و الشعبي و

غيرهم. و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

و

قد روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «ما من رجل لا يؤدّي زكاة ماله إلّا جعل اللّه له شجاعا «1» في عنقه يوم القيامة، ثمّ تلا هذه الآية».

و

قال عليه السّلام: «ما من ذي رحم يأتي ذا رحمه يسأله من فضل أعطاه اللّه إيّاه، فيبخل به عنه، إلّا أخرج اللّه له من جهنّم شجاعا أقرع يتلمّظ «2» بلسانه حتى يطوّقه، و تلا هذه الآية».

و عن النخعي معناه: يجعل في عنقه يوم القيامة طوقا من نار جهنّم.

و روي عن ابن عبّاس: أنّ المراد بالآية الّذين يبخلون ببيان صفة محمد، و الفضل هو التوراة الّتي فيها صفته. و الأوّل أليق بسياق الآية.

وَ لِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و له ما فيهما ممّا يتوارث، فما لهؤلاء يبخلون عليه بما له، و لا ينفقون في سبيله؟! أو أنّه يرث منهم ما يمسكونه و لا ينفقونه في سبيله بهلاكهم، و تبقى عليهم الحسرة و العقوبة. وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من

______________________________

(1) الشجاع: ضرب من الحيّات.

(2) تلمّظت الحيّة: أخرجت لسانها.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 608

المنع و الإعطاء خَبِيرٌ فيجازيكم.

و قرأ نافع و ابن عامر و عاصم و حمزة و الكسائي بالتاء على الالتفات. و هو ابلغ في الوعيد، و بالياء أظهر.

[سورة آل عمران (3): الآيات 181 الى 182]

لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ سَنَكْتُبُ ما قالُوا وَ قَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ نَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (181) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (182)

روي أنّه لمّا نزلت: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً «1» قالت اليهود: إنّ اللّه فقير يستقرض منّا و نحن أغنياء.

و قيل: قائله حييّ بن أخطب. فنزلت: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ ذو حاجة، لأنّه يستقرض منّا وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ عن الحاجة، و قد علموا أنّ اللّه لا يطلب القرض، و إنّما ذلك تلطّف في الاستدعاء إلى الإنفاق، و إنّما قالوه تلبيسا على عوامهم.

و قيل: معناه: انّ اللّه فقير، لأنّه يضيّق علينا الرزق، و نحن الأغنياء، لأنّا نوسّع الرزق على أهالينا.

و قيل: كتب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كتابة أرسلها مع أبي بكر إلى يهود بني قينقاع يدعوهم إلى الإسلام و إقام الصلاة و إيتاء الزكاة، و أن يقرضوا اللّه قرضا حسنا.

فدخل أبو بكر بيتا من مدارسهم، فوجد ناسا كثيرا منهم اجتمعوا إلى رجل منهم يقال له فنحاص بن عازورا، فدعاهم إلى الإسلام و الصلاة و الزكاة. فقال فنحاص:

إن كان ما يقول حقّا فإنّ اللّه إذا لفقير و نحن أغنياء، و لو كان غنيّا لما استقرضنا أموالنا. فغضب أبو بكر فلطم على وجه فنحاص، و قال: لو لا الّذي بيننا و بينكم من

______________________________

(1) البقرة: 245.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 609

العهد لضربت عنقك. فشكاه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و جحد ما قاله، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.

و معنى سماع اللّه له: أنّه لم يخف عليه ما قالوا، و أنّه أعدّ لهم العقاب عليه.

سَنَكْتُبُ ما قالُوا سنكتبه في صحائف الحفظة، أو نثبته في علمنا و لا نهمله، و لن يفوتنا إثباته، لأنّه كلمة عظيمة، إذ هو كفر باللّه و استهزاء بالقرآن و الرسول، و لذلك نظمه في سلك قتل الأنبياء، و قال عطفا على ما قالوا: وَ قَتْلَهُمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ يعني: أنّهما في

العظم أخوان، و أنّ هذا ليس بأوّل ما ركبوه من العظائم، و أنّ من قتل الأنبياء لم يستبعد منه الاجتراء على مثل هذا القول.

و المعنى: سنكتب قتل أسلافهم الأنبياء و رضا هؤلاء، فنجازي كلّا بفعله.

و فيه دلالة على أنّ الرضا بفعل القبيح يجري مجراه في عظم الجرم.

وَ نَقُولُ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي: و ننتقم منهم، بأن نقول لهم يوم القيامة:

ذوقوا العذاب المحرق.

و قرأ حمزة: «سيكتب» بالياء و ضمّها و فتح التاء، «و قتلهم» بالرفع، و «يقول» بالياء. و فيه مبالغات في الوعيد.

و الذوق إدراك الطعوم، و على الاتّساع يستعمل لإدراك سائر المحسوسات و الحالات.

ذلِكَ إشارة إلى العذاب بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ من قتل الأنبياء، و قولهم هذا، و سائر معاصيهم. عبّر بالأيدي عن الأنفس، لأنّ أكثر أعمالها بهنّ، فجعل كلّ عمل كالواقع بالأيدي على التغليب وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ عطف على ما قدّمت. و سببيّته للعذاب من حيث إنّ نفي الظلم يستلزم العدل المقتضي إثابة المحسن و معاقبة المسي ء. فالمعنى: أنّه عادل عليهم، فيعاقبهم على حسب استحقاقهم. و إنّما ذكر لفظ ظلّام و هو للتكثير، تأكيدا لنفي الظلم عنه بالنسبة إلى كلّ فرد من أفراد خلقه.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 610

[سورة آل عمران (3): الآيات 183 الى 184]

الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أَلاَّ نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ قُلْ قَدْ جاءَكُمْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي بِالْبَيِّناتِ وَ بِالَّذِي قُلْتُمْ فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (183) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَ الزُّبُرِ وَ الْكِتابِ الْمُنِيرِ (184)

قيل: قال جماعة من اليهود، منهم كعب بن الأشرف، و مالك بن الضيف، و وهب بن يهودا، و حييّ، و فنحاص بن عازورا: يا محمد إنّ اللّه عهد إلينا في

التوراة أن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بقربان تأكله النار، فإن زعمت أنّ اللّه بعثك إلينا فجئنا به نصدّقك، فنزلت: الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ عَهِدَ إِلَيْنا أمرنا في التوراة و أوصانا أَلَّا نُؤْمِنَ لِرَسُولٍ حَتَّى يَأْتِيَنا بِقُرْبانٍ تَأْكُلُهُ النَّارُ بأن لا نؤمن لرسول حتى يأتينا بهذه المعجزة الخاصّة الّتي كانت لأنبياء بني إسرائيل، و ذلك بأن يقرّب بقربان، فيقوم النبيّ فيدعو، فتنزل نار سماويّة فتأكله، أي: تحيله إلى طبعها بالإحراق.

و هذا من مفترياتهم و أباطيلهم، لأنّ أكل النار القربان لم يوجب الإيمان إلّا لكونه معجزة، فهو و سائر المعجزات سواء في ذلك.

قُلْ يا محمد تكذيبا و إلزاما عليهم قَدْ جاءَكُمْ أي: أسلافكم رُسُلٌ مِنْ قَبْلِي كزكريّا و يحيى بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الأخر، موجبة لتصديقهم و صحّة رسالتهم وَ بِالَّذِي قُلْتُمْ و بما اقترحتموه من القربان فَلِمَ قَتَلْتُمُوهُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أي: فلو كان الموجب للتصديق هو الإتيان به، و كان توقّفهم و امتناعهم عن الإيمان لأجله، فما لهم لم يؤمنوا بمن جاء به في معجزات أخر و اجترأوا على قتله.

و فيه دلالة على عنادهم، و على أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لو أتاهم بالقربان المتقبّل كما

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 611

أرادوه لم يؤمنوا به، كما لم يؤمن آباؤهم بالأنبياء و الّذي أتوا به و بغيره من المعجزات. و إنّما لم يقطع اللّه سبحانه عذرهم بما سألوه من القربان الّذي تأكله النار، لعلمه سبحانه بأنّ في الإتيان به مفسدة لهم، و المعجزات تابعة للمصالح، و لأنّ ذلك اقتراح في الأدلّة على اللّه، و الّذي يلزم على اللّه أن يزيح عنهم العلّة بنصب الأدلّة فقط.

ثم قال تسلية لرسوله من تكذيب اليهود و قومه: فَإِنْ كَذَّبُوكَ

فَقَدْ كُذِّبَ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ جاؤُ بِالْبَيِّناتِ وَ الزُّبُرِ وَ الْكِتابِ الْمُنِيرِ أي: لست بأوّل مكذّب، بل كذّب قبلك رسل أتوا بالمعجزات الباهرة.

و الزبر جمع زبور، و هو الكتاب الجامع للحكم و المواعظ و الزواجر، من:

زبرت الشي ء إذا حبسته و زجرته. و الكتاب في عرف القرآن ما يتضمّن الشرائع و الأحكام، و لذلك جاء الكتاب و الحكمة متعاطفين في عامّة القرآن. و المنير الّذي ينير الحقّ لمن اشتبه عليه.

و قرأ ابن عامر: و بالزبر، بإعادة الجارّ، للدلالة على أنّها مغايرة للبيّنات بالذات.

[سورة آل عمران (3): آية 185]

كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَ إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ وَ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (185)

ثم بيّن سبحانه أنّ مرجع الخلق إليه، فيجازي المكذّبين رسله على أعمالهم من حيث حتم الموت على جميع خلقه، فقال: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وعد و وعيد للمصدّق و المكذّب. و المراد بالموت هاهنا انتفاء الحياة، و القتيل قد انتفت الحياة منه، فهو داخل في الآية وَ إِنَّما تُوَفَّوْنَ أُجُورَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تعطون جزاء أعمالكم، خيرا كان أو شرّا، تامّا وافيا يوم قيامكم من القبور. و لفظ التوفية يشعر

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 612

بأنّه قد يكون قبلها بعض الأجور. و يؤيّده

قوله عليه السّلام: «القبر روضة من رياض الجنّة، أو حفرة من حفر النيران».

فالمراد أنّ تكميل الأجور و توفيتها يكون ذلك اليوم.

فَمَنْ زُحْزِحَ عَنِ النَّارِ نجّي و بعّد عنها. و الزحزحة في الأصل تكرير الزحّ، و هو الجذب بعجلة. وَ أُدْخِلَ الْجَنَّةَ فَقَدْ فازَ بالنجاة من الهلكة و نيل المراد. و الفوز الظفر بالبغية.

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من أحبّ أن يزحزح عن النار

و يدخل الجنّة، فلتدركه منيّته و هو يؤمن باللّه و اليوم الآخر، و يأتي إلى الناس ما يحبّ أن يؤتى إليه».

و هذا شامل للمحافظة على حقوق اللّه و حقوق العباد.

وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا أي: لذّاتها و زخارفها إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ شبّهها بالمتاع الردي ء الّذي يدلّس به على المستام حتى يشتريه ثم يتبيّن له رداءته. و المدلّس هو الشيطان. و هذا لمن آثرها على الآخرة، فأمّا من طلب بها الآخرة فهي له متاع بلاغ. و الغرور مصدر، أو جمع غارّ.

و في الآية دلالة على أنّ أقلّ نعيم من الآخرة خير من نعيم الدنيا بأسره، و لذلك

قال عليه السّلام: «موضع سوط في الجنّة خير من الدنيا و ما فيها».

و فيها دلالة على أنّ كلّ حيّ سيموت.

[سورة آل عمران (3): آية 186]

لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ وَ لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (186)

ثمّ بيّن أنّ الدنيا دار محنة و ابتلاء، و أنّها إنّما زويت «1» عن المؤمنين ليصبروا

______________________________

(1) أي: صرفت.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 613

فيؤجروا، فقال: لَتُبْلَوُنَ أي: و اللّه لتختبرنّ، و توقع عليكم المحن، و تلحقكم الشدائد فِي أَمْوالِكُمْ بتكليف الإنفاق، و ما يصيبها من الآفات وَ أَنْفُسِكُمْ بالجهاد و القتل و الأسر و الجراح، و ما يرد عليها من المخاوف و الأمراض و المتاعب.

و إنّما سمّي ذلك بلوى مجازا، فإنّ حقيقة البلوى الاختبار. و التجربة لا يجوز على اللّه تعالى، لأنّه العالم بالأشياء قبل كونها، و إنّما يفعل ذلك ليتميّز المحقّ عن المبطل.

وَ لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ يعني: اليهود و النصارى وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا يعني: كفّار مكّة و

غيرهم أَذىً كَثِيراً من هجاء الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الطعن في الإسلام، و إغراء الكفرة على المسلمين. أخبرهم بذلك قبل وقوعها ليوطّنوا أنفسهم على ما سيلقونه من الأذى و الشدائد و الصبر عليها، و يستعدّوا للقائها حتّى لا يزلزلهم نزولها.

وَ إِنْ تَصْبِرُوا على ذلك و لم تجزعوا وَ تَتَّقُوا مخالفة أمر اللّه فَإِنَّ ذلِكَ يعني: الصبر و التقوى مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ من معزومات الأمور الّتي يجب العزم عليها، أو ذلك البلاء من محكم الأمور الّذي عزم اللّه عليه أن يكون و بالغ فيه.

و العزم في الأصل ثبات الرأي على الشي ء، نحو إمضائه.

قيل: نزلت هذه الآية في كعب بن الأشرف، و كان يهجو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنين، و يحرّض المشركين عليهم، و يشبّب بنساء المسلمين. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من لي بابن الأشرف؟ فقال محمد بن سلمة: أنا يا رسول اللّه. فخرج هو و أبو نائلة مع جماعة فقتلوه غيلة، و أتوا برأسه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آخر الليل و هو قائم يصلّي.

[سورة آل عمران (3): آية 187]

وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ فَنَبَذُوهُ وَراءَ ظُهُورِهِمْ وَ اشْتَرَوْا بِهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ (187)

ثم أكّد اللّه على أهل الكتاب إيجاب بيان الكتاب و اجتناب كتمانه، من

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 614

صفات النبيّ و غيرها، فقال: وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ أي: اذكر وقت أخذه مِيثاقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ يريد به علماءهم لَتُبَيِّنُنَّهُ لِلنَّاسِ وَ لا تَكْتُمُونَهُ حكاية لمخاطبتهم. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و عاصم في رواية ابن عيّاش بالياء، لأنّهم

غيّب. و اللام جواب القسم الّذي ناب عنه قوله: «أخذ اللّه ميثاق الّذين». و الضمير المنصوب في الفعلين للكتاب.

فَنَبَذُوهُ أي: الميثاق وَراءَ ظُهُورِهِمْ فلم يراعوه، و لم يلتفتوا إليه، و لم يعلموا به. و النبذ وراء الظهر مثل في ترك الاعتداد و عدم الالتفات، و نقيضه جعله نصب عينيه، و ألقاه بين عينيه. وَ اشْتَرَوْا بِهِ و أخذوا بدله ثَمَناً قَلِيلًا من حطام الدنيا و أغراضها فَبِئْسَ ما يَشْتَرُونَ يختارون لأنفسهم.

و فيه دلالة على أنّه واجب على العلماء أن يبيّنوا الحقّ للناس، و لا يكتموا شيئا منه لغرض فاسد، من جرّ منفعة، أو لبخل بالعلم، أو تطييب لنفس ظالم، أو غير ذلك. و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من كتم علما عن أهله ألجم بلجام من نار».

و

روي الثعلبي في تفسيره بإسناده عن الحسن بن عمارة قال: «أتيت الزهري بعد أن ترك الحديث فألفيته على بابه، فقلت: إن رأيت أن تحدّثني؟ فقال: أما علمت أنّي تركت الحديث؟ فقلت: إمّا أن تحدّثني، و إمّا أن أحدّثك. فقال:

حدّثني. فقلت: حدّثني الحكم بن عيينة، عن نجم الجزّار، قال: سمعت عليّ بن أبي طالب يقول: ما أخذ اللّه على أهل الجهل أن يتعلّموا حتى أخذ على أهل العلم أن يعلّموا. قال: فحدّثني أربعين حديثا».

و عن محمد بن كعب: لا يحلّ لأحد من العلماء أن يسكت على علمه، و لا يحلّ لجاهل أن يسكت على جهله حتى يسأل.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 615

[سورة آل عمران (3): الآيات 188 الى 189]

لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا وَ يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (188) وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (189)

روي

أنّه عليه السّلام سأل اليهود عن شي ء ممّا في التوراة من نعته فأخبروه بخلاف ما كان فيها، و أروه أنّهم قد صدّقوه، و فرحوا بما فعلوا، فأنزل اللّه فيهم خاطبا لرسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا تَحْسَبَنَ يا محمّد الَّذِينَ يَفْرَحُونَ بِما أَتَوْا بما فعلوا من التدليس و كتمان الحقّ. و هذا الموصول أوّل المفعولين وَ يُحِبُّونَ أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا من الوفاء بالميثاق، و إظهار الحقّ، و الإخبار بالصدق فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ تأكيد للفعل الأول بِمَفازَةٍ بمنجاة، ثاني المفعولين، يعني: فائزين بالنجاة منه مِنَ الْعَذابِ

و قرأ ابن كثير و أبو عمرو بالياء و فتح الباء في الأوّل و ضمّها في الثاني، على أنّ «الّذين» فاعل، و مفعولا «يحسبنّ» محذوفان يدلّ عليهما مفعولا مؤكّده. فكأنّه قيل: و لا يحسبنّ الّذين يفرحون بما أتوا، فلا يحسبنّ أنفسهم بمفازة. أو المفعول الأوّل محذوف، و قوله «فلا يحسبنّهم» تأكيد للفعل و فاعله و مفعوله الأوّل.

وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بكفرهم و تدليسهم.

و قيل: نزلت هذه الآية في قوم تخلّفوا عن الغزو، ثم اعتذروا بأنّهم رأوا المصلحة في التخلّف و استحمدوا به.

و قيل: نزلت في المنافقين، فإنّهم يفرحون بنفاقهم، و يستحمدون إلى المسلمين بالايمان الّذي لم يفعلوه على الحقيقة.

و يجوز أن يكون ذلك عامّا لكلّ من أتى حسنة فأعجب بها، و أحبّ أن

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 616

يحمده الناس عليها، و يثنوا عليه بما ليس فيه من الزهد و العبادة و غير ذلك.

وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فهو يملك أمرهم، و لا يكون لهم خلاص من عذابه وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فيقدر على عقابهم. و قيل: هو ردّ لقولهم: إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ «1».

[سورة آل عمران (3): آية 190]

إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ لَآياتٍ لِأُولِي الْأَلْبابِ (190)

و لمّا بيّن سبحانه أنّ له ملك السموات و الأرض عقّبه ببيان الدلالة على ذلك، فقال: إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي: في إيجادهما بما فيهما من العجائب و البدائع وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ أي: تعاقبهما و مجي ء كلّ منهما خلف الآخر لَآياتٍ لدلائل واضحة على وجود الصانع و وحدته، و كمال علمه، و عظم قدرته، و باهر حكمته لِأُولِي الْأَلْبابِ لذوي العقول الخالصة عن شوائب الحسّ و كدورات الوهم، كما سبق في سورة البقرة «2»، فإنّ أرباب الألباب إذا نظروا إليها نظر الاستدلال يجدونها مضمّنة بأعراض حادثة لا تنفكّ عنها، و ما لا ينفكّ عن الحادث حادث، و إذا كانت حادثة فلا بدّ لها من محدث موجد، لأنّ حدوثها يدلّ على أن لها محدثا قادرا. و دلّ ما فيها من البدائع و الأمور الجارية على غاية الانتظام على كون محدثها عالما قديما، لأنّه لو كان محدثا لكان محتاجا إلى محدث، فيؤدّي إلى التسلسل.

______________________________

(1) آل عمران: 181.

(2) راجع ص: 275 ذيل الآية 164.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 617

و لعلّ الاقتصار على هذه الثلاثة في الآية لأنّ مناط الاستدلال هو التغيّر، و هذه متعرّضة لجملة أنواعه، فإنّه إمّا أن يكون في ذات الشي ء كتغيّر الليل و النهار، أو جزئه كتغيّر العناصر بتبدّل صورها، أو الخارج عنه كتغيّر الأفلاك بتبدّل أوضاعها.

[سورة آل عمران (3): الآيات 191 الى 194]

الَّذِينَ يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِهِمْ وَ يَتَفَكَّرُونَ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلاً سُبْحانَكَ فَقِنا عَذابَ النَّارِ (191) رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (192) رَبَّنا إِنَّنا

سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا وَ كَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا وَ تَوَفَّنا مَعَ الْأَبْرارِ (193) رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ وَ لا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ (194)

ثم وصف اللّه سبحانه ذوي الألباب بقوله: الَّذِينَ أي: هؤلاء الّذين يستدلّون على توحيد اللّه و علمه و قدرته بالذات بخلقه السماوات و الأرض هم الّذين يَذْكُرُونَ اللَّهَ قِياماً قائمين وَ قُعُوداً و قاعدين وَ عَلى جُنُوبِهِمْ و مضطجعين، أي: يذكرونه دائما على الحالات كلّها، فإنّ أحوال المكلّفين لا تخلوا من هذه الثلاثة. و

عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من أحبّ أن يرتع في رياض الجنّة فليكثر ذكر اللّه».

و حكي أنّ الرجل من بني إسرائيل كان إذا عبد اللّه ثلاثين سنة أظلّته سحابة، فعبدها فتى من فتيانهم فلم تظلّه. فقالت له أمّه: لعلّ فرطة فرطت منك في مدّتك.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 618

فقال: ما أذكر. قالت: لعلّك نظرت مرّة إلى السماء و لم تعتبر. قال: لعلّ. قالت: فما أتيت إلّا من ذاك.

و قيل: معناه: يصلّون على الهيئات الثلاث حسب طاقتهم،

لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعمران بن حصين: «صلّ قائما، فإن لم تستطع فقاعدا، فإن لم تستطع فعلى جنب تومئ إيماء».

و هذا أيضا رواه عليّ بن إبراهيم في تفسيره «1». و لا تنافي بين التفسيرين، لأنّه غير ممتنع وصفهم بالذكر في هذه الأحوال و هم في الصلاة.

وَ يَتَفَكَّرُونَ و يتدبّرون اعتبارا و استدلالا فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ في إبداع صنعتهما و ما دبّر فيهما بما تكلّ الأفهام عن إدراك بعض بدائعه، فيستدلّون على وحدانيّة اللّه تعالى و كمال قدرته و علمه و حكمته. و

هذا أفضل العبادات، كما

جاء في الحديث: «لا عبادة كالتفكّر»،

و

قوله: «تفكّر ساعة خير من عبادة سنة»،

لأنّه المخصوص بالقلب و المقصود من الخلق.

و

عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «بينما رجل مستلق على فراشه إذ رفع رأسه فنظر إلى السماء و النجوم فقال: اشهد أنّ لك ربّا و خالقا، اللّهمّ اغفر لي، فنظر اللّه إليه فغفر له».

و قيل: الفكرة تذهب الغفلة، و تحدث للقلب الخشية، كما يحدث الماء للزرع النبات. و هذا دليل واضح على شرف علم الكلام و فضل أهله.

رَبَّنا ما خَلَقْتَ هذا باطِلًا على إرادة القول، أي: يتفكّرون قائلين ذلك.

و هذا إشارة إلى المتفكّر فيه، أي: الخلق، على أنّه أريد به المخلوق من السماوات و الأرض، أو إليهما، لأنّهما في معنى المخلوق.

و المعنى: ما خلقته خلقا عبثا ضائعا من غير حكمة، بل خلقته لحكم عظيمة، من جملتها أن يكون مبدأ لوجود الإنسان، و سببا لمعاشه، و دليلا يدلّه على

______________________________

(1) تفسير عليّ بن إبراهيم 1: 129.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 619

معرفتك، و يحثه على طاعتك، لينال الحياة الأبديّة و السعادة السرمديّة في جوارك.

سُبْحانَكَ تنزيها لك من العبث و خلق الباطل. و هو اعتراض. فَقِنا بلطفك و توفيقك عَذابَ النَّارِ للإخلال بالنظر فيه، و القيام بما يقتضيه. و فائدة الفاء هي الدلالة على أنّ علمهم بما لأجله خلقت السماوات و الأرض حملهم على الاستعاذة.

و في هذه الآية دلالة على أنّ الكفر و الضلال و القبائح ليست خلقا للّه تعالى، لأنّ هذه الأشياء كلّها باطلة بلا خلاف، و قد نفي اللّه تعالى ذلك بحكايته عن أولي الألباب- الّذين رضي أقوالهم- بأنّه لا باطل فيما خلقه تعالى، فيجب بذلك القطع على أنّ القبائح كلّها غير مضافة إليه تعالى،

و منفيّة عنه، تعالى اللّه عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.

رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ أي: فقد أبلغت في إخزائه غاية الإخزاء. و نظيره قوله: من أدرك مرعى الصمان «1» فقد أدرك مرعى ليس بعده مرعى. و هو منقول من الخزي الّذي هو الهوان. و قيل: من الخزاية الّتي هي الاستحياء، أي: أحللته محلّا يستحيا منه. و المراد بالمعنى الأوّل هو الكافر، و بالثاني المؤمن الفاسق. و المراد به تهويل المستعاذ منه، تنبيها على شدّة خوفهم و طلبهم الوقاية منه. و فيه إشعار بأنّ العذاب الروحاني أفظع، لأنّ الخزي هو الذلّ و الهوان، و لا يكونان إلّا من مؤثّرات النفس لا البدن.

وَ ما لِلظَّالِمِينَ اللام إشارة إلى من يدخل النار، أي: ليس للمدخلين في النار مِنْ أَنْصارٍ يدفعون عنهم العذاب. و وضع المظهر موضع المضمر للدلالة على أنّ ظلمهم سبب لإدخالهم النار، و انقطاع النصرة عنهم في الخلاص فيها. و لا يلزم من نفي النصرة نفي الشفاعة، لأنّ النصرة دفع بقهر.

______________________________

(1) في هامش الخطّية: «جبل فيه مرعى عظيم. منه».

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 620

رَبَّنا إِنَّنا سَمِعْنا مُنادِياً يُنادِي لِلْإِيمانِ أوقع الفعل على المسمع و حذف المسموع لدلالة وصف المسمع على المسموع. و فيه مبالغة ليست في إيقاعه على نفس المسموع، لتكرير الإسناد.

و في تنكير المنادي و إطلاقه ثم تقييده تعظيم لشأنه، كما إذا قلت: سمعنا هاديا يهدي إلى الإيمان، فقد رفعت من شأن الهادي و فخّمته. و المراد به الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قيل: القرآن.

و النداء و الدعاء يعدّى ب «إلى» و اللام، لتضمّنهما معنى الانتهاء و الاختصاص، أي: داعيا يدعو إلى الايمان. يقال: ناداه لكذا و إلى كذا، و

دعا له و إليه، و نحوه:

و هداه للطريق أو إليه.

أَنْ آمِنُوا بِرَبِّكُمْ فَآمَنَّا بأن آمنوا، فامتثلنا رَبَّنا فَاغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا كبائرنا، فإنّها ذات تبعة وَ كَفِّرْ عَنَّا سَيِّئاتِنا صغائرنا، فإنّها مستقبحة، و لكن مكفّرة عن مجتنب الكبائر. أو اغفر لنا ذنوبنا ابتداء، و كفّر عنّا سيّئاتنا إن تبنا، كما قال صاحب الجامع: «جمع بين سؤال المغفرة و التكفير، لأنّ تكفير السيّئات يكون بالتوبة و المغفرة، و قد يكون ابتداء من غير توبة» «1».

وَ تَوَفَّنا و اقبضنا إلى رحمتك مَعَ الْأَبْرارِ في موضع الحال، أي:

مخصوصين بصحبتهم، معدودين في زمرتهم.

و فيه تنبيه على أنّهم يحبّون لقاء اللّه، و من أحبّ لقاء اللّه أحبّ اللّه لقاءه.

و الأبرار جمع برّ أو بارّ، كأرباب و أصحاب.

رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ أي: ما وعدتنا على تصديق رسلك من الثواب. لمّا أظهروا امتثالهم لما أمروا به سألوا ما وعد عليه، لا خوفا من إخلاف الوعد، بل مخافة أن لا يكونوا من الموعودين، لسوء عاقبة، أو قصور في الامتثال،

______________________________

(1) جوامع الجامع 1: 268.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 621

أو تعبّدا و استكانة. و يجوز أن يتعلّق بمحذوف، تقديره: ما وعدتنا منزلا على رسلك، أو محمولا عليهم. و قيل: معناه: على ألسنة رسلك.

وَ لا تُخْزِنا يَوْمَ الْقِيامَةِ بأن تعصمنا- بتوفيقك إيّانا- عمّا يقتضي الخزي إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ بإثابة المؤمن، و إجابة الداعي.

عن ابن عبّاس: الميعاد البعث بعد الموت.

و هذا القول منهم على وجه الانقطاع إلى اللّه، و التضرّع إليه و التعبّد، كما قال:

رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ «1». و هو من باب اللجأ إلى اللّه و الخضوع. و كما كان الأنبياء عليهم السّلام يستغفرون مع علمهم أنّهم معصومون، يقصدون بذلك التذلّل لربّهم، و التضرّع و

اللجأ الّذي هو سيماء العبوديّة.

و تكرير «ربّنا» للمبالغة في الابتهال، و الدلالة على استقلال المطالب و علوّ شأنها.

روي عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: «من حزنه أمر فقال خمس مرّات: ربّنا، أنجاه اللّه ممّا يخاف، و أعطاه ما أراد، و قرأ هذه الآيات».

روي الثعلبي في تفسيره بإسناده عن محمد بن الحنفيّة، عن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان إذا قام من الليل يتسوّك ثم ينظر إلى السماء ثم يقول: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ» إلى قوله: «عَذابَ النَّارِ».

و

عن ابن عمر: قلت لعائشة: أخبريني بأعجب ما رأيت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فبكت و أطالت، ثم قالت: كلّ أمره عجب، أتاني في ليلتي فدخل في لحافي حتى ألصق جلده بجلدي، ثم قال: يا عائشة هل لك أن تأذنين لي الليلة في عبادة ربّي؟

فقلت: يا رسول اللّه إنّي لأحبّ قربك و أحبّ هواك، قد أذنت لك.

______________________________

(1) الأنبياء: 112. زبدة التفاسير، ج 1، ص: 622

فقام إلى قربة من ماء في البيت، فتوضّأ و لم يكثر صبّ الماء، ثم قام يصلّي، فقرأ من القرآن، و جعل يبكي حتى بلغ الدموع جفونه، ثم جلس فحمد اللّه و أثنى عليه، و جعل يبكي، ثم رفع يديه فجعل يبكي، حتى رأيت دموعه قد بلّت الأرض.

فأتاه بلال يؤذنه بصلاة الغداة، فرآه يبكي، فقال: يا رسول اللّه أ تبكي و قد غفر اللّه ما تقدّم من ذنبك و ما تأخّر؟

فقال: يا بلال أ فلا أكون عبدا شكورا؟ ثم قال: و مالي لا أبكي و قد أنزل اللّه عليّ في هذه الليلة: «إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ». ثم قال: ويل

لمن قرأها و لم يتفكّر فيها.

و

قد اشتهرت الرواية عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه لمّا نزلت هذه الآيات قال: «ويل لمن لاكها بين فكّيه و لم يتأمّل ما فيها». و في رواية: و لم يتأمّلها.

و ورد عن الأئمّة من آل محمد صلوات اللّه عليه و عليهم الأمر بقراءة هذه الآيات الخمس وقت القيام بالليل للصلاة، و في الضجعة بعد ركعتي الفجر.

و

روي محمد بن عليّ بن محبوب، عن العبّاس بن معروف، عن عبد اللّه بن المغيرة، عن معاوية بن وهب، قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام- و ذكر النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- قال: كان يؤتى بطهور فيخمّر عند رأسه، و يوضع سواكه تحت فراشه، ثم ينام ما شاء اللّه، فإذا استيقظ جلس ثمّ قلّب بصره إلى السماء و تلا الآيات من آل عمران:

«إِنَّ فِي خَلْقِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» الآيات، ثم يستاك و يتطهّر، ثم يقوم إلى المسجد فيركع أربع ركعات على قدر قراءته، ركوعه و سجوده على قدر ركوعه، فيركع حتى يقال: متى يرفع رأسه؟ و يسجد حتى يقال: متى يرفع رأسه؟ ثم يعود إلى فراشه فينام ما شاء اللّه، ثم يستيقظ فيجلس فيتلو الآيات من آل عمران و يقلّب بصره في السماء، ثم يستاك و يتطهّر و يقوم إلى المسجد فيوتر و يصلّي الركعتين، ثم يخرج إلى الصلاة».

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 623

[سورة آل عمران (3): آية 195]

فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَالَّذِينَ هاجَرُوا وَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أُوذُوا فِي سَبِيلِي وَ قاتَلُوا وَ قُتِلُوا لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ثَواباً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ

وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ (195)

و لمّا ذكر دعوة المؤمنين أخبر بإجابتها فقال: فَاسْتَجابَ لَهُمْ رَبُّهُمْ مطلوبهم. و هو أخصّ من: أجاب. و يعدّى بنفسه و باللام. يقال: استجاب له و استجابه أَنِّي لا أُضِيعُ عَمَلَ عامِلٍ مِنْكُمْ أي: بأنّي لا أضيع مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بيان عامل بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ لأنّ الذكر من الأنثى و الأنثى من الذكر، أو لأنّهما من أصل واحد، أو لفرط الاتّصال و الاتّحاد، أو للاجتماع و الاتّفاق في الدين. و هي جملة معترضة بيّن بها شركة النساء مع الرجال فيما وعد للعمّال. روي أنّ أمّ سلمة قالت: يا رسول اللّه إنّي اسمع أنّ اللّه يذكر الرجال في الهجرة و لا يذكر النساء! فنزلت هذه الآية.

و قوله: فَالَّذِينَ هاجَرُوا تفصيل لأعمال العمّال و ما أعدّ لهم من الثواب على سبيل المدح و التعظيم. و المعنى: فالّذين هاجروا الشرك أو الأوطان و العشائر للدين وَ أُخْرِجُوا و أخرجهم الكفّار مِنْ دِيارِهِمْ الّتي ولدوا فيها و نشأوا وَ أُوذُوا فِي سَبِيلِي يريد سبيل الدين. يعني: بسبب إيمانهم و من أجله وَ قاتَلُوا الكفّار وَ قُتِلُوا في الجهاد.

و قرأ حمزة و الكسائي بالعكس، لأنّ الواو لا توجب ترتيبا، فالمعطوف بالواو

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 624

يجوز أن يكون أوّلا في المعنى و إن تأخّر في اللفظ. و الثاني أفضل، فإنّ القتل المفهوم من «قتلوا» أفضل من القتال، فقدّم الأفضل في قراءتهما. أو لأنّ المراد: لمّا قتل منهم قوم قاتل الباقون و لم يضعفوا. و شدّد ابن كثير و ابن عامر «قتّلوا» للتكثير.

لَأُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ لأمحونّها وَ لَأُدْخِلَنَّهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي: من تحت أبنيتها و قصورها ثَواباً أي: لأثيبنّهم بذلك إثابة مِنْ عِنْدِ

اللَّهِ تفضّلا منه، فهو مصدر مؤكّد وَ اللَّهُ عِنْدَهُ حُسْنُ الثَّوابِ حسن الجزاء على الطاعات ما لا يبلغه وصف واصف، و لا يدركه نعت ناعت، ممّا لا عين رأت، و لا اذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر. و «عنده» مثل: يختصّ به و بقدرته و فضله، لا يثيبه غيره، و لا يقدر عليه، كما يقول الرجل: عندي ما تريد، يريد اختصاصه به و إن لم يكن بحضرته.

[سورة آل عمران (3): الآيات 196 الى 198]

لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ (196) مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ (197) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلاً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ (198)

روي أنّ مشركي العرب كانوا يتّجرون و يتنعّمون بها، فقال بعض المسلمين:

إنّ أعداء اللّه في العيش الوسيع و الرزق الرغيد، و قد هلكنا من الجوع، فنزلت: لا يَغُرَّنَّكَ تَقَلُّبُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي الْبِلادِ. الخطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و المراد أمّته، أو تثبيته

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 625

على ما كان عليه، لقوله: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ «1»، أو لكلّ أحد. و النهي في المعنى للمخاطب، و إنّما جعل للتقلّب تنزيلا للسبب منزلة المسبّب مبالغة.

و المعنى: لا تنظر إلى ما الكفرة عليه من السعة و إصابة حظوظ الدنيا، و لا تغترّ بظاهر ما ترى من تبسّطهم في مكاسبهم و متاجرهم و مزارعهم.

مَتاعٌ قَلِيلٌ خبر مبتدأ محذوف، أي: تقلّبهم متاع قليل في جنب ما فاتهم من نعيم الآخرة، أو في جنب ما أعدّ اللّه للمؤمنين من الثواب، أو هو قليل في نفسه، لزواله و نقصانه. و في الحديث: «ما الدنيا في الآخرة إلّا مثل ما يجعل

أحدكم إصبعه في اليمّ. فلينظر بم يرجع».

ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ أي: ما مهّدوا لأنفسهم.

ثم أعلم اللّه سبحانه أنّ من أراد اللّه و اتّقاه فله الجنّة، فقال: لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لفظ «لكن» للاستدراك، فيكون بخلاف المعنى المتقدّم. فمعناه: ليس للكفّار عاقبة خير، إنّما هي للمتّقين المؤمنين الّذين اتّقوا ربّهم بفعل الطاعات و ترك المعاصي. لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نُزُلًا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ النزل و النزل ما يعدّ للنازل من طعام و شراب و صلة. و انتصابه على الحال من «جنّات»، و العامل فيها الظرف. و قيل: إنّه مصدر مؤكّد، و التقدير: أنزلوها نزلا.

وَ ما عِنْدَ اللَّهِ لكثرته و دوامه خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ ممّا يتقلّب فيه الفجّار، لقلّته و سرعة زواله.

عن ابن مسعود أنّه قال: ما من نفس برّة أو فاجرة إلّا و الموت خير لها من الحياة. فأمّا الأبرار فقد قال اللّه تعالى: «وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ لِلْأَبْرارِ». و أمّا الفجّار فقد قال اللّه تعالى: وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّما نُمْلِي لَهُمْ خَيْرٌ لِأَنْفُسِهِمْ «2». و إنّما يكون الموت خيرا للنفس الفاجرة إذا كانت تدوم على فجورها.

______________________________

(1) القلم: 8.

(2) آل عمران: 178.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 626

[سورة آل عمران (3): آية 199]

وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ خاشِعِينَ لِلَّهِ لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (199)

روي عن ابن عبّاس و جابر بن عبد اللّه أنّه لمّا مات النجاشي ملك الحبشة- و اسمه أصحمة، و هو بالعربيّة: عطيّة- نعاه جبرئيل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في اليوم الّذي مات فيه.

فقال رسول

اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اخرجوا فصلّوا على أخ لكم مات بغير أرضكم.

قالوا: و من؟

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: النجاشي.

فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى البقيع، و كشف له من المدينة إلى أرض الحبشة، فأبصر سرير النجاشي و صلّى عليه.

فقال المنافقون: انظروا إلى هذا يصلّي على علج «1» نصرانيّ حبشيّ لم يره قطّ، و ليس على دينه، فنزلت: وَ إِنَّ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَمَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ

و إنّما دخلت اللام على الاسم للفصل بينه و بين «إن» بالظرف.

وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ من القرآن وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ من الكتابين خاشِعِينَ لِلَّهِ مستكينين بالطاعة. و هو حال من فاعل «يؤمن». و جمعه باعتبار المعنى. لا يَشْتَرُونَ بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلًا لا يأخذون عوضا يسيرا على تحريف الكتاب، كما يفعله المحرّفون من أحبارهم.

______________________________

(1) العلج: الرجل الضّخم القويّ من كفّار العجم، أو الكافر عموما.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 627

أُولئِكَ لَهُمْ أَجْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ ما خصّ بهم من الأجر و وعدوه في قوله تعالى: أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ «1». إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ لعلمه بالأعمال و ما يستوجبه كلّ عامل من الجزاء، و استغنائه عن التأمّل و الاحتياط.

و المراد أنّ الأجر الموعود سريع الوصول، فإنّ سرعة الحساب تستدعي سرعة الجزاء.

قيل: نزلت هذه الآية في ابن سلام و من آمن معه. و قيل: في أربعين من نجران، و اثنين و ثلاثين من الحبشة، و ثمانية من الروم، كانوا على دين عيسى عليه السّلام فأسلموا.

[سورة آل عمران (3): آية 200]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا وَ صابِرُوا وَ رابِطُوا وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (200)

و لمّا حكى اللّه تعالى أحوال المؤمنين و الكافرين فيما تقدّم، حثّ

بعد ذلك على الصبر على الطاعة و لزوم الدين و الجهاد في سبيل اللّه، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اصْبِرُوا على مشاق الطاعات، و ما يصيبكم من الشدائد، و عن معاصيه وَ صابِرُوا و غالبوا أعداء اللّه بالصبر على شدائد الحرب، و أعدى عدوّكم في الصبر على مخالفة الهوى. و تخصيصه بعد الأمر بالصبر مطلقا لشدّته و صعوبته.

وَ رابِطُوا أبدانكم و خيولكم في الثغور مترصّدين للغزو، و أنفسكم على الطاعة، كما

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من الرباط انتظار الصلاة بعد الصلاة».

و لهذا

روي عن علي عليه السّلام معناه: «انتظروا الصلاة واحدة بعد واحدة».

______________________________

(1) القصص: 54.

زبدة التفاسير، ج 1، ص: 628

و

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه سئل عن أفضل الأعمال فقال: «إسباغ الوضوء في السبرات «1»، و نقل الأقدام إلى الجماعات، و انتظار الصلاة بعد الصلاة، فذلكم الرباط».

و ما

روي عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: «معناه: اصبروا على المصائب، و صابروا على عدوّكم، و رابطوا عدوّكم»

قريب من القول الأوّل.

و

عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من رابط يوما و ليلة في سبيل اللّه تعالى كان كعدل صيام شهر رمضان و قيامه، لا يفطر، و لا ينفتل عن صلاته إلّا لحاجة».

وَ اتَّقُوا اللَّهَ بالتبرّي عن القبائح و المعاصي، أو عمّا سواه لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لكي تفلحوا و تفوزوا غاية الفلاح و الفوز ببقاء الأبد. و أصل الفلاح البقاء، أي:

تفلحوا بنعيم الأبد، أو الفوز بنيل المقامات الثلاثة، و هي: الصبر على مضض الطاعات، و مصابرة النفس في رفض العادات، و مرابطة السرّ على جناب الحقّ لترصّد الواردات، المعبّر عنها بالشريعة و الطريقة و الحقيقة.

فهذه الآية تتناول جماع ما يتناول التكليف، فإنّ

قوله: «اصبروا» يتناول لزوم العبادات و تجنّب المحرّمات. و «صابروا» يتناول ما يتّصل بالغير، كمجاهدة الجنّ و الإنس، و ما هو أعظم منها من جهاد النفس. و «رابطوا» يدخل فيه الدفاع عن المسلمين و الذبّ عن الدين. و «اتّقوا اللّه» يتناول الانتهاء عن جميع المناهي و الزواجر، و الائتمار بجميع الأوامر، و لذلك تبع ذلك الفلاح و النجاح.

تمّ تفسير الزهراوين بعون خالق الثقلين، و باللّه التوفيق، و حسبنا اللّه، و نعم المولى و نعم النصير.

______________________________

(1) السبرات جمع السبرة، و هي: الغداة الباردة.

الجزء الثاني

(4) سورة النساء

اشارة

مدنيّة كلّها. و قيل: مدنيّة إلّا قوله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها «1» الآية، و قوله: وَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ « «2»» إلى آخرها، فإنّ الآيتين نزلتا بمكّة. و هي مائة و ستّ و سبعون آية.

عن أبيّ، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من قرأها فكأنّما تصدّق على كلّ من ورث ميراثا، و أعطي من الأجر كمن اشترى محرّرا «3»، و برى ء من الشرك، و كان في مشيئة اللّه تعالى من الّذين يتجاوز عنهم».

و

روى العيّاشي بإسناده عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «من قرأها في كلّ جمعة أومن من ضغطة القبر» «4» إذا أدخل في قبره.

و اعلم أنّه سبحانه لمّا ختم آل عمران بالتقوى افتتح هذه السورة به، إلّا أنّ هناك خصّ به المؤمنين، و عمّ هاهنا سائر المكلّفين، فقال:

______________________________

(1، 2) النساء: 58 و 127.

(3) في هامش الخطّية: «أي: اشترى عبدا و حرّره. منه».

(4) تفسير العيّاشي 1: 215 ح 1.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 6

[سورة النساء (4): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالاً كَثِيراً وَ نِساءً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ وَ الْأَرْحامَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً (1)

يا أَيُّهَا النَّاسُ فإنّه خطاب عامّ للمكلّفين من بني آدم. و قيل: النداء إنّما كان في سائر كتب اللّه السالفة ب «يا أيّها المساكين» و أمّا في القرآن فما نزل بمكّة فالنداء ب «يا أَيُّهَا النَّاسُ». و ما نزل بالمدينة فمرّة ب «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا» و مرّة ب «يا أَيُّهَا النَّاسُ».

اتَّقُوا رَبَّكُمُ أي: مخالفة ربّكم الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ أي:

فرّعكم من أصل واحد، و هو

نفس آدم عليه السّلام.

وَ خَلَقَ مِنْها زَوْجَها عطف على «خلقكم» أي: خلقكم من شخص واحد، و هو آدم عليه السّلام، و خلق منه زوجها- و هي أمّكم حوّاء- من ضلع من أضلاعه. أو على محذوف تقديره: من نفس واحدة أنشأها من تراب، و خلق منها زوجها، و إنّما حذف لدلالة المعنى عليه. و هو تقرير لخلقهم جميعا من نفس واحدة.

و

رووا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «خلقت المرأة من ضلع، إن أقمتها كسرتها، و إن تركتها و فيها عوج استمتعت بها».

وَ بَثَّ مِنْهُما و نشر من تلك النفس و الزوج المخلوقة منها رِجالًا كَثِيراً وَ نِساءً بنين و بنات كثيرة. و هذا بيان لكيفيّة تولّدهم منهما. و اكتفى بوصف الرجال

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 7

بالكثرة عن وصف النساء بها، إذ الحكمة تقتضي أن يكون الرجال أكثر، إذ المقصود من إيجاد الموجودات حصول الكمالات لها، و الرجال أكثر استعدادا في تحصيل تلك الكمالات. و ذكر «كثيرا» حملا على الجمع لا على الجماعة.

و ترتيب الأمر بالتقوى على هذه القصّة لما فيها من الدلالة على القدرة القاهرة الّتي من حقّها أن تخشى، و النعمة الظاهرة الّتي توجب طاعة موليها. و لأنّ المراد به تمهيد الأمر بالتقوى فيما يتّصل بحقوق أهل منزله. و بنى جنسه على ما دلّت عليه الآيات الّتي بعدها.

وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسائَلُونَ بِهِ أي: يسال بعضكم بعضا فيقول: أسألك باللّه.

و أصله: تتساءلون، فأدغمت التاء الثانية في السين. و قرأ عاصم و حمزة و الكسائي بطرحها. وَ الْأَرْحامَ بالنصب عطف على محلّ الجارّ و المجرور، كقولك: مررت بزيد و عمرا، أي: يسأل بعضكم من بعض باللّه و بالرحم و يقول: باللّه

و الرحم افعل كذا، على سبيل الاستعطاف، و هذا من عادات العرب عند ذكر المسألة ليتعاطفوا بذكرهما.

و ملخّص المعنى: أنّكم تتساءلون بذكر اللّه و الرحم، فاتّقوا خالقكم الّذي تقرّون به، و تتناشدون به و بالأرحام، و عظّموه بطاعتكم إيّاه، كما تعظّمونه بأقوالكم. أو عطف على «اللّه» أي: اتّقوا اللّه و اتّقوا الأرحام، فصلوها و لا تقطعوها. و يؤيّده ما روي عن ابن عبّاس و قتادة و مجاهد و الضّحاك و الربيع، و

نقل عن أبي جعفر عليه السّلام أنّ معناه: و اتّقوا الأرحام أن تقطعوها.

و قرأ حمزة بالجرّ عطفا على الضمير المتّصل المجرور. و هو ضعيف، لأنّه كبعض الكلمة، فأشبه العطف على بعضها، فلم يجز، و وجب تكرير العامل، كقولك:

مررت به و بزيد و عمرو.

و نبّه سبحانه إذ قرن الأرحام باسمه على أنّ صلتها بمكانة و منزلة عظيمة

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 8

منه. و

عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الرحم معلّقة بالعرش تقول: ألا من وصلني وصله اللّه، و من قطعني قطعه اللّه».

و

عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال اللّه تعالى: «أنا الرحمن خلقت الرحم، و شققت لها اسما من اسمي، فمن وصلها وصلته، و من قطعها بتتّه» «1».

و عن ابن عبّاس: «الرحم معلّقة بالعرش، فإذا أتاها الواصل بشّت به و كلّمته، و إذا أتاها القاطع احتجبت منه».

و

روى الأصبغ بن نباتة عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «إنّ أحدكم ليغضب فما يرضى حتّى يدخل به النار، فأيّما رجل منكم غضب على ذي رحمه فليمسّه، فإنّ الرحم إذا مسّتها الرحم استقرّت، و إنّها متعلّقة بالعرش و تنادي: اللّهمّ صل من وصلني، و اقطع من قطعني».

إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلَيْكُمْ رَقِيباً حافظا مطّلعا على أحوالكم.

و إنّما أتى بلفظة «كان» المفيدة للماضي لأنّه أراد أنّه كان حفيظا على ما تقدّم زمانه من عهد آدم و ولده إلى زمان المخاطبين، و عالما بما صدر منهم، لم يعزب عنه من ذلك شي ء.

[سورة النساء (4): آية 2]

وَ آتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ وَ لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ إِنَّهُ كانَ حُوباً كَبِيراً (2)

و لمّا أمر اللّه تعالى بالتقوى و صلة الأرحام، عقّبه بباب آخر من التقوى، و هو توفير حقوق اليتامى، فقال: وَ آتُوا الْيَتامى أَمْوالَهُمْ بالإنفاق عليهم في حالة

______________________________

(1) أي: قطعته، من: بتّ يبتّ أي: قطع.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 9

الصغر، و تسليم أموالهم إليهم عند البلوغ و إيناس الرشد. هذا خطاب لأوصياء اليتامى.

و اليتامى جمع يتيم، و هو الّذي مات أبوه، من اليتم، و هو الانفراد، و منه الدرّة اليتيمة، إمّا على أنّه لمّا أجري مجرى الأسماء كفارس و صاحب جمع على يتائم، ثم قلب فقيل: يتامى، أو على أنّه جمع على يتمى كأسرى، لأنّه من باب الآفات و الأوجاع، ثم جمع يتمى على يتامى، كأسرى و أسارى.

و الاشتقاق يقتضي وقوعه على الصغار و الكبار، لكن العرف خصّصه بمن لم يبلغ، و

لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «لا يتم بعد احتلام».

و قولهم للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يتيم أبي طالب بعد كبره توضيعا له، يعنون أنّه ربّاه حال صغره، كقوله تعالى: وَ أُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ «1» أي: الّذين كانوا سحرة.

وَ لا تَتَبَدَّلُوا الْخَبِيثَ بِالطَّيِّبِ و لا تستبدلوا الحرام من أموالهم بالحلال من أموالكم، فتأكلوه مكانه، أو الأمر الخبيث- و هو اقتطاع أموالهم- بالأمر الطيّب الّذي هو حفظها. و التفعّل بمعنى الاستفعال غير عزيز، و منه

التعجّل بمعنى الاستعجال. و ما نقل عن السدّي في معناه: و لا تأخذوا الرفيع من أموالهم و تعطوا الخسيس مكانها، كجعل شاة مهزولة مكان سمينة، ليس بجيّد، لأنّه إنّما هو تبديل لا تبدّل.

وَ لا تَأْكُلُوا أَمْوالَهُمْ إِلى أَمْوالِكُمْ و لا تأكلوها مضمومة إلى أموالكم، أي: لا تنفقوهما معا، و لا تسوّوا بين الحلال الّذي هو أموالكم و الحرام الّذي هو أموالهم، قلّة مبالاة بالحرام، و تسوية بينه و بين الحلال. و هذا إنّما يكون فيما زاد على قدر أجره، لقوله تعالى: فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ «2» إِنَّهُ الضمير للأكل

______________________________

(1) الأعراف: 120.

(2) النساء: 6.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 10

كانَ حُوباً كَبِيراً ذنبا عظيما.

و روي أن رجلا من غطفان كان معه مال كثير لابن أخ له يتيم، فلمّا بلغ طلب المال منه فمنعه، فنزلت هذه الآية، فلمّا سمعها العمّ قال: أطعنا اللّه و رسوله، و نعوذ باللّه من الحوب الكبير.

[سورة النساء (4): الآيات 3 الى 4]

وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ فَإِنْ خِفْتُمْ أَلاَّ تَعْدِلُوا فَواحِدَةً أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ ذلِكَ أَدْنى أَلاَّ تَعُولُوا (3) وَ آتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَّ نِحْلَةً فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً (4)

روي أنّ الرجل إذا كان يجد يتيمة ذات مال و جمال فيتزوّجها ضنّا بها، فربّما يجتمع عنده منهنّ عدد يرتقي إلى عشر، و لا يقدر على القيام بحقوقهنّ، فنزلت:

وَ إِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تُقْسِطُوا فِي الْيَتامى من: قسط يقسط قسوطا، إذا جار. و الهمزة في «أقسط» للسلب و الإزالة، نحو: أشكيته، أي: أزلت شكايته. و المعنى: إن خفتم أن لا تعدلوا في يتامى النساء إذا تزوّجتم بهنّ فَانْكِحُوا ما طابَ لَكُمْ مِنَ النِّساءِ

فتزوّجوا ما طاب لكم من غيرهنّ. و إنّما عبّر عنهنّ ب «ما» ذهابا إلى الصفة، أو إجراء لهنّ مجرى غير العقلاء، لنقصان عقلهنّ. و نظيره: «أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ».

و قيل: لمّا عظّم أمر اليتامى تحرّجوا من ولايتهم، و ما كانوا يتحرّجون من تكثير النساء و إضاعتهنّ، فأمرهم اللّه تعالى بأنّكم إن خفتم أن لا تعدلوا في حقوق اليتامى فتحرّجتم منها، فخافوا أيضا ألّا تعدلوا بين النساء، فانكحوا مقدارا يمكنكم الوفاء بحقّه، لأن المتحرّج من الذنب ينبغي أن يتحرّج من الذنوب كلّها.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 11

و قيل: كانوا يتحرّجون من ولاية اليتامى، و لا يتحرّجون من الزنا، فقيل لهم:

إن خفتم ألّا تعدلوا في أمر اليتامى فخافوا الزنا، فانكحوا ما طاب لكم من النساء.

مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ معدولة عن أعداد مكرّرة: ثنتين ثنتين، و ثلاثا ثلاثا، و أربعا أربعا. و هي غير منصرفة، للعدل و الصفة، فإنّها بنيت صفات، و إن كانت أصولها لم تبن لها. و قيل: لما فيها من العدلين، فإنّها معدولة باعتبار الصيغة و التكرير، أي: عدلها عن صيغتها، و عدلها عن تكريرها.

و نصبها على الحال من فاعل «طاب»، تقديره: فانكحوا الطيّبات لكم معدودات هذا العدد، ثنتين ثنتين، و ثلاثا و ثلاثا، و أربعا و أربعا.

و الخطاب للجميع، فوجب التكرير ليصيب كلّ ناكح يريد الجمع ما أراد من العدد الّذي أطلق له. فمعناها: الإذن لكلّ ناكح يريد الجمع أن ينكح ما شاء من العدد المذكور، متّفقين فيه و مختلفين، كقولك: اقتسموا هذه البدرة درهمين درهمين، و ثلاثة ثلاثة. و لو أفردت، بأن قيل: اثنتين و ثلاث و أربع من غير تكرير، كان المعنى تجويز الجمع بين هذه الأعداد دون التوزيع. و لو ذكرت

ب «أو» لذهب تجويز الاختلاف في العدد، بأن لا يسوغ لهم أن يقتسموه إلا على أحد أنواع هذه القسمة، و ليس لهم أن يجمعوا بينها، فيجعلوا بعض القسم على تثنية، و بعضه على ثلاث، و بعضه على أربع.

لا يقال: إنّ هذا العدد يؤدّي إلى جواز نكاح التسع، فإنّ اثنتين و ثلاثة و أربعة تسعة.

لأنّا نقول: إنّ من قال: دخل القوم البلد مثنى و ثلاث و رباع، لا يقتضي اجتماع الأعداد في الدخول. و أيضا لهذا العدد لفظ موضوع و هو تسع، فالعدول عنه إلى مثنى و ثلاث و رباع نوع من العيّ «1»، جلّ كلامه سبحانه عن ذلك و تقدّس.

______________________________

(1) العيّ: العجز و الجهل.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 12

قال الصادق عليه السّلام: «لا يحلّ لماء الرجل أن يجري في أكثر من أربعة أرحام من الحرائر».

فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا بين هذه الأعداد، كما خفتم فيما فوقها فَواحِدَةً فاختاروا أو فانكحوا واحدة، و ذروا الجمع أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ من غير حصر.

سوّى بين الواحدة من الأزواج و بين الإماء لخفّة مؤونتهنّ، و عدم وجوب القسم، و إباحة العزل.

ذلِكَ أي: التقليل منهنّ، أو اختيار الواحدة، أو التسرّي أَدْنى أَلَّا تَعُولُوا أقرب من أن لا تميلوا. يقال: عال الميزان إذا مال، و عال في حكمه إذا جار. و عول الفريضة الميل عن حدّ السهام المسمّاة. و فسّر بأن لا يكثر عيالكم، على أنّه من: عال الرجل عياله يعولهم، إذا مانهم، فعبّر عن كثرة العيال بكثرة المؤن الّتي هي من لوازم الأولاد. فالمعنى: ألّا تكثر أولادكم، لأن التسرّي مظنّة قلّة الولد بالإضافة إلى التزوّج، لجواز العزل فيه، كتزوّج الواحدة بالإضافة إلى تزوّج الأربع.

وَ آتُوا النِّساءَ صَدُقاتِهِنَ مهورهنّ نِحْلَةً عطيّة. يقال: نحله

كذا نحلة و نحلا، إذا أعطاه إيّاه عن طيب نفس بلا توقّع عوض. و من فسّرها بالفريضة و نحوها نظر إلى مفهوم الآية، لا إلى موضوع اللفظ. و نصبها على المصدر، لأنّها في معنى الإيتاء، أو الحال من الواو أو الصدقات، أي: آتوهنّ صدقاتهنّ ناحلين أو منحولة.

و قيل: نحلة من اللّه، أي: عطيّة من عنده لهنّ، فتكون حالا من الصدقات.

و قيل: ديانة، فإنّ النحلة بمعنى الملّة، و نحلة الإسلام خير النحل، من قولهم: انتحل فلان كذا، إذا دان به، على أنه مفعول له، أو حال من الصدقات، أي:

دينا من اللّه شرعه. و الخطاب للأزواج. و قيل: للأولياء، لأنهم كانوا يأخذون مهور بناتهم.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 13

روي: أنّ ناسا كانوا يتأثّمون أن يقبل أحدهم من زوجته شيئا ممّا ساق إليها، فنزلت: فَإِنْ طِبْنَ لَكُمْ عَنْ شَيْ ءٍ مِنْهُ نَفْساً الضمير للصداق حملا على المعنى، أو جار مجرى اسم الاشارة، كأنّه قيل: عن شي ء من ذلك، كما قال اللّه تعالى: قُلْ أَ أُنَبِّئُكُمْ بِخَيْرٍ مِنْ ذلِكُمْ «1» بعد ذكر الشهوات. و قيل: للإيتاء، و «نفسا» تمييز لبيان الجنس، و لذلك وحّد.

و المعنى: فإن وهبن لكم من الصداق عن طيب نفس. لكن جعل العمدة طيب النفس للدلالة على ضيق المسلك في ذلك، و وجوب الاحتياط، حيث بنى الشرط على طيب النفس، و لم يقل: فإن وهبن أو سمحن. و عدّاه ب «عن» لتضمّن معنى التجافي و التجاوز.

فَكُلُوهُ هَنِيئاً مَرِيئاً فخذوه و أنفقوه حلالا بلا تبعة. و الهني ء و المري ء صفتان من: هنأ الطعام و مري ء، إذا ساغ من غير غصص، أقيمتا مقام مصدريهما، كأنّه قال: هنأ مرءا، أو وصف بهما المصدر، أي: أكلا هنيئا مريئا، أو جعلتا حالا من

الضمير. و قيل: الهني ء ما يلذّه الإنسان، و المري ء ما تحمد عاقبته.

[سورة النساء (4): آية 5]

وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (5)

و لمّا أمر سبحانه فيما تقدّم بدفع مال الأيتام إليهم، عقّبه بذكر من لا يجوز الدفع إليه منهم، فقال: وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ نهي للأولياء عن أن يؤتوا الّذين لا رشد لهم أموالهم فيضيّعونها. و هم: النساء، و الصبيان، و المجانين،

______________________________

(1) آل عمران: 15.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 14

و المبذّرين. و إنّما أضاف الأموال إلى الأولياء لأنّها في تصرّفهم و تحت ولايتهم، و هو الملائم للآيات المتقدّمة و المتأخّرة.

و قيل: نهي لكلّ أحد أن يعمد إلى ما أعطاه اللّه تعالى من المال، فيعطي امرأته و أولاده، ثمّ ينظر إلى أيديهم.

و إنّما سمّاهم سفهاء استخفافا بعقولهم، و استهجانا لجعلهم قوّاما على أنفسهم. و هو أوفق لقوله تعالى: الَّتِي جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ قِياماً أي: ما تقومون بها و تنتعشون، فلو ضيّعتموها بإعطاء السفهاء لضعفتم و احتجتم. و على الأوّل يؤوّل بأنّها الّتي من جنس ما جعل اللّه لكم قياما، كما قال: وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «1» أي:

مثل أنفسكم.

و قرأ نافع و ابن عامر: قيما بالقصر بمعناه، كعوذ بمعنى عياذ.

وَ ارْزُقُوهُمْ فِيها وَ اكْسُوهُمْ و اجعلوا الأموال مكانا لرزقهم و كسوتهم، بأن تتّجروا و تحصّلوا من نفعها ما يحتاجون إليه، و لأجل هذا المعنى لم يقل: منها.

و قيل: معناه الرزق من اللّه فيها، أي: جعل اللّه رزقكم و رزقهم فيها. فعلى الأوّل يمكن أن يحتجّ به على وجوب الكسب بمال المولّى عليهم، لظاهر الأمر. و يحتمل عدم الوجوب، للأصل، و لأنّه اكتساب و لا يجب. و

الحقّ أنّه يجب استنماؤه قدر النفقة، و أمّا الزيادة على ذلك فندب. هكذا قال صاحب كنز العرفان «2».

وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً عدة جميلة تطيب بها نفوسهم، فلا تخاشنوهم، أو قولوا لهم ما ينبّههم على الرشد و الصلاح من أمر المعاش و المعاد، حتّى إذا بلغوا كانوا على بصيرة من ذلك. و المعروف ما عرفه الشرع أو العقل لحسنه، و المنكر ما أنكره أحدهما لقبحه.

______________________________

(1) النساء: 29.

(2) كنز العرفان 2: 111.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 15

[سورة النساء (4): آية 6]

وَ ابْتَلُوا الْيَتامى حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ وَ لا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا وَ مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ بِالْمَعْرُوفِ فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ وَ كَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (6)

و لمّا أمر اللّه سبحانه بإيتاء الأيتام أموالهم، و منع من دفع المال إلى السفهاء، بيّن هنا الحدّ الفاصل بين ما يحلّ من ذلك للوليّ و ما لا يحلّ، فقال: وَ ابْتَلُوا الْيَتامى اختبروا عقولهم قبل البلوغ بتتبّع أحوالهم في التهدّي إلى ضبط المال و حسن التصرّف، بأن تكلوا إليهم مقدّمات البيع، لكن العقد لو وقع منه كان باطلا.

و عند أبي حنيفة يكون العقد صحيحا.

حَتَّى إِذا بَلَغُوا النِّكاحَ إذا بلغوا حدّ البلوغ، بأن يحتلموا، أو تنبت شعورهم الخشنة، أو يستكملوا خمس عشرة إن كانوا ذكورا أو خناثى، أو تسع سنة إن كنّ إناثا. و عند أبي حنيفة ثمانية عشر في الذكر و الخنثى، و سبعة عشر في الأنثى.

فَإِنْ آنَسْتُمْ مِنْهُمْ رُشْداً فإن أبصرتم منهم تهدّيا إلى وجوه التصرّف و إصلاحا للمال. و هل يشترط إصلاح الدين أيضا؟ قال الشافعي: نعم، فيحجر عنده الفاسق. و قال أبو حنيفة:

لا حجر عليه. و به قال أكثر أصحابنا، اللّهمّ إلّا أن يكون فسقه بإتلاف ماله، فالحجر باق. و قال الشيخ «1» بمقالة الشافعي.

فَادْفَعُوا إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ من غير تأخير عن حدّ البلوغ و الرشد. الشرطيّة

______________________________

(1) راجع الخلاف 3: 283 مسألة (3)

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 16

جواب «إذا» المتضمّنة معنى الشرط، و الجملة غاية الابتلاء، كأنّه قيل: و ابتلوا اليتامى إلى وقت بلوغهم و استحقاقهم دفع أموالهم إليهم، بشرط إيناس الرشد منهم.

و هو دليل على أنّه لا يدفع إليهم ما لم يؤنس منهم الرشد، خلافا لأبي حنيفة حيث قال: يزاد على زمان البلوغ سبع سنين ثم يعطى ما لهم، رشدوا أم لا.

وَ لا تَأْكُلُوها إِسْرافاً وَ بِداراً أَنْ يَكْبَرُوا مسرفين و مبادرين كبرهم، أو لإسرافكم و بداركم كبرهم. و الأولى أنّهما مصدران، لأنّهما نوعان للأكل، لا أنّهما مفعول له، لأنّ الشي ء لا يعلّل بنوعيه.

وَ مَنْ كانَ غَنِيًّا فَلْيَسْتَعْفِفْ فليعفّ، ك: استقرّ بمعنى: قرّ، أي: فليمتنع عن أكل مال اليتيم، و يقتنع بما رزقه اللّه من الغنى، إشفاقا على اليتيم، و إبقاء على ماله وَ مَنْ كانَ فَقِيراً فَلْيَأْكُلْ ماله بِالْمَعْرُوفِ بقدر حاجته و أجرة سعيه. و قيل: أقلّ الأمرين، لقوله تعالى: وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ «1». و لا ريب أنّ هذا أحسن. و هذا مشعر بأنّ الوليّ له حقّ في مال الصبيّ. و قيل: يأخذ من ماله قدر الحاجة على وجه الاستقراض.

و

في الحديث: «أنّ رجلا قال للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ في حجري يتيما، أ فآكل من ماله؟ قال: كل بالمعروف غير متأثّل «2» مالا، و لا واق مالك بماله».

فَإِذا دَفَعْتُمْ إِلَيْهِمْ أَمْوالَهُمْ فَأَشْهِدُوا عَلَيْهِمْ بأنّهم قبضوها، فإنّه أنفى

للتهمة، و أبعد من الخصومة و وجوب الضمان. و ظاهره يدلّ على أنّ القيّم لا يصدّق في دعواه إلّا بالبيّنة. و هو المختار عندنا. و هو مذهب مالك، خلافا لأبي حنيفة.

وَ كَفى بِاللَّهِ حَسِيباً محاسبا، فلا تخالفوا ما أمرتم به، و لا تتجاوزوا ما حدّ لكم.

______________________________

(1) الأنعام: 152.

(2) أي: متّخذ مالا أصلا، من: تأثّل المال، أي: اكتسبه و ثمّره.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 17

[سورة النساء (4): الآيات 7 الى 8]

لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (7) وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ أُولُوا الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلاً مَعْرُوفاً (8)

روي أنّ أوس بن الصامت الأنصاري خلّف زوجته أم كحّة و ثلاث بنات، فزوى «1» ابنا عمّه سويد و عرفطة- أو قتادة و عرفجة- ميراثه عنهنّ على سنّة الجاهليّة، فإنّهم ما كانوا يورّثون النساء و الأطفال، و يقولون إنّما يرث من يحارب و يذبّ عن الحوزة. فجاءت أمّ كحّة إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مسجد الفضيخ فشكت إليه. فقال: ارجعي حتى أنظر ما يحدث اللّه، فنزلت: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ

يريد بهم المتوارثين بالقرابة مِمَّا قَلَّ مِنْهُ أَوْ كَثُرَ بدل ممّا ترك بإعادة العامل نَصِيباً مَفْرُوضاً نصب على أنّه مصدر مؤكّد، كقوله: فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ «2». أو حال، إذ المعنى: ثبت لهم مفروضا نصيب. أو على الاختصاص، بمعنى: أعني نصيبا مقطوعا واجبا لهم.

و فيه دليل على بطلان القول بالعصبة، لأنّ اللّه تعالى فرض الميراث للرجال و النساء، و على أن الوارث لو أعرض عن نصيبه

لم يسقط حقّه.

و لمّا نزلت هذه الآية بعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى ابني عمّ أوس: لا تفرّقا من مال

______________________________

(1) أي: منع و صرف.

(2) النساء: 11.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 18

أوس شيئا، فإنّ اللّه قد جعل لهنّ نصيبا، و لم يبيّن حتى يبيّن، فنزلت: يُوصِيكُمُ اللَّهُ «1» الآية، فأعطى أم كحّة الثمن، و البنات الثلثين، و الباقي ردّ عليهنّ «2». و هو دليل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب.

وَ إِذا حَضَرَ الْقِسْمَةَ قسمة التركة أُولُوا الْقُرْبى ممّن لا يرث وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينُ فَارْزُقُوهُمْ مِنْهُ فأعطوهم شيئا من المقسوم تطييبا لقلوبهم، و تصدّقا عليهم. و هو أمر ندب للبلّغ من الورثة. و قيل: أمر وجوب، ثم نسخ بآية «3» الميراث. و قال سعيد بن جبير: إنّ ناسا يقولون: نسخت، و اللّه ما نسخت، و لكنّها ممّا يتهاون به الناس. وَ قُولُوا لَهُمْ قَوْلًا مَعْرُوفاً و هو أن تدعوا لهم، و لا تمنّوا عليهم بذلك.

[سورة النساء (4): آية 9]

وَ لْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَ لْيَقُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (9)

و لمّا أمر سبحانه بالقول المعروف نهاهم عن خلافه، و أمر بالأقوال السديدة و الأفعال الحميدة، فقال: وَ لْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا مِنْ خَلْفِهِمْ ذُرِّيَّةً ضِعافاً خافُوا عَلَيْهِمْ أمر للأوصياء بأن يخشوا اللّه و يتّقوه في أمر اليتامى، و يشفقوا عليهم خوفهم على ذرّيّتهم لو تركوهم ضعافا، و شفقتهم عليهم، و يقدّروا ذلك في أنفسهم و يصوّروه، حتى لا يجسروا على خلاف الشفقة و الرحمة، فيفعلوا بهم ما يحبّون أن يفعل بذراريهم الضعاف بعد وفاتهم.

______________________________

(1) النساء: 11.

(2) في الكشّاف (1: 476- 477): و الباقي لبني العمّ.

(3) النساء: 11- 12.

زبدة

التفاسير، ج 2، ص: 19

أو للحاضرين عند إيصاء المريض، بأن يخشوا ربّهم، أو يخشوا على أولاد المريض و يشفقوا عليهم شفقتهم على أولادهم لو كانوا بعدهم، فلا يتركوا المريض أن يضرّبهم بصرف المال عنهم.

أو للورثة بالشفقة على من حضر القسمة من ضعفاء الأقارب و اليتامى و المساكين، متصوّرين أنّهم لو كانوا أولادهم بقوا خلفهم ضعافا مثلهم، هل يجوّزون حرمانهم؟

أو للموصين، بأن ينظروا للورثة، فلا يسرفوا في الوصيّة.

و «لو» بما في حيّزه جعل صلة ل «الّذين» على معنى: و ليخش الّذين حالهم و صفتهم أنّهم لو شارفوا أن يخلّفوا ذرّيّة ضعافا خافوا عليهم الضياع.

و فيه بعث على الترحّم، و أن يحبّ لأولاد غيره ما يحبّ لأولاده، و تهديد للمخالف بحال أولاده.

فَلْيَتَّقُوا اللَّهَ وَ لْيَقُولُوا قَوْلًا سَدِيداً موافقا للشرع، و يخاطبوهم بخطاب جميل. أمرهم بالتقوى التي هي غاية الخشية بعد ما أمرهم بها مراعاة للمبدأ و المنتهى، تأكيدا و مبالغة. ثم أمرهم أن يقولوا لليتامى مثل ما يقولون لأولادهم، بالشفقة و حسن الأدب. أو للمريض ما يصدّه عن الإسراف في الوصيّة و تضييع الورثة، و يذكّره التوبة و كلمة الشهادة. و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من سرّه أن يزحزح عن النار و يدخل الجنّة فلتأته منيّته و هو يشهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمدا رسول اللّه، و يحبّ أن يأتي إلى الناس ما يحبّ أن يؤتى إليه».

أو لحاضري القسمة عذرا جميلا، و وعدا حسنا. أو أن يقول الموصون في الوصيّة ما لا يؤدّي إلى مجاوزة الثلث، و تضييع الورثة.

روي عن سعد بن أبي وقّاص قال: «مرضت فجاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يعودني.

فقلت: يا رسول اللّه أوصي

بمالي كلّه؟ قال: لا. قلت: بالنصف؟ قال: لا. قلت:

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 20

بالثلث؟ قال: بالثلث و الثلث كثير، إنّك إن تدع ورثتك أغنياء خير من أن تدعهم عالة يتكفّفون الناس بأيديهم».

[سورة النساء (4): آية 10]

إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً (10)

ثم أوعد اللّه سبحانه آكلي مال اليتيم نار جهنّم، فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى أي: ينتفعون بها على أيّ وجه كان. و تخصيص الأكل بالذكر لأنّه معظم منافع المال المقصود ظُلْماً ظالمين، أو على وجه الظلم إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ مل ء بطونهم. يقال: أكل فلان في بطنه، أي: ملأ بطنه. ناراً أي: ما يجرّ إلى النار و يؤول إليها، و كأنّه نار في الحقيقة.

و

روي أنّه يبعث آكل مال اليتيم يوم القيامة و الدخان يخرج من قبره، و من فيه و أنفه و أذنيه و عينيه، فيعرف الناس أنّه كان يأكل مال اليتيم في الدنيا».

و

عن أبي بردة أنّه عليه السّلام قال: «يبعث اللّه قوما من قبورهم تتأجّج أفواههم نارا.

فقيل: من هم؟ فقال: ألم تر أنّ اللّه يقول: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً إِنَّما يَأْكُلُونَ فِي بُطُونِهِمْ ناراً».

وَ سَيَصْلَوْنَ سَعِيراً سيدخلون نارا و أيّ نار، أي: نارا من نيران مبهمة الوصف. و قرأ ابن عامر و ابن عيّاش عن عاصم بضمّ الياء مخفّفا. يقال: صلى النار، إذا قاسى حرّها، و صليته: شويته، و أصليته و صليته: ألقيته فيها. و السعير بمعنى المفعول من: سعرت إذا ألهبتها.

عن الحلبي أنّ الصادق عليه السّلام قال: «إنّ في كتاب عليّ بن أبي طالب عليه السّلام أن آكل مال اليتيم ظلما سيدركه وبال ذلك في عقبه من بعده، و يلحقه وبال ذلك في الآخرة. أمّا

الدنيا فإن اللّه يقول وَ لْيَخْشَ الَّذِينَ لَوْ تَرَكُوا الآية. و أمّا في الآخرة

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 21

فإنّ اللّه يقول: إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً الآية».

[سورة النساء (4): آية 11]

يُوصِيكُمُ اللَّهُ فِي أَوْلادِكُمْ لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ وَ إِنْ كانَتْ واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ وَ لِأَبَوَيْهِ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ وَلَدٌ فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (11)

ثم فصّل سبحانه ما أجمله فيما قبل من قوله: «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ» الآية، فقال: يُوصِيكُمُ اللَّهُ يأمركم و يفرض عليكم، لأنّ الوصيّة منه سبحانه أمر و فرض فِي أَوْلادِكُمْ في شأن ميراثهم. و هو إجمال، تفصيله:

لِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ التقدير: للذكر منهم، فحذف للعلم به، أي: يعدّ كلّ ذكر من الأولاد في النصيب بأنثيين حيث اجتمع الصنفان، فيضعّف نصيبه. و تخصيص الذكر بالتنصيص على حظّه لأنّ القصد إلى بيان فضله، و التنبيه على أنّ التضعيف كاف للتفضيل، فلا يحرمنّ بالكلّية.

و هذا الحكم في حال اجتماع البنين و البنات. فأمّا في حال الانفراد فالابن فصاعدا يأخذ المال، و البنات يأخذن الثلثين، لقوله: فَإِنْ كُنَّ نِساءً أي: فإن كان الأولاد نساء خلّصا ليس معهنّ ذكر، فأنّت الضمير باعتبار الخبر، أو على تأويل المولودات فَوْقَ اثْنَتَيْنِ خبر ثان، أو صفة ل «نساء»، أي: نساء زائدات على

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 22

اثنتين فَلَهُنَّ ثُلُثا ما تَرَكَ من الميراث. و الضمير في «ترك» للميّت و إن

لم يجر له ذكر، لأنّ الآية لمّا كانت في الميراث علم أنّ التارك هو الميّت.

و حكم البنتين حكم ما زاد عليهما من البنات، لأنّه لمّا بيّن اللّه تعالى أنّ حظّ الذكر مثل الأنثيين إذا كان معه أنثى و هو الثلثان، اقتضى ذلك أنّ فرضهما الثلثان، ثم لما أوهم ذلك أن يزاد النصيب بزيادة العدد ردّ ذلك بقوله: «فَإِنْ كُنَّ نِساءً فَوْقَ اثْنَتَيْنِ». و يؤيّد ذلك: أنّ البنت الواحدة لمّا استحقّت الثلث مع أخيها، فبالحريّ أن تستحقّه مع أخت مثلها، و أنّ البنتين أمسّ رحما من الأختين، و قد فرض لهما الثلثين بقوله: فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ «1»، فكان للبنتين الثلثان بطريق أولى. و أيضا أجمعت الأمّة على أنّ حكم البنتين حكم البنات.

و نقل عن ابن عبّاس أنّ حكم الاثنتين حكم الواحدة، لأنّه تعالى جعل الثلثين لما فوقهما. و الحقّ الأوّل، و عليه الفقهاء الإماميّة و معظم العامّة.

وَ إِنْ كانَتْ أي: إن كانت المولودة أو المتروكة واحِدَةً فَلَهَا النِّصْفُ نصف ما ترك الميّت.

ثم ذكر ميراث الوالدين بقوله: وَ لِأَبَوَيْهِ و لأبوي الميّت، يعني: الأب و الأمّ لِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا بدل منه بتكرير العامل. و فائدته التنصيص على استحقاق كلّ واحد منهما السدس، و التفصيل بعد الإجمال تأكيدا السُّدُسُ مِمَّا تَرَكَ إِنْ كانَ لَهُ للميّت وَلَدٌ ذكر أو أنثى، واحد أو أكثر.

ثم إن كان الولد ذكرا كان الباقي له. و إن كان ذكورا فالباقي لهم بالسويّة. و إن كانوا ذكورا و إناثا فللذكر مثل حظّ الأنثيين. و إن كانت بنتا فلها النصف بالتسمية، و لأحد الأبوين السدس، و لهما السدسان، و الباقي عند ائمّتنا عليهم السّلام يردّ على البنت و على أحد الأبوين أو عليهما على قدر

سهامهم، بدلالة قوله تعالى:

______________________________

(1) النساء: 176.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 23

وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ «1». و ولد الولد يقوم مقام الولد الصلب مع الوالدين. و في بعض هذه المسائل خلاف بين الفقهاء مذكور في الكتب الفقهيّة.

فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ للميّت وَلَدٌ ابن و لا بنت و لا أولادهما، لأنّ اسم الولد يعمّ الجميع وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فحسب فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ ممّا ترك. و إنّما لم يذكر حصّة الأب، لأنّه لمّا فرض أنّ الوارث أبواه فقط و عيّن نصيب الأمّ، علم أنّ الباقي للأب، فكأنّه قال: فلهما ما ترك أثلاثا. فَإِنْ كانَ لَهُ إِخْوَةٌ فَلِأُمِّهِ السُّدُسُ

و قرأ حمزة و الكسائي: فلأمّه، بكسر الهمزة، اتباعا للكسرة الّتي قبلها.

قال معظم أصحابنا: إنّما يكون لها السدس إذا كان هناك أب. و يدلّ عليه ما تقدّم من قوله: «و ورثه»، فإنّ هذه الجملة معطوفة على قوله: «فَإِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلَدٌ وَ وَرِثَهُ أَبَواهُ فَلِأُمِّهِ الثُّلُثُ». و تقديره: فإن كان له إخوة و ورثه أبواه فلأمّه السدس.

و يشترط في الإخوة أن لا يكونوا كفرة، و لا قتلة، و لا رقّا، و أن يكونوا منفصلين لا حملا، و أن يكونوا للأبوين أو للأب.

و قال بعض أصحابنا: إنّ لها السدس مع وجود الإخوة و إن لم يكن هناك أب. و به قال جميع فقهاء العامّة. و اتّفقوا على أنّ الأخوين يحجبان الأمّ من الثلث إلى السدس.

و قد روي عن ابن عبّاس أنّه قال: لا تحجب الأمّ من الثلث إلى السدس بأقلّ من ثلاثة من الإخوة و الأخوات، كما يقتضيه ظاهر الآية.

و أصحابنا يقولون: لا يحجب الأمّ عن الثلث إلى السدس إلّا أخوان، أو أخ و أختان، أو أربع

أخوات من قبل الأب و الأمّ، أو من قبل الأب خاصّة دون الأمّ.

و في ذلك خلاف بين فقهاء الامّة.

و الأنصباء المفصّلة على النهج المذكور للورثة مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِي بِها أَوْ دَيْنٍ

______________________________

(1) الأنفال: 75.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 24

فهذا متعلّق بما تقدّمه من قسمة المواريث كلّها. و قرأ ابن عامر و ابن كثير و ابن عيّاش عن عاصم: يوصى، على البناء للمفعول.

و إنّما قال ب «أو» الّتي للإباحة دون الواو للدلالة على أنّهما متساويان في الوجوب، مقدّمان على القسمة مجموعين و منفردين، كقولهم: جالس الحسن أو ابن سيرين، أي: جالس أحدهما مفردا أو مضموما.

و قدّم الوصيّة على الدين، و هي متأخّرة في الحكم إجماعا، لأنّها مشبهة بالميراث، شاقّة على الورثة في كونها مأخوذة من غير عوض، فكان إخراجها ممّا يشقّ عليهم، مندوب إليها جميع المؤمنين، و الدين إنّما يكون على الندور.

ثم اعترض بين أرباب المواريث بما يوجب تأكيدا لأمر القسمة و تنفيذا للوصيّة، فقال: آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ لا تَدْرُونَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ لَكُمْ نَفْعاً أي: لا تعلمون من أنفع لكم ممّن يرثكم من أصولكم و فروعكم، في عاجلكم و آجلكم، فتحرّوا فيهم ما أوصاكم اللّه به، و لا تعمدوا إلى تفضيل بعض و حرمان بعض.

و

قد روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن أحد المتوالدين إذا كان أرفع درجة من الآخر في الجنّة سأل أن يرفع إليه، فيرفع بشفاعته.

أو من «1» مورّثيكم، أي: لا تعلمون من أوصى منهم، فعرّضكم للثواب الباقي بإمضاء وصيّته، فهو أقرب لكم نفعا ممّن ترك الوصيّة، أم من لم يوص، فوفّر عليكم ماله الفاني.

فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ مصدر مؤكّد، أي: فرض فرضا، أو مصدر «يوصيكم اللّه»، لأنّه في معنى: يأمركم

و يفرض عليكم إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بمصالح خلقه و رتبهم حَكِيماً فيما فرض من المواريث و غيرها.

______________________________

(1) عطف على قوله: «ممن يرثكم من أصولكم» قبل أسطر.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 25

[سورة النساء (4): آية 12]

وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَ لَهُنَّ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ يُورَثُ كَلالَةً أَوِ امْرَأَةٌ وَ لَهُ أَخٌ أَوْ أُخْتٌ فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَلِيمٌ (12)

و لمّا بيّن ميراث الوالدين و الأولاد عيّن إرث الأزواج و الكلالات، و قدّم الأزواج لأنّهم يرثون مع جميع الطبقات، فقال مخاطبا للأزواج: وَ لَكُمْ نِصْفُ ما تَرَكَ أَزْواجُكُمْ زوجاتكم إِنْ لَمْ يَكُنْ لَهُنَّ وَلَدٌ أي: ولد وارث من بطنها، أو من صلب بنيها، أو بني بنيها و إن سفل، ذكرا أو أنثى، منكم أو من غيركم فَإِنْ كانَ لَهُنَّ وَلَدٌ منكم أو من غيركم فَلَكُمُ الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْنَ أي: من ميراثهنّ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصِينَ بِها أَوْ دَيْنٍ على نهج ما سبق.

وَ لَهُنَ و لزوجاتكم الرُّبُعُ مِمَّا تَرَكْتُمْ من الميراث إِنْ لَمْ يَكُنْ لَكُمْ وَلَدٌ مطلقا كما مرّ فَإِنْ كانَ لَكُمْ وَلَدٌ فَلَهُنَّ الثُّمُنُ مِمَّا تَرَكْتُمْ مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ تُوصُونَ بِها أَوْ دَيْنٍ فرض للرجل بحقّ الزواج ضعف ما للمرأة، كما في النسب. و هكذا قياس كلّ رجل و امرأة

اشتركا في الجهة و القرب، و لا يستثنى منه إلّا أولاد الأمّ و المعتق و المعتقة. و تستوي الواحدة و العدد منهنّ في الربع و الثمن.

وَ إِنْ كانَ رَجُلٌ أي: ميّت يُورَثُ على البناء للمفعول، أي: يورث منه،

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 26

من: ورث، أو يورث من: أورث، فيكون الرجل وارثا لا موروثا منه. و هو صفة رجل كَلالَةً خبر «كان» أي: و إن كان رجل موروث منه أو وارث كلالة، أو «يورث» خبره و «كلالة» حال من الضمير في «يورث»، أو مفعول له. و هو من لم يخلّف ولدا و لا والدا. و المعنى: قرابة ليست من جهة الوالد و الولد.

و عن ابن عبّاس: أنّ الكلالة من عدا الولد. و

المرويّ عن أئمّتنا عليهم السّلام أنّ الكلالة الإخوة و الأخوات.

و المذكور في هذه الآية من كان من قبل الأمّ منهم، و المذكور في آخر السورة من كان منهم من قبل الأب و الأمّ، أو من قبل الأب.

فالكلالة: أن يترك الإنسان من أحاط بأصل النسب الّذي هو الولد و الوالد و تكلّله، كالإكليل الّذي يحيط بالرأس و يشتمل عليه. و ليس الولد و الوالد بكلالة، لأنّهما أصل النسب الّذي ينتهي إلى الميّت، و من سواهما خارج عنهما. فتكون الكلالة كالإكليل «1» يشتمل على الرأس و يحيط به، و ليس من أصله. و هي في الأصل مصدر بمعنى الكلال، فاستعير لقرابة ليست بولد و لا والد، ثم وصف بها من لم يخلّف والدا و لا ولدا و خلّف ما عداهما من الإخوة و الأخوات، ثم وصف بها المورّث و الوارث، بمعنى: ذي كلالة، كما تقول: فلان من قرابتي، تريد من ذوي قرابتي.

أَوِ امْرَأَةٌ عطف على رجل وَ لَهُ

و للرجل. و اكتفى بحكمه عن حكم المرأة لدلالة العطف على تشاركهما فيه. أَخٌ أَوْ أُخْتٌ من الأمّ، لأنّه ذكر في آخر السورة أن للأختين الثلثين و للإخوة الكلّ، و هو لا يليق بأولاد الأمّ، و لأنّ ما قدّر ها هنا فرض الأمّ، فيناسب أن يكون لأولادها. و يدلّ عليه أيضا قراءة أبيّ و سعد بن مالك: و له أخ أو أخت من الأمّ، و لروايات أصحابنا المتظافرة، و للإجماع.

فَلِكُلِّ واحِدٍ مِنْهُمَا السُّدُسُ فَإِنْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْ ذلِكَ فَهُمْ شُرَكاءُ فِي الثُّلُثِ سوّى بين الذكر و الأنثى في القسمة لأنّ الانتساب بمحض الأنوثة، و لا خلاف بين الأمّة

______________________________

(1) الإكليل: التاج، شبه عصابة تزيّن بالجوهر.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 27

أنّ الإخوة و الأخوات من قبل الأمّ متساوون في الميراث.

مِنْ بَعْدِ وَصِيَّةٍ يُوصى بِها أَوْ دَيْنٍ غَيْرَ مُضَارٍّ حال، أي: يوصى بها غير مضارّ لورثته بالزيادة على الثلث، أو قصد المضارّة بالوصيّة دون القربة، و بالإقرار بدين لا يلزمه. و هو حال من فاعل «يوصي» في هذه القراءة، و فاعل «يوصى» المدلول عليه بقوله «يوصى» على البناء للمفعول في قراءة ابن كثير و عاصم، فإنّه لمّا قيل: «يوصى بها» علم أنّ ثمّة موصيا، كما قال: يُسَبِّحُ لَهُ «1» على ما لم يسمّ فاعله، فعلم أنّ ثمّة مسبّحا، فأضمر «يسبّح».

وَصِيَّةً مِنَ اللَّهِ مصدر مؤكّد، أو منصوب ب «غير مضارّ» على المفعول به، أي: لا يضارّ وصيّة من اللّه تعالى- و هو الثلث فما دونه- بالزيادة، أو وصيّة منه تعالى بالأولاد بالإسراف في الوصيّة و الإقرار الكاذب وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بالمضارّ و غيره حَلِيمٌ لا يعاجل بعقوبته. و هذا وعيد.

و في هاتين الآيتين دلالة على تقدير سهام أصحاب الفرائض في

المواريث و تفصيل مسائلها، و الاختلاف فيها بين فقهاء العامّة و الخاصّة كثير، لا نطوّل بذكره الكتاب، فيحال إلى كتب الفقه.

روى محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد اللّه أنّه قال: مرضت فعادني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أبو بكر فأغمي عليّ، فدعا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بماء فتوضّأ ثم صبّه عليّ فأفقت، فقلت: يا رسول اللّه كيف أصنع في مالي؟ فسكت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فنزلت فيّ آية المواريث.

و قيل: نزلت في عبد الرحمن أخي حسّان الشاعر، و ذلك أنّه مات و ترك امرأة و خمسة إخوان، فجاءت الورثة فأخذوا ماله و لم يعطوا امرأته شيئا، فشكت ذلك إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فأنزل اللّه تعالى آية المواريث.

______________________________

(1) النور: 36. و تمام الآية: «... فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ».

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 28

[سورة النساء (4): الآيات 13 الى 14]

تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (13) وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَ لَهُ عَذابٌ مُهِينٌ (14)

و لمّا فرض اللّه تعالى فرائض المواريث، عقّبها بذكر الوعد في الائتمار لها، و الوعيد على التعدّي لحدودها، فقال: تِلْكَ إشارة إلى الأحكام الّتي تقدّمت في أمر اليتامى و الوصايا و المواريث حُدُودُ اللَّهِ شرائعه الّتي هي كالحدود المحدودة الّتي لا يجوز مجاوزتها وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فيما أمر به من الأحكام الشرعيّة الّتي منها أحكام فرائض المواريث يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا من تحت أشجارها و أبنيتها الْأَنْهارُ خالِدِينَ دائمين فِيها وَ

ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ

توحيد الضمير في «يدخله» و جمع «خالدين» للّفظ و المعنى. و قرأ نافع و ابن عامر: ندخله بالنون.

و «خالدين» حال مقدّرة، فإنّ الخلود غير حاصل حال الإدخال، كقولك:

مررت برجل معه صقر صائدا به غدا، و كذلك خالدا في قوله تعالى: وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فيما بيّنه من الفرائض و غيرها وَ يَتَعَدَّ حُدُودَهُ و يتجاوز ما حدّ له من الطاعات يُدْخِلْهُ ناراً خالِداً فِيها وَ لَهُ عَذابٌ مُهِينٌ سمّاه مهينا لأنّ اللّه تعالى يفعله على وجه الإهانة، كما أنّه يثيب المؤمن على وجه الكرامة.

و ليس «خالدين» و «خالدا» صفتين ل «جنّات» و «نارا»، و إلّا لوجب إبراز الضمير، أي: خالدين هم فيها، و خالدا هو فيها، لأنّهما جريا على غير من هما له.

و في قوله: «و يتعدّ» حدوده دلالة على أنّ المراد بقوله: «وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ» الكافر، لأنّ من تعدّى جميع حدود اللّه الّتي هي فرائضه و أوامره و نواهيه لا يكون إلّا كافرا.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 29

[سورة النساء (4): الآيات 15 الى 16]

وَ اللاَّتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ مِنْ نِسائِكُمْ فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلاً (15) وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ فَآذُوهُما فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً (16)

و لمّا بيّن سبحانه حكم الرجال و النساء في باب الزواج و الميراث، بيّن حكم الحدود فيهنّ إذا ارتكبن الزنا، فقال: وَ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ أي: يفعلنها. يقال:

أتى الفاحشة و جاءها و غشيها و رهقها، إذا فعلها. و الفاحشة: الزنا، لزيادة قبحها و شناعتها بالنسبة إلى كثير من القبائح مِنْ نِسائِكُمْ الحرائر فَاسْتَشْهِدُوا عَلَيْهِنَّ أَرْبَعَةً مِنْكُمْ فاطلبوا الشهادة أيّها

الحكّام و الأئمّة ممّن قذفهنّ أربعة من رجال المؤمنين تشهد عليهنّ، و ذلك عند عدم إقرارهنّ بها.

فَإِنْ شَهِدُوا فَأَمْسِكُوهُنَّ فِي الْبُيُوتِ فاحبسوهنّ في البيوت، و اجعلوها سجنا عليهنّ حَتَّى يَتَوَفَّاهُنَّ الْمَوْتُ يستوفي أرواحهنّ الموت، أو يتوفّاهنّ ملائكة الموت. و عند جمهور المفسّرين كان ذلك عقوبتهنّ في أوائل الإسلام، فنسخ ذلك بالرجم في المحصنين و الجلد في الأبكار. و هذا منقول «1» عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه صلوات اللّه عليهما. و يحتمل أن يكون المراد به التوصية بإمساكهنّ بعد أن يجلدن، كيلا يجري عليهنّ ما جرى بسبب الخروج و التعرّض للرجال. و لم يذكر الحدّ استغناء بقوله: الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي «2».

______________________________

(1) تفسير العيّاشي 1: 227 ح 61.

(2) النور: 2.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 30

أَوْ يَجْعَلَ اللَّهُ لَهُنَّ سَبِيلًا كتعيين الحدّ المخلّص عن الحبس، أو النكاح المغني عن السفاح. و يؤيّد الأوّل ما روي أنّه لمّا نزل قوله: «الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي» الآية

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «خذوا عنّي قد جعل اللّه لهنّ سبيلا: البكر بالبكر جلد مائة و تغريب عام، و الثيّب بالثيّب جلد مائة و الرجم».

و عندنا أنّ هذا الحكم مختصّ بالشيخ و الشيخة إذا زنيا، فأمّا غيرهما فليس عليه غير الرجم.

وَ الَّذانِ يَأْتِيانِها مِنْكُمْ يعني: الزانية و الزاني. و قرأ ابن كثير: و اللذانّ، بتشديد النون و تمكين مدّ الألف. و الباقون بالتخفيف من غير تمكين. فَآذُوهُما بالتوبيخ و التعيير. و قيل: بالجلد. فَإِنْ تابا وَ أَصْلَحا فَأَعْرِضُوا عَنْهُما فاقطعوا عنهما الإيذاء، أو أعرضوا عنهما بالإغماض و الستر إِنَّ اللَّهَ كانَ تَوَّاباً رَحِيماً علّة الأمر بالإعراض و ترك المذمّة.

قيل: الآية الأولى في السحّاقات، و هذه في اللوّاطين، و «الزانية و الزاني»

في الزناة. و هذا ينافي ما قاله جمهور المفسّرين من أنّ الفاحشة في الآية الزنا.

و قيل: هذه الآية سابقة على الاولى نزولا، و كان عقوبة الزنا الأذى ثمّ الحبس ثم الجلد. و هذا خلاف الظاهر.

[سورة النساء (4): الآيات 17 الى 18]

إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (17) وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ وَ لا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (18)

و لمّا وصف سبحانه نفسه بالتوّاب الرحيم، بيّن عقيبه شرائط التوبة الموجبة

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 31

للرحمة، فقال: إِنَّمَا التَّوْبَةُ عَلَى اللَّهِ أي: إنّما التوبة واجبة على اللّه تعالى بمقتضى وعده- كرما و تفضّلا- من تاب عليه إذا قبل توبته لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السُّوءَ بِجَهالَةٍ متلبّسين بها، أي: جاهلين سفهاء، لأنّ ارتكاب القبيح ممّا يدعو إليه السفه و الشهوة، و لا يدعو إليه العقل و الحكمة.

و

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «كلّ ذنب عمله العبد و إن كان عالما به، فهو جاهل حين خاطر بنفسه في معصية ربّه، فقد حكى اللّه تعالى قول يوسف لإخوته: هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ «1»، فنسبهم إلى الجهل لمخاطرتهم بأنفسهم في معصية اللّه تعالى».

فارتكاب الذنب سفه و تجاهل، و لذلك قيل: من عصى اللّه فهو جاهل حتى ينزع عن جهالته.

ثُمَّ يَتُوبُونَ مِنْ قَرِيبٍ من زمان قريب، أي: قبل حضور الموت، لقوله تعالى: حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ «2». و

قوله عليه السّلام: «إن اللّه يقبل توبة عبده ما لم يغرغر» «3»

، كما

ورد في كتاب من لا يحضره الفقيه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه

عليه و آله و سلّم قال في آخر خطبة خطبها: «من تاب قبل موته بسنة تاب اللّه عليه. ثم قال: و إنّ السنة لكثيرة، من تاب قبل موته بشهر تاب اللّه عليه. ثم قال: و إنّ الشهر لكثير، من تاب قبل موته بيوم تاب اللّه عليه. ثم قال: و إنّ يوما لكثير، من تاب قبل موته بساعة تاب اللّه عليه. ثم قال: و إنّ الساعة لكثير، من تاب و قد بلغت نفسه إلى هذه- و أهوى بيده إلى حلقه- تاب اللّه عليه» «4».

و

روى الثعلبي بإسناده عن عبادة بن الصامت، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هذا الخبر

______________________________

(1) يوسف: 89.

(2) النساء: 18.

(3) غرغر الرجل: صات صوتا معه بحح، و جاد بنفسه عند الموت.

(4) الفقيه 1: 79 ح 354. زبدة التفاسير، ج 2، ص: 32

بعينه، إلّا أنّه قال في آخرة: «و إنّ الساعة لكثيرة، من تاب قبل أن يغرغر بها تاب اللّه عليه».

و

روى أيضا بإسناده عن الحسن قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لمّا هبط إبليس قال: و عزّتك و عظمتك لا أفارق ابن آدم حتى تفارق روحه جسده. فقال سبحانه:

و عزّتي و عظمتي لا أحجب التوبة عن عبدي حتّى يغر غر بها».

و سمّى قبل حضور الموت قريبا لأنّ أمد الحياة قريب، لقوله تعالى: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ «1».

و «من» للتبعيض، أي: يتوبون في أيّ جزء من الزمان القريب الّذي هو ما قبل أن ينزل بهم سلطان الموت.

فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي: يقبل توبتهم. وعد بالوفاء بما وعد به و كتب على نفسه، لقوله: «إنّما التوبة على اللّه»، و إعلام بأنّ الغفران كائن لا محالة، كما يعد العبد الوفاء بالواجب

وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً فهو يعلم بإخلاصهم في التوبة حَكِيماً و الحكيم لا يعاقب التائب.

وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أي: المعاصي، و يصرّون عليها حَتَّى إِذا حَضَرَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ أي: أسباب الموت من معاينة ملك الموت، و انقطاع الرجاء عن الحياة، و هو حال لليأس الّتي لا يعلمها إلّا المحتضر قالَ إِنِّي تُبْتُ الْآنَ أي: ليس عند ذلك توبة.

وَ لَا الَّذِينَ يَمُوتُونَ وَ هُمْ كُفَّارٌ أي: ليست التوبة أيضا للّذين يموتون على الكفر ثم يندمون بعد الموت.

سوّى سبحانه بين مسوّف التوبة إلى وقت حضور الموت، و بين من يموت كافرا، في نفي التوبة، للمبالغة في عدم الاعتداد بها في تلك الحالة، و كأنّه قال:

______________________________

(1) النساء: 77.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 33

و توبة هؤلاء و عدم توبة هؤلاء سواء.

ثم أكّد عدم قبول توبتهم بقوله: أُولئِكَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً. و هذا نظير قوله: فَأُولئِكَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلَيْهِمْ في الوعد ليتبيّن أنّ الأمرين كائنان لا محالة.

و الاعتداد التهيئة، من العتاد، و هو العدّة. و قيل: أصله أعددنا، فأبدلت الدال الأولى تاء.

و قيل: المراد بالّذين يعملون السوء عصاة المؤمنين، و بالّذين يعملون السيّئات المنافقين، لتضاعف كفرهم و سوء أعمالهم، و بالّذين يموتون الكفّار.

و إنّما لم يقبل اللّه التوبة حال اليأس و هو من الحياة، لأنّه يكون العبد ملجأ إلى فعل الحسنات و ترك القبائح، فيكون خارجا عن حدّ التكليف، إذ لا يستحقّ على فعله المدح و لا الذمّ، و إذا زال عنه التكليف لم تصحّ منه التوبة، و لهذا لم يكن أهل الآخرة مكلّفين، و لا تقبل توبتهم.

[سورة النساء (4): آية 19]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ كَرْهاً وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَّ إِلاَّ أَنْ

يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَّ فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً (19)

و لمّا نهى اللّه تعالى فيما تقدّم عن عادات أهل الجاهليّة في أمر اليتامى و الأموال، و انجرّ الكلام إلى ها هنا، عقّبها بالنهي عن الاستنان بسنّتهم في النساء، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَحِلُّ لَكُمْ أَنْ تَرِثُوا النِّساءَ أي: نكاحهنّ كَرْهاً على كره منهنّ.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 34

روي أنّ من عادات الجاهليّة أنّ الرجل إذا مات و له عصبة ألقى ثوبه على امرأته و قال: أنا أحقّ بها، ثم إن شاء تزوّجها بصداقها الأوّل، و إن شاء زوّجها غيره و أخذ صداقها، و إن شاء عضلها عن التزويج لتفتدي بما ورثت من زوجها. و من جملتهم أبو قيس بن الأسلت لمّا مات عن زوجته كبيشة بنت معن ألقى ابنه من غيرها- و هو محصن بن أبي قيس- ثوبه عليها، فورث نكاحها ثم تركها فلم يقربها و لم ينفق عليها، فجاءت إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالت: يا نبيّ اللّه لا أنا ورثت زوجي، و لا أنا تركت فأنكح! فنهى اللّه سبحانه عن ذلك.

و قرأ حمزة و الكسائي: كرها بالضمّ في مواضعه. و هما لغتان. و قيل: بالضمّ المشقّة، و بالفتح ما يكره عليه.

وَ لا تَعْضُلُوهُنَّ لِتَذْهَبُوا بِبَعْضِ ما آتَيْتُمُوهُنَ عطف على «أن ترثوا»، و «لا» لتأكيد النفي، أي: و لا تمنعوهنّ من التزويج. و أصل العضل الحبس و التضييق، يقال: عضلت المرأة بولدها، إذا اختنقت رحمها به فخرج بعضه و بقي بعضه. و كذا: عضلت الدجاجة بيضها.

و

عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: «الخطاب مع الأزواج، كانوا يحبسون النساء من غير

حاجة و رغبة، و ينتظرون موتها حتى يرثوا منهنّ».

و عن ابن عبّاس: نزلت في الرجل يكون تحته امرأة يكره صحبتها، و لها عليه مهر، فيطول عليها و يضارّها لتفتدي بالمهر أو تموت فيرث منها مهرها.

و قيل: تمّ الكلام بقوله: «كرها»، ثم خاطب الأزواج و نهاهم عن العضل.

إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ كالنشوز، و سوء العشرة، و عدم التعفّف.

و الاستثناء من أعمّ عامّ الظرف، أي: لا تعضلوهنّ للافتداء في وقت من الأوقات إلّا أن يأتين بفاحشة، فيصيرون معذورين في طلب الخلع، أو من المفعول له، أي: لا تعضلوهنّ لعلّة إلّا أن يأتين بفاحشة.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 35

و قرأ ابن كثير و أبو بكر عن عاصم: مبيّنة هنا، و في الأحزاب «1» و الطلاق بفتح الياء، و الباقون بكسرها فيهنّ.

وَ عاشِرُوهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ بالإنصاف في الإنفاق و الإجمال في القول و الفعل فَإِنْ كَرِهْتُمُوهُنَ أي: كرهتم صحبتهنّ و إمساكهنّ، فلا تفارقوهنّ لكراهة الأنفس وحدها فَعَسى أَنْ تَكْرَهُوا شَيْئاً وَ يَجْعَلَ اللَّهُ فِيهِ خَيْراً كَثِيراً فإنّ النفس قد تكره ما هو أصلح دينا و أكثر خيرا، و قد تحبّ ما هو بخلافه، فليكن نظركم إلى ما هو أصلح للدين و أقرب إلى الخير. و «عسى» في الأصل علّة الجزاء، فأقيم مقامه.

و المعنى: فإن كرهتموهنّ فاصبروا عليهنّ، فعسى أن تكرهوا شيئا و هو خير لكم.

[سورة النساء (4): الآيات 20 الى 21]

وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَّ قِنْطاراً فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (20) وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ وَ قَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (21)

روي أنّ الرجل إذا أراد جديدة بهت الّتي تحته بفاحشة يلجئها إلى الافتداء منه بما أعطاها، ليصرفه إلى تزوّج

الجديدة، فنهى اللّه تعالى عن ذلك بقوله: وَ إِنْ أَرَدْتُمُ اسْتِبْدالَ زَوْجٍ مَكانَ زَوْجٍ تطليق امرأة و تزوّج أخرى وَ آتَيْتُمْ إِحْداهُنَ أي:

إحدى الزوجات. جمع الضمير لأنّه أراد بالزوج الجنس. قِنْطاراً مالا كثيرا، و هو الصداق، من: قنطرت الشي ء إذا رفعته، و منه: القنطرة، لأنّها بناء مشيّد فَلا تَأْخُذُوا مِنْهُ شَيْئاً أي: من القنطار، أي: لا ترجعوا فيما أعطيتموهنّ من المهر إذا كرهتموهنّ و أردتم طلاقهنّ أَ تَأْخُذُونَهُ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً استفهام إنكار و توبيخ،

______________________________

(1) الأحزاب: 30، الطلاق: 1.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 36

أي: أ تأخذونه باهتين و آثمين؟ و يحتمل النصب على العلّيّة، كما في قولك: قعدت عن الحرب جبنا، لأنّ الأخذ بسبب بهتانهم و اقترافهم المآثم.

و البهتان الكذب الّذي يبهت المكذوب عليه، فيتحيّر. و قد يستعمل في الفعل الباطل، و لهذا فسّر هاهنا بالظلم.

ثم أنكر تعجيبا استرداد المهر بقوله: وَ كَيْفَ تَأْخُذُونَهُ أي: عجبا من فعلكم كيف تأخذون ذلك المهر وَ قَدْ أَفْضى بَعْضُكُمْ إِلى بَعْضٍ ! الجملة حاليّة من فاعل «تأخذونه». و الإفضاء كناية عن الجماع. و المعنى: و كيف تأخذون مهرهنّ و الحال أنّه وصل بعضكم إلى بعضها بالملامسة، و دخل بها و تقرّر المهر؟! وَ أَخَذْنَ مِنْكُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً عهدا وثيقا، و هو حقّ الصحبة و الممازجة و المضاجعة. و وصفه بالغلظ لقوّته و عظمه، فقد قالوا: صحبة عشرين يوما قرابة، فكيف بما يجري بين الزوجين من الاتّحاد و الامتزاج؟! و قيل: الميثاق الغليظ هو العهد المأخوذ على الزوج حالة العقد من إمساك بمعروف أو تسريح بإحسان. و

أشار إليه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقوله: «استوصوا بالنساء خيرا، فإنّهنّ عوان «1» في أيديكم، أخذتموهنّ بأمانة اللّه، و

استحللتم فروجهنّ بكلمة اللّه».

[سورة النساء (4): آية 22]

وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ مَقْتاً وَ ساءَ سَبِيلاً (22)

و لمّا بيّن سبحانه ذكر شرائط النكاح عقّبه بذكر من تحلّ من النساء و من لا تحلّ، فقال: وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ و لا تنكحوا الّتي نكحها آباؤكم. و إنّما ذكر «ما» دون «من» لأنّه أريد به الصفة، لأنّ المعنى: لا تنكحوا منكوحة آبائكم.

______________________________

(1) العاني: الأسير، و مؤنّثه: العانية، و الجمع: عناة و عوان، كحافي و حفاة، و جارية و جوار.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 37

و قيل: «ما» مصدريّة على إرادة المفعول من المصدر، أي: لا تنكحوا نكاح آبائكم، بمعنى منكوحتهم، إطلاقا للمصدر على المفعول. مِنَ النِّساءِ بيان ما نكح على الوجهين إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ استثناء من المعنى اللازم للنهي، كأنّه قيل: تستحقّون العقاب بنكاح ما نكح آباؤكم إلّا ما قد سلف، فإنّه معفوّ عنها. أو من اللفظ، للمبالغة في التحريم و التعميم، كقوله:

و لا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم بهنّ فلول من قراع الكتائب

و المعنى: و لا تنكحوا حلائل آبائكم إلّا ما قد سلف إن أمكنكم أن تنكحوا فانكحوه، فإنّه لا يحلّ لكم غيره، و لكنّه غير ممكن. فالغرض المبالغة في التحريم.

و قيل: الاستثناء منقطع، و معناه: لكن ما قد سلف، فإنّه لا مؤاخذة عليه، لا أنّه مقرّر.

عن ابن عبّاس و غيره: أنّ هذه الآية نزلت فيما كان يفعل أهل الجاهليّة من نكاح امرأة الأب، و منهم صفوان بن أميّة تزوّج امرأة أبيه فاختة بنت الأسود بن المطّلب، و تزوّج حصين بن أبي قيس امرأة أبيه كبيشة بنت معن كما مرّ، و تزوّج منظور بن ريّان امرأة أبيه

مليكة بنت خارجة.

قال أشعث بن سوار: توفّي أبو قيس، و كان من صالحي الأنصار، فخطب ابنه قيس امرأته. فقالت: إنّي أعدّك من ولدي، و أنت من صالحي قومك، و لكنّني آتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأستأمره، فأتته فأخبرته. فقال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ارجعي إلى بيتك. فأنزل اللّه تعالى هذه الآية.

و كان ناس من ذوي مروءة الجاهليّة يمقتون ذلك، و يسمّونه نكاح المقت، و يقولون لمن ولد عليه: المقتي. و لهذا قال عزّ اسمه: إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً أي: إنّ نكاحهنّ فاحشة عند اللّه، بالغة في القبح في دين اللّه، ما رخّص فيه لأمّة من الأمم وَ مَقْتاً و ممقوتا مبغوضا عند ذوي المروءات وَ ساءَ سَبِيلًا سبيل من يراه

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 38

و يفعله، أي: بئس طريقا ذلك النكاح الفاسد.

و في الآية دلالة على أن كلّ من عقد عليها الأب من النساء يحرم على الابن، دخل بها الأب أو لم يدخل. و هذه مسألة إجماعيّة عند أهل الإسلام.

[سورة النساء (4): الآيات 23 الى 24]

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمَّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ الْأَخِ وَ بَناتُ الْأُخْتِ وَ أُمَّهاتُكُمُ اللاَّتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَ رَبائِبُكُمُ اللاَّتِي فِي حُجُورِكُمْ مِنْ نِسائِكُمُ اللاَّتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ وَ أَنْ تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ إِلاَّ ما قَدْ سَلَفَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (23) وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ إِلاَّ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ أُحِلَّ لَكُمْ ما وَراءَ ذلِكُمْ أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ فَآتُوهُنَّ

أُجُورَهُنَّ فَرِيضَةً وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (24)

ثمّ بيّن سبحانه محرّمات أخر من النساء بقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمْ أُمَّهاتُكُمْ وَ بَناتُكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ وَ عَمَّاتُكُمْ وَ خالاتُكُمْ وَ بَناتُ الْأَخِ وَ بَناتُ الْأُخْتِ ليس المراد تحريم ذاتهنّ، لأنّ التحريم لا يتعلّق بالأعيان، و إنّما يتعلّق بأفعال المكلّفين. فالمراد تحريم نكاحهنّ، لأنّه معظم ما يقصد منهنّ. و لأنّه المتبادر إلى الفهم، كتحريم الأكل

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 39

من قوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ «1»، و كما يفهم من تحريم الخمر تحريم شربها.

و لأنّ ما قبله و ما بعده في النكاح.

و أمّهاتكم تعمّ من ولدتك، أو ولدت من ولدك و إن علون، سواء كنّ من قبل الأب أو من قبل الأمّ. و بناتكم تتناول من ولدتها، أو ولدت من ولدها و إن سفلن.

و أخواتكم الأخوات من قبل أب أو أمّ أو منهما. و العمّات كلّ أخت لذكر رجع النسب إليه بالولادة، من قبل الأب كان أو من قبل الأمّ. و الخالات كلّ أخت لأنثى رجع النسب إليها بالولادة، من جهة الأمّ أو من جهة الأب. و بنات الأخ و الأخت كلّ بنات الإخوة، من قبل الأب كنّ أو من قبل الأمّ، قربن أو بعدن. فهؤلاء السبع من المحرّمات من جهة النسب.

ثم ذكر المحرّمات من جهة السبب فقال: وَ أُمَّهاتُكُمُ اللَّاتِي أَرْضَعْنَكُمْ وَ أَخَواتُكُمْ مِنَ الرَّضاعَةِ. نزّل اللّه تعالى الرضاعة منزلة النسب، حتّى سمّى المرضعة أمّا، و المراضعة أختا. فعلى هذا يكون زوج المرضعة أبا للرضيع، و أبواه جدّيه، و أخته عمّته، و كلّ ولد ولد له من غير المرضعة قبل الرضاع و بعده فهم إخوته و أخواته لأبيه، و

أمّ المرضعة جدّته، و أختها خالته، و كلّ من ولد لها من هذا الزوج فهم إخوته و أخواته لأبيه و أمّه، و كلّ من ولد لها من غير هذا الزوج فهم إخوته و أخواته لأمّه. و منه

قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب».

و شرائط الرضاع، و الأحكام المتعلّقة به، و المسائل المتفرّعة عليه، مذكورة في الفقه، فليطالع.

ثم قال سبحانه: وَ أُمَّهاتُ نِسائِكُمْ وَ رَبائِبُكُمُ اللَّاتِي فِي حُجُورِكُمْ فذكر أوّلا محرّمات النسب، ثم الرضاعة، لأنّ لها لحمة كلحمة النسب، ثم محرّمات

______________________________

(1) المائدة: 3.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 40

المصاهرة، فإنّ تحريمهنّ عارض لمصلحة الزواج.

و الربائب جمع ربيبة. و الربيب ولد المرأة من آخر، سمّي به لأنّه يربّه كما يربّ ولده في غالب الأمر، فعيل بمعنى مفعول، و إنّما لحقه التاء لأنّه صار اسما.

و «اللاتي» بصلتها صفة لها. و لا يجوز تعلّقها بالأمّهات أيضا، لأنّ «من» إذا علّقتها بالربائب كانت ابتدائيّة، و إذا علّقتها بالأمّهات لم يجز ذلك، بل وجب أن يكون بيانا لنسائها، و الكلمة الواحدة لا تحمل على معنيين عند جمهور الأدباء.

و الحجور جمع الحجر، يقال: فلان في حجر فلان، أي: في تربيته. و لا خلاف بين العلماء أنّ كونهنّ في حجره ليس بشرط في التحريم، و إنّما ذكر ذلك لأنّ الغالب أنّها تكون كذلك، أو تكون فائدة ذكره تقوية العلّة و تكميلها.

و المعنى: أنّ الربائب إذا دخلتم بأمّهاتهنّ و هنّ في احتضانكم قوي الشبه بينها و بين أولادكم، و صارت أحقّاء بأن تجروها مجراهم، لا تقييد الحرمة. و هذا يقتضي تحريم بنت المرأة من غير زوجها على زوجها، و تحريم بنت ابنها و بنت بنتها،

قربت أو بعدت، لوقوع اسم الربيبة عليهنّ.

و قوله: مِنْ نِسائِكُمُ اللَّاتِي دَخَلْتُمْ بِهِنَ متعلّق بربائبكم. و المعنى: أنّ الربيبة من المرأة المدخول بها محرّمة على الرجل. و لا يجوز أن يكون هذا الموصول صفة للنساءين، لأنّ عاملهما مختلف، فإنّ العامل في الأوّل اللام، و معناها الاختصاص، و في الثاني «من» و معناها في هذا الموضع الابتداء، فيظهر المغايرة بينهما. و حكم الصفة حكم الموصوف، فإن جعلنا الموصول صفة للنساءين، فيجتمع فيها اعتبار معنى الموصوفين، أعني: النساءين جميعا، و هو باطل.

و يؤيّده ما

روى العيّاشي في تفسيره بإسناده عن إسحاق بن عمّار، عن جعفر ابن محمد عليه السّلام، عن أبيه، قال: «إنّ عليّا عليه السّلام كان يقول: الربائب عليكم حرام مع

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 41

الأمّهات اللّاتي قد دخلتم بهنّ، كنّ في الحجور أو غير الحجور، و الأمّهات مبهمات، دخل بالبنات أو لم يدخل بهنّ، فحرّموا ما حرّم اللّه، و أبهموا ما أبهم اللّه» «1».

و الباء في قوله: «دخلتم بهنّ» للتعدية، و معناه: أدخلتموهنّ الستر. و هو كناية عن الجماع. و اللمس بالشهوة في حكم الجماع عندنا و عند أبي حنيفة.

فَإِنْ لَمْ تَكُونُوا دَخَلْتُمْ بِهِنَّ فَلا جُناحَ عَلَيْكُمْ في نكاح بناتهنّ إذا طلّقتموهن أو متن. و هذا تصريح بعد إشعار، دفعا للقياس.

وَ حَلائِلُ أَبْنائِكُمُ أي: حرّم عليكم نكاح أزواج أبنائكم. سمّيت الزوجة حليلة لحلّها، أو لحلولها مع الزوج الَّذِينَ مِنْ أَصْلابِكُمْ احتراز عن أزواج المتبنّى بهم، فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تزوّج زينب بنت جحش حين فارقها زيد بن حارثة، لا عن أزواج أبناء الولد، لأنّهنّ حرّمن على الأب و إن كنّ أزواج أولاد أولاده، و أولاد أولاد أولاده، و هكذا.

وَ أَنْ

تَجْمَعُوا بَيْنَ الْأُخْتَيْنِ في موضع الرفع عطفا على المحرّمات، أي:

حرّم عليكم الجمع بين الأختين في النكاح و الوطي بملك اليمين. و يجوز الجمع بينهما في الملك. و كذا الحرمة في المحرّمات المعدودة غير مقصورة على النكاح، بل في ملك اليمين أيضا محرّمة.

قال عثمان: أحلّتهما آية: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ «2». و

قال عليّ عليه السّلام: حرّمتهما هذه الآية.

و الثاني هو الحقّ، فإنّ آية التحليل مخصوصة في غير ذلك، و

لقوله عليه السّلام: «ما اجتمع الحلال و الحرام إلّا غلب الحرام».

إِلَّا ما قَدْ سَلَفَ استثناء عن لازم المعنى كما مرّ، أو منقطع معناه: لكن ما

______________________________

(1) تفسير العيّاشي 1: 231 ح 77.

(2) النساء: 3.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 42

سلف مغفور، لقوله: إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً.

قال ابن عبّاس: حرّم اللّه تعالى من النساء سبعا بالنسب و سبعا بالسبب، و تلا هذه الآية، ثم قال: و السابعة: وَ لا تَنْكِحُوا ما نَكَحَ آباؤُكُمْ الآية.

وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ النِّساءِ أي: و حرّمت عليكم ذوات الأزواج اللّاتي أحصنهنّ التزويج أو الأزواج.

و قرأ الكسائي في جميع القرآن غير هذا الحرف «1» بكسر الصاد، لأنّهنّ أحصنّ فروجهنّ.

إِلَّا ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ يريد: ما ملكت أيمانكم من اللّاتي سبين و لهنّ أزواج كفّار، فهنّ حلال للسابين و إن كنّ محصنات، فإنّ النكاح يرتفع بالسبي، لقول أبي سعيد الخدري: أصبنا سبايا يوم أوطاس و لهنّ أزواج كفّار، فكرهنا أن نقع عليهنّ، فسألنا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فنزلت هذه الآية، فاستحللناهنّ.

و قال أبو حنيفة: لو سبي الزوجان معا لم يرتفع النكاح، و لم تحلّ للسابي.

و إطلاق الآية و الحديث حجّة عليه.

كِتابَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ مصدر مؤكّد، أي: كتب اللّه عليكم تحريم هؤلاء كتابا وَ أُحِلَّ لَكُمْ عطف

على الفعل المضمر الّذي نصب كتاب اللّه. و قرأ حمزة و الكسائي و حفص عن عاصم على البناء للمفعول عطفا على «حرّمت». ما وَراءَ ذلِكُمْ ما سوى المحرّمات الأربع عشر، و ما في معناها، كسائر محرّمات الرضاع.

و قوله: أَنْ تَبْتَغُوا بِأَمْوالِكُمْ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ مفعول له. و المعنى:

أحلّ لكم ما وراء ذلكم، إرادة أن تطلبوا بأموالكم الصرف في مهورهنّ أو أثمانهنّ، حال كونكم أعفّاء غير زناة. فيكون مفعول «تبتغوا» مقدّرا. و يجوز أن يكون «أن

______________________________

(1) أي: غير هذه الآية.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 43

تبتغوا» بدلا من «ما وراء ذلكم» بدل الاشتمال. و الإحصان العفّة و تحصين النفس من الوقوع في الحرام. و قيل: محصنين متزوّجين. و السفاح الزنا من السفح، و هو صبّ المنيّ، فإنّه الغرض منه لا غير، بخلاف التزوّج.

فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَ فمن تمتّعتم به من المنكوحات، أو فما استمتعتم به منهنّ من جماع أو عقد عليهنّ. و قال الجوهري: «استمتع بمعنى: تمتّع، و الاسم المتعة» «1» فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ أي: مهورهنّ، فإنّ المهر في مقابلة الاستمتاع فَرِيضَةً حال من الأجور، بمعنى: مفروضة، أو صفة مصدر محذوف، أي: إيتاء مفروضا، أو مصدر مؤكّد.

و الأصحّ أنّ المراد به نكاح المتعة، و هو النكاح المنعقد بمهر معيّن إلى أجل معلوم. سمّي به إذا الغرض منه مجرّد الاستمتاع بالمرأة، أو تمتيعها بما تعطى.

و هذا منقول عن ابن عبّاس و السدّي و سعيد بن جبير و جماعة من التابعين.

و هو مذهب أصحابنا الإماميّة.

و لفظ الاستمتاع و التمتّع و إن كان في الأصل واقعا على الانتفاع و الالتذاذ، فقد صار في عرف الشرع هذا العقد المسمّى متعة. و يدلّ عليه دلالة صريحة قراءة ابن عبّاس و أبيّ بن كعب

و ابن مسعود: «فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّى فآتوهنّ».

و أورد الثعلبي في تفسيره عن حبيب بن أبي ثابت قال: «أعطاني ابن عبّاس مصحفا فقال: هذا قراءة أبيّ، فرأيت في المصحف: فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّى».

و بإسناده عن أبي نضرة قال: «سألت ابن عبّاس عن المتعة فقال: أما تقرأ

______________________________

(1) الصحاح 3: 1282.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 44

سورة النساء؟ قلت: بلى. قال: فما تقرأ «فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّى»؟

قلت: لا أقرؤها هكذا. قال ابن عبّاس: و اللّه هكذا أنزلها اللّه، ثلاث مرّات».

و كذا نقل الخاصّة و العامّة عن ابن عبّاس أنّه كان يفتي بالمتعة و يعمل.

و مناظرته مع ابن الزبير في ذلك مشهورة. و قول ابن عبّاس في ذلك حجّة، كما

قال عليه السّلام عنه إنّه كنيف «1» ملي ء علما.

و دعوى الخصم رجوعه عن ذلك ممنوع.

و بإسناده عن سعيد بن جبير أنّه قرأ «فما استمتعتم به منهنّ إلى أجل مسمّى».

و بإسناده عن شعبة، عن الحكم بن عتيبة، قال: «سألت عن هذه الآية «فَمَا اسْتَمْتَعْتُمْ بِهِ مِنْهُنَّ» أ منسوخة هي؟ قال: لا.

قال الحكم: قال عليّ بن أبي طالب عليه السّلام: لولا أنّ عمر نهي عن المتعة ما زنى إلا شقيّ».

و

عن ابن مسكان أيضا قال: «سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: كان عليّ عليه السّلام يقول: لولا ما سبقني إليه ابن الخطّاب ما زنى إلا شفا».

و في السرائر «2»: «الشفا بالشين المعجمة و الفاء، و معناه: إلّا قليل».

و

بإسناده عن عمران بن حصين قال: نزلت آية المتعة في كتاب اللّه عزّ و جلّ، و لم تنزل آية بعدها تنسخها، فأمرنا بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فتمتّعنا مع رسول اللّه صلّى اللّه

عليه و آله و سلّم، و مات و لم ينهنا عنها، فقال بعد رجل برأيه ما شاء».

و ممّا أورده مسلم بن الحجّاج في الصحيح، حدّثنا الحسن الحلواني، قال:

حدّثنا عبد الرزّاق، قال: أخبرنا ابن جريج، قال: قال عطاء: «قدم جابر بن عبد اللّه معتمرا فجئناه في منزله، فسأله القوم عن أشياء ثم ذكروا المتعة. فقال: استمتعنا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أبي بكر و عمر».

______________________________

(1) الكنف: و وعاء يكون فيه متاع التاجر أو الراعي، و الكنيف لعلّه تصغير ذلك.

(2) السرائر 2: 626.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 45

و ممّا يدلّ أيضا على أنّ لفظ الاستمتاع في الآية لا يجوز أن يكون المراد به الانتفاع و الجماع، أنّه لو كان كذلك لوجب أن لا يلزم شي ء من المهر من لا ينتفع من المرأة بشي ء، و قد علمنا أنّه لو طلّقها قبل الدخول لزمه نصف المهر. و لو كان المراد به النكاح الدائم لوجب للمرأة بحكم الآية جميع المهر بنفس العقد، لأنّه قال:

«وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ» أي: مهورهنّ، و لا خلاف في أنّ ذلك غير واجب، و إنّما تجب الأجرة بكمالها بنفس العقد في نكاح المتعة.

و دليل آخر على إثبات عقد المتعة الرواية المشهورة عن عمر بن الخطّاب:

«متعتان كانتا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنا أنهى عنهما». و في رواية أخرى: «أنا أحرّمهما و أعاقب عليهما» فأخبر أنّ المتعة كانت على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أضاف النهي أو التحريم عنها إلى نفسه لضرب من الرأي، فلو كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نسخها أو نهى عنها و أباحها

في وقت مخصوص دون غيره- كما هو رأي العامّة- لأضاف التحريم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دون نفسه. و أيضا فإنّه قرن بين متعة الحجّ و متعة النساء في النهي، و لا خلاف في أنّ متعة الحجّ غير منسوخة و لا محرّمة، فوجب أن يكون حكم متعة النساء كذلك.

و على هذا فمعنى قوله: وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ فِيما تَراضَيْتُمْ بِهِ مِنْ بَعْدِ الْفَرِيضَةِ لا حرج و لا إثم عليكم في استئناف عقد آخر بعد انقضاء مدّة الأجل المضروب في عقد المتعة، مع زيادة المدّة و الأجر على حسب التراضي. و هذا قول الإماميّة، و تظاهرت به الروايات عن أئمّتهم عليهم السّلام. و من قال: إنّ المراد بالاستمتاع الانتفاع و الجماع، قال: المعنى: لا حرج عليكم فيما يزاد على المسمّى أو يحطّ عنه بالتراضي، أو فيما تراضيا به من نفقة أو مقام أو فراق.

إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بالمصالح حَكِيماً فيما شرع لعباده، من عقد النكاح الّذي به تحفظ الأنساب، و سائر أحكام أخر.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 46

[سورة النساء (4): آية 25]

وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلاً أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَّ وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ بِالْمَعْرُوفِ مُحْصَناتٍ غَيْرَ مُسافِحاتٍ وَ لا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ فَإِذا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ وَ أَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (25)

ثم بيّن سبحانه نكاح الإماء، فقال: وَ مَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ مِنْكُمْ طَوْلًا الطول:

الفضل و الزيادة. و الخطاب للمؤمنين، أي: و من لم يجد غنى و زيادة في المال وسعة يبلغ

بها. أَنْ يَنْكِحَ الْمُحْصَناتِ الْمُؤْمِناتِ يعني: الحرائر، لقوله: فَمِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ فَتَياتِكُمُ الْمُؤْمِناتِ أي: فينكح أمة من ما ملكت أيمانكم من إمائكم المؤمنات، فإنّ مهور الإماء و مؤونتهنّ أخفّ، لا من فتيات غيركم من المخالفين في الدين.

و فيه دلالة على أنّه لا يجوز نكاح الأمة الكتابيّة، لأنّه تعالى قيّد جواز العقد عليهنّ بالإيمان.

وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِكُمْ فاكتفوا بظاهر الإيمان، فإنّه العالم بالسرائر، و بتفاضل ما بينكم و بين أرقّائكم في الإيمان، و رجحانه و نقصانه فيهم و فيكم، و ربما كان إيمان الأمة أرجح من إيمان الحرّة، و المرأة أفضل من الرجل في الإيمان، فمن حقّكم أن تعتبروا فضل الإيمان، لا فضل الأحساب و الأنساب. و المقصود من هذا القول تأنيسهم بنكاح الإماء، و منعهم عن الاستنكاف منه، كما هو من عادات

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 47

الجاهليّة. ثم أكّد هذا بقوله: بَعْضُكُمْ مِنْ بَعْضٍ أي: أنتم و أرقّاؤكم متناسبون، لأنّ نسبكم من آدم عليه السّلام و دينكم الإسلام، فلا تستنكفوا من نكاحهنّ.

فَانْكِحُوهُنَّ بِإِذْنِ أَهْلِهِنَ الضمير للفتيات، أي: تزوّجوهنّ بإذن مواليهنّ وَ آتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ أي: أدّوا إليهنّ مهورهنّ بإذن أهلهنّ، فحذف لتقدّم ذكره، أو إلى مواليهنّ بحذف المضاف، للعلم بأنّ المهر للسيّد، لأنّه عوض حقّه، فيجب أن يؤدّى إليه. و قال مالك: المهر للأمة، ذهابا إلى الظاهر. بِالْمَعْرُوفِ بغير مطل و ضرار و نقصان، و إحواج إلى الاقتضاء مُحْصَناتٍ عفائف غَيْرَ مُسافِحاتٍ غير مجاهرات بالسفاح وَ لا مُتَّخِذاتِ أَخْدانٍ أخلّاء في السرّ.

عن ابن عبّاس أنّه قال: كان قوم في الجاهليّة يحرّمون ما ظهر من الزنا، و يستحلّون ما خفي منه، فنهى اللّه تعالى عن الزنا جهرا و سرّا.

فَإِذا أُحْصِنَ فإذا زوّجن. و قرأ أبو

بكر و حمزة و الكسائي: «فإذا أحصنّ» بفتح الهمزة و الصاد، أي: أحصنّ أنفسهنّ بالتزوّج. فَإِنْ أَتَيْنَ بِفاحِشَةٍ بزنا فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ يعني: الحرائر مِنَ الْعَذابِ من الحدّ، لقوله تعالى: وَ لْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «1». و هو خمسون جلدة. و فيه دلالة على أنّ حدّ العبد نصف حدّ الحرّ، و أنّه لا يرجم، لأنّ الرجم لا ينتصف.

ذلِكَ أي: نكاح الإماء عند عدم الطول لِمَنْ خَشِيَ الْعَنَتَ مِنْكُمْ لمن خاف الوقوع في الزنا عند شدّة الشبق. و هو في الأصل انكسار العظم بعد الجبر، مستعار لكلّ مشقّة و ضرر، و لا ضرر أعظم من الوقوع في الزنا، لأنّه أفحش القبائح، و مستلزم للحدّ في الدنيا و العذاب في الآخرة. و قيل: المراد به حدّ الأحرار.

و هذا شرط آخر لنكاح الإماء.

وَ أَنْ تَصْبِرُوا خَيْرٌ لَكُمْ أي: و صبركم عن نكاح الإماء متعفّفين خير لكم.

______________________________

(1) النور: 2.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 48

قال عليه السّلام: «الحرائر صلاح البيت، و الإماء هلاكه». وَ اللَّهُ غَفُورٌ لمن لم يصبر رَحِيمٌ بأن رخّص له.

[سورة النساء (4): الآيات 26 الى 28]

يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (26) وَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ وَ يُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ أَنْ تَمِيلُوا مَيْلاً عَظِيماً (27) يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً (28)

ثم بيّن سبحانه بعد التحليل و التحريم أنّه يريد بذلك مصالحنا و منافعنا، فقال:

يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ ما تعبّدكم به من الحلال و الحرام لصلاح دينكم و دنياكم، أو ما خفي عنكم من مصالحكم و محاسن أعمالكم. و «ليبيّن» مفعول «يريد». و اللام زيدت لتأكيد معنى الاستقبال اللازم للإرادة، كما زيدت في:

لا أبا لك، لتأكيد إضافة الأب. و قيل: المفعول محذوف، و «ليبيّن» مفعول له، أي: يريد الحقّ لأجله.

وَ يَهْدِيَكُمْ سُنَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ مناهج من تقدّمكم من أهل الرشد من الأنبياء و أتباعهم، لتقتدوا بهم، و تسلكوا طريقهم وَ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ و يغفر لكم ذنوبكم، أو يرشدكم إلى ما يمنعكم عن المعاصي، و يحثّكم على التوبة، أو إلى ما يكون كفّارة لسيّئاتكم وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بالأحكام المذكورة، و بمن عمل بها و من لم يعمل حَكِيمٌ في وضعها.

وَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْكُمْ بأن يوفّقكم لها، و يقوّي دواعيكم إليها. كرّره للتأكيد، و لمقابلة قوله: وَ يُرِيدُ الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الشَّهَواتِ يعني: الفجرة المبطلين، فإنّ كلّ مبطل متّبع شهوة نفسه، و مطيع لها في الباطل. و أمّا المتعاطي لما سوّغه

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 49

الشرع منها دون غيره فهو متّبع للشرع في الحقيقة لا للشهوات. أَنْ تَمِيلُوا عن الحقّ، بموافقتهم على اتّباع الشهوات، و استحلال المحرّمات مَيْلًا عَظِيماً بالإضافة إلى ميل من اقترف خطيئته على ندور غير مستحلّ لها. و لا شبهة أنّه لا ميل أعظم من الموافقة على اتّباع الشهوات المردية.

و قيل: المراد منهم اليهود. و قيل: المجوس، فإنّهم يحلّون الأخوات من الأب و بنات الأخ و الأخت.

يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ فلذلك شرع لكم الشريعة الحنيفيّة السمحة السهلة، و رخّص لكم في المضايق، كإحلال نكاح الأمة وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً لا يصبر عن الشهوات، و لا يتحمّل مشاقّ الطاعات.

و عن ابن عبّاس: ثمان آيات في سورة النساء هي خير لهذه الأمّة ممّا طلعت عليه الشمس و غربت: هذه الثلاث، و إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ «1» إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ

«2». إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ «3» وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً «4» ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ «5».

[سورة النساء (4): الآيات 29 الى 30]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (29) وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ عُدْواناً وَ ظُلْماً فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30)

و لمّا بيّن سبحانه تحريم النساء على غير الوجوه المشروعة، عقّبه بتحريم

______________________________

(1) النساء: 31، 48، 40، 110، 147.

(2) النساء: 31، 48، 40، 110، 147.

(3) النساء: 31، 48، 40، 110، 147.

(4) النساء: 31، 48، 40، 110، 147.

(5) النساء: 31، 48، 40، 110، 147.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 50

زبدة التفاسير ج 2 99

الأموال في الوجوه الباطلة، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَأْكُلُوا أَمْوالَكُمْ بَيْنَكُمْ بِالْباطِلِ

المراد بالأكل سائر التصرّفات. و اختصاصها بالأكل لأنّه معظم المنافع، و لأنّه في العرف يطلق الأكل على وجوه الإنفاقات، يقال: أكل ماله بالباطل، و إن أنفقه في غير الأكل.

و المراد بالباطل ما لم يبحه الشرع، كالغصب و الربا و القمار.

و معناه: لا ينفق بعضكم أموال بعض بغير سبب مبيح شرعا.

إِلَّا أَنْ تَكُونَ تِجارَةً عَنْ تَراضٍ مِنْكُمْ استثناء منقطع، أي: و لكن كون تجارة عن تراض غير منهيّ عنه، أو اقصدوا كون تجارة. و «عن تراض» صفة ل «تجارة»، أي: تجارة صادرة عن تراضي المتعاقدين. و تخصيص التجارة من الوجوه الّتي بها يحلّ تناول مال الغير، لأنّها أغلب و أوفق لذوي المروءات. و يجوز أن يراد بها الانتقال مطلقا بأحد العقود السائغة.

و قرأ الكوفيّون: تجارة، بالنصب على «كان» الناقصة و إضمار الاسم، أي: إلّا أن تكون التجارة أو الجهة تجارة.

وَ لا

تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ بأن تقاتلوا الّذين لا تطيقونهم فيقتلوكم. أو بالبخع «1»، بأن يقتل الرجل نفسه، كما يفعله بعض الجهّال في حال غضب أو ضجر أو بارتكاب ما يؤدّي إلى قتلها.

و قيل: المراد بالأنفس من كان من أهل دينهم، فإنّ المؤمنين كنفس واحدة،

كقوله عليه السّلام: «سلّموا على أنفسكم».

فالمعنى: لا يقتل بعضكم بعضا، أو لا تقتلوا أنفسكم، بأن تهلكوها بارتكاب الآثام، و العدوان في أكل مال بالباطل، و غيره من المعاصي الّتي بها تستحقّون العذاب، فإنّه القتل الحقيقي للنفس.

______________________________

(1) بخع نفسه: نهكها، و كاد يهلكها من غضب أو غمّ.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 51

و القول الأوّل مرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و على التقادير؛ جمع اللّه تعالى في هذه الآية التوصية بين حفظ النفس و المال الّذي هو شقيقها، من حيث إنّه سبب قوامها، استبقاء لهم، ريثما تستكمل النفوس و تستوفي فضائلها، رأفة و رحمة عليهم، و لهذا قال بعد ذلك: إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُمْ رَحِيماً أي: أمر ما أمر و نهى عمّا نهى لفرط رحمته عليكم. و معناه: أنّه كان بكم يا أمّة محمّد رحيما، لأنّه أمر بني إسرائيل بقتل الأنفس، و نهاكم عنه.

وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ إشارة إلى القتل، أو ما سبق من المحرّمات عُدْواناً وَ ظُلْماً إفراطا في التجاوز عن الحقّ، و أخذا على غير وجه الاستحقاق. و قيل:

أراد بالعدوان التعدّي على الغير، و بالظلم ظلم النفس بتعريضها للعقاب. فَسَوْفَ نُصْلِيهِ ناراً ندخله نارا مخصوصة شديدة العذاب وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً لا عسر فيه، و لا صارف عنه.

[سورة النساء (4): آية 31]

إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلاً كَرِيماً (31)

و لمّا قدّم سبحانه ذكر السيّئات عقّبه بالترغيب في اجتنابها، فقال:

إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ كبائر الذنوب الّتي نهاكم اللّه و رسوله عنها نُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ نغفر لكم صغائركم، و نمحها عنكم وَ نُدْخِلْكُمْ مُدْخَلًا كَرِيماً الجنّة و ما وعد فيها من الثواب، أو إدخالا مع كرامة.

و قرأ نافع بفتح الميم. و هو أيضا يحتمل المكان و المصدر.

و اختلف في الكبائر، و الأقرب أنّ الكبيرة كلّ ذنب رتّب الشارع عليه حدّا، و صرّح بالوعيد فيه. و قيل: ما علم حرمته بقاطع.

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّها سبع: الإشراك باللّه، و قتل النفس الّتي حرّم اللّه، و قذف

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 52

المحصنة، و أكل مال اليتيم، و الربا، و الفرار من الزحف، و عقوق الوالدين.

و عن ابن عبّاس: الكبائر إلى سبعمائة أقرب منها إلى سبع، غير أنّه لا كبيرة مع استغفار، و لا صغيرة مع إصرار. رواهما الواحدي «1» في تفسيره بالإسناد مرفوعا.

و قيل: أراد بها ها هنا أنواع الشرك، لقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ «2».

و قيل: صغر الذنوب و كبرها بالإضافة إلى ما فوقها و ما تحتها، فأكبر الكبائر الشرك، و أصغر الصغائر حديث النفس، و بينهما وسائط يصدق عليها الأمران. و لعلّ هذا ممّا يتفاوت باعتبار الأشخاص و الأحوال، ألا ترى أنّه تعالى عاتب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في كثير من خطراته الّتي لم تعدّ على غيره خطيئة، فضلا أن يؤاخذه عليها.

و

روى عبد العظيم بن عبد اللّه الحسني، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ، عن أبيه عليّ بن موسى الرضا، عن أبيه موسى بن جعفر عليهم السّلام، قال: «دخل عمرو بن عبيد البصري على أبي عبد

اللّه جعفر بن محمّد الصادق عليه السّلام، فلمّا سلّم و جلس تلا هذه الآية: وَ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَواحِشَ «3» ثم أمسك.

فقال أبو عبد اللّه: ما أسكتك؟

قال: أحبّ أن أعرف الكبائر من كتاب اللّه عزّ و جلّ.

قال: نعم، يا عمرو أكبر الكبائر: الشرك باللّه، لقول اللّه عزّ و جلّ: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ «4» و قال:

______________________________

(1) الوسيط 2: 40- 41.

(2) النساء: 48.

(3) الشورى: 37.

(4) النساء: 48 و 116. زبدة التفاسير، ج 2، ص: 53

مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَ مَأْواهُ النَّارُ «1».

و بعده اليأس من روح اللّه، لأنّ اللّه يقول: وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ «2».

ثم الأمن من مكر اللّه، لأنّ اللّه يقول: فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ «3».

و منها: عقوق الوالدين، لأنّ اللّه عزّ و جلّ جعل العاقّ جبّارا شقيّا في قوله: وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا «4».

و منها: قتل النفس الّتي حرّم اللّه إلّا بالحقّ، لأنّه سبحانه يقول: وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها «5» الآية.

و قذف المحصنات، لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ «6».

و أكل مال اليتيم ظلما، لقوله عزّ و جلّ إِنَّ الَّذِينَ يَأْكُلُونَ أَمْوالَ الْيَتامى ظُلْماً «7» الآية.

و الفرار من الزحف، لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ «8».

______________________________

(1) المائدة: 72.

(2) يوسف: 87.

(3) الأعراف: 99.

(4) مريم: 32.

(5) النساء:

93.

(6) النور: 23.

(7) النساء: 10.

(8) الأنفال: 16.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 54

و أكل الربا، لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: الَّذِينَ يَأْكُلُونَ الرِّبا لا يَقُومُونَ إِلَّا كَما يَقُومُ الَّذِي يَتَخَبَّطُهُ الشَّيْطانُ مِنَ الْمَسِ «1». و يقول: فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ «2».

و السحر، لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: وَ لَقَدْ عَلِمُوا لَمَنِ اشْتَراهُ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ خَلاقٍ «3».

و الزنا، لأنّ اللّه تعالى يقول: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً «4».

و اليمين الغموس، لأنّ اللّه تعالى يقول: إِنَّ الَّذِينَ يَشْتَرُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَ أَيْمانِهِمْ ثَمَناً قَلِيلًا أُولئِكَ لا خَلاقَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ «5».

و الغلول، فإنّ اللّه سبحانه يقول: وَ مَنْ يَغْلُلْ يَأْتِ بِما غَلَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ «6».

و منع الزكاة المفروضة، لأنّ اللّه تعالى يقول: يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ «7» الآية.

و شهادة الزور و كتمان الشهادة، لأنّ اللّه عزّ و جلّ يقول: وَ مَنْ يَكْتُمْها فَإِنَّهُ آثِمٌ قَلْبُهُ «8».

و شرب الخمر، لأنّ اللّه عزّ و جلّ عدل بها عبادة «9» الأوثان.

و ترك الصلاة متعمّدا، أو شيئا من ما فرض اللّه عزّ و جلّ،

لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول:

______________________________

(1) البقرة: 275، 279، 102.

(2) البقرة: 275، 279، 102.

(3) البقرة: 275، 279، 102.

(4) الفرقان: 68- 69.

(5) آل عمران: 77، 161.

(6) آل عمران: 77، 161.

(7) التوبة: 35.

(8) البقرة: 283.

(9) في قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ المائدة: 90. زبدة التفاسير، ج 2، ص: 55

«من ترك الصلاة متعمّدا فقد برى ء من

ذمّة اللّه و ذمّة رسوله».

و نقض العهد و قطيعة الرحم، لأنّ اللّه يقول: أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ «1».

قال: فخرج عمرو و له صراخ من بكائه، و هو يقول: هلك من قال برأيه، و نازعكم في الفضل و العلم».

و عن ابن مسعود: كلّما نهى اللّه عنه من أوّل السورة إلى رأس الثلاثين فهو كبيرة.

[سورة النساء (4): آية 32]

وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ وَ سْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (32)

و لمّا بيّن سبحانه حكم المواريث، و فضّل بعضهم على بعض في ذلك، و انساق الكلام إلى هاهنا، عقّبه بتحريم التمنّي الّذي هو سبب التباغض، فقال:

وَ لا تَتَمَنَّوْا ما فَضَّلَ اللَّهُ بِهِ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ من الأمور الدنيويّة، كالمال و الجاه.

و المعنى: لا يقل أحدكم: ليت ما أعطي فلان من المال و الجاه كان لي، فإنّ ذلك يكون حسدا. و لكن يجوز أن يقول: اللّهمّ أعطني مثله. و هذا المعنى منقول عن ابن عبّاس، و مرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

ففي الآية نهي عن التحاسد الّذي يقتضيه تمنّي ما فضّل اللّه بعض الناس على بعض، من المال و الجاه و الجمال. و لمّا كان ذلك التفضّل قسمة من اللّه العالم بأحوال

______________________________

(1) الرعد: 25.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 56

العباد، فواجب على العبد أن يرضى بقسمته الصادرة عن الحكمة و العلم بالمصلحة، كما بيّنه بقوله: لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ أي:

لكلّ من الرجال و النساء فضل و نصيب بسبب ما اكتسب، و من أجله، من التجارات و الزراعات و الصناعات، فاطلبوا الفضل بالعمل لا بالحسد و

التمنّي، فينبغي أن يقنع كلّ منهم و يرضى بما قسّم اللّه له من كسبه.

و قيل: المراد نصيب الميراث، و تفضيل الورثة بعضهم على بعض فيه. فجعل سبحانه ما قسّمه لكلّ من الرجال و النساء- على حسب ما عرفه من صلاحه- كسبا له على سبيل الاتّساع، فإنّ الاكتساب على هذا القول بمعنى الإصابة و الإحراز.

روي أنّ أمّ سلمة قالت: يا رسول اللّه يغزوا الرجال و لا نغزو، و إنّما لنا نصف الميراث، ليتنا كنّا رجالا، فنزلت: «لِلرِّجالِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبُوا وَ لِلنِّساءِ نَصِيبٌ مِمَّا اكْتَسَبْنَ».

وَ سْئَلُوا اللَّهَ مِنْ فَضْلِهِ أي: لا تتمنّوا ما للناس، و اسألوا اللّه مثله من خزائنه الّتي لا تنفد. قال سفيان بن عيينة: لم يأمرنا بالمسألة إلّا ليعطي. و

عن ابن مسعود، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «سلوا اللّه من فضله، فإنه يحبّ أن يسأل» و «أفضل العبادة انتظار الفرج».

و قرأ ابن كثير و الكسائي: «و سلوا اللّه من فضله»، «و سلهم» «1»، «فسل الّذين» «2» و شبهه، إذا كان أمرا للمواجه في كلّ القرآن، و قبل السين واو أو فاء بغير همز. و حمزة في الوقف على الأصل، و الباقون بالهمز. و لم يختلفوا في «وَ لْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا» «3» أنّه مهموز.

______________________________

(1) الأعراف: 163.

(2) يونس: 94.

(3) الممتحنة: 10.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 57

إِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً فهو يعلم ما يستحقّه كلّ إنسان، فيفضّل عن علم و تبيان.

[سورة النساء (4): آية 33]

وَ لِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ وَ الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً (33)

ثم عاد سبحانه إلى ذكر المواريث، فقال: وَ لِكُلٍّ جَعَلْنا مَوالِيَ مِمَّا تَرَكَ الْوالِدانِ وَ الْأَقْرَبُونَ أي:

و لكلّ تركة جعلنا ورّاثا يلونها و يحرزونها. و «ممّا ترك» بيان «لكلّ» مع الفصل بالعامل. أو المعنى: و لكلّ ميّت جعلنا ورّاثا ممّا ترك، على أنّ «من» صلة «موالي»، لأنّه في معنى الوارث الّذي هو أولى بالإرث. و في ترك ضمير «كلّ» و «الوالدان» و «الأقربون» استئناف مفسّر للموالي، كأنّه قيل: من هم؟

فيجاب: الوالدان و الأقربون. أو: و لكلّ قوم جعلناهم موالي حظّ ممّا ترك الوالدان و الأقربون، على أن «جعلنا موالي» صفة «لكلّ» و الراجع إليه محذوف.

وَ الَّذِينَ عَقَدَتْ أَيْمانُكُمْ المراد بالموصول موالي الموالاة. كان الرجل في الجاهليّة يعاقد الرجل فيقول: دمي دمك، و هدمي «1» هدمك، و حربي حربك، و سلمي سلمك، و ترثني و أرثك، و تعقل عنّي و أعقل عنك، فيكون للحليف السدس من ميراث الحليف. فنسخ بقوله: وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ «2». أو المراد الأزواج، على أنّ المراد عقد النكاح.

و على التقديرين؛ الموصول مع صلته مبتدأ ضمّن معنى الشرط، و خبره فَآتُوهُمْ نَصِيبَهُمْ أي: فأعطوهم نصيبهم. أو منصوب بمضمر يفسّره ما بعده،

______________________________

(1) الهدم: المهدر من الدماء. يقال: دمه هدم، أي: هدر.

(2) الأنفال: 75.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 58

كقولك: زيدا فاضربه. أو معطوف على «الوالدان»، و قوله «فآتوهم نصيبهم» جملة مسبّبة عن الجملة المتقدّمة، مؤكّدة لها، و الضمير للموالي.

و قرأ الكوفيّون: عقدت، بمعنى عقدت عهودهم أيمانكم، فحذف العهود و أقيم الضمير المضاف إليه مقامه، فصار: عقدوا، ثمّ حذف كما حذف في القراءة الأولى، فأسند العقود إلى الأيمان على سبيل التجوّز.

إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً تهديد على منع نصيبهم.

[سورة النساء (4): آية 34]

الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ

بِما حَفِظَ اللَّهُ وَ اللاَّتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَّ فَعِظُوهُنَّ وَ اهْجُرُوهُنَّ فِي الْمَضاجِعِ وَ اضْرِبُوهُنَّ فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلاً إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً (34)

و لمّا بيّن اللّه تعالى فضل الرجال على النساء، ذكر عقيبه فضلهم في القيام بأمر النساء، فقال: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ يقومون عليهنّ بالأمر و النهي و التدبير و التأديب، كما تقوم الولاة على رعاياهم.

ثم علّل ذلك بأمرين: موهوبي و كسبي، فقال: بِما فَضَّلَ اللَّهُ بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ بسبب تفضيل اللّه بعضهم- و هم الرجال- على بعض- يعني: النساء- بكمال العقل و الحزم و حسن التدبير، و مزيد القوّة في الأعمال و الطاعات، فلذلك خصّوا بالنبوّة و الإمامة و الولاية، و وجوب الأذان و الخطبة و الجهاد و الجمعة، و زيادة السهم و عدد الأزواج، و الاستبداد بالفراق، و غير ذلك من شعائر الإسلام وَ بِما أَنْفَقُوا مِنْ أَمْوالِهِمْ في نكاحهنّ، كالمهر و النفقة.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 59

قال مقاتل: نزلت الآية في سعد بن الربيع بن عمرو، و كان من النقباء، و في امرأته حبيبة بنت زيد بن أبي زهير، و هما من الأنصار. و ذلك أنّها نشزت عليه فلطمها، فانطلق أبوها معها إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: أفرشته كريمتي فلطمها. فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لتقتصّ من زوجها. فانصرفت مع أبيها لتقتصّ منه. فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

ارجعوا هذا جبرئيل أتاني و أنزل اللّه هذه الآية. فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أردنا أمرا و أراد اللّه أمرا، و الّذي أراد اللّه خير، و رفع القصاص.

و قال الكلبي: نزلت في سعد بن الربيع

و امرأته خولة بنت محمد بن مسلمة.

و ذكر القصّة نحوها.

و قال أبو روق، نزلت في جميلة بنت عبد اللّه بن أبيّ و في زوجها ثابت بن قيس بن شماس. و ذكر قريبا منه.

و على تقدير صحّة النقل فالآية ناسخة لحكمه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الّذي هو أيضا من حكم اللّه تعالى.

فَالصَّالِحاتُ قانِتاتٌ مطيعات للّه تعالى، قائمات بحقوق الأزواج حافِظاتٌ لِلْغَيْبِ لمواجب الغيب، أي: يحفظن في غيبة الأزواج ما يجب عليهنّ في النفس و المال.

و

عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «خير النساء امرأة إن نظرت إليها سرّتك، و إن أمرتها أطاعتك، و إذا غبت عنها حفظتك في مالها «1» و نفسها، و تلا هذه الآية».

و قيل: حافظات لأسرار أزواجهنّ بِما حَفِظَ اللَّهُ بحفظ اللّه إيّاهنّ بالأمر على حفظ الغيب، و الحثّ عليه بالوعد و الوعيد، و التوفيق له، فتكون «ما»

______________________________

(1) في هامش النسخة الخطّية: «أضاف المال إليها و إن كان للزوج، لملابستها بالتصرّف فيه، و نحوه: «وَ لا تُؤْتُوا السُّفَهاءَ أَمْوالَكُمُ» و المراد أموالهم، فأضافها إلى الأولياء لتصرّفهم فيها.

منه». و الآية في سورة النساء: 5.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 60

مصدريّة. أو بالّذي حفظه اللّه لهنّ عليهم من المهر و النفقة، و القيام بحفظهنّ و الذبّ عنهنّ، فتكون موصولة.

وَ اللَّاتِي تَخافُونَ نُشُوزَهُنَ عصيانهنّ و ترفّعهنّ عن مطاوعة الأزواج، مأخوذ من النشز، و هو الانزعاج و الترفّع فَعِظُوهُنَ أوّلا بالوعظ و النصيحة، بأن تقولوا لهنّ: اتّقين اللّه و ارجعن إلى طاعتنا.

وَ اهْجُرُوهُنَ ثانيا إن لم تنجع النصيحة فِي الْمَضاجِعِ في المراقد.

و هي كناية عن الجماع. و قيل: معناه: لا تدخلوهنّ تحت اللحف. و قيل:

هو أن يولّيها ظهره في المضجع. و هذا القول مرويّ

عن أبي جعفر عليه السّلام.

وَ اضْرِبُوهُنَ ثالثا إن لم يفد الهجران، ضربا غير مبرح «1» للجلد، و لا كاسر للعظم. و الأمور الثلاثة مترتّبة، فينبغي أن يتدرّج فيها.

فَإِنْ أَطَعْنَكُمْ بترك النشوز، بأن رجعن إلى طاعتكم في الائتمار لأمركم فَلا تَبْغُوا عَلَيْهِنَّ سَبِيلًا بالتوبيخ و الإيذاء. و المعنى: فأزيلوا عنهنّ التعرّض، و اجعلوا ما كان منهنّ كأن لم يكن، فإنّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له. إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيًّا كَبِيراً فاحذروه، فإنّه أقدر عليكم منكم على من تحت أيديكم. أو إنّه على علوّ شأنه يتجاوز عن سيّئاتكم و يتوب عليكم، فأنتم أحقّ بالعفو عن أزواجكم. أو إنّه يتعالى و يتكبّر أن يظلم أحدا أو ينقص حقّه.

[سورة النساء (4): آية 35]

وَ إِنْ خِفْتُمْ شِقاقَ بَيْنِهِما فَابْعَثُوا حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها إِنْ يُرِيدا إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً (35)

و لمّا قدّم سبحانه الحكم عند مخالفة أحد الزوجين صاحبه، عقّبه بذكر

______________________________

(1) أي: غير مزيل.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 61

الحكم عند التباس الأمر في المخالفة، فقال: وَ إِنْ خِفْتُمْ حسبتم. و قيل: علمتم شِقاقَ بَيْنِهِما خلافا بين المرأة و زوجها. أضمرهما و إن لم يجر ذكرهما لجري ما يدلّ عليهما، و هو ذكر الرجال و النساء. و إضافة الشقاق إلى الظرف إما لإجرائه مجرى المفعول به، كقوله: يا سارق الليلة، أو الفاعل، كقولهم: نهارك صائم.

فَابْعَثُوا أيّها الحكّام لتبيين أمرهما، أو إصلاح ذات البين حَكَماً مِنْ أَهْلِهِ وَ حَكَماً مِنْ أَهْلِها رجلا وسيطا يصلح لحكومة العدل و الإصلاح من أهل الزوج، و آخر من أهل الزوجة، فإنّ الأقارب أعرف ببواطن الأحوال و أطلب للصلاح.

و هذا على سبيل الاستحباب، فلو نصبا من الأجانب جاز.

و قيل: الخطاب للأزواج

و الزوجات. و الأوّل مرويّ عن الصادق. و استدلّ به على جواز التحكيم.

و قال مالك: لهما أن يتخالعا إن وجدا الصلاح فيه من غير أن يستأمرا الزوجين، و رضيا بذلك. و عند أصحابنا الإماميّة أنّ النصب لإصلاح ذات البين أو لتبيين الأمر، و لا يليان التفرّق إلّا بإذن الزوجين.

إِنْ يُرِيدا أي: يريد الحكمان إِصْلاحاً يُوَفِّقِ اللَّهُ بَيْنَهُما بين الزوجين، أي: إن قصد الإصلاح أوقع اللّه تعالى- بحسن سعيهما و نيّتهما- الموافقة بين الزوجين.

و قيل: الضمير الأوّل و الثاني للحكمين، أي: إن قصدا الإصلاح يوفّق اللّه بينهما، ليتّفق كلمتهما، و يحصل مقصودهما.

و قيل: للزوجين، أي: إن أرادا الإصلاح و زوال الشقاق، أوقع اللّه تعالى بينهما الألفة و الوفاق. و فيه تنبيه على أنّ من أصلح نيّته فيما يتحرّاه، أصلح اللّه مبتغاه.

إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً خَبِيراً بالظواهر و البواطن، فيعلم ما يريد الحكمان من الإصلاح و الإفساد.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 62

[سورة النساء (4): الآيات 36 الى 37]

وَ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ بِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ الْجارِ ذِي الْقُرْبى وَ الْجارِ الْجُنُبِ وَ الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالاً فَخُوراً (36) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَ يَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (37)

و لمّا أمر اللّه سبحانه بمكارم الأخلاق في أمر اليتامى و الأزواج و العيال، عطف على ذلك الخلال المحمودة المشتملة على معالي الأمور و محاسن الأفعال.

فبدأ بالأمر بعبادته الّتي هي رأس الخصال الحميدة، و منشأ الخلال السنيّة، فقال:

وَ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ لا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً صنما أو غيره، أو شيئا من الإشراك جليّا أو

خفيّا وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي: أحسنوا بهما إحسانا، من برّ و إعانة و إنعام.

وَ بِذِي الْقُرْبى و بصاحب القرابة، أي: بكلّ من بينكم و بينه قرابة وَ الْيَتامى بحفظ أموالهم و القيام عليها، و غيرها من وجوه الإحسان وَ الْمَساكِينِ فلا تضيّعوهم، و أعطوهم ما تحتاجون إليه من الطعام و الكسوة و سائر ما لا بدّ منه لهم.

وَ الْجارِ ذِي الْقُرْبى أي: الّذي جواره قريب. و قيل: الّذي له مع الجوار قرب و اتّصال بنسب أو دين.

وَ الْجارِ الْجُنُبِ الّذي جواره بعيد، أو الّذي لا قرابة له.

و في الحديث: «الجيران ثلاثة: فجار له ثلاثة حقوق: حقّ الجوار و حقّ القرابة و حقّ الإسلام، و جار له حقّان: حقّ الجوار و حقّ الإسلام، و جار له حقّ

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 63

واحد: حقّ الجوار، و هو المشرك من أهل الكتاب».

و روي أنّ حدّ الجوار إلى أربعين دارا. و يروى إلى أربعين ذراعا.

وَ الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ أي: الّذي يصحب الإنسان، بأن يحصل بجنبه بكونه رفيقه في أمر حسن، كسفر أو صناعة أو شركة، أو قاعد إلى جنبه في مجلس، أو خادم، فإنّ كلّ هؤلاء صحبه و حصل بجنبه، فعليه أن يراعي حقّه. و قيل: المراد المرأة.

وَ ابْنِ السَّبِيلِ المسافر المنقطع به، أو الضيف وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ العبيد و الإماء. و ذكر اليمين تأكيد، كما يقال: مشت رجلك و بطشت يدك. و موضع «ما» جرّ بالعطف على ما تقدّم، أي: و أحسنوا بعبيدكم و إمائكم بالنفقة و السكنى، و لا تحمّلوهم من الأعمال ما لا يطيقونه.

إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ مُخْتالًا متكبّرا يأنف عن أقاربه و جيرانه و أصحابه، و لا يلتفت إليهم فَخُوراً يتفاخر عليهم بكثرة

ماله.

هذه آية جامعة تضمّنت بيان أركان الإسلام، و التنبيه على مكارم الأخلاق.

و من تدبّرها حقّ التدبّر، و تذكّرها حقّ التذكّر، أغنته عن كثير من مواعظ البلغاء، و هدته إلى جمّ غفير من علوم العلماء.

و قوله: الَّذِينَ يَبْخَلُونَ بدل من قوله: «من كان»، أو نصب على الذمّ، أو رفع عليه، أي: هم الّذين يبخلون بما منحوا به، و يمنعون ما أوجب اللّه عليهم من الزكاة و غيرها وَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ و يأمرون غيرهم بذلك.

و قرأ حمزة و الكسائي بالبخل بفتحتين. و هي لغة.

وَ يَكْتُمُونَ ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ و يجحدون ما أعطاهم اللّه من اليسار و الثروة، اعتذارا لهم في البخل.

و يحتمل أن يكون الموصول مع صلته مبتدأ خبره محذوف، تقديره: الّذين

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 64

يبخلون و يفعلون كذا و كذا أحقّاء بكلّ ملامة، مستحقّون للعقوبة.

و قيل: الآية نزلت في طائفة من اليهود كانوا يقولون للأنصار تنصّحا: و لا تنفقوا أموالكم، فإنّا نخشى عليكم الفقر، و مع ذلك كتموا ما عندهم من العلم بنعت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و مبعثه.

و الأولى أن تكون هذه الآية عامّة في كلّ من يبخل بأداء ما يجب عليه أداؤه، و يأمر الناس به، و عامّة في كلّ من كتم فضلا آتاه اللّه تعالى، من العلم و غيره من أنواع النعم الّتي يجب إظهارها و يحرم كتمانها. و

قد ورد في الحديث: «إذا أنعم اللّه على عبد نعمة أحبّ أن يرى أثرها عليه».

وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً وضع الظاهر فيه موضع المضمر إشعارا بأنّ من هذا شأنه فهو كافر لنعمة اللّه، و من كان كافرا لنعمة اللّه فله عذاب يهينه، كما أهان النعمة بالبخل و

الإخفاء.

[سورة النساء (4): الآيات 38 الى 39]

وَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ وَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ مَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً (38) وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ وَ كانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً (39)

ثم عطف على «الّذين يبخلون» أو «الكافرين» قوله: وَ الَّذِينَ يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ رِئاءَ النَّاسِ و إنّما شاركهم في الذمّ و الوعيد لأنّ البخل و السرف- الّذي هو الإنفاق لا على ما ينبغي- من حيث إنّهما طرفا إفراط و تفريط سواء في القبح و استجلاب الذمّ.

و يحتمل أن يكون مبتدأ خبره محذوف مدلول عليه بقوله: وَ مَنْ يَكُنِ

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 65

الشَّيْطانُ تقديره: الّذين ينفقون أموالهم رئاء الناس فقرينهم الشيطان.

و «رئاء الناس» منصوب على العلّيّة، أي: للمراءاة و الفخار، و ليقال: إنّهم أسخياء، لا لوجه اللّه.

و قيل: هم مشركو قريش أنفقوا أموالهم في عداوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قيل:

هم المنافقون.

وَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ ليتحرّوا بالإنفاق مراضيه و ثوابه وَ مَنْ يَكُنِ الشَّيْطانُ لَهُ قَرِيناً فَساءَ قَرِيناً هذا تنبيه على أنّ الشيطان قرنهم، فحملهم على البخل و الرياء و كلّ شرّ و فساد، و زيّنه لهم، كقوله تعالى: إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ «1». و المراد: إبليس و أعوانه من الجنّ و الإنس. و يجوز أن يكون وعيدا لهم بأن يكون الشيطان مقرونا بهم في النار.

وَ ما ذا عَلَيْهِمْ لَوْ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقَهُمُ اللَّهُ أي: و ما الّذي عليهم من الشنعة؟ أو: أيّ تبعة تحيق بهم بسبب الإيمان و الإنفاق في سبيل اللّه؟

و هذا توبيخ لهم

و تهجين على الجهل بمكان المنفعة، و الاعتقاد في الشي ء على خلاف ما هو عليه في نفس الأمر. و تحريض على الفكر لطلب الجواب، لعلّه يؤدّي بهم إلى العلم بما فيه من الفوائد الجليلة و العوائد الجميلة. و تنبيه على أنّ المدعوّ إلى أمر لا ضرر فيه ينبغي أن يجيب إليه احتياطا، فكيف إذا تضمّن المنافع؟! و إبطال لقول من قال: إنّهم لا يقدرون على الإيمان، لأنّه لا يحسن أن يقال للعاجز عن الشي ء: ماذا عليك لو فعلت كذا؟ فلا يقال للقصير: ماذا عليك لو كنت طويلا؟! و للأعمى: ماذا عليك لو كنت بصيرا؟! و فيه أيضا دلالة على أنّ الحرام لا يكون رزقا، من حيث إنّه سبحانه حثّهم

______________________________

(1) الإسراء: 27.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 66

على الإنفاق ممّا رزقهم، و أجمعت الأمّة على أنّ الإنفاق من الحرام محظور.

و إنّما قدّم الإيمان هاهنا و أخّره في الآية الّتي قبل هذه، لأن القصد بذكره إلى التخصيص هاهنا و التعليل ثمّة.

وَ كانَ اللَّهُ بِهِمْ عَلِيماً فيجازيهم بما يفعلون و يعتقدون. و هذا وعيد لهم.

[سورة النساء (4): آية 40]

إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ وَ إِنْ تَكُ حَسَنَةً يُضاعِفْها وَ يُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ أَجْراً عَظِيماً (40)

ثم حثّ على الإنفاق على الوجه الحسن بقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ لا ينقص من الأجر و لا يزيد في العقاب أصغر شي ء كالذرّة، و هي النملة الحمراء الصغيرة الّتي لا تكاد ترى لصغرها. و يقال: لكلّ جزء من أجزاء الهباء «1». و المثقال مفعال من الثقل. و في ذكره إيماء إلى أنّه و إن صغر قدره عظم جزاؤه. و في هذا دلالة على أنّه لو نقص من الأجر أدنى شي ء أو زيد على المستحقّ

من العقاب لكان ظلما.

وَ إِنْ تَكُ مثقال الذرّة حَسَنَةً أنّث الضمير لتأنيث الخبر، أو لإضافة المثقال إلى مؤنّث. و حذف النون من غير قياس تشبيها بحروف العلّة. و قرأ ابن كثير و نافع: حسنة بالرفع على «كان» التامّة. يُضاعِفْها أي: ضاعف ثوابها. و قرأ ابن كثير و ابن عامر و يعقوب: يضعّفها. و كلاهما بمعنى. وَ يُؤْتِ مِنْ لَدُنْهُ و يؤت صاحبها من عنده على سبيل التفضّل زائدا على ما وعد في مقابلة العمل أَجْراً عَظِيماً عطاء جزيلا. و إنّما سمّاه أجرا لأنّه تابع للأجر، مزيد عليه، لا يثبت إلّا بثباته.

______________________________

(1) الهباء: الغبار، و دقائق التراب.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 67

[سورة النساء (4): الآيات 41 الى 42]

فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ وَ جِئْنا بِكَ عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً (41) يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ وَ لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً (42)

و لمّا ذكر سبحانه اليوم الآخر وصف حال المنكرين له، فقال: فَكَيْفَ حال هؤلاء الكفرة من اليهود و النصارى و غيرهم إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ يشهد- و هو نبيّهم- على فساد عقائدهم و قبح أعمالهم. يعني: أنّ اللّه سبحانه يستشهد يوم القيامة كلّ نبيّ على أمّته، فيشهد لهم و عليهم. و العامل في الظرف مضمون المبتدأ و الخبر، و هو هول الأمر و تعظيم الشأن وَ جِئْنا بِكَ يا محمّد عَلى هؤُلاءِ شَهِيداً تشهد على صدق هؤلاء الشهداء، لعلمك بعقائدهم، و استجماع شرعك مجامع قواعدهم.

و قيل: «هؤلاء» إشارة إلى الكفرة المستفهم عن حالهم. و قيل: إلى المؤمنين، كقوله تعالى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً «1».

و عن ابن مسعود قرأ هذه الآية على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و

سلّم ففاضت عيناه. فانظر في هذه الحالة إذا كان الشاهد يبكي لهول هذه المقالة، فما ذا ينبغي أن يصنع المشهود عليه، من الانتهاء عن كلّ ما يستحيا منه على رؤوس الأشهاد؟! ثم بيّن حال المشهود عليهم بقوله: يَوْمَئِذٍ يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ عَصَوُا الرَّسُولَ لَوْ تُسَوَّى بِهِمُ الْأَرْضُ أي: يودّ الّذين جمعوا بين الكفر و عصيان الأمر في ذلك الوقت أن يدفنوا فتسوّى بهم الأرض، أي: يجعلون هم و الأرض سواء كالموتى،

______________________________

(1) البقرة: 143.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 68

كما قال اللّه تعالى: وَ يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً «1». يعنون بذلك أنّهم لم يبعثوا و لم يخلقوا، فكانوا هم و الأرض سواء.

و قرأ نافع و ابن عامر: تسّوّى بتشديد السين. و أصله تتسوّى، فأدغم التاء في السين. و حمزة و الكسائي: تسوّى، بفتح التاء و تخفيف السين و إمالة الواو، على حذف التاء الثانية، يقال: سوّيته فتسوّى.

وَ لا يَكْتُمُونَ اللَّهَ حَدِيثاً و لا يقدرون على كتمانه، لأنّ جوارحهم تشهد عليهم. و قيل: الواو للحال. و المعنى: يودّون أن تسوّى بهم الأرض و حالهم أنّهم لا يكتمون اللّه حديثا، و لا يكذبونه بقولهم: وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ «2»، إذ روي أنّهم إذا قالوا ذلك ختم اللّه على أفواههم، فتشهد عليهم جوارحهم، فيشتدّ الأمر عليهم، فيتمنّون أن تسوّى بهم الأرض.

[سورة النساء (4): آية 43]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ وَ لا جُنُباً إِلاَّ عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً (43)

و لمّا

أمر اللّه تعالى في الآية المتقدّمة بالعبادة ذكر عقيبها ما هو من أكبر

______________________________

(1) النبأ: 40.

(2) الأنعام: 23.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 69

العبادات و أفضلها، و هو الصلاة و ما هو شرط صحّتها، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْرَبُوا الصَّلاةَ وَ أَنْتُمْ سُكارى أي: لا تقوموا إليها و أنتم نشاوى من خمر و نحوها حَتَّى تَعْلَمُوا ما تَقُولُونَ حتى تنتبهوا و تعلموا ما تقولون في صلاتكم.

روي أنّ عبد الرحمن بن عوف صنع مأدبة و دعا نفرا من رفقائه، فأكلوا و شربوا حتى ثملوا «1»، و جاء وقت صلاة المغرب فتقدّم عبد الرحمن ليصلّي بهم فقرأ: أعبد ما تعبدون و أنتم عابدون ما أعبد، فنزلت.

و قيل: معناه: لا تقربوا مواضع الصلاة، و هي المساجد، كقوله تعالى:

وَ صَلَواتٌ «2». أي: مواضع الصلاة. و يؤيّد هذا قوله: «إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ» فإنّ العبور إنّما يكون في الموضع دون الصلاة.

و قيل:

هو سكر النوم و غلبة النعاس. و روي ذلك عن الباقر عليه السّلام.

و يعضده ما

روته عائشة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «إذا نعس أحدكم و هو يصلّي فلينصرف، لعلّه يدعو على نفسه و هو لا يدري».

وَ لا جُنُباً عطف على قوله: «و أنتم سكارى»، إذ الجملة في موضع النصب على الحال، كأنّه قال: لا تقربوا الصلاة سكارى و لا جنبا. و الجنب هو الّذي أصابته الجنابة، يستوي فيه المذكّر و المؤنّث، و الواحد و الجمع، لأنّه يجري مجرى المصدر الّذي هو الإجناب.

إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ متعلّق بقوله: «و لا جنبا». استثناء من أعمّ الأحوال، أي:

لا تقربوا الصلاة جنبا في عامّة الأحوال إلّا في حال كونكم مسافرين إذا لم يوجد الماء، فيجوز لكم أن تؤدّوها بالتيمّم. و

يشهد له تعقيبه بذكر التيمّم. أو صفة لقوله:

«جنبا» أي: جنبا غير عابري سبيل. و فيه دلالة على أنّ التيمّم لا يرفع حكم

______________________________

(1) ثمل ثملا: أخذ فيه الشراب و سكر.

(2) الحجّ: 40.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 70

الجنابة. و من فسّر الصلاة بمواضعها فسّر «عابري سبيل» بالمجتازين فيها. فمعناه:

لا تقربوا مواضع الصلاة جنبا إلّا مجتازين.

و القول الأوّل منقول عن أمير المؤمنين عليه السّلام و ابن عبّاس و سعيد بن جبير و مجاهد. و الثاني عن جابر و الحسن و عطاء و الزهري. و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

حَتَّى تَغْتَسِلُوا من الجنابة. و هو غاية النهي عن القربان حال الجنابة.

و القول الأخير أقوى، لأنّه سبحانه بيّن حكم الجنب في آخر الآية إذا عدم الماء، فلو حملناه على ذلك لكان تكرارا، فإنّما أراد سبحانه أن يبيّن حكم الجنب في دخول المساجد في أوّل الآية، و يبيّن حكمه في الصلاة عند عدم الماء في آخر الآية.

وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى مرضا يخاف معه من استعمال الماء، فإنّ الواجد له كالفاقد، أو مرضا يمنعه عن الوصول إليه أَوْ عَلى سَفَرٍ أي: كنتم مسافرين لا تجدون الماء فيه أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ فأحدث بخروج الخارج من أحد السبيلين. و أصل الغائط المطمئنّ من الأرض، و كانوا يتبرّزون هناك لئلّا ير واحد في هذه الحالة، ثم كثر استعماله في الحدث تسمية باسم المجاور أو المحلّ.

أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ أو ماسستم بشرتهنّ ببشرتكم. و هذا كناية عن الجماع.

فمعناه: أو جامعتموهنّ. و قرأ حمزة و الكسائي هنا و في المائدة «1»: لمستم.

و استعماله كناية عن الجماع أقلّ من الملامسة.

و قال ابن عبّاس: سمّى اللّه الجماع لمسا كما سمّى المطر سماء. و عن عمر

ابن الخطّاب و الشعبي و عطاء و ابن مسعود: أنّ المراد به اللمس باليد و غيرها.

و اختاره الشافعي، و قال: إنّ اللمس ينقض الوضوء.

______________________________

(1) المائدة: 6.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 71

و الصحيح الأوّل، لأنّ اللّه تعالى بيّن حكم الجنب في حال وجود الماء بقوله:

«وَ لا جُنُباً إِلَّا عابِرِي سَبِيلٍ حَتَّى تَغْتَسِلُوا»، ثم بيّن عند عدم الماء حكم المحدث.

بقوله: «أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ»، فلا يجوز أن يدع بيان حكم الجنب عند عدم الماء، مع أنّه جرى له ذكر في الآية، و بيّن حكم المحدث و لم يجر له ذكر، فعلمنا أنّ المراد بقوله: «لامستم» الجماع، ليكون بيانا لحكم الجنب عند عدم الماء، و المعلوم من قوله: فَلَمْ تَجِدُوا ماءً أي: فلم تتمكّنوا من استعماله، إذ الممنوع منه كالمفقود.

أراد سبحانه في هذه الآية أن يرخّص للّذين يجب عليهم الطهارة في التيمّم عند عدم الماء، فخصّ أوّلا من بينهم مرضاهم و مسافريهم، لأنّ الحال المقتضية للتيمّم في غالب الأمر مرض و سفر، فلأجل ذلك قدّمهما على سائر الأسباب الموجبة للتيمّم، ثمّ عمّ كلّ من وجب عليه الطهارة و أعوز الماء، لخوف عدوّ أو سبع أو عدم ما يتوصّل به إلى الماء، أو غير ذلك ممّا لا يكثر كثرة المرض و السفر، فلذلك نظم في سلك واحد بين المريض و المسافر و بين المحدث و الجنب، ثم رتّب الحكم عليهم فقال: فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ أي:

فتعمّدوا شيئا من وجه الأرض طاهرا.

و التيمّم أصله القصد، و قد يخصّص في الشرع بقصد الصعيد لمسح أعضاء مخصوصة.

و قال الزجّاج: لا أعلم خلافا بين أهل اللغة في أنّ الصعيد وجه الأرض، ترابا كان أو صخرا لا تراب عليه، فلو

ضرب المتيمّم يده عليه و مسح لكان ذلك طهوره. و هو مذهب أبي حنيفة، و المرويّ عن أئمّة الهدى عليهم السّلام. و عند الشافعي لا بدّ من علوق التراب باليد.

و التيمّم إن كان بدلا من الوضوء فضربة واحدة للوجه و اليدين، و إن كان بدلا

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 72

من الغسل فضربتان: إحداهما للوجه، و الأخرى لليدين. و مسح الوجه من قصاص الشعر إلى طرف الأنف، و من الزند إلى رؤوس الأصابع. و هذا التفصيل منقول عن ائمّتنا صلوات اللّه عليهم. و عند الشافعي ضربة للوجه، و ضربة لليدين إلى المرفقين مطلقا. و عليه قوم من أصحابنا. و مزيد بيان مسائل التيمّم و فروعه محال إلى كتب الفقه.

إِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا غَفُوراً فلذلك يسّر الأمر عليكم، و رخّص لكم.

[سورة النساء (4): الآيات 44 الى 45]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ وَ يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا السَّبِيلَ (44) وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ وَ كَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَ كَفى بِاللَّهِ نَصِيراً (45)

و لمّا ذكر سبحانه الأحكام الّتي أوجب العمل بها وصلها بالتحذير ممّا دعا إلى خلافها، فقال: أَ لَمْ تَرَ من رؤية البصر، أي: ألم تنظر إليهم؟ أو من رؤية القلب، و عدّي ب «إلى» لتضمّن معنى الانتهاء، أي: ألم ينته علمك؟ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ حظّا يسيرا من التوراة يَشْتَرُونَ الضَّلالَةَ يختارونها على الهدى، أو يستبدلونها به. و هي البقاء على اليهوديّة بعد وضوح المعجزات الدالّة على صدق محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الآيات الموضحة عن صحّة نبوّته، و أنّه النبيّ العربيّ المبشّر به في التوراة و الإنجيل. و قيل: يأخذون الرشا، و يحرّفون التوراة.

وَ يُرِيدُونَ أَنْ تَضِلُّوا أيّها المؤمنون السَّبِيلَ سبيل

الحقّ كما ضلّوه، فهم إذا ضلّوا أحبّوا أن يضلّ غيرهم معهم.

وَ اللَّهُ أَعْلَمُ منكم بِأَعْدائِكُمْ و ما هم عليه من الغشّ و الحسد و شدّة

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 73

العداوة لكم، و قد أخبركم بعداوة هؤلاء و ما يريدون بكم، فاحذروهم، و لا تستشيروهم في أموالكم و سائر أحوالكم، و لا تستنصحوهم في أموركم.

وَ كَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا يلي أمركم وَ كَفى بِاللَّهِ نَصِيراً يعينكم، فاعتمدوا على ولايته، و اكتفوا بنصرته عن غيره، و لا تبالوا بهم. و زيادة الباء في فاعل «كفى» لتوكيد الاتّصال الإسنادي.

[سورة النساء (4): آية 46]

مِنَ الَّذِينَ هادُوا يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا وَ عَصَيْنا وَ اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ وَ راعِنا لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ وَ طَعْناً فِي الدِّينِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ اسْمَعْ وَ انْظُرْنا لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَقْوَمَ وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (46)

ثم بيّن سبحانه صفة حال اليهود ليتحرّز المؤمنون منهم، فقال: مِنَ الَّذِينَ هادُوا فإنّه بيان ل «الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ»، لأنّهم يهود و نصارى. و توسّطت بين البيان و المبيّن جمل اعتراضيّة، و هي قوله: «وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِأَعْدائِكُمْ» «وَ كَفى بِاللَّهِ وَلِيًّا وَ كَفى بِاللَّهِ نَصِيراً». فالمعنى: الّذين أوتوا نصيبا هم الّذين هادوا لا النصارى.

أو بيان ل «أعدائكم» أي: و اللّه أعلم بحال أعدائكم الّذين هادوا.

أو صلة ل «نصيرا» أي: ينصركم من الّذين هادوا و يحفظكم منهم، كقوله:

وَ نَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا «1».

______________________________

(1) الأنبياء: 77.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 74

أو خبر مبتدأ محذوف صفته يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ أي: و من الّذين هادوا قوم يحرّفون الكلم، أي: يميلونه عن مواضعه الّتي وضعه اللّه فيها، بإزالته عنها و إثبات غيره فيها،

كما حرّفوا «أسمر ربعة» عن موضعه في التوراة، و وضعوا مكانه: «آدم طوال»، و حرّفوا الرجم و وضعوا الحدّ بدله. أو يؤوّلونه على ما يشتهون، فيميلونه عمّا أنزل اللّه تعالى فيه. فعلى المعنى الأوّل التحريف لفظيّ، و على الثاني معنويّ. و تذكير الضمير باعتبار أن مرجعه اسم الجنس.

وَ يَقُولُونَ سَمِعْنا قولك وَ عَصَيْنا أمرك، أو يقولون بألسنتهم: سمعنا، و في قلوبهم: عصينا وَ اسْمَعْ غَيْرَ مُسْمَعٍ أي: حال كونك مدعوّا عليك ب «لا سمعت» لصمم أو موت. أو اسمع حال كونك غير مجاب إلى ما تدعو إليه. أو اسمع غير مسمع كلاما ترضاه. أو اسمع كلاما غير مسمع إيّاك، لأنّ أذنك تنبو عنه. و على الوجه الأخير يكون مفعولا به. أو اسمع غير مسمع مكروها، من قولهم: أسمعه فلان، إذا سبّه. و على هذا قالوه على سبيل الخير نفاقا.

وَ راعِنا أنظرنا نكلّمك، أو نفهم كلامك لَيًّا بِأَلْسِنَتِهِمْ فتلا بها، و صرفا للكلام إلى ما يشبه السبّ، حيث وضعوا «غير مسمع» موضع «لا أسمعت مكروها» لقصد السبّ، و «راعنا» المشابه لما يتسابّون به- و هو: راعنا- موضع «انظرنا». أو فتلا بها و ضمّا لما يظهرون من الدعاء و التوقير إلى ما يضمرون من السبّ و التحقير.

وَ طَعْناً فِي الدِّينِ استهزاء به و سخريّة.

إن قيل: كيف جاءوا بالقول المحتمل ذي الوجهين بعد ما صرّحوا و قالوا:

سمعنا و عصينا.

قلنا: جميع الكفرة كانوا يواجهون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالكفر و العصيان، و لا يواجهونه بالسبّ و دعاء السوء، و يجوز أن يقولوه فيما بينهم، و يجوز أن لا ينطقوا بذلك، و لكنّهم لمّا لم يؤمنوا به جعلوا كأنّهم نطقوا به.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 75

وَ لَوْ

أَنَّهُمْ قالُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ اسْمَعْ وَ انْظُرْنا و لو ثبت قولهم هذا مكان ما قالوه لَكانَ قولهم ذلك خَيْراً لَهُمْ عاجلا و آجلا وَ أَقْوَمَ أي: أعدل و أسدّ و أصوب في الكلام. و إنّما يجب حذف الفعل بعد «لو» في مثل ذلك لدلالة «أنّ» عليه و وقوعه موقعه.

وَ لكِنْ لَعَنَهُمُ اللَّهُ طردهم و أبعدهم عن رحمته بِكُفْرِهِمْ بسبب كفرهم فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا إلّا إيمانا قليلا ضعيفا لا يعبأ به، و هو الإيمان ببعض الآيات و الرسل. و يجوز أن يراد بالقلّة العدم، لأنّ وقوع القلّة موضع العدم في كلام العرب كثير. أو: إلّا قليلا منهم آمنوا، أو سيؤمنون. فخرج مخبره سبحانه على وفق خبره، فلم يؤمن منهم إلّا عبد اللّه بن سلام و أصحابه، و هم نفر قليل.

[سورة النساء (4): آية 47]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا بِما نَزَّلْنا مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (47)

ثم خاطب أهل الكتاب بالتخويف و التحذير، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ آمِنُوا صدّقوا بِما نَزَّلْنا بما نزّلناه من القرآن و غيره من أحكام الإسلام على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مُصَدِّقاً لِما مَعَكُمْ من التوراة مِنْ قَبْلِ أَنْ نَطْمِسَ وُجُوهاً أي:

نمحو آثارها و تخطيط صورها من عين و حاجب و أنف و فم فَنَرُدَّها عَلى أَدْبارِها فنجعلها على هيئة أدبارها- و هي الأقفاء- مطموسة مثلها، أو ننكس وجوها إلى خلف و أقفاها إلى قدّام، في الدنيا أو في الآخرة.

و أصل الطمس إزالة الأعلام الماثلة. و قد يطلق بمعنى الطّلس «1» في إزالة

______________________________

(1) طلس الكتابة طلسا: محاها.

زبدة التفاسير، ج 2،

ص: 76

الصورة، و بمعنى مطلق القلب و التغيير، و لذلك قيل في معناه: من قبل أن نغيّر وجوها، فنسلب وجاهتها و إقبالها، و نكسوها الصّغار و الإدبار. أو نردّها إلى حيث جاءت منه، و هي أذرعات الشام، يعني: إجلاء بني النضير. و يقرب منه قول من قال: إنّ المراد بالوجوه الوجهاء و الرؤساء، أي: من قبل أن نغيّر أحوال وجهائهم، فنسلبهم وجاهتهم و إقبالهم، و نكسوها صغارهم و إدبارهم. أو المراد: نعمي الأبصار عن الاعتبار، و نصمّ الأسماع عن الإصغاء إلى الحقّ بالطبع و التخلية، و نردّها عن الهداية إلى الضلالة، ختما و تخلية.

أَوْ نَلْعَنَهُمْ كَما لَعَنَّا أَصْحابَ السَّبْتِ أو نخزيهم بالمسخ كما أخزينا به أصحاب السبت، أو نلعنهم على لسانك كما لعنّا أصحاب السبت على لسان داود.

و الضمير لأصحاب الوجوه، أو ل «الّذين» على طريقة الالتفات، أو للوجوه إن أريد به الوجهاء. و عطفه على الطمس بالمعنى الأوّل يدلّ على أنّ المراد به ليس مسخ الصورة في الدنيا. و من حمل الوعيد على تغيير الصورة في الدنيا قال: إنّه بعد مترقّب، و لا بدّ من طمسهم و لعنهم قبل يوم القيامة، أو كان وقوعه مشروطا بعدم إيمانهم، و قد آمن منهم طائفة، كعبد اللّه بن سلام و أسد بن سعية و ثعلبة بن سعية و أسد بن عبيد و مخريق و غيرهم، و أسلم كعب في أيّام عمر.

وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ من وعد و وعيد، و ما حكم به و قضاه مَفْعُولًا نافذا و كائنا، فيقع لا محالة ما أو عدتم به إن لم تؤمنوا.

[سورة النساء (4): آية 48]

إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ

افْتَرى إِثْماً عَظِيماً (48)

ثم إنّه سبحانه آيس الكفّار من رحمته فقال: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ لأنّه بتّ الحكم على خلود عذابه، و أنّ ذنبه لا ينمحي عنه أثره، فلا يستعدّ للعفو،

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 77

بخلاف غيره وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ أي: ما دون الشرك، صغيرا كان أو كبيرا لِمَنْ يَشاءُ تفضّلا عليه و إحسانا.

و لمّا ذهب المعتزلة إلى أنّ اللّه يغفر الشرك لمن يشاء، و لا يغفر ما دون الشرك من الكبائر إلّا بالتوبة، فأوّل الفعل المنفيّ و المثبت بأنّهما موجّهان إلى من يشاء.

و المعنى: أنّ اللّه لا يغفر الشرك لمن يشاء، و هو من لم يتب، و يغفر ما دونه لمن يشاء، و هو من تاب.

و في تقييد غفران ما دون الشرك بالتائب تقييد بلا دليل، إذ ليس عموم آيات الوعيد بالمحافظة أولى من آيات الوعد، و نقض لمذهبهم، فإنّ تعليق الأمر بالمشيئة ينافي وجوب التعذيب قبل التوبة و الصفح بعدها. فالآية كما هي حجّة عليهم، حجّة على الخوارج الّذين زعموا أنّ كلّ ذنب شرك، و أنّ صاحبه مخلّد في النار.

روى مطرف بن الشخير عن عمر بن الخطّاب قال: كنّا على عهد رسول اللّه إذا مات الرجل منّا على كبيرة شهدنا عليه بأنّه من أهل النار، حتّى نزلت هذه الآية، فأمسكنا عن الشهادات.

و الصحيح أنّ اللّه لا يغفر المشرك غير التائب قطّ، و يغفر ما دون الشرك، التائب و غير التائب مطلقا تفضّلا.

و تنقيح هذا المبحث: أنّ اللّه تعالى نفى غفران الشرك أوّلا، و قد حصل الإجماع على أنّه تعالى يغفره بالتوبة، ثم أثبت غفران ما دون الشرك من المعاصي، فينبغي أن يكون المراد غفران من لم يتب منها، ليخالف

المنفيّ المثبت. ثم علّق المشيئة بالمغفور لهم فقال: «لمن يشاء» أي: يغفر الذنوب الّتي هي دون الشرك لمن يشاء أن يغفر له من المذنبين، ليكون العبد واقفا بين الخوف و الرجاء، خارجا عن الإغراء، إذ الإغراء إنّما يحصل بالقطع على الغفران، دون الرجاء للغفران المعلّق بالمشيئة. و لذا

قال الصادق عليه السّلام: «لو وزن رجاء المؤمن و خوفه لاعتدلا».

و يؤيّده

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 78

قوله سبحانه: وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلَّا الضَّالُّونَ «1». فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ «2». فذكر المشيئة لأجل ذلك.

فالآية أرجى من كلّ آية، كما

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «ما في القرآن آية أرجى عندي من هذه الآية».

و قد روينا قبل عن ابن عبّاس «3» أنّه قال: ثمان آيات نزلت في سورة النساء خير لهذه الأمّة ممّا طلعت عليه الشمس و غربت، قوله سبحانه: يُرِيدُ اللَّهُ لِيُبَيِّنَ لَكُمْ و يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُخَفِّفَ عَنْكُمْ إِنْ تَجْتَنِبُوا كَبائِرَ ما تُنْهَوْنَ عَنْهُ إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ مِثْقالَ ذَرَّةٍ. وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ

إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ في الموضعين. ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ فظهر من هذا التفصيل أنّ اللّه تعالى يغفر الذنوب من غير توبة.

و إذا انتقش هذا على صفحة الخاطر علم أنّ ما قال جار اللّه في الكشّاف «4» من أنّ المنفيّ و المثبت في الآية موجّهان إلى قوله: «لمن يشاء»، و المراد بالأوّل من لم يتب، و بالثاني من تاب، في غاية الفساد و البطلان، لأنّه يكون حينئذ معنى الآية:

أنّه سبحانه لا يغفر الشرك لمن يشاء و هو غير التائب، و يغفر لمن تاب منه، و يغفر ما دون ذلك لمن يشاء و هو

التائب، و لا يغفر لمن لم يتب منه، فيصير المنفيّ و المثبت كما ترى سواء في الحكم و المعنى. و حاشا كلام الّذي بهر العقول بفصاحته عن مثل هذه النقيصة الّتي يأبى عنها كلام كلّ عاقل. على أنّ التوبة إذا أوجبت عنده إسقاط العقاب فكيف تعلّق بها المشيئة؟! جلّ ربّنا عن مثله، و تقدّس عن شبهه.

وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدِ افْتَرى فقد كذب بقوله: إنّ العبادة يستحقّها غير اللّه

______________________________

(1) الحجر: 56.

(2) الأعراف: 99.

(3) راجع ص: 49.

(4) الكشّاف 1: 519- 520.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 79

تعالى، و أثم إِثْماً عَظِيماً يستحقر دونه سائر الآثام. و هو إشارة إلى المعنى الفارق بينه و بين سائر الذنوب. و لفظ الافتراء كما يطلق على القول، يطلق على الفعل. و كذلك لفظ الاختلاق.

قال الكلبي: نزلت هذه الآية في المشركين، وحشيّ و أصحابه، و ذلك أنّه لمّا قتل حمزة و كان قد جعل له على قتله أن يعتق، فلم يوف له بذلك، فلمّا قدم مكّة ندم على صنيعه هو و أصحابه، فكتبوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّا قد ندمنا على الّذي صنعناه، و ليس يمنعنا على الإسلام إلّا أنّا سمعناك تقول و أنت بمكّة: وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِّ وَ لا يَزْنُونَ «1» الآيتان. و قد دعونا مع اللّه إلها آخر. و قتلنا النفس الّتي حرّم اللّه، و زنينا، فلولا هذه لاتّبعناك.

فنزلت: إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً «2» الآيتان. فبعث بهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى وحشي و أصحابه.

فلمّا قرءوهما كتبوا إليه: هذا شرط شديد

فنخاف أن لا نعمل صالحا، فلا نكوننّ من أهل هذه الآية.

فنزل: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ. فبعث بها إليهم.

فقرؤوها فبعثوا إليه: إنّا نخاف أن لا نكون من أهل مشيئته.

فنزلت: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً «3». فبعث بها إليهم.

______________________________

(1) الفرقان: 68.

(2) مريم: 60.

(3) الزمر: 53.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 80

فلمّا قرءوها دخل هو و أصحابه في الإسلام، و رجعوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقبل منهم.

ثم قال لوحشي: أخبرني كيف قتلت حمزة؟ فلمّا أخبره قال: و يحك غيّب وجهك عنّي. فلحق وحشيّ بعد ذلك بالشام، فكان بها إلى أن مات.

و

روى أبو مجلز عن ابن عمر قال: نزلت في المؤمنين، و ذلك أنّه لمّا نزلت: «قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا» الآية، قام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على المنبر فتلاها على الناس، فقام إليه رجل فقال: و الشرك باللّه، فسكت، ثم قام إليه مرّتين أو ثلاثا، فنزلت: «إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ» الآية، فأثبت هذه في الزمر، و هذه في النساء.

[سورة النساء (4): الآيات 49 الى 50]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (49) انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ كَفى بِهِ إِثْماً مُبِيناً (50)

ثم ذكر سبحانه تزكية هؤلاء الكفرة أنفسهم مع كفرهم و تحريفهم الكتاب، ذمّا و تعييرا لهم، فقال: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُزَكُّونَ أَنْفُسَهُمْ يعني: أهل الكتاب قالوا:

نحن أبناء اللّه و أحبّاؤه، و لن يدخل الجنّة إلّا من كان هودا أو نصارى. و أصل التزكية نفي ما يستقبح فعلا

و قولا.

و

قيل: جماعة من اليهود أتوا بأطفالهم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالوا: هل على هؤلاء ذنب؟ قال: لا. فقالوا: و اللّه ما نحن إلّا كهيئتهم، ما عملناه بالنهار كفّر عنّا بالليل، و ما عملناه بالليل كفّر عنّا بالنهار. فكذّبهم اللّه تعالى بهذه الآية.

و الأوّل مرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

و يدخل في الآية كلّ من زكّى نفسه و أثنى

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 81

عليها، و وصفها بزيادة الطاعة و الزلفى عند اللّه.

و قوله: بَلِ اللَّهُ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ إيذان بأنّ تزكية اللّه هي الّتي يعتدّ بها، دون تزكية المرء نفسه، لأنّه سبحانه هو العالم بما ينطوي عليه الإنسان من حسن و قبيح، و قد ذمّهم و زكّى المرتضين من عباده المؤمنين وَ لا يُظْلَمُونَ لا يظلم الّذين يزكّون أنفسهم بالذمّ أو العقاب على تزكيتهم أنفسهم بغير حقّ فَتِيلًا أدنى ظلم و أصغره. و هو الخيط الذي في شقّ النواة، يضرب به المثل في الحقارة.

انْظُرْ كَيْفَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ في زعمهم أنّهم أبناء اللّه و أزكياء عنده وَ كَفى بِهِ بزعمهم هذا، أو بالافتراء إِثْماً مُبِيناً بيّنا ظاهرا، لا يخفى كونه مأثما من بين سائر آثامهم.

[سورة النساء (4): الآيات 51 الى 52]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلاً (51) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَ مَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً (52)

روي أنّ حييّ بن أخطب و كعب بن الأشرف خرجا مع جماعة من اليهود إلى مكّة بعد وقعة أحد ليحالفوا قريشا على محاربة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ينقضوا العهد الّذي كان

بينهم و بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فنزل كعب على أبي سفيان، فأحسن مثواه، و نزلت اليهود في دور قريش. فقال أهل مكّة: إنّكم أهل الكتاب و محمّد صاحب الكتاب، فلا نأمن أن يكون هذا مكرا منكم، فإن أردتم أن نخرج معكم فاسجدوا لهذين الصنمين- أعني: الجبت و الطاغوت- و آمنوا بهما حتى نطمئنّ إليكم، ففعلوا ذلك.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 82

ثم قال كعب: يا أهل مكّة ليجي ء منكم ثلاثون، و منّا ثلاثون، فنلزق أكبادنا بالكعبة، فنعاهد ربّ البيت لنجهدنّ على قتال محمد، ففعلوا ذلك.

فلمّا فرغوا قال أبو سفيان لكعب: إنّك امرئ تقرأ الكتاب و تعلم، و نحن أمّيّون لا نعلم، فأيّنا أهدى طريقا و أقرب إلى الحقّ، نحن أم محمد؟

قال كعب: اعرضوا عليّ دينكم.

فقال أبو سفيان: نحن ننحر للحجيج الكوماء «1»، و نسقيهم الماء، و نقري الضيف، و نفكّ العاني «2»، و نصل الرحم، و نعمر بيت ربّنا، و نطوف به، و نحن أهل الحرم. و محمد فارق دين آبائه، و قطع الرحم، و فارق الحرم. و ديننا القديم، و دين محمد الحديث.

فقال كعب: أنتم و اللّه أهدى سبيلا ممّا عليه محمّد.

فقال اللّه عزّ و جلّ: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يعني: كعب و أصحابه يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ بالصنمين اللّذين كانا لقريش، و سجد لهما كعب. و الجبت في الأصل اسم صنم، فاستعمل في كلّ ما عبد من دون اللّه تعالى. و قيل: أصله الجبس، و هو الّذي لا خير فيه، فقلبت سينه تاء. و الطاغوت يطلق لكلّ باطل من معبود أو غيره. وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا لأجلهم و فيهم. و هم أبو سفيان و

أحزابه. هؤُلاءِ إشارة إليهم أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا محمد و أصحابه سَبِيلًا أي: أقواهم دينا و أشدّهم طريقا.

أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أبعدهم اللّه من رحمته و خذلهم وَ مَنْ يَلْعَنِ اللَّهُ يلعنه اللّه فَلَنْ تَجِدَ لَهُ نَصِيراً في الدنيا و الآخرة يمنع العذاب عنه بشفاعة و غيرها.

______________________________

(1) الكوماء: البعير الضخم السنام، و المذكّر: الأكوم، و جمعه: كوم.

(2) العاني: الأسير.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 83

[سورة النساء (4): الآيات 53 الى 55]

أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً (53) أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً (54) فَمِنْهُمْ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ وَ كَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً (55)

و لمّا حكى عن اليهود بأنّ المشركين أهدى من النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أصحابه، بيّن أنّ الحكم ليس لهم، إذ الملك ليس لهم، فقال: أَمْ لَهُمْ نَصِيبٌ مِنَ الْمُلْكِ «أم» منقطعة. و معنى الهمزة إنكار أن يكون لهم حظّ من الملك، و جحد لما زعمت اليهود من أنّ الملك سيصير إليهم فَإِذاً لا يُؤْتُونَ النَّاسَ نَقِيراً أي: لو كان لهم نصيب من الملك فإذا لا يؤتون أحدا ما يوازي نقيرا، و هو النقرة في ظهر النواة. و هذا هو الإغراق في بيان شحّهم، فإنّهم إذا كانوا يبخلون بالنقير و هم ملوك فما ظنّك بهم إذا كانوا فقراء أذلّاء متفاقرين؟! و «إذا» إذا وقع بعد الواو و الفاء جاز فيه الإلغاء و الإعمال، و لذلك قرئ في الشواذّ: فإذا لا يؤتوا، على النصب.

أَمْ يَحْسُدُونَ النَّاسَ بل أ يحسدون الرسول و أصحابه على ما آتاهم اللّه من النبوّة و النصرة و زيادة العزّ كلّ

يوم، أو العرب أو الناس جميعا، لأنّ من حسد النبوّة فكأنّما حسد الناس كلّهم، كمالهم و رشدهم. وبّخهم اللّه و أنكر عليهم الحسد كما ذمّهم على البخل، و هما شرّ الرذائل، و كأنّ بينهما تلازما و تجاذبا عَلى ما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ يعني: النبوّة و الكتاب، و النصرة

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 84

و الإعزاز، و جعل النبيّ الموعود منهم فَقَدْ آتَيْنا آلَ إِبْراهِيمَ الّذين هم أسلاف محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أبناء عمّه الْكِتابَ و هو التوراة و الإنجيل و الزبور وَ الْحِكْمَةَ النبوّة و العلم وَ آتَيْناهُمْ مُلْكاً عَظِيماً و هو ملك يوسف و داود و سليمان، فلا يبعد أن يؤتيه اللّه مثل ما آتاهم. و عن مجاهد و الحسن: المراد بالملك العظيم النبوّة.

فَمِنْهُمْ أي: من اليهود مَنْ آمَنَ بِهِ بمحمّد، أو بما ذكر من حديث آل إبراهيم عليه السّلام وَ مِنْهُمْ مَنْ صَدَّ عَنْهُ أعرض عنه و أنكر و لم يؤمن به مع علمه بصحّته.

و قيل: معناه: فمن آل إبراهيم من آمن به، و منهم من كفر، كقوله: فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ «1»، و لم يكن في ذلك توهين أمر إبراهيم عليه السّلام، فكذلك لا يوهن كفر هؤلاء أمرك.

وَ كَفى هؤلاء المعرضين عنه بِجَهَنَّمَ سَعِيراً نارا مسعورة موقدة يعذّبون بها، أي: إن لم يعجلوا بالعقوبة فقد كفاهم ما أعدّ لهم من سعير جهنّم.

و

في تفسير العيّاشي بإسناده عن أبي الصبّاح الكناني قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا أبا الصبّاح نحن قوم فرض اللّه طاعتنا، لنا الأنفال، و لنا صفو المال، و نحن الراسخون في العلم، و نحن المحسودون الّذين قال اللّه تعالى في كتابه: «أَمْ يَحْسُدُونَ

النَّاسَ» «2» الآيتان. فقال: المراد بالكتاب النبوّة، و بالحكمة الفهم و القضاء، و بالملك العظيم افتراض الطاعات.

______________________________

(1) الحديد: 26.

(2) تفسير العيّاشي 1: 247 ح 155.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 85

[سورة النساء (4): الآيات 56 الى 57]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها لِيَذُوقُوا الْعَذابَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً حَكِيماً (56) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلاًّ ظَلِيلاً (57)

و لمّا تقدّم ذكر المؤمن و الكافر عقّبه بذكر الوعد و الوعيد على الإيمان و الكفر، فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا جحدوا حججنا، و كذّبوا أنبياءنا، و دفعوا الآيات الدالّة على توحيدنا و صدق نبيّنا سَوْفَ نُصْلِيهِمْ ناراً نلقيهم فيها، نلزمهم إيّاها و نحرقهم بها. هذا كالبيان و التقرير للآية المتقدّمة. كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها بأن يعاد ذلك الجلد بعينه على صورة اخرى، كقولك: بدّلت الخاتم قرطا «1»، أو بأن يزال عنه أثر الإحراق ليعود إحساسه للعذاب، كما قال:

لِيَذُوقُوا الْعَذابَ أي: ليدوم لهم ذوقه.

و قيل: يخلق لهم مكانه جلد آخر، و العذاب في الحقيقة للنفس العاصية المدركة لا لآلة إدراكها، فلا يقال: كيف يعذّب مكان الجلود العاصية جلودا لم تعص.

روى الكلبي عن الحسن قال: بلغنا أنّ جلودهم تنضج كلّ يوم سبعين ألف مرّة.

إِنَّ اللَّهَ كانَ عَزِيزاً لا يمتنع عليه إنجاز ما وعده به، و لا يمنع ما يريده

______________________________

(1) القرط: ما يعلّق في شحمة الأذن من درّة و نحوها.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 86

حَكِيماً لا يعاقب إلا من يستحقّ العذاب على وفق حكمته.

وَ الَّذِينَ آمَنُوا بكلّ ما يجب الايمان به وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ الخالصة سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا تحت أشجارها

و قصورها الْأَنْهارُ ماء الأنهار خالِدِينَ فِيها أَبَداً قدّم ذكر الكفّار و وعيدهم على ذكر المؤمنين و وعدهم، لأنّ الكلام فيهم و ذكر المؤمنين بالعرض.

لَهُمْ فِيها أَزْواجٌ مُطَهَّرَةٌ طهرت من الحيض و النفاس، و من سائر المعائب و الأدناس، و الأخلاق الذميمة و الطباع الرديئة، و لا يفعلن ما يوحش أزواجهنّ، و لا يوجد فيهنّ ما ينفّر عنهنّ. وَ نُدْخِلُهُمْ ظِلًّا ظَلِيلًا هو صفة مشتقّة من الظلّ لتأكيده، كقولهم: شمس شامس، و يوم أيوم، و ليل أليل، و داهية دهياء. و المعنى: ندخلهم فينانا «1» لا جوب فيه، أي: كثير الأفنان منبسطا متّصلا لا فرج فيه، لشدّة التفاف الأشجار دائما لا تنسخه الشمس. و هو إشارة إلى النعمة التامّة الدائمة.

[سورة النساء (4): آية 58]

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً (58)

ثم أمر اللّه سبحانه عباده بردّ الأمانة إلى أهلها، و بالحكومة على طريق العدالة، فإنّهما من معظم الأمور الّتي بها تنتظم أمور المعاش، و بها يحصل الفوز يوم المعاد، فلذا خصّصه بين الأعمال الصالحة الّتي تثمر الوصول إلى جنّات قد مرّ نعتها آنفا، فقال: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ إِلى أَهْلِها خطاب عامّ لكلّ أحد من المكلّفين في كلّ أمانة من أمانات اللّه الّتي هي أوامره و نواهيه، و أمانات عباده فيما

______________________________

(1) أي: ظلّا طويلا ممتدّا. و الجوب: جمع جوبة، و هي الفرجة. و الفنن: الغصن المستقيم، جمعه: أفنان.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 87

يأتمن بعضهم بعضا فيه من المال و غيره.

قال أبو جعفر عليه السّلام: «إنّ أداء الصلاة و الزكاة و الصوم و الحجّ من الأمانة».

و يكون من جملتها

الأمر لولاة الأمر بأن يقسّموا الصدقات و الغنائم، و غير ذلك ممّا يتعلّق به حقّ الرعيّة.

و هذا القول مرويّ عن ابن عبّاس و أبيّ بن كعب و ابن مسعود و الحسن و قتادة، و مأثور عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.

و قيل: الخطاب لولاة الأمر، أمرهم اللّه أن يقوموا برعاية الرعيّة، و حملهم على اتّخاذ أحكام الشريعة و الحكم بالعدل، ثم أمر الرعيّة في الآية المتأخّرة بأن يسمعوا لهم و يطيعوا، ثم أكّد ذلك بقوله: إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ «1».

و روي ذلك عن زيد بن أسلم و مكحول و شهر بن حوشب. و هو اختيار الجبائي. و

رواه أصحابنا عن أبي جعفر الباقر و أبي عبد اللّه الصادق عليهما السّلام، قالا: «أمر اللّه سبحانه كلّ واحد من الأئمّة أن يسلّم الأمر إلى من بعده. ثم قالا: إنّ الآية الأولى لنا، و الأخرى لكم».

و

عن ابن جريج أنّه خطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بردّ مفتاح الكعبة إلى عثمان بن طلحة بن عبد الدار، لمّا أغلق باب الكعبة يوم الفتح، و أبى أن يدفع المفتاح ليدخل فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قال: لو علمت أنّه رسول اللّه لم أمنعه، فلوى عليّ عليه السّلام يده و أخذه منه و فتح، فدخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و صلّى ركعتين. فلمّا خرج سأله العبّاس رضى اللّه عنه أن يعطيه المفتاح و يجمع له السقاية و السدانة، فأمره اللّه تعالى أن يردّه إليه، فأمر عليّا عليه السّلام أن يردّه، و صار ذلك سببا لإسلامه، و نزل الوحي بأنّ السدانة في أولاده أبدا.

و

المعوّل على ما تقدّم، و إن صحّ القول الأخير و الرواية فيه، فقد دلّ الدليل على أنّ الأمر إذا ورد على سبب لا يجب قصره عليه، بل يكون على عمومه. و في ذكر الأمانات بصيغة الجمع المحلّى باللام الّتي تفيد العموم، كما قرّر في علم

______________________________

(1) النساء: 59.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 88

الأصول، دلالة صريحة على العموم، كما لا يخفى على من له أدنى مسكة.

وَ إِذا حَكَمْتُمْ بَيْنَ النَّاسِ أَنْ تَحْكُمُوا بِالْعَدْلِ أي: يأمركم أن تحكموا بالإنصاف و السويّة إذا قضيتم بين من ينفذ عليه أمركم. و لمّا كان الحكم وظيفة الولاة فالخطاب لهم، كما بيّنّاه بالروايات الصحيحة المأثورة عن أئمّتنا صلوات اللّه عليهم. و نظيره قوله: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ «1».

و

روي أنّ النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لعليّ عليه السّلام: «سوّ بين الخصمين في لحظك و لفظك».

و

ورد في الآثار أن صبيّين ارتفعا إلى الحسن بن عليّ عليه السّلام في خطّ كتباه، و حكّماه في ذلك ليحكم أيّ الخطّين أجود، فبصر به عليّ عليه السّلام فقال: «يا بنيّ انظر كيف تحكم، فإنّ هذا حكم، و اللّه سائلك عنه يوم القيامة».

إِنَّ اللَّهَ نِعِمَّا يَعِظُكُمْ بِهِ أي: نعم شيئا يعظكم به. فتكون «ما» نكرة منصوبة موصوفة ب «يعظكم به». أو: نعم الشي ء الّذي يعظكم به. فتكون «ما» مرفوعة موصولة به. و المخصوص بالمدح محذوف على كلا التقديرين، أي: نعم ما يعظكم به ذاك، أي: المأمور به من أداء الأمانات و العدل في الحكومات.

إِنَّ اللَّهَ كانَ سَمِيعاً بَصِيراً بأقوالكم و أحكامكم و ما تفعلون في الأمانات.

[سورة النساء (4): آية 59]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ أُولِي الْأَمْرِ

مِنْكُمْ فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ وَ الرَّسُولِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً (59)

و لمّا بدأ سبحانه في الآية المتقدّمة بحثّ الولاة على تأدية حقوق الرعيّة،

______________________________

(1) ص: 26.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 89

و النصفة و السويّة بين البريّة، عقّبها بحثّ الرعيّة على طاعتهم، و الاقتداء بهم، و الردّ إليهم في ترافعهم و تخاصمهم، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ الزموا طاعة اللّه فيما أمركم به و نهاكم عنه وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ و الزموا طاعة رسوله في الأمر و النهي. و إنّما أفرد الأمر بطاعة الرسول، و إن كانت طاعته طاعة اللّه سبحانه، مبالغة في البيان، و قطعا لتوهّم من توهّم أنّه لا يجب لزوم ما ليس في القرآن من الأوامر.

و نظيره قوله تعالى: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ «1». وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا «2». وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «3».

و قيل: معناه: أطيعوا اللّه في الفرائض، و الرسول في السنن. و الأوّل أصحّ، لأنّ طاعة الرسول طاعة اللّه، و امتثال أوامره امتثال أوامر اللّه، كما دلّت عليه الآيات المذكورة.

وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ للمفسّرين «4» فيه قولان:

أحدهما: أنّ المراد منهم الأمراء. و هو مرويّ عن ابن عبّاس و أبي هريرة و ميمون بن مهران و السدّي. و اختاره الجبائي و البلخي.

و ثانيهما: أنّهم العلماء، لأنّهم الّذين يرجع إليهم في الأحكام، و يجب الرجوع إليهم عند التنازع، دون الولاة. و هو منقول عن جابر بن عبد اللّه و ابن عبّاس في رواية اخرى.

و أمّا

أصحابنا رضوان اللّه عليهم فإنّهم رووا عن الباقر و الصادق عليهما السّلام أنّ

أولي الأمر هم الأئمّة من آل محمّد عليهم السّلام،

أوجب اللّه طاعتهم بالإطلاق، كما أوجب

______________________________

(1) النساء: 80.

(2) الحشر: 7.

(3) النجم: 3- 4.

(4) انظر الكشّاف 1: 524، مجمع البيان 2: 64، تفسير البيضاوي 2: 94- 95.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 90

طاعته و طاعة رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و لا يجوز أن يوجب اللّه سبحانه طاعة أحد على الإطلاق إلّا من ثبتت عصمته، و علم أنّ باطنه كظاهره، و أمن منه الغلط و الأمر بالقبيح، و ليس ذلك بحاصل في الأمراء و العلماء سواهم. و جلّ سبحانه عن أن يأمر بطاعة من يعصيه، أو بالانقياد للمختلفين في القول و الفعل، لأنّه محال أن يطاع المختلفون، كما أنّه محال أن يجتمع ما اختلفوا فيه.

و ممّا يدلّ على ذلك أيضا أنّ اللّه سبحانه لم يقرن طاعة أولي الأمر بطاعة رسوله، كما قرن طاعة رسوله بطاعته، إلّا و أولوا الأمر فوق الخلق جميعا، كما أنّ الرسول فوق أولي الأمر و فوق سائر الخلق، معصومون مأمونون عن الخطأ و القبح، كما كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فهذه صفة أئمّة الهدى من آل محمّد صلّى اللّه عليهم، الّذين ثبتت إمامتهم و عصمتهم، و اتّفقت الأمّة على علوّ رتبتهم و عدالتهم، و كيف يأمرنا اللّه مطلقا بطاعة من كان مثلنا في جواز صدور الخطأ و العصيان و السهو و النسيان منه؟! فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ أي: فإن اختلفتم في شي ء من أمور دينكم فَرُدُّوهُ فردّوا التنازع إِلَى اللَّهِ إلى كتاب اللّه وَ الرَّسُولِ و إلى سنّة رسوله في حياته، و إلى من أمر بالرجوع إليه بعد وفاته في

قوله صلّى اللّه عليه و آله و

سلّم: «إنّي تارك فيكم الثقلين، ما إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا بعدي: كتاب اللّه و عترتي أهل بيتي، و إنّهما لن يفترقا حتّى يردا عليّ الحوض».

فقد صرّح صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّ في التمسّك بهما الأمان من الضلال، فالردّ إلى أهل بيته- الّذين هم معادلو كتاب اللّه بعد وفاته- مثل الردّ إليه في حياته، فإنّهم الحافظون لشريعته، القائمون مقامه، و خلفاؤه لأمّته. فثبت أنّ أولي الأمر هم الأئمّة المعصومون صلوات اللّه عليهم من آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فكأنّه قال سبحانه: فردّوه إلى اللّه و إلى الرسول في حياته، و أهل بيته بعد وفاته. إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فإنّ الإيمان يوجب ذلك.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 91

ذلِكَ إشارة إلى الردّ إلى اللّه و الرسول و أهل بيته خَيْرٌ لكم وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا أي: أحمد عاقبة. و تسمية العاقبة تأويلا لأنّها مآل الأمر، من: آل يؤول، إذا رجع، و المآل المرجع.

[سورة النساء (4): الآيات 60 الى 63]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ وَ يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالاً بَعِيداً (60) وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ عَنْكَ صُدُوداً (61) فَكَيْفَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ ثُمَّ جاؤُكَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ إِحْساناً وَ تَوْفِيقاً (62) أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ عِظْهُمْ وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ قَوْلاً بَلِيغاً (63)

و لمّا أمر اللّه سبحانه أولي الأمر بالحكم، و أمر المسلمين بطاعتهم، وصل ذلك بذكر المنافقين الّذين

لا يرضون بحكم اللّه و رسوله، فقال: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يَزْعُمُونَ أَنَّهُمْ آمَنُوا بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من القرآن وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ من التوراة و الإنجيل يُرِيدُونَ أَنْ يَتَحاكَمُوا إِلَى الطَّاغُوتِ إلى من يحكم بالباطل، و يؤثر لأجله. سمّي بذلك لفرط طغيانه، أو لتشبّهه بالشيطان، أو لأنّ التحاكم إليه تحاكم إلى الشيطان من حيث إنّه الحامل.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 92

و أكثر المفسّرين «1» قالوا: كان بين رجل من اليهود و رجل من المنافقين خصومة، فقال له اليهودي: أحاكم إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لأنّه علم أنّه لا يقبل الرشوة، و لا يجور في الحكم. فقال المنافق: لا بل بيني و بينك كعب بن الأشرف، لأنّه علم أنّه يأخذ الرشوة، فنزلت. فالمراد بالطاغوت كعب بن الأشرف، لإفراطه في الطغيان و عداوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و نقل عن العامّة «2» أنّ منافقا خاصم يهوديّا، فدعاه اليهوديّ إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و دعاه المنافق إلى كعب بن الأشرف. ثم إنّهما احتكما إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فحكم لليهوديّ، فلم يرض المنافق، و قال: نتحاكم إلى عمر. فقال اليهودي لعمر: قضى لي رسول اللّه فلم يرض بقضائه، و خاصم إليك. فقال عمر للمنافق: أ كذلك؟ فقال: نعم.

فقال: مكانكما حتى أخرج إليكما، فدخل فأخذ سيفه ثم خرج فضرب عنق المنافق حتى برد، و قال: هكذا أقضي لمن لم يؤمن بقضاء اللّه و رسوله، فنزلت.

و قال جبرئيل: إنّ عمر فرّق بين الحقّ و الباطل، فسمّي الفاروق.

أقول: وا عجباه من قوله: هكذا أقضي لمن لم يؤمن بقضاء اللّه، و من

مخالفته حكم اللّه و حكم رسوله يوم الغدير، و عدم إيمانه به بعد أن قال مخاطبا لعليّ عليه السّلام: بخ بخ لك يا أبا الحسن، صرت مولاي و مولى كلّ مؤمن و مؤمنة.

و

روى أصحابنا عن السيّدين الباقر و الصادق عليهما السّلام أنّ المعنيّ به كلّ من يتحاكم إليه ممّن يحكم بغير الحقّ. و هذا هو الحقّ.

وَ قَدْ أُمِرُوا أَنْ يَكْفُرُوا بِهِ يعني به قوله سبحانه: فَمَنْ يَكْفُرْ بِالطَّاغُوتِ وَ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى لَا انْفِصامَ لَها «3». وَ يُرِيدُ الشَّيْطانُ

______________________________

(1) انظر مجمع البيان 2: 66.

(2) انظر الكشّاف 1: 525، تفسير البيضاوي 2: 95.

(3) البقرة: 256.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 93

بتزيين الباطل و تسويله إيّاه صورة الحقّ أَنْ يُضِلَّهُمْ ضَلالًا بَعِيداً عن الحقّ.

نسب إضلالهم إلى الشيطان، فلو كان سبحانه قد أضلّهم بخلق الضلال فيهم- على ما يقوله المجبّرة- لنسب إضلالهم إلى نفسه دون الشيطان، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ في القرآن من الأحكام وَ إِلَى الرَّسُولِ في حكمه رَأَيْتَ الْمُنافِقِينَ يَصُدُّونَ في موقع الحال، أي: حال كونهم يعرضون عَنْكَ عن حكمك صُدُوداً إعراضا. هو مصدر أو اسم للمصدر الّذي هو الصّدّ. و الفرق بينه و بين السّدّ أنّه غير محسوس، و السّدّ محسوس.

فَكَيْفَ يكون حالهم إِذا أَصابَتْهُمْ نالتهم من اللّه مُصِيبَةٌ عقوبة بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ من التحاكم إلى غيرك، و عدم الرضا بحكمك، و إظهار السخط به ثُمَّ جاؤُكَ فيعتذرون إليك. عطف على «أصابتهم». و قيل: على «يصدّون» و ما بينهما اعتراض. يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ حال من فاعل «جاءوك» إِنْ أَرَدْنا ما أردنا بالتحاكم إلى غيرك إِلَّا إِحْساناً و هو التخفيف عنك، فإنّا نحتشمك برفع الصوت

في مجلسك، و نقتصر على من يتوسّط لنا برضا الخصمين وَ تَوْفِيقاً و تأليفا و جمعا بينهما من دون أن يحكم بينهما، و لم نرد المخالفة لذلك، و التسخّط لحكمك.

أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ من الشرك و النفاق، فلا يغني عنهم الكتمان و الحلف الكاذب من العقاب فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ أي: عن عقابهم لمصلحة في استبقائهم، أو عن قبول معذرتهم وَ عِظْهُمْ بلسانك، و كفّهم عمّا هم عليه وَ قُلْ لَهُمْ فِي أَنْفُسِهِمْ أي: في معنى أنفسهم من النفاق قَوْلًا بَلِيغاً يبلغ من نفوسهم كلّ مبلغ، و يؤثّر فيهم على وجه لم يعيدوا بمثل ما فعلوا من التحاكم إلى الطاغوت، و غيره من آثار النفاق، بأن تخوّفهم بالقتل و الاستئصال إن ظهر منهم

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 94

النفاق.

و يجوز أن يكون المعنى: و قل لهم في أنفسهم خاليا بهم ليس معهم غيرهم قولا بليغا أثره فيهم، فإنّ النصح في السرّ أنجع.

أمر اللّه تعالى نبيّه بالصفح عن ذنوبهم، و النصح لهم، و المبالغة فيه بالترغيب و الترهيب، و ذلك مقتضى شفقة الأنبياء صلوات اللّه عليهم أجمعين.

و تعليق الظرف ب «بليغا» على معنى: بليغا في أنفسهم مؤثّرا فيها، ضعيف، لأنّ معمول الصفة لا يتقدّم على الموصوف. و القول البليغ في الأصل هو الّذي يطابق مدلوله المقصود به.

[سورة النساء (4): آية 64]

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ لِيُطاعَ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ جاؤُكَ فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ لَوَجَدُوا اللَّهَ تَوَّاباً رَحِيماً (64)

ثم لامهم سبحانه على ردّهم أمره، و ذكر أنّ غرضه من البعثة الطاعة، فقال:

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ أي: لم نرسل رسولا من رسلنا قطّ إِلَّا لِيُطاعَ أي:

الغرض من الإرسال أن يطاع الرسول،

و يمتثل ما يأمر به بِإِذْنِ اللَّهِ أي: بسبب إذن اللّه في طاعته، و أمره المبعوث إليهم بأن يطيعوه و يتّبعوه، لأنّه مؤدّ عن اللّه، فطاعته طاعة اللّه، و معصيته معصية اللّه. و كأنّه سبحانه احتجّ بذلك على أنّ الّذي لم يرض بحكمه و إن أظهر الإسلام كان كافرا مستحقّ القتل، فإنّ تقديره: أنّ إرسال الرسول لمّا لم يكن إلّا ليطاع كان من لم يطعه و لم يرض بحكمه لم يقبل رسالته، و من كان كذلك كان كافرا مستوجب القتل.

و فيه دلالة على بطلان مذهب المجبّرة القائلين بأنّ اللّه تعالى يريد أن يعصي أنبياءه قوم و يطيعهم آخرون.

وَ لَوْ أَنَّهُمْ إِذْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بإدخال الضرر عليها من استحقاق العقاب

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 95

بالنفاق أو التحاكم إلى الطاغوت جاؤُكَ تائبين من ذلك، مقبلين عليك، مؤمنين بك. و هو خبر «أنّ»، و «إذ» متعلّق به. فَاسْتَغْفَرُوا اللَّهَ من ذلك بالتوبة و الإخلاص وَ اسْتَغْفَرَ لَهُمُ الرَّسُولُ أي: و اعتذروا إليك حتّى انتصبت لهم شفيعا.

و إنّما عدل عن الخطاب و لم يقل: و استغفرت لهم، على طريقة الالتفات، تفخيما لشأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و تعظيما لاستغفاره، و تنبيها على أنّ شفاعة من اسمه رسول اللّه من اللّه بمكان، و سريع الاجابة البتّة، و أنّ حقّ الرسول أن يقبل اعتذار التائب و إن عظم جرمه و يشفع له، و من منصبه أن يشفع في كبائر الذنوب.

لَوَجَدُوا اللَّهَ أي: لعلموه تَوَّاباً رَحِيماً قابلا لتوبتهم، متفضّلا عليهم بالرحمة. و إن فسّر «وجد» ب «صادف» كان «توّابا» حالا، و «رحيما» بدلا منه، أو حالا من الضمير فيه.

و في الآية دلالة على أنّ مرتكب الكبيرة إذا

استغفر و تاب يقبل اللّه توبته، و لا يعذّبه بها.

[سورة النساء (4): آية 65]

فَلا وَ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً مِمَّا قَضَيْتَ وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً (65)

ثم بيّن سبحانه أنّ الإيمان به إنّما هو بالتزام حكم رسوله و الرضا به، فقال:

فَلا وَ رَبِّكَ أي: فو ربّك. و «لا» مزيدة لتأكيد القسم، لا لتظاهر «لا» في جوابه، أعني: قوله: لا يُؤْمِنُونَ لأنّها تزاد أيضا في الإثبات، كقوله: لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ «1». حَتَّى يُحَكِّمُوكَ فِيما شَجَرَ بَيْنَهُمْ أي: فيما اختلف بينهم و اختلط، و منه الشجر، لتداخل أغصانه و أجزائه ثُمَّ لا يَجِدُوا فِي أَنْفُسِهِمْ حَرَجاً ضيقا

______________________________

(1) البلد: 1.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 96

مِمَّا قَضَيْتَ ممّا حكمت به، أو من حكمك، أو شكّا من أجله، فإنّ الشاكّ في ضيق من أمره وَ يُسَلِّمُوا تَسْلِيماً و ينقادوا لك، و يذعنوا لقضائك. و «تسليما» تأكيد للفعل، أي: انقيادا بظاهرهم و باطنهم.

قيل: نزلت في شأن الزبير و حاطب بن أبي بلتعة، فإنّهما اختصما إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في شراج من الحرّة كانا يسقيان بها النخل- و الشرج: المسيل الواسع، و الجمع الشراج و الشروج، و الحرّة «1» بضمّ الحاء: السحاب الكثير المطر-

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اسق يا زبير ثم أرسل الماء إلى جارك. فغضب حاطب و قال: أن كان ابن عمّتك؟ فتلوّن وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثم قال: اسق يا زبير ثم احبس الماء حتى يرجع إلى الجدر- و هو المسنّاة- و استوف حقّك، ثم أرسله إلى جارك.

كان قد أشار اوّلا على الزبير برأي فيه السعة له و لخصمه،

فلمّا أغضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم استوعب للزبير حقّه في صريح الحكم.

قال الراوي: ثم خرجا فمرّا على المقداد، فقال: لمن كان القضاء يا أبا بلتعة؟

قال: قضى لابن عمّته، و لوى شدقه. ففطن لذلك يهوديّ كان مع المقداد فقال: قاتل اللّه هؤلاء يشهدون أنّه رسول اللّه ثم يتّهمونه في قضاء يقضي بينهم، و ايم اللّه لقد أذنبنا مرّة واحدة في حياة موسى عليه السّلام فدعانا موسى إلى التوبة فقال: اقتلوا أنفسكم، ففعلنا، فبلغ قتلانا سبعين ألفا في طاعة ربّنا حتّى رضي عنّا.

فقال ثابت بن قيس بن شماس: أما و اللّه إنّ اللّه ليعلم منّي الصدق، و لو أمرني أن أقتل نفسي لفعلت. فأنزل اللّه تعالى في شأن حاطب بن أبي بلتعة وليّه شدقه

______________________________

(1) ما ذكره المفسّر «قدّس سرّه» في معنى الحرّة لم نجده في مصادر اللغة، و لعلّه من سهو قلمه الشريف، و الحرّة- بفتح الحاء- أرض ذات حجارة سود كأنّها أحرقت بالنار، و جمعها:

الحرّات. و الشرج: مسيل الماء من الحرّة إلى السهل، و جمعه: الشراج.

انظر لسان العرب 4: 179- 180، و ج 2: 306.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 97

هذه الآية و الّتي بعدها. و قيل: هي أيضا في شأن المنافق و اليهوديّ.

روي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «لو أنّ قوما عبدوا اللّه و أقاموا الصلاة و آتوا الزكاة و صاموا رمضان و حجّوا البيت، ثم قالوا لشي ء صنعه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ألّا صنع خلاف ما صنع؟ أو وجدوا من ذلك حرجا في أنفسهم، لكانوا مشركين، ثمّ تلا هذه الآية».

[سورة النساء (4): الآيات 66 الى 68]

وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ ما فَعَلُوهُ

إِلاَّ قَلِيلٌ مِنْهُمْ وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً (66) وَ إِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً (67) وَ لَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (68)

و لمّا بيّن اللّه أنّ إيمانهم لا يتمّ إلّا بأن يسلّموا تسليما، نبّه على قصور أكثرهم، و وهن إسلامهم، و ضعف عقيدتهم، فقال توبيخا لهم: وَ لَوْ أَنَّا كَتَبْنا عَلَيْهِمْ أوجبنا على هؤلاء الّذين تقدّم ذكرهم أَنِ اقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ تعرّضوا بها للقتل بالجهاد، أو اقتلوها كما قتل بنو إسرائيل. و «أن» مصدريّة، أو مفسّرة ل «أنّا كتبنا» فإنّه في معنى: أمرنا. أَوِ اخْرُجُوا مِنْ دِيارِكُمْ مثل خروج بني إسرائيل إلى التّيه حين استتيبوا من عبادة العجل.

و قرأ أبو عمرو و يعقوب: أن اقتلوا بكسر النون على أصل التحريك، أو اخرجوا بضمّ الواو، للإتباع، و التشبيه بواو الجمع في نحو: وَ لا تَنْسَوُا الْفَضْلَ «1».

______________________________

(1) البقرة: 237.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 98

و قرأ عاصم و حمزة بكسرهما على الأصل. و الباقون بضمّهما، إجراء لهما مجرى الهمزة المتّصلة بالفعل.

ما فَعَلُوهُ الضمير للمكتوب، و دلّ عليه «كتبنا»، أو لأحد مصدري الفعلين، و هما القتل و الخروج، أي: ما فعلوا ما كتب عليهم أو القتل أو الخروج إِلَّا قَلِيلٌ مِنْهُمْ إلّا ناس قليل، و هم المخلصون، مثل ثابت بن قيس، و نظائره من المؤمنين الّذين رسخ الإيمان في قلوبهم. و

قال النبيّ في شأنهم: «إنّ من أمّتي لرجالا الإيمان أثبت في قلوبهم من الجبال الرواسي».

و «قليل» بدل من ضمير «فعلوه».

و قرأ ابن عامر بالنصب على الاستثناء، أو على: فعلا قليلا.

وَ لَوْ أَنَّهُمْ فَعَلُوا ما يُوعَظُونَ بِهِ أي: ما يؤمرون به من متابعة الرسول و مطاوعته طوعا و رغبة و الرضا بحكمه لَكانَ

ذلك خَيْراً لَهُمْ وَ أَشَدَّ تَثْبِيتاً في دينهم، لأنّه أشدّ لتحصيل العلم و نفي الشكّ. أو تثبيتا لثواب أعمالهم، و نصبه على التمييز. أو أشدّ بصيرة في أمر الدين، كنّي به عن البصيرة بهذا اللفظ، لأنّ من كان على بصيرة من أمر دينه كان أدعى له إلى الثبات عليه، و كان هو أقوى في اعتقاد الحقّ و أدوم عليه ممّن لم يكن على بصيرة منه.

وَ إِذاً لَآتَيْناهُمْ مِنْ لَدُنَّا أَجْراً عَظِيماً لا يبلغ أحد مبدأه، و لا يعرف منتهاه، و لا يدرك قصواه. و إنّما قال: «من لدنّا» تأكيدا بأنه لا يقدر عليه غيره، و ليدلّ على الاختصاص. و هذا جواب لسؤال مقدّر، كأنّه قيل: و ما يكون لهم بعد التثبيت؟ فقال: و إذا لو تثبّتوا لآتيناهم، لأنّ «إذا» جواب و جزاء.

وَ لَهَدَيْناهُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً أي: وفّقناهم ليزدادوا الخيرات، و يثبتوا معها

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 99

على الطاعات، أي: هديناهم صراطا يصلون بسلوكه جناب القدس، و يفتح عليهم أبواب الغيب.

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من عمل بما علم ورّثه اللّه علم ما لم يعلم».

[سورة النساء (4): الآيات 69 الى 70]

وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً (69) ذلِكَ الْفَضْلُ مِنَ اللَّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ عَلِيماً (70)

ثم بيّن سبحانه حال المطيعين، فقال ترغيبا لهم في طاعته و طاعة رسوله:

وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ بالانقياد لأمره و نهيه وَ الرَّسُولَ باتّباع شريعته، و الرضا بحكمه فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي: رفقاء أكرم الخلائق و أعظمهم قدرا عند اللّه في أعلى علّيّين مِنَ النَّبِيِّينَ وَ الصِّدِّيقِينَ وَ الشُّهَداءِ وَ الصَّالِحِينَ بيان للّذين، أو

حال منه، أو من ضميره.

قسّمهم أربعة أقسام بحسب منازلهم في العلم و العمل، و حثّ كافّة الناس على أن لا يتأخّروا عنهم.

و هم:

الأنبياء الفائزون بكمال العلم و العمل، المتجاوزون حدّ الكمال إلى درجة التكميل.

ثم الصدّيقون الّذين صعدت نفوسهم تارة بمراقي النظر في الحجج و الآيات، و أخرى بمعارج التصفية و الرياضات إلى أوج العرفان، حتى اطّلعوا على الأشياء، و أخبروا عنها على ما هي عليها.

ثم الشهداء الّذين أدّى بهم الحرص على الطاعة و الجدّ في إظهار الحقّ، حتى

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 100

زبدة التفاسير ج 2 149

بذلوا مهجهم في إعلاء كلمة اللّه تعالى.

ثم الصالحون الّذين صرفوا أعمارهم في طاعته، و أموالهم في مرضاته.

و يمكن أن يقال هاهنا: إنّ المنعم عليهم هم العارفون باللّه. و هؤلاء إمّا أن يكونوا بالغين درجة العيان، أو واقفين في مقام الاستدلال و البرهان. و الأوّلون إمّا أن ينالوا مع العيان القرب بحيث يكونون كمن يرى الشي ء قريبا، و هم الأنبياء، أو لا، فيكونون كمن يرى الشي ء من بعيد، و هم الصدّيقون. و الآخرون إمّا أن يكون عرفانهم بالبراهين القاطعة، و هم العلماء الراسخون في العلم، الّذين هم شهداء اللّه تعالى في أرضه. و إمّا أن يكون بأمارات و إقناعات تطمئنّ إليها نفوسهم، و هم الصالحون.

و وجه تسمية النبيّين بهذا الاسم أنّهم أخبروا عن اللّه، و رفع قدرهم، مشتقّ من: نبّأ، بمعنى: أخبر، أو نبا ينبو، بمعنى: ارتفع.

و تسمية الصدّيقين به أنّهم المصدّقون بكلّ ما أمر اللّه به و بأنبيائه، لا يدخلهم في ذلك شكّ. و يؤيّده قوله تعالى: وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ «1». أو أنّهم صدقوا في أقوالهم و أفعالهم.

و تسمية الشهداء به أنّهم

شاهدون الحقّ على جهة الإخلاص، و مقرّون به، و داعون إليه، و باذلون جهدهم في إظهاره حتى قتلوا. أو أنّهم شهداء الآخرة على الناس، و إنّما يستشهدهم اللّه لفضلهم و شرفهم، فهم عدول الآخرة. أو أنّ الحور العين يحضرن عندهم وقت القتل، كما ورد في الرواية «2». أو أن الملائكة يحضرون عندهم، و يبشّرونهم بمراتبهم العليّة في الجنّة.

و تسمية الصالحين به أنّهم التزموا الصلاح و الرشاد، فصلحت حالهم،

______________________________

(1) الحديد: 19.

(2) ورد بلفظ آخر يشبه ما ذكره في المتن، راجع بحار الأنوار 27: 188.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 101

و استقامت طريقتهم.

روى أبو بصير عن أبي عبداللّه عليه السّلام أنّه قال: «يا أبا محمد لقد ذكركم اللّه في كتابه، ثم تلا هذه الآية، و قال: فالنبيّ رسول اللّه، و نحن الصدّيقون و الشهداء، و أنتم الصالحون، فتسمّوا بالصلاح كما سمّاكم اللّه تعالى».

وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً فيه معنى التعجّب، كأنّه قيل: و ما أحسن أولئك رفيقا. و نصب «رفيقا» على التمييز أو الحال. و لم يجمع، لأنّه يقال للواحد و الجمع كالصديق، أو لأنّه أريد: و حسن كلّ واحد منهم رفيقا.

ذلِكَ إشارة إلى ما للمطيعين من الأجر، و مزيد الهداية، و مرافقة المنعم عليهم. أو إلى فضل هؤلاء المنعم عليهم و مزيّتهم الْفَضْلُ صفة ذلك مِنَ اللَّهِ خبره، أو «الفضل» خبره و «من اللّه» حال، و العامل فيه معنى الإشارة وَ كَفى بِاللَّهِ عَلِيماً بجزاء من أطاعه، أو بمقادير الفضل و استحقاق أهله.

روي أنّ ثوبان مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان شديد الحبّ لرسول اللّه، قليل الصبر عنه، فأتاه ذات يوم و قد تغيّر لونه و نحل جسمه. فقال صلّى اللّه عليه و آله

و سلّم: يا ثوبان ما غيّر لونك؟ فقال: يا رسول اللّه ما بي من مرض و لا وجع، غير أنّي إذا لم أرك اشتقت إليك و استوحشت وحشة شديدة حتى ألقاك، ثم ذكرت الآخرة، فأخاف أنّي لا أراك هناك، لأنّي عرفت أنّك ترفع مع النبيّين، و أنّي إن أدخلت الجنّة كنت في منزل أدنى من منزلك، و إن لم أدخل الجنّة فذاك حين لا أراك أبدا. فنزلت هذه الآية. ثم قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و الّذي نفسي بيده لا يؤمن عبد حتى أكون أحبّ إليه من نفسه و أبويه و أهله و ولده و الناس أجمعين».

[سورة النساء (4): آية 71]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ فَانْفِرُوا ثُباتٍ أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً (71)

ثم أمر سبحانه المؤمنين بمجاهدة الكفّار، و التأهّب لقتالهم، ليصعدوا

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 102

درجات النبيّين و الصدّيقين و الشهداء، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا خُذُوا حِذْرَكُمْ الحذر و الحذر بمعنى، كالإثر و الأثر، يقال: أخذ حذره إذا تيقّظ و تحفّظ من المخوف، كأنّه جعل الحذر آلته الّتي يحفظ بها نفسه. و المعنى: تيقّظوا و استعدّوا للأعداء.

و قيل: الحذر ما يحذر به، كالحزم و السلاح. و يؤيّده

قول الباقر عليه السّلام في معناه: «خذوا أسلحتكم».

فسمّى الأسلحة حذرا، لأنّه بها يتّقى المحذور.

و هذا القول أصلح، لأنّه أوفق بمقائيس كلام العرب، و يكون من باب حذف المضاف، تقديره: خذوا آلات حذركم.

فَانْفِرُوا فاخرجوا إلى الجهاد ثُباتٍ جماعات متفرّقة. جمع ثبة، من:

ثبيت على فلان تثبية، إذا ذكرت متفرّق محاسنه. و يجمع أيضا على ثبين، جبرا لما حذف من عجزه. و المعنى: اخرجوا فرقة بعد فرقة، فرقة في جهة، و فرقة في أخرى. أَوِ انْفِرُوا جَمِيعاً مجتمعين كوكبة «1» واحدة

في جهة واحدة، إذا أوجب الرأي ذلك.

و

روي عن الباقر عليه السّلام أنّ المراد بالثبات السرايا، و بالجميع العسكر.

و الآية و إن نزلت في الحرب، لكن يقتضي إطلاق لفظها وجوب المبادرة إلى الخيرات كلّها كيف ما أمكن قبل الفوات.

[سورة النساء (4): الآيات 72 الى 73]

وَ إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَّ فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ قالَ قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً (72) وَ لَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ لَيَقُولَنَّ كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُ مَوَدَّةٌ يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً (73)

و لمّا حثّ اللّه تعالى على الجهاد بيّن حال المتخلّفين عنه بقوله:

______________________________

(1) في هامش النسخة الخطية: «الكوكب جماعة من الناس، و اسم النجم. منه».

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 103

وَ إِنَّ مِنْكُمْ لَمَنْ لَيُبَطِّئَنَ ليتثاقلنّ و ليتخلّفنّ عن الجهاد. الخطاب لعسكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، المؤمنين منهم و المنافقين، أو للمؤمنين خاصّة. و المعنى: من عدادكم و دخلائكم، و المبطّئون منافقوهم تثاقلوا و تخلّفوا عن الجهاد، من: بطّأ بمعنى: أبطأ، و هو لازم، أو ثبّطوا غيرهم كما ثبّط ابن أبيّ ناسا يوم أحد، من: بطّأ، منقولا من بطؤ، كثقّل من ثقل.

و اللام الأولى للابتداء، دخلت اسم «إنّ» للفصل بالخبر. و الثانية جواب قسم محذوف، و القسم بجوابه صلة «من»، و الراجع إليه ما استكن في «ليبطّئنّ».

و التقدير: و إنّ منكم لمن اقسم باللّه ليبطّئنّ.

فَإِنْ أَصابَتْكُمْ مُصِيبَةٌ كقتل و هزيمة قالَ أي: المبطّئ قول الشامت المسرور بتخلّفه قَدْ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيَّ إِذْ لَمْ أَكُنْ مَعَهُمْ شَهِيداً حاضرا في القتال، فيصيبني ما أصابهم.

وَ لَئِنْ أَصابَكُمْ فَضْلٌ مِنَ اللَّهِ كفتح أو غنيمة لَيَقُولَنَ أكّده تنبيها على فرط تحسّرهم كَأَنْ لَمْ تَكُنْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُ مَوَدَّةٌ اعتراض بين

الفعل- و هو «ليقولنّ»- و مفعوله، أعني: قوله: يا لَيْتَنِي كُنْتُ مَعَهُمْ فَأَفُوزَ فَوْزاً عَظِيماً أي:

أصيب غنيمة و آخذ حظّا وافرا منها. و فائدة الاعتراض التنبيه على ضعف عقيدتهم، و أنّ قولهم هذا قول من لا مواصلة بينه و بين المؤمنين، و إنّما يريد أن يكون معكم لمجرّد المال.

قال الصادق عليه السّلام: «لو أنّ أهل السماء و الأرض قالوا: قد أنعم اللّه علينا إذ لم نكن مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لكانوا بذلك مشركين».

و يحتمل أن يكون قوله: «كأن لم تكن» حالا من الضمير في «ليقولنّ» أو داخلا في المقول، أي: يقول المبطّئ لمن يبطّئه من المنافقين و ضعفة المسلمين تضريبا و حسدا: كأن لم تكن بينكم و بين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مودّة حيث لم يستعن بكم

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 104

فتفوزوا بما فاز، يا ليتني كنت معهم. و «كأن» مخفّفة من الثقيلة، اسمه ضمير الشأن المحذوف.

و قرأ ابن كثير و حفص عن عاصم و رويس عن يعقوب: تكن بالتاء، لتأنيث لفظ المودّة.

و المنادى في «يا ليتني» محذوف، أي: يا قوم. و قيل: «يا» أطلق للتنبيه على الاتّساع. و نصب «فأفوز» على جواب التمنّي.

[سورة النساء (4): آية 74]

فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ وَ مَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيُقْتَلْ أَوْ يَغْلِبْ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (74)

و لمّا أخبر تعالى في الآية أنّ قوما يتأخّرون عن القتال، و يثبّطون المؤمنين عنه، حثّ بعدها على القتال، فقال: فَلْيُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ الَّذِينَ يَشْرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا بِالْآخِرَةِ أي: يبيعون الدنيا بالآخرة، و يستبدلونها بها. و المعنى: إن بطّأ هؤلاء عن القتال فليقاتل المخلصون الباذلون أنفسهم في طلب

الآخرة. أو الّذين يشترونها و يختارونها على الآخرة، و هم المبطّؤن. و المعنى: حثّهم على ترك ما حكي عنهم.

وَ مَنْ يُقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ و من يجاهد في طريق دين اللّه، بأن يبذل ماله و نفسه ابتغاء مرضاته فَيُقْتَلْ أي: يستشهد أَوْ يَغْلِبْ أي: يظفر بالعدوّ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً أي: وعد له الأجر العظيم غلب أو غلب، ترغيبا في القتال، و تكذيبا لقولهم: قد أنعم اللّه عليّ إذ لم أكن معهم شهيدا.

و هذا تنبيه على أنّ المجاهد يجب أن يثبت في المعركة حتى يعزّ نفسه بالشهادة، أو الدين بالظفر و الغلبة، و أن لا يكون قصده بالذات إلى القتل، بل إلى إعلاء الحقّ و إعزاز الدين، فإنّ للمقاتل في سبيل اللّه ظافرا أو مظفورا به إيتاء الأجر

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 105

العظيم الّذي هو جنّات النعيم.

[سورة النساء (4): الآيات 75 الى 76]

وَ ما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً (75) الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً (76)

ثم حثّ اللّه سبحانه على تخليص المستضعفين بالجهاد، فقال: وَ ما لَكُمْ لا تُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ جملة حاليّة، و العامل فيها ما في الظرف من معنى الفعل.

و المعنى: أيّ عذر لكم حال كونكم لا تجاهدون في طاعة اللّه و نصرة دينه و إعزازه و إعلاء كلمته، مع اجتماع الأسباب الموجبة للقتال.

وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ عطف على «اللّه»، أي: و في سبيل المستضعفين، و هو تخليصهم عن الأسر، و صونهم عن أذيّة

العدوّ. أو على «سبيل» بحذف المضاف، أي: و في خلاص المستضعفين. و يجوز نصبه على الاختصاص، فإنّ سبيل اللّه يعمّ أبواب الخير، و تخليص ضعفة المسلمين من أيدي الكفّار أعظمها و أخصّها.

مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ بيان للمستضعفين، و هم الّذين أسلموا بمكّة فبقوا فيها، لصدّ المشركين إيّاهم عن الهجرة، أو لضعفهم عنها مستذلّين يلقون منهم الأذى، فكانوا يدعون اللّه بالخلاص و يستنصرونه فيها. و كانوا قد أشركوا صبيانهم

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 106

في دعائهم، مبالغة في الحثّ على تناهي ظلم المشركين بحيث بلغ أذاهم الصبيان، و استنزالا لرحمة اللّه، و استدفاعا للبليّة بسبب مشاركة دعاء صغارهم الّذين لم يذنبوا، كما فعل قوم يونس عليه السّلام، و كما وردت السنّة بإخراجهم في الاستسقاء. و عن ابن عبّاس: أنا و أمّي من المستضعفين من النساء و الولدان.

و قيل: المراد بالولدان العبيد و الإماء. و هو جمع وليد، بمعنى الولد و الرقّ.

الَّذِينَ يَقُولُونَ في دعائهم رَبَّنا أَخْرِجْنا سهّل لنا الخروج مِنْ هذِهِ الْقَرْيَةِ الظَّالِمِ أَهْلُها تذكير الظالم و إن كان وصفا للقرية لأنّه مسند إلى أهلها، فأعطي إعراب القرية. وَ اجْعَلْ لَنا بألطافك و توفيقك مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا يلي أمرنا بالكفاية، حتّى ينقذنا من أيدي الظلمة وَ اجْعَلْ لَنا مِنْ لَدُنْكَ نَصِيراً ينصرنا على من ظلمنا. فاستجاب اللّه دعاءهم، بأن يسّر لبعضهم الخروج إلى المدينة، و جعل لمن بقي منهم خير وليّ و ناصر- هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- حين فتح مكّة على نبيّه، فتولّاهم أحسن التولّي، و نصرهم أعزّ النصر. ثم استعمل عليهم عتّاب بن أسيد، فحملهم و نصرهم، حتى صاروا أعزّ أهلها.

ثم شجّع المجاهدين و رغّبهم في الجهاد، فقال:

الَّذِينَ آمَنُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ في نصرة دين اللّه و إعلاء كلمته فيما يصلون به إلى اللّه وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ الطَّاغُوتِ في طاعة الشيطان، و فيما يبلغ بهم إليه.

و لمّا ذكر مقصد الفريقين أمر أولياءه بمقاتلة أولياء الشيطان، فقال: فَقاتِلُوا أَوْلِياءَ الشَّيْطانِ المراد جميع الكفّار. ثم شجّعهم بقوله: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً أي: كيده للمؤمنين بالإضافة إلى كيد اللّه تعالى للكافرين ضعيف لا يعتدّ به، فلا تخافوا أولياءه، فإنّ اعتمادهم على أضعف شي ء و أوهنه. و في ذكر «كان» دلالة على أنّ الضعف لازم لكيد الشيطان في جميع الأحوال و الأوقات، ما مضى منها و ما يستقبل، و ليس هو عارضا في حال دون حال.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 107

[سورة النساء (4): الآيات 77 الى 78]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ كَخَشْيَةِ اللَّهِ أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً وَ قالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَ لا تُظْلَمُونَ فَتِيلاً (77) أَيْنَما تَكُونُوا يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً (78)

روي أن عبد الرحمان بن عوف الزهري و المقداد بن الأسود الكندي و قدامة ابن مظعون الجمحي و سعد بن أبي وقّاص كانوا يلقون من المشركين أذى شديدا، و هم بمكّة قبل أن يهاجروا إلى المدينة، فيشكون إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و

سلّم و يقولون: يا رسول اللّه ائذن لنا في قتال هؤلاء، فإنّهم قد آذونا. فقال لهم رسول اللّه: التزموا الصبر و تحمّل الأذيّة حتى يأذن اللّه لي في القتال. فلمّا أمروا بالقتال و المسير إلى بدر شقّ على بعضهم، فنزلت: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ قِيلَ لَهُمْ كُفُّوا أَيْدِيَكُمْ

أي: عن القتال وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ و اشتغلوا بالصلاة و أداء الزكاة و سائر الطاعات فَلَمَّا كُتِبَ عَلَيْهِمُ الْقِتالُ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ يَخْشَوْنَ النَّاسَ يخشون الكفّار أن يقتلوهم كَخَشْيَةِ اللَّهِ كما يخشون اللّه أن ينزل عليهم بأسه.

و «إذا» للمفاجأة جواب «لمّا»، و «فريق» مبتدأ، «منهم» صفته، «يخشون»

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 108

خبره، «كخشية اللّه» من إضافة المصدر إلى المفعول، وقع موقع المصدر أو موقع الحال من فاعل «يخشون» على معنى: يخشون الناس مثل أهل خشية اللّه منه، أي:

مشبّهين أهل خشية اللّه.

أَوْ أَشَدَّ خَشْيَةً من أهل خشية اللّه. عطف على «كخشية اللّه» إن جعلته حالا، و إن جعلته مصدرا فلا، لأنّ أفعل التفضيل إنّما يكون من جنسه إذا كان ما بعده مجرورا، و أمّا إذا نصب لم يكن من جنسه، فلا تقول: خشي فلان أشدّ خشية، بنصب خشية، و أنت تريد المصدر، بل تقول: أشدّ خشية بالجرّ، بل هو معطوف على اسم اللّه تعالى، أي: كخشية اللّه أو كخشية أشدّ خشية منه على الفرض.

و لفظ «أو» هنا لإبهام الأمر على المخاطب. و قيل: بمعنى الواو. و نظير ذلك قوله تعالى: أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً «1».

وَ قالُوا رَبَّنا لِمَ كَتَبْتَ عَلَيْنَا الْقِتالَ لَوْ لا هلّا أَخَّرْتَنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ استزادة في مدّة الكفّ عن القتال إلى وقت آخر، حذرا من الموت. و يحتمل أنّهم ما تفوّهوا به،

و لكن قالوه في أنفسهم، فحكى اللّه تعالى عنهم.

ثم أعلمهم أنّ ما يستمتع به من منافع الدنيا قليل، فقال: قُلْ مَتاعُ الدُّنْيا قَلِيلٌ سريع التقضّي وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِمَنِ اتَّقى وَ لا تُظْلَمُونَ فَتِيلًا و لا تنقصون أدنى شي ء من أجوركم على مشاقّ المقاتلة، فلا ترغبوا عنها، أو من آجالكم المقدّرة.

و قرأ ابن كثير و حمزة و الكسائي: و لا يظلمون، لتقدّم الغيبة.

أَيْنَما تَكُونُوا من الأماكن يُدْرِكْكُمُ الْمَوْتُ يلحقكم الموت و ينزل بكم وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ في قصور أو حصون مُشَيَّدَةٍ مرتفعة، أو مطوّلة في ارتفاع. و قيل: في بروج السماء. و البروج في الأصل بيوت على طرف القصر، من:

تبرّجت المرأة، إذا ظهرت.

______________________________

(1) البقرة: 74.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 109

روي أنّ اليهود قالوا: منذ دخل محمد المدينة نقصت ثمارها و غلت أسعارها، فحكى اللّه تعالى عنهم بقوله: وَ إِنْ تُصِبْهُمْ حَسَنَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ كما تقع الحسنة و السيّئة على الطاعة و المعصية، تقعان على النعمة و البليّة، قال اللّه تعالى: وَ بَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَ السَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ «1». و هما المراد في الآية.

و المعنى: إن تصبهم نعمة- كخصب- نسبها اليهود إلى اللّه، و إن تصبهم بليّة- كقحط- نسبوها إليك، و قالوا: هي من عندك و بشؤمك، كما حكى عن قوم موسى:

وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَ مَنْ مَعَهُ «2». و عن قوم صالح: اطَّيَّرْنا بِكَ وَ بِمَنْ مَعَكَ «3». فردّ اللّه تعالى عليهم بقوله: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ يبسطها و يقبضها حسب إرادته، ليبتلي بذلك عباده ليعرضهم لثوابه، بالشكر عند العطيّة و الصبر على البليّة.

فَما لِهؤُلاءِ الْقَوْمِ لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ حَدِيثاً

يوعظون به، و هو القرآن، فإنّهم لو فهموه و تدبّروا معانيه لعلموا أنّ اللّه هو الباسط القابض، و أفعاله كلّها صادرة عن حكمة و صواب. أو لا يفقهون حديثا مّا، كبهائم لا أفهام لها. أو لا يفقهون أمرا حادثا من صروف الزمان فيتفكّروا فيها، فيعلموا أنّ القابض و الباسط هو اللّه.

و قيل: هؤلاء هم المنافقون، مثل عبد اللّه بن أبيّ و أصحابه الّذين تخلّفوا عن القتال يوم أحد، و قالوا للّذين قتلوا في الجهاد: لو كانوا عندنا ما ماتوا و ما قتلوا.

فعلى هذا معناه: إن يصبهم ظفر و غنيمة قالوا: هذا من عند اللّه، و إن يصبهم مكروه و هزيمة قالوا: هذا من عندك و بسوء تدبيرك.

______________________________

(1) الأعراف: 168.

(2) الأعراف: 131.

(3) النمل: 47.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 110

و هذا القول هو المرويّ عن ابن عبّاس و قتادة. و الأوّل ذكره البلخي و الجبائي، و روي عن الحسن و ابن زيد. و قيل: هو عامّ في اليهود و المنافقين. و هو الأصحّ.

[سورة النساء (4): آية 79]

ما أَصابَكَ مِنْ حَسَنَةٍ فَمِنَ اللَّهِ وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ فَمِنْ نَفْسِكَ وَ أَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ رَسُولاً وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (79)

ثم قال تعالى خطابا عامّا: ما أَصابَكَ يا إنسان مِنْ حَسَنَةٍ من نعمة و إحسان فَمِنَ اللَّهِ تفضّلا منه و امتنانا، فإنّ كلّ ما يفعله الإنسان من الطاعة لا يكافئ نعمة الوجود، فكيف يقتضي غيره. و لذلك

قال عليه السّلام: «ما يدخل أحد الجنّة إلّا برحمة اللّه. قيل: و لا أنت. قال: و لا أنا».

وَ ما أَصابَكَ مِنْ سَيِّئَةٍ من بليّة و مصيبة فَمِنْ نَفْسِكَ لأنّك السبب فيها بما اكتسبت من الذنوب. و مثله: وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا

عَنْ كَثِيرٍ «1». و هو لا ينافي قوله تعالى: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فإنّ الكلّ منه إيجادا و إيصالا، غير أنّ الحسنة إحسان و امتنان، و السيّئة مجازاة و انتقام، كما

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما من خدش بعود، و لا اختلاج عر؟؟، و لا عثرة قدم، إلّا بذنب، و ما يعفو اللّه عنه أكثر».

و كما

قالت عائشة عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما من مسلم يصيبه وصب «2» و لا نصب، حتى الشوكة يشاكها، و حتى انقطاع شسع نعله، إلّا بذنب، و ما يعفو اللّه أكثر».

وَ أَرْسَلْناكَ لِلنَّاسِ جميعا رَسُولًا لست برسول للعرب وحدهم كما

______________________________

(1) الشورى: 30.

(2) الوصب: المرض و الوجع الدائم، و قد يطلق على التعب و الفتور في البدن. و النصب: العناء و المشقّة.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 111

زعم بعضهم. و «رسولا» حال قصد بها التأكيد إن علّق الجارّ بالفعل، و التعميم إن علّق بالحال، أي: رسولا للناس من العرب و العجم جميعا، كقوله: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ و يجوز نصبه على المصدر بغير باب فعله.

و وجه اتّصاله بما تقدّم: أنّ المراد منه أنّ ما أصابهم فبشؤم ذنوبهم، و إنّما أنت رسول طاعتك طاعة اللّه و معصيتك معصية اللّه، فلا يتطيّر بك، لأنّ الخير كلّه فيك، لعموم رسالتك على الخلق.

وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً و حسبك اللّه شاهدا لك على رسالتك بنصب المعجزات. و قيل: معناه شهيدا على عباده بما يعملون و يقولون من خير و شرّ. فعلى هذا يكون متضمّنا للترغيب في الخير و التحذير عن الشرّ.

[سورة النساء (4): الآيات 80 الى 81]

مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ وَ مَنْ تَوَلَّى فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً (80) وَ يَقُولُونَ طاعَةٌ فَإِذا

بَرَزُوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ وَ اللَّهُ يَكْتُبُ ما يُبَيِّتُونَ فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (81)

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من أحبّني فقد أحبّ اللّه، و من أطاعني فقد أطاع اللّه».

فقال المنافقون: لقد قارف «1» الشرك و هو ينهى عنه، ما يريد إلّا أن نتّخذه ربّا، كما اتّخذت النصارى عيسى، فنزلت: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ لأنّه إنّما يأمر بما أمر اللّه، و ينهى عمّا نهى اللّه عنه، فهو يبلّغ عن أوامر اللّه و نواهيه، فكانت طاعته في امتثال ما أمر به و الانتهاء عمّا نهى عنه طاعة للّه وَ مَنْ تَوَلَّى عن اللّه و أعرض

______________________________

(1) قارف مقارفة، أي: قارب.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 112

عنه فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً عن التولّي حتّى يسلّموا و ينقادوا، أو تحفظ عليهم أعمالهم و تحاسبهم عليها، إنّما عليك البلاغ و علينا الحساب. و هو حال من الكاف.

وَ يَقُولُونَ يعني: يقول المنافقون إذا أمرتهم بأمر: طاعَةٌ أي: أمرنا طاعة، أو منّا طاعة. و أصلها النصب على المصدر، و رفعها للدلالة على الثبات فَإِذا بَرَزُوا خرجوا مِنْ عِنْدِكَ بَيَّتَ دبّرت و قرّرت ليلا طائِفَةٌ مِنْهُمْ غَيْرَ الَّذِي تَقُولُ أي: زوّرت خلاف ما قلت لهم و أمرت به، أو خلاف ما قالت لك من القبول و لزوم الطاعة، لأنّهم نافقوا بما قالوا: و أبطنوا خلاف ما أظهروا.

و التبييت إمّا من البيتوتة، لأنّ الأمور تدبّر بالليل، يقال: هذا أمر بيّت بليل.

أو من أبيات الشعر، لأنّ الشاعر يدبّرها و يسوّيها. أو من البيت المبنيّ، لأنّه بالتدبير يدبّر فيسوّى.

و قرأ حمزة و أبو عمرو: بيّت طائفة بالإدغام، لقربهما في المخرج.

ثمّ

وعدهم سبحانه بقوله: وَ اللَّهُ يَكْتُبُ يثبت في صحائفهم ما يُبَيِّتُونَ للمجازاة، أو في جملة ما يوحى إليك لتطّلع على أسرارهم فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ قلّل المبالاة بهم، أو تجاف عنهم إلى أن يستقرّ أمر الإسلام وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ و فوّض أمرك إليه، وثق به في جميع الأمور، سيّما في شأنهم وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا يكفيك مضرّتهم، و ينتقم لك منهم.

[سورة النساء (4): آية 82]

أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً (82)

و لمّا بيّن إرسال النبيّ أمر بالتدبّر في معجزته و هو القرآن، ليعلموا أنّه مبعوث من عنده، فقال: أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ يتأمّلون في معانيه، و يتبصّرون ما فيه،

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 113

لينزجروا عن النفاق و الكفر، و يطيعوا أمر الرسول. و أصل التدبّر النظر في أدبار الأمور، و التأمّل فيها، ثم استعمل في كلّ تأمّل.

وَ لَوْ كانَ مِنْ عِنْدِ غَيْرِ اللَّهِ أي: و لو كان من كلام البشر كما زعم البشر لَوَجَدُوا فِيهِ اخْتِلافاً كَثِيراً لكان الكثير منه مختلفا متناقضا متفاوتا نظمه و معانيه، و كان بعضه فصيحا، و بعضه ركيكا، و بعضه معجزا يصعب معارضته، و بعضه غير معجز يسهل معارضته، و بعضه أخبارا مستقبلة أو ماضية لا يوافق المخبر عنه، و بعضه موافقا للعقل في بعض أحكامه دون بعض، على ما دلّ عليه الاستقراء في تصانيفهم، لنقصان القوّة البشريّة. فلمّا تناسب كلّه من حيث توافق النظم، و صحّة المعاني، و صدق الأخبار، و اشتماله على أنواع الحكم من أمر بحسن و نهي عن قبيح، و على الدعاء إلى مكارم الأخلاق، و الحثّ على الخير و الزهد، مع فصاحة اللفظ على وجه فاق على جميع قوى الفصحاء و

البلغاء، علم أنّه ليس إلّا من جهة اللّه تعالى القادر على ما لا يقدر عليه غيره، و العالم بما لا يعلمه أحد سواه.

و اعلم أنّ الاختلاف في الكلام يكون على ثلاثة اضرب: اختلاف تناقض، و اختلاف تفاوت، و اختلاف تلاوة. و اختلاف التفاوت يكون في الحسن و القبح، و الخطأ و الصواب، و نحو ذلك ممّا تدعو إليه الحكمة و تصرف عنه. و هذا القسم لا يوجد في القرآن البتّة، كما لا يوجد اختلاف التناقض، كما قال: لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ «1». و أمّا اختلاف التلاوة فهو ما يتلاوم في الجنس، كاختلاف وجوه القرآن، و اختلاف مقادير الآيات و السور، و اختلاف الأحكام في الناسخ و المنسوخ، و ذلك موجود في القرآن، و كلّه حقّ و صواب.

و هذه الآية تضمّنت الدلالة على معان كثيرة:

منها: بطلان التقليد، و صحّة الاستدلال في أصول الدين، لأنّه سبحانه دعا

______________________________

(1) فصّلت: 42.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 114

العباد إلى التفكّر و التدبّر، و حثّ على ذلك.

و منها: فساد قول من زعم من الحشويّة و غيرهم أنّ القرآن كلّه لا يفهم معناه إلّا بتفسير الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لأنّه حثّ على تدبّره ليعرفوه.

و منها: أنّه لو كان من غيره لكان على وزان كلام عباده، و لوجدوا الاختلاف المذكور فيه.

و منها: أنّ تناقض كلام المخلوق لا يكون من فعل اللّه تعالى، لأنّه لو كان من فعله لكان فاعلا للقبيح، و هو منزّه عن ذلك.

[سورة النساء (4): آية 83]

وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أَذاعُوا بِهِ وَ لَوْ رَدُّوهُ إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ لَعَلِمَهُ الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ

وَ رَحْمَتُهُ لاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ إِلاَّ قَلِيلاً (83)

روي أنّ قوما من ضعفة الإسلام أو أهل النفاق إذا بلغهم خبر من سرايا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أو أخبرهم الرسول بما أوحي إليه من أمن و سلامة، و وعد بالظفر، أو تخويف من الكفر و ضرر، أفشوه لعدم حزمهم، و كان إفشاؤهم مفسدة، فنزلت:

وَ إِذا جاءَهُمْ أَمْرٌ مِنَ الْأَمْنِ أَوِ الْخَوْفِ أي: أمر ممّا يوجب الأمن أو الخوف أَذاعُوا بِهِ أفشوه من غير أن يعلموا صحّته أو صلاح إذاعته. و الباء مزيدة، أو لتضمّن الإذاعة معنى التحدّث.

وَ لَوْ رَدُّوهُ و لو سكتوا عنه وردّوا ذلك الخبر إِلَى الرَّسُولِ وَ إِلى أُولِي الْأَمْرِ مِنْهُمْ أي: إلى رأيه و رأي أهل العلم و العفّة الّذين هم ملازمون للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، بصراء بالأمور أو أمراء السرايا و الولاة. و

عن الباقر عليه السّلام هم الأئمّة المعصومون عليهم السّلام.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 115

و أنكر أبو علي الجبائي الوجه الأوّل، و قال: إنّما يطلق أولوا الأمر على من له الأمر على الناس لَعَلِمَهُ أي: لعلم صحّته الَّذِينَ يَسْتَنْبِطُونَهُ مِنْهُمْ يستخرجون تدابيره بتجاربهم و أنظارهم. و ضمير «منهم» راجع إلى أولي الأمر.

و قيل: كانوا يسمعون أراجيف المنافقين فيذيعونها، فتعود هذه الإذاعة وبالا على المسلمين.

و على هذا معناه: لو ردّوه إلى الرسول و إلى أولي الأمر منهم حتّى يسمعوه منهم، و تعرّفوا أنّه هل هو ممّا يذاع، لعلم ذلك من هؤلاء الّذين يستنبطونه من الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أولي الأمر، أي: يستخرجون علمه من جهتهم.

و أصل الاستنباط إخراج النبط، و هو الماء يخرج من البئر أوّل ما يحفر، و إنباط الماء

و استنباطه إخراجه و استخراجه، فاستعير لما يستخرجه الرجل بفضل ذهنه من المعاني و التدابير فيما يعضل.

وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ و لو لا وصول موادّ الألطاف من جهة اللّه عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ بإرسال الرسل و إنزال الكتاب.

قيل: فضل اللّه الإسلام، و رحمته القرآن. و قيل: فضل اللّه النبيّ، و رحمته القرآن. و

روي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام: فضل اللّه و رحمته النبيّ و عليّ عليهما السّلام.

لَاتَّبَعْتُمُ الشَّيْطانَ بما يلقي إليكم من الوساوس الموجبة لضعف اليقين و البصيرة، أو بالكفر و الضلال إِلَّا قَلِيلًا منكم، و هم أهل البصائر النافذة، و ذوو الصدق و اليقين، الّذين تفضّل اللّه تعالى عليهم بعقل راجح اهتدوا به إلى الحقّ و الصواب، و عصمهم عن متابعة الشيطان بغير رسول و كتاب، مثل قسّ بن ساعدة، و زيد بن عمرو بن نفيل، و ورقة بن نوفل، و البراء الشني، و أبي ذرّ الغفاري، و نظرائهم من طلّاب الدين أسلموا باللّه و وحّدوه قبل بعثة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. أو إلّا اتّباعا قليلا على الندور.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 116

[سورة النساء (4): آية 84]

فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلاَّ نَفْسَكَ وَ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ اللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً وَ أَشَدُّ تَنْكِيلاً (84)

و لمّا تقدّم في الآي تثبيطهم عن القتال حثّ نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قال خطابا له: إن تثبّطوا و تركوك وحدك فَقاتِلْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا تُكَلَّفُ إِلَّا نَفْسَكَ إلّا فعل نفسك، لا يضرّك مخالفتهم و تقاعدهم، فتقدّم إلى الجهاد و إن لم يساعدك أحد، فإنّ اللّه سبحانه هو ناصرك البتّة، سواء كنت منفردا

أو مع من حولك من الجنود.

روي أنّ أبا سفيان يوم أحد لمّا رجع واعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم موسم بدر الصغرى، فكرهه بعضهم، و تثاقلوا حين بلغ الميعاد، فنزلت هذه الآية. فخرج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ما معه إلّا سبعون، و لم يلتفت إلى أحد، و لو لم يتّبعه أحد لخرج وحده.

وَ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ أي: على القتال، إذ ما عليك في شأنهم إلّا التحريض عَسَى اللَّهُ أَنْ يَكُفَّ بَأْسَ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني: قريشا، و قد كفّ بأسهم، بأن ألقى في قلوبهم الرعب حتى رجع أبو سفيان مع أصحابه، و قال: هذا عام مجدب، و انصرف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بمن معه سالمين وَ اللَّهُ أَشَدُّ بَأْساً من قريش وَ أَشَدُّ تَنْكِيلًا تعذيبا منهم. و هو تقريع و تهديد لمن لم يتّبعه.

[سورة النساء (4): آية 85]

مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها وَ مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقِيتاً (85)

و لمّا أمر اللّه تعالى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بتحريض المؤمنين على القتال الّذي يتضمّن جلب النفع إليهم و دفع الضرر عنهم عاجلا و آجلا، و يوجب مزيّة الثواب لمحرّضه،

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 117

فقال بعد ذلك تأكيدا للأمر بالتحريض: مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً حَسَنَةً راعى بها حقّ مسلم، و دفع بها عنه ضرّا، أو جلب إليه نفعا، ابتغاء لوجه اللّه تعالى، و منها الدعاء لمسلم، كما

قال عليه السّلام: «من دعا لأخيه المسلم بظهر الغيب استجيب له، و قال له الملك: و لك مثل ذلك».

يَكُنْ لَهُ نَصِيبٌ مِنْها و هو ثواب الشفاعة و التسبّب

إلى الخير الواقع بها. و

قال عليه السّلام: «اشفعوا تؤجروا».

و أصل الشفاعة من الشفع الّذي هو ضدّ الوتر، فإنّ الرجل إذا شفع لصاحبه فقد شفّعه، أي: صار ثانيه.

ثم قال في بيان ضدّه و مقابله: وَ مَنْ يَشْفَعْ شَفاعَةً سَيِّئَةً يريد بها محرّما منهيّا، و منه الشفاعة في إسقاط حقّ واجب، كترك الجهاد، و ترك حدّ من حدود اللّه الواجبة، كما

قال عليه السّلام: «من حالت شفاعته دون حدّ من حدود اللّه تعالى فقد ضادّ اللّه في ملكه».

يَكُنْ لَهُ كِفْلٌ مِنْها أي: نصيب من وزرها مساو لها في القدر، فإنّ الكفل بمعنى النصيب عند اللغويّين وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقِيتاً مقتدرا، من:

أقات الشي ء، إذا قدر. أو شهيدا حافظا يعطي الشي ء قدر الحاجة، اشتقاقه من القوت، فإنّه يقوّي البدن و يحفظه.

[سورة النساء (4): آية 86]

وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَسِيباً (86)

و لمّا أمر سبحانه المؤمنين بقتال المشركين و تشدّدهم و غلّظ عليهم، أوجب عليهم جواب السلام على وجه يكون أحسن من تسليم المسلّم المسلم أو مثله، ليحصل به مزيّة المودّة و الرأفة و المحبّة و الصداقة و الاتّحاد بينهم، عكس المشركين، فقال: وَ إِذا حُيِّيتُمْ بِتَحِيَّةٍ فَحَيُّوا بِأَحْسَنَ مِنْها أَوْ رُدُّوها فأمر سبحانه بردّ السلام على المسلّم بأحسن ما سلّم، و هو أن يقول: عليكم السلام و رحمة اللّه،

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 118

إذا قال المسلّم: السلام عليكم. و إن يزد: و رحمة اللّه، فيزيد في جوابه: و بركاته، و هي النهاية، أو يردّه بمثله.

روي أنّ رجلا دخل على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: السلام عليك. فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

و عليك السلام

و رحمة اللّه. فجاء آخر فقال: السلام عليك و رحمة اللّه. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

و عليك السلام و رحمة اللّه و بركاته. فجاء آخر فقال: السلام عليك و رحمة اللّه و بركاته. فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و عليك السلام و رحمة اللّه و بركاته. فقيل: يا رسول اللّه زدت للأوّل و الثاني في التحيّة، و لم تزد للثالث. فقال: إنّه لم يبق لي من التحيّة شيئا، فرددت عليه بمثله.

و ذلك لاستجماعه أقسام المطالب: السلامة عن المضارّ، و حصول المنافع.

و جواب التسليم على الطريق المذكور واجب على الكفاية بالإجماع، و التخيير إنّما وقع بين الزيادة و تركها. و هذا إذا كان المسلّم مسلما. أمّا إذا كان كافرا فجوابه: عليك حسب، كما

ورد عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إذا سلّم عليكم أهل الكتاب فقولوا: عليكم»

أي: عليكم ما قلتم، لأنّهم كانوا يقولون: السام عليكم، و السام الموت.

و التحيّة في الأصل مصدر: حيّاك اللّه على الإخبار من الحياة، ثم استعمل للدعاء بذلك، ثم قيل لكلّ دعاء فغلب في السلام.

روى الواحدي بإسناده عن أبي أمامة، عن مالك بن التيهان، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من قال: السلام عليكم كتب له عشر حسنات، و من قال: السلام عليكم و رحمة اللّه كتب له عشرون حسنة، و من قال: السلام عليكم و رحمة اللّه و بركاته كتب له ثلاثون حسنة».

إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَسِيباً يحاسبكم و يجازيكم على التحيّة و غيرها. و عن ابن عبّاس: الحسيب بمعنى الحفيظ و الكافي.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 119

[سورة النساء (4): آية 87]

اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ

الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً (87)

و لمّا أمر اللّه سبحانه و نهى فيما قبل بيّن بعده أنّه الإله الّذي لا يستحقّ العبادة سواه، ليمتثلوا أوامره و نواهيه، فقال: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ مبتدأ و خبر، أو «اللّه» مبتدأ، و «لا إله إلّا هو» معترض، و خبره لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي: اللّه و اللّه ليحشرنّكم بعد مماتكم من قبوركم إلى يوم القيامة. أو ليجمعنّكم مفضين إلى يوم القيامة. أو «إلى» بمعنى «في» أي: ليجمعنّكم في يوم القيامة. و قال الزجّاج: معناه:

ليجمعنّكم في الموت أو في قبوركم إلى يوم القيامة. و القيام و القيامة كالطلاب و الطلابة، و هي قيام الناس من القبور، أو قيامهم للحساب.

لا رَيْبَ فِيهِ في اليوم، أو الجمع، فهو حال من اليوم أو صفة للمصدر، أي: جمعا لا ريب فيه وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ حَدِيثاً إنكار أن يكون أحد، أكثر صدقا منه، فإنّه لا يتطرّق الكذب إلى خبره بوجه، لأنّه نقص و هو على اللّه تعالى محال.

[سورة النساء (4): الآيات 88 الى 90]

فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ وَ اللَّهُ أَرْكَسَهُمْ بِما كَسَبُوا أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (88) وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا فَتَكُونُونَ سَواءً فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ لا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (89) إِلاَّ الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ أَنْ يُقاتِلُوكُمْ أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ فَلَقاتَلُوكُمْ فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلاً (90)

زبدة

التفاسير، ج 2، ص: 120

ثم عاد الكلام إلى ذكر المنافقين فقال: فَما لَكُمْ فِي الْمُنافِقِينَ فِئَتَيْنِ فما لكم تفرّقتم في أمر المنافقين فئتين، أي: فرقتين، فمنكم من يكفّرهم و منكم من لم يكفّرهم. و نصبه على الحال، و عاملها «ما لكم»، كقولك: مالك قائما، و «في المنافقين» حال من «فئتين» أي: متفرّقين حال كون تفرّقكم فيهم. و معنى الافتراق مستفاد من الفئتين.

و المراد منهم قوم استأذنوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الخروج إلى البدو، لرداءة هواء المدينة، فلمّا خرجوا لم يزالوا راحلين مرحلة مرحلة حتى لحقوا بالمشركين، فاختلف المسلمون في إسلامهم، فنزلت هذه الآية.

و قيل: نزلت في المتخلّفين يوم أحد، الذين قالوا: لَوْ نَعْلَمُ قِتالًا لَاتَّبَعْناكُمْ «1». أو

في قوم هاجروا ثم رجعوا معتلّين برداءة هواء المدينة و الاشتياق إلى الوطن. و هذا القول مرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

و قيل: في قوم أظهروا الإسلام و قعدوا عن الهجرة.

وَ اللَّهُ أَرْكَسَهُمْ ردّهم إلى حكم الكفرة، أو نكّسهم إلى النار بِما كَسَبُوا بما فعلوا من الرجوع إلى المشركين، أو بالتقاعد عن القتال. و أصل الإركاس و النكس ردّ الشي ء مقلوبا بحيث يصير أعلاه أسفله و أسفله أعلاه. أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَهْدُوا أي: تجعلوه من جملة المهتدين مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ من جعله اللّه من جملة

______________________________

(1) آل عمران: 167.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 121

الضلّال، و حكم عليه بضلالته، أو خذله و خلّاه و وكله إلى نفسه، و لم يوفّقه كما وفّق المؤمنين، لأنّهم لمّا عصوا و خالفوا مع ظهور الحقّ عندهم استحقّوا هذا الخذلان، فيصيرون ضالّين.

و قال أبو علي الجبائي: معناه أ تريدون أن تهدوا إلى طريق الجنّة من أضلّه عن طريقها لأجل نفاقه و كفره؟

وَ

مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ يحكم بضلالته، أو يخلّيه حتّى ضلّ، أو لم يوصله إلى طريق الجنّة فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا إلى الهدى.

وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ كَما كَفَرُوا تمنّوا أن تكفروا ككفرهم فَتَكُونُونَ سَواءً فتكونون معهم سواء في الضلال. و هو معطوف على «تكفرون».

فَلا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ أَوْلِياءَ فلا توالوهم حَتَّى يُهاجِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ حتّى يؤمنوا و تتحقّقوا إيمانهم بهجرة صحيحة، و هي للّه و رسوله، لا لأغراض الدنيا.

و سبيل اللّه ما أمر بسلوكه.

فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الإيمان المصاحب للهجرة المستقيمة، أو عن إظهار الإيمان فَخُذُوهُمْ فأسروهم وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ في أرض اللّه، في الحلّ و الحرم، كسائر الكفرة وَ لا تَتَّخِذُوا مِنْهُمْ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً أي: جانبوهم رأسا، و لا تقبلوا منهم ولاية و لا نصرة، و إن بذلوا لكم الولاية و النصرة.

إِلَّا الَّذِينَ يَصِلُونَ إِلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ عهد و حلف في ترك المحاربة. و هو استثناء من قوله: «فخذوهم و اقتلوهم» أي: إلّا الّذين يتّصلون و ينتهون إلى قوم بينكم و بينهم موادعة و عهد و حلف في ترك المحاربة، فحكمهم حكمكم في حقن دمائهم. و هؤلاء هم الأسلميّون، فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وادع وقت خروجه إلى مكّة هلال بن عويمر الأسلمي، على أن لا يعين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لا يعين عليه، و على أنّ من وصل و لجأ إليه فله من الجوار- أي: الأمان- مثل الّذي

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 122

لهلال.

و قيل: هم بنو بكر بن زيد بن منات. و قيل: سراقة بن مالك بن جعشم المدلجي من بني مدلج، جاء إلى النبي صلّى اللّه عليه و آله

و سلّم بعد أحد فقال: أنشدك اللّه و النعمة، و أخذ منه أن لا يغزوا قومه، فإن أسلم قريش أسلموا، لأنّهم كانوا في عقد قريش، فحكم اللّه فيهم ما حكم في قريش. ففيهم نزل.

أَوْ جاؤُكُمْ عطف على الصلة، أي: أو الّذين جاءوكم كافّين عن قتالكم و قتال قومهم. استثنى من المأمور بأخذهم و قتلهم من ترك المحاربين فلحق بالمعاهدين، أو أتى الرسول و كفّ عن قتال الفريقين. أو على صفة قوم، و كأنّه قيل:

إلّا الّذين يصلون إلى قوم معاهدين، أو إلى قوم كافّين عن القتال لكم و عليكم.

و الأوّل أظهر، لقوله: «فإن اعتزلوكم».

حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ حال بإضمار «قد» أي: حال كونهم ضاقت صدورهم. و يدلّ عليه ما ورد في القراءة الشاذّة: حصرة صدورهم و حصرات. أو بيان ل «جاءوكم». و قيل: صفة محذوف، أي: جاءوكم قوما حصرت صدورهم.

و الحصر: الضيق و الانقباض. و المعنى: ضاقت قلوبهم. أَنْ يُقاتِلُوكُمْ عن أن، أو لأن، أو كراهة أن يقاتلوكم أَوْ يُقاتِلُوا قَوْمَهُمْ فلا عليكم و لا عليهم.

ذكر عليّ بن إبراهيم في تفسيره «1» أنّ بني أشجع قدموا المدينة في سبعمائة يقودهم مسعود بن رجيلة، فأخرج إليهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أحمال التمر ضيافة. و قال: نعم الشي ء الهديّة أمام الحاجة. و قال لهم: ما جاء بكم؟ قالوا: قرب دارنا منك، و كرهنا حربك و حرب قومنا- يعني: بني ضمرة الّذين بينهم و بينهم عهد- لقلّتنا، فجئنا لنوادعك. فقبل النبيّ ذلك منهم و وادعهم، فرجعوا إلى بلادهم، فأمر اللّه سبحانه أن لا يتعرّضوا لهؤلاء.

______________________________

(1) تفسير القمّي 1: 146- 147.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 123

وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَسَلَّطَهُمْ عَلَيْكُمْ بأن قوّى قلوبهم، و بسط صدورهم، و أزال

الرعب عنهم فَلَقاتَلُوكُمْ و لم يكفّوا عنكم. هذا إخبار عن المقدور، و ليس فيه أنه يفعل ذلك، أو يأذن لهم فيه. فمعناه: أنّه يقدر على ذلك لو شاء، لكنّه لم يشأ ذلك، بل قذف سبحانه الرعب في قلوبهم حتى فزعوا و طلبوا الموادعة، و لو لم يقذفه كانوا مسلّطين، أي: مقاتلين لكم غير كافّين.

فَإِنِ اعْتَزَلُوكُمْ فَلَمْ يُقاتِلُوكُمْ أي: فإن لم يتعرّضوا لكم بالقتال وَ أَلْقَوْا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ الاستسلام و الانقياد، أي: صالحوكم و استسلموا لكم فَما جَعَلَ اللَّهُ لَكُمْ عَلَيْهِمْ سَبِيلًا فما أذن لكم في أخذهم و قتلهم.

[سورة النساء (4): آية 91]

سَتَجِدُونَ آخَرِينَ يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ وَ يَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ أُرْكِسُوا فِيها فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ وَ يُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ وَ يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ فَخُذُوهُمْ وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ وَ أُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً (91)

روي أنّ بني أسد و غطفان أتوا المدينة و أظهروا الإسلام ليأمنوا المسلمين، فلمّا رجعوا إلى قومهم نكثوا عهدهم و كفروا، فنزلت في شأنهم: سَتَجِدُونَ آخَرِينَ غير الّذين وصفوا يُرِيدُونَ أَنْ يَأْمَنُوكُمْ فيظهرون الإسلام وَ يَأْمَنُوا قَوْمَهُمْ فيظهرون لهم الموافقة في دينهم كُلَّما رُدُّوا إِلَى الْفِتْنَةِ المراد بالفتنة هنا الشرك، أي: كلّما دعاهم قومهم إلى الكفر و إلى قتال المسلمين أُرْكِسُوا فِيها قلّبوا فيها أقبح قلب، و كانوا شرّا فيها من كلّ عدوّ.

فَإِنْ لَمْ يَعْتَزِلُوكُمْ لم يعتزل هؤلاء قتالكم وَ يُلْقُوا إِلَيْكُمُ السَّلَمَ و لم

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 124

يستسلموا لكم وَ يَكُفُّوا أَيْدِيَهُمْ و لم يكفّوا أيديهم عن قتالكم فَخُذُوهُمْ فأسروهم وَ اقْتُلُوهُمْ حَيْثُ ثَقِفْتُمُوهُمْ حيث تمكّنتم منهم وَ أُولئِكُمْ جَعَلْنا لَكُمْ عَلَيْهِمْ سُلْطاناً مُبِيناً حجّة واضحة في التعرّض لهم بالقتل و السبي، لظهور عداوتهم، و وضوح كفرهم و غدرهم.

و سمّيت الحجّة سلطانا لأنّها يتسلّط بها على الخصم، كما يتسلّط السلطان. أو تسلّطا ظاهرا، حيث أذن لكم في القتال.

قيل: نزلت هذه الآية في عيينة بن حصن الفزاري، و ذلك أنّه أجدبت بلادهم فجاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و وادعه على أن يقيم ببطن نخل و لا يتعرّض له، و كان منافقا ملعونا، و هو الّذي

سمّاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الأحمق المطاع في قومه. و هو المرويّ عن الصادق عليه السّلام.

و برواية ابن عبّاس نزلت في أناس كانوا يأتون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيسلّمون رياء، ثم يرجعون إلى قريش فيرتكسون في الأوثان، يبتغون بذلك أن يأمنوا قومهم و يأمنوا رسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[سورة النساء (4): آية 92]

وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلاَّ خَطَأً وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ إِلاَّ أَنْ يَصَّدَّقُوا فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ وَ إِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ فَدِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ تَوْبَةً مِنَ اللَّهِ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (92)

و لمّا أمر اللّه تعالى بقتال أهل الحرب و قتلهم، نهى عن قتل غيرهم من

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 125

المسلمين و المعاهدين، فقال: وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ و ما صحّ له، و ليس من شأنه أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً بغير حقّ إِلَّا خَطَأً فإنّه على عرضته. و نصبه على الحال أو المفعول له، أي: لا يقتله في شي ء من الأحوال إلّا حال الخطأ، أو لا

يقتله إلّا للخطأ. أو على أنّه صفة مصدر محذوف، أي: إلّا قتلا خطأ من غير قصد، بأن يرمي شخصا على أنّه كافر فيكون مسلما، أو كان يريد شيئا فيصيب غيره، مثل أن يرمي إلى غرض أو إلى صيد فيصيب إنسانا فقتله. و قيل: «ما كان» نفي في معنى النهي، و الاستثناء منقطع، أي: لكن إن قتله خطأ فجزاؤه ما قال عزّ اسمه.

وَ مَنْ قَتَلَ مُؤْمِناً خَطَأً فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أي: فعليه تحرير رقبة. و التحرير الاعتاق، و الحرّ كالعتيق بمعنى الكريم، و منه حرّ الوجه لأكرم موضع منه، سمّي به لأنّ الكرم في الأحرار. و الرقبة عبّر بها عن النسمة كما عبّر عنها بالرأس.

مُؤْمِنَةٍ محكوما بإيمانها و إن كانت صغيرة وَ دِيَةٌ مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ مؤدّاة إلى ورثته يقتسمونها كسائر المواريث. و كميّة الدية و كيفيّتها جنسا و وصفا مذكورتان في كتب الفقه. و الدية على عاقلة القاتل.

إِلَّا أَنْ يَصَّدَّقُوا أي: يتصدّق أولياء المقتول بالدية. و معناه العفو. و سمّي العفو عنها صدقة حثّا عليه، و تنبيها على فضله. و في الحديث: «كلّ معروف صدقة». و هو متعلّق ب «عليه»، أو ب «مسلّمة» أي: تجب الدية عليه، أو يسلّمها إلى أهله، إلّا حال تصدّقهم عليه أو زمانه. فهو في محلّ النصب على الحال أو الظرف.

فَإِنْ كانَ مِنْ قَوْمٍ عَدُوٍّ لَكُمْ أي: من قوم كفّار محاربين، أو في تضاعيفهم، و لم يعلم إيمانه وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ فعلى قاتله الكفّارة دون الدية، إذ لا وراثة بينه و بينهم، لأنّهم محاربون.

وَ إِنْ كانَ المقتول مِنْ قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ من قوم كفرة معاهدين، أو أهل الذمّة، فحكمه حكم المسلم فَدِيَةٌ فعلى عاقلة قاتله دية

زبدة التفاسير،

ج 2، ص: 126

مُسَلَّمَةٌ إِلى أَهْلِهِ وَ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مُؤْمِنَةٍ أي: و على قاتله تحرير رقبة مؤمنة، كما روي عن الصادق عليه السّلام، و عليه جمهور الفقهاء.

فَمَنْ لَمْ يَجِدْ رقبة، بأن لم يملكها، و لا ما يتوصّل به إليها فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ فعليه، أو فالواجب عليه صيام شهرين. تَوْبَةً نصب على المفعول له، أي: شرع ذلك توبة كائنة مِنَ اللَّهِ من تاب اللّه عليه، إذا قبل توبته.

أو على المصدر، أي: و تاب اللّه عليكم توبة. أو الحال بحذف مضاف، أي: فعليه صيام شهرين ذا توبة من اللّه.

و قيل: المراد بالتوبة هنا التخفيف من اللّه، لأنّه سبحانه إنّما جوّز للقاتل العدول إلى الصيام تخفيفا عليه، فيكون كقوله: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ «1».

وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً بحاله حَكِيماً فيما أمر في شأنه.

و الآية نزلت في عياش بن أبي ربيعة أخي أبي جهل من الأمّ، و ذلك أنّه اسلم و هاجر خوفا من قومه إلى المدينة قبل هجرة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فأقسمت أمّه لا تأكل و لا تشرب و لا يظلّها سقف حتى يرجع. فخرج أبو جهل و معه الحارث بن زيد العامري فأتياه و هو في أطم «2»، فاطّلع أبو جهل في ذروة «3» و قال: أليس محمد يحثّك على صلة الرحم؟ انصرف و برّ أمّك و أنت على دينك، حتّى نزل و ذهب معهما. فلمّا خرجا من المدينة كتّفاه و جلده كلّ واحد منهما مائة جلدة. فقال للحارث: هذا أخي، فمن أنت يا حارث؟ للّه عليّ إن وجدتك خاليا أن أقتلك.

و قدما به على أمّه، فحلفت لا تحلّ كتافه أو يرتدّ، ثم فعل. ثم هاجر بعد ذلك، و أسلم الحارث

و هاجر، فلقيه عياش بظهر قبا- و لم يشعر بإسلامه- فقتله، ثم أخبر

______________________________

(1) المزّمّل: 20.

(2) الأطم جمعه آطام: القصر و الحصن المبنيّ بالحجارة، و كلّ بناء مرتفع.

(3) الذروة: العلوّ و المكان المرتفع.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 127

بإسلامه، فأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال: قتلته و لم أشعر بإسلامه، فنزلت الآية فيه.

[سورة النساء (4): آية 93]

وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ وَ أَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً (93)

و لمّا بيّن سبحانه قتل الخطأ و حكمه، عقّبه ببيان قتل العمد و حكمه، فقال تهديدا بليغا فيه: وَ مَنْ يَقْتُلْ مُؤْمِناً مُتَعَمِّداً قاصدا إلى قتله، عالما بإيمانه و حرمة قتله و عصمة دمه فَجَزاؤُهُ جَهَنَّمُ خالِداً فِيها وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ لَعَنَهُ أبعده من الرحمة و طرده عنها وَ أَعَدَّ لَهُ عَذاباً عَظِيماً. و قتل العمد أن يقصد قتل غيره بما جرت العادة بأنّه يقتل مثله، سواء كان بحديدة حادّة كالسلاح، أو بخنق أو سمّ، أو إحراق أو تغريق، أو ضرب بالعصا أو بالحجارة حتى يموت، فإنّ ذلك عمد يوجب القود به.

و لمّا كان في قتل العمد تهديد بليغ و وعيد عظيم و خطب جسيم، قال ابن عبّاس: لا يقبل توبة قاتل المؤمن عمدا. و لعلّه أراد به التشديد، إذ روي عن ابن عبّاس خلافه، كما

روى الواحدي «1» بإسناده مرفوعا إلى عطاء، عن ابن عبّاس أنّ رجلا سأله: القاتل المؤمن توبة؟ فقال: لا. و سأله آخر: أ لقاتل المؤمن توبة؟ فقال:

نعم. فقيل له في ذلك، فقال: جاءني ذلك و لم يكن قتل، فقلت: لا توبة لك لكي لا يقتل، و جاءني هذا و قد قتل، فقلت: لك

توبة لكي لا يلقى بيده إلى التهلكة.

و قال بعض أصحابنا: إنّ قاتل المؤمن لا يوفّق للتوبة، على معنى أنه لا يختار التوبة. و عند معظم أصحابنا و عند الشافعي أنّ هذا الحكم مخصوص بالمستحلّ له، كما ذكره عكرمة.

و

عن الصادق عليه السّلام أنّ معنى التعمّد أن يقتله على دينه.

و يؤيّده ما

رواه

______________________________

(1) الوسيط 2: 99. زبدة التفاسير، ج 2، ص: 128

الضحّاك و جماعة من المفسّرين أنّها نزلت في مقيس بن ضبابة وجد أخاه هشاما قتيلا في بني النجّار و لم يظهر قاتله، فذكر ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فأرسل معه قيس بن الهلال الفهري و قال: قل لبني النجّار إن علمتم قاتل هشام فادفعوه إلى أخيه ليقتصّ منه، و إن لم تعلموا فادفعوا إليه ديته. فبلّغ الفهري الرسالة، فأعطوه الدية.

فلمّا انصرف و معه الفهري وسوس إليه الشيطان فقال: ما صنعت شيئا! أخذت دية أخيك فتكون عليك سبّة «1»، اقتل الّذي معك ليكون نفس بنفس، و الدية فضل. فرماه بصخرة فقتله، فركب بعيرا و رجع إلى مكّة مرتدّا. فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا أؤمنه في حلّ و لا حرم. فقتل يوم الفتح.

أو المراد بالخلود المكث الطويل، فإنّ الدلائل متظافرة على أنّ عصاة المسلمين لا يدوم عذابهم.

و

روى العيّاشي بإسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، و قد روي أيضا مرفوعا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: هو جزاؤه إن جازاه.

و

روى عاصم بن أبي النجود عن ابن عبّاس في قوله: «فجزاؤه جهنّم» قال:

«هي جزاؤه، فإن شاء عذّبه، و إن شاء غفر له».

[سورة النساء (4): آية 94]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَتَبَيَّنُوا وَ لا تَقُولُوا

لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لَسْتَ مُؤْمِناً تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَتَبَيَّنُوا إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (94)

روي عن ابن عبّاس و قتادة و السدّي أنّ سريّة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم غزت أهل

______________________________

(1) السبّة: العار.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 129

فدك، فهربوا و بقي مرداس ثقة بإسلامه، فلمّا رأى الخيل ألجأ غنمه إلى عاقول «1» من الجبل و صعد، فلمّا تلاحقوا و كبّروا كبّر و نزل و قال لهم: لا إله إلّا اللّه محمد رسول اللّه، فبدر إليه أسامة فقتله و استاقوا غنمه، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ضَرَبْتُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ سافرتم و ذهبتم للغزو فَتَبَيَّنُوا. و قرأ حمزة و الكسائي:

فتثبّتوا. و هما من التفعّل بمعنى الاستفعال، أي: اطلبوا بيان الأمر و ثباته، و لا تعجّلوا في القتل من غير رويّة.

وَ لا تَقُولُوا لِمَنْ أَلْقى إِلَيْكُمُ السَّلامَ لمن حيّاكم بتحيّة الإسلام. و قرأ نافع و ابن عامر و حمزة: السّلم بغير الألف، أي: الاستسلام و الانقياد. و فسّر به السلام أيضا. لَسْتَ مُؤْمِناً أي: ليس لإيمانك حقيقة، و إنّما أظهرت الإسلام خوفا من القتل.

تَبْتَغُونَ عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا تطلبون ماله الّذي هو حطام سريع النفاد.

و هو حال من الضمير في «تقولوا» مشعر بما هو الحامل لهم على العجلة و ترك التثبّت، و قلّة البحث عن حال من تقتلونه. فَعِنْدَ اللَّهِ مَغانِمُ كَثِيرَةٌ أي: في مقدوره فواضل و نعم و أرزاق تغنيكم بها عن قتل رجل يظهر الإسلام لتأخذوا ماله، إن أطعتموه فيما أمركم به.

كَذلِكَ كُنْتُمْ مِنْ قَبْلُ أي: أوّل ما دخلتم في الإسلام تفوّهتم بكلمتي الشهادة، فحصنت بها دماؤكم

و أموالكم، من غير انتظار الاطّلاع على مواطاة قلوبكم ألسنتكم فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بالاشتهار بالإيمان و الاستقامة في الدين.

فَتَبَيَّنُوا و افعلوا بالداخلين في الإسلام كما فعل اللّه بكم، و لا تبادروا إلى قتلهم ظنّا بأنّهم دخلوا فيه اتّقاء و خوفا، فإنّ إبقاء ألف كافر أهون عند اللّه من قتل امرئ مسلم. و تكريره تأكيد لتعظيم الأمر، و ترتيب الحكم على ما ذكر من حالهم.

______________________________

(1) العاقول: منعطف الوادي أو النهر، أو المعوجّ منه، أو الأرض لا يهتدى إليها.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 130

إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً عالما به و بالغرض منه، فلا تتساقطوا في القتل و احتاطوا.

و روي عن ابن عبّاس و قتادة لمّا نزلت الآية حلف أسامة لا يقتل رجلا قال:

لا إله إلّا اللّه. و بهذا اعتذر إلى عليّ عليه السّلام لمّا تخلّف عنه، و إن كان عذره غير مقبول، لصريح الدلالة على وجوب طاعة الامام في محاربة البغاة، سيّما و

قد سمع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: حربك يا عليّ حربي، و سلمك سلمي.

[سورة النساء (4): الآيات 95 الى 96]

لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً وَ كُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً (95) دَرَجاتٍ مِنْهُ وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (96)

و لمّا نهى عن قتل المسلمين و ذكر أحكامه، و بيّن ما فيه من النكال و العقاب، عاد إلى قتال المشركين و قتلهم، و بيّن ما فيه من الفضل و الثواب، فقال:

لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ عن الحرب مِنَ الْمُؤْمِنِينَ في موضع الحال من القاعدين، أو من الضمير

الّذي فيه غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ بالرفع صفة ل «القاعدون»، لأنّه لم يقصد به قوم بأعيانهم، أو بدل منه. و قرأ نافع و ابن عامر و الكسائي بالنصب على الحال أو الاستثناء. و المراد بالضرر المرض أو العاهة، من عمى أو زمانة أو نحوهما.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 131

و

عن زيد بن ثابت أنّها نزلت و لم يكن فيها «غير أولي الضرر»، فقال ابن أمّ مكتوم: و كيف و أنا أعمى؟ فغشي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مجلسه الوحي، فوقعت فخذه على فخذي حتى خشيت أن ترضّها، ثم كشف عنه الوحي فقال: اكتب: «لا يَسْتَوِي الْقاعِدُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ غَيْرُ أُولِي الضَّرَرِ».

وَ الْمُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ و منهاج دينه، لتكون كلمة اللّه هي العليا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ أي: لا مساواة بينهم و بين من قعد عن الجهاد من غير علّة.

و فائدته تذكير ما بينهما من التفاوت ليرغب القاعد في الجهاد، رفعا لرتبته، و أنفة عن انحطاط منزلته.

فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ عَلَى الْقاعِدِينَ دَرَجَةً فضيلة و مزيّة. و نصبه بنزع الخافض، أي: بدرجة. أو على المصدر، لأنّه تضمّن معنى التفضيل و وقع موقع: مرّة، فيكون «درجة» في معنى: تفضيلا، نحو: ضربته سوطا، أي: ضربته ضربة. أو على الحال، بمعنى ذوي درجة. و هذه الجملة الفعليّة موضحة لما نفي من استواء القاعدين و المجاهدين، كأنّه قيل: ما لهم لا يستوون؟ فأجيب بذلك.

وَ كُلًّا من القاعدين و المجاهدين وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى المثوبة الحسنى، و هي الجنّة، لحسن عقيدتهم، و خلوص نيّتهم. و إنّما التفاوت في زيادة العمل المقتضي لمزيد الثواب.

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لقد خلّفتم بالمدينة أقواما ما سرتم مسيرا

و لا قطعتم واديا إلّا كانوا معكم».

و هم الّذين صحّت نيّاتهم، و نصحت «1» جيوبهم، و هوت أفئدتهم إلى الجهاد، و قد منعهم من المسير ضرر أو غيره.

______________________________

(1) رجل ناصح الجيب، أي: نقيّ القلب. الصحاح 1: 411.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 132

وَ فَضَّلَ اللَّهُ الْمُجاهِدِينَ عَلَى الْقاعِدِينَ أَجْراً عَظِيماً نصب على المصدر، لأنّ «فضّل» بمعنى: أجر، و المفعول الثاني لتضمّنه معنى الإعطاء، كأنّه قيل: و أعطاهم زيادة على القاعدين أجرا عظيما.

دَرَجاتٍ مِنْهُ وَ مَغْفِرَةً وَ رَحْمَةً كلّ واحد منها بدل من «أجرا». و يجوز أن ينتصب درجات على المصدر، كأنّه قيل: فضّلهم تفضيلات، كقولك:

ضربته أسواطا، و أجرا على الحال عنها، تقدّمت عليها لأنّها نكرة. و مغفرة و رحمة على المصدر بإضمار فعلهما، بمعنى: غفر لهم و رحمهم مغفرة و رحمة.

قيل: كيف قال أوّلا: فضّل اللّه المجاهدين بأموالهم و أنفسهم على القاعدين درجة، ثم قال ثانيا: فضّل اللّه المجاهدين على القاعدين أجرا عظيما درجات، و هذا متناقض الظاهر.

و أجيب: بأنّ المراد بالأوّل ما خوّلهم في الدنيا من الغنيمة و الظفر و جميل الذكر، و الثاني ما جعل لهم في الآخرة.

و

في الحديث: «إنّ اللّه تعالى فضّل المجاهدين على القاعدين سبعين درجة، بين كلّ درجتين مسيرة سبعين خريفا للفرس الجواد المضمر».

و المراد بالدرجة الأولى ارتفاع منزلتهم عند اللّه تعالى، كما يقال: فلان أعلى درجة عند الخليفة من فلان، يريدون بذلك أنه أعظم منزلة، و بالدرجات منازلهم في الجنّة. أو القاعدون الأوّل هم الأضرّاء، و القاعدون الثاني هم الّذين أذن لهم في التخلّف اكتفاء بغيرهم، فإنّ الجهاد فرض على الكفاية. أو المجاهدون الأوّلون من جاهد الكفّار، و الآخرون من جاهد نفسه، و عليه

قوله عليه السّلام: «رجعنا من الجهاد الأصغر

إلى الجهاد الأكبر».

وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً لما عسى أن يفرط منهم رَحِيماً بما وعد لهم.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 133

[سورة النساء (4): الآيات 97 الى 99]

إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها فَأُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ ساءَتْ مَصِيراً (97) إِلاَّ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلاً (98) فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَ كانَ اللَّهُ عَفُوًّا غَفُوراً (99)

ثم أخبر سبحانه عن حال من ترك الهجرة، و وافق الكفرة، و قعد عن نصرة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: إِنَّ الَّذِينَ تَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ يحتمل الماضي و المضارع ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ في حال ظلمهم أنفسهم بترك المهاجرة و موافقة الكفرة قالُوا أي:

الملائكة توبيخا لهم فِيمَ كُنْتُمْ في أيّ شي ء كنتم من أمر دينكم قالُوا كُنَّا مُسْتَضْعَفِينَ فِي الْأَرْضِ اعتذروا ممّا وبّخوا به بضعفهم و عجزهم عن الهجرة، أو إظهار الدين و إعلاء كلمته.

و هم جماعة أسلموا بمكّة، و لم يهاجروا حين كانت المهاجرة واجبة، فلمّا خرج المشركون إلى بدر لم يخلفوا منهم أحدا إلا من كان صبيّا أو مريضا أو شيخا كبيرا، فخرج هؤلاء معهم، فلمّا نظروا إلى قلّة المسلمين ارتابوا فأصيبوا فيمن أصيب من المشركين، فنزلت الآية.

فقولهم: «فيم كنتم» توبيخ لهم بأنّهم لم يكونوا في شي ء من الدين، حيث قدروا على المهاجرة و لم يهاجروا. فاعتذروا ممّا وبّخوا بالاستضعاف، و أنّهم لم يتمكّنوا من الهجرة.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 134

فالملائكة على وجه التبكيت و التكذيب لهم قالُوا أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها إلى قطر آخر، كما هاجر المهاجرون إلى المدينة و الحبشة؟! فَأُولئِكَ

مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ لتركهم الواجب، و مساعدتهم الكفّار. و هو خبر «إنّ»، و الفاء فيه لتضمّن الاسم معنى الشرط. و «قالُوا فِيمَ كُنْتُمْ» حال من الملائكة بإضمار «قد». أو الخبر «قالوا» و العائد محذوف، أي: قالوا لهم. و هو جملة معطوفة على الجملة التي قبلها مستنتجة منها وَ ساءَتْ مَصِيراً مصيرهم، أو جهنّم.

و في الآية دليل على وجوب الهجرة على المكلّف في موضع لا يتمكّن فيه من إقامة دينه.

إِلَّا الْمُسْتَضْعَفِينَ استضعفهم المشركون مِنَ الرِّجالِ وَ النِّساءِ وَ الْوِلْدانِ استثناء منقطع من أهل الوعيد، لعدم دخولهم في الموصول و ضميره و الإشارة إليه.

و ذكر الولدان إن أريد به المماليك فظاهر. و إن أريد به الصبيان فللمبالغة في الأمر، و الإشعار بأنّهم على صدد وجوب الهجرة، فإنّهم إذا بلغوا و قدروا على الهجرة فلا محيص لهم عنها، و أنّ قوّامهم يجب عليهم أن يهاجروا بهم متى أمكنت.

لا يَسْتَطِيعُونَ حِيلَةً وَ لا يَهْتَدُونَ سَبِيلًا صفة للمستضعفين، أو للرجال و النساء و الولدان، إذ لا تعيين فيه، من قبيل: ... و لقد أمرّ على اللئيم يسبّني ... أو حال منه، أو من المستكن فيه. و استطاعة الحيلة وجدان أسباب الهجرة و ما تتوقّف عليه. و اهتداء السبيل معرفة الطريق بنفسه أو بدليل.

فَأُولئِكَ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَعْفُوَ عَنْهُمْ وَ كانَ اللَّهُ عَفُوًّا أي: لم يزل اللّه ذا صفح- بفضله- عن ذنوب عباده، بترك عقوبتهم على معاصيهم غَفُوراً ساترا عليهم ذنوبهم، بعفوه لهم عنها. ذكر بكلمة الإطماع و لفظ العفو إيذانا بأنّ ترك الهجرة و ما يتوقّف عليه و اهتداء السبيل أمر خطير، حتى إنّ المضطرّ من حقّه أن لا يأمن و يترصّد الفرصة، و يعلّق بها قلبه.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 135

قيل:

إنّ المستضعفين هم قيس بن الفاكه بن المغيرة، و الحارث بن زمعة بن الأسود، و قيس بن الوليد بن المغيرة، و أبو العاص بن منبّه بن الحجّاج، و عليّ بن أميّة بن خلف.

و

روى أبو الجارود عن أبي جعفر عليه السّلام قال: قال ابن عبّاس: كنت من المستضعفين، و كنت غلاما صغيرا. و ذكر أيضا عنه أنّه قال: كان أبي من المستضعفين من الرجال، و كانت أمّي من المستضعفات من النساء، و كنت أنا من المستضعفين من الولدان.

و

قال عكرمة: كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يدعو عقيب صلاة الظهر: اللّهمّ خلّص الوليد، و سلمة بن هشام، و عياش بن أبي ربيعة، و ضعفة المسلمين من أيدي المشركين.

[سورة النساء (4): آية 100]

وَ مَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً وَ سَعَةً وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (100)

ثم حثّ المستطيعين على المهاجرة بقوله: وَ مَنْ يُهاجِرْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ و من يفارق أهل الشرك و يهرب بدينه من وطنه و أهله في منهاج دين اللّه يَجِدْ فِي الْأَرْضِ مُراغَماً كَثِيراً متحولا، من الرغام و هو التراب. و قيل: طريقا يراغم بسلوكه قومه، أي: يفارقهم على رغم أنوفهم. و الرغم الذلّ و الهوان، و هو أيضا من الرغام وَ سَعَةً في الرزق و إظهار الدين. و قيل: مهاجرا فسيحا و متّسعا ممّا كان فيه من تضييق المشركين عليه.

روي عن سعيد بن جبير و قتادة و أبي حمزة الثمالي أنّه لمّا نزلت آيات

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 136

الهجرة سمعها رجل من المسلمين، و هو جندب بن ضمرة، و كان

بمكّة، فقال: و اللّه ما أنا ممّن استثنى اللّه، إنّي لأجد قوّة، و إنّي لعالم بالطريق، و كان مريضا شديد المرض، فقال لبنيه: و اللّه لا أبيت بمكّة حتّى أخرج منها، فإنّي أخاف أن أموت فيها، فخرجوا يحملونه على سرير، فلمّا بلغ التنعيم أشرف على الموت، فصفق بيمينه على شماله فقال: اللّهمّ إنّ هذه لك، و هذه لرسولك، أبايعك على ما بايع عليه رسولك، فمات، فنزلت.

وَ مَنْ يَخْرُجْ مِنْ بَيْتِهِ مُهاجِراً فارّا بدينه إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ يُدْرِكْهُ الْمَوْتُ قبل بلوغه دار الهجرة فَقَدْ وَقَعَ أَجْرُهُ جزاء هجرته و ثواب عمله عَلَى اللَّهِ الوقوع و الوجوب متقاربان. و المعنى: ثبت أجره عند اللّه ثبوت الأمر الواجب.

و كلّ هجرة لغرض دينيّ- من طلب علم، أو حجّ، أو فرار إلى بلد يزداد فيه طاعة- فهي هجرة إلى اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً ساترا على عباده ذنوبهم بالعفو عنهم رَحِيماً بهم رفيقا.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض، و إن كان شبرا من الأرض، استوجب الجنّة، و كان رفيق إبراهيم و محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

[سورة النساء (4): آية 101]

وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً (101)

و لمّا أمر اللّه تعالى بالهجرة و الجهاد، بيّن كيفيّة صلاة السفر و الخوف اللّذين لازمهما، فقال: وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ الضرب في الأرض هو السفر، أي: إذا

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 137

سافرتم فيها فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ إثم أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ بتنصيف الرباعيّات،

فتصلّوها ركعتين ركعتين. و الجارّ و المجرور صفة محذوف، أي: شيئا من الصلاة عند سيبويه، و مفعول «تقصروا» بزيادة «من» عند الأخفش.

و القصر ثابت بنصّ الكتاب في حال الخوف خاصّة، و هو قوله: إِنْ خِفْتُمْ أَنْ يَفْتِنَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا. يعني: خفتم فتنة الّذين كفروا في أنفسكم، بأن يعذّبوكم بنوع من العذاب، أو في دينكم. إِنَّ الْكافِرِينَ كانُوا لَكُمْ عَدُوًّا مُبِيناً ظاهر العداوة.

و أمّا قصر الصلاة في حال الأمن فبنصّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و هو عزيمة واجبة غير رخصة عند أبي حنيفة. و هو مذهب أهل البيت عليهم السّلام. و رخصة عند الشافعي.

و إنّما قال: «فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ» في الواجب لئلّا يخطر ببالهم أنّ عليهم نقصانا في القصر، فإنّهم ألفوا الأربع، فكان مظنّة لأن يخطر ببالهم أنّ ركعتي السفر قصر و نقصان، فسمّى الإتيان بهما قصرا على ظنّهم، و نفي الجناح فيه لتطيب به أنفسهم.

و الجملة الشرطيّة شريطة القصر باعتبار الغالب في ذلك الوقت، و لم يعتبر مفهومها في وجوب القصر. و مثله في القرآن كثير، كقوله: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا يُقِيما حُدُودَ اللَّهِ فَلا جُناحَ عَلَيْهِما فِيمَا افْتَدَتْ بِهِ «1». و قد تظاهرت السنن من الموافق و المخالف على جواز القصر أيضا في حال الأمن.

و

روى زرارة و محمد بن مسلم: «قلنا لأبي جعفر عليه السّلام: ما تقول في الصلاة في السفر؟ كيف هي؟ و كم هي؟

قال: إنّ اللّه تعالى يقول: «وَ إِذا ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَقْصُرُوا مِنَ الصَّلاةِ» فصار التقصير واجبا في السفر كوجوب التمام في الحضر.

قالا: قلنا: إنّه قال: لا جناح عليكم أن تقصروا من الصلاة، و لم يقل: افعل،

______________________________

(1) البقرة: 229. زبدة التفاسير، ج 2، ص:

138

فكيف أوجب ذلك كما أوجب التمام؟! قال: أو ليس قال سبحانه في الصفا و المروة: فَمَنْ حَجَّ الْبَيْتَ أَوِ اعْتَمَرَ فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما «1»؟ ألا ترى أنّ الطواف واجب مفروض، لأنّ اللّه تعالى ذكرهما في كتابه، و صنعهما نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و كذا التقصير في السفر صنعه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ذكره اللّه في الكتاب.

قال: قلت: فمن صلّى في السفر أربعا أ يعيد أم لا؟

قال: إن كان قرئت عليه آية التقصير و فسّرت له فصلّى أربعا أعاد، و إن لم يكن قرئت عليه و لم يعلمها فلا إعادة عليه».

و قال في كنز العرفان: «قصر الصلاة جائز إجماعا. فقال الشافعي:

هو رخصة، لقوله تعالى: «فَلَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ». فهو من المخيّر عنده، لكنّه قال: القصر أفضل. و قال المزني من أصحابه: الإتمام أفضل. و قال مالك و أبو حنيفة و أصحابنا: إنّه عزيمة. و به قال عليّ و أهل بيته عليهم السّلام، و ابن عبّاس و جابر و ابن عمر و غيرهم. و نفي الجناح لا ينافي الوجوب، فإنّه قد استعمل في الوجوب، كما في قوله: إِنَّ الصَّفا وَ الْمَرْوَةَ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ إلى قوله:

فَلا جُناحَ عَلَيْهِ أَنْ يَطَّوَّفَ بِهِما « «2»» و الطواف بهما واجب. و لما

روي عن يعلى بن أميّة و قد سأل عمر: ما بالنا نقصّر و قد أمنّا؟ فقال: عجبت ممّا عجبت منه فسألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: «تلك صدقة تصدّق اللّه بها عليكم، فاقبلوا صدقته»

و الأمر للوجوب. و غير ذلك من الروايات عن أهل البيت عليهم السّلام.

و تحقيق الحال هنا أن نقول: ليس

السفر و الخوف شرطين على الجمع للإجماع، و لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صلّى قصرا سفرا مع زوال الخوف. و إذا لم يكونا

______________________________

(1، 2) البقرة: 158.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 139

شرطين على الجمع، فإمّا أن يكون أحدهما شرطا في الآخر، دون العكس. و هو باطل.

أمّا أوّلا: فلاستلزام الترجيح من غير مرجّح.

و أمّا ثانيا: فلأنّ اشتراط السفر بالخوف باطل، للإجماع المذكور و النصّ.

و عكسه- أعني: اشتراط الخوف بالسفر- باطل أيضا، لكونه ينفي سببيّة الخوف مطلقا، سفرا و حضرا. و لأنّ السبب التامّ يستحيل أن يكون شرطا في سببيّة الآخر.

و إذا بطل ذلك فلم يبق إلّا أن يكون كلّ واحد منهما سببا في وجوب القصر. و لما صحّ

عن الباقر عليه السّلام أنّه سئل عن صلاة الخوف و صلاة السفر أ يقصّران جميعا؟ فقال:

«نعم، و صلاة الخوف أحقّ أن يقصّر من صلاة السفر الّذي ليس فيه خوف»

بانفراده. جعل عليه السّلام الخوف سببا أقوى من السفر الخالي عنه، فيكون كلّ واحد منهما سببا تامّا منفردا. و هذا تقرير لوجوب القصر فيهما معا.

ثم

قال: «وحدّ التقصير في السفر عندنا مرحلة، ثمانية فراسخ أو مسير يوم متوسّط السير» «1».

أو أربعة فراسخ لمن أراد الرجوع في يومه أو ليلته، على الخلاف في الأخير، و به وردت الروايات المتضافرة عن أهل البيت عليهم السّلام. و عند الشافعي مرحلتان، ستّة عشر فرسخا، و به قال مالك و أحمد. و قال أبو حنيفة و أصحابه: ثلاثة مراحل، أربعة و عشرون فرسخا. و باقي شرائط القصر مذكور في كتب الفقه، فليطالع ثمّة.

[سورة النساء (4): الآيات 102 الى 103]

وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ فَإِذا سَجَدُوا فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ وَ

لْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَ أَمْتِعَتِكُمْ فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ وَ خُذُوا حِذْرَكُمْ إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (102) فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِكُمْ فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً (103)

______________________________

(1) كنز العرفان 1: 182- 184.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 140

و لمّا بيّن سبحانه وجوب قصر صلاة السفر، عقّبه ببيان كيفيّة صلاة الخوف، فقال: وَ إِذا كُنْتَ فِيهِمْ في الخائفين من أصحابك فَأَقَمْتَ لَهُمُ الصَّلاةَ بأن تؤمّهم. و من خصّ صلاة الخوف بحضرة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تمسّك بمفهومه. و أمّا فقهاء الاماميّة و فقهاء العامّة على أنّه تعالى علّم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كيفيّتها ليأتمّ به الأئمّة بعده، فإنّهم نوّاب عنه، فيكون حضورهم كحضوره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فَلْتَقُمْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ من أصحابك الّذين أنت فيهم مَعَكَ أي: في صلاتك، فاجعلهم طائفتين، فلتقم إحداهما معك يصلّون، و تقوم الطائفة الأخرى تجاه العدوّ، و لم يذكر هذا لدلالة الكلام عليه وَ لْيَأْخُذُوا أَسْلِحَتَهُمْ أي: المصلّون حزما، لا يشغلهم عن الصلاة، كالسيف يتقلّدون به، و الخنجر يشدّونه إلى دروعهم، و نحوهما.

فَإِذا سَجَدُوا يعني: الطائفة الّتي تصلّي معه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و فرغوا من سجودهم فَلْيَكُونُوا مِنْ وَرائِكُمْ يحرسونكم، يعني: النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من يصلّي معه، فغلب المخاطب على الغائب يعني: فليصيروا بعد فراغهم من

سجودهم مصافّين للعدوّ

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 141

وَ لْتَأْتِ طائِفَةٌ أُخْرى لَمْ يُصَلُّوا لاشتغالهم بالحراسة، و هم الّذين كانوا بإزاء العدوّ فَلْيُصَلُّوا مَعَكَ

و اختلف في الطائفة الأولى إذا رفعت رؤوسهم من السجود و فرغت من الركعة كيف يصنعون؟ فعندنا أنهم إذا سجدوا في الأولى يصلّون ركعة أخرى و يتشهّدون و يسلّمون، و الامام قائم في الثانية، ثم ينصرفون إلى مواقف أصحابهم، و يجي ء الآخرون فيستفتحون الصلاة، و يصلّي بهم الامام الركعة الثانية، و يطيل التشهّد حتى يقوموا فيصلّوا بقيّة صلاتهم، ثم يسلّم بهم، كما فعله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بذات «1» الرقاع. فيكون للطائفة الأولى تكبيرة افتتاح الامام، و للثانية تسليمه. و هو مذهب الشافعي أيضا.

و قيل: إنّ الامام يصلّي مرّتين، بكلّ طائفة مرّة، كما فعله النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ببطن نخل «2». و هذه الصلاة تصحّ أيضا مع الأمن.

و قيل: إنّ الطائفة الأولى إذا فرغت من ركعة يسلّمون و يمضون إلى وجه العدوّ، و تأتي الطائفة الأخرى و يصلّي بهم ركعة. و هذا مذهب جابر و مجاهد، و من يرى أنّ صلاة الخوف ركعة واحدة.

و قيل: إنّه إذا صلّى بالطائفة الأولى ركعة مضوا إلى وجه العدوّ، و تأتي الطائفة الأخرى فيكبّرون و يصلّي الامام بهم الثانية، و يسلّم الإمام و يعودون إلى وجه العدوّ، و تأتي الطائفة الأولى فيؤدّون الركعة الثانية بغير قراءة، فيتمّون صلاتهم و يرجعون إلى وجه العدوّ، و تأتي الطائفة الثانية فيؤدّون الركعة بقراءة، و يتمّون

______________________________

(1) قال الواقدي: ذات الرقاع قريبة من النخيل بين السعد و الشقرة و بئر أرما، على ثلاثة أيّام من المدينة. و في تعيين موضع غزاة ذات

الرقاع التي غزاها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أقوال، انظر معجم البلدان 3: 56.

(2) بطن نخل: قرية قريبة من المدينة على طريق البصرة. معجم البلدان 1: 449.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 142

صلاتهم. و هو مرويّ عن عبد اللّه بن مسعود. و هو مذهب أبي حنيفة.

وَ لْيَأْخُذُوا حِذْرَهُمْ وَ أَسْلِحَتَهُمْ يعني: و ليكونوا حذرين من عدوّهم، متأهّبين لقتالهم بأخذ الأسلحة، أي: آلات الحرب. و هذا يدلّ على أنّ الفرقة المأمورة بأخذ السلاح في الأوّل هم المصلّون دون غيرهم.

ثم بيّن ما لأجله أوجب أخذ السلاح عليهم بقوله: وَدَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ تَغْفُلُونَ عَنْ أَسْلِحَتِكُمْ وَ أَمْتِعَتِكُمْ في القتال حين اشتغالكم بالصلاة فَيَمِيلُونَ عَلَيْكُمْ مَيْلَةً واحِدَةً تمنّوا أن ينالوا منكم غرّة في صلاتكم فيشدّون عليكم شدّة واحدة.

ثم رخّص لهم في وضع الأسلحة فقال: وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ إِنْ كانَ بِكُمْ أَذىً أي: نالكم مِنْ مَطَرٍ أَوْ كُنْتُمْ مَرْضى أعلّاء أو جرحى، فثقل بسبب المطر أو المرض أخذ الأسلحة، و ضعفتم عن حملها أَنْ تَضَعُوا أَسْلِحَتَكُمْ و هذا ممّا يدلّ على أنّ الأمر بأخذ الأسلحة للوجوب دون الندب وَ خُذُوا حِذْرَكُمْ أمرهم مع ذلك بأخذ الحذر ما دام ممكنا لهم و إن كان مع مشقّة، لئلّا يغفلوا فيحمل عليهم العدوّ.

إِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً هذا وعد للمؤمنين بأنّه سبحانه يهين عدوّهم، و ينصرهم عليهم بعد الأمر بالحزم، لتقوى قلوبهم، و ليعلموا أنّ الأمر بالحزم ليس لضعفهم و غلبة عدوّهم، بل لأنّ الواجب أن يحافظوا في الأمور على مراسم التيقّظ و التدبّر، فيتوكّلوا على اللّه تعالى.

و في الآية دلالة على صدق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و صحّة نبوّته، و ذلك أنّها نزلت

و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعسفان «1» و المشركون بضجنان «2»، فتواقفوا فصلّى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأصحابه

______________________________

(1) عسفان قرية جامعة بها منبر و نخيل و مزارع على ستّة و ثلاثين ميلا من مكّة. معجم البلدان 4: 121- 122.

(2) ضجنان: بالتحريك، قيل: جبيل على بريد من مكّة ... و قال الواقدي: بين ضجنان و مكّة خمسة و عشرون ميلا. معجم البلدان 3: 453.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 143

صلاة الظهر بتمام الركوع و السجود، فهمّ المشركون بأن يغيروا عليهم، فقال بعضهم:

إنّ لهم صلاة اخرى أحبّ إليهم من هذه- يعنون صلاة العصر- فأنزل اللّه عليه هذه الآية، فصلّى بهم العصر صلاة الخوف، و كان ذلك سبب إسلام خالد بن الوليد.

فَإِذا قَضَيْتُمُ الصَّلاةَ أدّيتم الصلاة حال الخوف و القتال، و فرغتم منها فَاذْكُرُوا اللَّهَ قِياماً وَ قُعُوداً وَ عَلى جُنُوبِكُمْ فدوموا على الذكر مهلّلين مكبّرين مسبّحين حامدين في جميع الأحوال، لعلّه سبحانه لأجل كثرة ذكركم ينصركم على عدوّكم، و يظفركم بهم. و هذا مثل قوله تعالى: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَ اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ «1».

و هذا التفسير منقول عن ابن عبّاس و كثير من المفسّرين. و عن ابن مسعود أنّه قال عقيب تفسير الآية: «لم يعذر اللّه أحدا في ترك ذكره إلّا المغلوب على عقله».

و قيل: معناه إذا أردتم أداء الصلاة و اشتدّ الخوف فصلّوها كيف ما أمكن، قياما مسايفين و مقارعين، و قعودا جاثين «2» على الرّكب مرامين، و على جنوبكم مثخنين بالجراح.

فَإِذَا اطْمَأْنَنْتُمْ سكنت قلوبكم من الخوف في أوطانكم و أمصاركم فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ فعدّلوا و احفظوا أركانها و شرائطها، و أتوا بها

تامّة إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً فرضا محدود الأوقات، لا يجوز إخراجها عن أوقاتها في شي ء من الأحوال. و هذا دليل على أنّ المراد بالذكر الصلاة، فإنّها واجبة الأداء حال المسايفة و الاضطراب في المعركة، و تعليل للأمر بالإتيان بها كيف ما

______________________________

(1) الأنفال: 45.

(2) جثا يجثو جثوّا: جلس على ركبتيه، فهو جاث.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 144

أمكن. فهو ردّ على قول أبي حنيفة حيث قال: لا يصلّي المحارب حتى يطمئنّ.

[سورة النساء (4): آية 104]

وَ لا تَهِنُوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ كَما تَأْلَمُونَ وَ تَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ ما لا يَرْجُونَ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (104)

ثم عاد الكلام إلى الحثّ على الجهاد، فقال: وَ لا تَهِنُوا و لا تضعفوا فِي ابْتِغاءِ الْقَوْمِ في طلب الكفّار بالقتال. ثم ألزمهم الحجّة عليه بقوله: إِنْ تَكُونُوا تَأْلَمُونَ ممّا ينالكم من الجراح منهم فَإِنَّهُمْ يَأْلَمُونَ أيضا ممّا ينالهم منكم من الجراح و الأذى كَما تَأْلَمُونَ مثل ما تألمون أنتم من جراحهم و أذاهم وَ تَرْجُونَ مِنَ اللَّهِ من الظفر عاجلا و الثواب آجلا على ما ينالكم منهم ما لا يَرْجُونَ على ما ينالهم منكم. هذا إلزام لهم و تقريع على التواني في القتال، بأنّ ضرر القتال دائر بين الفريقين غير مختصّ بهم، و هم يرجون من اللّه تعالى بسببه من إظهار الدين و استحقاق الثواب ما لا يرجو عدوّهم، فينبغي أن يكونوا أرغب منهم في الحرب، و أصبر عليها.

وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً بأعمالكم و ضمائركم حَكِيماً فيما يأمر و ينهى، فلا يأمركم و لا ينهاكم إلّا بما يعلم أنّ فيه صلاحكم.

قال ابن عبّاس و عكرمة: لمّا أصاب المسلمين ما أصابهم من الجروح و الآلام يوم أحد، و صعد

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الجبل، قال أبو سفيان: يا محمد لنا يوم و لكم يوم.

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أجيبوه.

فقال المسلمون: لا سواء، قتلانا في الجنّة، و قتلاكم في النار.

فقال أبو سفيان: لنا عزّى و لا عزّى لكم.

فقال النبيّ: قولوا: اللّه مولانا و لا مولى لكم.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 145

قال أبو سفيان: اعل هبل.

فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قولوا: اللّه أعلى و أجلّ.

فقال أبو سفيان: موعدنا و موعدكم بدر الصغرى. فنزلت هذه الآية في شأنهم.

[سورة النساء (4): الآيات 105 الى 106]

إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً (105) وَ اسْتَغْفِرِ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (106)

و لمّا تقدّم ذكر المنافقين و الكافرين، و الأمر بمجانبتهم و محاربتهم، و ترك المداهنة معهم، عقّب ذلك بذكر الخائنين، و الأمر باجتناب الدفع عنهم، و النهي عن المداهنة معهم، فقال: إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ و الصدق لِتَحْكُمَ بَيْنَ النَّاسِ بِما أَراكَ اللَّهُ بما عرّفك اللّه و أوحى به إليك. و ليس الرؤية بمعنى العلم، و إلّا لاستدعى ثلاثة مفاعيل. وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ أي: لأجلهم و الذبّ عنهم خَصِيماً مخاصما للبرآء.

روي أنّ أبا طعمة بن أبيرق من بني ظفر سرق درعا من جاره قتادة بن النعمان في جراب دقيق، فجعل الدقيق ينتثر من خرق فيه، و خبّأها عند زيد بن السمين اليهودي، فالتمست الدرع عند طعمة فلم توجد، و حلف ما أخذها و ما له بها علم، فتركوه و اتّبعوا أثر الدقيق حتى انتهى إلى منزل اليهودي فأخذوها. فقال:

دفعها إليّ طعمة، و شهد له ناس من اليهود. فقال بنو ظفر: انطلقوا بنا

إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فلمّا جاءوا إليه قالوا: إن لم تجادل عن صاحبنا هلك و افتضح و برى ء اليهودي، و هو موجب لهوان المسلمين و عزّة اليهود. فهمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يعاقب اليهودي، لحسن ظنّه بالمسلم الظاهر العدالة، فنبّه اللّه رسوله بذلك، و أعلمه خيانة طعمة بقوله: «وَ لا تَكُنْ لِلْخائِنِينَ خَصِيماً».

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 146

وَ اسْتَغْفِرِ اللَّهَ ممّا هممت به من عقاب اليهودي بناء على حسن الظاهر إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً لمن يستغفره. و إنّما ذكر ذلك على وجه التأديب له، في أن لا يبادر بالخصام و الدفاع عمّن لا يتبيّن وجه الحقّ فيه، و لا يعتمد على ظاهر الإيمان، فالاستغفار يكون عن ترك الندب.

[سورة النساء (4): الآيات 107 الى 108]

وَ لا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً أَثِيماً (107) يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ وَ لا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ وَ هُوَ مَعَهُمْ إِذْ يُبَيِّتُونَ ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ وَ كانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً (108)

ثم نهى سبحانه عن المجادلة و الدفع عن أهل الخيانة، مؤكّدا لما تقدّم، فقال مخاطبا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين همّ أن يبرّئ أبا طعمة لمّا أتاه قومه ينفون عنه السرقة:

وَ لا تُجادِلْ عَنِ الَّذِينَ يَخْتانُونَ أَنْفُسَهُمْ يخونونها، فإنّ وبال خيانتهم يعود عليها.

أو جعل المعصية خيانة لها كما جعلت ظلما عليها، لاشتراكهما في جلب الضرر إليها. و الضمير لطعمة و أمثاله، أو له و لقومه، فإنّهم شاركوه في الإثم حين شهدوا على براءته و خاصموا عنه.

و قيل: ظاهر الخطاب و إن توجّه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،

لكن المراد بذلك أمّته.

و لمّا كان سبحانه عالما من طعمة بالإفراط في الخيانة و ركوب المآثم، قال:

إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ مَنْ كانَ خَوَّاناً مبالغا في الخيانة مصرّا عليها أَثِيماً منهمكا في الإثم.

روي أنّ طعمة لمّا أنزل اللّه تعالى في تقريعه و تقريع قومه الآيات ارتدّ و هرب و لحق بالمشركين من أهل مكّة، و نقب حائطا بها ليسرق أموال أهله، فسقط

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 147

الحائط عليه فقتله.

و قيل: إنّه خرج من مكّة نحو الشام، فنزل منزلا و سرق بعض المتاع و هرب، فأخذ و رمي بالحجارة حتى قتل.

يَسْتَخْفُونَ مِنَ النَّاسِ يستترون منهم حياء و خوفا من ضررهم وَ لا يَسْتَخْفُونَ مِنَ اللَّهِ و لا يستترون من اللّه، و لا يستحيون منه، و هو أحقّ بأن يستحيا و يخاف منه وَ هُوَ مَعَهُمْ لا يخفي عليه سرّهم، فلا طريق معه إلّا ترك ما يستقبحه و يؤاخذ عليه إِذْ يُبَيِّتُونَ يدبّرون و يزوّرون بالليل ما لا يَرْضى مِنَ الْقَوْلِ من رمي البري ء، و الحلف الكاذب، و شهادة الزور وَ كانَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطاً حفيظا بأعمالهم، لا يفوت عنه شي ء.

و في هذه الآية تقريع بليغ لمن يمنعه حياء الناس و حشمتهم عن ارتكاب القبائح، و لا تمنعه خشية اللّه تعالى عن ارتكابها، و هو سبحانه أحقّ أن يراقب، و أجدر أن يحذر و يخاف. و فيها أيضا توبيخ لمن يفعل قبيحا ثم يقرف غيره به، سواء كان ذلك الغير مسلما أو كافرا.

[سورة النساء (4): آية 109]

ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (109)

ثم خاطب الذابّين عن السارق فقال: ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ جادَلْتُمْ عَنْهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا «ها» للتنبيه،

أنتم و أولاء مبتدأ و خبر، و «جادلتم» جملة مستأنفة مبيّنة لوقوع «أولاء» خبرا، أو صلة عند من يجعله موصولا. و المعنى: هبوا أنّكم خاصمتم و دافعتم عن بني أبيرق في الدنيا فَمَنْ يُجادِلُ اللَّهَ عَنْهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فمن يخاصم عنهم في الآخرة إذا عذّبهم اللّه أَمْ مَنْ يَكُونُ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا محاميا يحميهم من عذاب اللّه تعالى. و الاستفهام في معنى النفي، لأنّه

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 148

في معنى التقريع و التوبيخ، أي: لا مجادل عنهم و لا شاهد على براءتهم بين يدي اللّه تعالى.

[سورة النساء (4): الآيات 110 الى 112]

وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً رَحِيماً (110) وَ مَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (111) وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً أَوْ إِثْماً ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (112)

ثم بيّن سبحانه طريق التلافي و التوبة ممّا سبق منهم من المعصية، فقال:

وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً قبيحا متعدّيا يسوء به غيره، كما فعل أبو طعمة بقتادة و اليهودي أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ بما يختصّ به و لا يتعدّاه. و قيل: المراد بالسوء ما دون الشرك، و بالظلم الشرك. و قيل: الصغيرة و الكبيرة ثُمَّ يَسْتَغْفِرِ اللَّهَ بالتوبة يَجِدِ اللَّهَ غَفُوراً لذنوبه رَحِيماً متفضّلا عليه. و فيه أنّ كلّ ذنب و إن عظم فإنّه غير مانع من المغفرة إذا استغفروا منه.

وَ مَنْ يَكْسِبْ إِثْماً فَإِنَّما يَكْسِبُهُ عَلى نَفْسِهِ فلا يتعدّاه وباله، كقوله: وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها «1» وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً بفعله حَكِيماً في مجازاته.

وَ مَنْ يَكْسِبْ خَطِيئَةً صغيرة أو ما لا عمد فيه أَوْ إِثْماً كبيرة أو ما كان عن عمد ثُمَّ يَرْمِ بِهِ بَرِيئاً كما

رمى طعمة زيدا. و وحّد الضمير لمكان «أو» فَقَدِ احْتَمَلَ بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً بسبب رمي البري ء و تبرئة النفس الخاطئة، فإنّه بكسب الإثم آثم، و برمي البري ء باهت، و لذلك سوّى بينهما، و إن كان مقترف أحدهما دون مقترف الآخر.

______________________________

(1) الإسراء: 7.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 149

[سورة النساء (4): آية 113]

وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أَنْ يُضِلُّوكَ وَ ما يُضِلُّونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ ءٍ وَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ وَ كانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً (113)

ثم بيّن سبحانه لطفه برسوله و فضله عليه، إذ صرف كيدهم عنه و عصمه من الميل إليهم، فقال: وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ وَ رَحْمَتُهُ بإعلام ما هم عليه بالوحي. قيل: الفضل هو النبوّة، و الرحمة العصمة أو الوحي. أو الفضل تأييده بألطافه، و الرحمة النعمة. لَهَمَّتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ أي: من بني ظفر أَنْ يُضِلُّوكَ عن القضاء بالحقّ و سلوك طريق العدل، مع علمهم بالحال.

و الجملة جواب «لولا». و ليس القصد فيه إلى نفي همّهم، بل إلى نفي تأثيره فيه.

وَ ما يُضِلُّونَ و ما يزيلون عن الحقّ إِلَّا أَنْفُسَهُمْ لأنّه ما أضلّك عن الحقّ، و عاد و باله عليهم وَ ما يَضُرُّونَكَ مِنْ شَيْ ءٍ فإنّ اللّه عاصمك و حافظك و مسدّدك و مؤيّدك. و ما خطر ببالك كان اعتمادا منك على حسن الظاهر، لا ميلا إلى الحكم. و «من شي ء» في موضع النصب على المصدر، أي: شيئا من الضرر.

وَ أَنْزَلَ اللَّهُ عَلَيْكَ الْكِتابَ القرآن وَ الْحِكْمَةَ و السنّة. و هي أحكام الشريعة، و الآداب السنيّة المرضيّة. و المعنى: كيف يضلّونك و هو ينزّل عليك الكتاب،

و يوحي إليك بالأحكام؟! وَ عَلَّمَكَ ما لَمْ تَكُنْ تَعْلَمُ من خفيّات الأمور، أو من أمور الدين و أحكام الشرع، و أنباء الرسل و قصصهم، و غير ذلك وَ كانَ فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكَ عَظِيماً قيل: معناه فضله عليك منذ خلقك إلى أن بعثك و علّمك عظيم، إذ جعلك خاتم النبيّين و سيّد المرسلين، و أعطاك الخلق العظيم و الشفاعة و غيرهما.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 150

[سورة النساء (4): آية 114]

زبدة التفاسير ج 2 199

لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلاَّ مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ أَوْ مَعْرُوفٍ أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (114)

ثم بيّن سبحانه أنّ تناجي أكثر الناس لا يكون خيرا، مثل تناجي بني ظفر في استخلاص طعمة، فقال: لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ لمّا كان معنى النجوى لا يتمّ إلّا بين اثنين فصاعدا كالدعوى، فالمعنى: لا خير في كثير من متناجيهم، كقوله تعالى: وَ إِذْ هُمْ نَجْوى «1» أو من تناجيهم. و على هذا فقوله: إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ واجبة أو مطلقا أَوْ مَعْرُوفٍ على حذف المضاف، أي: إلّا نجوى من أمر، أو على الانقطاع، بمعنى: لكن من أمر بصدقة، فإنّ في نجواه الخير. و المعروف كلّ ما يستحسنه الشرع، و لا ينكره العقل. و فسّر هاهنا بالقرض، و إغاثة المضطرّ، و صدقة التطوّع. و الأولى أنّه عامّ في كلّ جميل من أبواب البرّ. أَوْ إِصْلاحٍ بَيْنَ النَّاسِ تأليف بينهم بالمودّة. و تخصيص الصدقة و الإصلاح لمزيّة فضلهما.

و تسميته بالمعروف لاعتراف العقول بها، أو لأنّ أهل الخير يعرفونها.

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «كلام ابن آدم كلّه عليه، إلّا ما كان من أمر بمعروف أو

نهي عن منكر أو ذكر اللّه».

و سمع سفيان رجلا يقول: ما أشدّ هذا الحديث؟! فقال: ألم تسمع اللّه يقول: «لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ»؟ فهذا هو بعينه. أو ما سمعته يقول:

وَ الْعَصْرِ إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ «2»؟ فهو هذا بعينه.

______________________________

(1) الإسراء: 47.

(2) العصر: 1- 2.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 151

و

قال عليّ بن إبراهيم في تفسيره: «حدّثني أبي، عن ابن أبي عمير، عن حمّاد، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: إنّ اللّه فرض التجمّل في القرآن. فقال:

قلت: و ما التجمّل جعلت فداك؟ قال: أن يكون وجهك أعرض من وجه أخيك فتجمل له، و هو قوله: «لا خَيْرَ فِي كَثِيرٍ مِنْ نَجْواهُمْ إِلَّا مَنْ أَمَرَ بِصَدَقَةٍ» الآية».

قال: «و حدّثني أبي رفعه إلى أمير المؤمنين عليه السّلام: أنّ اللّه فرض عليكم زكاة جاهكم، كما فرض عليكم زكاة ما ملكت أيمانكم» «1».

وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِ اللَّهِ لطلب رضا اللّه تعالى فَسَوْفَ نُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً أي: مثوبة عظيمة في الكثرة و المنزلة و الصفة. أمّا الكثرة فلأنّه دائم.

و أمّا المنزلة فلأنّه مقارن للتعظيم و الإجلال. و أمّا الصفة فلأنّه غير مشوب بما ينغّصه. و قرأ حمزة: يؤتيه بالياء.

و اعلم أنّ اللّه تعالى بنى الكلام في هذه الآية على الأمر، و رتّب الجزاء على الفعل، ليدلّ على أنّه لمّا دخل الآمر في زمرة الخيّرين كان الفاعل أدخل فيهم، و أنّ العمدة و الغرض هو الفعل، و اعتبار الأمر من حيث إنّه وصلة إليه. و قيّد الفعل بأن يكون لطلب مرضاة اللّه تعالى، لأنّ الأعمال بالنيّات، و أنّ من فعل خيرا رياء و سمعة لم يستحقّ بها من اللّه أجرا. و وصف الأجر بالعظيم تنبيها على حقارة ما فات

في جنبه من أعراض الدنيا.

و في الآية أيضا دلالة على أنّ فاعل المعصية هو الذي يضرّ بنفسه، لما يعود عليه من وبال فعله، و أنّ الّذي يدعو إلى الضلال هو المضلّ، و أنّ فاعل الضلال مضلّ لنفسه، و أن الدعاء إلى الضلال يسمّى إضلالا.

______________________________

(1) تفسير القمي 1: 152.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 152

[سورة النساء (4): الآيات 115 الى 116]

وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً (115) إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (116)

و بعد ذكر حال أهل الكفر و النفاق بيّن مآلهم، فقال: وَ مَنْ يُشاقِقِ الرَّسُولَ يخالفه، من الشقّ و هو الجانب، فإنّ كلّا من المتخالفين في شقّ غير شقّ الآخر مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُ الْهُدى ما ظهر له الحقّ، و قامت له الحجّة، و صحّت الأدلّة بثبوت نبوّته و رسالته، بالوقوف على المعجزات وَ يَتَّبِعْ غَيْرَ سَبِيلِ الْمُؤْمِنِينَ غير ما هم عليه من اعتقاد أو عمل نُوَلِّهِ ما تَوَلَّى نجعله واليا لما تولّى من الضلال، و نكله إليه. و المراد نخلّي بينه و بين ما اختاره لنفسه وَ نُصْلِهِ جَهَنَّمَ و ندخله فيها بطريق اللزوم و الدوام، عقوبة له على ما اختاره من الضلالة بعد وضوح الهدى عنده وَ ساءَتْ مَصِيراً جهنّم.

قيل: هي في طعمة و ارتداده و خروجه إلى مكّة، كما مرّ.

قال في المجمع: «و قد استدلّ بهذه الآية على أنّ إجماع الأمّة حجّة، لأنّه سبحانه توعّد على مخالفة سبيل المؤمنين، كما توعّد على مشاقّة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و الصحيح

أنّه لا يدلّ على ذلك، لأنّ ظاهر الآية يقتضي إيجاب متابعة من هو مؤمن على الحقيقة ظاهرا و باطنا، لأنّ من أظهر الإيمان لا يوصف بأنّه مؤمن إلّا مجازا، فكيف يحمل ذلك على إيجاب متابعة من أظهر الإيمان؟ و ليس كلّ من أظهر الإيمان مؤمنا.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 153

و متى حملوا الآية على بعض الأمّة حملها غيرهم على من هو مقطوع على عصمته عنده من المؤمنين، و هم الأئمّة من آل محمّد عليهم السّلام.

على أنّ ظاهر الآية يقتضي أنّ الوعيد إنّما يتناول من جمع بين مشاقّة الرسول و اتّباع غير سبيل المؤمنين، فمن أين لهم أنّ من فعل أحدهما يتناوله الوعيد. و نحن إنّما علمنا يقينا أنّ الوعيد يتناول بمشاقّة الرسول بانفرادها بدليل غير الآية، فيجب أن يسندوا تناول الوعيد باتّباع غير سبيل المؤمنين إلى دليل آخر» «1».

إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ كرّره للتأكيد، أو لقصّة طعمة.

و

قيل: جاء شيخ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال: إنّي شيخ منهمك في الذنوب، إلّا أنّي لم أشرك باللّه شيئا منذ عرفته و آمنت به، و لم أتّخذ من دونه وليّا، و لم أوقع المعاصي جرأة، و ما توهّمت طرفة عين أنّي أعجز اللّه هربا، و إنّي لنادم تائب، فما ترى حالي عند اللّه؟ فنزلت هذه الآية فيه.

وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً عن الحقّ، فإنّ الشرك أعظم أنواع الضلالة، و أبعدها عن الصواب و الاستقامة. و إنّما ذكر في الآية الأولى: فَقَدِ افْتَرى «2» لأنّها متّصلة بقصّة أهل الكتاب، و منشأ شركهم كان نوع افتراء، و هو دعوى التبنّي على اللّه

تعالى.

[سورة النساء (4): الآيات 117 الى 121]

إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ إِناثاً وَ إِنْ يَدْعُونَ إِلاَّ شَيْطاناً مَرِيداً (117) لَعَنَهُ اللَّهُ وَ قالَ لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً (118) وَ لَأُضِلَّنَّهُمْ وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ وَ مَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا مِنْ دُونِ اللَّهِ فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً (119) يَعِدُهُمْ وَ يُمَنِّيهِمْ وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (120) أُولئِكَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ لا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً (121)

______________________________

(1) مجمع البيان 3: 110- 111.

(2) النساء: 48.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 154

و لمّا ذكر في الآية المتقدّمة أهل الشرك و ضلالهم، ذكر في هذه الآية حالهم و فعالهم، فقال: إِنْ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا إِناثاً يعني: اللات و العزّى و مناة و نائلة و نحوها. و هي جمع أنثى، كرباب و ربّى «1». عن الحسن لم يكن حيّ من أحياء العرب إلّا و لهم صنم يعبدونه، و يسمّونه أنثى بني فلان، و ذلك إمّا لتأنيث أسمائها، و إمّا لأنّها كانت جمادات، و الجمادات تؤنّث من حيث إنّها ضاهت الإناث لانفعالها.

و لعلّه تعالى ذكر هذه الأصنام بهذا الاسم تنبيها على أنّهم يعبدون ما يسمّونه إناثا، لأنه ينفعل و لا يفعل، و من حقّ المعبود أن يكون فاعلا غير منفعل، ليكون دليلا على تناهي جهلهم و فرط حماقتهم.

و قيل: كانوا يقولون في أصنامهم: هنّ بنات اللّه. و قيل: المراد الملائكة، لقولهم: الملائكة بنات اللّه.

و ذكر أبو حمزة الثمالي في تفسيره قال: كان في كلّ واحدة منهنّ شيطانة أنثى تتراءى للسّدنة و تكلّمهم، و ذلك من صنع الشيطان الّذي ذكره سبحانه بعد ذلك.

وَ إِنْ يَدْعُونَ و ما يعبدون بعبادتها إِلَّا شَيْطاناً مَرِيداً عاريا عن الخير، لأنّه الّذي أغراهم بعبادتها

فأطاعوه، فجعل طاعتهم له في ذلك عبادة له. و المارد

______________________________

(1) الربّى: الشاة التي وضعت حديثا، و جمعها: رباب. الصحاح 1: 131.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 155

و المريد الّذي لا يعلق بخير. و أصله الملاسة، و منه: صَرْحٌ مُمَرَّدٌ «1»، و غلام أمرد، و شجرة مرداء للّتي تناثر ورقها.

لَعَنَهُ اللَّهُ صفة ثانية للشيطان، أي: أبعده اللّه عن الخير، بإيجاب الخلود في نار جهنّم وَ قالَ بعد أن لعنه اللّه لَأَتَّخِذَنَّ مِنْ عِبادِكَ نَصِيباً مَفْرُوضاً عطف عليه، أي: شيطانا مريدا جامعا بين لعنة اللّه و هذا القول الشنيع الدالّ على فرط عداوته للناس. و المفروض بمعنى المقطوع، أي: نصيبا قدّر لي و فرض، من قولهم:

فرض له في العطاء. و أصل الاتّخاذ أخذ الشي ء على وجه الاختصاص، فكلّ من أطاعه فإنّه من نصيبه و حزبه، كما قال سبحانه: كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلَّاهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ «2».

و

روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال في هذه الآية: «من بني آدم تسعة و تسعون في النار، و واحد في الجنّة».

و

في رواية أخرى: «من كلّ ألف واحد للّه، و سائرهم للنار و لإبليس».

أوردها أبو حمزة الثمالي في تفسيره.

و قد برهن سبحانه و تعالى أوّلا على أنّ الشرك ضلال في الغاية، على سبيل التعليل بأن ما يشركون به ينفعل و لا يفعل فعلا اختياريا، و ذلك ينافي الالوهيّة غاية المنافاة، فإنّ الإله ينبغي أن يكون فاعلا غير منفعل.

ثم استدلّ عليه بأنّه عبادة الشيطان، و هي أفظع الضلال لثلاثة أوجه:

الأوّل: أنّه مريد منهمك في الضلال، لا يعلّق بشي ء من الخير و الهدى، فتكون طاعته ضلالا بعيدا عن الهدى.

و الثاني: أنّه ملعون لضلاله، فلا تستجلب مطاوعته سوى الضلال و اللعن.

______________________________

(1) النمل: 44.

(2)

الحجّ: 4.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 156

و الثالث: أنّه في غاية العداوة و السعي في إهلاكهم، و موالاة من هذا شأنه غاية الضلال، فضلا عن عبادته.

وَ لَأُضِلَّنَّهُمْ عن الحقّ. و إضلاله دعاؤه إلى الضلالة، و تسبيبه له بحبائله و غروره و وسوسته. وَ لَأُمَنِّيَنَّهُمْ الأماني الباطلة، كطول البقاء في الدنيا، و طول الأمل فيها، و تزيينها في نظرهم، و أن لا بعث و لا عقاب وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُبَتِّكُنَّ آذانَ الْأَنْعامِ يشقّونها، لتحريم ما أحلّه اللّه.

و

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام معناه: «و ليقطّعنّ الآذان من أصولها».

و هو عبارة عمّا كانت العرب تفعل بالبحائر «1»، فإنّهم كانوا يشقّون آذان الناقة إذا ولدت خمسة أبطن و جاء الخامس ذكرا، و حرّموا على أنفسهم الانتفاع بها. و سنذكر تفصيل ذلك في سورة المائدة «2» إن شاء اللّه تعالى.

وَ لَآمُرَنَّهُمْ فَلَيُغَيِّرُنَّ خَلْقَ اللَّهِ عن وجهه صورة أو صفة. و يندرج فيه ما قيل: من فق ء عين الحامي «3» و إعفائه عن الركوب، و خصاء العبيد، و الوشم «4» و الوشر، و اللواط و السحق و نحوهما، و عبادة الشمس و القمر، و تغيير فطرة اللّه الّتي هي الإسلام، و استعمال الجوارح و القوى فيما لا يعود على النفس كمالا، و لا يوجب لها من اللّه زلفى. و عموم اللفظ يمنع الخصاء مطلقا، لكن الفقهاء رخّصوا في خصاء البهائم للحاجة. و الجمل الأربع حكاية عمّا ذكره الشيطان نطقا أو أتاه فعلا.

عن ابن عبّاس و مجاهد و الحسن و قتادة: معنى خلق اللّه: دين اللّه و أمره.

______________________________

(1) جمع بحيرة، و بحر الناقة: شقّ أذنها.

(2) راجع ص: 332.

(3) الحامي: الفحل من الإبل الذي طال مكثه عندهم.

(4) و شم اليد: غرزها بإبرة ثم ذرّ

عليها النيلج، فصار فيها رسوم و خطوط. و الوشر: أن تحدّد المرأة أسنانها و ترقّقها. زبدة التفاسير، ج 2، ص: 157

و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و يؤيّده قوله سبحانه: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ «1». و المراد تحريم الحلال و تحليل الحرام.

وَ مَنْ يَتَّخِذِ الشَّيْطانَ وَلِيًّا ناصرا مِنْ دُونِ اللَّهِ بإيثاره ما يدعو إليه على ما أمر اللّه به، و مجاوزته عن طاعة اللّه إلى طاعته فَقَدْ خَسِرَ خُسْراناً مُبِيناً ظاهرا، إذ ضيّع رأس ماله، و بدّل مكانه من الجنّة بمكان من النار، و أيّ خسران أعظم من استبدال النار الجنّة؟! يَعِدُهُمْ مالا ينجزه وَ يُمَنِّيهِمْ مالا ينالون. و قيل: يعدهم الفقر إن أنفقوا مالهم في أبواب البرّ، و يمنّيهم طول البقاء في الدنيا و نعيمها ليؤثروها على الآخرة وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً و هو إظهار النفع فيما فيه الضرر. و هذا الوعد إمّا بالخواطر الفاسدة، أو بلسان أوليائه.

أُولئِكَ الّذين اتّخذوا الشيطان وليّا من دون اللّه، فاغترّوا بغروره، و تابعوه فيما دعاهم مَأْواهُمْ مستقرّهم جَهَنَّمُ وَ لا يَجِدُونَ عَنْها مَحِيصاً معدلا و مهربا، من: حاص يحيص، إذا عدل. و «عنها» حال منه، و ليس صلة له، لأنّه اسم مكان، و إن جعل مصدرا فلا يعمل أيضا فيما قبله.

[سورة النساء (4): آية 122]

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلاً (122)

و لمّا أوعد الكفّار بالعذاب الأليم، وعد المؤمنين بجنّات النعيم، فقال:

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَنُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا أي: وعده وعدا، و حقّ ذلك

حقّا. فالأوّل مؤكّد لنفسه، لأنّ

______________________________

(1) الروم: 30.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 158

مضمون الاسميّة الّتي قبله وعد. و الثاني مؤكّد لغيره. و يجوز أن ينتصب الموصول بفعل يفسّره ما بعده. و وعد اللّه تعالى بقوله: «سندخلهم» لأنّه بمعنى: نعدهم إدخالهم. و ينتصب «حقّا» على أنّه حال من المصدر.

وَ مَنْ أَصْدَقُ مِنَ اللَّهِ قِيلًا جملة مؤكّدة بليغة. و الاستفهام فيه معنى النفي، أي: لا أحد أصدق من اللّه قولا فيما أخبر و أوعد، و فيما وعد. و المقصود من الآية معارضة المواعيد الشيطانيّة الكاذبة لقرنائه بوعد اللّه الصادق لأوليائه، أو المبالغة في توكيده ترغيبا للعباد في تحصيله.

[سورة النساء (4): الآيات 123 الى 124]

لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ وَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ وَ لا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (123) وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ نَقِيراً (124)

و بعد ذكر الوعد و الوعيد قال: لَيْسَ بِأَمانِيِّكُمْ أي: ليس ما وعد اللّه تعالى من الثواب ينال بأمانيّكم أيّها المسلمون وَ لا أَمانِيِّ أَهْلِ الْكِتابِ و لا بأمانيّ اليهود و النصارى، و إنّما ينال بالإيمان و العمل الصالح.

و عن الحسن: ليس الإيمان بالتمنّي، و لكن ما وقر في القلب، و صدّقه العمل.

روي أنّ المسلمين و أهل الكتاب افتخروا فقال أهل الكتاب: نبيّنا قبل نبيّكم، و كتابنا قبل كتابكم، و نحن أولى باللّه منكم. و قال المسلمون: نحن أولى منكم، لأنّ نبيّنا خاتم النبيّين، و كتابنا يقضي على الكتب المتقدّمة، فنزلت هذه الآية.

و قيل: الخطاب مع المشركين. و يدلّ عليه تقدّم ذكرهم، أي: ليس الأمر بأمانيّ المشركين، و هو قولهم: لا جنّة و لا نار، و قولهم:

إن كان الأمر كما يزعم

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 159

هؤلاء لنكوننّ خيرا منهم و أحسن حالا، و لا أمانيّ أهل الكتاب، و هو قولهم: لَنْ يَدْخُلَ الْجَنَّةَ إِلَّا مَنْ كانَ هُوداً أَوْ نَصارى «1» و قولهم: لَنْ تَمَسَّنَا النَّارُ إِلَّا أَيَّاماً مَعْدُودَةً «2».

ثمّ قرّر ذلك و قال: مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً يُجْزَ بِهِ عاجلا و آجلا، لما

روي عن أبي هريرة قال: لمّا نزلت هذه الآية بكينا و حزنّا و قلنا: يا رسول اللّه ما أبقت هذه الآية من شي ء. فقال: أما و الّذي نفسي بيده إنّها فيكم أنزلت، و لكن أبشروا و قاربوا و سدّدوا، إنّه لا تصيب أحدا منكم مصيبة إلّا كفّر اللّه بها خطيئة، حتى الشوكة يشاكها أحدكم في قدمه. رواه الواحدي «3» في تفسيره مرفوعا.

و

روي أيضا لمّا نزل قال أبو بكر: فمن ينجو مع هذا يا رسول اللّه؟

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أما تحزن؟ أما تمرض؟ أما يصيبك الأذى؟ قال: بلى يا رسول اللّه. قال:

هو ذاك.

وَ لا يَجِدْ لَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً و لا يجد لنفسه إذا جاوز موالاة اللّه تعالى و نصرته من يواليه و ينصره في دفع العذاب عنه.

وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ بعضها أو شيئا منها، فإنّ كلّ أحد لا يتمكّن من كلّها، و ليس مكلّفا بها مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى في موضع الحال من المستكن في «يعمل» و «من» للبيان، أو من الصالحات، أي: كائنة من ذكر أو أنثى. و «من» للابتداء. وَ هُوَ مُؤْمِنٌ حال شرط اقتران العمل بها في استدعاء الثواب المذكور، تنبيها على أنّه لا اعتداد بالعمل دون الإيمان في استدعاء الثواب فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ نَقِيراً

بنقص شي ء من الثواب، و إذا لم ينقص ثواب المطيع

______________________________

(1) البقرة: 111.

(2) البقرة: 80.

(3) الوسيط 2: 119.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 160

فبالحريّ أن لا يزاد عقاب العاصي، لأنّ المجازي أرحم الراحمين، و لذلك اقتصر على ذكره عقيب الثواب.

و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و أبو بكر عن عاصم: يدخلون، على البناء للمفعول.

[سورة النساء (4): الآيات 125 الى 126]

وَ مَنْ أَحْسَنُ دِيناً مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ وَ اتَّبَعَ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلاً (125) وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطاً (126)

ثم بيّن سبحانه من يستحقّ الوعد الّذي ذكره قبل، فقال: وَ مَنْ أَحْسَنُ دِيناً الاستفهام للتقرير، أي: لا أحد أحسن اعتقادا مِمَّنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ أخلص نفسه للّه لا يعرف لها ربّا سواه. و قيل: بذل وجهه له في السجود. و في هذا الاستفهام تنبيه على أنّ ذلك منتهى ما تبلغه القوّة البشريّة وَ هُوَ مُحْسِنٌ آت بالحسنات، تارك للسيّئات.

و

في الحديث: «الإحسان أن تعبد اللّه كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك».

وَ اتَّبَعَ و اقتدى مِلَّةَ إِبْراهِيمَ الموافقة لدين الإسلام المتّفق على صحّتها، كالإقرار بالتوحيد و عدله، و تنزيهه عمّا لا يليق به، و فعل الصلاة إلى الكعبة، و الطواف حولها، و سائر المناسك حَنِيفاً مائلا عن سائر الأديان الباطلة إلى دين الحقّ، من: تحنّف بمعنى: مال. و هو حال من المتّبع، أو الملّة، أو إبراهيم وَ اتَّخَذَ اللَّهُ إِبْراهِيمَ خَلِيلًا أي: اصطفاه، و خصّصه بكرامة تشبه كرامة الخليل عند

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 161

خليله. و إنّما أعاد ذكره و لم يضمر تفخيما له، و تنصيصا على أنّه الممدوح.

و الخلّة من الخلال، فإنّه ودّ تخلّل

النفس و خالطها. و قيل: من الخلل، فإنّ كلّ واحد من الخليلين يسدّ خلل الآخر. أو من الخلّ، و هو الطريق في الرمل، فإنّهما يترافقان في الطريقة. أو من الخلّة بمعنى الخصلة، فإنّهما يتوافقان في الخصال. أو من الخلّة و الخلولة بمعنى الفقر و الاحتياج، لأنّه افتقر إلى اللّه عزّ و جلّ حسب، و توكّل عليه، و انقطع بحوائجه إليه، و اشتغل به عمّا سواه.

و هذه الجملة استئناف جي ء بها للترغيب في اتّباع ملّته، و الإيذان بأنّه نهاية في الحسن، و غاية كمال البشر، فيجب التبعيّة في ملّته.

و

روى عليّ بن إبراهيم، عن هارون بن مسلم، عن مسعدة بن صدقة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنّه كان إبراهيم عليه السّلام يضيف الضيفان، و يطعم المساكين، و الناس أصابهم جدب و قحط في سنة، فبعث إلى خليل له بمصر يلتمس منه طعاما لأهله.

فقال خليله: لو كان إبراهيم يريد لنفسه لفعلت، و لكن يريد للأضياف، و قد أصابنا ما أصاب الناس.

فاجتاز غلمانه ببطحاء «1» ليّنة، فملؤا منها الغرائر «2» حياء من الناس. فلمّا أخبروا إبراهيم عليه السّلام ساءه الخبر، فغلب النوم عينيه فنام، و قامت سارة إلى غرارة منها فأخرجت أحسن الحوّارى «3» فاختبزت. فاستيقظ إبراهيم عليه السّلام فاشتمّ رائحة الخبز، فقال: من أين لكم هذا؟

فقالت: من خليلك المصري.

______________________________

(1) البطحاء: مسيل فيه دقاق الحصى، و بطحاء الوادي: تراب ليّن ممّا جرّته السيول.

(2) الغرارة واحدة الغرائر التي للتّبن، أي: وعاء للتّبن. انظر الصحاح 2: 769.

(3) الحوّارى بالضمّ و تشديد الواو و الراء مفتوحة: الدقيق الأبيض، و هو لباب الدقيق و أجوده و أخلصه. لسان العرب 4: 220. زبدة التفاسير، ج 2، ص: 162

فقال: بل هو من عند خليلي اللّه

عزّ و جلّ، فسمّاه اللّه خليلا.

وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ خلقا و ملكا، يختار منهما ما يشاء و من يشاء، كما اختار إبراهيم عليه السّلام بالخلّة.

و قيل: هو متّصل بذكر العمّال، مقرّر لوجوب طاعته على أهل السماوات و الأرض، و كمال قدرته على مجازاتهم على الأعمال.

وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطاً إحاطة علم و قدرة، فكان عالما بأعمالهم، فيجازيهم على خيرها و شرّها.

[سورة النساء (4): الآيات 127 الى 128]

وَ يَسْتَفْتُونَكَ فِي النِّساءِ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَّ وَ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ فِي يَتامَى النِّساءِ اللاَّتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَّ وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ وَ أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً (127) وَ إِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها نُشُوزاً أَوْ إِعْراضاً فَلا جُناحَ عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ وَ أُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَّ وَ إِنْ تُحْسِنُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (128)

و اعلم أنّ اللّه سبحانه لمّا صدّر السورة بذكر الأيتام و النساء، و بيان سهام إرثهم، و الأمر بمراعاة حقوقهم و الشفقة عليهم، لأنّهم أضعف الناس، عاد هاهنا إلى ذكرهم تأكيدا و مبالغة، بعد انجرار الكلام إلى مباحث غيرهم، و نحن بيّنّا وجه

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 163

ارتباط بعضها ببعض، فقال سبحانه: وَ يَسْتَفْتُونَكَ أي: يسألونك الفتوى، و هو تبيين المشكل من الأحكام، و يستخبرونك يا محمد عن الحكم فِي النِّساءِ فيما يجب لهنّ من ميراثهنّ.

روي في سبب نزوله أنّ عيينة بن حصين أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: أخبرنا أنّك تعطي الابنة النصف و الأخت النصف، و إنّما كنّا نورّث من يشهد

القتال و يحوز الغنيمة. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كذلك أمرت.

و ذلك قوله سبحانه: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِيهِنَ يبيّن لكم حكمه فيهنّ.

وَ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ عطف على اسم اللّه تعالى، أو ضميره المستكن في «يفتيكم»، و ساغ للفصل. فيكون الإفتاء مسندا إلى اللّه تعالى، و إلى ما في القرآن من قوله: يُوصِيكُمُ اللَّهُ «1»، باعتبارين مختلفين. و نظيره: أعجبني زيد و كرمه، و أغناني زيد و عطاؤه.

أو استئناف معترض، لتعظيم المتلوّ عليهم. فيكون «ما يتلى عليكم» مبتدأ، و «في الكتاب» خبره. و المراد به اللوح المحفوظ.

و يجوز أن ينصب على معنى: و يبيّن لكم ما يتلى في الكتاب. أو يخفض على القسم، كأنّه قيل: و أقسم بما يتلى في الكتاب.

و لا يجوز عطفه على المجرور في «فيهنّ» لاختلاله لفظا و معنى. أما لفظا فلأنّه لا يجوز أن يعطف على الضمير المجرور بلا إعادة الجارّ. و أما معنى فلأنه لا يستقيم المعنى أن يقال: في حقّ ما يتلى عليكم.

و قوله: فِي يَتامَى النِّساءِ صلة «يتلى» إن عطف الموصول على ما قبله، أي: يتلى عليكم في شأنهنّ، كما تقول: كلّمتك اليوم في زيد، و إلّا فبدل من «فيهنّ» أو صلة اخرى ل «يفتيكم فيهنّ». و إضافة «يتامى» إلى «النساء» بمعنى «من» لأنها

______________________________

(1) النساء: 11- 12.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 164

إضافة الشي ء إلى جنسه، نحو: ثوب خزّ، و سحق «1» عمامة.

اللَّاتِي لا تُؤْتُونَهُنَّ ما كُتِبَ لَهُنَ أي: لا تعطونهنّ ما فرض لهنّ من الميراث وَ تَرْغَبُونَ أَنْ تَنْكِحُوهُنَ في أن تنكحوهنّ، أو عن أن تنكحوهنّ، إذ قد روي أن في الجاهليّة كان الرجل منهم يضمّ اليتيمة و مالها إلى نفسه، فإن كانت جميلة تزوّجها

و أكل المال، و إن كانت دميمة «2» عضلها عن التزوّج حتى تموت فيرثها.

و الواو تحتمل الحال و العطف.

و قوله: وَ الْمُسْتَضْعَفِينَ مِنَ الْوِلْدانِ عطف على «يتامى النساء». و كانوا في الجاهليّة لا يورّثونهم كما لا يورّثون النساء، بل إنّما يورّثون الرجال الّذين يقومون بالأمور، دون الأطفال و النساء كما مرّ.

وَ أَنْ تَقُومُوا لِلْيَتامى بِالْقِسْطِ أيضا عطف عليه، أي: و يفتيكم أو ما يتلى عليكم في يتامى النساء، و في المستضعفين من الصبيان، أن تعطوهم حقوقهم، و في أن تقوموا لليتامى بالعدل في أنفسهم و في مواريثهم، أن تعطوا كلّ ذي حقّ منهم حقّه، صغيرا كان أو كبيرا، ذكرا كان أو أنثى. و يجوز أن يكون منصوبا، بمعنى:

و يأمركم أن تقوموا.

و هذا خطاب للأئمّة في أن ينظروا لهم، و يستوفوا حقوقهم، أو للقوّام بالنصفة في شأنهم.

وَ ما تَفْعَلُوا مِنْ خَيْرٍ من عدل و غيره من وجوه البرّ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِهِ عَلِيماً وعد لمن آثر الخير في ذلك.

عن أبي جعفر صلوات اللّه عليه و سعيد بن المسيّب أنّه كانت بنت محمد بن سلمة عند رافع بن خديج، و كانت قد دخلت في السنّ، و كانت عنده امرأة شابّة

______________________________

(1) السّحق: الثوب البالي. و سحق ثوب، أي: بال.

(2) دمّ يدمّ دمامة: كان حقيرا و قبح منظره، فهو دميم، و مؤنّثه: دميمة. زبدة التفاسير، ج 2، ص: 165

سواها، فطلّقها تطليقة حتى إذا بقي من أجلها يسير قال: إن شئت راجعتك و صبرت على الأثرة «1»، و إن شئت تركتك. قالت: بلى راجعني و أصبر على الأثرة، فراجعها.

فهذا الصلح الّذي بلغنا أنّ اللّه تعالى أنزل فيه.

وَ إِنِ امْرَأَةٌ خافَتْ مِنْ بَعْلِها توقّعت منه لما ظهر لها من الأمارات. و «امرأة»

فاعل فعل يفسّره الظاهر نُشُوزاً تجافيا عنها، و ترفّعا عن صحبتها، و استعلاء و ارتفاعا بنفسه عنها إلى غيرها، كراهة لها و منعا لحقوقها أَوْ إِعْراضاً بأن يقلّ مجالستها و محادثتها و مؤانستها، لطعن في سنّ، أو شي ء في خلق أو خلق، أو طموح عين إلى أخرى، أو غير ذلك فَلا جُناحَ فلا حرج و لا إثم عَلَيْهِما أَنْ يُصْلِحا بَيْنَهُما صُلْحاً أن يتصالحا، بأن تحطّ له بعض المهر أو القسم، أو تهب له شيئا تستميله به.

و قرأ الكوفيّون: أن يصلحا، من أصلح بين المتنازعين. و على هذا جاز أن ينتصب «صلحا» على المفعول به، و «بينهما» ظرف أو حال منه. أو على المصدر كما في القراءة الأولى، و المفعول «بينهما».

وَ الصُّلْحُ خَيْرٌ من الفرقة أو سوء العشرة، أو من الخصومة و الإعراض. أو لا يراد به التفضيل، بأن يراد أنّ الصلح خير من الخيور، كما أنّ الخصومة من الشرور. و هو اعتراض. و كذا قوله: وَ أُحْضِرَتِ الْأَنْفُسُ الشُّحَ و لذلك اغتفر عدم تجانسهما. و الأوّل للترغيب في المصالحة، و الثاني لتمهيد العذر في المماكسة.

و معنى إحضار الأنفس الشحّ جعلها حاضرة له لا يغيب عنها أبدا، إذ هو كالمطبوعة عليه في اللزوم، فلا تكاد المرأة تسمح بالإعراض عن قسمتها و التقصير في حقّها، و لا الرجل يسمح بأن يمسكها و يقوم بحقّها على ما ينبغي إذا كرهها أو أحبّ غيرها.

______________________________

(1) الأثرة: الاختيار، أي: إن شئت راجعتك و صبرت على اختياري المرأة الشابّة.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 166

وَ إِنْ تُحْسِنُوا بالإقامة على نسائكم و إن كرهتموهنّ، و تصبروا على ذلك وَ تَتَّقُوا النشوز و الإعراض و نقص الحقّ، و ما يؤدّي إلى الأذى و الخصومة فَإِنَّ

اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ من الإحسان و الخصومة خَبِيراً عليما به و بالغرض فيه، فيجازيكم عليه. أقام كونه عالما بأعمالهم مقام إثابته إيّاهم عليها الّذي هو في الحقيقة جواب الشرط، إقامة السبب مقام المسبّب، إذ العلم سبب المجازاة.

و

عن ابن عبّاس أنّ سودة بنت زمعة خشيت أن يطلّقها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالت: لا تطلّقني و أجلسني مع نسائك، و لا تقسم لي و اجعل يومي لعائشة، فنزلت الآية.

[سورة النساء (4): الآيات 129 الى 130]

وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ وَ إِنْ تُصْلِحُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (129) وَ إِنْ يَتَفَرَّقا يُغْنِ اللَّهُ كُلاًّ مِنْ سَعَتِهِ وَ كانَ اللَّهُ واسِعاً حَكِيماً (130)

و لمّا تقدّم ذكر النشوز و الصلح بين الزوجين، عقّبه سبحانه بأنّه لا يكلّف من ذلك ما لا يستطاع، فقال: وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ أي: لا تقدروا أبدا أن تسوّوا بين النساء في المحبّة و المودّة في القلب وَ لَوْ حَرَصْتُمْ على تحرّي ذلك و بالغتم فيه، لأنّ العدل أن لا يقع ميل البتّة، و هو متعذّر. و لذلك كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقسم بين نسائه فيعدل و

يقول: اللّهمّ هذه قسمي فيما أملك، فلا تؤاخذني فيما تملك و لا أملك،

يعني: المحبّة.

قيل: إنّ العدل بينهنّ صعب، و هو أن يسوّي بينهنّ في القسمة و النفقة و التعهّد و النظر و المؤانسة، و غير ذلك ممّا لا يحصى، فهو كالخارج عن حدّ الاستطاعة. هذا

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 167

إذا كنّ محبوبات كلّهنّ، فكيف إذا مال القلب مع بعضهنّ؟! فَلا تَمِيلُوا كُلَّ الْمَيْلِ و لا تعدلوا بأهوائكم

عمّن لم تملكوا محبّة منهنّ كلّ العدول بترك المستطاع أيضا، و الجور على المرغوب عنها، فإنّ ما لا يدرك كلّه لا يترك كلّه، فلا تجوروا عليهنّ في ترك أداء الواجب لهنّ عليكم، من حقّ القسمة و النفقة و الكسوة و العشرة بالمعروف من غير رضا منها فَتَذَرُوها كَالْمُعَلَّقَةِ الّتي ليست ذات بعل و لا مطلّقة.

ذكر عليّ بن إبراهيم في تفسيره أنّه سأل رجل من الزنادقة أبا جعفر الأحول عن قوله تعالى: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا فَواحِدَةً «1» ثمّ قال وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا بَيْنَ النِّساءِ وَ لَوْ حَرَصْتُمْ فبين القولين فرق. فقال أبو جعفر الأحول: فلم يكن في ذلك عندي جواب حتى قدمت المدينة، فدخلت على أبي عبد اللّه عليه السّلام، فسألته عن ذلك، فقال: أمّا قوله: فَإِنْ خِفْتُمْ أَلَّا تَعْدِلُوا «2» فإنّما عني به التفقّه.

و أمّا قوله: وَ لَنْ تَسْتَطِيعُوا أَنْ تَعْدِلُوا فإنّه عنى به المودّة، فإنّه لا يقدر أحد أن يعدل بين امرأتين في المودّة. قال: فرجعت إلى الرجل فأخبرته، فقال: هذا ما حملته الإبل من الحجاز» «3».

و

روى أبو قلابة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من كانت له امرأتان، فكان إذا كان يوم واحدة لا يتوضّا في بيت الاخرى».

و

ايضا عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من كانت له امرأتان يميل مع إحداهما، جاء يوم القيامة و أحد شقّيه مائل».

وَ إِنْ تُصْلِحُوا ما كنتم تفسدون من أمورهنّ في القسمة و التسوية

______________________________

(1) النساء: 3.

(2) النساء: 3.

(3) تفسير القمّي 1: 155.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 168

وَ تَتَّقُوا فيما يستقبل في أمرهنّ، و تتركوا الميل الّذي نهاكم اللّه عنه فَإِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً فيغفر لكم ما مضى من ميلكم، من الحيف

و الميل في ذلك رَحِيماً يرحمكم بترك المؤاخذة على ذلك.

وَ إِنْ يَتَفَرَّقا و إن فارق كلّ واحد منهما صاحبه، و أبيا الصلاح بينهما يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا اي: يرزقه اللّه زوجا خيرا من زوجه، و عيشا أهنأ من عيشه مِنْ سَعَتِهِ من غناه وسعة فضله، و رزقه من كمال قدرته. و السعة بمعنى الغنى و المقدرة. و الواسع الغنيّ المقتدر. وَ كانَ اللَّهُ واسِعاً واسع الفضل على عباده، مقتدرا متقنا في أفعاله و أحكامه حَكِيماً فيما يدبّرهم.

[سورة النساء (4): الآيات 131 الى 132]

وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ لَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ إِيَّاكُمْ أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ غَنِيًّا حَمِيداً (131) وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (132)

ثمّ نبّه على كمال سعته و قدرته بقوله: وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ فإنّ من يملك ما في السماوات و ما في الأرض لا يتعذّر عليه الإغناء بعد الفرقة، و الإيناس بعد الوحشة.

ثمّ ذكر الوصيّة بالتقوى عن نواهيه، فإنّ بها ينال خير الدنيا و الآخرة، فقال:

وَ لَقَدْ وَصَّيْنَا الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ من اليهود و النصارى و غيرهم في كتبهم وَ إِيَّاكُمْ و وصيناكم أيضا أيّها المسلمون في كتابكم أَنِ اتَّقُوا اللَّهَ بأن اتّقوا اللّه. يعني: التقوى وصيّة قديمة ما زال يوصي اللّه بها عباده، لأنّ بالتقوى تنال

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 169

النجاة و السعادة. و يجوز أن تكون «أن» مفسّرة، لأنّ التوصية في معنى القول.

وَ إِنْ تَكْفُرُوا على إرادة القول، أي: و قلنا لهم: و لكم أن تكفروا- أي:

تجحدوا- وصيّته

إيّاكم فتخالفوها فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ فإنّ اللّه مالك الملك كلّه، لا يتضرّر بكفركم و معاصيكم، كما لا ينتفع بشكركم و تقواكم.

و إنّما وصّاكم لرحمته، لا لحاجته و لا لاستنصاره بكم.

ثمّ قرّر ذلك بقوله: وَ كانَ اللَّهُ غَنِيًّا عن الخلق و عبادتهم حَمِيداً في ذاته، حمد أو لم يحمد، لأنّه المنعم لا غير.

وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ذكره ثالثا للدلالة على كونه غنيّا حميدا، فإنّ جميع المخلوقات تدلّ لحاجتها على غناه، و بما فاض عليها من الوجود و أنواع الخصائص و الكمالات على كونه حميدا.

و قوله: وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا راجع إلى قوله: «يُغْنِ اللَّهُ كُلًّا مِنْ سَعَتِهِ» فإنّه توكّل بكفايتهما. و ما بينهما تقرير لذلك.

[سورة النساء (4): آية 133]

إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أَيُّهَا النَّاسُ وَ يَأْتِ بِآخَرِينَ وَ كانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ قَدِيراً (133)

و كذا لتقرير غناه و قدرته، و تهديد من كفر به و خالف أمره، قال: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ يفنيكم و يعدمكم أَيُّهَا النَّاسُ و مفعول «يشأ» محذوف دلّ عليه الجواب وَ يَأْتِ بِآخَرِينَ و يوجد قوما آخرين مكانكم. أو خلقا آخرين مكان الإنس. وَ كانَ اللَّهُ عَلى ذلِكَ من الإعدام و الإيجاد قَدِيراً بليغ القدرة، لا يعجزه مراد.

قيل: هذه الآية خطاب لمن عادى رسول اللّه عليه السّلام من العرب. و معناه معنى

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 170

قوله: وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ «1». لما

روي أنّه لمّا نزل ضرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يده على ظهر سلمان و قال: «إنّهم قوم هذا»

يعني: أبناء فارس.

[سورة النساء (4): آية 134]

مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ كانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً (134)

ثمّ ذكر سبحانه عظم ملكه و قدرته بأنّ جزاء الدارين عنده، فقال: مَنْ كانَ يُرِيدُ ثَوابَ الدُّنْيا كالمجاهد يجاهد للغنيمة فَعِنْدَ اللَّهِ ثَوابُ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ فماله يطلب أخسّهما؟ فليطلبهما، كمن يقول: رَبَّنا آتِنا فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ حَسَنَةً «2». أو ليطلب الأشرف منهما، فإنّ من جاهد خالصا للّه تعالى لم تخطئه الغنيمة، و له في الآخرة ما هي في جنبه كلا شي ء. أو فعند اللّه ثواب الدارين، فيعطي كلّا ما يريده، لقوله: مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ «3» الآية.

وَ كانَ اللَّهُ سَمِيعاً بَصِيراً عالما عارفا بالأغراض، فيجازي كلّا بحسب قصده.

[سورة النساء (4): آية 135]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ شُهَداءَ لِلَّهِ وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا وَ إِنْ تَلْوُوا أَوْ تُعْرِضُوا فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (135)

و لمّا ذكر سبحانه أنّ عنده ثواب الدنيا و الآخرة، عقّبه بأمر العباد بالقسط،

______________________________

(1) محمّد: 38.

(2) البقرة: 201.

(3) الشورى: 20.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 171

و القيام بالحقّ، و ترك الميل و الجور، لينالوا ما عنده من ثواب الدارين، فقال:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ مواظبين على العدل، مجتهدين في إقامته، حتّى لا تجوروا أصلا شُهَداءَ لِلَّهِ بالحقّ، تقيمون شهاداتكم لوجه اللّه كما أمركم بإقامتها. و هذا خبر ثان، أو حال. وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ و لو كانت الشهادة على أنفسكم، بأن تقرّوا عليها، لأنّ الشهادة بيان الحقّ، سواء كان عليه أو على غيره أَوِ الْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ و لو على والديكم

و أقاربكم إِنْ يَكُنْ أي:

المشهود عليه، أو كلّ واحد منه و من المشهود له غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً فلا تمتنعوا عن إقامة الشهادة عليه لغناه، و لا تجوروا فيها ميلا و ترحّما عليه لفقره فَاللَّهُ أَوْلى بِهِما بالغنيّ و الفقير، و بالنظر لهما. فلو لم تكن الشهادة عليهما أولهما صلاحا لما شرعها. و هو علّة الجواب، أقيمت مقامه.

و الضمير في «بهما» راجع إلى ما دلّ عليه قوله: «إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً» لا إلى أحد المذكورين، فلذلك ثنّى و لم يفرد. و هو جنس الغنيّ و جنس الفقير. كأنّه قيل: فاللّه أولى بجنس الغنيّ و الفقير، أي: بالأغنياء و الفقراء. فلا يرد: أن الأولى أن لا يثنّى الضمير في «أولى بهما» بل حقّه أن يوحّد، لأنّ قوله: «إِنْ يَكُنْ غَنِيًّا أَوْ فَقِيراً» في معنى: إن يكن أحد هذين. و يشهد على هذا المعنى أنّه قرئ: فاللّه أولى بهم.

فَلا تَتَّبِعُوا الْهَوى أَنْ تَعْدِلُوا لأن تعدلوا عن الحقّ. أو كراهة أن تعدلوا، من العدل. وَ إِنْ تَلْوُوا ألسنتكم عن شهادة الحقّ، أو حكومة العدل. و قرأ ابن عامر و حمزة: و إن تلوا، بضمّ اللام و سكون الواو، على معنى: و إن ولّيتم إقامة الشهادة أَوْ تُعْرِضُوا عن أدائها فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فيجازيكم عليه.

و في هذه الآية دلالة على وجوب الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر،

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 172

و سلوك طريق العدل في النفس و الغير.

[سورة النساء (4): الآيات 136 الى 139]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ عَلى رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ مِنْ قَبْلُ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً بَعِيداً (136)

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلاً (137) بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (138) الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً (139)

و لمّا بيّن سبحانه أحكام الإيمان و شعائره، عقّبه بالثبات فيه، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اي: ثبتوا و داموا على الإيمان آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ الْكِتابِ الَّذِي نَزَّلَ منجّما عَلى رَسُولِهِ يعني: القرآن وَ الْكِتابِ الَّذِي أَنْزَلَ دفعة مِنْ قَبْلُ المراد به جنس الكتب، أي: بكلّ الكتاب الّذي أنزل قبل القرآن.

و قيل: الخطاب للمنافقين. و المعنى: يا أيّها الّذين أظهروا الإيمان، آمنوا به بقلوبكم كما آمنتم بلسانكم.

و قيل: إنّ هذه الآية نزلت في ابن سلام و أصحابه، إذ قالوا: يا رسول اللّه إنّا نؤمن بك و بكتابك و بموسى و التوراة و عزير، و نكفر بما سواه. فالمعنى: يا أيّها الّذين آمنوا ببعض الرسل و الكتب، آمنوا إيمانا عامّا يعمّ الكتب و الرسل، فإنّ الإيمان بالبعض كلا إيمان. و بعد نزول هذه الآية آمنوا كلّهم.

و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و ابن عامر: نزّل و انزل على البناء للمفعول.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 173

وَ مَنْ يَكْفُرْ بِاللَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ كُتُبِهِ وَ رُسُلِهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ و من يكفر بشي ء من ذلك فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا بَعِيداً عن المقصد بحيث لا يكاد يعود إلى طريقه، لأنّ الكفر بالبعض كفر بالكلّ، ألا ترى كيف قدّم الإيمان بالجميع.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا يعني: اليهود آمنوا بموسى عليه السّلام ثُمَّ كَفَرُوا به حين عبدوا العجل ثُمَّ آمَنُوا بعد عوده إليهم ثُمَّ كَفَرُوا بعيسى عليه السّلام

ثُمَّ ازْدادُوا كُفْراً بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و قيل: هم طائفة من أهل الكتاب أرادوا تشكيك المسلمين بإظهار الإيمان ثمّ بإظهار الكفر به، كما تقدّم ذكرهم عند قوله: آمِنُوا بِالَّذِي أُنْزِلَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَجْهَ النَّهارِ وَ اكْفُرُوا آخِرَهُ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ «1».

و قيل: هم قوم تكرّر منهم الارتداد، ثمّ أصرّوا على الكفر و ازدادوا تماديا في الغيّ.

و قيل: هم المنافقون أظهروا الإيمان بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثمّ الكفر به، ثمّ الايمان به، ثمّ الكفر به، ثمّ ازدادوا كفرا بإصرارهم على الكفر حتّى ماتوا عليه.

و عن ابن عبّاس: دخل في هذه الآية كلّ منافق كان في عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ بإظهارهم الإيمان، فلو كانت بواطنهم كظواهرهم في الإيمان لما كفروا فيما بعد وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ سَبِيلًا سبيل الجنّة، كما قال فيما بعد: وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ «2». أو المعنى: أنّه يخذلهم

______________________________

(1) آل عمران: 72.

(2) النساء: 168- 169.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 174

و لا يلطف بهم، عقوبة لهم على كفرهم المتقدّم، إذ يستعبد منهم أن يتوبوا عن الكفر و يثبتوا على الإيمان الصحيح، لأنّ قلوب أولئك الّذين هذا ديدنهم قلوب قد ضربت بالكفر و مرنت على الردّة، و كان الإيمان أهون شي ء عندهم و أدونه.

و ليس المعنى: أنّهم لو أخلصوا الإيمان بعد تكرار الردّة و نصحت توبتهم لم، يقبل منهم و لم يغفر لهم لأنّ ذلك مقبول مستوجب للغفران و الهداية. و اللام للمبالغة في النفي. و خبر «كان» محذوف، أي: و ما كان اللّه أن يوفّقهم بالايمان ليغفر لهم.

و يدلّ على أنّ هذه الآية في المنافقين قوله

بعد ذلك: بَشِّرِ الْمُنافِقِينَ أي:

أخبرهم يا محمد بِأَنَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً فإنّهم قد آمنوا في الظاهر و كفروا في السرّ مرّة بعد أخرى، ثم ازدادوا كفرا بالإصرار على النفاق و إفساد الأمر على المؤمنين.

و وضع «بشّر» مكان «أنذر» تهكّم بهم.

الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ في محلّ النصب أو الرفع على الذمّ، بمعنى: أريد الّذين، أو هم الّذين كانوا يوالون الكفرة، و يطلبون عندهم العزّة و الغلبة، باتّخاذهم إيّاهم أولياء من دون المؤمنين. فردّ اللّه تعالى عليهم بقوله: أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ أ يتعزّزون بموالاتهم فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً لا يتعزّز إلّا من أعزّه، و قد كتب العزّة لأوليائه فقال: وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ «1»، لا يعتدّ بعزّة غيرهم بالإضافة إليهم.

______________________________

(1) المنافقون: 8.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 175

[سورة النساء (4): الآيات 140 الى 141]

وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَ الْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً (140) الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ وَ إِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ قالُوا أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ وَ نَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلاً (141)

روي أنّ المنافقين كانوا يجلسون إلى أحبار اليهود فيسخرون من القرآن، فأخبر اللّه تعالى عن حالهم، و نهى المؤمنين عن مجالستهم و مخالطتهم، فقال:

وَ قَدْ نَزَّلَ عَلَيْكُمْ فِي الْكِتابِ يعني: القرآن. و قرأ به عاصم و يعقوب. و قرأ الباقون:

نزّل على البناء للمفعول، و القائم مقام فاعله قوله: أَنْ إِذا سَمِعْتُمْ آياتِ اللَّهِ و هي المخفّفة.

و المعنى: أنّه إذا سمعتم آيات اللّه يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها حالان من الآيات لتقييد النهي عن المجالسة في قوله: فَلا تَقْعُدُوا مَعَهُمْ و الضمير للكفرة المدلول عليهم بقوله: «يُكْفَرُ بِها وَ يُسْتَهْزَأُ بِها» كأنّه قيل: فلا تقعدوا مع الكافرين بها و المستهزئين بها.

حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ و المراد به ما نزل عليهم بمكّة من قوله:

وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ «1». و ذلك أنّ المشركين كانوا يخوضون في ذكر القرآن فيستهزءون به، فنهي المسلمون عن القعود معهم. و كان اليهود في المدينة يفعلون مثل فعلهم، فنهوا أن يجلسوا معهم. و كان المنافقون يجالسونهم، فقيل لهم: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ يعني: إذا جالستموه على الخوض في كتاب اللّه و الهزء به فأنتم مثلهم في الإثم، لأنّكم

______________________________

(1) الأنعام: 68.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 176

قادرون على الإعراض عنهم و الإنكار عليهم. أو في الكفر إن رضيتم بذلك. أو لأنّ الّذين يقاعدون الخائضين في القرآن من الأحبار كانوا منافقين. و يدلّ عليه: إِنَّ اللَّهَ جامِعُ الْمُنافِقِينَ وَ الْكافِرِينَ فِي جَهَنَّمَ جَمِيعاً يعني: القاعدين و المقعود معهم.

و «إذا» ملغاة، لوقوعها بين الاسم و الخبر، و لذلك لم يذكر بعدها الفعل.

و إفراد «مثلهم» لأنّه كالمصدر، أو للاستغناء به، لإضافته إلى الجمع.

و في هذا دلالة على تحريم مجالسة الكفّار و الفسّاق و أهل البدع من أيّ جنس كانوا.

روى العيّاشي بإسناده عن عليّ بن موسى الرضا عليه السّلام في تفسير هذه الآية قال: «إذا سمعت الرجل يجحد الحقّ و يكذّب به، و يقع في أهله، فقم من عنده، و لا تقاعده» «1».

الَّذِينَ يَتَرَبَّصُونَ بِكُمْ ينتظرون وقوع أمركم. و هو بدل من «الّذين يتّخذون»،

أو صفة للمنافقين و الكافرين، أو ذمّ مرفوع أو منصوب، أو مبتدأ خبره فَإِنْ كانَ لَكُمْ فَتْحٌ مِنَ اللَّهِ قالُوا أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ مظاهرين لكم، فأسهموا لنا فيما غنمتم وَ إِنْ كانَ لِلْكافِرِينَ نَصِيبٌ من الحرب، للتهاون الواقع منكم في تدبير الحرب، و تقصيركم فيه. سمّى ظفر المسلمين فتحا و ظفر الكافرين نصيبا، تعظيما لشأن المسلمين، و تحقيرا لحظّ الكافرين، فإنّه مقصور على أمر دنيويّ سريع الزوال قالُوا للكافرين أَ لَمْ نَسْتَحْوِذْ عَلَيْكُمْ أي: قالوا للكفرة: ألم نغلبكم و نتمكّن من قتلكم فأبقينا عليكم؟

و الاستحواذ الاستيلاء. و كان القياس أن يقال: استحاذ يستحيذ استحاذة، فجاءت على الأصل.

وَ نَمْنَعْكُمْ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ بأن ثبّطناهم عنكم، بتخييل ما ضعفت به قلوبهم،

______________________________

(1) تفسير العيّاشي 1: 281 ح 290.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 177

و توانينا في مظاهرتهم عليكم، و أطلعناكم على أسرارهم، و أفضينا إليكم بأخبارهم، فاعرفوا لنا هذا الحقّ، و أشركونا فيما أصبتم.

فَاللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ أيّها المؤمنون و بين المنافقين يَوْمَ الْقِيامَةِ فيدخل المؤمنين الجنّة و المنافقين النار.

وَ لَنْ يَجْعَلَ اللَّهُ لِلْكافِرِينَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ سَبِيلًا حينئذ، أو في الدنيا.

و المراد بالسبيل الحجّة، و إن جاز أن يغلبوهم في الدنيا بالقوّة، و لكنّ المؤمنين منصورون بالدلالة و الحجّة.

قال الجبائي: و لو حملناه على الغلبة لكان ذلك صحيحا، لأنّ غلبة الكفّار للمؤمنين ليس ممّا فعل اللّه تعالى، فإنّه لا يفعل القبيح، و ليس كذلك غلبة المؤمنين للكفّار، فإنّه يجوز أن ينسب إليه تعالى.

و احتجّ به أصحابنا و الشافعيّة على فساد شراء الكافر المسلم.

[سورة النساء (4): الآيات 142 الى 143]

إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ وَ هُوَ خادِعُهُمْ وَ إِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى يُراؤُنَ النَّاسَ وَ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلاَّ قَلِيلاً (142) مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ لا إِلى

هؤُلاءِ وَ لا إِلى هؤُلاءِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلاً (143)

ثمّ بيّن سبحانه أفعالهم القبيحة، فقال: إِنَّ الْمُنافِقِينَ يُخادِعُونَ اللَّهَ أي:

يفعلون فعل المخادع، من إظهار الايمان و إبطان الكفر وَ هُوَ خادِعُهُمْ من:

خادعته فخدعته، أي: فاعل بهم ما يفعل الغالب في الخداع، حيث عصم دماءهم و أموالهم في الدنيا، و كلّفهم بالأمور الشرعيّة، و أعدّ لهم الدرك الأسفل من النار في الآخرة. و قد مرّ الكلام فيه أوّل سورة البقرة «1».

______________________________

(1) راجع ج 1: 60.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 178

وَ إِذا قامُوا إِلَى الصَّلاةِ قامُوا كُسالى متثاقلين لا عن رغبة، كالمكره على الفعل يُراؤُنَ النَّاسَ يقصدون بصلاتهم الرياء و السمعة. و المراءاة مفاعلة بمعنى التفعيل، ك: نعّم و ناعم، أو للمقابلة، لأنّ المرائي يري الناس عمله، و هم يرونه استحسانه وَ لا يَذْكُرُونَ اللَّهَ إِلَّا قَلِيلًا إذ المرائي لا يفعل إلّا بحضرة من يرائيه، و هو أقلّ أحواله. أو لأنّ ذكرهم باللسان قليل بالإضافة إلى الذكر بالقلب.

و قيل: المراد بالذكر الصلاة. يعني: لا يصلّون إلّا قليلا، لأنّهم لا يصلّون قطّ غائبين عن عيون الناس، و ما يجاهرون قليل.

و قيل: الذكر فيها، فإنّهم لا يذكرون فيها غير التكبير و التسليم.

مُذَبْذَبِينَ بَيْنَ ذلِكَ حال من واو «يراءون»، كقوله: «و لا يذكرون» أي:

يراءونهم غير ذاكرين مذبذبين، أو من واو «يذكرون»، أو منصوب على الذمّ.

و المذبذب هو الّذي يذبّ عن كلا الجانبين و يذاد و يدفع، فلا يقرّ في حال واحدة، من الذبذبة، و هو جعل الشي ء مضطربا. و أصله الذبّ بمعنى الطرد. و مذبذبهم الشيطان. فالمعنى: ذبذبهم و ردّدهم الشيطان بين الكفر و الإيمان، فهم متردّدون بينهما متحيّرون.

لا إِلى هؤُلاءِ وَ لا إِلى هؤُلاءِ لا منسوبين

إلى المؤمنين فيكونوا مؤمنين، و لا إلى الكافرين فيكونوا كافرين. أو لا صائرين إلى أحد الفريقين بالكلّيّة. و

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ مثلهم مثل الشاة العائرة «1» بين الغنمين، يتحيّر فينظر إلى هذه و إلى هذه».

وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ أي: يخذله و يخلّه فَلَنْ تَجِدَ لَهُ سَبِيلًا إلى الحقّ و الصواب. و نظيره قوله: وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ «2».

روى العيّاشي بإسناده إلى مسعدة بن زياد، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، عن

______________________________

(1) أي: المتردّدة بين قطيعين لا تدري أيّهما تتبع.

(2) النور: 40. زبدة التفاسير، ج 2، ص: 179

آبائه عليهم السّلام، أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سئل: فيما النجاة غدا؟

قال: «النجاة أن لا تخادعوا اللّه فيخدعكم، فإنّه من يخادع اللّه يخدعه، و نفسه يخدع لو شعر.

فقيل له: و كيف يخادع اللّه؟

قال: يعمل بما أمره اللّه ثم يريد غيره. فاتّقوا اللّه فاجتنبوا الرياء، فإنّه شرك باللّه، إنّ المرائي يوم القيامة يدعى بأربعة أسماء: يا كافر، يا فاجر، يا غادر، يا خاسر، حبط عملك، و بطل أجرك، و لا خلاق لك اليوم، فالتمس أجرك ممّن كنت تعمل له» «1».

[سورة النساء (4): الآيات 144 الى 146]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً (144) إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ نَصِيراً (145) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا وَ أَصْلَحُوا وَ اعْتَصَمُوا بِاللَّهِ وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ وَ سَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً (146)

ثم نهى سبحانه عن موالاة المنافقين، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ أنصارا،

فإنّه صنيع المنافقين و ديدنهم، فلا تتشبّهوا بهم في اتّخاذكم الكافرين أولياء مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ فتكونوا منهم أَ تُرِيدُونَ أَنْ تَجْعَلُوا لِلَّهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً مُبِيناً حجّة بيّنة، فإنّ موالاتهم دليل على النفاق، أو سلطانا يسلّط عليكم عقابه. و الاستفهام للتقرير.

______________________________

(1) تفسير العيّاشي 1: 283 ح 295.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 180

إِنَّ الْمُنافِقِينَ فِي الدَّرْكِ الْأَسْفَلِ مِنَ النَّارِ و هو الطبقة الّتي في قعر جهنّم.

و إنّما كان كذلك لأنّهم أخبث الكفرة، إذ ضمّوا إلى الكفر استهزاء بالإسلام و خداعا للمسلمين. و أمّا

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «ثلاث من كنّ فيه فهو منافق و إن صام و صلّى و زعم أنّه مسلم: من إذا حدّث كذب، و إذا وعد أخلف، و إذا ائتمن خان»

و نحوه فمن باب التشبيه و التغليظ.

و إنّما سمّيت طبقاتها السبع دركات لأنّها متداركة متتابعة بعضها فوق بعض.

و قرأ الكوفيّون بسكون الراء. و هي لغة كالسّطر و السّطر. و التحريك أوجه، لأنّه يجمع على أدراك.

وَ لَنْ تَجِدَ لَهُمْ لهؤلاء المنافقين نَصِيراً يخرجهم منه.

إِلَّا الَّذِينَ تابُوا عن النفاق وَ أَصْلَحُوا ما أفسدوا من نيّاتهم و أسرارهم و أحوالهم في حال النفاق وَ اعْتَصَمُوا بِاللَّهِ و ثقوا و تمسّكوا بدينه، كما يثق المؤمنون المخلصون و يتمسّكون به وَ أَخْلَصُوا دِينَهُمْ لِلَّهِ لا يريدون بطاعتهم إلّا وجهه سبحانه و تعالى فَأُولئِكَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ و من عدادهم و رفقائهم في الدارين.

و لم يقل: فأولئك المؤمنون أو من المؤمنين، غيظا عليهم.

وَ سَوْفَ يُؤْتِ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ أَجْراً عَظِيماً فيساهمونهم و يشاركونهم فيه.

و «سوف» كلمة ترجية و إطماع، و هي من اللّه سبحانه إيجاب، لأنّه سبحانه أكرم الأكرمين، و وعد الكريم إنجاز.

[سورة النساء (4): آية 147]

ما يَفْعَلُ اللَّهُ بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ وَ

آمَنْتُمْ وَ كانَ اللَّهُ شاكِراً عَلِيماً (147)

ثم خاطب المنافقين الّذين تابوا و آمنوا و أصلحوا أعمالهم، فقال: ما يَفْعَلُ اللَّهُ ما يصنع بِعَذابِكُمْ إِنْ شَكَرْتُمْ أي: أدّيتم الحقّ الواجب للّه عليكم،

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 181

و شكرتموه على نعمه وَ آمَنْتُمْ به و برسوله و بما جاء به من عند اللّه. أ يتشفّى به غيظا، أو يستجلب به نفعا، أو يستدفع به ضررا؟! لا بل هو الغنيّ المتعالي الّذي لا يجوز عليه شي ء من ذلك. و إنّما يعاقب المصرّ بكفره، لأنّ إصراره عليه كسوء مزاج يؤدّي إلى مرض، فإذا أزاله بالإيمان و الشكر، و نقّى عنه نفسه، تخلّص من تبعته.

و إنّما قدّم الشكر لأنّ الناظر يدرك النعمة أوّلا فيشكر شكرا مبهما، ثمّ يمعن النظر حتّى يعرف المنعم فيؤمن به.

وَ كانَ اللَّهُ شاكِراً مجازيكم على الشكر. فسمّى الجزاء باسم المجزيّ عليه، أي: مثيبا يقبل الشكر اليسير، و يعطي الجزيل عَلِيماً بحقّ شكركم و إيمانكم.

[سورة النساء (4): آية 148]

لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلاَّ مَنْ ظُلِمَ وَ كانَ اللَّهُ سَمِيعاً عَلِيماً (148)

قال عليّ بن عيسى: لمّا سبق ذكر النفاق، و هو الإظهار خلاف الإبطان، بيّن سبحانه أنّه ليس كلّ ما يقع في النفس يجوز إظهاره، فإنّه ربما يكون ظنّا، فإذا تحقّق ذلك جاز إظهاره، فقال: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ

و أنا أقول: الأنسب أن يقال في وجه الانتظام: إنّه لمّا كانت المخالفة في الدين بين الكافر و المؤمن، و عصبيّة كلّ منهما فيه موجبا للعداوة الباطنة و الظاهرة، و ذلك في مظانّ المشاتمة و صدور سوء الأقوال، و نهى اللّه سبحانه المؤمنين عن ذلك في قوله: وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ

عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ «1». و قال

______________________________

(1) الأنعام: 108.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 182

في معرض مدحهم: وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً «1». فنبّههم اللّه سبحانه هنا على حفظ اللسان عن السوء على وجه العموم بعد ذكر أحوال أهل النفاق و الكفر، لئلّا ينجرّ إلى صدور البذاء و الفحش من الكفّار، فقال: لا يُحِبُّ اللَّهُ الْجَهْرَ بِالسُّوءِ مِنَ الْقَوْلِ إِلَّا مَنْ ظُلِمَ إلّا جهر من ظلم، بالدعاء على الظالم و التظلّم منه.

فاستثنى من الجهر الّذي لا يحبّه اللّه جهر المظلوم، و هو أن يدعو على الظالم، و يذكره بما فيه من السوء.

و قيل:

هو ردّ الشتم بما يجوز في الدين على الشاتم انتصارا منه. و هو مرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

و نظيره: وَ انْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا «2». و التفسير الأوّل منقول عن ابن عبّاس.

و

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنّ رجلا ضاف قوما فلم يطعموه، فاشتكاهم، فعوتب عليه، فنزلت». ثم قال: «إنّ الضيف إذا نزل بالرجل فلا يحسن ضيافته، فلا جناح عليه في أن يذكره بسوء ما فعله».

وَ كانَ اللَّهُ سَمِيعاً لكلام المظلوم عَلِيماً بالظالم.

[سورة النساء (4): آية 149]

إِنْ تُبْدُوا خَيْراً أَوْ تُخْفُوهُ أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً (149)

ثم حثّ سبحانه على العفو، و أن لا يجهر أحد لأحد بسوء و إن كان على وجه الانتصار، حثّا على الأحبّ إليه و الأفضل عنده، فقال: إِنْ تُبْدُوا خَيْراً طاعة و برّا، قولا و فعلا أَوْ تُخْفُوهُ أو تفعلوه سرّا أَوْ تَعْفُوا عَنْ سُوءٍ أي: تصفحوا

______________________________

(1) الفرقان: 63.

(2) الشعراء: 227.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 183

عمّن أساء إليكم مع قدرتكم على المؤاخذة على إساءته. و العفو هنا هو المقصود، و ذكر إبداء الخير و إخفائه تسبيب

و تمهيد و توطئة له، و لذلك رتّب عليه قوله: فَإِنَّ اللَّهَ كانَ عَفُوًّا قَدِيراً أي: يكثر العفو عن العصاة مع كمال قدرته على الانتقام، فأنتم أولى بذلك. فعليكم أن لا تعتدوا عن سنّة اللّه. فهو حثّ للمظلوم على العفو بعد ما رخّص له في الانتصار، حملا على مكارم الأخلاق.

[سورة النساء (4): الآيات 150 الى 152]

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (150) أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً (151) وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (152)

و لمّا قدّم سبحانه ذكر المنافقين، عقّبه بذكر أهل الكتاب و المؤمنين، فقال:

إِنَّ الَّذِينَ يَكْفُرُونَ بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ يُرِيدُونَ أَنْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ اللَّهِ وَ رُسُلِهِ بأن يؤمنوا باللّه و يكفروا برسله وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ نؤمن ببعض الأنبياء، و نكفر ببعضهم وَ يُرِيدُونَ أَنْ يَتَّخِذُوا بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلًا طريقا وسطا. و لا واسطة بين الكفر و الإيمان، إذ الحقّ لا يختلف، فإن الإيمان باللّه إنّما يتمّ بالإيمان برسله و تصديقهم فيما بلّغوا عنه إجمالا أو تفصيلا، فالكافر ببعض ذلك كالكافر بالكلّ في الضلال، كما قال: فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ «1». و لذلك قال بعد ذلك:

______________________________

(1) يونس: 32.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 184

أُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ هم الكاملون في الكفر، لا عبرة بإيمانهم بهذا حَقًّا مصدر مؤكّد لغيره، أي: أحقّ حقّا، أو صفة لمصدر الكافرين، بمعنى: هم الّذين كفروا كفرا حقّا، أي: يقينا محقّقا لا شكّ فيه أصلا وَ أَعْتَدْنا و هيّأنا

لِلْكافِرِينَ عَذاباً مُهِيناً نهينهم و نذلّهم.

وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لَمْ يُفَرِّقُوا بَيْنَ أَحَدٍ مِنْهُمْ هم أضدادهم و مقابلوهم. و إنّما دخل «بين» على «أحد» و هو يقتضي متعدّدا لعمومه، من حيث إنّه وقع في سياق النفي، و النكرة في سياقه يفيد العموم في الواحد المذكّر و المؤنّث و تثنيتهما و جمعهما، تقول: ما رأيت أحدا، تقصد العموم. و المعنى: و لم يفرّقوا بين اثنين منهم أو بين جماعة.

أُولئِكَ سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ الموعودة لهم. و تصديره ب «سوف» لتوكيد الوعد، و للدلالة على أنّه كائن لا محالة و إن تأخّر، فالغرض تأكيد الوعد، لا كونه متأخّرا.

و قرأ حفص عن عاصم و قالون عن يعقوب بالياء، بناء على تنويع الكلام.

[سورة النساء (4): الآيات 153 الى 154]

يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ بِظُلْمِهِمْ ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ وَ آتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً (153) وَ رَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ بِمِيثاقِهِمْ وَ قُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً وَ قُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (154)

وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً لما فرط منهم رَحِيماً عليهم بتضعيف حسناتهم.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 185

و لمّا أنكر سبحانه على اليهود التفريق بين الرسل في الإيمان، عقّبه بالإنكار عليهم في طلبهم المحالات مع ظهور الآيات و المعجزات، فقال: يَسْئَلُكَ أَهْلُ الْكِتابِ يعني: اليهود أَنْ تُنَزِّلَ عَلَيْهِمْ كِتاباً مِنَ السَّماءِ. نزلت في كعب بن الأشرف و جماعة من اليهود قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إن كنت نبيّا فأتنا بكتاب من السماء جملة، كما أتى موسى بالتوراة جملة.

و قيل: سألوا

كتابا يعاينونه حين ينزل محرّرا بخطّ سماويّ على ألواح كما كانت التوراة، أو كتابا إلينا بأعياننا بأنّك رسول اللّه. و إنّما اقترحوا ذلك على سبيل التعنّت. قال الحسن: لو سألوه استرشادا لا عنادا لأعطاهم اللّه ذلك.

و قوله: فَقَدْ سَأَلُوا مُوسى أَكْبَرَ مِنْ ذلِكَ جواب شرط مقدّر، أي: إن استكبرت و استعظمت ما سألوه منك فقد سألوا موسى أكبر منه. و إنّما أسند السؤال إليهم و إن وجد من آبائهم لكونهم راضين بسؤالهم، آخذين بمذهبهم، تابعين لسيرتهم. و المعنى: أنّ عرقهم راسخ في ذلك، و أنّ ما اقترحوه عليك ليس بأوّل جهالاتهم.

فَقالُوا أَرِنَا اللَّهَ جَهْرَةً عيانا، أي: أرنا اللّه نره جهرة، أي: مجاهرين معاينين له فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ نار جاءت من السماء فأهلكتهم بِظُلْمِهِمْ بسبب ظلمهم، و هو سؤالهم الرؤية.

ثُمَّ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّناتُ هذه الجناية الثانية الّتي اقترفها ايضا أوائلهم. و البيّنات المعجزات. و لا يجوز حملها على التوراة، إذ لم تأتهم بعد فَعَفَوْنا عَنْ ذلِكَ مع عظم جريمتهم و جنايتهم وَ آتَيْنا مُوسى سُلْطاناً مُبِيناً تسلّطا و استيلاء ظاهرا عليهم، حين أمرهم بأن يقتلوا أنفسهم توبة عن اتّخاذهم.

وَ رَفَعْنا فَوْقَهُمُ الطُّورَ الجبل لمّا امتنعوا من العمل بما في التوراة و قبول ما جاءهم به موسى بِمِيثاقِهِمْ بسبب ميثاقهم و عهدهم الّذي أعطاهم اللّه إيّاه، من

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 186

العمل بالتوراة و غيره، ليخافوا من وقوعه عليهم فيقبلوه.

وَ قُلْنا لَهُمُ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً على لسان موسى عليه السّلام، و الطور مطلّ عليهم.

وَ قُلْنا لَهُمْ لا تَعْدُوا فِي السَّبْتِ على لسان داود عليه السّلام. و يحتمل أن يراد على لسان موسى عليه السّلام حين طلّل عليهم الجبل، فإنّه شرع السبت، و لكن كان

الاعتداء فيه و المسخ به في زمن داود عليه السّلام.

و قرأ أهل المدينة: لا تعدّوا، بتسكين العين و تشديد الدال، على أنّ أصله: لا تعتدوا، فأدغمت التاء في الدال. و روى ورش عن نافع: لا تعدّوا، بفتح العين و تشديد الدال.

وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً عهدا وثيقا وكيدا على ذلك، و هو قولهم: سمعنا و أطعنا.

[سورة النساء (4): الآيات 155 الى 158]

فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ وَ قَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍّ وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ فَلا يُؤْمِنُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (155) وَ بِكُفْرِهِمْ وَ قَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً (156) وَ قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلاَّ اتِّباعَ الظَّنِّ وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً (157) بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (158)

ثم ذكر سبحانه أفعالهم القبيحة و مجازاته إيّاهم بها، فقال: فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ «ما» مزيدة للتوكيد، و الباء متعلّقة بمحذوف، أي: فخالفوا و نقضوا، ففعلنا بهم ما فعلنا بنقضهم ميثاقهم، أي: عهودهم الّتي عاهدوا اللّه عليها أن يعملوا بما في

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 187

التوراة. و يجوز أن تتعلّق ب حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ «1». فيكون التحريم بسبب النقض و ما عطف عليه إلى قوله: فَبِظُلْمٍ « «2»»، أي: حرّمنا عليهم طيّبات بنقض ميثاقهم ...

إلخ. لا أن تتعلّق بما دلّ عليه قوله: بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها، مثل: لا يؤمنون، لأنّه ردّ لقولهم: «قلوبنا غلف» فيكون من صلة «و قولهم» المعطوف على المجرور، فلا يعمل في جارّه.

وَ كُفْرِهِمْ بِآياتِ اللَّهِ بالقرآن، أو بما في كتابهم وَ

قَتْلِهِمُ الْأَنْبِياءَ بِغَيْرِ حَقٍ بعد قيام الحجّة عليهم بصدقهم، و علمهم بعدم صدور استحقاق شي ء يوجب قتلهم وَ قَوْلِهِمْ قُلُوبُنا غُلْفٌ أوعية للعلوم، أو في أكنّة ممّا تدعونا إليه بَلْ طَبَعَ اللَّهُ عَلَيْها بِكُفْرِهِمْ أي: خذلها اللّه و منعها الألطاف بكفرهم و عدم تدبّرهم في الآيات و تذكّرهم في المواعظ، فصارت كالمطبوع عليها فَلا يُؤْمِنُونَ إِلَّا قَلِيلًا منهم، كعبد اللّه بن سلام، أو إيمانا قليلا، إذ لا عبرة به لنقصانه.

وَ بِكُفْرِهِمْ بعيسى. و هو معطوف على «بكفرهم» لأنّه من أسباب الطبع.

أو على قوله «فبما نقضهم». و يجوز أن يعطف مجموع هذا و ما عطف عليه على مجموع ما قبله، كأنّه قيل: فبجمعهم بين نقض الميثاق و الكفر بآيات اللّه، و قتل الأنبياء، و قولهم: قلوبنا غلف، و جمعهم بين كفرهم و بهتهم مريم، و افتخارهم بقتل عيسى، عاقبناهم. و يكون تكرير ذكر الكفر إيذانا بتكرّر كفرهم، فإنّهم كفروا بموسى ثم بعيسى ثم بمحمّد عليهم السّلام، فعطف بعض كفرهم على بعض.

وَ قَوْلِهِمْ عَلى مَرْيَمَ بُهْتاناً عَظِيماً يعني: نسبة الزنا إلى مريم.

وَ قَوْلِهِمْ إِنَّا قَتَلْنَا الْمَسِيحَ عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ رَسُولَ اللَّهِ أي: بزعمهم.

و يحتمل أنّهم قالوه استهزاء. و نظيره إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ «3».

و أن يكون استئنافا من اللّه تعالى بمدحه، أو وضعا للذكر الحسن مكان ذكرهم

______________________________

(1، 2) النساء: 160.

(3) الشعراء: 27.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 188

القبيح وَ ما قَتَلُوهُ وَ ما صَلَبُوهُ وَ لكِنْ شُبِّهَ لَهُمْ

روي أنّ جماعة من اليهود سبّوا عيسى و سبّوا أمّه. فقال: أللّهمّ أنت ربّي، و بكلمتك خلقتني، أللّهمّ العن من سبّني و سبّ والدتي. فمسخ اللّه من سبّهما قردة و خنازير، فاجتمعت اليهود على قتله، فأخبره اللّه تعالى

بأنّه يرفعه إلى السماء. فقال لأصحابه: أيّكم يرضى أن يلقى عليه شبهي فيقتل و يصلب، و يدخل الجنّة و يكون معي في درجتي؟ فقام شابّ منهم فقال: يا نبيّ اللّه أنا. فألقى اللّه تعالى عليه شبهه، فقتل و صلب.

و برواية وهب بن منبّه: أتى عيسى عليه السّلام و معه سبعة من الحواريّين في بيت، فأحاط اليهود بهم، فلمّا دخلوا عليهم صيّرهم اللّه كلّهم على صورة عيسى عليه السّلام.

فقالوا لهم: سحرتمونا، لتبرزنّ لنا عيسى أو لنقتلنّكم جميعا. فقال عيسى عليه السّلام لأصحابه: من يشري نفسه منكم اليوم بالجنّة؟ فقال رجل منهم اسمه سرجس: أنا.

فخرج إليهم فقال: أنا عيسى. فأخذوه فقتلوه و صلبوه، و رفع اللّه عيسى من يومه.

و به قال قتادة و السدّي و مجاهد و ابن إسحاق، و إن اختلفوا في عدد الحواريّين. و لم يذكر أحد غير وهب أنّ شبهه ألقي على جميعهم، بل ألقي شبهه على واحد، و رفع عيسى من بينهم. و قال الطبري «1»: قول وهب أقوى.

و برواية اخرى: كان رجلا ينافقه فخرج ليدلّ عليه، فألقى اللّه تعالى عليه شبهه و هم يظنّون أنّه عيسى، فأخذ و صلب.

و عن ابن عبّاس: أنّه لمّا مسخ اللّه الّذين سبّوا عيسى و أمّه بدعائه بلغ ذلك يهوذا، و هو رأس اليهود، فخاف أن يدعو عليه فجمع اليهود، فاجتمع اليهود حول عيسى فجعلوا يسألونه، فيقول: يا معشر اليهود إنّ اللّه تعالى يبغضكم، فثاروا إليه ليقتلوه، فأدخله جبرئيل عليه السّلام خوخة «2» البيت الداخل لها روزنة «3» في سقفها، فرفعه

______________________________

(1) تفسير الطبري 6: 12.

(2) الخوخة: كوّة تؤدّي الضوء إلى البيت، و الباب الصغير في الباب الكبير.

(3) الروزنة: الكوّة، فارسيّة.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 189

جبرئيل إلى السماء.

فبعث يهوذا رأس اليهود رجلا من أصحابه اسمه طيطانوس ليدخل عليه الخوخة فيقتله، فدخل فلم يره، فأبطأ عليهم، فظنّوا أنّه يقاتله في الخوخة، فألقى اللّه تعالى عليه شبه عيسى، فلمّا خرج على أصحابه قتلوه و صلبوه.

و أمثال ذلك من الخوارق التي لا تستبعد في زمان النبوّة.

و إنّما ذمّهم اللّه تعالى بما دلّ عليه الكلام من جرأتهم على اللّه عزّ و جلّ، و قصدهم قتل نبيّه المؤيّد بالمعجزات الباهرة، و تبجّحهم «1» به، لا بقولهم هذا على حسب حسبانهم.

و «شبّه» مسند إلى الجارّ و المجرور، و كأنّه قيل: و لكن وقع لهم التشبيه بين عيسى و المقتول. أو في الأمر على قول من قال: لم يقتل أحد و لكن أرجف بقتله فشاع بين الناس. أو مسند إلى ضمير المقتول، لدلالة «إنّا قتلنا» على أنّ ثمّة مقتولا، أي: لكن شبّه لهم من قتلوه.

وَ إِنَّ الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ في شأن عيسى عليه السّلام، فإنّه لمّا وقعت تلك الواقعة اختلف الناس، فقال بعض اليهود: إنّه كان كاذبا فقتلناه حقّا. و تردّد آخرون، فقال بعضهم: إن كان هذا عيسى فأين صاحبنا؟ و قال بعضهم: الوجه وجه عيسى، و البدن بدن صاحبنا. و قال من سمع منه: إنّ اللّه يرفعني إلى السماء، إنّه رفع إلى السماء.

و قال قوم: إنّه صلب الناسوت، يعنون بدنه، و رفع اللاهوت، يعنون به روحه.

و اختلفوا في أنّه إله أو ابن إله.

لَفِي شَكٍّ مِنْهُ لفي تردّد. و الشكّ كما يطلق على مالا يترجّح أحد طرفيه، يطلق على مطلق التردّد، و على ما يقابل العلم، و لذلك أكّده بقوله: ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِلَّا اتِّباعَ الظَّنِ استثناء منقطع، أي: و لكنّهم يتّبعون الظنّ. و يجوز أن يفسّر

الشكّ بالجهل، و العلم بالاعتقاد الّذي تسكن إليه النفس، جزما كان أو غيره، فيتّصل

______________________________

(1) أي: تفاخرهم و مباهاتهم به.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 190

الاستثناء.

وَ ما قَتَلُوهُ يَقِيناً قتلا يقينا كما زعموه بقولهم: «إنّا قتلنا المسيح»، أو متيقّنين.

بَلْ رَفَعَهُ اللَّهُ إِلَيْهِ ردّ و إنكار لقتله، و إثبات لرفعه. و قد مرّ تفسيره في سورة آل عمران عند قوله: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسى إِنِّي مُتَوَفِّيكَ «1».

وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً لا يغلب على ما يريده حَكِيماً فيما دبّره لعيسى عليه السّلام.

و المعنيّ من هذه الآيات: أنّ اللّه تعالى خاطب اليهود و قال: احذروا أيّها السائلون محمدا أن ينزل عليكم كتابا من السماء حلول عقوبة بكم، كما حلّ بأوائلكم في تكذيبهم رسله، فآمنوا بمحمد قبل حلول هذه العقوبة.

[سورة النساء (4): الآيات 159 الى 162]

وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلاَّ لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً (159) فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً (160) وَ أَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ وَ أَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (161) لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ وَ الْمُؤْمِنُونَ يُؤْمِنُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ وَ الْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ أُولئِكَ سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً (162)

ثم أخبر سبحانه أنّه لا يبقى أحد منهم إلّا و يؤمن بعيسى، فقال:

______________________________

(1) راجع ج 1: 493 ذيل الآية 55 من سورة آل عمران.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 191

وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ بِهِ قَبْلَ مَوْتِهِ جملة قسميّة وقعت صفة لمحذوف. و التقدير: و إن من أهل الكتاب أحد إلّا ليؤمننّ به، و نحوه وَ

ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ «1» وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها «2». و يعود إليه الضمير الثاني، و الأوّل لعيسى. فالمعنى: و ما من اليهود و النصارى أحد إلّا ليصدّقنّ بعيسى، و بأنّه عبد اللّه و رسوله، قبل موته و لو حين تزهق روحه، و لا ينفعه إيمانه، لانقطاع وقت التكليف. و هذا كالوعيد لهم و التحريض على معاجلة الإيمان به قبل أن يضطرّوا إليه، و لم ينفعهم إيمانهم.

و قيل: الضميران لعيسى. و المعنى: أنّه لمّا نزل من السماء آمن به أهل الملل جميعا.

و في الروايات الصحيحة المتواترة عن ابن عبّاس و أبي مالك و الحسن و قتادة و ابن زيد: أنّ عيسى عليه السّلام ينزل من السماء وقت خروج المهديّ عليه السّلام في آخر الزمان و خروج الدجّال فيهلكه، و لا يبقى أحد من أهل الملّة إلّا يؤمننّ به، حتى تكون الملّة واحدة، و هي ملّة الإسلام، و يصلّي خلف المهديّ من آل محمد صلوات اللّه عليهم، و تقع الأمنة حتى ترتع الأسود مع الإبل، و النمور مع البقر، و الذئاب مع الغنم، و يلعب الصبيان بالحيّات، و يلبث في الأرض أربعين سنة ثم يتوفّى، و يصلّي عليه المسلمون و يدفنونه.

وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكُونُ يعني: عيسى عَلَيْهِمْ شَهِيداً فيشهد على اليهود بالتكذيب، و على النصارى بأنّهم دعوه ابن اللّه.

ذكر عليّ بن إبراهيم في تفسيره «3» أنّ أباه حدّثه عن سليمان بن داود المنقري، عن أبي حمزة الثمالي، عن شهر بن حوشب، قال: «قال لي الحجّاج بن يوسف: آية من كتاب اللّه قد أعيتني، و هي قوله: «وَ إِنْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ إِلَّا لَيُؤْمِنَنَّ»،

______________________________

(1) الصافّات: 164.

(2) مريم: 71.

(3) تفسير عليّ بن إبراهيم القمي 1:

158. زبدة التفاسير، ج 2، ص: 192

و اللّه إنّي لآمر باليهودي و النصراني فيضرب عنقه، ثم أرمقه بعيني فما أراه يحرّك شفتيه حتى يخمد.

فقلت: أصلح اللّه الأمير ليس على ما أوّلت.

قال: فكيف هو؟

قلت: إنّ عيسى بن مريم ينزل قبل يوم القيامة إلى الدنيا، و لا يبقى أهل ملّة يهوديّ أو نصرانيّ و غيره إلّا آمن به قبل موت عيسى، و يصلّي خلف المهدي.

قال: و كان متّكئا فاستوى جالسا فنظر إليّ و قال: و يحك أنّى لك هذا، و من أين جئت به؟

قال: قلت: حدّثني محمّد بن عليّ بن الحسين بن عليّ بن أبي طالب عليهم السّلام. و برواية صاحب الكشّاف «1»: محمد بن عليّ بن الحنفيّة.

فأخذ ينكت الأرض بقضيبه، فقال: و اللّه لقد أخذتها من عين صافية، أو معدنها.

فقيل لشهر: ما أردت بذلك؟

قال أردت أن أغيظه.

و مثل ذلك ذكر أبو القاسم البلخي. و برواية صاحب الكشّاف « «2»» قال الكلبي له- أي: لشهر-: ما أردت إلى أن تقول: حدّثني محمّد بن عليّ بن الحنفيّة؟ قال:

أردت أن أغيظه، يعني: بزيادة اسم عليّ، لأنّه مشهور بابن الحنفيّة».

و عن عكرمة الضمير في «به» يرجع إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و رواه أيضا أصحابنا.

و ضعّف الطبري «3» هذا الوجه من حيث إنّه لم يجر ذكر نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لا ضرورة توجب ردّ الكناية إليه، و قد جرى ذكر عيسى عليه السّلام، فالأولى أن يصرف ذلك إليه.

و في الآية دلالة على أنّ كلّ كافر يؤمن عند المعاينة، و على أنّ إيمانه ذلك

______________________________

(1، 2) الكشّاف 1: 588.

(3) تفسير الطبري 6: 17.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 193

غير مقبول، كما لم يقبل إيمان فرعون

في حال اليأس عند زوال التكليف.

و يقرب من هذا ما رواه الإماميّة أن المحتضرين من جميع الأديان يرون رسول اللّه و خلفاءه عند الوفاة. و

قد روي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليه السّلام قالا: «حرام على روح أن تفارق جسدها حتى ترى محمدا و عليّا بحيث تقرّ عينها أو تسخن».

و

عن عليّ عليه السّلام أنّه قال للحارث الهمداني: يا حار همدان من يمت يرني* من مؤمن أو منافق قبلا يعرفني طرفه و أعرفه* بعينه و اسمه و ما فعلا

و لا يبعد أن يقال: إنّ المراد برؤيتهم في تلك الحال العلم بثمرة ولايتهم و عداوتهم على اليقين، بعلامات يجدونها من نفوسهم، و مشاهدة أحوال يدركونها، كما قد روي أنّ الإنسان إذا عاين الموت أري في تلك الحالة ما يدلّه على أنّه من أهل الجنّة أو من أهل النار.

فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا فبأيّ ظلم عظيم منهم حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ أي: ما حرّمنا عليهم الطيّبات إلّا لظلم عظيم ارتكبوه، يعني: ما ذكره في قوله: وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ «1». فكلّما أذنبوا ذنبا حرّم عليهم بعض الطيّبات وَ بِصَدِّهِمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ كَثِيراً ناسا كثيرا، أو صدّا كثيرا.

وَ أَخْذِهِمُ الرِّبَوا وَ قَدْ نُهُوا عَنْهُ كان الربا محرّما عليهم كما هو محرّم علينا.

و فيه دليل على دلالة النهي على التحريم. وَ أَكْلِهِمْ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ بالرشوة الّتي كانوا يأخذونها من عوامهم في تحريف الكتاب و سائر الوجوه المحرّمة وَ أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً دون من تاب و آمن، كما قال جلّ ذكره: لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ مِنْهُمْ الثابتون فيه، المتقنون له، المدارسون بالتوراة، و هم من آمن منهم، كعبد اللّه بن سلام

و أصحابه من علماء اليهود.

______________________________

(1) الأنعام: 146.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 194

روي أنّ ابن سلام و أصحابه قالوا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اليهود لتعلم أنّ الّذي جئت به حقّ، و إنّك لعندهم مكتوب في التوراة. فقالت اليهود: ليس كما يقولون، إنّهم لا يعلمون شيئا، و إنّهم يغرّونك و يحدّثونك بالباطل. فقال اللّه تعالى: «لكِنِ الرَّاسِخُونَ فِي الْعِلْمِ»

وَ الْمُؤْمِنُونَ أي: منهم، أو من المهاجرين و الأنصار يُؤْمِنُونَ خبر قوله: «الراسخون» بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ من القرآن و الشرائع وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلِكَ من الكتب.

وَ الْمُقِيمِينَ الصَّلاةَ نصبه على المدح، لبيان فضل الصلاة، أي: اذكر المقيمين الصلاة. أو عطف على «بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ». و المراد بهم الأنبياء، أي: يؤمنون بالكتب و الأنبياء.

وَ الْمُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ الْمُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ قدّم عليه الإيمان بالأنبياء و الكتب و ما يصدّقه من اتّباع الشرائع، لأنّه المقصود بالآية.

أُولئِكَ الّذين وصفناهم سَنُؤْتِيهِمْ أَجْراً عَظِيماً على جمعهم بين الإيمان الصحيح و العمل الصالح. و قرأ حمزة: سيؤتيهم بالياء.

[سورة النساء (4): الآيات 163 الى 165]

إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ وَ عِيسى وَ أَيُّوبَ وَ يُونُسَ وَ هارُونَ وَ سُلَيْمانَ وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (163) وَ رُسُلاً قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ رُسُلاً لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً (164) رُسُلاً مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ لِئَلاَّ يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (165)

ثم خاطب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقوله: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قدّمه في الذكر و إن تأخّرت

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 195

نبوّته لتقدّمه في

الفضل و الشرف و الرتبة كَما أَوْحَيْنا إِلى نُوحٍ قدّمه لأنّه أبو البشر بعد الطوفان، و لأنّه كان أطول الأنبياء عمرا، و كانت معجزته في نفسه، لبث في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما، لم يسقط له سنّ، و لم تنقص قوّته، و لم يشب شعره، و أوّل من عذّبت أمّته بسبب ردّ دعوته.

وَ النَّبِيِّينَ مِنْ بَعْدِهِ و هذا جواب لأهل الكتاب عن سؤال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اقتراحا أن ينزّل عليهم كتابا من السماء، و احتجاج عليهم بأنّ أمره في الوحي كسائر الأنبياء، و إرساله كإرسال النبيّين السالفين، و أنّ المعجزات قد ظهرت على يده كما كانت تظهر على أيديهم.

وَ أَوْحَيْنا إِلى إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ الْأَسْباطِ و هم أولاد يعقوب، كيوسف و داود وَ عِيسى وَ أَيُّوبَ وَ يُونُسَ وَ هارُونَ وَ سُلَيْمانَ خصّهم بالذكر مع اشتمال النبيّين عليهم تعظيما لهم، فإنّ ابراهيم أول أولي العزم منهم، و عيسى آخرهم، و الباقين أشرف الأنبياء و مشاهيرهم. و قدّم عيسى على الأنبياء المذكورين بعده لشدّة العناية بأمره، لغلوّ اليهود في الطعن فيه وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً. و قرأ حمزة: زبورا بالضمّ. و هو جمع زبر، و هو الكتاب بمعنى مزبور.

ثم أجمل ذكر الرسل بعد تسمية بعضهم فقال: وَ رُسُلًا نصب بمضمر دلّ عليه «أوحينا إليك»، ك «أرسلنا»، أو فسّره بقوله: قَدْ قَصَصْناهُمْ عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ أي: من قبل هذه السورة بمكّة في سورة الأنعام «1» و غيرها، أو قبل ذلك اليوم بالوحي في غير القرآن فعرّفناك شأنهم و أخبارهم وَ رُسُلًا لَمْ نَقْصُصْهُمْ عَلَيْكَ وَ كَلَّمَ اللَّهُ مُوسى تَكْلِيماً بلا واسطة، و هو منتهى مراتب

الوحي، خصّ به موسى من بينهم، و قد فضّل اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، بأن أعطاه مثل ما أعطى كلّ واحد منهم.

و

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا قرأ الآية الّتي قبل هذه الآية على الناس قالت

______________________________

(1) الأنعام: 83- 86. زبدة التفاسير، ج 2، ص: 196

اليهود فيما بينهم: ذكر محمد النبيّين و لم يبيّن لنا أمر موسى. فلمّا نزلت هذه الآية و قرأها عليهم قالوا: إنّ محمدا قد ذكره و فضّله بالكلام عليهم.

رُسُلًا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ نصب على المدح، أو بإضمار «أرسلنا»، أو على الحال و يكون رسلا موطّئا ل «مبشّرين»، كقولك: مررت بزيد رجلا صالحا لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ فيقولوا: لولا أرسلت إلينا رسولا فينبّهنا و يعلّمنا ما لم نكن نعلم، و يوصلنا إلى المحجّة، و يوقظنا من سنة الغفلة.

و فيه تنبيه على أنّ بعثة الأنبياء إلى الناس ضرورة، لقصور الكلّ عن إدراك جزئيّات المصالح، و الأكثر عن إدراك كلّيّاتها.

و اللام متعلّقة ب «أرسلنا»، أو بقوله: «مبشّرين و منذرين». و «حجّة» اسم «كان»، و خبره «للناس» أو «على اللّه» و الآخر حال. و لا يجوز تعلّقه ب «حجّة» لأنّه مصدر، و لا يجوز تقديم متعلّق المصدر عليه. و «بعد» ظرف لها أو صفة.

وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً لا يغلب فيما يريده حَكِيماً فيما دبّر من أمر النبوّة، و فيما خصّ كلّ نبيّ بنوع من الوحي و الإعجاز.

[سورة النساء (4): الآيات 166 الى 169]

لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ وَ الْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (166) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا ضَلالاً بَعِيداً (167) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ظَلَمُوا لَمْ

يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً (168) إِلاَّ طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (169)

قيل: إنّ جماعة من اليهود دخلوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال النبيّ لهم: إنّي أعلم أنّكم تعلمون أنّي رسول اللّه. فقالوا: ما نعلم ذلك و لا نشهد به. فأنزل اللّه بعد

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 197

إنكارهم و جحودهم.

لكِنِ اللَّهُ يَشْهَدُ فهذا استدراك عن مفهوم ما قبله، فإنّهم لمّا تعنّتوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بسؤال كتاب ينزل عليهم من السماء، و احتجّ عليهم بقوله: إِنَّا أَوْحَيْنا إِلَيْكَ الآية، قال: إنّهم لا يشهدون بذلك، و لكنّ اللّه يشهد، أو أنّهم أنكروا الإيحاء إليك و لكنّ اللّه يشهد، يعني: يبيّنه و يقرّره بِما أَنْزَلَ إِلَيْكَ من القرآن المعجز الدالّ على نبوّتك.

أَنْزَلَهُ بِعِلْمِهِ أنزله ملتبسا بعلمه الخاصّ به، و هو العلم بتأليفه على نظم يعجز عنه كلّ بليغ. أو بحال من يستعدّ للنبوّة و يستأهل نزول الكتاب عليه. أو بعلمه الّذي يحتاج إليه الناس في معاشهم و معادهم. و الجارّ و المجرور على الأوّلين حال من الفاعل، و على الثالث حال من المفعول. و الجملة كالتفسير لما قبلها.

وَ الْمَلائِكَةُ يَشْهَدُونَ أيضا بنبوّتك.

و فيه تنبيه على أنّهم يودّون أن يعلموا صحّة دعوى النبوّة على وجه يستغنى عن النظر و التأمّل، و هذا النوع من خواصّ الملك، و لا سبيل للإنسان إلى العلم بأمثال ذلك سوى الفكر و النظر، فلو أتى هؤلاء بالنظر الصحيح لعرفوا نبوّتك، و شهدوا بما عرفت الملائكة و شهدوا عليها.

و قال في الجامع و الكشّاف: «معنى شهادة اللّه بما أنزل إليه إثباته لصحّته بالمعجزات، كما

تثبت الدعاوي بالبيّنات، و شهادة الملائكة شهادتهم بأنّه حقّ و صدق» «1».

وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً أي: و كفى بما أقام من الحجج على صحّة نبوّتك عن الاستشهاد بغيره و إن لم يشهد غيره. و في هذه الآية تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن تكذيب من كذّبه.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن الدين الّذي بعثك به إلى خلقه

______________________________

(1) جوامع الجامع 1: 351، الكشّاف 1: 592.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 198

قَدْ ضَلُّوا ضَلالًا بَعِيداً قد جاروا عن قصد الطريق جورا شديدا، و زالوا عن المحجّة الّتي هي دين اللّه الّذي ارتضاه و بعثك به إلى خلقه زوالا بعيدا عن الرشاد، لأنّهم قد جمعوا بين الضلال و الإضلال، و لأنّ المضلّ يكون أغرق في الضلال، و أبعد من الانقلاع عنه.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: جحدوا وَ ظَلَمُوا محمدا بإنكار نبوّته و تكذيبهم إيّاه. أو الناس بصدّهم عمّا فيه صلاحهم و خلاصهم، أو بأعمّ من ذلك. و على هذا تدلّ الآية على أنّ الكفّار مخاطبون بالفروع، إذ المراد بهم الجامعون بين الكفر و الظلم لَمْ يَكُنِ اللَّهُ لِيَغْفِرَ لَهُمْ بترك عقابهم على ذنوبهم وَ لا لِيَهْدِيَهُمْ طَرِيقاً إِلَّا طَرِيقَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً لجري حكمه السابق و وعده المحتوم على أنّ من مات على كفره فهو خالد في النار. و «خالدين» حال مقدّرة وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً لا يستصعبه و لا يستعظمه.

[سورة النساء (4): آية 170]

يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ بِالْحَقِّ مِنْ رَبِّكُمْ فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ وَ إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (170)

و لمّا قرّر أمر النبوّة، و بيّن الطريق الموصل إلى العلم بها،

و وعيد من أنكرها، خاطب الناس عامّة بالدعوة و إلزام الحجّة، و الوعد بالإجابة و الوعيد على الردّ، فقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الرَّسُولُ يعني: محمدا بِالْحَقِ بالدين الّذي ارتضاه اللّه لعباده. و

عن أبي جعفر عليه السّلام: بولاية من أمر اللّه سبحانه بولايته.

مِنْ رَبِّكُمْ من عند ربّكم فَآمِنُوا خَيْراً لَكُمْ أي: إيمانا خيرا لكم. أو اقصدوا أو ائتوا

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 199

أمرا خيرا لكم ممّا أنتم عليه من الكفر.

و قيل: تقديره: فآمنوا يكن الإيمان خيرا لكم. و منعه البصريّون، لأن «كان» لا يحذف مع اسمه إلّا فيما لا بدّ منه، و لأنّه يؤدّي إلى حذف الشرط و الجزاء.

وَ إِنْ تَكْفُرُوا باللّه و رسوله، و بما جاء به من عنده فَإِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يعني: فإن تكفروا فإنّ اللّه تعالى غنيّ عنكم، لا يتضرّر بكفركم، كما لا ينتفع بإيمانكم. و نبّه على غناه بقوله: لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و هو يعمّ ما اشتملتا عليه و ما تركّبتا منه وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً بأحوالهم حَكِيماً فيما دبّر لهم.

[سورة النساء (4): آية 171]

يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَ كَلِمَتُهُ أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ وَ رُوحٌ مِنْهُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ إِنَّمَا اللَّهُ إِلهٌ واحِدٌ سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (171)

ثم عاد سبحانه إلى حجاج أهل الكتاب، فقال: يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ الخطاب لليهود و النصارى، فإنّ اليهود غلت في حطّ عيسى عليه السّلام حتّى رموه بأنّه ولد لغير

رشدة «1»، و النصارى في رفعه حتّى اتّخذوه إلها. و قيل: الخطاب للنصارى خاصّة، فإنّه أوفق لقوله: وَ لا تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَ يعني: تنزيهه عن الصاحبة و الولد و الشريك.

إِنَّمَا الْمَسِيحُ قد ذكر «2» معناه عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ بيان له رَسُولُ اللَّهِ

______________________________

(1) الرشدة بالتاء ضد الزنية، يقال: ولد لرشدة، أي: شرعيّون.

(2) راجع ج 1: 486.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 200

زبدة التفاسير ج 2 249

أرسله إلى الخلق، لا كما زعمت الفرقتان المبطلتان. وَ كَلِمَتُهُ فإنّه حصل بكلمته الّتي هي قوله: «كن» أَلْقاها إِلى مَرْيَمَ أوصلها إليها و حصّلها فيها وَ رُوحٌ مِنْهُ و ذو روح صدر منه، لا بتوسّط يجري مجرى الأصل و المادّة له، كما قال في الجامع «1» و الكشّاف «2»: «قيل لعيسى: كلمة اللّه و كلمة منه، لأنّه وجد بكلمته و أمره من غير واسطة أب و لا نطفة. و قيل له: روح اللّه و روح منه كذلك، لأنّه ذو روح وجد من غير جزء من ذي روح، كالنطفة المنفصلة من الأب الحيّ، و إنّما اخترع اختراعا من عند اللّه و قدرته خالصة».

و قيل: سمّي روحا لأنّه كان يحيي الأموات أو القلوب.

فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ وَ لا تَقُولُوا ثَلاثَةٌ أي: الآلهة ثلاثة: اللّه، و المسيح، و مريم. و يشهد عليه قوله تعالى: أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ «3» أو: اللّه ثلاثة، إن صحّ أنّهم يقولون: اللّه ثلاثة أقانيم: الأب، و الابن، و روح القدس. و يريدون بأقنوم الأب الذات، و بأقنوم الابن العلم، و بأقنوم روح القدس الحياة. و الأقنوم بمعنى الأصل. انْتَهُوا خَيْراً لَكُمْ نصبه لما سبق من قوله: «فآمنوا خيرا لكم».

إِنَّمَا اللَّهُ

إِلهٌ واحِدٌ أي: واحد بالذات لا تعدّد فيه بوجه مّا سُبْحانَهُ أَنْ يَكُونَ لَهُ وَلَدٌ أسبّحه تسبيحا من أن يكون له ولد، فإنّه يكون لمن يعادله مثل، و يتطرّق إليه فناء لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ملكا و ملكا و خلقا، لا يماثله في ذلك شي ء فيتّخذه ولدا وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا يكل إليه الخلق أمورهم، فهو الغنيّ عنهم، و هم الفقراء إليه. و هذا تنبيه على غناه عن الولد، فإنّ الحاجة إليه ليكون

______________________________

(1) جوامع الجامع 1: 352.

(2) الكشّاف 1: 593.

(3) المائدة: 116.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 201

وكيلا لأبيه، و اللّه سبحانه و تعالى قائم بحفظ الأشياء، كاف في ذلك، مستغن عمّن يخلفه أو يعينه.

[سورة النساء (4): آية 172]

لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ وَ لا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ وَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يَسْتَكْبِرْ فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ جَمِيعاً (172)

روي أنّ وفد نجران قالوا لنبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا محمّد لم تعيب صاحبنا؟ قال: و من صاحبكم؟ قالوا: عيسى. قال: و أيّ شي ء أقول فيه؟ قالوا: تقول: إنّه عبد اللّه و رسوله. قال: إنّه ليس بعار أن يكون عبدا للّه. قالوا: بلى، فنزلت: لَنْ يَسْتَنْكِفَ الْمَسِيحُ

لن يأنف و لن يذهب عزّة نفسه، من: نكفت الدمع، إذا نحّيته بإصبعك عن خدّك كيلا يرى أثره عليك أَنْ يَكُونَ عَبْداً لِلَّهِ من أن يكون عبدا له، فإنّ عبوديّته شرف يتباهى به، و إنّما الاستنكاف في عبوديّة غيره وَ لَا الْمَلائِكَةُ الْمُقَرَّبُونَ الّذين قرّبهم اللّه تعالى و رفع منازلهم لديه. عطف على المسيح، أي: و لا يستنكف الملائكة المقرّبون أن يكونوا عبيدا للّه.

و احتجّ به من زعم فضل الملائكة على الأنبياء، و قال: مساق

الآية لردّ قول النصارى في رفع المسيح عن مقام العبوديّة، و ذلك يقتضي أن يكون المعطوف أعلى درجة من المعطوف عليه، حتى يكون عدم استنكافهم كالدليل على عدم استنكافه.

و جوابه: أنّ الآية للردّ على عبدة المسيح و عبدة الملائكة، فلا يتّجه ذلك.

و إن سلّم اختصاصها بالنصارى فيحتمل أن يراد بالعطف المبالغة باعتبار التكثير دون التكبير، كقولك: أصبح الأمير لا يخالفه رئيس و لا مرءوس. و إن أراد به التكبير فإنّه يفهم منه أنّ جميع الملائكة أفضل و أكثر ثوابا من المسيح، و هذا لا يقتضي أن يكون كلّ واحد منهم أفضل من المسيح، و إنّما الخلاف في ذلك.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 202

وَ مَنْ يَسْتَنْكِفْ عَنْ عِبادَتِهِ و يترفّع عنها وَ يَسْتَكْبِرْ و يتعظّم بترك الإذعان بطاعته. و الاستكبار دون الاستنكاف، و لذلك عطف عليه. و إنّما يستعمل حيث لا استحقاق بخلاف التكبّر، فإنّه قد يكون بالاستحقاق. فَسَيَحْشُرُهُمْ إِلَيْهِ إلى موضع جزائه جَمِيعاً فيجازيهم أجمعين.

[سورة النساء (4): آية 173]

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ أَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا وَ اسْتَكْبَرُوا فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (173)

ثم وعد اللّه سبحانه الّذين يقرّون بوحدانيّته و يعملون بطاعته، أنّه يوفّيهم أجور أعمالهم الصالحة وافيا تامّا، فقال: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بوحدانيّة اللّه و بنبوّة رسوله وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُوَفِّيهِمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ على طاعتهم، بأن كان لهم عشر أمثالها إلى سبعين ضعفا، و إلى سبعمائة، و إلى الأضعاف الكثيرة.

و الزيادة على المثل تفضّل من اللّه سبحانه عليهم.

و بعد وعد الموحّدين الصالحين أوعد المشركين الطالحين، فقال: وَ أَمَّا الَّذِينَ اسْتَنْكَفُوا عن الإقرار بوحدانيّته وَ اسْتَكْبَرُوا و تعظّموا

عن الإيمان له بالطاعة و العبوديّة فَيُعَذِّبُهُمْ عَذاباً أَلِيماً مؤلما موجعا وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ لأنفسهم مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا ينجيهم من عذابه وَ لا نَصِيراً ينقذهم عن عقابه. فالآية لبيان تفصيل المجازاة العامّة المدلول عليها من فحوى الكلام، فكأنّه قال:

فسيحشرهم إليه جميعا يوم يحشر العباد للمجازاة. أو لبيان مجازاتهم، فإنّ إثابة مقابليهم و الإحسان إليهم تعذيب لهم بالغمّ و الحسرة.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 203

[سورة النساء (4): الآيات 174 الى 175]

يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً (174) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ اعْتَصَمُوا بِهِ فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ وَ فَضْلٍ وَ يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ صِراطاً مُسْتَقِيماً (175)

و لمّا فصّل سبحانه ذكر الأحكام الّتي يجب العمل بها ذكر البرهان بعد ذلك، ليكون المكلّف على ثقة و يقين، فقال خطابا عامّا لجميع المكلّفين: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمْ بُرْهانٌ مِنْ رَبِّكُمْ عنى به المعجزات الباهرة وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ نُوراً مُبِيناً و هو القرآن، أي: قد جاءكم دلائل العقل و شواهد النقل، و لم يبق لكم عذر و لا علّة.

و قيل: البرهان الدين أو رسول اللّه. و قيل: المراد من كليهما القرآن. و

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «النور ولاية عليّ بن أبي طالب عليه السّلام».

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ بوحدانيّته وَ اعْتَصَمُوا بِهِ و تمسّكوا بالنور الّذي أنزله إلى نبيّه فَسَيُدْخِلُهُمْ فِي رَحْمَةٍ مِنْهُ ثواب مستحقّ قدّره بإزاء إيمانهم و عملهم، و هو الجنّة وَ فَضْلٍ إحسان زائد عليه، و هو تضعيف الحسنات و الدرجات في الجنّة وَ يَهْدِيهِمْ إِلَيْهِ إلى الّذي يتفضّل به على أوليائه صِراطاً مُسْتَقِيماً أي: يوفّقهم سلوك طريق من أنعم عليه من أصفيائه، الموصل إلى ثوابه العظيم و جنّات النعيم، و هو الدوام

و الثبات على منهاج الإسلام و الطاعة.

[سورة النساء (4): آية 176]

يَسْتَفْتُونَكَ قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ وَ هُوَ يَرِثُها إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ فَإِنْ كانَتَا اثْنَتَيْنِ فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ وَ إِنْ كانُوا إِخْوَةً رِجالاً وَ نِساءً فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (176)

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 204

و لمّا بيّن اللّه في أوّل السورة بعض سهام الفرائض، ختم السورة ببيان ما بقي من ذلك، ليوافق الاختتام الافتتاح، فقال: يَسْتَفْتُونَكَ أي: في الكلالة. و هو اسم للاخوة و الأخوات، على ما روي عن أئمّتنا عليهم السّلام. و قيل: هي ما سوى الوالد و الولد. و قد مرّ «1» تفصيله في أوائل السورة. و حذفت لدلالة الجواب عليه. قالوا إنّه آخر ما نزل من أحكام الدين.

روي أنّ جابر بن عبد اللّه كان مريضا فعاده رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: يا رسول اللّه إنّ لي كلالة فكيف أصنع في مالي؟ فنزلت: قُلِ اللَّهُ يُفْتِيكُمْ فِي الْكَلالَةِ إِنِ امْرُؤٌ هَلَكَ لَيْسَ لَهُ وَلَدٌ

ذكر و أنثى وَ لَهُ أُخْتٌ فَلَها نِصْفُ ما تَرَكَ ارتفع «امرؤ» بفعل يفسّره الظاهر. و «ليس له ولد» صفة له، أو حال عن المستكن في «هلك» أي: غير ذي ولد. و الواو في «و له» يحتمل الحال و العطف. و المراد بالأخت الأخت من الأبوين أو الأب، لأنّ ذكر أولاد الأمّ قد سبق «2» في أوائل السورة، و لأنّه جعل أخاها عصبة، و قال: «فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ» و ابن الأمّ لا يكون عصبة. و قد مرّ في آية المواريث أنّ الأخت

للأمّ لها السدس مسوّى بينها و بين أخيها.

وَ هُوَ يَرِثُها أي: المرء يرث أخته كلّ المال إن كان الأمر بالعكس إِنْ لَمْ يَكُنْ لَها وَلَدٌ أي: إذا كانت غير ذات ولد، ذكرا كان أو أنثى. و قد دلّت السنّة و الإجماع على أنّهم لا يرثون مع الأب.

فَإِنْ كانَتَا أي: فإن كان من يرث الاخوة اثْنَتَيْنِ تثنية الضمير محمولة على الخبر فَلَهُمَا الثُّلُثانِ مِمَّا تَرَكَ أي: ممّا ترك الأخ أو الأخت من التركة.

و فائدة الإخبار عنه باثنتين التنبيه على أنّ الحكم باعتبار العدد دون الصغر و الكبر و غيرهما.

وَ إِنْ كانُوا و إن كان من يرث بالأخوّة. و جمع الضمير باعتبار الخبر كما

______________________________

(1) راجع ص: 17.

(2) راجع ص: 21.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 205

مرّ. إِخْوَةً رِجالًا وَ نِساءً ذكورا و إناثا فَلِلذَّكَرِ مِثْلُ حَظِّ الْأُنْثَيَيْنِ أصله: و إن كانوا إخوة و أخوات، فغلّب الذكر. و الخلاف بين الفقهاء في هذه المسائل و أمثالها و فروعها مذكور في كتب الفقه، فمن أرادها فليرجع إليها.

يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ أَنْ تَضِلُّوا أي: يبيّن اللّه لكم ضلالكم الّذي من شأنكم إذا خلّيتم و طباعكم، لتحترزوا عنه و تتحرّوا خلافه. و الأصوب أنّ المضاف مقدّر، أي:

كراهة أن تضلّوا. و قيل: لئلّا تضلّوا، فحذف «لا». و هو قول الكوفيّين. فالمعنى:

يبيّن اللّه لكم جميع أحكام دينكم، كراهة أن تضلّوا أو لئلّا تضلّوا.

وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ و من ذلك أمور معاشكم و معادكم، فيخبركم بها في محياكم و مماتكم، على ما تقتضيه الحكمة و توجبه المصلحة.

عن البراء بن عازب: آخر سورة نزلت كاملة براءة، و آخر آية نزلت خاتمة سورة النساء: «يَسْتَفْتُونَكَ ...» الآية. أورده البخاري و مسلم في صحيحهما «1».

و قال جابر: نزلت بالمدينة.

و قال ابن سيرين: نزلت في مسير كان فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أصحابه.

و تسمّى هذه الآية آية الصيف، و ذلك أنّ اللّه سبحانه أنزل في الكلالة آيتين، إحداهما في الشتاء، و هي الّتي في أوّل هذه السورة، و الاخرى في الصيف، و هي هذه الآية.

و

روي عن عمر بن الخطّاب أنّه قال: سألت رسول اللّه عن الكلالة فقال:

يكفيك أو يجزيك آية الصيف. و اللّه أعلم بالصواب، و إليه المرجع و المآب.

______________________________

(1) صحيح البخاري 6: 63، صحيح مسلم 3: 1237 ح 12.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 207

(5) سورة المائدة

اشارة

مدنيّة. و هي مائة و عشرون آية. و

في حديث أبيّ: من قرأ سورة المائدة أعطي من الأجر بعدد كلّ يهوديّ و نصرانيّ يتنفّس في دار الدنيا عشر حسنات، و محي عنه عشر سيّئات، و رفع له عشر درجات.

و

روى أبو الجارود عن الباقر عليه السّلام: «من قرأ سورة المائدة في كلّ يوم خميس لم يلبس إيمانه بظلم، و لا يشرك به ابدا».

و

بإسناده عن أبي حمزة الثمالي قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: نزلت المائدة كملا، و نزل معها سبعون ألف ملك».

و

روى العيّاشي بإسناده عن عيسى بن عبد اللّه، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ عليه السّلام قال: «كان القرآن ينسخ بعضه بعضا، و إنّما يؤخذ من أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بآخره، و كان من آخر ما نزل عليه سورة المائدة، فنسخت ما قبلها، و لم ينسخها شي ء. لقد نزلت عليه و هو على بغلة شهباء، و ثقل عليه الوحي حتى وقفت و تدلّى بطنها، حتّى رأيت سرّتها تكاد تمسّ الأرض، و أغمي على رسول اللّه صلّى اللّه

عليه و آله و سلّم حتّى وضع يده على ذؤابة منبّه بن وهب الجمحي، ثم رفع ذلك عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقرأ علينا سورة المائدة، فعمل رسول اللّه و عملنا» «1».

______________________________

(1) تفسير العيّاشي 1: 288 ح 2.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 208

[سورة المائدة (5): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ (1)

و اعلم أنّه سبحانه لمّا ختم سورة النساء بذكر أحكام الشريعة، افتتح سورة المائدة أيضا ببيان الأحكام، و أجمل ذلك بقوله: «و أوفوا بالعقود» ثم أتبعه بذكر التفصيل. فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَوْفُوا بِالْعُقُودِ الوفاء هو القيام بمقتضى العهد. و كذلك الإيفاء. يقال: وفا بعهده و أوفى بعهده، بمعنى: قام بمقتضى العهد. و العقد: العهد الموثّق. و أصله الجمع بين الشيئين بحيث يعسر الانفصال.

و المراد بالعقود ما يعمّ عهود اللّه الّتي عقدها على عباده، و ألزمها إيّاهم بالإيمان به، و طاعته فيما أحلّ لهم أو حرّم عليهم من التكاليف الشرعيّة العلميّة و العمليّة، و ما يعقدون بينهم من عقود المعاملات و المناكحات و الأمانات، و نحوها ممّا يجب الوفاء به أو يحسن، إن حملنا الأمر على المشترك بين الوجوب و الندب.

ثم أخذ سبحانه في تفصيل العقود الّتي أمر بالوفاء بها مجملا، فقال: أُحِلَّتْ لَكُمْ بَهِيمَةُ الْأَنْعامِ البهيمة كلّ حيّ لا يميّز. و قيل: كلّ ذات أربع من دوابّ البرّ و البحر. و إضافتها إلى الأنعام للبيان، كخاتم فضّة. و معناها: البهيمة من الأنعام، كقولك: ثوب خزّ. و هي الأزواج «1» الثمانية. و ألحق بها

الظباء و بقر الوحش، عن الكلبي. و قيل: هما المراد بالبهيمة و نحوهما ممّا يماثل الأنعام في الاجترار «2» و عدم الأنياب. و حينئذ إضافتها إلى الأنعام لملابسة الشبه.

______________________________

(1) و هي: الإبل، و البقر، و الضأن، و المعز، الذكر و الأنثى من كلّ منها.

(2) اجترّ البعير: أعاد الأكل من بطنه فمضغه ثانية، و حيوان مجترّ: يجترّ طعامه.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 209

روي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنّ المراد بذلك أجنّة الأنعام الّتي توجد في بطون أمّهاتها إذا أشعرت، و قد ذكّيت الأمّهات و هي ميّتة، فذكاتها ذكاة أمّهاتها.

و نقل هذا عن ابن عبّاس و ابن عمر. و الأولى حمل الآية على الجميع.

إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ إلّا محرّم ما يتلى عليكم في القرآن، نحو قوله:

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ «1» الآية. أو: إلّا ما يتلى عليكم آية تحريمه.

غَيْرَ مُحِلِّي الصَّيْدِ حال من الضمير في «لكم»، أي: أحلّت لكم هذه الأشياء لا محلّين الصيد. و قال الأخفش: إنّه حال من واو «أوفوا». و الصيد يحتمل المصدر و المفعول وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ حال ممّا استكن في «محلّي الصيد». و الحرم جمع حرام، و هو المحرم. إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ ما يُرِيدُ من تحليل أو تحريم بحسب مقتضى الحكمة و المصلحة.

[سورة المائدة (5): آية 2]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ وَ لا الشَّهْرَ الْحَرامَ وَ لا الْهَدْيَ وَ لا الْقَلائِدَ وَ لا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنْ رَبِّهِمْ وَ رِضْواناً وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (2)

ثم شرع

في بيان حكم آخر من الأحكام الشرعيّة المأخوذ عهدها على

______________________________

(1) المائدة: 3.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 210

العباد، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحِلُّوا شَعائِرَ اللَّهِ يعني: مناسك الحجّ و أعماله.

جمع شعيرة، و هي اسم ما أشعر، أي: ما جعل شعارا. سمّي به أعمال الحجّ و مواقفه، لأنّها علامات الحجّ و أعلام النسك. و قيل: الهدايا المعلمة للذبح بمكّة.

و قيل: دين اللّه، لقوله: وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ «1» أي: دينه. و قيل: فرائضه الّتي حدّها لعباده. فالمعنى: لا تحلّوا حرمات اللّه، و لا تتعدّوا حدوده. و الأوّل أصحّ و أشهر بين المفسّرين.

و

روي عن أبي جعفر عليه السّلام: أنّ العرب كانوا لا يرون الصفا و المروة من الشعائر، و لا يطوفون بينهما، فناهم اللّه عن ذلك بهذه الآية.

وَ لَا الشَّهْرَ الْحَرامَ بالقتال فيه، كما قال سبحانه: يَسْئَلُونَكَ عَنِ الشَّهْرِ الْحَرامِ قِتالٍ فِيهِ قُلْ قِتالٌ فِيهِ كَبِيرٌ «2» أو بالنسي ء، كقوله: إِنَّمَا النَّسِي ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ «3». و هو تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر، و يجي ء «4» تفصيل ذلك في سورة التوبة. و الأشهر الحرم هي: رجب، و شوّال، و ذو القعدة، و ذو الحجّة.

وَ لَا الْهَدْيَ ما أهدي إلى الكعبة، جمع هدية، كجدي في جمع جدية السرج، و هي شي ء يحشى ثم يربط تحت دفّتي السرج.

وَ لَا الْقَلائِدَ أي: ذوات القلائد من الهدي. و عطفها على الهدي للاختصاص و زيادة التوصية بها، فإنّها أشرف الهدي، كقوله: وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ «5». أو القلائد نفسها. و النهي عن إحلالها مبالغة في النهي عن التعرّض للهدي، كأنّه قيل: و لا تحلّوا قلائدها، فضلا عن أن تحلّوها. و نظيره قوله:

______________________________

(1) الحج: 32.

(2) البقرة: 217.

(3) التوبة: 37.

(4) راجع

ج 3/ 110.

(5) البقرة: 98.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 211

وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ «1» فنهي عن إبداء الزينة مبالغة في النهي عن إبداء مواقعها. و القلائد جمع قلادة، و هي ما قلّد به الهدي من نعل أو غيره ليعلم به أنّه هدي فلا يتعرّض له.

و إحلال هذه الأشياء أن يتهاون بحرمتها و يضيّع، و أن يحال بينها و بين المتنسّكين بها، و أن يحدث في أشهر الحجّ ما يصدّ الناس به عن الحجّ، و أن يتعرّض للهدي بالغصب أو بالمنع من بلوغ محلّه.

وَ لَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قاصدين لزيارته، و هم الحجّاج و العمّار يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنْ رَبِّهِمْ في الآخرة وَ رِضْواناً أي: يطلبون أن يثيبهم و يرضى عنهم.

و الجملة في موضع الحال من المستكن في «آمّين»، و ليست صفة، لأنّه عامل و المختار أنّ اسم الفاعل الموصوف لا يعمل. و المراد استنكار تعرّض من هذا شأنه.

و قيل: معناه يبتغون من اللّه رزقا بالتجارة و رضوانا بزعمهم، إذ

روي أنّ الآية نزلت في رجل يقال له الحطم بن هند البكري حين أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وحده و خلّف خيله خارج المدينة، فقال: إلى ما تدعو؟ قال: أدعوا إلى شهادة أن لا إله إلّا اللّه، و إقام الصلاة، و إيتاء الزكاة. فقال: حسن، فأنظرني لعلّي أسلم، ولي من أشاوره.

و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد قال لأصحابه: يدخل عليكم اليوم من يتكلّم بلسان شيطان.

فلمّا خرج قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لقد دخل بوجه كافر، و خرج بعقب غادر. فمرّ بسرح «2» من سروح المدينة فساقه و انطلق به، ثم أقبل في عام قابل حاجّا

قد قلّد هديا، فأراد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يبعث إليه، فنزلت: وَ لَا آمِّينَ الْبَيْتَ الْحَرامَ

و على التقديرين، معنى الآية: لا تقاتلوهم، لأنّ من قاتل فقد أحلّ، فكأنّه قال: لا تحلّوا قتال الآمّين البيت الحرام، و هو بيت اللّه بمكّة، سمّي حراما لحرمته.

و قيل: لأنّه يحرم فيه ما يحلّ في غيره.

و على التقدير الأخير، فالآية منسوخة بآية

______________________________

(1) النور: 31.

(2) السرح: الماشية.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 212

فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ «1». و لم ينسخ من المائدة غير هذه الآية. و هذا قول أكثر المفسّرين.

و قيل:

لم ينسخ من هذه السورة شي ء و لا من هذه الآية، لأنّه لا يجوز أن يبدأ المشركين بالقتال إلّا إذا قاتلوا. و هو قول ابن جريج و الحسن، و يروى عن الباقر عليه السّلام.

و هو أيضا موافق لما ورد أنّ المائدة آخر ما نزلت.

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أحلّوا حلالها، و حرّموا حرامها».

و أيضا التخصيص خير من النسخ.

و ذكر أبو مسلم أنّ المراد به الكفّار الّذين كانوا في عهد النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فلمّا زال العهد بسورة براءة زال ذلك الحظر، و دخلوا في حكم قوله تعالى: فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا «2».

وَ إِذا حَلَلْتُمْ فَاصْطادُوا إذن في الاصطياد بعد زوال المحرّم و هو الإحرام، فهو إباحة بعد الحظر، كأنّه قيل: و إذا حللتم فلا جناح عليكم أن تصطادوا.

وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ لا يحملنّكم أو لا يكسبنّكم شَنَآنُ قَوْمٍ شدّة بغضهم و عداوتهم. «جرم» مثل «كسب» في تعديته إلى مفعول واحد و اثنين، تقول: جرم ذنبا و جرمته إيّاه، و كسب شيئا و كسبته إيّاه. و الشنآن مصدر

أضيف إلى المفعول أو الفاعل.

و قرأ ابن عامر و إسماعيل عن نافع و ابن عيّاش عن عاصم بسكون النون. و هو أيضا مصدر كالليّان «3»، أو نعت بمعنى: بغيض قوم. و فعلان في النعت أكثر.

و قوله: أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ متعلّق ب «شنآن» أي: لأن صدّوكم عنه عام الحديبية. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو بكسر الهمزة، على أنّه شرط معترض، و جوابه محذوف أغنى عنه قوله: «لا يجر منّكم».

______________________________

(1) التوبة: 5.

(2) التوبة: 28.

(3) ليّان مصدر: لوى يلوي أمره عنّي، أي: طواه و أخفاه.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 213

أَنْ تَعْتَدُوا بالانتقام. و هو ثاني مفعولي «يجرمنّكم». و المعنى: لا يحملنّكم بغض قوم على الاعتداء عليهم بالانتقام منهم، لصدّهم إيّاكم عن المسجد الحرام، و هو منع أهل مكّة رسول اللّه و المؤمنين يوم الحديبية عن العمرة.

وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى بأن يعين بعضكم بعضا على العفو و الإغضاء و متابعة الأمر و مجانبة الهوى. وَ لا تَعاوَنُوا عَلَى الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ للتشفّي و الانتقام.

و الأولى أن يكون محمولا على العموم، فيتناول كلّ برّ و تقوى، أي: كلّ عمل أمر اللّه به، و اتّقاء كلّ ما نهاهم عنه، و كلّ إثم و ظلم.

ثمّ أمر بالتقوى و أوعد لمن تعدّى حدوده، فقال: وَ اتَّقُوا اللَّهَ باجتناب كلّ المناهي و المحارم إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لأنّ ناره لا يطفى حرّها، و لا يخمد جمرها، فانتقامه أشدّ.

[سورة المائدة (5): آية 3]

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ وَ الدَّمُ وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ وَ الْمُنْخَنِقَةُ وَ الْمَوْقُوذَةُ وَ الْمُتَرَدِّيَةُ وَ النَّطِيحَةُ وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ إِلاَّ ما ذَكَّيْتُمْ وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ ذلِكُمْ فِسْقٌ الْيَوْمَ

يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ فَلا تَخْشَوْهُمْ وَ اخْشَوْنِ الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ دِيناً فَمَنِ اضْطُرَّ فِي مَخْمَصَةٍ غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (3)

ثم بيّن سبحانه ما استثناه في الآية المتقدّمة بقوله: «إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ»، فقال خطابا لجميع المكلّفين: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ هي ما فارقه الروح من غير

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 214

تذكية شرعيّة. و استثنى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من ذلك السمك و الجراد

بقوله: «أحلّ لكم ميتتان و دمان».

وَ الدَّمُ أي: الدم المسفوح، لقوله تعالى: أَوْ دَماً مَسْفُوحاً «1». و كان أهل الجاهليّة يصبّونه في الأمعاء و يشوونها، و يقولون: لم يحرم من فزد له، أي: فصد له.

وَ لَحْمُ الْخِنْزِيرِ خصّ اللحم و إن كان شحمه و كلّ أجزائه محرّما، لأنّه المقصود بالأكل، و غيره تابع.

وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ أي: رفع الصوت لغير اللّه به، و هو قولهم: باسم اللات و العزّى عند ذبحه.

وَ الْمُنْخَنِقَةُ الّتي ماتت بالخنق، سواء كان بخنق غيرها أو اختنقت من نفسها لعارض.

وَ الْمَوْقُوذَةُ المضروبة بنحو خشب أو حجر- و نحو ذلك من المثقل- حتّى تموت، من: وقذته إذا ضربته.

وَ الْمُتَرَدِّيَةُ الّتي تردّت من علوّ أو في بئر فماتت به وَ النَّطِيحَةُ الّتي نطحتها اخرى فماتت به. و التاء فيها للنقل.

وَ ما أَكَلَ السَّبُعُ أي: و ما أكل منه السبع فمات. و هو يدلّ على أنّ جوارح الصيد إذا أكلت ممّا اصطادته لم تحلّ إلّا نادرا، للرواية.

إِلَّا ما ذَكَّيْتُمْ إلّا ما أدركتم ذكاته و فيه حياة مستقرّة من الأمور المذكورة، سوى ما لا يقبل الذكاة من الخنزير و الميتة.

و

عن الباقر و الصادق عليهما السّلام:

«أدنى ما يدرك به الذكاة أن يدركه يتحرّك أذنه أو ذنبه، أو تطرف عينه».

______________________________

(1) الأنعام: 145.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 215

و الذكاة في الشرع بقطع الحلقوم و المري ء بمحدّد. و الموت و إن كان متصوّرا بسبب آخر غير الأسباب المذكورة، لكن لمّا كانوا في الجاهليّة لا يعدّون الميّت إلّا ما مات حتف أنفه من دون شي ء من هذه الأسباب، فأعلمهم اللّه تعالى بذكر هذه الأمور أنّ حكم الجميع واحد، و أنّ وجه الاستباحة هو التذكية المشروعة فقط.

وَ ما ذُبِحَ عَلَى النُّصُبِ هو واحد الأنصاب، و هي أحجار كانت منصوبة حول البيت، يعبدونها و يذبحون عليها، و يعدّون ذلك قربة. و «على» بمعنى اللام، أو على أصلها بتقدير: و ما ذبح مسمّى على الأصنام. و قيل: النصب جمع واحدها نصاب.

قال ابن جريج: ليست النصب أصناما، إنّما الأصنام ما تصوّر و تنقش، بل كانت أحجارا منصوبة حول الكعبة، و كانت ثلاثمائة و ستّين حجرا- و قيل: كانت ثلاثمائة منها لخزاعة- فكانوا إذا ذبحوا أنضحوا «1» الدم على ما أقبل من البيت، و شرحوا «2» اللحم و جعلوه على الأحجار. فقال المسلمون: يا رسول اللّه كان أهل الجاهليّة يعظّمون البيت بالدم، فنحن أحقّ بتعظيمها. فأنزل اللّه تعالى: لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها «3» الآية.

وَ أَنْ تَسْتَقْسِمُوا بِالْأَزْلامِ أي: و حرّم عليكم الاستقسام بالأقداح. و ذلك أنّهم إذا قصدوا فعلا ضربوا ثلاثة أقداح، مكتوب على أحدها: أمرني ربّي، و على الآخر: نهاني ربّي، و على الثالث: غفل. فإن خرج الآمر مضوا على ذلك، و إن خرج الناهي تجنّبوا عنه، و إن خرج الغفل أجالوها ثانيا. فمعنى الاستقسام: طلب معرفة ما قسم لهم دون ما لم يقسم لهم بالأزلام.

و هي جمع الزلم كجمل، أو زلم كصرد.

______________________________

(1) أي: رشّوا الدم.

(2) شرح اللحم، أي: قطعه قطعا طوالا.

(3) الحجّ: 37.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 216

و هي قداح لا ريش له.

و قيل:

هو استقسام الجزور بالأقداح على الأنصباء المعلومة. و ذلك أنّ في الجاهليّة كانت عشرة أنفس يجتمعون و يشترون جزورا و يقسمونه على القدح العشرة. فالفذّ له سهم، و التوأم سهمان، و المسبل له ثلاثة أسهم، و النافس له أربعة أسهم، و الحلس له خمسة أسهم، و الرقيب له ستّة أسهم، و المعلّى له سبعة أسهم، و السفيح و المنيح و الوغد لا أنصباء لها. و كانوا يدفعون القداح إلى رجل فيجيلها، و كان ثمن الجزور على من تخرج هذه الثلاثة الّتي لا أنصباء لها. و هو القمار الّذي حرّمه اللّه عزّ و جلّ.

و هذا القول رواه عليّ بن إبراهيم في تفسيره عن الصادقين عليهما السّلام.

و القرعة الشرعيّة المنقولة عن صاحب الشرع و أمنائه المعصومين عليهم السّلام مستثناة منه.

و قيل: هي كعاب فارس و الروم الّتي كانوا يتقامرون بها. و هذا القول منقول عن مجاهد. و قيل: هي الشطرنج. و هذا منقول عن أبي سفيان بن وكيع.

ذلِكُمْ فِسْقٌ إشارة إلى الاستقسام و كونه فسقا، لأنّه دخول في علم الغيب، و ضلال باعتقاد أنّ ذلك طريق إليه، و افتراء على اللّه تعالى إن أريد ب «ربّي»: اللّه، و جهالة و شرك إن أريد به الصنم. أو في الميسر المحرّم، أو إشارة إلى تناول ما حرّم عليهم.

الْيَوْمَ لم يرد به يوما بعينه، و إنّما أراد الزمان الحاضر و ما يتّصل به من الأزمنة الآتية، كقولك: كنت بالأمس شابّا و أنت اليوم أشيب. فلا يريد بالأمس اليوم الّذي قبل يومك، و

لا باليوم يومك. و قيل: أراد يوم نزولها، و قد نزلت بعد عصر يوم الجمعة عرفة حجّة الوداع. و المعنى: الآن إلى آخر الدهر.

يَئِسَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ دِينِكُمْ أي: من إبطاله و رجوعكم عنه بتحليل هذه الخبائث و غيرها. أو يئسوا من أن يغلبوا على دينكم، لأنّ اللّه تعالى و في بوعده من

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 217

إظهاره على الدين كلّه فَلا تَخْشَوْهُمْ أن يظهروا عليكم بعد إظهار الدين و زوال الخوف منكم، إذا انقلبوا مغلوبين بعد أن كانوا غالبين وَ اخْشَوْنِ و أخلصوا الخشية لي.

الْيَوْمَ أَكْمَلْتُ لَكُمْ دِينَكُمْ بالنصر و الإظهار على الأديان كلّها، أو بالتنصيص على قواعد العقائد، و التوقيف على أصول الشرائع و جميع ما تحتاجون إليه في تكليفكم، من الحلال و الحرام و الفرائض و الأحكام، على وجه لا زيادة في ذلك و لا نقصان منه بالنسخ بعد هذا اليوم.

وَ أَتْمَمْتُ عَلَيْكُمْ نِعْمَتِي بالهداية و التوفيق، و أعطيتكم من العلم و الحكمة ما لم يعط قبلكم نبيّ و لا أمّة. أو بإكمال الدين، أو بفتح مكّة و هدم منار الجاهليّة.

و قال في الجامع: «معناه: و أتممت عليكم نعمتي بولاية عليّ بن أبي طالب عليه السّلام. ثم

قال: روي عن الباقر و الصادق عليهما السّلام: أنّه إنّما نزلت بعد أن نصب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليّا عليهم السّلام علما للأنام يوم غدير خمّ منصرفا من حجّة الوداع، و هي آخر فريضة أنزلها اللّه، لم ينزل بعدها فريضة» «1».

وَ رَضِيتُ لَكُمُ الْإِسْلامَ اخترته لكم دِيناً من بين الأديان، و هو الدين عند اللّه لا غير.

و

قال في المجمع: «و قد حدّثنا السيّد العالم أبو الحمد بن نزار الحسيني، قال: حدّثنا

أبو القاسم عبيد اللّه بن عبد اللّه الحسكاني «2»، قال: أخبرنا أبو عبد اللّه الشيرازي، قال: أخبرنا أبو بكر الجرجاني، قال: حدّثنا أبو أحمد البصري، قال:

حدّثنا أحمد بن عمّار بن خالد، قال: حدّثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني، قال:

حدّثنا قيس بن الربيع، عن أبي هارون العبدي، عن أبي سعيد الخدري: أنّ رسول

______________________________

(1) جوامع الجامع 1: 359.

(2) شواهد التنزيل: 1: 201 ح 211. زبدة التفاسير، ج 2، ص: 218

اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا نزلت هذه الآية قال: اللّه أكبر على إكمال الدين، و إتمام النعمة، و رضا الربّ برسالتي، و ولاية عليّ بن أبي طالب من بعدي. و قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهمّ وال من والاه، و عاد من عاداه، و انصر من نصره، و اخذل من خذله» «1».

و قوله: فَمَنِ اضْطُرَّ متّصل بذكر المحرّمات، و ما بينهما اعتراض لما يوجب التجنّب عنها، و هو أنّ تناولها فسوق، و حرمتها من جملة الدين الكامل و النعمة التامّة و الإسلام المرضيّ. و المعنى: فمن دعته الضرورة إلى تناول شي ء من هذه المحرّمات فِي مَخْمَصَةٍ في مجاعة غَيْرَ مُتَجانِفٍ لِإِثْمٍ غير مائل له و منحرف إليه، بأن يأكلها تلذّذا أو مجاوزا حدّ الرخصة، نحو قوله تعالى: غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ «2» فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لا يؤاخذه بأكله.

[سورة المائدة (5): آية 4]

يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ مُكَلِّبِينَ تُعَلِّمُونَهُنَّ مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (4)

و لمّا قدّم سبحانه ذكر المحرّمات عقّبه بذكر ما أحلّ، فقال: يَسْئَلُونَكَ ما ذا أُحِلَّ لَهُمْ «ماذا» مبتدأ

و «أحلّ لهم» خبره، أي: أيّ شي ء حلّ لهم من المطاعم، كأنّهم حين تلا عليهم المآكل المحرّمة سألوا عمّا أحلّ لهم منها. و لم يقل: ماذا أحلّ لنا، حكاية لما قالوه، لأنّ «يسألونك» بلفظ الغيبة، و هذا كما تقول: أقسم زيد ليفعلنّ. و لو قيل: لأفعلنّ و أحلّ لنا، لجاز.

______________________________

(1) مجمع البيان 3: 159.

(2) البقرة: 173، الأنعام: 145.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 219

قُلْ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ و هو كلّ ما لم يأت تحريمه في الكتاب و السنّة وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ عطف على الطيّبات إن جعلت «ما» موصولة على تقدير: و صيد ما علّمتم، و جملة شرطيّة إن جعلت شرطا، و جوابها «فكلوا».

و الجوارح كواسب الصيد على أهلها من سباع الطير و البهائم، فحذف لدلالة قوله:

«ممّا أمسكن» عليه، و لأنّه جواب عن سؤال السائل عن الصيد.

و قيل: الجوارح الكلاب فقط. و هذا منقول عن ابن عمر و الضحّاك و السدّي.

و هو

المرويّ عن أئمّتنا عليهم السّلام، فإنّهم قالوا: هي الكلاب المعلّمة خاصّة، أحلّه اللّه تعالى إذا أدركه صاحبه و قد قتلته، لقوله: «فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ.»

و

روي: «كلّ شي ء من السباع تمسك الصيد على نفسها إلّا الكلاب المعلّمة، فإنّها تمسك على صاحبها».

و

قال: «إذا أرسلت الكلب المعلّم، فاذكر اسم اللّه عليه، فهو ذكاته، و هو أن تقول: بسم اللّه و اللّه أكبر».

و عند فقهائنا مطلق الذكر كاف. و عند الجمهور من الفقهاء أنّ الجوارح بمعنى الكواسب مطلقا، أعمّ من أن يكون من سباع الطير و البهائم. و الصحيح ما قال الأئمّة المعصومون عليهم السّلام، فإنّ الحقّ معهم حيث داروا، لا مع غيرهم.

و

روى عليّ بن إبراهيم «1» في تفسيره بإسناده عن أبي بكر الحضرمي، عن أبي عبد اللّه عليه

السّلام قال: «سألته عن صيد البزاة و الصقور و الفهود و الكلاب؟ فقال: لا تأكل إلّا ما ذكّيت إلّا الكلاب. قلت: فإن قتله؟ قال: كل، فإنّ اللّه يقول: «وَ ما عَلَّمْتُمْ مِنَ الْجَوارِحِ».

مُكَلِّبِينَ مؤدّبين إيّاه الصيد و مضرّيه «2» به. مشتقّ من الكلب. و انتصابه على الحال من «علّمتم». و فيه دلالة على أنّه لا يكون التعليم إلّا للكلب. و الكلب

______________________________

(1) تفسير عليّ بن إبراهيم 1: 162.

(2) ضرّى الكلب بالصيد: عوّده إيّاه و أغراه به.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 220

و إن أطلق على كلّ سبع،

لقوله عليه السّلام: «اللّهمّ سلّط عليه كلبا من كلابك» «1»

لكنّه حقيقة في هذا المعهود، فيكون الاشتقاق منه، فيكون مقيّدا مخصّصا لمطلق الجوارح. و لذلك قسّم أصحابنا صيد الجوارح إلى قسمين: ما أدرك ذكاته فلا يحلّ إلّا بالتذكية مطلقا، و ما لم يدرك ذكاته إن كان مقتول الكلب فهو حلال، و إلّا فهو حرام، صيد أيّ الجوارح كان، كما نقل عن الباقر و الصادق عليهما السّلام.

و يؤيّد ما قلناه ما

روي أنّ جبرئيل نزل إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فوقف بالباب فاستأذن، فأذن له فلم يدخل، فخرج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إليه و قال: قد أذنّا لك. فقال عليه السّلام:

إنّا معشر الملائكة لا ندخل بيتا فيه صورة و لا كلب. فنظروا فإذا في بعض بيوتهم كلب، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا أدع كلبا بالمدينة إلّا قتلته، فهربت الكلاب حتى بلغت العوالي. فلمّا نزلت الآية قالوا: يا رسول اللّه كيف نصيد بها و قد أمرت بقتلها؟

فسكت رسول اللّه، فجاءه الوحي بالإذن في اقتناء الكلاب الّتي ينتفع بها. فاستثنى رسول اللّه صلّى اللّه

عليه و آله و سلّم كلاب الصيد و كلاب الماشية و كلاب الحرث، و أذن باتّخاذها.

تُعَلِّمُونَهُنَ حال ثانية أو استئناف مِمَّا عَلَّمَكُمُ اللَّهُ من علم التكليف.

و فيه دلالة على كون التعليم أمرا مستفادا كيفيّته من الشارع، فقال أصحابنا نقلا عن أئمّتهم أنّ التعليم يحصل بأمور، ألف: الاسترسال إذا أغري. ب: الانزجار إذا زجر.

ج: أن لا يعتاد أكل الصيد. د: الاستمرار على ذلك غالبا، و لا اعتبار بالندرة نفيا و إثباتا.

فَكُلُوا مِمَّا أَمْسَكْنَ عَلَيْكُمْ و هو ما لم تأكل منه،

لقوله عليه السّلام لعديّ بن حاتم: «إن أكل منه فلا تأكل، إنّما أمسك على نفسه».

و إليه ذهب أكثر أصحابنا و الفقهاء.

وَ اذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهِ الضمير ل «ما علّمتم». و المعنى: سمّوا عليه عند إرساله. أو لما أمسكن، بمعنى: سمّوا عليه إذا أدركتم ذكاته. وَ اتَّقُوا اللَّهَ في محرّماته، و لا تقربوا ما نهاكم عنه إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ فيؤاخذكم بما جلّ و دقّ.

______________________________

(1) في الكشّاف 1: 606، قال بعد نقل الحديث: فأكله الأسد. و معه يتمّ الاستشهاد بالحديث.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 221

[سورة المائدة (5): آية 5]

الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ مُحْصِنِينَ غَيْرَ مُسافِحِينَ وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ (5)

ثم بيّن سبحانه ما يحلّ من الأطعمة و الأنكحة إتماما لما تقدّم، فقال: الْيَوْمَ أُحِلَّ لَكُمُ الطَّيِّباتُ هي تقع على كلّ مستطاب من الأطعمة، إلّا ما دلّ الشرع على تحريمه وَ طَعامُ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حِلٌّ لَكُمْ قيل: هو ذبائحهم. و هو مذهب العامّة

و قليل منّا. و

قال الصادق عليه السّلام: مختصّ بالحبوب و ما لا يحتاج إلى التذكية.

و عليه أكثر علمائنا الإماميّة. وَ طَعامُكُمْ حِلٌّ لَهُمْ فلا جناح عليكم أن تطعموهم و تبيعوه منهم، و لو حرم عليهم لم يجز ذلك.

وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الْمُؤْمِناتِ أي: الحرائر أو العفائف. و إنّما خصّهنّ بعثا للمؤمنين على أن يتخيّروا لنطفهم، و إلّا فغير العفائف يصحّ نكاحهنّ. و كذلك الإماء المسلمات.

وَ الْمُحْصَناتُ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ قال أصحابنا: هنّ اللواتي أسلمن منهنّ، و ذلك أنّ قوما كانوا يتحرّجون من العقد على من أسلمت من كفر، فلذلك أفردن بالذكر. و احتجّوا بقوله: وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ «1»، و قوله:

______________________________

(1) الممتحنة: 10.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 222

وَ لا تَنْكِحُوا الْمُشْرِكاتِ حَتَّى يُؤْمِنَ «1». إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ مهورهنّ. و تقييد الحلّ بإيتائها لتأكيد وجوبها، و الحثّ على ما هو الأولى. مُحْصِنِينَ أعفّاء بالنكاح غَيْرَ مُسافِحِينَ غير مجاهرين بالزنا وَ لا مُتَّخِذِي أَخْدانٍ مسرّين به.

و الخدن: الصديق، يقع على الذكر و الأنثى.

وَ مَنْ يَكْفُرْ بِالْإِيمانِ فَقَدْ حَبِطَ عَمَلُهُ يريد بالإيمان شرائع الإسلام، و بالكفر به إنكاره و الامتناع عنه. و فيه دلالة على أنّ حبوط العمل لا يترتّب على الثواب، فإنّ الكافر ليس له عمل عليه ثواب. وَ هُوَ فِي الْآخِرَةِ مِنَ الْخاسِرِينَ أي:

الهالكين.

[سورة المائدة (5): آية 6]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً فَاطَّهَّرُوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ

وَ لكِنْ يُرِيدُ لِيُطَهِّرَكُمْ وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (6)

و لمّا تقدّم الأمر بالوفاء بالعقود، و من جملتها إقامة الصلاة، و من شرائطها الطهارة، بيّن سبحانه ذلك بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ أي: إذا

______________________________

(1) البقرة: 221.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 223

أردتم القيام، كقوله: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ «1». عبّر عن إرادة الفعل بالفعل المسبّب عنها، للإيجاز، و التنبيه على أنّ من أراد العبادة ينبغي أن يبادر إليها بحيث لا ينفكّ الفعل عن الإرادة. أو إذا قصدتم الصلاة، لأنّ التوجّه إلى الشي ء و القيام إليه قصد له.

و ظاهر الآية يوجب الوضوء على كلّ قائم إلى الصلاة و إن لم يكن محدثا، و الإجماع على خلافه، لما

روي: «أنّه صلّى الصلوات الخمس بوضوء واحد يوم الفتح، فقال عمر: صنعت شيئا لم تكن تصنعه! فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: عمدا فعلته».

فقيل: مطلق أريد به التقييد. و المعنى: إذا قمتم إلى الصلاة محدثين.

و قيل: كان في بدء الإسلام يجب الوضوء لكلّ صلاة، فنسخ.

و هو ضعيف،

لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «المائدة من آخر القرآن نزولا، فأحلّوا حلالها، و حرّموا حرامها».

فَاغْسِلُوا وُجُوهَكُمْ أمرّوا الماء عليها. و لا حاجة إلى الدلك، خلافا لمالك. و حدّ الوجه من قصاص شعر الرأس إلى محادر شعر الذقن طولا، و ما دخل بين الوسطى و الإبهام عرضا، حقيقة أو حكما. و هو المرويّ عن أئمّتنا عليهم السّلام. و لا يجب إيصال الماء إلى تحت الشعور، لعدم صدق الوجه على ما تحتها، فإنّ الوجه عبارة عمّا يتواجه عند التخاطب و يتراءى.

و وجه تخصيص هذا الخطاب بالمؤمنين، مع أنّ الكفّار أيضا مكلّفون بالفروع على المذهب الحقّ، أنّ المؤمنين

هم المتهيّؤن للامتثال المنتفعون بالأعمال.

وَ أَيْدِيَكُمْ إِلَى الْمَرافِقِ جمع مرفق، و هو المكان الّذي يرتفق به، أي: يتّكأ عليه من اليد. أجمعت الأمّة على أنّ من بدأ في غسل اليدين من المرفقين صحّ وضوءه، و اختلفوا في صحّة وضوء من بدأ من الأصابع إلى المرفق. و أصحابنا

______________________________

(1) النحل: 98.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 224

متّفقون على وجوب دخول المرفقين في المغسول و الابتداء بهما. و اختلفوا في «إلى»، فبعضهم يجعلونها بمعنى «مع»، كقوله: وَ يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ «1» و قوله:

مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ «2»، أو يجعلونها متعلّقة بمحذوف، تقديره: و أيديكم مضافة إلى المرافق، فيدخل المرفق ضرورة. و بعضهم قائلون إنّها على حقيقتها، و هو انتهاء الغاية، فيدخل المرفق أيضا، لأنّه لمّا لم يتميّز الغاية عن ذي الغاية بمحسوس وجب دخولها.

قال في كنز العرفان: «و الحقّ أنّها للغاية، و لا تقتضي دخول ما بعدها فيما قبلها و لا خروجه، لوروده معهما. أمّا الدخول فكقولك: حفظت القرآن من أوّله إلى آخره، و منه: سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى «3». و أمّا الخروج فك أَتِمُّوا الصِّيامَ إِلَى اللَّيْلِ «4» و فَنَظِرَةٌ إِلى مَيْسَرَةٍ «5». و حينئذ لا دلالة على دخول المرفق». و كذا لا دلالة له على الابتداء بالمرفق و لا بالأصابع، لأنّ الغاية قد تكون للغسل، و قد تكون للمغسول، و هو المراد هاهنا، بل كلّ من الابتداء و الدخول مستفاد من بيان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فإنّه توضّأ و ابتدأ بأعلى الوجه و بالمرفقين و أدخلهما، على ما وردت الأخبار الصحيحة عن أئمّتنا المعصومين عليهم السّلام، و إلّا لكان خلاف ذلك هو المتعيّن، لأنّه قال: هذا

وضوء لا يتقبّل اللّه الصلاة إلّا به، أي: بمثله، و حينئذ فلا يكون الابتداء بالأعلى و بالمرفقين و دخولهما مجزيا، بل يكون بدعة، لكن الإجماع على خلافه» «6». و فيه ما فيه.

______________________________

(1) هود: 52.

(2) آل عمران: 52، الصفّ: 14.

(3) الإسراء: 1.

(4) البقرة: 187.

(5) البقرة: 280.

(6) كنز العرفان 1: 9- 10.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 225

وَ امْسَحُوا بِرُؤُسِكُمْ الباء للتبعيض، لأنّه الفارق بين قولك: مسحت المنديل، و مسحت بالمنديل. و قيل: زائدة، لأنّ المسح متعدّ بنفسه، و لذلك أنكر أهل العربيّة إفادة التبعيض. و التحقيق أنّها تدلّ على تضمين الفعل معنى الإلصاق، فكأنّه قال: ألصقوا المسح برؤسكم، و ذلك لا يقتضي الاستيعاب و لا عدمه، بخلاف «امسحوا رؤوسكم» فإنّه كقوله: «فاغسلوا وجوهكم».

ثم اختلف في القدر الواجب مسحه، فقال أصحابنا: أقلّ ما يقع عليه الاسم أخذا بالمتيقّن، و لنصّ أئمّتهم عليهم السّلام، و به قال الشافعي. و قال أبو حنيفة: ربع الرأس، لأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مسح على ناصيته و هو قريب من الربع. و هو غلط. و مالك مسح الجميع.

و المسح عندنا مختصّ بالمقدّم، لوقوع ذلك في البيان، فيكون ذلك متعيّنا، و لأنّه يجزي بالإجماع، لأنّ جميع الفقهاء قالوا بالتخيير أيّ موضع شاء.

و الحقّ أنّه لا يجب الابتداء بالأعلى، لإطلاق المسح، و

لقول أحدهما عليهما السّلام: «لا بأس بالمسح مقبلا و مدبرا».

و أنّه لا يتقدّر بثلاثة أصابع، لما بيّنّا من الإطلاق، و

لقول الباقر عليه السّلام: «إذا مسحت بشي ء من رأسك، أو بشي ء من قدميك، ما بين كعبيك إلى أطراف الأصابع، فقد أجزأك».

نعم، المسح بثلاث أصابع أفضل.

وَ أَرْجُلَكُمْ إِلَى الْكَعْبَيْنِ قرأ نافع و ابن عامر و الكسائي و حفص بالنصب عطفا على محلّ «برؤوسكم» إذ

الجارّ و المجرور محلّه النصب على المفعوليّة، كقولهم: مررت بزيد و عمرا. و قرئ: «تنبت بالدهن و صبغا للآكلين» «1». و كقول الشاعر:

معاوي إنّنا بشر فأسجح فلسنا بالجبال و لا الحديدا

و قرأ الباقون بالجرّ عطفا على رؤسكم. و هو ظاهر. فالقراءتان دالّتان على معنى واحد، و هو وجوب المسح كما هو مذهب أصحابنا الإماميّة. و يؤيّده ما

رووه

______________________________

(1) المؤمنون: 20. زبدة التفاسير، ج 2، ص: 226

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه توضّأ و مسح على قدميه و نعليه. و مثله عن عليّ عليه السّلام و ابن عبّاس.

و أيضا

عن ابن عبّاس أنّه وصف وضوء رسول اللّه فمسح على رجليه.

و إجماع أئمّة أهل البيت صلوات اللّه عليهم على ذلك.

قال الصادق عليه السّلام: «يأتي على الرجل الستّون و السبعون ما قبل اللّه منه صلاة. قيل: و كيف ذلك؟ قال: لأنّه يغسل ما أمر اللّه بمسحه».

و غير ذلك من الأخبار. و قال ابن عبّاس و قد سئل عن الوضوء فقال: غسلتان و مسحتان.

و قال الفقهاء الأربعة بوجوب الغسل، محتجّين بقراءة النصب عطفا على «وجوهكم»، أو أنّه منصوب بفعل مقدّر، أي: و اغسلوا أرجلكم، كقوله: علفتها تبنا و ماء باردا ... أراد: سقيتها، و قوله: متقلّدا سيفا و رمحا، أي: معتقلا «1» رمحا.

و أمّا قراءة الجرّ فبالمجاورة، كقوله تعالى: عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ «2» بجرّ «أليم»، و قراءة حمزة: وَ حُورٌ عِينٌ «3»، فإنّه ليس معطوفا على قوله: وَ لَحْمِ طَيْرٍ و ما قبله، و إلّا لكان تقديره: يطوف عليهم ولدان مخلّدون بحور عين، لكنّه غير مراد، بل هم الطائفون لا المطوف بهم، فيكون جرّه على مجاورة «لحم طير».

و الجواب عن الأوّل بأنّ العطف على «وجوهكم» حينئذ مستهجن،

إذ لا يقال: ضربت زيدا و عمرا و أكرمت خالدا و بكرا، و يجعل «بكرا» عطفا على زيد و عمرو المضروبين، على أنّه إذا وجد فيه عاملان عطف على الأقرب منهما، كما هو مذهب البصريّين. و شواهده مشهورة، خصوصا مع عدم المانع، كما في المسألة، فإنّ العطف على الرؤوس لا مانع منه لغة و لا شرعا.

و أمّا النصب بفعل مقدّر، فإنّه إنّما نضطرّ إلى تقديره إذا لم يمكن حمله على

______________________________

(1) اعتقل الرمح: وضعه بين ركابه و ساقه.

(2) هود: 26.

(3) الواقعة: 22.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 227

اللفظ المذكور كما مثّلتم، و أمّا هاهنا فلا، لما قلنا من العطف على المحلّ.

و عن الثاني بأنّ إعراب المجاورة ضعيف جدّا، لا يليق بكتاب اللّه، و قد أنكره أكثر أهل العربيّة. مع أنّه إنّما يجوز بشرطين: الأوّل: عدم الالتباس، كقولهم: حجر ضبّ خرب. و الثاني: أن لا يكون معه حرف عطف، و هنا حرف عطف. و أيضا الروايات المذكورة حجّة عليهم.

و الكعبان عندنا هما العظمان الناتئان في ظهر القدمين عند معقد الشراك «1».

و قال بعض المفسّرين و الفقهاء: الكعبان هما عظما الساقين. و لو كان كما قالوا لقال سبحانه: و أرجلكم إلى الكعاب، و لم يقل: إلى الكعبين، لأنّ على ذلك القول يكون في كلّ رجل كعبان.

وَ إِنْ كُنْتُمْ جُنُباً عند القيام إلى الصلاة فَاطَّهَّرُوا أي: فاغتسلوا وَ إِنْ كُنْتُمْ مَرْضى أَوْ عَلى سَفَرٍ أَوْ جاءَ أَحَدٌ مِنْكُمْ مِنَ الْغائِطِ أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ فَلَمْ تَجِدُوا ماءً فَتَيَمَّمُوا صَعِيداً طَيِّباً فَامْسَحُوا بِوُجُوهِكُمْ وَ أَيْدِيكُمْ مِنْهُ من وجه الأرض. و «من» لابتداء الغاية، و لا يلزم منه وجوب علوق التراب باليد، كما هو مذهب بعض العامّة و قليل من أصحابنا. و قد

سبق تفسير ذلك، و لعلّ تكريره ليتّصل الكلام في بيان أنواع الطهارة.

ما يُرِيدُ اللَّهُ بما فرض عليكم من الوضوء وقت قيامكم إلى الصلاة، و من الغسل من الجنابة، و من التيمّم عند عدم الماء أو تعذّر استعماله لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ ليلزمكم في دينكم من ضيق وَ لكِنْ يُرِيدُ بما فرض عليكم لِيُطَهِّرَكُمْ لينظّف أجسادكم عن النجاسة الحكميّة، أو ليطهّركم عن الذنوب، فإنّ الوضوء و الغسل و التيمّم تكفير للذنوب، أو ليطهّركم بالتراب إذا أعوزكم التطهير بالماء.

و يمكن أن يكون المراد طهارة القلب عن صفة التمرّد عن طاعة اللّه، لأنّ الأمر

______________________________

(1) الشراك: سير النعل على ظهر القدم.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 228

بالتطهير يجعل العبد في مظنّة التمرّد، فإنّه غير معقول المعنى، فإذا انقاد و تعبّد به زال عن قلبه آثار التمرّد.

وَ لِيُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ ليتمّ بشرعه ما هو مطهّرة لأبدانكم و مكفّرة لذنوبكم نعمته عليكم في الدين لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ لتشكروا على تلك النعمة.

و الآية مشتملة على سبعة أمور كلّها مثنى: طهارتان أصل و بدل. و الأصل اثنان: مستوعب و غير مستوعب. و غير المستوعب باعتبار الفعل غسل و مسح.

و باعتبار المحلّ محدود، و هو غسل الأعضاء الثلاثة، و غير محدود، و هو المسح.

و أنّ آلتهما مائع و جامد. و موجبهما حدث أصغر و أكبر. و أن المبيح للعدول إلى البدل مرض، أو سفر. و أن الموعود عليهما تطهير الذنوب و إتمام النعمة. و أحكام الوضوء و الغسل و التيمّم و مسائلها المتفرّعة منها كثيرة موضعها الكتب المدوّنة في الفقه.

[سورة المائدة (5): آية 7]

وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ مِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)

لمّا قدّم سبحانه ذكر

بيان الشرائع، عقّبه بتذكير نعمه، فقال: وَ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ أي: نعمة الإسلام لتذكّركم المنعم، و ترغّبكم في شكره وَ مِيثاقَهُ الَّذِي واثَقَكُمْ بِهِ عاقدكم به عقدا وثيقا إِذْ قُلْتُمْ سَمِعْنا وَ أَطَعْنا أي: الميثاق الّذي أخذه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين بايعتموه على السمع و الطاعة، في العسر و اليسر و المنشط و المكره، أو ميثاق ليلة العقبة، أو بيعة الرضوان.

و

روى أبو الجارود عن الباقر عليه السّلام: «هو الميثاق الّذي بيّن لهم في حجّة الوداع، من تحريم المحرّمات و فرض ولاية أمير المؤمنين عليه السّلام، و غير ذلك».

وَ اتَّقُوا اللَّهَ في إنساء هذه النعمة و نقض ميثاقه إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 229

الصُّدُورِ أي: بما تضمروه في صدوركم من الأمور الخفيّة، فضلا عن جليّات أعمالكم. و المراد بالصدور هاهنا القلوب، لأنّ موضع القلب الصدر.

[سورة المائدة (5): آية 8]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ شُهَداءَ بِالْقِسْطِ وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلاَّ تَعْدِلُوا اعْدِلُوا هُوَ أَقْرَبُ لِلتَّقْوى وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (8)

و لمّا ذكر سبحانه الوفاء بالعهود، بيّن أنّ ممّا يلزم الوفاء به قيامكم بالحقّ، و مراعاتكم العدالة في أداء الشهادة و ترك العدوان بها، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا قَوَّامِينَ لِلَّهِ أي: ليكن من عادتكم القيام للّه بالحقّ في أنفسكم بالعمل الصالح، و في غيركم بالأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، ابتغاء مرضاة اللّه، و امتثالا لأمره شُهَداءَ بِالْقِسْطِ بالعدل بين الناس، سواء كانت شهادتكم عليهم أو لهم.

وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ عَلى أَلَّا تَعْدِلُوا عدّاه ب «على» لتضمّنه معنى الحمل. و المعنى: لا يحملنّكم شدّة بغضكم للمشركين على ترك العدل

فيهم، فتعتدوا عليهم بارتكاب ما لا يحلّ لكم، كمثلة و قذف و قتل نساء و صبية و نقض عهد، تشفّيا ممّا في قلوبكم من الضغائن. اعْدِلُوا هُوَ أي: العدل أَقْرَبُ لِلتَّقْوى صرّح لهم بالأمر بالعدل، و بيّن أنّه بمكان من التقوى، بعد ما نهاهم عن الجور، و بيّن أنّه مقتضى الهوى. و إذا كان مراعاة العدل مع الكفّار لازمة لكم، فما ظنّكم بالعدل مع المؤمنين؟! وَ اتَّقُوا اللَّهَ بفعل الطاعات و اجتناب السيّئات إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ عالم بِما تَعْمَلُونَ فيجازيكم عليه. و تكرير هذا الحكم إمّا لاختلاف السبب، كما قيل: إنّ

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 230

الأولى نزلت في المشركين و هذه في اليهود، أو لمزيد الاهتمام بالعدل، و المبالغة في إطفاء نائرة الغيظ.

[سورة المائدة (5): الآيات 9 الى 10]

وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ (9) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (10)

ثم قال وعدا للمؤمنين العادلين، و وعيدا للمشركين العادين: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ إنما حذف ثاني مفعولي «وعد» استغناء بقوله: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ، فإنّه استئناف يبيّنه، كأنّه قيل: أيّ وعد للمؤمنين؟

فقال: لهم مغفرة و أجر عظيم. و قيل: الجملة في موضع المفعول، فإنّ الوعد ضرب من القول، فكأنّه قال: وعدهم هذا القول.

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ هذا من عادته تعالى أن يتبع حال أحد الفريقين حال الآخر، وفاء بحقّ الدعوة. و فيه مزيد وعد للمؤمنين، و تطييب لقلوبهم.

[سورة المائدة (5): آية 11]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11)

ثم ذكر نعمة اخرى على المؤمنين، و هي دفع الأعداء عنهم، ليقيموا على الشكر عليه، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ هَمَّ قَوْمٌ أي:

قصدوا أَنْ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ بالقتل و الإهلاك، يقال: بسط إليه يده إذا بطش به، و بسط إليه لسانه إذا شتمه فَكَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ منعها أن تمدّ إليكم، وردّ

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 231

مضرّتها عنكم وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ فإنّه الكافي لإيصال الخير و دفع الشرّ.

و اختلف المفسّرون في الّذين بسطوا الأيدي إلى المؤمنين، فقال بعضهم: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا أتى بني النضير مع جماعة من أصحابه يستقرضهم لدية مسلمين قتلهما عمرو بن أميّة الضمري خطأ يحسبهما مشركين، فقالوا: نعم يا

أبا القاسم اجلس حتى نطعمك و نقرضك. فأجلسوه و همّوا بقتله، فعمد عمر بن جحاش إلى رحى عظيمة يطرحها عليه، فأمسك اللّه يده، فنزل جبرئيل فأخبره، فخرج من بينهم. و هذا قول مجاهد و قتادة. و عليه أكثر المفسّرين.

و

قيل: إنّ المشركين لمّا رأوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أصحابه بعسفان قاموا إلى الظهر معا، فلمّا صلّوا ندموا ألّا كانوا أكبّوا عليهم، و همّوا أن يوقعوا بهم إذا قاموا إلى العصر، فردّ اللّه تعالى كيدهم بأن أنزل صلاة الخوف، فنزلت هذه الآية.

و

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد وقعة بدر نزل منزلا و علّق سلاحه بشجرة، و تفرّق الناس عنه. فبعث قريش رجلا اسمه عمرو بن وهب الجمحي ليغتاله، فجاءه فسلّ سيفه فقال: من يمنعك منّي؟ فقال: اللّه تعالى. فأسقط جبرئيل من يده السيف و أخذه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال: من يمنعك منّي؟ فقال: لا أحد، أشهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمّدا رسول اللّه، فنزلت.

و

قال الواقدي: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم غزا جمعا من بني ذبيان، فتحصّنوا برؤوس الجبال، و نزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بحيث يراهم، فذهب لحاجته فأصابه مطر، فبلّ ثوبه فنشره على شجرة، و اضطجع تحته و الأعراب ينظرون إليه، فجاءه سيّدهم دعثور بن الحارث، حتّى وقف على رأسه بالسيف مشهورا، فقال: يا محمد من يمنعك منّي اليوم؟ فقال: اللّه، و ضرب جبرئيل في صدره، و وقع السيف من يده، فأخذه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قام على رأسه

و قال: من يمنعك اليوم منّي؟ فقال: لا أحد، و أنا أشهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّ محمدا رسول اللّه، فنزلت الآية.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 232

و على هذا فيكون تخليص النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ممّا همّوا به نعمة على المؤمنين، من حيث إنّ مقامه بينهم نعمة عليهم.

[سورة المائدة (5): الآيات 12 الى 13]

وَ لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً وَ قالَ اللَّهُ إِنِّي مَعَكُمْ لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَ آتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَ آمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَ عَزَّرْتُمُوهُمْ وَ أَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ لَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (12) فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ وَ نَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ وَ لا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ إِلاَّ قَلِيلاً مِنْهُمْ فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اصْفَحْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (13)

و لمّا بيّن اللّه تعالى خيانة الكفّار و همّهم بقتله، و أنّه دفع عنه شرّهم، عقّبه بذكر أحوال اليهود و خبث سرائرهم، و قبح عادتهم في خيانة الرسول، تسلية لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيما همّوا به، فقال: وَ لَقَدْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ بعد هلاك فرعون بمصر، بأن يصيروا إلى أريحا ليقاتلوا الجبابرة وَ بَعَثْنا مِنْهُمُ اثْنَيْ عَشَرَ نَقِيباً شاهدا من كلّ سبط، ينقّب عن أحوال قومه، و يفتّش عنها، أو كفيلا يكفل عليهم بالوفاء بما أمروا به.

روي أنّ بني إسرائيل لمّا فرغوا عن فرعون، و استقرّوا بمصر، أمرهم اللّه

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 233

تعالى بالمسير إلى أريحا من أرض الشام، و كان يسكنها الكنعانيّون الجبابرة، و

منهم عوج بن عنق، و قال: إنّي كتبتها لكم دارا قرارا، فاخرجوا إليها، و جاهدوا من فيها، فإنّي ناصركم، و أمر اللّه موسى عليه السّلام بأن يأخذ من كلّ سبط كفيلا عليهم بالوفاء بما أمروا به، فأخذ عليهم الميثاق، و اختار منهم النقباء و سار بهم، فلمّا دنا من أرض كنعان بعث النقباء يتجسّسون الأخبار، و نهاهم أن يحدّثوا قومهم ما رأوا من عظم جثث الجبّارين و جسامة هياكلهم و شدّة بطشهم، لئلّا يجبنوا و يتباعدوا عن جهادهم، فلمّا رأوا أجراما عظيمة و بأسا شديدا هابوا، فرجعوا و حدّثوا قومهم ما رأوا من الجبّارين، إلا كالب بن يوفنا من سبط يهوذا، و يوشع ابن نون من سبط أفرائيم بن يوسف، و كانا من النقباء. و قيل: كتم خمسة، و أظهر الباقون.

وَ قالَ اللَّهُ بوساطة موسى إِنِّي مَعَكُمْ بالنصرة و الإعانة لَئِنْ أَقَمْتُمُ الصَّلاةَ وَ آتَيْتُمُ الزَّكاةَ وَ آمَنْتُمْ بِرُسُلِي وَ عَزَّرْتُمُوهُمْ أي: نصرتموهم و قوّيتموهم و منعتموهم من أيدي العدوّ. و أصله الذبّ، و منه التعزير، و هو التنكيل و المنع من معاودة الفساد، وَ أَقْرَضْتُمُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً أي: أنفقتم في سبيل اللّه نفقة حسنة يجازيكم بها، فكأنّه قرض من هذا الوجه. و «قرضا» يحتمل المصدر و المفعول.

و قيل: معنى الآية: لقد أخذنا ميثاقهم بالإيمان و العدل، و بعثنا منهم اثني عشر ملكا يقيمون فيهم العدل. و اللام موطّئة للقسم.

لَأُكَفِّرَنَّ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ جواب للقسم المدلول عليه باللام في «لئن» سادّ مسدّ جواب الشرط و القسم جميعا وَ لَأُدْخِلَنَّكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ فَمَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ بعد ذلك الشرط المؤكّد المعلّق به هذا الوعد العظيم مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ ضلالا لا شبهة

فيه، و زال عن قصد الطريق الواضح، لأنّ النعمة كلّما عظمت و زادت كثرت المذمّة في كفرانها و تمادت، بخلاف من كفر قبل ذلك، إذ قد يمكن أن تكون له شبهة، و يتوهّم له معذرة.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 234

فَبِما نَقْضِهِمْ مِيثاقَهُمْ لَعَنَّاهُمْ أبعدناهم من رحمتنا، أو مسخناهم، أو ضربنا عليهم الجزية وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً خذلناهم، و منعناهم التوفيق و اللطف و الذي تنشرح به صدورهم، حتى ران على قلوبهم ما كانوا يكسبون، حتى قست قلوبهم، فلا تنفعل عن الآيات. و القسوة خلاف اللين و الرقّة. و قرأ حمزة و الكسائي:

قسيّة، و هي إمّا مبالغة قاسية، أو بمعنى رديئة مغشوشة، من قولهم: درهم قسي، إذا كان مغشوشا. و هو أيضا من القسوة، فإنّ المغشوش فيه يبس و صلابة.

ثمّ استأنف لبيان قسوة قلوبهم بقوله: يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ عَنْ مَواضِعِهِ فإنّه لا قسوة أشدّ من تغيير كلام اللّه و الافتراء عليه. و يجوز أن يكون حالا من مفعول «لعنّاهم» لا من القلوب، إذ لا ضمير له فيه وَ نَسُوا حَظًّا و تركوا نصيبا وافيا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ من التوراة، أو من اتّباع محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و المعنى: أنّهم حرّفوا التوراة، و تركوا حظّهم ممّا أنزل عليهم، فلم ينالوه.

و قيل: معناه: و ضيّعوا ما ذكّرهم اللّه به في كتابهم ممّا فيه رشدهم، و تركوا تلاوته، فنسوه على مرّ الأيّام.

و قيل: معناه: أنّهم لمّا حرّفوها فزلّت بشؤمه أشياء منها عن حفظهم، لما روي أنّ ابن مسعود قال: قد ينسى المرء بعض العلم بالمعصية، و تلا هذه الآية.

وَ لا تَزالُ تَطَّلِعُ عَلى خائِنَةٍ مِنْهُمْ أي: خيانة، أو فرقة خائنة، أو خائن، و التاء للمبالغة. و المعنى:

أنّ الخيانة و الغدر من عادتهم و عادة آبائهم السالفة، لا تزال ترى ذلك منهم. إِلَّا قَلِيلًا مِنْهُمْ لم يخونوا، و هم الّذين آمنوا منهم. و قيل:

استثناء من قوله: «وَ جَعَلْنا قُلُوبَهُمْ قاسِيَةً».

فَاعْفُ عَنْهُمْ وَ اصْفَحْ ما داموا على عهدك، و لم يخونوك. عنى بهم القليل الّذي استثناه منهم. أو إن تابوا و آمنوا، أو عاهدوا و التزموا الجزية. و قيل: مطلق

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 235

نسخ بآية «1» السيف. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ تعليل للأمر بالصفح، و حثّ عليه، و تنبيه على أنّ العفو عن الكافر الخائن إحسان، فضلا عن العفو عن غيره.

[سورة المائدة (5): آية 14]

وَ مِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَ سَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (14)

ثمّ بيّن سبحانه حال النصارى في نقضهم ميثاق عيسى، كما بيّن حال اليهود في نقضهم ميثاق موسى، فقال: وَ مِنَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى أَخَذْنا مِيثاقَهُمْ أي:

أخذنا من النصارى ميثاقهم بالتوحيد، و الإقرار بنبوّة المسيح و جميع الأنبياء، و أنّهم كلّهم عبيد اللّه، كما أخذنا ممّن قبلهم. و قيل: تقديره: و من الّذين قالوا إنّا نصارى قوم أخذنا. و إنّما قال: قالوا إنّا نصارى، ليدلّ على أنّهم سمّوا أنفسهم بذلك ادّعاء لنصرة اللّه تعالى.

فَنَسُوا حَظًّا مِمَّا ذُكِّرُوا بِهِ فَأَغْرَيْنا فألزمنا، من: غري بالشي ء إذا لصق به بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ أي: بين فرق النصارى، و هم: نسطوريّة، و يعقوبيّة، و ملكانيّة. و ذلك أنّ النسطوريّة قالت: إنّ عيسى ابن اللّه. و اليعقوبيّة قالت: إنّ اللّه هو المسيح بن مريم. و الملكانيّة- و هم أهل الروم- قالوا: إنّ اللّه ثالث ثلاثة: اللّه، و عيسى،

و مريم. أو بينهم و بين اليهود. إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي: المعاداة تبقى بينهم إلى يوم القيامة، إمّا بين فرق النصارى، و إمّا بين اليهود و النصارى.

و المعنى: أنّا أخطرنا على بال كلّ منهم ما يوجب الوحشة و النفرة عن

______________________________

(1) التوبة: 29.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 236

صاحبه، و ما يهيج العصبيّة و العداوة، عقوبة لهم على تركهم الميثاق، أو خذلانا و تخلية.

وَ سَوْفَ يُنَبِّئُهُمُ اللَّهُ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ بالجزاء و العقاب في الدنيا و الآخرة.

[سورة المائدة (5): الآيات 15 الى 16]

يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ (15) يَهْدِي بِهِ اللَّهُ مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ سُبُلَ السَّلامِ وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِهِ وَ يَهْدِيهِمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (16)

و لمّا ذكر سبحانه أنّ اليهود و النصارى نقضوا العهود، و تركوا ما أمروا به، عقّب ذلك بدعائهم إلى الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ذكّرهم ما أتاهم من أسرار كتبهم حجّة عليهم، فقال خطابا لليهود و النصارى: يا أَهْلَ الْكِتابِ يعني: اليهود و النصارى. و وحّد الكتاب لأنّه للجنس. قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يعني: محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ كنعته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، في التوراة و الإنجيل، و آية الرجم في التوراة، و أشياء كانوا يحرّفونها، و بشارة عيسى بأحمد في الإنجيل وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ ممّا تخفونه، لا يخبر به إذا لم يضطرّ إليه أمر دينيّ. أو عن كثير منكم، فلا يؤاخذه بجرمه. قَدْ جاءَكُمْ مِنَ اللَّهِ نُورٌ وَ كِتابٌ مُبِينٌ يعني: القرآن،

فإنّه الكاشف لظلمات الشكّ و الضلال، و الكتاب الواضح الإعجاز. أو الّذي يبيّن ما كان خافيا على الناس من الحقّ. و قيل: يريد بالنور محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، يهتدي به الخلق كما

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 237

يهتدى بالنور.

يَهْدِي بِهِ اللَّهُ وحّد الضمير لأنّ المراد بهما واحد، أو لأنّهما كواحد في الحكم مَنِ اتَّبَعَ رِضْوانَهُ رضاه بالإيمان سُبُلَ السَّلامِ طرق السلامة و النجاة من العذاب، أو سبل اللّه، لأنّ السلام اسم من أسماء اللّه، و هي شرائع الإسلام وَ يُخْرِجُهُمْ مِنَ الظُّلُماتِ من أنواع الكفر إِلَى النُّورِ إلى الإسلام بِإِذْنِهِ بلطفه و توفيقه وَ يَهْدِيهِمْ و يرشدهم إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ طريق هو أقرب الطرق إلى اللّه، و مؤدّ إليه، و هو طريق الإسلام، فإنّه يوصل إلى الجنّة لا محالة.

[سورة المائدة (5): آية 17]

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (17)

ثمّ حكى سبحانه عن النصارى ما قالوه في المسيح، فقال: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ هم الّذين قالوا بالاتّحاد منهم. و قيل: لم يصرّح به أحد منهم، و لكن لمّا زعموا أنّ فيه لاهوتا يخلق و يحيي و يميت و يدبّر أمر العالم، و مع ذلك قالوا: لا إله إلّا اللّه، لزمهم أن يكون هو المسيح، فنسب إليهم لازم قولهم، توضيحا لجهلهم، و تفضيحا لمعتقدهم.

قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً فمن يمنع من قدرته و إرادته شيئا إِنْ أَرادَ أَنْ يُهْلِكَ

الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً عطف «من في الأرض» على

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 238

المسيح و أمّه، ليدلّ على أنّهما من جنسهم، لا تفاوت في البشريّة بينهما و بينهم.

فاحتجّ اللّه تعالى في هذا القول على فساد قولهم، بأنّ المسيح مقدور مقهور قابل للفناء كسائر الممكنات، و من كان كذلك فهو بمعزل عن الألوهيّة.

ثمّ أزاح ما عرض لهم من الشبهة في أمره، بأنّه خلق من غير أب، فقال:

وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ و المعنى: أنّه تعالى قادر على الإطلاق، يخلق من غير أصل، كما خلق السموات و الأرض، و من أصل، كخلق ما بينهما، فينشئ من أصل ليس من جنسه، كآدم عليه السّلام و كثير من الحيوانات، و من أصل يجانسه، إمّا من ذكر وحده كما خلق حوّاء، أو من أنثى وحدها كعيسى، أو منهما كسائر الناس.

[سورة المائدة (5): آية 18]

وَ قالَتِ الْيَهُودُ وَ النَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (18)

ثم حكى اللّه سبحانه عن الفريقين من أهل الكتاب، فقال: وَ قالَتِ الْيَهُودُ وَ النَّصارى نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ أي: أشياع ابنيه عزير و المسيح، كما قيل لأشياع أبي خبيب- و هو عبد اللّه بن الزبير-: الخبيبون. أو المقرّبون عنده قرب الأولاد من والدهم. و قد سبق «1» مثل ذلك في سورة آل عمران.

قُلْ فَلِمَ يُعَذِّبُكُمْ بِذُنُوبِكُمْ أي: فإن صحّ ما زعمتم أنّكم أبناء اللّه و أحبّاؤه فلم تذنبون؟ فتعذّبون بذنوبكم فتمسخون،

فإنّ من كان بهذا المنصب لا يفعل ما

______________________________

(1) في ج 1: 492.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 239

يوجب تعذيبه. و لأنّ الأب يشفق على ولده، و الحبيب على حبيبه، فلا يعذّبه، و قد عذّبكم في الدنيا بالقتل و الأسر و المسخ، و اعترفتم بأنّه سيعذّبكم بالنار أيّاما معدودة، فليس الأمر كما قلتم.

بَلْ أَنْتُمْ بَشَرٌ مِمَّنْ خَلَقَ ممّن خلقه اللّه يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ و هم من آمن به و برسله وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ و هم من كفر. و المعنى: أنّه تعالى يعاملكم معاملة سائر الناس، لا مزيّة لكم عنده.

وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما كلّها سواء في كونها خلقا و ملكا له وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ أي: يؤول إليه أمر العباد، فيجازي المحسن بإحسانه و المسي ء بإساءته.

[سورة المائدة (5): آية 19]

يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَ لا نَذِيرٍ فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (19)

ثمّ عاد إلى خطاب أهل الكتاب و حجاجهم، و إلزامهم برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ أي: الدين و أحكامه الشرعيّة، و حذف لظهوره. أو ما كنتم تخفونه، و حذف لتقدّم ذكره. و يمكن أن لا يقدّر مفعول، على معنى: يبذل لكم البيان على الإطلاق. و الجملة في موضع الحال، أي: جاءكم رسولنا مبيّنا لكم عَلى فَتْرَةٍ مِنَ الرُّسُلِ متعلّق ب «جاءكم» أي: جاءكم على حين فتور من إرسال الرسل و انقطاع من الوحي أَنْ تَقُولُوا ما جاءَنا مِنْ بَشِيرٍ وَ لا نَذِيرٍ كراهة أن تقولوا: ما جاءنا من رسول بشير بالثواب و نذير

بالعقاب، و تعتذروا بهذا

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 240

القول فَقَدْ جاءَكُمْ بَشِيرٌ وَ نَذِيرٌ متعلّق بمحذوف، أي: لا تعتذروا ب «ما جاءنا» فقد جاءكم.

وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فيقدر على إرسال الرسل متعاقبة، كما فعل بين موسى و عيسى، إذ كان بينهما ألف و سبعمائة سنة و ألف نبيّ، و على الإرسال على فترة، كما فعل بين عيسى و محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، كان بينهما ستّمائة أو خمسمائة «1» و تسع و ستّون سنة و أربعة أنبياء، ثلاثة من بني إسرائيل و واحد من العرب، و هو خالد بن سنان العيسي. و في الآية امتنان عليهم بإرسال الرسول إليهم بعد اندراس آثار الوحي، و كانوا أحوج ما يكونون إليه.

[سورة المائدة (5): آية 20]

وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (20)

ثم ذكر سبحانه صنيع اليهود في المخالفة لنبيّهم عليه السّلام، تسلية لنبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مخادعتهم إيّاه، فقال: وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ و اذكر يا محمد إذ قال موسى لهم:

يا قَوْمِ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ و آلاءه فيكم إِذْ جَعَلَ فِيكُمْ أَنْبِياءَ فأرشدكم و شرّفكم بهم، و لم يبعث في أمّة ما بعث في بني إسرائيل من الأنبياء، و ذلك من نعم اللّه عليهم، و آلائه لديهم.

وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً أي: و جعل منكم أو فيكم. و قد تكاثر فيهم الملوك تكاثر الأنبياء بعد فرعون، فقتلوا يحيى، و همّوا بقتل عيسى. و قيل: إنّهم لمّا كانوا مملوكين في أيدي القبط، فأنقذهم اللّه تعالى، و جعلهم مالكين لأنفسهم و أمورهم، سمّاهم

______________________________

(1)

هذا الرقم للفترة بين ميلاد عيسى عليه السّلام و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أي: كان بين ميلادهما خمسمائة و تسع و ستّون سنة.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 241

ملوكا. و قيل: الملك من له مسكن واسع، فيه ماء جار. و قيل: من له بيت و خدم.

و قيل: من له مال لا يحتاج معه إلى تكلّف الأعمال و تحمّل المشاقّ.

وَ آتاكُمْ ما لَمْ يُؤْتِ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ من فلق البحر، و تظليل الغمام، و إنزال المنّ و السلوى، و غير ذلك من الأمور العظام. و قيل: أراد عالمي زمانهم.

[سورة المائدة (5): الآيات 21 الى 26]

يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ وَ لا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ (21) قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ وَ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ (22) قالَ رَجُلانِ مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ وَ عَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (23) قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً ما دامُوا فِيها فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ (24) قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ إِلاَّ نَفْسِي وَ أَخِي فَافْرُقْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (25)

قالَ فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (26)

ثم كلّفهم سبحانه دخول الأرض المقدّسة بعد ذكر النعم، فقال: قال موسى لهم: يا قَوْمِ ادْخُلُوا الْأَرْضَ الْمُقَدَّسَةَ أرض بيت المقدس، سمّيت بذلك لأنّها كانت قرار الأنبياء عليهم السّلام و مسكن المؤمنين. و قيل: الطور و ما حوله. و قيل: دمشق

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 242

و فلسطين و بعض الأردن. و قيل: الشام. الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ

أي: قسّمها لكم، أو كتب في اللوح المحفوظ أنّها تكون مسكنا لكم، و لكن إن آمنتم و أطعتم، لقوله لهم بعد ما عصوا: فَإِنَّها مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ «1».

وَ لا تَرْتَدُّوا عَلى أَدْبارِكُمْ و لا ترجعوا مدبرين خوفا من الجبابرة. قيل: لمّا سمعوا حالهم من النقباء بكوا و قالوا: ليتنا متنا بمصر، تعالوا نجعل علينا رأسا ينصرف بنا إلى مصر. أو لا ترتدّوا عن دينكم بعصيانكم نبيّكم و مخالفتكم أمر ربّكم. فَتَنْقَلِبُوا خاسِرِينَ ثواب الدنيا و الآخرة. و يجوز في «فتنقلبوا» الجزم على العطف، و النصب على الجواب.

قالُوا يا مُوسى إِنَّ فِيها قَوْماً جَبَّارِينَ متغلّبين لا تتأتّى مقاومتهم. و الجبّار فعّال من: جبره على الأمر بمعنى: أجبره، و هو العاتي الّذي يجبر الناس على ما يريد.

قال ابن عبّاس: لمّا بعث من قومه اثني عشر نقيبا ليخبروه خبرهم، رآهم رجل من الجبّارين يقال له عوج، فأخذهم في كمّه مع فاكهة كان حملها من بستانه، و أتى بهم الملك، فنثرهم بين يديه، و قال الملك تعجّبا منهم: هؤلاء يريدون قتالنا! فقال الملك ارجعوا إلى صاحبكم فأخبروه خبرنا. قال مجاهد: و كان فاكهتهم لا يقدر على حمل عنقود منها خمسة رجال بالخشب، و يدخل في قشر نصف رمّانة خمسة رجال، و إنّ موسى كان طوله عشرة أذرع، و له عصا كان طولها عشرة أذرع، و نزا «2» من الأرض مثل ذلك، فبلغ كعب عوج بن عناق فقتله. و قيل: كان طول سريره ثمانمائة ذراع.

وَ إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها حَتَّى يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنْ يَخْرُجُوا مِنْها فَإِنَّا داخِلُونَ إذ لا طاقة

______________________________

(1) المائدة: 26.

(2) نزا ينزو، أي: وثب.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 243

لنا بهم.

قالَ رَجُلانِ كالب و يوشع مِنَ الَّذِينَ يَخافُونَ أي: من الّذين يخافون

اللّه تعالى و يتّقونه. و قيل: كانا رجلين من الجبابرة أسلما و سارا إلى موسى و اتّبعاه حين بلغهما خبره. و على هذا، الواو «1» لبني إسرائيل، و الراجع إلى الموصول محذوف، أي: من الّذين يخافهم بنو إسرائيل. أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمَا بالإيمان و التثبيت. و هو صفة ثانية ل «رجلان» أو اعتراض. ادْخُلُوا عَلَيْهِمُ الْبابَ باب قريتهم، أي:

باغتوهم و ضاغطوهم في المضيق، و امنعوهم من الإصحار فَإِذا دَخَلْتُمُوهُ فَإِنَّكُمْ غالِبُونَ لتعسّر الكرّ عليهم في المضايق من عظم أجسامهم، و لأنّهم أجسام لا قلوب فيها فلا تخافوهم. و يجوز أن يكون علمهما بذلك من إخبار موسى عليه السّلام و قوله: «كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ»، أو ممّا علما من عادته تعالى في نصرة رسله، و ما عهدا من صنعه تعالى لموسى عليه السّلام في قهر أعدائه. وَ عَلَى اللَّهِ فَتَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ أي:

مؤمنين به، و مصدّقين بوعده.

قالُوا يا مُوسى إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها أَبَداً نفوا دخولهم في المستقبل مدى الدهر المتطاول على التأكيد و التأييد ما دامُوا فِيها بدل من «أبدا» بدل البعض، أو بيان للأبد فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ قالوا ذلك على وجه الاستهانة منهم باللّه و رسوله، و عدم مبالاة بهما، أو استهزاء، و قصدوا ذهابهما حقيقة، لجهلهم و قسوة قلوبهم الّتي عبدوا بها العجل، و سألوا بها رؤية اللّه جهرة. و يحتمل أن لا يقصدوا حقيقة الذهاب، و لكن كما تقول: كلّمته فذهب يجيبني، تريد معنى الإرادة و القصد للجواب، كأنّهم قالوا: أريدا قتالهم. و قيل: تقديره: فاذهب أنت و ربّك يعينك.

قالَ رَبِّ إِنِّي لا أَمْلِكُ لنصرة دينك، و ترويج أحكامك إِلَّا نَفْسِي وَ أَخِي

______________________________

(1) أي: الواو في «يخافون».

زبدة التفاسير،

ج 2، ص: 244

قاله شكاية منه إلى اللّه تعالى، و إظهارا لبثّه و حزنه لمّا خالفه قومه، و أيس منهم، و لم يبق معه موافق يثق به غير هارون عليه السّلام. و نحوه قول يعقوب عليه السّلام: إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اللَّهِ «1».

و

عن عليّ عليه السّلام: أنّه كان يدعو الناس على منبر الكوفة إلى قتال البغاة، فما أجابه إلّا رجلان، فتنفّس الصعداء، فدعا لهما و قال: أين تقعان ممّا أريد.

و الرجلان المذكوران و إن كانا يوافقانه لم يثق عليهما ثقة هارون، لما كابد من تلوّن قومه. و يجوز أن يراد ب «أخي» من يؤاخيني في الدين، فيدخلان فيه.

و ذكر في إعراب «أخي» وجوه. نصبه عطفا على «نفسي»، أو على اسم «إنّ» أي: و إنّ أخي لا يملك إلّا نفسه. و جرّه عند الكوفيّين عطفا على الضمير في «نفسي». و هو ضعيف، لقبح العطف على الضمير المجرور إلا بتكرير الجارّ. و رفعه عطفا على الضمير في «لا أملك» أو على «إنّ» و اسمها.

فَافْرُقْ فافصل بَيْنَنا وَ بَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ بأن تحكم لنا بما نستحقّه، و تحكم عليهم بما يستحقّونه، أو بالتبعيد بيننا و بينهم، تخليصا من صحبتهم، فهو في معنى الدعاء عليهم.

قالَ فَإِنَّها فإنّ الأرض المقدّسة مُحَرَّمَةٌ عَلَيْهِمْ لا يدخلونها و لا يملكونها بسبب عصيانهم أَرْبَعِينَ سَنَةً يَتِيهُونَ فِي الْأَرْضِ عامل الظرف- و هو أربعين- إمّا «محرّمة» فيكون التحريم مؤقّتا غير مؤبّد، فلا يخالف قوله: «الَّتِي كَتَبَ اللَّهُ لَكُمْ». و إمّا «يتيهون» أي: يسيرون فيها متحيّرين لا يرون طريقا، فيكون التحريم مطلقا. و يؤيّد الأوّل ما روي أنّ موسى سار بمن بقي من بني إسرائيل، و كان يوشع على مقدّمته، ففتح أريحا و أقام بها

ما شاء اللّه ثم قبض.

و قيل: مات موسى في التيه، و لمّا احتضر أخبرهم بأنّ يوشع بعده نبيّ اللّه،

______________________________

(1) يوسف: 86.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 245

و أنّ اللّه أمره بقتال الجبابرة، و كان هارون مات قبله بسنة، و كان عمر موسى مائة و عشرين سنة في ملك أفريدون و منوچهر، و كان عمر يوشع مائة و ستّة و عشرين، و كان بعد وفاة موسى مدبّرا لأمر بني إسرائيل سبعا و عشرين سنة، و مات النقباء في التيه بغتة غير كالب و يوشع، فسار يوشع بهم إلى أريحا بعد مضيّ ثلاثة أشهر من فوت موسى، و قاتل الجبابرة. و روي أنّ الشمس غابت في أثناء المحاربة، فدعا يوشع فردّ اللّه تعالى عليهم الشمس حتى قتلوا الجبابرة و فتحوا أريحا، و صار الشام كلّه لبني إسرائيل.

و قيل: لم يدخل الأرض المقدّسة أحد ممّن قال: «إِنَّا لَنْ نَدْخُلَها» و هلكوا في التيه، و لمّا نشأت ذراريهم قاتلوا الجبّارين و دخلوها. فيكون التقدير: كتب اللّه لكم الأرض المقدّسة بشرط أن تجاهدوا أهلها، فلمّا أبوا الجهاد قيل: فإنّها محرّمة عليهم.

و التيه المفازة الّتي يتاه فيها، فقد روي أنّهم لبثوا أربعين سنة في ستّة فراسخ يسيرون كلّ يوم من الصباح إلى المساء، فإذا هم كانوا بحيث ارتحلوا عنه، و كان الغمام يظلّهم من حرّ الشمس، و يطلع عليهم بالليل عمود من نور يضي ء لهم، و ينزل عليهم المنّ و السلوى، و ماؤهم من الحجر الّذي يحملونه، و لا تطول شعورهم، و إذا ولد لهم مولود كان عليه ثوب كالظفر يطول بطوله.

و قيل: كان موسى و هارون معهم، لقوله: «فَافْرُقْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ».

و قيل: كانا معهم، إلّا أنّه كان ذلك روحا

لهما و سلامة، كالنار لإبراهيم، و ملائكة العذاب. و هذا قول أكثر المفسّرين و المؤرّخين.

فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ خاطب به موسى لمّا ندم على الدعاء عليهم. و المعنى: فلا تحزن عليهم، فإنّهم أحقّاء بذلك لفسقهم.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 246

[سورة المائدة (5): الآيات 27 الى 31]

وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ بِالْحَقِّ إِذْ قَرَّبا قُرْباناً فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ قالَ لَأَقْتُلَنَّكَ قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (27) لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (28) إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ وَ ذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (29) فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فَقَتَلَهُ فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ (30) فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ قالَ يا وَيْلَتى أَ عَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ (31)

و اعلم أنّ اللّه سبحانه بعد تبيين قصّتهم أراد أن يبيّن أنّ حالهم في نقض العهد و ارتكاب الفواحش، كارتكاب ابن آدم عليه السّلام في قتله أخاه، و ما عاد عليه من الوبال، فأمر نبيّه أن يتلو عليهم أخبارهما، تسلية له فيما ناله من جهلهم و تكذيبهم، و تبكيتا لهم، فقال: وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ ابْنَيْ آدَمَ قابيل و هابيل. روي أنّ اللّه تعالى أوحى إلى آدم أن يزوّج كلّ واحد منهما توأمة الآخر، فسخط منه قابيل، لأنّ توأمة قابيل- و هي إقليما- أجمل، فحسد عليها أخاه و سخط، فقال لهما آدم: قرّبا قربانا فمن أيّكما تقبّل تزوّجها، فقبل قربان هابيل، بأن نزلت نار فأكلته، فازداد قابيل حسدا و سخطا، و توعّده بالقتل. و قيل: لم يرد بهما

ابني آدم لصلبه، و إنّهما رجلان من بني

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 247

إسرائيل، و لذلك قال: كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ «1». و الأوّل أكثر و أشهر و أصحّ.

و المعنى: اتل على بني إسرائيل نبأهما تلاوة ملتبسة بِالْحَقِ و الصدق.

و يحتمل أن يكون حالا من الضمير في «اتل» أو من «نبأ» أي: ملتبسا بالصدق موافقا لما في كتب الأوّلين.

إِذْ قَرَّبا قُرْباناً ظرف ل «نبأ»، أو حال منه، أو بدل على حذف مضاف، أي: أتل عليهم نبأهما نبأ ذلك الوقت. و القربان: اسم ما يتقرّب به إلى اللّه تعالى من ذبيحة أو غيرها، كما أنّ الحلوان اسم ما يحلى، أي: يعطى. و هو في الأصل مصدر، و لذلك لم يثنّ. و قيل: تقديره: إذ قرّب كلّ واحد قربانا.

و روي أنّ قابيل كان صاحب زرع و قرّب أردأ قمح عنده، و هابيل صاحب ضرع و قرّب جملا سمينا.

فَتُقُبِّلَ مِنْ أَحَدِهِما و هو هابيل وَ لَمْ يُتَقَبَّلْ مِنَ الْآخَرِ هو قابيل: لأنّه سخط حكم اللّه، و لم يخلص النيّة في قربانه، و قصد إلى أخسّ ما عنده قالَ أي:

قال الّذي لم يتقبّل قربانه منهما- و هو قابيل- للّذي تقبّل قربانه و هو هابيل:

لَأَقْتُلَنَّكَ توعّده بالقتل، لفرط الحسد له على تقبّل قربانه، و لذلك قالَ إِنَّما يَتَقَبَّلُ اللَّهُ مِنَ الْمُتَّقِينَ في جوابه، كأنّه قال له: لم تقتلني؟ قال: لأنّه تقبّل منك، و لم يتقبّل منّي. قال: إنّما أتيت من قبل نفسك، لانسلاخها من لباس التقوى، لا من قبلي فلم تقتلني؟

قيل: إنّ سبب أكل النار للقربان أنّه لم يكن هناك فقير يدفع إليه ما يتقرّب به إلى اللّه تعالى، فكانت تنزل نار من السماء فتأكله.

و عن إسماعيل بن رافع: أنّ قربان

هابيل كان يرتع في الجنّة حتى فدي به ابن إبراهيم.

و في الآية دليل على أنّ اللّه إنّما يتقبّل الطاعة ممّن هو زكيّ القلب متّق، و أنّ

______________________________

(1) المائدة: 32.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 248

الحاسد ينبغي أن يرى حرمانه من تقصيره، و يجتهد في تحصيل ما به صار المحسود محظوظا، لا في إزالة حظّه، فإنّ ذلك ممّا يضرّه و لا ينفعه.

لَئِنْ بَسَطْتَ إِلَيَّ يَدَكَ مددت إليّ يدك لِتَقْتُلَنِي ما أَنَا بِباسِطٍ يَدِيَ إِلَيْكَ لِأَقْتُلَكَ لأنّ إرادة القتل قبيح، و إنّما يحسن من المظلوم قتل الظالم على وجه المدافعة له، طلبا للتخلّص من غير أن يقصد إلى قتله، فكأنّه قال: لئن ظلمتني لم أظلمك، اي: لئن بسطت إليّ يدك على سبيل الظلم و الابتداء لتقتلني، ما أنا بباسط يدي إليك على وجه الظلم و الابتداء إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ في مدّي إليك يدي لقتلك.

قيل: كان هابيل أقوى منه، و لكن تجنّب من قتله و استسلم له خوفا من اللّه، لأنّ الدفع لم يبح بعد، و كان الصبر عليه هو المأمور به، ليكون اللّه هو المتولّي للانتصاف. و إنّما قال: «ما أَنَا بِباسِطٍ» بالجملة الاسميّة في جواب «لَئِنْ بَسَطْتَ»، للتبرّي عن هذا الفعل الشنيع رأسا، و التحرّز من أن يوصف به و يطلق عليه، و لذلك أكّد النفي بالباء.

إِنِّي أُرِيدُ أَنْ تَبُوءَ بِإِثْمِي وَ إِثْمِكَ هذا تعليل ثان للامتناع عن المعارضة و المقاومة. و المعنى: إنّما أستسلم لك إرادة أن تحمل إثمي لو بسطت إليك يدي، و إثمك ببسطك يدك إليّ قبل قتلي. و هذا منقول عن ابن عبّاس و ابن مسعود و الحسن و قتادة و مجاهد و الضحّاك. و نحوه

قوله صلّى اللّه عليه و آله

و سلّم: «المستبّان ما قالا فعلى البادي، ما لم يعتد المظلوم»

أي: البادي عليه إثم سبّه، و مثل إثم سبّ صاحبه، لأنّه كان سببا فيه. و مثل ذلك ما قيل: إنّ معناه: بإثم قتلي و إثمك الّذي هو قتل جميع الناس، حيث سننت القتل.

أو المعنى: إنّي لا أبدؤك بالقتل، لأنّي أريد أن ترجع بإثم قتلي و إثمك الّذي من أجله لم يتقبّل قربانك.

و كلاهما في موضع الحال، أي: ترجع ملتبسا بالإثمين حاملا لهما. و لم يرد بذلك معصية أخيه و شقاوته، بل قصده بهذا الكلام أنّ ذلك إن كان لا محالة واقعا،

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 249

فأريد أن يكون لك لا لي. فالمراد بالذات أن لا يكون له، لا أن يكون لأخيه.

و يجوز أن يكون المراد بالإثم عقوبته، و إرادة عقاب العاصي جائزة.

فَتَكُونَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ فتصير بذلك من الملازمين النار وَ ذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ أي: عقاب العاصين المتعدّين.

فَطَوَّعَتْ لَهُ نَفْسُهُ قَتْلَ أَخِيهِ فسهّلته و يسّرته له و وسّعته، من: طاع له المرتع، إذا اتّسع. و ذكر «له» لزيادة الربط، كقولك: حفظت لزيد ماله. فَقَتَلَهُ عن مجاهد: لم يدر قابيل كيف يقتله، فظهر له إبليس في صورة طير، و أخذ طيرا آخر و ترك رأسه بين حجرين فشدخه، ففعل قابيل مثله. و قيل: هو أوّل قتيل كان في الناس. فَأَصْبَحَ مِنَ الْخاسِرِينَ فصار ممّن خسر الدنيا و الآخرة، و ذهب عنه خيرهما، إذ بقي مدّة عمره مطرودا محزونا، و بعد الموت يرجع إلى العذاب الأليم.

قيل: قتل هابيل، و هو ابن عشرين سنة، عند عقبة حراء. و قيل: بالبصرة في موضع المسجد الأعظم.

و روي أنّه لمّا قتله تركه بالعراء، و تحيّر في أمره، و لم يدر ما يصنع

به فَبَعَثَ اللَّهُ غُراباً يَبْحَثُ أي: يحفر فِي الْأَرْضِ لِيُرِيَهُ كَيْفَ يُوارِي سَوْأَةَ أَخِيهِ إذ كان أوّل ميّت من بني آدم، فقصده السباع، فحمله في جراب على ظهره حتى أروح «1»، و عكفت عليه الطير و السباع، فبعث اللّه غرابين فاقتتلا فقتل أحدهما صاحبه، ثمّ حفر له بمنقاره و رجليه، ثمّ ألقاه في الحفيرة.

و الضمير في «ليري» للّه، أو للغراب. و لمّا كان سبب تعليمه فكأنّه قصد تعليمه. و «كيف» حال من الضمير في «يواري»، و الجملة ثاني مفعولي «يرى».

و المراد ب «سوءة أخيه» جسده الميّت، فإنّه ممّا يستقبح أن يرى. و أصلها الفضيحة، لهذا كنّى به عن العورة.

و لمّا رأى ذلك قابيل قالَ يا وَيْلَتى كلمة جزع و تحسّر، و الألف فيها بدل

______________________________

(1) أروح الماء: أنتن و خبثت رائحته.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 250

زبدة التفاسير ج 2 299

من ياء المتكلّم. و المعنى: يا ويلتي احضري، فهذا أوانك. و الويل و الويلة الهلكة.

أَ عَجَزْتُ أَنْ أَكُونَ مِثْلَ هذَا الْغُرابِ لا أهتدي إلى ما اهتدي إليه. و قوله: فَأُوارِيَ سَوْأَةَ أَخِي عطف على «أن أكون»، و ليس جواب الاستفهام، إذ ليس المعنى: لو عجزت لواريت فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ فصار منهم على قتله، لما كابد فيه من التحيّر في أمره، و حمله على رقبته سنة أو أكثر على ما قيل، و تلمّذه للغراب، و اسوداد لونه، و تبرّء أبويه منه، إذ روي أنّه لمّا قتله اسودّ جسده، فسأله آدم عن أخيه، فقال: ما كنت عليه وكيلا، فقال: بل قتلته، و لذلك اسودّ جسدك، و تبرّأ منه، و مكث بعد ذلك مائة سنة لا يضحك، و لم يظفر «1» بما فعله لأجله.

و عن ابن عبّاس قال: لمّا

قتل قابيل هابيل، أشاك الشجر، و تغيّرت الأطعمة و حمضت الفواكه، و أمرّ الماء، و اغبرّت الأرض، فقال آدم: قد حدث في الأرض حدث، فأتى الهند فإذا قابيل قتل هابيل، فأنشأ يقول:

تغيّرت البلاد و من عليهافوجه الأرض مغبرّ قبيح

تغيّر كلّ ذي لون و طعم و قلّ بشاشة الوجه الصبيح

و قالوا: لمّا مضى من عمر آدم مائة و ثلاثون سنة، و ذلك بعد قتل هابيل بخمس سنين، ولدت له حوّاء شيثا، و تفسيره: هبة اللّه، يعني: أنّه خلف من هابيل، و كان وصيّ آدم و وليّ عهده. فأمّا قابيل فقيل له: اذهب طريدا شريدا فزعا مذعورا، لا تأمن من تراه. و ذهب إلى عدن من اليمن، فأتاه إبليس فقال: إنّما أكلت النار قربان هابيل لأنّه كان يعبدها، فانصب أنت نارا تكون لك و لعقبك، فبنى بيت نار، و هو أوّل من نصب النار و عبدها، و اتّخذ أولاده آلات اللهو من الطبول و المزامير و العيدان، و انهمكوا في اللهو، و شرب الخمر، و عبادة النار، و الزنا و الفواحش، حتّى غرقهم اللّه أيّام نوح بالطوفان و بقي نسل شيث.

______________________________

(1) أي: لم يظفر قابيل بما أراد من قتل أخيه، و هو التزوّج بتوأمته.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 251

[سورة المائدة (5): آية 32]

مِنْ أَجْلِ ذلِكَ كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً وَ مَنْ أَحْياها فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ (32)

ثم بيّن سبحانه التكليف في باب القتل، فقال: مِنْ أَجْلِ ذلِكَ بسببه و بعلّته كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ قضينا عليهم. و أصل «أجل» مصدر: أجل شرّا

إذا جناه، يأجله أجلا، استعمل في تعليل الجنايات، فإذا قلت: من أجلك فعلت كذا، فكأنّك أردت من أن جنيت فعله و أوجبته فعلت، ثم اتّسع فيه فاستعمل في كلّ تعليل. و «من» ابتدائيّة متعلّقة ب «كتبنا». و ذلك إشارة إلى القتل المذكور، اي: ابتداء الكتب و إنشاؤه من أجل القتل المذكور.

أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ بغير قتل نفس يوجب القصاص أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ أو بغير فساد فيها، كالشرك و قطع الطريق و إخافة السبيل فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً فكأنّه قصد لقتلهم جميعا، من حيث إنّه هتك حرمة الدماء، و سنّ القتل، و جرّأ الناس عليه. أو من حيث إنّ قتل الواحد و الجميع سواء في استجلاب غضب اللّه و العذاب العظيم. أو من حيث إنّه قتل أخاهم، و صاروا خصماءه في قتل النفس.

وَ مَنْ أَحْياها أي: و من تسبّب لبقاء حياتها بعفو، أو منع عن القتل، أو استنقاذ من بعض أسباب الهلكة فَكَأَنَّما أَحْيَا النَّاسَ جَمِيعاً فكأنّه فعل ذلك بالناس جميعا، يأجره اللّه على ذلك أجر من أحياهم باسرهم، لأنّه في إسدائه

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 252

المعروف إليهم بإحيائه أخاهم المؤمن بمنزلة من أحيا كلّ واحد منهم، لأنّ فعله باعث على اقتداء الناس به بمثل فعله، فصاروا كلّهم سالمين عن القتل، فكأنّه أحياهم كلّهم. و المقصود منه تعظيم قتل النفس و إحيائها في القلوب، ترهيبا عن التعرّض لها، و ترغيبا في المحاماة عليها.

وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُنا بِالْبَيِّناتِ ثُمَّ إِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ بَعْدَ ذلِكَ فِي الْأَرْضِ لَمُسْرِفُونَ أي: بعد ما كتبنا عليهم هذا التشديد العظيم من أجل أمثال تلك الجناية، و أرسلنا إليهم بالآيات الواضحة، تأكيدا للأمر، و تجديدا للعهد، كي يتحاموا عنها، و

كثير منهم يسرفون في الأرض بالقتل، و لا يبالون به. و بسبب هذا اتّصلت القصّة بما قبلها. و الإسراف التباعد عن الاعتدال في الأمر.

[سورة المائدة (5): الآيات 33 الى 34]

إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أَنْ يُقَتَّلُوا أَوْ يُصَلَّبُوا أَوْ تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ ذلِكَ لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (33) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (34)

و لمّا قدّم سبحانه ذكر القتل و حكمه، عقّبه بذكر قطّاع الطريق و الحكم فيهم، فقال: إِنَّما جَزاءُ الَّذِينَ يُحارِبُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أي: يحاربون أولياءهما، و هم المسلمون، كقوله: إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ «1». جعل محاربتهم محاربتهما تعظيما. و أصل الحرب السلب. وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أي: مفسدين.

______________________________

(1) الأحزاب: 57.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 253

و يجوز نصبه على العلّة أو المصدر، لأنّ سعيهم كان فسادا، فكأنّه قيل: و يفسدون في الأرض فسادا.

و

روي عن أئمّتنا عليهم السّلام أنّ المحارب كلّ من شهر السلاح، و أخاف الطريق، سواء كان في المصر أو خارجه، فإنّ اللصّ المحارب في المصر و خارجه سواء.

و هو مذهب الشافعي أيضا، و الأوزاعي و مالك. و ذهب أبو حنيفة و أصحابه إلى أنّ المحارب هو قاطع الطريق في غير المصر.

و لمّا كان «إنّما» موضوعة للحصر، فيكون معنى الآية: ما جزاؤهم إلّا أَنْ يُقَتَّلُوا أي: من غير صلب إن اقتصروا على القتل، و لم يأخذوا المال أَوْ يُصَلَّبُوا أي: يصلّبوا مع القتل، إن قتلوا و أخذوا المال. و للفقهاء خلاف في أنّه يقتل و يصلب، أو يصلب حيّا و يترك، أو يطعن حتّى يموت. أَوْ

تُقَطَّعَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ مِنْ خِلافٍ تقطع أيديهم اليمنى و أرجلهم اليسرى، إن أخذوا المال و لم يقتلوا أَوْ يُنْفَوْا مِنَ الْأَرْضِ أي: ينفوا من بلد إلى بلد، بحيث لا يتمكّنوا من القرار في موضع إلى أن يتوبوا، إن اقتصروا على الإخافة.

و يؤيّد ذلك التفسير ما

روي عن الباقر و الصادق عليهما السّلام: «أنّ جزاء المحارب على قدر استحقاقه، فإن قتل فجزاؤه أن يقتل، و إن قتل و أخذ المال فجزاؤه أن يقتل و يصلب، و إن أخذ المال و لم يقتل فجزاؤه أن تقطع يده و رجله من خلاف، و إن أخاف السبيل فقط فإنّما عليه النفي لا غير».

و به قال ابن عبّاس، و سعيد بن جبير، و قتادة، و السدّي، و الربيع. و على هذا فلفظة «أو» ليست للإباحة هاهنا، بل هي مرتّبة الحكم باختلاف الجناية. و قيل: للتخيير، و الامام مخيّر بين هذه العقوبات في كلّ قاطع طريق. و الصحيح الأوّل.

ذلِكَ أي: ما ذكرناه لَهُمْ خِزْيٌ فِي الدُّنْيا فضيحة و مذلّة و هو ان فيها وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ لعظم ذنوبهم. هذا دليل على أنّ الحدود لا تكفّر

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 254

الذنوب و المعاصي، لأنّه بيّن أنّهم يستحقّون العذاب العظيم في الآخرة، مع إقامة الحدود عليهم. و ليس في الآية أنه يفعل بهم ذلك لا محالة، لأنّه يجوز أن يعفو اللّه عنهم، و يتفضّل عليهم بإسقاط ما يستحقّونه من العذاب.

إِلَّا الَّذِينَ تابُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَقْدِرُوا عَلَيْهِمْ استثناء مخصوص بما هو حقّ اللّه تعالى. و يدلّ عليه قوله: فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ أمّا القتل و الجرح قصاصا و أخذ المال فإلى الأولياء، إن شاؤا عفوا، و إن شاؤا استوفوا. و

تقييد التوبة بالتقدّم على القدرة يدلّ على أنّها بعد القدرة لا تسقط الحدّ، بل يجب إقامة الحدّ عليه، و إن أسقطت العذاب.

[سورة المائدة (5): آية 35]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (35)

و لمّا تقدّم ذكر القتل و المحاربين، عقّب ذلك بالموعظة و الأمر بالتقوى عن المعاصي و المفاسد، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ ابْتَغُوا إِلَيْهِ الْوَسِيلَةَ أي:

ما تتوسّلون به إلى ثوابه و الزلفى عنده، من فعل الطاعات و ترك المعاصي و سائر المقبّحات، من: وسل إلى كذا، إذا تقرّب إليه. و قيل: الوسيلة أفضل درجات الجنّة.

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سلوا اللّه لي الوسيلة، فإنّها درجة في الجنّة، لا ينالها إلّا عبد واحد، و أرجو أن أكون أنا هو».

و

روى الأصبغ بن نباتة عن عليّ عليه السّلام: «في الجنّة لؤلؤتان إلى بطنان العرش، أحدهما بيضاء، و الأخرى صفراء، في كلّ واحدة منهما سبعون ألف غرفة، فالبيضاء الوسيلة لمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أهل بيته، و الصفراء لإبراهيم و أهل بيته».

وَ جاهِدُوا فِي سَبِيلِهِ بمحاربة أعدائه الظاهرة و الباطنة لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 255

بالوصول إلى اللّه تعالى، و الفوز بكرامته، أي: اعلموا على رجاء الفلاح و الفوز.

و قيل: «لعلّ» و «عسى» من اللّه واجب، فكأنّه قال: اعملوا لتفلحوا.

[سورة المائدة (5): الآيات 36 الى 37]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا بِهِ مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (36) يُرِيدُونَ أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (37)

و بعد وعد المؤمنين ذكر وعيد الكافرين بقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ من صنوف الأموال و من الأولاد و الملك جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لِيَفْتَدُوا

بِهِ ليجعلوه فدية لأنفسهم مِنْ عَذابِ يَوْمِ الْقِيامَةِ اللام متعلّقة بمحذوف تستدعيه «لو»، إذ التقدير: لو ثبت أنّ لهم ما في الأرض. و توحيد الضمير في «به» و المذكور شيئان، إمّا لإجرائه مجرى اسم الإشارة في نحو قوله: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ «1»، أو لأنّ الواو في «و مثله» بمعنى «مع» فتوحّد المرجع، أو من قبيل: فإنّي و قيّار بها لغريب «2».

ما تُقُبِّلَ مِنْهُمْ ذلك الفداء. جواب «لو» و «لو» بما في حيّزه خبر «أنّ».

و الجملة تمثيل للزوم العذاب لهم، و أنّه لا سبيل لهم إلى الخلاص منه بوجه وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ تصريح بالمقصود منه. و كذلك قوله تعالى: يُرِيدُونَ أي: يتمنّون أَنْ يَخْرُجُوا مِنَ النَّارِ وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ مِنْها إنّما قال: «وَ ما هُمْ بِخارِجِينَ» بدل:

و ما يخرجون، للمبالغة وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ دائم، ثابت، لا يزول، و لا يحول.

______________________________

(1) البقرة: 68.

(2) بيت شعر صدره: «فمن يك أمسى بالمدينة رحله» و هو لضابئ بن الحرث البرجمي كما في هامش الكشّاف 1: 629.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 256

[سورة المائدة (5): الآيات 38 الى 40]

وَ السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جَزاءً بِما كَسَبا نَكالاً مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (38) فَمَنْ تابَ مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ وَ أَصْلَحَ فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (39) أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (40)

لمّا ذكر سبحانه الحكم فيمن أخذ المال جهارا، عقّبه ببيان الحكم فيمن أخذ المال سرّا، فقال: وَ السَّارِقُ وَ السَّارِقَةُ فَاقْطَعُوا أَيْدِيَهُما جملتان عند سيبويه.

و التقدير: فيما يتلى عليكم: السارق و السارقة، أي: حكمهما. و جملة عند المبرّد.

و الفاء للسببيّة، دخل

الخبر لتضمّنهما معنى الشرط، إذ المعنى: و الّذي سرق و الّتي سرقت. و السرقة أخذ مال الغير في خفية. و إنّما توجب القطع إذا كانت من حرز، و المأخوذ ربع دينار، أو ما يساويه،

لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «القطع في ربع دينار فصاعدا».

و وضع الجمع موضع المثنّى، كما في قوله: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما «1» اكتفاءا بتثنية المضاف إليه.

و المراد باليدين اليمينان، دلّت الأخبار الصحيحة عليه. و أطلقت لغة و عرفا على الجارحة المخصوصة، من الكتف إلى رؤوس الأصابع، و شرعا من المرفق إلى الرؤوس، كما في آية «2» الوضوء، و من الزند إلى الرؤوس، كما في التيمّم عندنا، و على الأصابع لا غير، كما في قوله: فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ يَكْتُبُونَ الْكِتابَ بِأَيْدِيهِمْ «3». و لم

______________________________

(1) التحريم: 4.

(2) المائدة: 6.

(3) البقرة: 79.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 257

يبيّن في الآية المراد، و حينئذ ليس أحد الاحتمالات أولى من الآخر، فيكون اللفظ مجملا يبيّنه السنّة.

و ذهب الخوارج إلى أنّ المقطع هو المنكب «1»، و العامّة إلى الرسغ «2». و عند أصحابنا الاماميّة

أصول الأصابع اليمنى، و تترك الإبهام و الكفّ، و في المرّة الثانية يقطع الرجل اليسرى من أصل الساق، و يترك عقبه يعتمد عليها في الصلاة، فإن سرق بعد ذلك خلّد في السجن. هذا هو المشهور عند أصحابنا، و المنقول عن أمير المؤمنين عليه السّلام.

جَزاءً بِما كَسَبا مجازاة بكسبهما نَكالًا عقوبة على ما فعلاه، صادرة مِنَ اللَّهِ منصوبان على المفعول له، أو المصدر، و دلّ على فعلهما «فاقطعوا» وَ اللَّهُ عَزِيزٌ غالب على كلّ ما يريد حَكِيمٌ عالم بوجوه الحكم و المصالح.

فَمَنْ تابَ من السرّاق مِنْ بَعْدِ ظُلْمِهِ أي: سرقته وَ أَصْلَحَ أمره، بالتفصّي عن التبعات،

و العزم على أن لا يعود إليها فَإِنَّ اللَّهَ يَتُوبُ عَلَيْهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يقبل توبته، فلا يعذّبه في الآخرة. أمّا القطع فلا يسقط بها عند الأكثرين من العامّة. و قال أصحابنا: بسقوطه بالتوبة قبل الثبوت عند الحاكم. أمّا بعده فإن ثبت بالبيّنة فلا سقوط، و بالإقرار قيل: يتحتّم الحدّ كما في البيّنة، و قيل: يتخيّر الامام.

و تحقيق ذلك في كتب الفقه.

أَ لَمْ تَعْلَمْ الخطاب للنبيّ أو لكلّ أحد أَنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ له التصرّف فيها بلا دافع و لا منازع يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ إذا كان مستحقّا للعذاب وَ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ إذا عصاه و لم يتب وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ قدّم التعذيب على المغفرة، إتيانا على ترتيب ما سبق، أو لأنّ استحقاق التعذيب مقدّم، أو لأنّ المراد به القطع، و هو في الدنيا.

______________________________

(1) المنكب: مجتمع رأس الكتف و العضد.

(2) الرّسغ: المفصل ما بين الساعد و الكفّ، أو الساق و القدم.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 258

[سورة المائدة (5): الآيات 41 الى 44]

يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ وَ مِنَ الَّذِينَ هادُوا سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا وَ مَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ (41) سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ أَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً وَ إِنْ حَكَمْتَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (42) وَ

كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ وَ عِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (43) إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ الَّذِينَ أَسْلَمُوا لِلَّذِينَ هادُوا وَ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَ اخْشَوْنِ وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي ثَمَناً قَلِيلاً وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ (44)

و لمّا تقدّم ذكر اليهود و النصارى، عقّبه سبحانه بتسلية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أمانه من

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 259

كيدهم، فقال: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ لا يَحْزُنْكَ الَّذِينَ يُسارِعُونَ فِي الْكُفْرِ أي: صنيع الّذين يقعون في الكفر سريعا، يقال: أسرع فيه الشيب، و أسرع فيه الفساد، بمعنى:

وقع فيه سريعا، فكذلك مسارعتهم في الكفر و وقوعهم و تهافتهم فيه، أسرع شي ء إذا وجدوا منه فرصة. مِنَ الَّذِينَ قالُوا آمَنَّا بِأَفْواهِهِمْ وَ لَمْ تُؤْمِنْ قُلُوبُهُمْ أي: من المنافقين. و الباء متعلّقة ب «قالوا» لا ب «آمنّا». و الواو تحتمل الحال و العطف.

وَ مِنَ الَّذِينَ هادُوا عطف على «مِنَ الَّذِينَ قالُوا» سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ خبر مبتدأ محذوف، أي: هم سمّاعون. و الضمير للفريقين، أو ل «الَّذِينَ يُسارِعُونَ».

و يجوز أن يكون مبتدأ، و «من الّذين» خبره، أي: و من اليهود قوم سمّاعون. و اللام في «للكذب» إمّا مزيدة للتأكيد، أو لتضمين السماع معنى القبول، أي: قابلون لما تفتريه الأحبار من الكذب على اللّه و تحريف كتابه، أو للعلّة، و المفعول محذوف، أي: سمّاعون كلامك ليكذبوا عليك فيما يسمعون منك.

سَمَّاعُونَ لِقَوْمٍ آخَرِينَ لَمْ يَأْتُوكَ أي: لجمع آخرين من اليهود لم يحضروا مجلسك، و تجافوا عنك تكبّرا، أو إفراطا في البغض.

و المعنى على الوجهين:

مصغون لهم قابلون كلامهم، أو سمّاعون منك لأجلهم، و للإنهاء إليهم. و يجوز أن تتعلّق اللام بالكذب، لأنّ «سمّاعون» الثاني للتأكيد، أي: سمّاعون ليكذبوا لقوم آخرين.

يُحَرِّفُونَ الْكَلِمَ مِنْ بَعْدِ مَواضِعِهِ أي: يميلونه عن مواضعه الّتي وضعه اللّه تعالى فيها، إمّا لفظا بإهماله أو تغيير وضعه، و إمّا معنى بحمله على غير المراد، و إجرائه في غير مورده. و الجملة صفة أخرى «لقوم»، أو صفة ل «سمّاعون»، أو حال من الضمير فيه، أو استئناف لا موضع له، أو في موضع الرفع خبر لمحذوف، أي: هم يحرّفون. و كذلك يَقُولُونَ إِنْ أُوتِيتُمْ هذا فَخُذُوهُ أي: إن أوتيتم هذا المحرّف فاقبلوه و اعملوا به وَ إِنْ لَمْ تُؤْتَوْهُ فَاحْذَرُوا أي: فاحذروا قبول ما أفتاكم

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 260

به.

روي أن شريفا من خيبر زنى بشريفة و هما محصنان، وحدّهما الرجم في التوراة، فكرهوا رجمهما لشرفهما، فبعثوهما مع نفر منهم إلى بني قريظة ليسألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن ذلك، و قالوا: إن أمركم بالجلد و التحميم «1» فاقبلوا، و إن أمركم بالرجم فلا تقبلوا.

فانطلق قوم منهم كعب بن الأشرف، و كعب بن أسيد، و شعبة بن عمرو، و مالك بن الصيف، و كنانة بن أبي الحقيق، فقالوا: يا محمّد أخبرنا عن الزاني و الزانية إذا أحصنا.

فقال: و هل ترضون بقضائي في ذلك؟

قالوا: نعم.

فنزل جبرئيل بالرجم، فأخبرهم بذلك، فأبوا أن يأخذوا به. فقال له جبرئيل: اجعل بينك و بينهم ابن صوريا، و وصفه له.

فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: هل تعرفون شابّا أبيض أعور يسكن فدكا يقال له: ابن صوريا؟

فقالوا: نعم.

قال: فأيّ رجل هو فيكم؟

قالوا: هو أعلم يهوديّ

بقي على ظهر الأرض بما أنزل التوراة على موسى عليه السّلام.

قال: فأرسلوا إليه. ففعلوا، فأتاهم عبد اللّه بن صوريا. فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

إنّي أنشدك اللّه الّذي أنزل التوراة على موسى، و فلق لكم البحر فأنجاكم، و أغرق آل فرعون، و ظلّل عليكم الغمام، و أنزل عليكم المنّ و السلوى، هل تجدون في كتابكم

______________________________

(1) حمّم الشي ء: صيّره أسود. زبدة التفاسير، ج 2، ص: 261

الرجم على من أحصن؟

قال ابن صوريا: نعم، و الّذي ذكرتني به لولا خشية أن يحرقني ربّ التوراة إن كذبت أو غيّرت ما اعترفت لك، و لكن أخبرني كيف هو في كتابك يا محمد؟

قال: إذا شهد أربعة رهط عدول أنّه قد أدخله فيها، كما يدخل الميل في المكحلة، وجب عليه الرجم.

فقال ابن صوريا: هكذا أنزل في التوراة على موسى.

فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: فما ذا كان أوّل ما ترخّصتم به أمر اللّه.

قال: كنّا إذا زنى الشريف تركناه، و إذا زنى الضعيف أقمنا عليه الحدّ، فكثر الزنا في أشرافنا، حتّى زنى ابن عمّ ملك لنا فلم نرجمه، ثمّ زنى رجل آخر، فأراد الملك رجمه، فقال له قومه لا حتى ترجم فلانا، يعنون ابن عمّه. فقالوا: تعالوا نجتمع فلنضع شيئا دون الرجم، يكون على الشريف و الوضيع، فوضعنا الجلد و التحميم، و هو أن يجلد أربعين جلدة، ثمّ يسوّد وجوههما، ثمّ يحملان على حمارين، وجوههما من قبل دبر الحمار، و يطاف بهما. فجعلوا هذا مكان الرجم.

فقالت اليهود لابن صوريا: ما أسرع ما أخبرته به، و ما كنت لما أتينا عليك بأهل، و لكنّك كنت غائبا، فكرهنا أن نغتابك! فقال: إنّه أنشدني بالتوراة، و لولا ذلك

لما أخبرته به. فأمر بهما النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فرجما عند باب مسجده. و قال: أنا أوّل من أحيا أمرك إذ أماتوه، فأنزل اللّه تعالى فيه: يا أَهْلَ الْكِتابِ قَدْ جاءَكُمْ رَسُولُنا يُبَيِّنُ لَكُمْ كَثِيراً مِمَّا كُنْتُمْ تُخْفُونَ مِنَ الْكِتابِ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ «1».

فقام ابن صوريا، فوضع يديه على ركبتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثمّ قال: هذا مقام العائذ باللّه و بك، أن تذكر لنا الكثير الّذي أمرت أن تعفو عنه، فأعرض النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

______________________________

(1) المائدة: 15. زبدة التفاسير، ج 2، ص: 262

عن ذلك.

ثمّ سأله ابن صوريا عن نومه.

فقال: تنام عيناي و لا ينام قلبي.

فقال: صدقت، فأخبرني عن شبه الولد بأبيه ليس فيه من شبه أمّه شي ء، أو بأمّه ليس فيه من شبه أبيه شي ء؟

فقال: أيّهما علا و سبق ماؤه ماء صاحبه كان الشبه له.

قال: صدقت، فأخبرني ما للرجل من الولد، و ما للمرأة منه؟

قال: فأغمي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم طويلا، ثمّ خلّي عنه محمرّا وجهه، يفيض عرقا، فقال: اللحم و الدم و الظفر و الشعر للمرأة، و العظم و العصب و العروق للرجل.

فقال له: صدقت، أمرك أمر نبيّ، فأسلم ابن صوريا عند ذلك، و قال: يا محمّد من يأتيك من الملائكة؟

قال: جبرئيل.

قال: صفه لي. فوصفه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: أشهد أنّه في التوراة كما قلت، و أنّك رسول اللّه حقّا.

فلمّا أسلم ابن صوريا وقعت فيه اليهود و شتموه. فلمّا أرادوا أن ينهضوا تعلّقت بنو قريظة ببني النضير فقالوا: يا محمّد إخواننا بنو النضير: أبونا واحد، و ديننا واحد،

و نبيّنا واحد، إذا قتلوا منّا قتيلا لم يقد، و أعطونا ديته سبعين وسقا من تمر، و إذا قتلنا منهم قتيلا قتلوا القاتل، و أخذوا منّا الضعف مائة و أربعين وسقا من تمر، و إن كان القتيل امرأة قتلوا بها الرجل منّا، و بالرجل منهم الرجلين منّا، و بالعبد الحرّ منّا، و جراحاتنا على النصف من جراحاتهم، فاقض بيننا و بينهم، فأنزل اللّه في الرجم و القصاص الآيات.

وَ مَنْ يُرِدِ اللَّهُ فِتْنَتَهُ فضيحته بإظهار ما ينطوي عليه، أو عذابه، كقوله:

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 263

ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ «1» أي: عذابكم، أو تركه مفتونا مخذولا فَلَنْ تَمْلِكَ لَهُ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً فلن تستطيع له من اللّه شيئا في دفعها أُولئِكَ الَّذِينَ لَمْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يُطَهِّرَ قُلُوبَهُمْ من عقوبات الكفر الّتي هي الختم و الطبع و الضيق و الخذلان، بأن يمنحهم من ألطافه الهادية إلى الإيمان، كما طهّر قلوب المؤمنين منها، لأنّهم ليسوا من أهلها، لعلمه أنّها لا تنجع فيهم. و لا يجوز حمل الآية على ظاهرها كما هو رأي الأشعري، لأنّ إرادة الكفر قبيح، و اللّه تعالى منزّه عنه.

لَهُمْ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ هو ان و ذلّ بالجزية، و الخوف من أهل الإسلام وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ عَظِيمٌ و هو الخلود في النار. و الضمير ل «الَّذِينَ هادُوا» إن استأنفت بقوله: «وَ مِنَ الَّذِينَ»، و إلّا فللفريقين.

سَمَّاعُونَ لِلْكَذِبِ كرّره للتأكيد أَكَّالُونَ لِلسُّحْتِ أي: الحرام كالرّشا، من: سحته إذا استأصله، لأنّه مسحوت البركة، أو لأنّه يعقّب هلاك الاستئصال.

و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و الكسائي و يعقوب بضمّتين، و هما لغتان كالعنق و العنق.

و

في الحديث: «كلّ لحم نبت على السحت فالنار أولى به».

فَإِنْ جاؤُكَ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ أَوْ

أَعْرِضْ عَنْهُمْ تخيير لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا تحاكموا إليه بين الحكم و الإعراض. و هذا التخيير عندنا ثابت للأئمّة في الشرع، للأخبار الواردة عن أئمّتنا عليهم السّلام. و هو قول ابن عبّاس برواية، و قول قتادة و عطاء و الشعبي و إبراهيم. و قال الشافعي أيضا: إنّه لو تحاكم كتابيّان إلى القاضي لم يجب عليه الحكم، و عند أبي حنيفة يجب.

وَ إِنْ تُعْرِضْ عَنْهُمْ عن الحكم بينهم فَلَنْ يَضُرُّوكَ شَيْئاً أي: لا يقدرون على إضرار بك في دنيا أو دين، لإعراضك عنهم، فإنّ اللّه يعصمك من الناس.

وَ إِنْ حَكَمْتَ و إن اخترت أن تحكم بينهم فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ بالعدل

______________________________

(1) الذاريات: 14.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 264

الّذي أمر اللّه تعالى به، كما حكمت بينهم بالرجم إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ العادلين، فيحفظهم و يعظّم شأنهم.

وَ كَيْفَ يُحَكِّمُونَكَ هؤلاء اليهود وَ عِنْدَهُمُ التَّوْراةُ فِيها حُكْمُ اللَّهِ تعجيب من تحكيمهم من لا يؤمنون به و بكتابه، و الحال أنّ الحكم منصوص عليه في الكتاب الّذي عندهم، و تنبيه على أنّهم ما قصدوا بالتحكيم معرفة الحقّ و إقامة الشرع، و إنّما طلبوا به ما يكون أهون عليهم، و إن لم يكن حكم اللّه في زعمهم.

و قوله: فِيها حُكْمُ اللَّهِ حال من التوراة إن رفعتها بالظرف، و إن جعلتها مبتدأ فمن ضميرها المستكن فيه. و تأنيثها لكونها نظيرة المؤنّث في كلام العرب لفظا، كموماة «1» و دوداة.

ثُمَّ يَتَوَلَّوْنَ يعرضون عن حكمك الموافق لكتابهم مِنْ بَعْدِ ذلِكَ بعد التحكيم، و لا يرضون به. و هو عطف على «يحكّمونك» داخل في حكم التعجيب وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ بكتابهم كما يدّعون، لإعراضهم عنه أوّلا، و عمّا يوافقه ثانيا.

أو بك و به.

إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً يهدي إلى الحقّ و العدل وَ نُورٌ يكشف عمّا استبهم من الأحكام يَحْكُمُ بِهَا النَّبِيُّونَ يعني: أنبياء بني إسرائيل، لا جميع النبيّين ليلزم أنّ نبيّنا كان متعبّدا بأحكامها قبل المبعث الَّذِينَ أَسْلَمُوا صفة أجريت على النبيّين مدحا لهم، و تنويها بشأن المسلمين، و تعريضا باليهود، و أنّهم بمعزل عن دين الإسلام الّذي هو دين الأنبياء كلّهم، قديما و حديثا لِلَّذِينَ هادُوا متعلّق ب «أنزل» أو ب «يحكم»، أي: يحكمون بها في تحاكمهم. و هو أقرب لفظا و معنى. أمّا لفظا فظاهر. و أمّا معنى فلأنّ المذهب الحقّ أنّ نبيّنا ليس متعبّدا بالشرائع السابقة، لا قبل البعثة و لا بعدها.

______________________________

(1) الموماة: الفلاة التي لا ماء فيها. و الدوداة: الأرجوحة التي يلعب بها الصبيان.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 265

وَ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ و يحكم بها زهّادهم و علماؤهم، السالكون طريقة أنبيائهم، المجتنبين ملّة اليهود بِمَا اسْتُحْفِظُوا مِنْ كِتابِ اللَّهِ بسبب ما طلب منهم أنبياؤهم و أوصوهم من حفظ التوراة عن التضييع و التحريف. و الراجع إلى «ما» محذوف. و «من» للتبيين. و يجوز أن يكون الضمير للأنبياء و الربّانيّين و الأحبار جميعا، و يكون الاستحفاظ من اللّه، أي: كلّفهم اللّه حفظه. وَ كانُوا عَلَيْهِ شُهَداءَ رقباء لا يتركون أن يغيّروا، أو شهداء يبيّنون ما يخفى من التوراة، كما فعل ابن صوريا.

فَلا تَخْشَوُا النَّاسَ وَ اخْشَوْنِ نهي للحكّام أن يخشوا غير اللّه تعالى في حكوماتهم، و يداهنوا فيها خشية ظالم أو خيفة أذيّة من الأقرباء و الأصدقاء.

و المعنى: أيّها الحكّام و الولاة، احكموا على اليهود بأحكام التوراة، و لا تتركوهم أن يعدلوا عنها، كما فعله رسول اللّه من حملهم على حكم

الرجم، و كذلك حكم الربّانيّون و الأحبار و المسلمون، بسبب ما استحفظهم أنبياؤهم من كتاب اللّه، و بسبب كونهم عليه شهداء، فلا تخشوا غير اللّه في حكوماتكم. أو نهي لعلماء اليهود عن إخفاء صفة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و حكم الرجم. و المعنى: لا تخشوا اليهود في إظهار صفة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أمر الرجم، و اخشوني في كتمان ذلك.

وَ لا تَشْتَرُوا بِآياتِي و لا تستبدلوا بأحكامي الّتي أنزلتها ثَمَناً قَلِيلًا هو الرشوة، و ابتغاء الجاه، و طلب الرئاسة، كما فعله اليهود وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مستهينا به منكرا له فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ لاستهانتهم به و تمرّدهم، بأن حكموا بغيره، و لذلك وصفهم بقوله: الظالمون و الفاسقون. فكفرهم لإنكاره، و ظلمهم بالحكم على خلافه، و فسقهم بالخروج عنه.

و عن ابن عبّاس: من جحد حكم اللّه فهو كافر، و من لم يحكم به و هو مقرّ فهو ظالم فاسق.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 266

و عن حذيفة: أنتم أشبه الأمم سمتا ببني إسرائيل، لتركبنّ طريقهم حذو النعل بالنعل، و القذّة بالقذّة، غير أنّي لا أدري أ تعبدون العجل أم لا؟

و يجوز أن يكون كلّ واحدة من الصفات الثلاث لطائفة كما قيل، هذه في المسلمين لاتّصالها بخطابهم، و الظالمون في اليهود، و الفاسقون في النصارى.

و الأوّل أصحّ، لما

روى البراء بن عازب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنّ قوله: وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْكافِرُونَ و بعده فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ و بعده فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ كلّ ذلك في الكفّار خاصّة. أورده مسلم في الصحيح «1».

و به قال ابن مسعود و

أبو صالح و الضحّاك و عكرمة و قتادة.

[سورة المائدة (5): آية 45]

وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ فِيها أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ وَ الْعَيْنَ بِالْعَيْنِ وَ الْأَنْفَ بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ بِالْأُذُنِ وَ السِّنَّ بِالسِّنِّ وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ فَمَنْ تَصَدَّقَ بِهِ فَهُوَ كَفَّارَةٌ لَهُ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (45)

ثمّ بيّن سبحانه حكم التوراة في القصاص، فقال: وَ كَتَبْنا عَلَيْهِمْ و فرضنا على اليهود فِيها في التوراة أَنَّ النَّفْسَ بِالنَّفْسِ أي: أنّ النفس تقتل بالنفس وَ الْعَيْنَ تفقأ بِالْعَيْنِ وَ الْأَنْفَ يجدع بِالْأَنْفِ وَ الْأُذُنَ تقطع بِالْأُذُنِ وَ السِّنَ تقلع بِالسِّنِ رفعها الكسائي على أنّها جمل معطوفة على «أنّ» و ما في حيّزها باعتبار المعنى. و كأنّه قيل: و كتبنا عليهم النفس بالنفس و العين بالعين، فإنّ الكتابة و القراءة تقعان على الجمل كالقول، و لذلك قال الزجّاج: لو قرئ: «إنّ النفس» بالكسر لكان صحيحا. أو على أنّها مستأنفة، و معناه: و كذلك العين مفقوءة

______________________________

(1) صحيح مسلم 3: 1327 ح 28.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 267

بالعين، و الأنف مجدوعة بالأنف، و الأذن مقطوعة بالأذن، و السنّ مقلوعة بالسنّ.

و قرأ نافع: «و الأذن بالأذن» و «في أذنيه» «1» بإسكان الذال حيث وقع.

وَ الْجُرُوحَ قِصاصٌ أي: ذات قصاص، و هو المقاصّة فيما يمكن فيه القصاص.

و قرأ الكسائي أيضا بالرفع. و وافقه ابن كثير و أبو عمرو و ابن عامر، على أنّه إجمال بعد التفصيل.

فَمَنْ تَصَدَّقَ من المستحقّين بِهِ بالقصاص، أي: فمن عفا عنه فَهُوَ فالتصدّق كَفَّارَةٌ لَهُ للمتصدّق، يكفّر اللّه به من ذنوبه بقدر ما تصدّق.

و قيل: للجاني، يسقط عنه ما لزمه.

وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ من القصاص و غيره فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ المتجاوزون عن حكم اللّه.

[سورة المائدة (5): الآيات 46 الى 47]

وَ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ

يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (46) وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (47)

و لمّا تقدّم ذكر اليهود أتبعه سبحانه بذكر النصارى، فقال: وَ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ

______________________________

(1) لقمان: 7.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 268

أي: و أتبعناهم على آثارهم، فحذف المفعول لدلالة الجارّ و المجرور عليه. و الضمير ل «النبيّون». بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ مفعول ثان، عدّي إليه الفعل بالباء مُصَدِّقاً نصب على الحال لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ فِيهِ هُدىً وَ نُورٌ في موضع النصب بالحال وَ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ التَّوْراةِ عطف عليه، و كذا قوله: وَ هُدىً وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ و يجوز نصبهما على المفعول له عطفا على محذوف، تقديره: آتيناه الإنجيل لمصالح شتّى و للهدى و الموعظة، أو تعلّقا بمحذوف، أي: للهدى و للموعظة آتيناه. و عطف عليه قوله: وَ لْيَحْكُمْ أَهْلُ الْإِنْجِيلِ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فِيهِ في قراءة حمزة، و هي كسر اللام و فتح الميم، أي: و ليحكم أهل الإنجيل بما أنزل اللّه آتيناه إيّاه. و على الأوّل «1» اللام متعلّقة بمحذوف، أي: و آتيناه ليحكم.

وَ مَنْ لَمْ يَحْكُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ عن حكمه، أو عن الايمان إن كان مستهينا به.

و الآية تدلّ على أنّ الإنجيل مشتمل على الأحكام، و أنّ اليهوديّة منسوخة ببعثة عيسى عليه الصلاة و السلام، و أنّه كان مستقلّا بالشرع. و حملها على: و ليحكموا بما أنزل اللّه فيه من إيجاب العمل بأحكام التوراة، خلاف الظاهر.

______________________________

(1) و هو جعل «هدى و موعظة»

حالا.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 269

[سورة المائدة (5): الآيات 48 الى 50]

وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِّ لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (48) وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ (49) أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (50)

و لمّا بيّن سبحانه نبوّة موسى و عيسى عليهما السّلام، عقّب ذلك ببيان نبوّة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، احتجاجا على اليهود و النصارى بأنّ طريقته كطريقتهم في الوحي و المعجز، فقال: وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ أي: القرآن ملتبسا بِالْحَقِّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ مِنَ الْكِتابِ من جنس الكتب المنزلة، من التوراة و الإنجيل و كلّ كتاب أنزل من السماء. فاللام الأولى للعهد، و الثانية للجنس.

وَ مُهَيْمِناً عَلَيْهِ و رقيبا على سائر الكتب، يحفظه عن التغيير، و يشهد له بالصحّة و الثبات.

فَاحْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ أي: بما أنزل إليك وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ عَمَّا جاءَكَ مِنَ الْحَقِ بالانحراف عنه إلى ما يشتهونه. ف «عن» صلة «لا تتّبع» لتضمّنه معنى: لا تنحرف، كأنّه قيل: لا تنحرف عمّا جاءك من الحقّ متّبعا أهواءهم. أو حال من فاعله، أي: لا تتّبع أهواءهم مائلا عمّا جاءك.

لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ أيّها الناس شِرْعَةً شريعة،

و هي الطريقة الواردة إلى الماء. شبّه بها الدين، لأنّه طريق إلى ما هو سبب الحياة الأبديّة. وَ مِنْهاجاً

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 270

و طريقا واضحا في الدين، من: نهج الأمر إذا وضح. و استدلّ به على أنّا غير متعبّدين بالشرائع المتقدّمة.

وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً أي: جماعة متّفقة على دين واحد في جميع الأعصار، من غير نسخ و لا اختلاف فيه. و مفعول «لو شاء» محذوف دلّ عليه الجواب. و قيل: معناه: لو شاء اللّه اجتماعكم على الإسلام لأجبركم عليه، و لكنّ الإجبار مناف للتكليف فلم يفعل وَ لكِنْ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ من الشرائع المختلفة، المناسبة لكلّ عصر و قرن، هل تعملون بها معتقدين أنّ اختلافها مصالح لكم، أم تزيغون عن الحقّ، و تفرّطون في العمل؟

فَاسْتَبِقُوا الْخَيْراتِ فابتدروها انتهازا للفرصة، و حيازة لقصب فضل السبق و التقدّم. هذا محمول على الواجبات، و من قال: إنّ الأمر على الندب، حمله على جميع الطاعات. إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً استئناف فيه تعليل الأمر بالاستباق، و وعد و وعيد للمبادرين و المقصّرين. فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من أمر دينكم، بالجزاء الفاصل بين محقّكم و مبطلكم، و عاملكم و مقصّركم، فيجازيكم على حسب استحقاقكم.

وَ أَنِ احْكُمْ بَيْنَهُمْ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ معطوف على الكتاب، أي: أنزلنا إليك الكتاب و الحكم، أو على الحقّ، أي: أنزلناه بالحقّ و بأن احكم. و يجوز أن يكون جملة بتقدير: و أمرنا أن احكم وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ احْذَرْهُمْ أَنْ يَفْتِنُوكَ عَنْ بَعْضِ ما أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكَ أي: أن يضلّوك و يصرفوك عنه. و «أن» بصلته بدل من «هم» بدل الاشتمال، أي: احذر فتنتهم. أو مفعول له، أي: احذرهم مخافة أن

يفتنوك.

روي أنّ أحبار اليهود قالوا: اذهبوا بنا إلى محمّد لعلّنا نفتنه عن دينه. فقالوا:

يا محمّد قد عرفت أنّا أحبار اليهود، و أنّا إن اتّبعناك اتّبعتنا اليهود كلّهم، و إنّ بيننا

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 271

و بين قومنا خصومة، فنتحاكم إليك فتقضي لنا عليهم، و نحن نؤمن بك و نصدّقك، فأبى ذلك رسول اللّه، فنزلت هذه الآية.

فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الحكم المنزل، و أرادوا غيره فَاعْلَمْ أَنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُصِيبَهُمْ يعاقبهم و يعذّبهم عذابا مغلّظا شديدا بِبَعْضِ ذُنُوبِهِمْ يعني: ذنب التولّي عن حكم اللّه تعالى، فعبّر عنه بذلك تنبيها على أنّ لهم ذنوبا كثيرة، و هذا مع عظمه واحد منها، معدود من جملتها. و في هذا دلالة على تعظيم البعض، كما أن في التنكير معنى التعظيم. وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ لَفاسِقُونَ لمتمرّدون في الكفر، معتدون فيه.

أَ فَحُكْمَ الْجاهِلِيَّةِ الّذي هو الميل و المداهنة في الحكم يَبْغُونَ ! المراد الملّة الجاهليّة الّتي هي متابعة الهوى و الجهالة، لا تصدر عن كتاب، و لا ترجع إلى وحي.

قيل: نزلت في بني قريظة و النضير، طلبوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يحكم بما كان يحكم به أهل الجاهليّة من التفاضل بين القتلى.

و قرأ ابن عامر: «تبغون» بالتاء على: قل لهم أ فحكم الجاهليّة تبغون؟ و على التقديرين، هذا تعيير لليهود بأنّهم أهل الكتاب، و هم يبغون حكم أهل الجاهليّة الّذين هم عبدة الأوثان.

وَ مَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْماً لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ الاستفهام للتقرير، أي: لا أحد حكمه أحسن من حكم اللّه عند قوم يوقنون. فاللام للبيان، كما في قوله: هَيْتَ لَكَ «1»، أي: هذا الخطاب و هذا الاستفهام لقوم يوقنون، فإنّهم هم الّذين يتدبّرون الأمور،

و يتحقّقون الأشياء بأنظارهم، فيعلمون أن لا أحسن حكما من اللّه تعالى.

______________________________

(1) يوسف: 23.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 272

[سورة المائدة (5): الآيات 51 الى 53]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى أَوْلِياءَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (51) فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يُسارِعُونَ فِيهِمْ يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ فَيُصْبِحُوا عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ (52) وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا أَ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَأَصْبَحُوا خاسِرِينَ (53)

ثمّ نهى اللّه سبحانه المؤمنين أن يتّخذوا أهل الكتاب أولياء، و يستنصروهم و يوالوهم، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الْيَهُودَ وَ النَّصارى أَوْلِياءَ فلا تعتمدوا عليهم، و لا تعاشروهم معاشرة الأحباب.

ثمّ علّل النهي عن مخالطتهم إيّاهم بقوله: بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي:

بعض الكفّار وليّ بعض في العون و النصرة، و يدهم واحدة عليكم. يعني: كلّهم متّفقون على خلافكم، يوالي بعضهم بعضا، لاتّحادهم في الدين، و اجتماعهم على مضادّتكم.

وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ أي: و من والاهم، و استنصر بهم، و اتّخذهم أنصارا مِنْكُمْ فَإِنَّهُ مِنْهُمْ و هذا تشديد من اللّه في وجوب مجانبتهم في الدين، كما

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا تتراءى ناراهما».

يعني: لا ينبغي لمسلم أن ينزل بالموضع الّذي إذا أوقدت فيه نار تظهر لنار المشرك إذا أوقدها في منزله. و المراد المبالغة في مباعدة

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 273

المسلم المشرك.

إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي: الّذين ظلموا أنفسهم بموالاة الكفّار، أو ظلموا المؤمنين بموالاة الكافرين، فيمنعهم ألطافه و يخذلهم.

قال في الكشّاف «1»: روي أنّ عبادة بن الصامت قال لرسول اللّه صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم:

إنّ لي موالي من اليهود كثيرا عددهم، و إنّي أبرأ إلى اللّه و رسوله من ولايتهم، و أوالي اللّه و رسوله. فقال ابن أبيّ: لكنّي رجل أخاف الدوائر، لا أبرأ من ولاية مواليّ، و هم يهود بني قينقاع، فنزلت: فَتَرَى الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ

يعني: ابن أبيّ و أضرابه يُسارِعُونَ فِيهِمْ أي: في موالاتهم و معاونتهم، و يرغبون في مودّتهم و محبّتهم يَقُولُونَ نَخْشى أَنْ تُصِيبَنا دائِرَةٌ أي:

يعتذرون بأنّهم يخافون أن تصيبهم دائرة من دوائر الزمان، أي: صرف من صروفه، بأن ينقلب الأمر و تكون الدولة للكفّار، فيحتاجوا إليهم و إلى معونتهم.

فَعَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَ بِالْفَتْحِ يعني: فتح مكّة أو فتح بلاد الشرك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على أعدائه، و إظهار المسلمين عليهم أَوْ أَمْرٍ مِنْ عِنْدِهِ و هو إعزاز المسلمين بقطع شأفة «2» اليهود، و إذلال الكافرين بالرعب و القتل، أو إجلائهم من ديارهم، أو الأمر بإظهار أسرار المنافقين و قتلهم فَيُصْبِحُوا أي: هؤلاء المنافقون عَلى ما أَسَرُّوا فِي أَنْفُسِهِمْ نادِمِينَ على ما استبطنوه من الكفر و الشكّ في أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فضلا عمّا أظهروه ممّا أشعر على نفاقهم.

______________________________

(1) الكشّاف 1: 643.

(2) الشأفة: الأصل، يقال: استأصل شأفته، أي: أزاله من أصله.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 274

وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا قرأ عاصم و حمزة و الكسائي بالرفع، على أنّه كلام مبتدأ. و يؤيّده قراءة ابن كثير و نافع و ابن عامر مرفوعا بغير واو، على أنّه جواب قائل يقول: فما ذا يقول المؤمنون حينئذ؟ و قرأ أبو عمرو و يعقوب بالنصب عطفا على «أن يأتي» باعتبار المعنى، و كأنّه

قال: عسى أن يأتي اللّه بالفتح و يقول الّذين آمنوا. أو على الفتح، أي: عسى اللّه أن يأتي بالفتح و بأن يقول المؤمنون، فإنّ الإتيان بما يوجب القول كالإتيان بالقول.

أَ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ إِنَّهُمْ لَمَعَكُمْ أي: أنّهم مؤمنون، و معكم في معاونتكم على أعدائكم و نصرتكم. يعني: يقوله المؤمنون بعضهم لبعض، تعجّبا من حال المنافقين، و إظهارا لسرورهم و بهجتهم بما منّ اللّه عليهم من الإخلاص. أو يقول المؤمنون لليهود، فإنّ المنافقين حلفوا لهم بالمعاضدة، كما حكى اللّه تعالى عنهم: وَ إِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ «1».

و جهد الأيمان أغلظها. و هو في الأصل مصدر. و نصبه على الحال على تقدير: و أقسموا باللّه يجهدون جهد أيمانهم، فحذف الفعل و أقيم المصدر مقامه، و لذلك ساغ كونها معرفة. أو على المصدريّة، لأنّه بمعنى:

أقسموا.

و قوله: حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ إمّا من جملة المقول، أو من قول اللّه تعالى شهادة لهم بأنّ أعمالهم بطلت و ضاعت، لأنّهم أوقعوها على خلاف الوجه المأمور به، و بطل ما أظهروه من الايمان، لأنّه لم يوافق باطنهم ظاهرهم، فلم يستحقّوا به الثواب فَأَصْبَحُوا فصاروا خاسِرِينَ فيه معنى التعجّب، كأنّه قيل: ما أحبط أعمالهم! و ما أخسرهم في الدنيا و الآخرة!!

______________________________

(1) الحشر: 11.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 275

[سورة المائدة (5): الآيات 54 الى 56]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (54) إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ (55) وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ

وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ (56)

و لمّا بيّن سبحانه حال المنافقين، و أنّهم يتربّصون الدوائر بالمؤمنين، أعلم أنّ قوما منهم يرتدّون بعد وفاته، و أنّ ذلك كائن، و أنّهم لا ينالون أمانيّهم، و أنّه تعالى ينصر دينه بقوم لهم صفات محمودة مخصوصة، تميّزوا بها من بين العالمين، فقال:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا مَنْ يَرْتَدَّ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ قرأه على الأصل نافع و ابن عامر، و هو كذلك في الامام، و الباقون بالإدغام، أي: يرتدّ.

و في هذه الآية إخبار بالكائنات الّتي أخبر اللّه تعالى عنها قبل وقوعها، و هو أنّ قوما يرتدّون بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أنّه سبحانه ينصر دينه بقوم لهم هذه الصفات المذكورة.

و

قيل: كان أهل الردّة إحدى عشرة فرقة، ثلاث من العرب ارتدّوا في أواخر عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هم: بنو مدلج، و كان رئيسهم ذا الحمار الأسود العنسي، و كان كاهنا تنبّأ باليمن و استولى على بلاده، فكتب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى معاذ بن جبل و إلى سادات اليمن، فأهلكه اللّه على يد فيروز الديلمي ليلة قبض رسول

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 276

اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من غدها، و أخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في تلك الليلة فسرّ المسلمون، و أتى الخبر في أواخر ربيع الأول.

و بنو حنيفة أصحاب مسيلمة، تنبّأ و كتب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من مسيلمة رسول اللّه إلى محمّد رسول اللّه. أمّا بعد، فإنّ الأرض نصفها لي و نصفها لك. فأجاب:

من محمد رسول اللّه إلى مسيلمة الكذّاب. أمّا بعد، فإنّ الأرض للّه يورثها من يشاء من عباده، و العاقبة للمتّقين. فحاربه أبو بكر بجند من المسلمين، و قتله وحشي قاتل حمزة رضي اللّه عنه، و كان يقول: قتلت خير الناس في الجاهليّة، و شرّ الناس في الإسلام، أراد: في جاهليّتي و إسلامي.

و بنو أسد قوم طليحة بن خويلد، تنبّأ فبعث إليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خالدا، فهرب بعد القتال إلى الشام، ثمّ أسلم و حسن إسلامه.

و سبع في عهد أبي بكر: فزارة قوم عيينة بن حصن، و غطفان قوم قرّة بن سلمة القشيري، و بنو سليم قوم الفجاءة بن عبد ياليل، و بنو يربوع قوم مالك بن نويرة، و بعض بني تميم قوم سجاح بنت المنذر المتنبّئة زوجة مسيلمة، و كندة قوم الأشعث بن قيس، و بنو بكر بن وائل بالبحرين قوم الحطم بن زيد. و كفى اللّه أمرهم على يد المسلمين. و فرقة واحدة في زمان خلافة عمر، غسّان قوم جبلّة بن الأيهم، تنصّر و سار إلى الشام.

و الحاصل: أنّ اللّه سبحانه يقول: يا أيّها المؤمنون من يرجع من جملتكم إلى الكفر بعد إظهار الإيمان فلن يضرّوا اللّه شيئا، فإنّ اللّه لا يخلي دينه من أنصار يحمونه.

فَسَوْفَ يَأْتِي اللَّهُ بِقَوْمٍ يُحِبُّهُمْ وَ يُحِبُّونَهُ قيل: هم أهل اليمن، لما

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أشار إلى أبي موسى الأشعري و قال: قوم هذا. و قال: «الإيمان يمانيّ، و الحكمة يمانيّة».

و

قيل: الفرس، لأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سئل عنهم فضرب يده على عاتق

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 277

سلمان و قال: هذا و ذووه. و قال:

«لو كان الدين معلّقا بالثريّا لناله رجال من أبناء فارس».

و قيل: الّذين جاهدوا يوم القادسيّة ألفان من النخع، و خمسة آلاف من كندة و بجيلة، و ثلاثة آلاف من جماعات الناس.

و عن أئمّة الهدى عليهم السّلام و ابن عبّاس و عمّار و حذيفة أنّهم عليّ عليه السّلام و أصحابه، حين قاتل الناكثين و القاسطين و المارقين. و يؤيّد هذا القول

أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و صفه بالصفات المذكورة في هذه الآية، فقال فيه- و قد ندبه لفتح خيبر، بعد أن ردّ عنها حامل الراية إليه مرّة بعد أخرى، و فرّ من القتال و رجع إليه مرّة بعد أخرى، و هو يجبّن الناس و يجبّنونه-: «لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ اللّه و رسوله، و يحبّه اللّه و رسوله، كرّارا غير فرّار، لا يرجع حتّى يفتح اللّه على يده». ثم أعطاها إيّاه.

و الراجع إلى «من» محذوف تقديره: فسوف يأتي اللّه بقوم مكانهم. و محبّة اللّه تعالى للعباد إرادة الهدى و التوفيق لهم في الدنيا، و حسن الثواب في الآخرة. و محبّة العباد له إرادة طاعته، و التحرّز عن معصيته.

أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ عاطفين راحمين عليهم متذلّلين. جمع ذليل بمعنى الخاضع، لا ذلول من الذلّة، فإنّ جمعه ذلل. و استعماله مع «على» إمّا لتضمّنه معنى العطف و الحنوّ، أو للتنبيه على أنّهم مع علوّ طبقتهم و فضلهم على المؤمنين خاضعون لهم، أو للمقابلة بقوله: أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ غلاظ شداد متغلّبين عليهم، من: عزّه إذا غلبه. قال ابن عبّاس: تراهم للمؤمنين كالولد لوالده و كالعبد لسيّده، و في الغلظة على الكافرين كالسبع على فريسته.

يُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بالقتال لإعلاء كلمة اللّه و إعزاز دينه. هو

صفة أخرى ل «قوم» أو حال من الضمير في «أعزّة» وَ لا يَخافُونَ لَوْمَةَ لائِمٍ فيما يأتون من الجهاد و الطاعات. عطف على «يجاهدون» بمعنى: أنّهم الجامعون بين المجاهدة في سبيل اللّه و التصلّب في دينه. أو حال، يعني: أنّهم يجاهدون و حالهم خلاف

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 278

حال المنافقين، فإنّهم يخرجون في جيش المسلمين خائفين ملامة أوليائهم من اليهود، فلا يعملون شيئا يلحقهم فيه لوم من جهتهم. و اللومة المرّة من اللوم. و فيها و في تنكير «لائم» مبالغتان، كأنّه قيل: لا يخافون شيئا قطّ من لوم أحد من اللّوام.

ذلِكَ إشارة إلى ما تقدّم من الأوصاف، أي: ذلك المحبّة و الذلّة و العزّة و المجاهدة و انتفاء خوف اللومة فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ يعطيه من يعلم أنّه محلّ له وَ اللَّهُ واسِعٌ جواد كثير الفضل و اللطف، لا يخاف نفاد ما عنده عَلِيمٌ بمن هو أهله، فلا يبذله إلّا لمن تقتضي الحكمة إعطاءه.

و اعلم أنّ وصف اللين على أهل الإيمان، و الشدّة على الكفّار، و الجهاد في سبيل اللّه، و عدم الخوف من لائم، لا يمكن أحدا أن يدفع عليّا عليه السّلام عن استحقاق ذلك، لما ظهر من شدّته على أهل الشرك و الكفر، و نكايته فيهم، و مقاماته المشهورة في تشييد الملّة و نصرة الدين، و الرأفة على المؤمنين.

و يؤيّد ذلك أيضا إنذار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قريشا بقتال عليّ عليه السّلام لهم من بعده، حيث

جاء سهيل بن عمرو في جماعة منهم فقالوا: يا محمّد إنّ أرقّاءنا لحقوا بك فارددهم علينا. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لتنتهينّ يا معشر قريش أو

ليبعثنّ اللّه عليكم رجلا يضربكم على تأويل القرآن، كما ضربتكم على تنزيله. فقال له بعض أصحابه: من هو يا رسول اللّه، أبو بكر؟ قال: لا. قال: فعمر؟ قال: لا، و لكنّه خاصف النعل في الحجرة. و كان عليّ عليه السّلام يخصف نعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و

روى عن عليّ عليه السّلام أنّه قال يوم البصرة: «و اللّه ما قوتل أهل هذه الآية حتّى اليوم، و تلا هذه الآية».

و

روى أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره بالإسناد عن الزهري، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «يرد عليّ يوم القيامة رهط من أصحابي، فيجلون عن الحوض، فأقول: يا ربّ أصحابي أصحابي. فيقال: إنّك لا

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 279

علم لك بما أحدثوا من بعدك، إنّهم ارتدّوا على أدبارهم القهقرى».

و قيل: إنّ الآية عامّة في كلّ من استجمع هذه الخصال إلى يوم القيامة. و ذكر عليّ بن إبراهيم «1» بن هاشم: أنّها نزلت في مهديّ الأمّة و أصحابه، و أوّلها خطاب لمن ظلم آل محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قتلهم و غصبهم حقّهم.

و يؤيّد ما قلنا من أنّ صاحب هذه الصفات الحميدة و السمات السنيّة و النعوت الجليلة و الخصال العليّة، كان عليّ بن أبي طالب و أولاده المعصومين عليهم السّلام، الّذين هم ولاة الدين بنصّ خاتم النبيّين صلوات اللّه عليه و عليهم، أنّه سبحانه أورد بعد هذه الآية آية مخصوصة به عليه السّلام عند الموافق و المخالف، و هي قوله عزّ و علا: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أي: الذي يتولّى تدبيركم و يلي أموركم اللّه و رسوله وَ الَّذِينَ

آمَنُوا.

إنّما قال: وليّكم، و لم يقل: أولياؤكم، للتنبيه على أنّ الولاية للّه تعالى على الأصالة و لرسوله و المؤمنين على التبع.

الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ صفة ل «الَّذِينَ آمَنُوا»، فإنّه جرى مجرى الاسم في تقدير: و المؤمنون الّذين يقيمون، أو بدل منه. و يجوز نصبه و رفعه على المدح. وَ هُمْ راكِعُونَ جملة حاليّة مخصوصة ب «يؤتون»، أي: يؤتون الزّكاة حال ركوعهم في الصّلاة حرصا على الإحسان و مسارعة إليه.

و هذه الآية بالاتّفاق نزلت في عليّ عليه السّلام حين سأله سائل و هو راكع في صلاته، فأومأ بخنصره اليمنى إليه، فأخذ السائل الخاتم من خنصره.

و من جملة الروايات الواردة في هذا الباب، ما

رواه صاحب المجمع «2» عن

______________________________

(1) تفسير القمّي 1: 170.

(2) مجمع البيان 3: 210. زبدة التفاسير، ج 2، ص: 280

السيّد أبي الحمد مهدي بن نزار الحسيني القائني، قال: حدّثنا الحاكم أبو القاسم «1» الحسكاني رحمه اللّه، قال: حدّثني أبو الحسن محمّد بن القاسم الفقيه الصيدلاني، قال: أخبرنا أبو محمّد عبد اللّه بن محمّد الشعراني، قال: حدّثنا أبو علي أحمد بن علي بن رزين البياشاني، قال: حدّثنا المظفّر بن الحسين الأنصاري، قال: حدّثني السندي بن عليّ الورّاق، قال: حدّثنا يحيى بن عبد الحميد الحماني، عن قيس بن الربيع، عن الأعمش، عن عباية بن ربعي، قال: «بينا عبد اللّه بن عبّاس جالس على شفير زمزم يقول: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، إذ أقبل رجل متعمّم بعمامة، فجعل ابن عبّاس لا يقول: قال رسول اللّه، إلّا قال الرجل: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فقال ابن عبّاس: سألتك باللّه من أنت؟

فكشف العمامة عن وجهه و قال: يا أيّها

الناس من عرفني فقد عرفني، و من لم يعرفني فأنا جندب بن جنادة البدري أبو ذرّ الغفاري، سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بهاتين و إلّا فصمّتا، و رأيته بهاتين و إلّا فعميتا، يقول: عليّ قائد البررة، و قاتل الكفرة، منصور من نصره، مخذول من خذله.

أما إنّي صلّيت مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوما من الأيّام صلاة الظهر، فسأل سائل في المسجد فلم يعطه أحد، فرفع السائل يده إلى السماء، و قال: اللّهمّ اشهد أنّي سألت في مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلم يعطني أحد شيئا. و كان عليّ راكعا فأومأ بخنصره اليمنى إليه، و كان يتختّم فيها، فأقبل حتّى أخذ الخاتم من خنصره، و ذلك بعين النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فلمّا فرغ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من صلاته رفع رأسه إلى السماء و قال: اللّهمّ إنّ أخي موسى سألك فقال: رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي

______________________________

(1) شواهد التنزيل 1: 229 ح 235. زبدة التفاسير، ج 2، ص: 281

أَمْرِي «1». فأنزلت عليه قرآنا ناطقا: سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَ نَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما «2». اللّهمّ و أنا محمّد صفيّك و نبيّك، اللّهمّ فاشرح لي صدري، و يسّر لي أمري، و اجعل لي وزيرا من أهلي، عليّا اشدد به ظهري.

قال أبو ذرّ: فو اللّه ما استتمّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الكلام حتّى نزل جبرئيل من عند

اللّه فقال: يا محمّد اقرأ. قال: و ما أقرأ؟ قال: اقرأ: إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ ... الآية».

و روى هذا الخبر أبو إسحاق الثعلبي في تفسيره بهذا الإسناد بعينه.

و روى أبو بكر الرازي في كتاب أحكام «3» القرآن، على ما حكاه المغربي عنه، و الطبري «4»، و الرمّاني،

أنّها نزلت في عليّ عليه السّلام حين تصدّق بخاتمه و هو راكع.

و هو قول مجاهد و السدّي، و هو المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام،

و جميع علماء أهل البيت.

و في رواية عطاء، قال عبد اللّه بن سلام: «يا رسول اللّه أنا رأيت عليّا تصدّق بخاتمه و هو راكع، فنحن نتولّاه».

و

قد رواه لنا «5» السيّد أبو الحمد، عن أبي القاسم الحسكاني «6» بالإسناد المتّصل المرفوع إلى أبي صالح، عن ابن عبّاس، قال: «أقبل عبد اللّه بن سلام و معه نفر من قومه ممّن قد آمنوا بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقالوا: يا رسول اللّه إنّ منازلنا بعيدة، و ليس لنا مجلس و لا متحدّث دون هذا المجلس، و إنّ قومنا لمّا رأونا آمنّا باللّه و برسوله

______________________________

(1) طه: 25- 32.

(2) القصص: 35.

(3) أحكام القرآن 2: 446.

(4) تفسير الطبري 6: 186.

(5) من كلام صاحب المجمع «قدّس سرّه»، راجع مجمع البيان 3: 210.

(6) شواهد التنزيل 1: 234 ح 237. زبدة التفاسير، ج 2، ص: 282

و صدّقناه رفضونا، و آلوا على أنفسهم أن لا يجالسونا و لا يناكحونا و لا يكلّمونا، فشقّ ذلك علينا. فقال لهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّما وليّكم اللّه و رسوله و الّذين ...» الآية.

ثمّ إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

خرج إلى المسجد، و الناس بين قائم و راكع، فبصر بسائل، فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: هل أعطاك أحد شيئا؟

فقال: نعم، خاتم من فضّة.

فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من أعطاك؟

قال: ذلك القائم، و أومأ إلى عليّ عليه السّلام.

فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: على أيّ حال أعطاك؟

فقال: أعطاني و هو راكع.

فكبّر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثمّ قرأ: وَ مَنْ يَتَوَلَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ

وضع الظاهر موضع الضمير، و هو: فإنّهم هم الغالبون، تنبيها على البرهان عليه، فكأنّه قيل: و من يتولّ هؤلاء فهم حزب اللّه و حزب اللّه هم الغالبون، و تنويها بذكرهم، و تعظيما لشأنهم، و تشريفا لهم بهذا الاسم، و تعريضا لمن يوالي غير هؤلاء بأنّه حزب الشيطان. و أصل الحزب قوم يجتمعون لأمر حزبهم، أي: جمعهم.

و

في حديث إبراهيم بن الحكم بن ظهير: «أنّ عبد اللّه بن سلام أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع رهط من قومه، فشكوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما لقوا من قومهم. فبينا هم يشكون إذ نزلت هذه الآية، و أذّن بلال فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى المسجد، و إذا مسكين يسأل. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ماذا أعطيت؟

قال: خاتم من فضّة.

قال: من أعطاك؟

قال: ذلك القائم. فإذا هو عليّ عليه السّلام.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 283

قال: على أيّ حال أعطاكه؟

قال: أعطاني و هو راكع.

فكبّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قال: «وَ مَنْ

يَتَوَلَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ ... الآية».

و الآية من أوضح الدلائل على صحّة إمامة عليّ عليه السّلام بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بلا فصل. و تنقيح المبحث: أنّ الوليّ هو الّذي يلي تدبير الأمر، فيقال: فلان وليّ المرأة إذا كان يملك تدبير نكاحها، و وليّ الدم من كان إليه المطالبة بالقود، و السلطان، وليّ أمر الرعيّة. و يقال لمن كان خليفة النبيّ: وليّ عهد المسلمين. قال الكميت «1» يمدح عليّا عليه السّلام:

و نعم ولي الأمر بعد نبيّه و منتجع التقوى و نعم المؤدّب

و قال المبرّد في كتاب العبارة عن صفات اللّه تعالى: أصل الوليّ الذي هو أولى، أي: أحقّ، و مثله المولى. و أنّ لفظة «إنّما» تقتضي التخصيص و نفي الحكم عمّن عدا المذكور، كما يقولون: إنّما الفصاحة للجاهليّة، يعنون نفي الفصاحة عن غيرهم. و أنّ الروايات المأثورة عنّا و عنهم دالّة على أنّ المراد ب «الَّذِينَ آمَنُوا» في الآية عليّ عليه السّلام.

و إذا تقرّر هذا، لم يجز حمل لفظة «وليّ» على الموالاة في الدين و المحبّة، لأنّه لا تخصيص في هذا المعنى لمؤمن دون آخر، لأنّ المؤمنين كلّهم مشتركون في هذا المعنى، كما قال سبحانه: وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ «2».

و إذا لم يجز حمله على ذلك لم يبق إلّا الوجه الآخر، و هو صاحب التدبير و الأولى بالتصرّف في الأمور، لأنّه لا محتمل للفظه إلّا الوجهان، فإذا بطل أحدهما ثبت الآخر.

______________________________

(1) الروضة المختارة شرح قصائد الكميت: 41.

(2) التوبة: 71.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 284

و الّذي يدلّ على أنّ المعنيّ ب «الَّذِينَ آمَنُوا» هو عليّ عليه السّلام، الرواية الواردة من طريق العامّة و الخاصّة بنزول الآية فيه لمّا تصدّق بخاتمه

في حال الركوع. و قد تقدّم ذكرها. و أيضا كلّ من قال: إنّ المراد بلفظة «وليّ» ما يرجع إلى فرض الطاعة و الإمامة، ذهب إلى أنّه عليه السّلام هو المقصود بالآية.

و قال جار اللّه في الكشّاف «1»: «إنّما جي ء بلفظ الجمع، و إن كان السبب فيه رجلا واحدا، ليرغب الناس في مثل فعله، و لينبّه على أنّ سجيّة المؤمنين يجب أن تكون على هذه الغاية من الحرص على البرّ و الإحسان».

و قال صاحب الجامع «2»: «و أنا أقول قد اشتهر في اللغة إيراد العبارة عن الواحد بلفظة الجمع على سبيل التعظيم، فلا يحتاج إلى ما قال جار اللّه».

و وجه آخر على أنّ الولاية في الآية مختصّة أنّه سبحانه قال: «إِنَّما وَلِيُّكُمُ اللَّهُ» فخاطب جميع المؤمنين، و دخل في الخطاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و غيره. ثمّ قال:

«و رسوله» فأخرج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من جملتهم، لكونهم مضافين إلى ولايته. ثمّ قال:

«وَ الَّذِينَ آمَنُوا» فوجب أن يكون الّذي خوطب بالآية غير الّذي جعلت له الولاية، و إلّا أدّى المعنى إلى أن يكون المضاف هو المضاف إليه بعينه، و إلى أن يكون كلّ واحد من المؤمنين وليّ نفسه، و ذلك محال. و لمّا تحقّق أنّ المعنيّ بالآية هو أمير المؤمنين، تحقّقت إمامته بالنصّ الصريح، و هو المطلوب.

و قال صاحب كنز العرفان «3»: و يستدلّ بهذه الآية على أمور:

الأوّل: أنّ الفعل القليل لا يبطل الصلاة، لأنّ قوله: «وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ راكِعُونَ» إشارة إلى فعل عليّ عليه السّلام لمّا تصدّق على السائل بخاتمه في حال ركوعه،

______________________________

(1) الكشّاف 1: 649.

(2) جوامع الجامع 1: 386- 387.

(3) كنز العرفان 1: 158- 159.

زبدة

التفاسير، ج 2، ص: 285

و ذلك فعل قليل لا يؤثّر في بطلان الصلاة.

الثاني: أنّ النيّة فعل قلبيّ لا لساني، لأنّ فعله ذلك في الصلاة يستلزم النيّة، لأنّه عمل و كلّ عمل لا بدّله من النيّة، و اللفظ في الصلاة بغير القرآن و الدعاء مبطل، فلم يقع منه حينئذ، و إلّا لبطلت صلاته، و اللازم كالملزوم في البطلان.

الثالث: أنّ استحضار النيّة فعلا و استمرارها عينا غير شرط في العبادة، لأنّه على حال نيّة الزكاة لم يكن مستحضرا لنيّة الصلاة، فلو كان شرطا لأثّر البطلان المستلزم للذمّ المنافي لهذا المدح العظيم. و يتفرّع على ذلك الاكتفاء باستمرار النيّة حكما.

الرابع: تسمية الصدقة المندوبة زكاة، إذ لا يجوز كون ذلك الخاتم من الزكاة الواجبة، لأنّ إخراجها واجب مضيّق لا يجوز الاشتغال عنه بواجب موسّع أو مندوب، و حينئذ يكون ذلك من الصدقات المندوبة، و هو المطلوب. انتهى كلامه.

أقول: في الأمر الرابع نظر، كما لا يخفى على أهل النظر.

[سورة المائدة (5): آية 57]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ الْكُفَّارَ أَوْلِياءَ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (57)

روي عن ابن عبّاس: أنّ رفاعة بن زيد و سويد بن الحارث قد أظهرا الإسلام ثمّ نافقا، و كان رجال من المسلمين يوادّونهما، فنزلت: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَكُمْ هُزُواً وَ لَعِباً بأن أظهروا الإيمان باللسان و استبطنوا الكفر، فذلك معنى تلاعبهم بالدين مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 286

وَ الْكُفَّارَ أَوْلِياءَ.

رتّب النهي عن موالاتهم على اتّخاذهم دينهم هزوا و لعبا، إيماء إلى العلّة، و تنبيها على أنّ من هذا شأنه بعيد عن الموالاة جدير بالمعاداة.

و فصّل

المستهزئين بأهل الكتاب و الكفّار على قراءة من جرّه، و هم أبو عمرو و الكسائي و يعقوب. و على هذا الكفّار و إن عمّ أهل الكتاب يطلق على المشركين خاصّة، لتضاعف كفرهم. و من نصبه عطفه على «الَّذِينَ اتَّخَذُوا» على أنّ النهي عن موالاة من ليس على الحقّ رأسا، سواء من كان ذا دين تبع فيه الهوى و حرّفه عن الصواب كأهل الكتاب، و من لم يكن كالمشركين.

وَ اتَّقُوا اللَّهَ بترك المناهي إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ لأنّ الإيمان حقّا يقتضي ذلك. أو إن كنتم مؤمنين بوعده و وعيده.

[سورة المائدة (5): آية 58]

وَ إِذا نادَيْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ اتَّخَذُوها هُزُواً وَ لَعِباً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (58)

ثمّ أخبر سبحانه عن صفة الكفّار الّذين نهى المؤمنين عن موالاتهم، فقال:

وَ إِذا نادَيْتُمْ أيّها المؤمنون إِلَى الصَّلاةِ أي: إذا دعوتم إليها اتَّخَذُوها هُزُواً وَ لَعِباً أي: اتّخذوا الصلاة أو المناداة، فإنّهم كانوا إذا أذّن للصلاة تضاحكوا فيما بينهم، تجهيلا لأهلها، و تنفيرا للناس عنها و عن الداعي إليها.

و فيه دليل على أنّ الأذان مشروع للصلاة. و ثبوته بنصّ الكتاب، لا بالمنام وحده.

روي: أنّ نصرانيّا بالمدينة كان إذا سمع المؤذّن يقول: أشهد أن لا إله إلّا اللّه، و أنّ محمدا رسول اللّه، قال: أحرق اللّه الكاذب. فدخل خادمه ذات ليلة بنار و أهله نيام، فتطاير شررها في البيت، فأحرقه و أهله.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 287

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ فإنّ السفه يؤدّي إلى الجهل بالحقّ و الهزء به، و العقل يمنع منه، فكان لعبهم و هزؤهم من أفعال السفهاء و الجهلة، فكأنّه لا عقل لهم.

[سورة المائدة (5): آية 59]

قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ وَ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ (59)

و

روي أنّ نفرا من اليهود أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فسألوه عمّن يؤمن به من الرسل. فقال: أومن باللّه، و ما أنزل إلينا، و ما أنزل إلى إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب- إلى قوله- و نحن له مسلمون، فلمّا ذكر عيسى عليه السّلام جحدوا نبوّته، و قالوا:

و اللّه ما نعلم أهل دين أقلّ حظّا في الدنيا و الآخرة منكم، و لا دينا شرّا من دينكم، فنزلت: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا

ما تعيبون و

تنكرون. يقال: نقم منه إذا أنكره، و انتقم إذا كافأه إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ فوحّدناه و وصفناه بما يليق به من الصفات العلى، و نزّهناه عمّا لا يجوز عليه في ذاته و صفاته وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْنا من القرآن وَ ما أُنْزِلَ مِنْ قَبْلُ على الأنبياء من الكتب المنزلة عليهم.

وَ أَنَّ أَكْثَرَكُمْ فاسِقُونَ عطف على «أن آمنّا»، و كأنّ المستثنى لازم الأمرين، أعني: الإيمان و كون أكثركم فاسقين، أي: و ما تنقمون منّا إلّا الجمع بين إيماننا و بين تمرّدكم و خروجكم عن الإيمان، كأنّه قيل: و ما تنكرون منّا إلّا مخالفتكم حيث دخلنا الإيمان و أنتم خارجون منه. أو كان أصل الكلام: و اعتقاد أنّ أكثركم فاسقون، فحذف المضاف. أو عطف على «ما»، أي: و ما تنقمون منّا إلّا الإيمان باللّه و بما أنزل و بأنّ أكثركم. أو على علّة محذوفة، و التقدير: هل تنقمون منّا إلّا أن آمنّا لقلّة إنصافكم و فسقكم. أو نصب بإضمار فعل يدلّ عليه «هل تنقمون»، أي: و لا تنقمون أنّ أكثركم فاسقون. أو رفع على الابتداء و الخبر

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 288

محذوف، أي: و فسقكم ثابت معلوم عندكم، و لكن حبّ الرئاسة و المال يمنعكم عن الإنصاف.

و المراد من الأكثر من لم يؤمن منهم، فإنّ قليلا من أهل الكتاب آمن.

[سورة المائدة (5): آية 60]

قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ وَ الْخَنازِيرَ وَ عَبَدَ الطَّاغُوتَ أُولئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَ أَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (60)

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يخاطبهم، فقال: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ أخبركم بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ من ذلك المنقوم مَثُوبَةً عِنْدَ

اللَّهِ جزاء ثابتا عند اللّه. و المثوبة و إن كانت مختصّة بالخير، كالعقوبة بالشرّ، لكن وضعت هاهنا موضعها على التهكّم، و منه قوله: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «1»، و قوله: تحيّة بينهم ضرب وجيع «2».

و نصبها على التمييز عن «بشرّ». و إنّما قال «بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ» و إن لم يكن في المؤمنين شرّ، على الإنصاف في المخاطبة و المظاهرة في الحجاج، كقوله: وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ «3».

مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ بدل من «بشرّ» على حذف مضاف، أي: بشرّ من أهل ذلك من لعنه اللّه. أو: بشرّ من ذلك دين من لعنه اللّه. أو خبر محذوف، أي:

______________________________

(1) آل عمران: 21.

(2) من قصيدة لعمرو بن معد يكرب، و صدره: و خيل قد دلفت لها بخيل. أي: و أصحاب خيل قد تقدّمت لها بمثلها، التحيّة بينهم هو الضرب الوجيع، فأخبر عنها بالضرب الوجيع على سبيل التهكّم.

(3) سبأ: 24.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 289

هو من لعنه اللّه. و هم اليهود أبعدهم اللّه من رحمته، و سخط عليهم بكفرهم و انهماكهم في المعاصي بعد وضوح الآيات.

وَ جَعَلَ مِنْهُمُ الْقِرَدَةَ أي: و مسخ بعضهم قردة، و هم أصحاب السبت وَ الْخَنازِيرَ و بعضهم جعل خنازير، و هم كفّار أهل مائدة عيسى. و قيل: كلا المسخين في أصحاب السبت، مسخت شبّانهم قردة، و مشايخهم خنازير.

وَ عَبَدَ الطَّاغُوتَ عطف على صلة «من». و قرأ حمزة: عبد الطاغوت بضمّ الباء و الإضافة، عطفا على القردة، أي: جعل منهم عبد الطاغوت، و هي للمبالغة في العبوديّة، نحو حذر و يقظ. و المعنى: أنّه خذلهم حتّى عبدوه. و المراد من الطاغوت العجل. و قيل: الكهنة، و كلّ من أطاعوه في

معصية اللّه تعالى.

أُولئِكَ الملعونون الممسوخون شَرٌّ مَكاناً جعل مكانهم شرّا ليكون أبلغ في الدلالة على شرارتهم. و قيل: مكانا منصرفا. وَ أَضَلُّ عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ قصد الطريق المتوسّط بين غلوّ النصارى و قدح اليهود. و المراد من صيغتي التفضيل الزيادة مطلقا، لا بالإضافة إلى المؤمنين في الشرارة و الضلالة. أو يكون من باب المماشاة و الإنصاف في الخطاب.

قال المفسّرون: فلمّا نزلت هذه الآية عيّر المسلمون أهل الكتاب، و قالوا: يا إخوان القردة و الخنازير، فنكسوا رؤوسهم و افتضحوا.

[سورة المائدة (5): آية 61]

وَ إِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَ قَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَ هُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ (61)

ثمّ قال في شأن جماعة من اليهود نافقوا رسول اللّه، أو في عامّة المنافقين:

وَ إِذا جاؤُكُمْ قالُوا آمَنَّا وَ قَدْ دَخَلُوا بِالْكُفْرِ وَ هُمْ قَدْ خَرَجُوا بِهِ أي: يخرجون من عندك كما دخلوا، لم يؤثّر فيهم ما سمعوا منك. و الجملتان حالان من فاعل «قالوا».

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 290

و «بالكفر» و «به» حالان من فاعلي «دخلوا» و «خرجوا»، أي: دخلوا و خرجوا ملتبسين بالكفر. و «قد» و إن دخلت لتقريب الماضي من الحال ليصحّ أن يقع حالا، أفادت أيضا- لما فيها من التوقّع- أنّ أمارة النفاق كانت لائحة عليهم، و كان الرسول يظنّه، و لذلك قال: وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما كانُوا يَكْتُمُونَ أي: من الكفر. و فيه وعيد لهم.

[سورة المائدة (5): الآيات 62 الى 66]

وَ تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (62) لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ وَ الْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ (63) وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا بِما قالُوا بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً وَ أَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ أَطْفَأَهَا اللَّهُ وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (64) وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ لَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (65) وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ

مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ (66)

ثم بيّن سبحانه أنّه يضمّون إلى نفاقهم خصلة أخرى ذميمة، فقال: وَ تَرى

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 291

كَثِيراً مِنْهُمْ أي: من اليهود أو المنافقين يُسارِعُونَ فِي الْإِثْمِ أي: الحرام. و قيل:

الكذب، لقوله: «عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ». و قيل: كلمة الشرك، نحو قولهم: عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ «1». وَ الْعُدْوانِ الظلم، أو مجاوزة الحدّ في المعاصي. و قيل: الإثم ما يختصّ بهم، و العدوان ما يتعدّى إلى غيرهم. وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ أي: الحرام الّذي هو الرشوة في الحكم. خصّه بالذكر للمبالغة. لَبِئْسَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ لبئس شيئا عملوه.

قال أهل المعاني: إنّ أكثر ما تستعمل المسارعة في الخير، كقوله تعالى:

يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ «2». و فائدة إيثار لفظ المسارعة هاهنا- و إن كان لفظ العجلة أدلّ على الذمّ- أنّهم يعملونه كأنّهم محقّون فيه، و لذلك قال ابن عبّاس في تفسيره: أنّهم يجترءون على الخطأ.

لَوْ لا يَنْهاهُمُ الرَّبَّانِيُّونَ العلماء بالدين الذين من قبل الربّ وَ الْأَحْبارُ عَنْ قَوْلِهِمُ الْإِثْمَ الإثم: الكذب أو كلمة الشرك وَ أَكْلِهِمُ السُّحْتَ تحضيض لعلمائهم على النهي عن ذلك، فإنّ «لولا» إذا دخل على الماضي أفاد التوبيخ، و إذا دخل على المستقبل أفاد التحضيض.

لَبِئْسَ ما كانُوا يَصْنَعُونَ أبلغ من قوله: لبئس ما كانوا يعملون، من حيث إنّ الصنع عمل الإنسان بعد تدرّب فيه و تروّ و تحرّي إجادة، و لذلك ذمّ به خواصّهم، و لأنّ ترك الحسبة أقبح من مواقعة المعصية، لأنّ النفس تلتذّ بها و تميل إليها، و لا كذلك ترك الإنكار عليها، فكان جديرا بأبلغ الذمّ، فترك النهي عن الكبيرة أعظم من ارتكابها.

و عن ابن عبّاس: هي أشدّ آية في القرآن. و عن الضحّاك: ما في

القرآن آية

______________________________

(1) التوبة: 30.

(2) آل عمران: 114.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 292

أخوف عندي منها.

وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ أي: مقبوضة عن العطاء، ممسكة عن الرزق.

يعني: هو ممسك يقتر الرزق. و غلّ اليد و بسطها مجاز عن البخل و الجود، و منه قوله تعالى وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ «1». و لا قصد فيه إلى إثبات يد و غلّ و بسط، و لذلك يستعمل حيث لا يتصوّر ذلك، كقوله:

جاد الحمى بسط اليدين بوابل شكرت نداه تلاعه و وهاده «2»

و قيل: معناه أنّه فقير، كقوله: لَقَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ فَقِيرٌ وَ نَحْنُ أَغْنِياءُ «3».

غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ دعاء عليهم بالبخل و النكد، أو بالفقر و المسكنة، و لذلك كانوا أبخل خلق اللّه و أرذلهم. و يجوز أن يكون دعاء عليهم بغلّ الأيدي حقيقة، يغلّون في الدنيا أسارى، و في الآخرة في النار، فتكون المطابقة من حيث اللفظ و الأصل، كقولهم: سبّني سبّ اللّه دابره، أي: قطعه، لأنّ السبّ أصله القطع. و يجوز أن يكون إخبارا بأنّهم ألزموا البخل و جعلوا بخلاء.

وَ لُعِنُوا بِما قالُوا و أبعدوا عن رحمة اللّه، و عذّبوا بهذه المقالة، و ليس الأمر على ما وصفوه بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ بل هو الجواد. و ليس لذكر اليد هنا معنى غير إفادة معنى الجود. و ثنّى اليد مبالغة في الردّ و نفي البخل عنه، و إثباتا لغاية الجود، فإنّ غاية ما يبذله السخيّ من ماله أن يعطيه بيديه، و تنبيها على منح الدنيا

______________________________

(1) الإسراء: 29.

(2) أي: أمطر السحاب أرض الحمى بمطر كثير فأنبتت و أزهرت، فشكرته الأراضي المرتفعة و المنخفضة. فشبّه السحاب بإنسان كريم على سبيل المكنية،

و إثبات اليدين و بسطها تخييل. و الوابل: المطر الشديد. و الندى: الجود و الفضل و الخير. و التلعة: الأرض المرتفعة، و جمعه: تلاع. و الوهدة: الأرض المنخفضة، و جمعه وهاد و لم نعلم قائل الشعر.

(3) آل عمران: 181.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 293

و الآخرة، و على ما يعطى للاستدراج و ما يعطى للإكرام.

يُنْفِقُ كَيْفَ يَشاءُ تأكيد لذلك، أي: هو مختار في إنفاقه، يوسّع تارة و يضيّق أخرى على حسب حكمته و وفق مصلحته. و لا يجوز جعله حالا من الهاء، للفصل بينهما بالخبر، و لأنّها مضاف إليها، و لا من اليدين، إذ لا ضمير لهما فيه، و لا من ضميرهما لذلك.

و الآية نزلت في فنحاص بن عازوراء، فإنّه قال ذلك لمّا كفّ اللّه تعالى عن اليهود ما بسط عليهم من السعة، بشؤم تكذيبهم محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أشرك فيه الآخرون، لأنّهم رضوا بقوله.

وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً أي: هم طاغون كافرون، و يزدادون طغيانا و كفرا بما يسمعون من القرآن، تماديا في الجحود، و حسدا و كفرا بآيات اللّه تعالى، فيضمّون كفرا إلى كفرهم، كما يزداد المريض مرضا من تناول الغذاء الصالح للأصحّاء.

وَ أَلْقَيْنا بَيْنَهُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ فلا تتوافق قلوبهم، و لا تتطابق أقوالهم، يعني: كلماتهم مختلفة و قلوبهم شتّى، فلا تقع بينهم موافقة. كُلَّما أَوْقَدُوا ناراً لِلْحَرْبِ هذا صلة «أوقدوا»، أو صفة «نارا» أَطْفَأَهَا اللَّهُ يعني: كلّما أرادوا محاربة الرسول و أثاروا شرّا عليه ردّهم اللّه، بأن أوقع بينهم منازعة كفّ بها عنه شرّهم.

و في هذا دلالة على صحّة نبوّة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،

لأنّ اليهود كانوا في أشدّ باس و أمنع دار، حتّى إنّ قريشا كانت تعتضد بهم، و كان الأوس و الخزرج تتكثّر بمظاهرتهم، فذلّوا و قهروا، و قتل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بني قريظة، و أجلى بني النضير، و غلب على خيبر و فدك، فاستأصل اللّه شأفتهم، حتّى إنّ اليوم تجد اليهود في كلّ بلدة أذلّ الناس.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 294

أو المعنى: كلّما أرادوا حرب أحد غلبوا، فإنّهم لمّا خالفوا حكم التوراة سلّط اللّه عليهم بختنصّر، ثمّ أفسدوا فسلّط عليهم فطرس الرومي، ثمّ أفسدوا فسلّط عليهم المجوس، ثمّ أفسدوا فسلّط عليهم المسلمين.

وَ يَسْعَوْنَ فِي الْأَرْضِ فَساداً أي: للفساد. و هو اجتهادهم في محو ذكر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من كتبهم، و تكذيب رسالته، و مخالفة أمره و نهيه، و كيدهم في إثارة الفتن و تهييج الحرب و هتك المحارم وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ فلا يجازيهم إلّا شرّا.

وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْكِتابِ آمَنُوا بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بما جاء به وَ اتَّقَوْا ما عددنا من معاصيهم و نحوه لَكَفَّرْنا عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ الّتي فعلوها، و لم نؤاخذهم بها وَ لَأَدْخَلْناهُمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ و لجعلناهم من الداخلين فيها.

و فيه تنبيه على عظم معاصيهم، و كثرة ذنوبهم، و أنّ الإسلام يجبّ ما قبله و إن جلّ، و أنّ الكتابي لا يدخل الجنّة ما لم يسلم.

وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ أي: أقاموا أحكام التوراة و الإنجيل، و أذاعوا كلّ ما فيهما من حدودهما، و ما فيهما من نعت محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ يعني: سائر الكتب

المنزلة، لأنّهم كلّفوا الإيمان بجميعها، فإنّها من حيث إنّهم مكلّفون بالإيمان بها كالمنزّل إليهم. و قيل: هو القرآن. و هو المأثور عن ابن عبّاس، و اختاره الجبائي.

لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ أي: لوسّع اللّه عليهم أرزاقهم، بأن يفيض عليهم بركات من السماء و الأرض، أو يكثر ثمرة الأشجار، و غلّة الزروع، أو يرزقهم الجنان اليانعة الثمار، فيجتنونها من رأس الشجر، و يلتقطون ما تساقط على الأرض. فبيّن اللّه تعالى بذلك أنّ ما كفّ عنهم بشؤم كفرهم و معاصيهم لا لقصور الفيض، و لو أنّهم آمنوا و أقاموا ما أمروا به لوسّع عليهم، و جعل لهم خير الدارين.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 295

و نظير ذلك قوله: وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً «1». وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ «2». فجعل اللّه تعالى التقوى من أسباب التوسعة في الرزق.

مِنْهُمْ أُمَّةٌ مُقْتَصِدَةٌ مسلمة عادلة، آمنت بالنبيّ و بما جاء به، غير غالية و لا مقصّرة. و قيل: مقتصدة في عداوته. و الأوّل قول مجاهد و السدّي و ابن زيد، و مأثور عن أهل البيت عليهم السّلام. وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ ساءَ ما يَعْمَلُونَ أي: بئس ما يعملونه.

و فيه معنى التعجّب، أي: ما أسوأ عملهم. و هو المعاندة، و تحريف الحقّ، و الإعراض عنه، و الإفراط في العداوة.

[سورة المائدة (5): آية 67]

يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (67)

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالتبليغ، و وعده العصمة و النصرة، ليأمن من مكر المكرة من أهل

الكفر و النفاق، فقال: يا أَيُّهَا الرَّسُولُ هذا نداء تشريف و تعظيم بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ جميع ما أنزل إليك غير مراقب أحدا و لا خائف مكروها، أي: ممّا أمرت بتبليغه من مصالح العباد، لا جميع ما أنزل كائنا ما كان، فإنّ من الأسرار الإلهيّة ما يحرم إفشاؤه.

وَ إِنْ لَمْ تَفْعَلْ و إن لم تبلّغ جميع ما أمرت بتبليغه فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ فما أدّيت شيئا منها، لأنّ كتمان بعضها يضيّع ما أدّى منها، كترك أركان الصلاة، فإنّ غرض الدعوة ينتقض به. أو: فكأنّك ما بلّغت شيئا منها، كقوله:

______________________________

(1) الجن: 16.

(2) الطلاق: 2- 3.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 296

فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً «1» من حيث إنّ كتمان البعض و الكلّ سواء في الشناعة و استجلاب العقاب.

و قرأ نافع و ابن عامر و أبو بكر عن عاصم: رسالاته.

وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ عدة و ضمان من اللّه بعصمته من تعرّض الأعادي، و إزاحة لمعاذيره. و المعنى: و اللّه يضمن لك العصمة من أن ينالوك بسوء، فما عذرك في مراقبتهم؟

إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ يريد أن لا يمكّنهم ممّا يريدون بك من مكروه. الآية نزلت بعد وقعة أحد و حنين.

و

روى العيّاشي في تفسيره بإسناده عن ابن أبي عمير، عن ابن أذينة، عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس و جابر بن عبد اللّه قالا: «إنّ اللّه تعالى أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن ينصب عليّا عليه السّلام علما للناس ليخبرهم بولايته. فتخوّف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يقولوا حامى ابن عمّه، و أن يطعنوا في ذلك عليه، و أن يشقّ ذلك على جماعة من أصحابه، فنزلت

هذه الآية. فأخذ بيده يوم الغدير و قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه» «2».

و على هذا، من قرأ: «فما بلغت رسالاته» معناه: إن لم تبلّغ هذه الرسالة فما بلّغت إذن ما كلّفت به من الرسالات، و كنت كأنّك لم تؤدّ منها شيئا قطّ، لأنّك إذا لم تؤدّها فكأنّك أغفلت أداءها جميعا.

و هذا الخبر بعينه قد حدّث به السيّد أبو الحمد، عن الحاكم أبي القاسم الحسكاني، بإسناده عن ابن أبي عمير إلى آخره، في كتاب شواهد التنزيل «3» لقواعد التفضيل.

______________________________

(1) المائدة: 32.

(2) تفسير العيّاشي 1: 331 ح 152.

(3) شواهد التنزيل 1: 255 ح 249.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 297

و

فيه أيضا بالإسناد المرفوع إلى حيّان بن علي العنزي، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس قال: «نزلت هذه الآية في عليّ عليه السّلام، فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بيده فقال:

من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهمّ وال من والاه، و عاد من عاداه» «1».

و

قد أورد هذا الخبر أبو إسحاق أحمد بن محمّد بن إبراهيم الثعلبي في تفسيره، بإسناده مرفوعا إلى ابن عبّاس قال: «نزلت هذه الآية في عليّ عليه السّلام، أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يبلّغ فيه، فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بيد عليّ فقال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، اللّهمّ وال من والاه، و عاد من عاداه».

و

قد اشتهرت الروايات عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام، أنّ اللّه تعالى أوحى إلى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يستخلف عليّا، فكان يخاف أن يشقّ ذلك على جماعة من أصحابه، فأنزل اللّه هذه الآية تشجيعا له على القيام بما أمره بأدائه.

و

المعنى: إن تركت تبليغ ما أنزل إليك و كتمته، كنت كأنّك لم تبلّغ من رسالات ربّك في استحقاق العقوبة.

و

عن أنس: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يحرس حتّى نزلت هذه الآية، فأخرج رأسه من قبّة أدم فقال لحرّاس من أصحابه- منهم سعد و حذيفة-: الحقوا بملاحقكم، فإنّ اللّه تعالى عصمني من الناس.

[سورة المائدة (5): الآيات 68 الى 71]

قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْ ءٍ حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (68) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصَّابِئُونَ وَ النَّصارى مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (69) لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلاً كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ فَرِيقاً كَذَّبُوا وَ فَرِيقاً يَقْتُلُونَ (70) وَ حَسِبُوا أَلاَّ تَكُونَ فِتْنَةٌ فَعَمُوا وَ صَمُّوا ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ثُمَّ عَمُوا وَ صَمُّوا كَثِيرٌ مِنْهُمْ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ (71)

______________________________

(1) شواهد التنزيل 1: 251 ح 245.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 298

عن ابن عبّاس: جاء جماعة من اليهود إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالوا له: أ لست تقرّ بأنّ التوراة من عند اللّه؟ قال: بلى. قالوا: فإنّا نؤمن بها، و لا نؤمن بما عداها، فنزلت: قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لَسْتُمْ عَلى شَيْ ءٍ

أي: على دين يعتدّ به، و يصحّ أن يسمّى شيئا، لأنّه باطل، كما تقول: هذا ليس بشي ء، تريد تحقيره و تصغير شأنه حَتَّى تُقِيمُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ بالتصديق بما فيهما من البشارة بمحمد صلّى اللّه عليه

و آله و سلّم، و العمل بما فيهما وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ من سائر الكتب الإلهيّة و من القرآن، و من جملة إقامتها الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الإذعان لحكمه، فإنّ الكتب الإلهيّة بأسرها آمرة بالإيمان بمن صدّقه المعجزة، ناطقة بوجوب الطاعة له. و المراد إقامة أصولها، و ما لم ينسخ من فروعها.

وَ لَيَزِيدَنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ طُغْياناً وَ كُفْراً فَلا تَأْسَ عَلَى الْقَوْمِ الْكافِرِينَ فلا تتأسّف و لا تحزن عليهم لزيادة طغيانهم و كفرهم بما تبلّغه إليهم، فإنّ ضرر ذلك يرجع إليهم، لا يتخطّاهم، و في المؤمنين مندوحة و غناء لك عنهم. و فيه تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أي: فلا تحزن، فإنّ تكذيب الأنبياء عادتهم و دأبهم.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا إيمانا ظاهرا، يعني: المنافقين وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصَّابِئُونَ

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 299

وَ النَّصارى سبق تفسيره في سورة البقرة «1». و قال سيبويه و الخليل و جميع البصريّين: إنّ قوله: «و الصابئون» محمول على التأخير، و مرفوع بالابتداء، و خبره محذوف، و النيّة به التأخير عمّا في حيّز «إن»، من اسم «إنّ» و خبرها. و التقدير: إنّ الّذين آمنوا و الّذين هادوا و النصارى حكمهم كذا، و الصابئون كذلك، كقوله: فإنّي و قيّار بها لغريب «2»، أي: و إنّي لغريب و قيّار بها لغريب.

و هو كاعتراض دلّ به على أنّه لمّا كان الصابئون الّذين صبأوا- أي: خرجوا عن الأديان كلّها- مع ظهور ضلالهم، و ميلهم عن جميع الأديان، يتاب عليهم إن صحّ منهم الإيمان و العمل الصالح، كان غيرهم أولى بذلك.

و «النصارى» يجوز عطفه أن يكون معطوفا على

«الصابئون»، و «من آمن» خبر هما، و خبر «إنّ» مقدّر دلّ عليه ما بعده، كقوله:

نحن بما عندنا و أنت بماعندك راض و الرأي مختلف

و لا يجوز عطفه على محلّ «إنّ» و اسمها، فإنّه مشروط بالفراغ من الخبر، و لهذا لا يقال: إنّ زيدا و عمرو منطلقان، إذ لو عطفت عليه قبله كان الخبر خبر المبتدأ و خبر إنّ معا، فيجتمع عليه عاملان. و لا على الضمير في «هادوا»، لعدم التأكيد، و الفصل، و لأنّه يوجب كون الصابئين هودا. و قيل: «إنّ» بمعنى «نعم»، و ما بعدها في موضع الرفع بالابتداء.

مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ إيمانا ظاهرا و باطنا وَ عَمِلَ صالِحاً المعطوف و المعطوف عليه في محلّ الرفع بالابتداء، و خبره فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ و الجملة خبر «إنّ»، و الفاء لتضمّن المبتدأ معنى الشرط. أو خبر المبتدأ كما مرّ، و الراجع محذوف، أي: من آمن منهم. أو في محلّ النصب على أنّه بدل من

______________________________

(1) راجع ج 1 ص 160.

(2) لضابئ بن الحرث البرجمي، و صدره: فمن يك أمسى بالمدينة رحله.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 300

زبدة التفاسير ج 2 349

اسم «إنّ» و ما عطف عليه.

لَقَدْ أَخَذْنا مِيثاقَ بَنِي إِسْرائِيلَ بالتوحيد و البشارة بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ رُسُلًا ليذكّروهم، و ليبيّنوا لهم أمر دينهم من الأوامر و النواهي كُلَّما جاءَهُمْ رَسُولٌ بِما لا تَهْوى أَنْفُسُهُمْ بما يخالف هواهم، و لا يوافق مرادهم من الشرائع و مشاقّ التكاليف فَرِيقاً كَذَّبُوا وَ فَرِيقاً يَقْتُلُونَ جواب الشرط. و الجملة صفة «رسلا»، و الراجع محذوف، أي: رسول منهم. و قيل: الجواب محذوف دلّ عليه قوله: «فريقا» إلى

آخره. و هو استئناف، كأنّه جواب سائل يسأل عنهم كيف فعلوا برسلهم؟

و إنّما جي ء ب «يقتلون» موضع «قتلوا» على حكاية الحال الماضية، استحضارا لتلك الحال الشنيعة ليتعجّب بها، و استفظاعا للقتل، و تنبيها على أنّ ذلك عادتهم ماضيا و مستقبلا، و محافظة على رؤوس الآي.

وَ حَسِبُوا أَلَّا تَكُونَ فِتْنَةٌ أي: و حسب بنو إسرائيل أن لا يصيبهم بلاء و عذاب بسبب قتلهم الأنبياء و تكذيبهم. و قرأ أبو عمرو و حمزة و الكسائي و يعقوب: «لا تكون» بالرفع، على أنّ «أن» هي المخفّفة من الثقيلة، و أصله:

أنّه لا تكون. و إدخال فعل الحسبان عليها- و هي لتحقيق- تنزيل له منزلة العلم، لتمكّنه في قلوبهم، و «أن» أو «أنّ» بما في حيّزها سادّ مسدّ مفعوليه.

فَعَمُوا عن الدين، أو عن الدليل و الهدى وَ صَمُّوا عن استماع الحقّ، كما فعلوا حين عبدوا العجل ثُمَّ تابَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ أي: ثمّ تابوا فتاب اللّه عليهم ثُمَّ عَمُوا وَ صَمُّوا كرّة أخرى بطلبهم المحال غير المعقول في صفات اللّه تعالى، و هو الرؤية كَثِيرٌ مِنْهُمْ بدل من الضمير أو فاعل، و الواو علامة الجمع، كقولهم:

أكلوني البراغيث. أو خبر مبتدأ محذوف، أي: العمي و الصمّ كثير منهم. قيل: أراد

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 301

بكثير منهم من كان في عصر نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما يَعْمَلُونَ فيجازيهم على وفق أعمالهم.

[سورة المائدة (5): الآيات 72 الى 74]

لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ وَ قالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ وَ مَأْواهُ النَّارُ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ (72) لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ

ثَلاثَةٍ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ إِلهٌ واحِدٌ وَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) أَ فَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَهُ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (74)

ثمّ احتجّ سبحانه على النصارى فقال: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ هذا مذهب اليعقوبيّة منهم، لأنّهم قالوا: إنّه تعالى اتّحد بالمسيح اتّحاد الذات، فصارا شيئا واحدا، فصار الناسوت لاهوتا، و ذلك قولهم: إنّ المسيح هو الإله.

وَ قالَ الْمَسِيحُ يا بَنِي إِسْرائِيلَ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ أي: إنّي عبد مربوب مخلوق مثلكم، فاعبدوا خالقي و خالقكم إِنَّهُ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ في عبادته، أو فيما يختصّ به من الصفات و الأفعال فَقَدْ حَرَّمَ اللَّهُ عَلَيْهِ الْجَنَّةَ يمنع من دخولها، كما يمنع المحرّم من المحرّم عليه، فإنّها دار الموحّدين وَ مَأْواهُ النَّارُ فإنّها المعدّة للمشركين وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ أي: و ما

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 302

لهم أحد ينصرهم من النار، و يخلّصهم من عذابها. فوضع الظاهر موضع المضمر تسجيلا على أنّهم ظلموا بالإشراك، و عدلوا عن طريق الحقّ. و هو يحتمل أن يكون من تمام كلام عيسى، و أن يكون من كلام اللّه تعالى، تنبيها على أنّهم قالوا ذلك تعظيما لعيسى و تقرّبا إليه، و هو معاديهم بذلك و مخاصمهم فيه، فما ظنّك بغيره؟! ثمّ أقسم سبحانه قسما آخر بقوله: لَقَدْ كَفَرَ الَّذِينَ قالُوا إِنَّ اللَّهَ ثالِثُ ثَلاثَةٍ أي: أحد ثلاثة. و هو حكاية عمّا قاله النسطوريّة و الملكانيّة منهم القائلون بالأقانيم الثلاثة، أي: الأصول الثلاثة: ابن، و أب، و روح القدس وَ ما مِنْ إِلهٍ و ما في الوجود ذات واجب مستحقّ للعبادة من حيث إنّه مبدأ جميع

الموجودات إِلَّا إِلهٌ واحِدٌ موصوف بالوحدانيّة، متعال عن الشرك. و «من» مزيدة للاستغراق.

وَ إِنْ لَمْ يَنْتَهُوا عَمَّا يَقُولُونَ و لم يوحّدوا لَيَمَسَّنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ ليمسّنّ الّذين بقوا منهم على الكفر، فتكون «من» للتبعيض. أو ليمسّنّ الّذين كفروا من النصارى، فتكون بيانيّة. و وضعه موضع: ليمسّنّهم، تكريرا للشهادة على كفرهم، و تنبيها على أنّ العذاب على من دام على الكفر و لم ينقلع عنه، و لذلك عقّبه بقوله: أَ فَلا يَتُوبُونَ إِلَى اللَّهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَهُ أي: أ فلا يتوبون بالانتهاء عن تلك العقائد الباطلة و الأقوال الزائغة، و يستغفرونه بالتوحيد و التنزيه عن الاتّحاد و الحلول، بعد هذا التقرير و التهديد الشديد؟ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يغفر الذنوب و يسترها رحمة منه لعباده. و في هذا الاستفهام تعجيب من إصرارهم.

و الفرق بين التوبة و الاستغفار: أنّ الاستغفار طلب المغفرة بالدعاء أو التوبة أو غيرهما من الطاعات، و التوبة الندم على المعصية مع العزم على أن لا يعود إلى مثلها في القبح.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 303

[سورة المائدة (5): الآيات 75 الى 77]

مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلاَّ رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ الرُّسُلُ وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (75) قُلْ أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ اللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (76) قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ وَ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ (77)

و لمّا قدّم سبحانه ذكر مقالات النصارى، عقّبه بالردّ عليهم و الحجاج لهم، فقال: مَا الْمَسِيحُ ابْنُ مَرْيَمَ إِلَّا رَسُولٌ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِ

الرُّسُلُ أي: ما هو إلّا رسول كالرسل قبله، خصّه اللّه تعالى بالآيات كما خصّهم بها، فإنّ إحياء الموتى على يده، فقد أحيا العصا، و جعلها حيّة تسعى على يد موسى، و هو أعجب. و إن خلقه من غير أب، فقد خلق آدم عليه السّلام من غير أب و أمّ، و هو أغرب.

وَ أُمُّهُ صِدِّيقَةٌ صدّقت بكلمات ربّها و كتبه، و ما هي إلّا كسائر النساء اللاتي يلازمن الصدق، أو يصدّقن الأنبياء كانا يَأْكُلانِ الطَّعامَ أي: يفتقران إلى الغذاء و ما يتبعه من الهضم و النقص افتقار الحيوانات، فلم يكونا إلّا جسما مؤلّفا محدثا. و قيل: إنّه كناية عن قضاء الحاجة، فكأنّه ذكر الأكل و قصد بذلك عاقبته.

فبيّن اللّه سبحانه أوّلا أقصى ما لهما من الكمال، و دلّ على أنّه لا يوجب لهما ألوهيّة، لأنّ كثيرا من الناس يشاركهما في مثله. ثمّ نبّه على نقصهما، و ذكر ما ينافي الربوبيّة، و ما يقتضي أن يكونا من عداد المركّبات الكائنة الفاسدة.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 304

ثمّ عجب ممّن يدّعي الربوبيّة لهما مع أمثال هذه الأدلّة الظاهرة، فقال:

انْظُرْ كَيْفَ نُبَيِّنُ لَهُمُ الْآياتِ الأعلام، من الأدلّة الظاهرة على بطلان قولهم ثُمَّ انْظُرْ أَنَّى يُؤْفَكُونَ كيف يصرفون عن استماع الحقّ و تأمّله. و «ثمّ» لتفاوت ما بين العجبين، أي: بياننا للآيات عجب، و إعراضهم عنها أعجب.

قُلْ أَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً المعنيّ بقوله: «ما لا يَمْلِكُ» عيسى عليه السّلام. و هو و إن ملك ذلك بتمليك اللّه إيّاه، لا يملكه من ذاته، و لا يملك مثل ما يضرّ اللّه به من البلايا و المصائب، و ما ينفع به من الصحّة و السعة. و

إنّما قال:

«ما» نظرا إلى ما هو عليه في ذاته، توطئة لنفي القدرة عنه رأسا، و تنبيها على أنّه من هذا الجنس، و من كان هذا حقيقته فبمعزل عن الألوهيّة. و إنّما قدّم الضرّ، لأنّ التحرّز عنه أهمّ من تحرّي النفع.

وَ اللَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ بالأقوال و العقائد، فيجازي عليها إن خيرا فخير، و إن شرّا فشرّ.

قُلْ يا أَهْلَ الْكِتابِ لا تَغْلُوا فِي دِينِكُمْ غَيْرَ الْحَقِ صفة للمصدر، أي: غلوّا باطلا، بأن تتجاوزوا الحدّ الّذي حدّه اللّه لكم إلى الازدياد. و ضدّه التقصير، أي:

الخروج عن الحدّ إلى النقصان. فترفعوا عيسى إلى أن تدّعوا له الإلهيّة، أو تضعوه فتزعموا أنّه لغير رشدة، بل اتّبعوا الاقتصاد. و قيل: الخطاب للنصارى خاصّة.

وَ لا تَتَّبِعُوا أَهْواءَ قَوْمٍ قَدْ ضَلُّوا مِنْ قَبْلُ يعني: أسلافهم و أئمّتهم الّذين قد ضلّوا قبل مبعث محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في شريعتهم وَ أَضَلُّوا كَثِيراً باقتفائهم على بدعهم و ضلالهم، بعد دعائهم و إغوائهم إيّاهم وَ ضَلُّوا عَنْ سَواءِ السَّبِيلِ عن قصد السبيل الذي هو الإسلام بعد مبعثه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لمّا كذّبوه و بغوا عليه. و قيل: الأوّل إشارة إلى ضلالهم عن مقتضى العقل، و الثاني إشارة إلى ضلالهم عمّا جاء به الشرع.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 305

[سورة المائدة (5): الآيات 78 الى 81]

لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ (78) كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (79) تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ فِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ (80) وَ لَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ النَّبِيِّ وَ

ما أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَا اتَّخَذُوهُمْ أَوْلِياءَ وَ لكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ (81)

ثمّ أخبر سبحانه عمّا جرى على أسلافهم، فقال: لُعِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى لِسانِ داوُدَ وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أي: لعنهم اللّه تعالى في الزبور و الإنجيل على لسان داود و عيسى.

و

قيل: هم أهل أيلة لمّا اعتدوا في السبت لعنهم داود عليه السّلام، فقال: اللّهمّ ألبسهم اللعنة مثل الرداء، فمسخهم اللّه قردة. و أصحاب المائدة لمّا كفروا بعد نزول المائدة، دعا عليهم عيسى عليه السّلام و لعنهم، فقال: اللّهمّ عذّب من كفر بعد ما أكل المائدة عذابا لا تعذّبه أحدا من العالمين، و العنهم كما لعنت أصحاب السبت، فأصبحوا خنازير، و كانوا خمسة آلاف رجل. و هذا القول منقول عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام.

ذلِكَ بِما عَصَوْا وَ كانُوا يَعْتَدُونَ بسبب عصيانهم و اعتدائهم ما حرّم اللّه عليهم.

ثمّ بيّن حالهم فقال: كانُوا لا يَتَناهَوْنَ عَنْ مُنكَرٍ فَعَلُوهُ أي: لا ينهى بعضهم بعضا عن معاودة منكر فعلوه. أو عن مثل منكر فعلوه. أو عن منكر أرادوا فعله

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 306

و تهيّؤا له. أو لا ينتهون عنه، بأن يصرّون عليه و يداومون على فعله، من قولهم:

تناهى عن الأمر و انتهى عنه إذا امتنع. لَبِئْسَ ما كانُوا يَفْعَلُونَ تعجيب من سوء فعلهم مؤكّد بالقسم.

و قال ابن عبّاس: كان بنو إسرائيل ثلاث فرق: فرقة اعتدوا في السبت، و فرقة نهوهم و لكن لم يدعوا مجالستهم و لا مؤاكلتهم، و فرقة لمّا رأوهم يعتدون ارتحلوا عنهم، و بقيت الفرقتان المعتدية و الناهية المخالطة، فلعنوا جميعا.

قيل: إنّ المراد بالمنكر هنا صيدهم السمك يوم السبت. و قيل: المراد آخذو الرشا في الأحكام. و قيل: أكلهم الربا و

أثمان الشحوم.

تَرى كَثِيراً مِنْهُمْ من أهل الكتاب يَتَوَلَّوْنَ الَّذِينَ كَفَرُوا يوالون المشركين و يصادقونهم، بغضا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنين. و

قال أبو جعفر عليه السّلام: يتولّون الملوك الجبّارين، و يزيّنون لهم أهواءهم ليصيبوا من دنياهم.

لَبِئْسَ ما قَدَّمَتْ لَهُمْ أَنْفُسُهُمْ أي: لبئس شيئا قدّموه ليردوا عليه يوم القيامة أَنْ سَخِطَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ فِي الْعَذابِ هُمْ خالِدُونَ هو المخصوص بالذمّ. و المعنى: لبئس زادهم إلى الآخرة موجب سخط اللّه تعالى و الخلود في العذاب. أو هو علّة الذمّ، و المخصوص محذوف، أي: لبئس شيئا ذلك، لأنّه كسّبهم السخط و الخلود في النار. و المراد بهم كعب بن الأشرف و أصحابه حين استجاشوا «1» المشركين على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قالوا: هؤلاء أهدى من الّذين آمنوا سبيلا.

وَ لَوْ كانُوا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ النَّبِيِ يعني: محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِ من القرآن مَا اتَّخَذُوهُمْ ما اتّخذوا المشركين أَوْلِياءَ كما لم يوالهم المسلمون، إذ الإيمان يمنع ذلك وَ لكِنَّ كَثِيراً مِنْهُمْ فاسِقُونَ متمرّدون في كفرهم أو نفاقهم.

و عن ابن عبّاس: أنّ المراد بالنبيّ موسى عليه السّلام، و بما أنزل إليه التوراة. فيكون

______________________________

(1) استجاش القوم، أي: حرّضهم.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 307

المراد بهم اليهود الّذين جاهروا بالعداوة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و التولّي للمشركين. فيكون معنى الموالاة التناصر و المعاونة على محاربة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و معاداته.

[سورة المائدة (5): الآيات 82 الى 85]

لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ

وَ رُهْباناً وَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (82) وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِّ يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاكْتُبْنا مَعَ الشَّاهِدِينَ (83) وَ ما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ ما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَ نَطْمَعُ أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ (84) فَأَثابَهُمُ اللَّهُ بِما قالُوا جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (85)

ثمّ ذكر سبحانه معاداة اليهود للمسلمين، فقال: لَتَجِدَنَّ أَشَدَّ النَّاسِ عَداوَةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الْيَهُودَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لشدّة عداوتهم، و تضاعف كفرهم، و انهماكهم في اتّباع الهوى، و ركونهم إلى التقليد، و بعدهم عن التحقيق، و تمرّنهم على تكذيب الأنبياء، و معاداتهم. و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما خلا يهوديّان بمسلم إلّا همّا بقتله».

ثمّ ذكر لين عريكة النصارى، فقال: وَ لَتَجِدَنَّ أَقْرَبَهُمْ مَوَدَّةً لِلَّذِينَ آمَنُوا الَّذِينَ قالُوا إِنَّا نَصارى للين جانبهم، و رقّة قلوبهم، و قلّة حرصهم على الدنيا، و كثرة اهتمامهم بالعلم و العمل. و أشار إليه بقوله: ذلِكَ بِأَنَّ مِنْهُمْ قِسِّيسِينَ علماء أحبارا

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 308

وَ رُهْباناً و عبّادا و زهّادا وَ أَنَّهُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن قبول الحقّ إذا فهموه، و يتواضعون و لا يتكبّرون كاليهود. و فيه دليل على أنّ التواضع و الإقبال على العلم و العمل، و الإعراض عن الشهوات، محمود و إن كانت من كافر.

ثمّ بيّن كيفيّة رقّة قلوبهم، و شدّة خشيتهم، و مسارعتهم إلى قبول الحقّ، و عدم تأبّيهم عنه، فقال: عطفا على «لا يستكبرون»: وَ إِذا سَمِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَى الرَّسُولِ يعني: القرآن تَرى أَعْيُنَهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ الفيض: انصباب عن امتلاء، فوضع موضع الامتلاء للمبالغة، أو جعلت

أعينهم من فرط البكاء كأنّها تفيض بأنفسها مِمَّا عَرَفُوا مِنَ الْحَقِ أي: بمعرفتهم بأنّ المتلوّ عليهم كلام اللّه تعالى. «من» الأولى للابتداء، و الثانية لتبيين ما عرفوا، أو للتبعيض، فإنّه بعض الحقّ.

و المعنى: أنّهم عرفوا بعض الحقّ فأبكاهم، فكيف إذا عرفوا كلّه؟! يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا بذلك، أو بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَاكْتُبْنا في أمّ الكتاب، و هو اللوح المحفوظ. أو فاجعلنا بمنزلة من قد كتب مَعَ الشَّاهِدِينَ من الّذين شهدوا بأنّه حقّ، أو بنبوّته، أو من أمّته الّذين هم شهداء على الأمم يوم القيامة، كما قال اللّه تعالى: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ «1». و إنّما قالوا ذلك لأنّهم وجدوا ذكرهم في الإنجيل كذلك.

وَ ما لَنا لأيّ عذر لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ ما جاءَنا مِنَ الْحَقِّ وَ نَطْمَعُ و نرجو أَنْ يُدْخِلَنا رَبُّنا مَعَ الْقَوْمِ الصَّالِحِينَ من أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. استفهام إنكار و استبعاد، لانتفاء الايمان مع قيام الداعي، و هو الطمع في الانخراط مع الصلحاء، و الدخول في مداخلهم. أو جواب سائل قال: لم آمنتم. و «لا نؤمن» حال من الضمير، و العامل ما في اللام من معنى الفعل، أي: أيّ شي ء حصل لنا غير مؤمنين باللّه، أي: بوحدانيّته، فإنّهم كانوا مثلّثين، أو بكتابه و رسوله، فإنّ الإيمان بهما إيمان به حقيقة، و ذكره

______________________________

(1) البقرة: 143.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 309

توطئة و تعظيما. و نطمع عطف على «نؤمن»، أو خبر محذوف و الواو للحال، أي:

و نحن نطمع، و العامل فيها عامل الأولى مقيّدا بها، أو «نؤمن».

فَأَثابَهُمُ اللَّهُ جازاهم بِما قالُوا أي: عن اعتقاد، من قولك: هذا قول فلان، أي: معتقده جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ

خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ الّذين أحسنوا النظر و العمل. أو الّذين اعتادوا الإحسان في الأمور.

قال المفسّرون «1»: إنّ هذه الآيات الأربع نزلت في النجاشي و أصحابه. و بيان هذا: إنّ قريشا ائتمروا أن يفتنوا المؤمنين عن دينهم، فوثبت كلّ قبيلة على من فيها من المسلمين يؤذونهم و يعذّبونهم، فافتتن من افتتن، و عصم اللّه تعالى منهم من شاء، و منع اللّه رسوله بعمّه أبي طالب.

فلمّا رأى رسول اللّه ما بأصحابه، و لم يقدر على منعهم، و لم يؤمر بعد بالجهاد، أمرهم بالخروج إلى أرض الحبشة، و

قال: إنّ بها ملكا صالحا لا يظلم، و لا يظلم عنده أحد، فاخرجوا إليه حتّى يجعل اللّه للمسلمين فرجا.

و أراد به النجاشي، و اسمه أصحمة، و هو باللغة الحبشيّة عطيّة، و إنّما النجاشي لقب ملك الحبشة، كقولهم: كسرى و تبّع و قيصر، ألقاب ملوك فارس و اليمن و الروم.

فخرج إلى البحر سرّا أحد عشر رجلا و أربع نسوة، و أخذوا سفينة إلى أرض الحبشة بنصف دينار، و ذلك في رجب في السنة الخامسة من مبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و هذه هي الهجرة الأولى. ثمّ خرج جعفر بن أبي طالب، و تتابع المسلمون إليها. و كان جميع من هاجر إلى الحبشة من المسلمين اثنين و ثمانين رجلا، سوى النساء و الصبيان.

فلمّا علمت قريش بذلك وجّهوا عمرو بن العاص و صاحبه عمارة بن الوليد بالهدايا إلى النجاشي ليردّوهم إلى مكّة. و كان عمارة بن الوليد شابّا حسن الوجه،

______________________________

(1) مجمع البيان 3: 233.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 310

و خرج عمرو بن العاص و أهله معه، فلمّا ركبوا السفينة شربوا الخمر، فقال: عمارة لعمرو بن العاص: قل

لأهلك تقبّلني، فأبى. فلمّا انتشى «1» عمرو دفعه عمارة في الماء، و نشب «2» عمرو في صدر السفينة و أخرج من الماء، و ألقى اللّه العداوة بينهما في مسيرهما قبل أن يقدما إلى النجاشي.

ثمّ وردا على النجاشي، فقال عمرو بن العاص: أيّها الملك إنّ قوما خالفونا في ديننا، و سبّوا آلهتنا، و صاروا إليك، فردّهم إلينا.

فبعث النجاشي إلى جعفر فجاءه، فقال: أيّها الملك سلهم أ عبيد نحن لهم؟

فقال: لا، بل أحرار.

قال: فسلهم ألهم علينا ديون يطالبوننا بها؟

قال: لا، مالنا عليكم ديون.

قال: فلكم في أعناقنا دماء تطالبوننا بها؟

قال عمرو: لا.

قال: فما تريدون منّا، آذيتمونا فخرجنا من بلادكم؟! أيّها الملك، بعث اللّه فينا نبيّا، أمرنا بخلع الأنداد، و ترك الاستقسام بالأزلام. و أمرنا بالصلاة و الزكاة و العدل و الإحسان و إيتاء ذي القربى. و نهانا عن الفحشاء و المنكر و البغي.

فقال النجاشي: بهذا بعث اللّه عيسى.

ثمّ قال النجاشي لجعفر: هل تحفظ ممّا أنزل اللّه على نبيّك شيئا؟

قال: نعم. فقرأ سورة مريم، فلمّا بلغ قوله: وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا «3» قال: هذا و اللّه هو الحقّ.

______________________________

(1) أي: سكر.

(2) أي: تعلّق.

(3) مريم: 25.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 311

فقال عمرو: إنّه مخالف لنا فردّه إلينا.

فرفع النجاشي يده و ضرب بها وجه عمرو، و قال: اسكت و اللّه لإن ذكرته بعد بسوء لأفعلنّ بك كذا.

و قال: أرجعوا إلى هذا هديّته. و قال لجعفر و أصحابه: امكثوا فإنّكم سيوم، و السيوم الآمنون، و أمر لهم بما يصلحهم من الرزق. فانصرف عمرو، و أقام المسلمون هناك بخير دار و أحسن جوار، إلى أن هاجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و علا أمره، و هادن

قريشا و فتح خيبر. فوافى جعفر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بجميع من كانوا معه.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا أدري أنا بفتح خيبر أسرّ، أم بقدوم جعفر».

و وافى جعفر و أصحابه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في سبعين رجلا، منهم اثنان و ستّون من الحبشة، و ثمانية من أهل الشام، فيهم بحيراء الراهب.

فقرأ عليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سورة ياسين إلى آخرها، فبكوا حين سمعوا القرآن و آمنوا، و قالوا: ما أشبه هذا بما كان ينزل على عيسى، فأنزل اللّه فيهم هذه الآيات.

و قال مقاتل و الكلبي: كانوا أربعين رجلا، اثنان و ثلاثون من الحبشة، و ثمانية من أهل الشام. و قال عطاء: كانوا ثمانين رجلا، أربعون من أهل نجران من بني الحارث بن كعب، و اثنان و ثلاثون من الحبشة، و ثمانية روميّون من أهل الشام.

[سورة المائدة (5): آية 86]

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (86)

و لمّا ذكر سبحانه الوعد لمؤمنيهم، ذكر الوعيد لمن كفر منهم و كذب، فقال:

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ عطف التكذيب بآيات اللّه على الكفر، و هو ضرب منه، لأنّ القصد إلى بيان حال المكذّبين. و ذكرهم في معرض المصدّقين بها، جمعا بين الترغيب و الترهيب.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 312

[سورة المائدة (5): الآيات 87 الى 89]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ وَ لا تَعْتَدُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (87) وَ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (88) لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ فَكَفَّارَتُهُ إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ أَوْ كِسْوَتُهُمْ أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ ذلِكَ كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ وَ احْفَظُوا أَيْمانَكُمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (89)

و لمّا مدح النصارى على ترهّبهم و تزهّدهم و كسر نفسهم و رفض شهواتهم، عقّبه بالنهي عن الإفراط في ذلك، و الاعتداء عن حدّ اللّه تعالى، بجعل الحلال حراما، كما كان الرهبان يفعلونه، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ أي: ما طاب و لذّ منه وَ لا تَعْتَدُوا حدود ما أحلّ لكم إلى ما حرّم عليكم إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ

مقتضى الآية النهي عن تحريم ما أحلّ اللّه و تحليل ما حرّم، ليقصدوا حدّ الاقتصاد بينهما.

قال المفسّرون «1»: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جلس يوما، فذكّر الناس وصف

______________________________

(1) الكشّاف 1: 671، مجمع البيان 3: 235. زبدة التفاسير، ج 2،

ص: 313

القيامة، فرقّ الناس و بكوا، و اجتمع عشرة من الصحابة في بيت عثمان بن مظعون الجمحي، و هم: عليّ عليه السّلام، و أبو بكر، و عبد اللّه بن مسعود، و أبو ذرّ الغفاري، و سالم مولى أبي حذيفة، و عبد اللّه بن عمر، و المقداد بن الأسود، و سلمان الفارسي، و معقل بن مقرن. و اتّفقوا على أن يصوموا النهار، و يقوموا الليل، و لا يناموا على الفرش، و لا يأكلوا اللحم و لا الودك «1»، و لا يقربوا النساء و الطيب، و يلبسوا المسوح «2»، و يرفضوا الدنيا، و يسيحوا في الأرض، و همّ بعضهم أن يجبّ مذاكيره.

فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأتى دار عثمان فلم يصادفه، فقال لامرأته أمّ حكيم بنت أبي أميّة- و اسمها حولاء، و كانت عطّارة-: أحقّ ما بلغني عن زوجك و أصحابه؟

فكرهت أن تكذب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و كرهت أن تبدي على زوجها، فقالت:

يا رسول اللّه إن كان أخبرك عثمان فقد صدقك. فانصرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فلمّا دخل عثمان أخبرته بذلك، فأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هو و أصحابه. فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ألم أنبئكم أنّكم اتّفقتم على كذا و كذا؟

قالوا: بلى يا رسول اللّه، و ما أردنا إلّا الخير.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّي لم أومر بذلك. ثمّ قال: إنّ لأنفسكم عليكم حقّا، فصوموا و أفطروا، و قوموا و ناموا، فإنّي أقوم و أنام، و أصوم و أفطر، و آكل اللحم و الدسم،

و آتي النساء، فمن رغب عن سنّتي فليس منّي، فنزلت.

ثمّ جمع الناس و خطبهم، و قال: ما بال أقوام حرّموا النساء و الطعام و الطيب و النوم و شهوات الدنيا؟ أما إنّي لست آمركم أن تكونوا قسّيسين و رهبانا، فإنّه ليس في ديني ترك اللحم و النساء، و لا اتّخاذ الصوامع، و إنّ سياحة أمّتي الصوم،

______________________________

(1) الودك: الدسم من اللحم و الشحم.

(2) المسح: ما يلبس من نسيج الشعر على البدن تقشّفا و تزهّدا، و جمعه مسوح. زبدة التفاسير، ج 2، ص: 314

و رهبانيّتهم الجهاد. اعبدوا اللّه و لا تشركوا به شيئا، و حجّوا و اعتمروا، و أقيموا الصلاة و آتوا الزكاة و صوموا رمضان، و استقيموا يستقم لكم، فإنّما هلك من كان قبلكم بالتشديد، شدّدوا على أنفسهم فشدّد اللّه عليهم، فأولئك بقاياهم في الديارات و الصوامع. فأنزل اللّه الآية.

و

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «نزلت في عليّ عليه السّلام و بلال و عثمان بن مظعون. فأمّا عليّ عليه السّلام فإنّه حلف أن لا ينام بالليل أبدا إلّا ما شاء اللّه. و أمّا بلال فحلف أن لا يفطر بالنهار أبدا. و أمّا عثمان بن مظعون فإنّه حلف أن لا ينكح أبدا.

فأنزل اللّه تعالى هذه الآية في شأنهم.

ثمّ قال: وَ كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ لفظه الأمر و المراد به الإباحة. و «من» ابتدائيّة متعلّقة ب «كلوا». و يجوز أن تكون مفعولا. حَلالًا طَيِّباً أي: مباحا لذيذا.

فإن قيل: إذا كان الرزق كلّه حلالا فلم قيّد هاهنا بقوله: «حلالا»؟

أجيب بأنّه حال مؤكّدة من الموصول، فذكر هاهنا على وجه التأكيد. و يجوز أن يكون مصدرا بغير لفظ فعله، من قبيل قولك: قعدت جلوسا حسنا، فكأنّه قال:

ممّا حلّل اللّه

لكم حلالا طيّبا. فلا يرد قول البيضاوي «1» في تفسيره: «لو لم يقع الرزق على الحرام لم يكن لذكر الحلال فائدة».

وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ هذا استدعاء إلى التقوى بألطف الوجوه، و تقديره: أيّها المؤمنون باللّه لا تضيّعوا إيمانكم بالتقصير في التقوى، فتكون عليكم الحسرة العظمى، و اتّقوا في تحريم ما أحلّه اللّه لكم، و في جميع معاصيه.

و في هاتين الآيتين دلالة على كراهية التخلّي و التفرّد و التوحّش، و الخروج عمّا عليه الجمهور من التأهّل و طلب الولد و عمارة الأرض. و

قد روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يأكل الدجاج و الفالوذج، و كان يعجبه الحلواء و العسل. و قال: «إنّ المؤمن حلو

______________________________

(1) تفسير البيضاوي 2: 166. زبدة التفاسير، ج 2، ص: 315

يحبّ الحلاوة». و قال: «في بإن المؤمن زاوية لا يملؤها إلّا الحلواء».

و روي أنّ الحسن كان يأكل الفالوذج، فدخل عليه فرقد السنجي فقال: «يا فرقد ما تقول في هذا؟ فقال فرقد: لا آكله و لا أحبّ أكله. فأقبل الحسن على غيره كالمتعجّب و قال: لعاب النحل بلباب البرّ مع سمن البقر هل يعيبه مسلم؟».

قيل: لمّا نزلت: «لا تُحَرِّمُوا طَيِّباتِ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكُمْ» قالوا: يا رسول اللّه فكيف نصنع بأيماننا؟ فنزلت: لا يُؤاخِذُكُمُ اللَّهُ بِاللَّغْوِ فِي أَيْمانِكُمْ

و

قيل: نزلت في عبد اللّه بن رواحة، كان عنده ضيف فأخّرت زوجته عشاءه، فحلف لا يأكل من الطعام، و حلفت المرأة لا تأكل إن لم يأكل، و حلف الضّيف لا يأكل إن لم يأكلا. فأكل عبد اللّه بن رواحة و أكلا معه، فأخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بذلك، فقال له: أحسنت.

و

اللغو في اليمين هو ما

يسبق إلى اللسان من غير قصد، مثل قول القائل: لا و اللّه و بلى و اللّه لأفعلنّ كذا، ممّا يؤكّد به كلامه من غير قصد إلى القسم، حتّى لو قيل له: إنّك حلفت؟ قال: لا. و هو المرويّ عن الصادق و الباقر عليهما السّلام.

و به قال الشافعي.

و عند أبي حنيفة: هو أن يحلف على شي ء لظنّه أنّه على ما حلف، و لم يكن.

و «في أيمانكم» صلة «يؤاخذكم» أو اللغو، لأنّه مصدر أو حال من اللغو.

وَ لكِنْ يُؤاخِذُكُمْ بِما عَقَّدْتُمُ الْأَيْمانَ وثّقتم الأيمان عليه بالقصد و النيّة.

و المعنى: و لكن يؤاخذكم بما عقّدتم إذا حنثتم، أو بنكث ما عقدّتم، فحذف للعلم به عرفا، و لإجماع الأمّة على أنّ الكفّارة لا تجب إلّا بعد الحنث.

و قرأ الكسائي و ابن عيّاش عن عاصم: عقّدتم بالتخفيف، و ابن عامر برواية ابن ذكوان: عاقدتم. و هو من: فاعل بمعنى: فعل. و يحتمل أن تكون ما مصدريّة، و معناه: و لكن يؤاخذكم بعقدكم، أو بتعقيدكم، أو بمعاقدتكم الأيمان.

فَكَفَّارَتُهُ أي: كفّارة ما عقّدتم إذا حنثتم. أو فكفّارة نكثه، أي: الفعلة الّتي

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 316

تذهب إثمه و تستره إِطْعامُ عَشَرَةِ مَساكِينَ

اختلف في مقدار ما يعطى كلّ مسكين، فقال الشافعي: مدّ من طعام. و قال أبو حنيفة: نصف صاع من حنطة، أو صاع من شعير أو تمر، و كذلك سائر الكفّارات. و قال أصحابنا: يعطى كلّ واحد مدّين أو مدّا على أصحّ الروايتين. و المدّ رطلان و ربع. و يجوز أن يجمعهم على ما هذا قدره ليأكلوه. و لا يجوز أن يعطى خمسة ما يكفي عشرة. فإن كان المساكين ذكورا أو إناثا جاز ذلك، و لكن وقع بلفظ التذكير، لأنّه يغلّب

في كلام العرب.

مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ أَهْلِيكُمْ من أقصده في النوع أو القدر، فإنّ من الناس من يسرف في إطعام أهله، و منهم من يقتر. و أفضله الخبز و اللحم، و أدونه الخبز و الملح.

و محلّ «مِنْ أَوْسَطِ ما تُطْعِمُونَ» النصب، لأنّه صفة مفعول محذوف، تقديره:

أن تطعموا عشرة مساكين طعاما من أوسط ما تطعمون. أو الرفع على البدل من «إطعام». و أهلون كأرضون.

أَوْ كِسْوَتُهُمْ عطف على «إطعام»، أو «من أوسط» إن جعل بدلا. قيل:

لكلّ واحد منهم ثوب. و هو مذهب الشافعي. و قال أبو حنيفة: ما يقع عليه اسم الكسوة. و الّذي رواه أصحابنا أنّ لكلّ واحد ثوبين: مئزرا و قميصا، و عند الضرورة يجزي قميص واحد.

أَوْ تَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أو إعتاق إنسان، عبد أو أمة. و الرقبة يعبّر بها عن جملة الشخص. و هو كلّ رقبة سليمة من الآفات و العاهات، صغيرة كانت أو كبيرة، مؤمنة كانت أو كافرة، لأنّ اللفظة مطلقة مبهمة، إلّا أنّ المؤمن أفضل عند أبي حنيفة. و أمّا عند أصحابنا الإيمان شرط فيها، للرواية الصحيحة عن أئمّتنا عليهم السّلام. و هذه الثلاثة واجبة على التخيير. و قيل: إنّ الواجب منها واحد لا بعينه. و بيان هذا الاختلاف

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 317

مذكور في أصول الفقه.

فَمَنْ لَمْ يَجِدْ واحدا منها فَصِيامُ ثَلاثَةِ أَيَّامٍ فكفّارته صيام ثلاثة أيّام.

و حدّ من ليس بواجد: من ليس عنده ما يفضل عن قوته و قوت عياله يومه و ليله.

و يجب التتابع في صوم هذه الثلاثة، للرواية. و عليه أبو حنيفة. و قيل: لا يجب، نظرا إلى ظاهر الآية. و هو قول الشافعي. و الأوّل اختيار أصحابنا، و إجماعهم عليه.

ذلِكَ أي: المذكور كَفَّارَةُ أَيْمانِكُمْ إِذا حَلَفْتُمْ أي: حلفتم

و حنثتم وَ احْفَظُوا أَيْمانَكُمْ بأن تضنّوا بها و لا تبذلوها لكلّ أمر. أو بأن تكفّروها إذا حنثتم. أو احفظوها عن الحنث. كَذلِكَ مثل ذلك البيان يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ أعلام شرائعه لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ على تبيينه لكم أموركم، و على نعمه عليكم.

[سورة المائدة (5): الآيات 90 الى 93]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ وَ الْمَيْسِرُ وَ الْأَنْصابُ وَ الْأَزْلامُ رِجْسٌ مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ فَاجْتَنِبُوهُ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (90) إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ (91) وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ احْذَرُوا فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (92) لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا إِذا مَا اتَّقَوْا وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ ثُمَّ اتَّقَوْا وَ آمَنُوا ثُمَّ اتَّقَوْا وَ أَحْسَنُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ (93)

و بعد النهي عن تحريم المحلّلات الطيّبة، نهى عن الإقدام على المحرّمات

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 318

الخبيثة، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْخَمْرُ قال ابن عبّاس: يريد بالخمر جميع الأشربة الّتي تسكر، و

قد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الخمر من تسع: من البتع، و هو العسل، و من العنب، و من الزبيب، و من التمر، و من الحنطة، و من الذرة، و الشعير، و السلت».

وَ الْمَيْسِرُ المراد جميع أنواع القمار، و منها اللعب بالنرد، و الشطرنج، و لعب الصبيان بالجوز و البيض. وَ الْأَنْصابُ أي: الأصنام الّتي نصبت للعبادة.

وَ الْأَزْلامُ أقداح القمار. و قد سبق «1» تفسيرها في أوائل السورة.

رِجْسٌ خبيث قذر تعاف عنه العقول. و إفراده لأنّه خبر للخمر، و خبر المعطوفات محذوف. أو

لمضاف محذوف، كأنّه قال: إنّما تعاطي الخمر و الميسر.

مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ لأنّه مسبّب عن تسويله و تزيينه فَاجْتَنِبُوهُ الضمير لعمل الشيطان، أو للرجس، أو لما ذكر، أو للتعاطي لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لكي تفلحوا بالاجتناب عنه.

و اعلم أنّ اللّه تعالى أكّد تحريم الخمر و الميسر في هذه الآية، بأن صدّر الجملة ب «إنّما». و قرنهما بالأنصاب و الأزلام. و لهذا

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «شارب الخمر كعابد الوثن».

و سمّاهما رجسا. و جعلهما من عمل الشيطان، تنبيها على أنّ الاشتغال بهما شرّ بحت. و أمر بالاجتناب عن عينهما. و جعله سببا يرجى منه الفلاح.

ثمّ قرّر ذلك بأن بيّن ما فيهما من المفاسد الدنيويّة و الدينيّة المقتضية للتحريم، فقال: إِنَّما يُرِيدُ الشَّيْطانُ أَنْ يُوقِعَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةَ وَ الْبَغْضاءَ فِي الْخَمْرِ وَ الْمَيْسِرِ وَ يَصُدَّكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ عَنِ الصَّلاةِ إنّما خصّهما بإعادة الذكر، و شرح ما فيهما من الوبال، تنبيها على أنّهما المقصود بالبيان، و ذكر الأنصاب و الأزلام للدلالة على أنّهما مثلهما في الحرمة و الشرارة. و خصّ الصلاة من الذكر للتعظيم،

______________________________

(1) راجع ص: 215.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 319

و الإشعار بأنّ الصادّ عنها كالصادّ عن الإيمان، من حيث إنّها عماده، و الفارق بينه و بين الكفر.

ثمّ أعاد الحثّ على الانتهاء بصيغة الاستفهام، مرتّبا على ما تقدّم من أنواع الصوارف، فقال: فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ إيذانا بأنّ الأمر في المنع و التحذير بلغ الغاية، و أنّ الأعذار قد انقطعت، أي: فهل أنتم مع ما تلي عليكم من هذه الصوارف منتهون؟ صيغته الاستفهام، و معناه النهي البليغ، لأنّ اللّه تعالى ذمّ هذه الأفعال و أظهر قبحها، و إذا ظهر قبح الفعل للمخاطب ثمّ استفهم عن تركه لم

يسعه إلّا الإقرار بالترك، فكأنّه قيل له: أ تفعله بعد ما قد ظهر من قبحه فصار المنتهي بقوله: «فَهَلْ أَنْتُمْ مُنْتَهُونَ» في محلّ من عقد عليه ذلك بإقراره، فكان هذا أبلغ في باب النهي من أن يقال: انتهوا و لا تفعلوا.

قال ابن عبّاس: إنّ هاتين الآيتين نزلتا حين دعا سعد بن أبي وقّاص رجلا من الأنصار كان مواخيا له إلى طعام، فبعد الأكل و شرب النبيذ سكرا، فوقع بين الأنصاري و سعد مراء و مفاخرة، فأخذ الأنصاري لحي «1» جمل فضرب به سعدا، ففزر «2» أنفه.

و لمّا أمر اللّه سبحانه باجتناب الخمر و ما بعدها، عقّبه بالأمر بالطاعة له فيه و في غيره، فقال: وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فيما أمرا به وَ احْذَرُوا عمّا نهيا عنه، أو عن مخالفتهما فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ و لم تعملوا بما أمركم فَاعْلَمُوا أَنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ فاعلموا أنّكم لم تضرّوا الرسول بتولّيكم، فإنّما عليه البلاغ و قد أدّى، و إنّما ضررتم به أنفسكم. فهذا وعيد و تهديد.

روي عن ابن عبّاس و أنس بن مالك و البراء بن عازب و مجاهد و قتادة

______________________________

(1) اللحي: عظم الحنك الذي عليه الأسنان، و جمعه ألح و لحيّ.

(2) فزر يفزره، أي: شقّه و كسره. زبدة التفاسير، ج 2، ص: 320

و الضحّاك: أنّه لمّا نزل تحريم الخمر قالت الصحابة: يا رسول اللّه فكيف بإخواننا الّذين ماتوا و هم يشربون الخمر و يأكلون مال الميسر؟ فنزلت: لَيْسَ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جُناحٌ فِيما طَعِمُوا

من الخمر و الميسر قبل نزول آية التحريم. أو من أيّ شي ء طعموه من مستلذّات المطاعم و مشتهياتها. و في تفسير أهل البيت عليهم السّلام: فيما طعموا من الحلال. و

هذه اللفظة صالحة للأكل و الشرب.

إِذا مَا اتَّقَوْا شربها بعد التحريم، أو ما حرّم عليهم من المطاعم. وَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ و ثبتوا على الإيمان و الأعمال الصالحة ثُمَّ اتَّقَوْا أي: داموا على الاتّقاء وَ آمَنُوا و داموا على الإيمان ثُمَّ اتَّقَوْا عن جميع المعاصي وَ أَحْسَنُوا و تحرّوا الأعمال الجميلة و اشتغلوا بها. فالاتّقاء الأوّل اتّقاء الشرب بعد التحريم، و الاتّقاء الثاني هو الدوام على ذلك، و الثالث اتّقاء جميع المعاصي و ضمّ الإحسان إليه.

و قيل: الاتّقاء الأوّل هو اتّقاء المعاصي العقليّة الّتي تختصّ المكلّف به و لا تتعدّاه. و الإيمان الأوّل الإيمان باللّه و بما أوجب الإيمان به، و الإيمان بقبح هذه المعاصي و وجوب تجنّبها. و الاتّقاء الثاني هو اتّقاء المعاصي السمعيّة، و الإيمان بقبحها و وجوب اجتنابها. و الاتّقاء الثالث يختصّ بمظالم العباد، و بما يتعدّى إلى الغير من الظلم و الفساد. أو الأوّل الماضي، و الثاني الحال، و الثالث المستقبل.

و في الأنوار: «و يحتمل أن يكون هذا التكرير باعتبار الأوقات الثلاثة. أو باعتبار الحالات الثلاث: استعمال الإنسان التقوى، و الإيمان بينه و بين نفسه، و بينه و بين الناس، و بينه و بين اللّه تعالى، و لذلك بدّل الإيمان بالإحسان في الكرّة الثالثة، إشارة إلى ما

قاله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في تفسيره: «الإحسان أن تعبد اللّه كأنّك تراه».

أو باعتبار المراتب الثلاث: المبدأ، و الوسط، و المنتهى. أو باعتبار ما يتّقى، فإنّه ينبغي أن تترك المحرّمات توقّيا من العقاب و الشبهات، و تحفّظا للنفس عن الوقوع في الحرام

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 321

و بعض المباحات، و صونا للنفس عن الخسّة، و تهذيبا لها عن دنس الطبيعة» «1».

وَ

اللَّهُ يُحِبُّ الْمُحْسِنِينَ فلا يؤاخذهم بشي ء. و فيه أنّ من فعل ذلك صار محسنا، و من صار محسنا صار للّه محبوبا.

قال علم الهدى «2» رحمه اللّه: «إنّ المفسّرين تشاغلوا بإيضاح الوجه في التكرار الّذي تضمّنته الآية، و ظنّوا أنّه المشكل منها، و تركوا ما هو أشدّ إشكالا من التكرار، و هو أنّه تعالى نفى الجناح عن الّذين آمنوا و عملوا الصالحات فيما يطعمونه بشرط الاتّقاء و الإيمان و عمل الصالحات، و الحال أنّهما ليسا بشرط في نفي الجناح، فإنّ المباح إذا وقع من الكافر فلا إثم عليه و لا وزر.

و لنا في حلّ هذه الشبهة: أنّ الإيمان و عمل الصالحات هنا ليس بشرط حقيقيّ، و إن كان معطوفا على الشرط، فكأنّه تعالى لمّا أراد أن يبيّن وجوب الإيمان و عمل الصالحات عطفه على ما هو واجب من اتّقاء المحارم، لاشتراكهما في الوجوب، و إن لم يشتركا في كونهما شرطا في نفي الجناح فيمن يطعم. و هذا توسّع في البلاغة يحار العقل فيه استحسانا و استغرابا.

أو نضمّ إلى المشروط المصرّح به غيره حتى يظهر تأثير ما شرط. فيكون تقدير الآية: ليس على الّذين آمنوا و عملوا الصالحات جناح فيما طعموا و غيره إذا ما اتّقوا و آمنوا و عملوا الصالحات، لأنّ الشرط في نفي الجناح لا بدّ من أن يكون له تأثير حتّى يكون متى انتفى ثبت الجناح، و قد علمنا أنّه باتّقاء المحارم ينتفي الجناح فيما يطعم، فهو الشرط الّذي لا زيادة عليه. و لمّا ولي ذكر الاتّقاء الإيمان و عمل الصالحات و لا تأثير لهما في نفي الجناح، علمنا أنّه أضمر ما تقدّم ذكره ليصحّ الشرط و يطابق المشروط، لأنّ من اتّقى الحرام فيما

يطعم لا جناح عليه فيما يطعمه، لكنّه قد يصحّ أن يثبت عليه الجناح فيما أخلّ به من واجب وضيّعه من

______________________________

(1) أنوار التنزيل 2: 168.

(2) أمالي المرتضى (طبعة دار الكتاب العربي) 2: 374- 375.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 322

فرض، فإذا شرطنا أنّه وقع اتّقاء القبيح ممّن آمن باللّه و عمل الصالحات ارتفع الجناح عنه من كلّ وجه. و ليس بمنكر حذف ما ذكرناه، لدلالة الكلام عليه، فمن عادة العرب أن يحذفوا ما يجري هذا المجرى، و تكون قوّة الدلالة عليه مغنية عن النطق». انتهى كلامه.

و نحن نقول: إنّ المؤمن يصحّ أن يطلق عليه بأنّه لا جناح عليه، و الكافر مستحقّ للعقاب مغمور في المعاصي، فلا يطلق عليه هذا اللفظ. و أيضا فإنّ الكافر قد سدّ على نفسه طريق معرفة التحريم و التحليل، فلذلك يخصّ المؤمن بالذكر.

[سورة المائدة (5): الآيات 94 الى 96]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْ ءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِماحُكُمْ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ فَمَنِ اعْتَدى بَعْدَ ذلِكَ فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ (94) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ يَحْكُمُ بِهِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ هَدْياً بالِغَ الْكَعْبَةِ أَوْ كَفَّارَةٌ طَعامُ مَساكِينَ أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ وَ مَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ (95) أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ وَ طَعامُهُ مَتاعاً لَكُمْ وَ لِلسَّيَّارَةِ وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ ما دُمْتُمْ حُرُماً وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (96)

و لمّا تقدّم في أوّل السورة تحريم الصيد على المحرم مجملا، و انجرّ الكلام

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 323

إلى هاهنا، بيّن سبحانه ذلك المجمل

بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لَيَبْلُوَنَّكُمُ اللَّهُ بِشَيْ ءٍ مِنَ الصَّيْدِ تَنالُهُ أَيْدِيكُمْ وَ رِماحُكُمْ التقليل و التحقير في «بشي ء» للتنبيه على أنّه ليس من العظائم الّتي تدحض الأقدام، كالابتلاء ببذل الأنفس و الأموال، فمن لم يثبت عنده كيف يثبت عند ما هو أشدّ منه؟

روي أنّها نزلت في عام الحديبية، ابتلاهم اللّه تعالى بالصيد، و كانت الوحوش تغشاهم في رحالهم، بحيث يتمكّنون من صيدها، أخذا بأيديهم و طعنا برماحهم و هم محرمون.

لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَخافُهُ بِالْغَيْبِ أي: ليتميّز الخائف من عقابه و هو غائب منتظر، لقوّة إيمانه، ممّن لا يخافه، لضعف قلبه و قلّة إيمانه. فذكر العلم و أراد وقوع المعلوم و ظهوره، أو تعلّق العلم. أو ليعاملكم معاملة من يطلب أن يعلم مظاهرة في العدل.

قال بعض العلماء: امتحن اللّه أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بصيد البرّ، كما امتحن اللّه أمّة موسى عليه السّلام بصيد البحر.

و المراد بتحريم صيد البرّ الّذي تناله الأيدي من فراخ الطير و صغار الوحش و البيض، و الّذي تناله الرماح من كبار الصيد.

فَمَنِ اعْتَدى فمن تجاوز حدّ اللّه و خالف أمره بالصيد في الحرم أو في حال الإحرام بَعْدَ ذلِكَ أي: بعد ذلك الابتلاء بالصيد فَلَهُ عَذابٌ أَلِيمٌ فالوعيد لا حق به، فإنّ من لا يملك قلبه في مثل ذلك، و لا يراعي حكم اللّه تعالى فيه، فكيف به فيما تكون النفس أميل إليه و أحرص عليه؟! ثمّ ذكر سبحانه عقيب ذلك ما يجب على هذا الاعتداء من الجزاء، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَقْتُلُوا الصَّيْدَ هو اسم مصدر، أو المصيد، و هو المراد هاهنا

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 324

وَ أَنْتُمْ حُرُمٌ أي: محرمون بحجّ أو عمرة،

جمع حرام، كرداح «1» و ردح. و هو مصدر سمّي به المحرم مجازا.

و اختلف في المعنيّ بالصيد، فقيل: هو كلّ الوحش، أكل أم لم يؤكل. و هو قول أهل العراق. و استدلّوا

بقول عليّ عليه السّلام: صيد الملوك ثعالب و أرانب* فإذا ركبت فصيدي الأبطال

و قيل: هو كلّ ما يؤكل لحمه، لأنّه الغالب فيه. و هو قول الشافعي. و يؤيّده

قوله عليه السّلام: «خمس يقتلن في الحلّ و الحرم: الحدأة «2»، و الغراب، و العقرب، و الفأرة، و الكلب العقور». و في رواية بدل العقرب الحيّة.

و فيه تنبيه على قتل كلّ مؤذ.

و أمّا أصحابنا فقالوا: إنّ المحلّل حرام مطلقا. و أمّا المحرّم فقالوا بتحريم الأسد و الثعلب و الأرنب و الضبّ و اليربوع و القنفذ، لتظافر الروايات عن أهل البيت عليهم السّلام.

و اختلف أيضا في أنّ هذا النهي هل يلغي حكم الذبح، فيلحق مذبوح المحرم بالميتة و مذبوح الوثني، أو لا، فيكون كالشاة المغصوبة إذا ذبحها الغاصب؟

و أصحابنا على الأوّل. و يؤيّده إيثار «لا تقتلوا» على: لا تذكّوا أو لا تذبحوا.

وَ مَنْ قَتَلَهُ مِنْكُمْ مُتَعَمِّداً ذاكرا لإحرامه، عالما بأنّه حرام عليه قتل ما يقتله. و الأكثر على أنّ ذكره ليس لتقييد وجوب الجزاء،

فإنّ إتلاف العامد و المخطئ واحد في إيجاب الضمان، و هو المرويّ عن أئمّتنا عليهم السّلام،

بل لقوله: «وَ مَنْ عادَ فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ». و لأنّ الآية نزلت في من تعمّد، إذ

روي أنّه عنّ لهم في عمرة الحديبية حمار وحش، فطعنه أبو اليسر برمحه فقتله، فنزلت.

فَجَزاءٌ مِثْلُ ما قَتَلَ مِنَ النَّعَمِ برفع الجزاء و المثل. قرأه الكوفيّون و يعقوب، بمعنى: فعليه، أي: فواجبه جزاء يماثل ما قتل من النعم. فيكون مبتدأ، و «مثل»

______________________________

(1) الرداح:

الشجرة الكبيرة.

(2) الحدأة: طائر من الجوارح.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 325

صفته. و على هذه القراءة لا يتعلّق الجارّ ب «جزاء»، للفصل بينهما بالصفة. و قرأ الباقون على إضافة المصدر إلى المفعول. و المعنى: فعليه أن يجزي مثل ما قتل.

و هذه المماثلة عند أئمّة الهدى عليهم السّلام و الشافعي باعتبار الخلقة و الهيئة، ففي النعامة بدنة، و في حمار الوحش و بقر الوحش بقرة، و في الظبي و الأرنب و نحوهما شاة. و باعتبار القيمة عند أبي حنيفة، بأن يقوّم الصيد قيمة عادلة، ثمّ يشترى بقيمته مثله من النعم. و الصحيح القول الأوّل، و هو أيضا قول ابن عبّاس و الحسن و مجاهد و السدّي و عطاء و الضحّاك و غيرهم.

يَحْكُمُ بِهِ أي: بمثل ما قتل ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أي: حكمان عدلان من الفقهاء ينظران إلى أشبه الأشياء من النعم فيحكمان به. و هو صفة «جزاء»، أو حال من ضميره.

هَدْياً حال من الهاء في «به»، أو من «جزاء» و إن نوّن، لتخصّصه بالصفة بالِغَ الْكَعْبَةِ وصف به هديا لأنّ إضافته لفظيّة. و معنى بلوغه الكعبة ذبحه بالحرم، و التصدّق به ثمّة. و قال أصحابنا: إذا كان محرما بالعمرة ذبح أو نحر بمكّة، و إن كان محرما بالحجّ فبمنى. و قال أبو حنيفة: يذبح بالحرم، و يتصدّق به حيث شاء.

أَوْ كَفَّارَةٌ عطف على «جزاء». و المعنى: أو الواجب عليه طَعامُ مَساكِينَ عطف بيان، أو بدل منه، أو خبر محذوف، أي: هي طعام. و قرأ نافع و ابن عامر: كفّارة طعام بالإضافة للتبيين، تقديره: أو كفّارة من طعام مساكين، كقولك: خاتم فضّة، أي: خاتم من فضّة. و هو أن يقوّم الجزاء، و يفضّ ثمنه على الحنطة، و يتصدّق به

على كلّ مسكين نصف صاع.

أَوْ عَدْلُ ذلِكَ صِياماً أي: ما عاد له، أي: ساواه من الصوم، فيصوم عن إطعام كلّ مسكين يوما. و هو في الأصل مصدر أطلق للمفعول. و الخيار في هذه الكفّارات الثلاث إلى قاتل الصيد. و قيل: هي مرتّبة. و كلا القولين رواهما أصحابنا.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 326

لِيَذُوقَ وَبالَ أَمْرِهِ يتعلّق بمحذوف، أي: فعليه الجزاء أو الإطعام أو الصوم، ليذوق ثقل فعله، و سوء عاقبة هتكه لحرمة الإحرام أو الحرم، أو الثقل الشديد على مخالفة أمر اللّه تعالى. و أصل الوبل الثقل، و منه الطعام الوبيل.

عَفَا اللَّهُ عَمَّا سَلَفَ من قتل الصيد محرما في الجاهليّة، أو قبل التحريم، أو في هذه المرّة. وَ مَنْ عادَ أي: و من عاد ثانيا عمدا إلى قتل الصيد فَيَنْتَقِمُ اللَّهُ مِنْهُ فهو ممّن ينتقم اللّه منه عقوبة بما صنع، و لا كفّارة. و هل ذلك مانع من وجوب الكفّارة عليه أم لا؟ قال ابن عبّاس: نعم، و به قال أكثر أصحابنا. و قال الحسن و ابن جبير و عامّة الفقهاء: لا، بل تجب، و به قال بعض أصحابنا. وَ اللَّهُ عَزِيزٌ ذُو انْتِقامٍ ممّن أصرّ على عصيانه.

ثمّ بيّن سبحانه ما يحلّ من الصيد و ما يحرم، فقال: أُحِلَّ لَكُمْ صَيْدُ الْبَحْرِ أي: مصيداته. و هي ما صيد منه ممّا لا يعيش إلّا في الماء. و المعنى: أحلّ لكم الانتفاع من لحمه الطريّ وَ طَعامُهُ أي: و أحلّ لكم طعام البحر ما كان مملوحا قديدا عندنا و عند أبي حنيفة. و لا يحلّ منه إلّا السمك الّذي له فلس. و عند الشافعي كلّ مصيدات البحر حلال. و إنّما سمّي طعاما لأنّه يدّخر ليطعم، فيصير كالمقتات من الأغذية.

و قيل: المراد ما يقذفه البحر ميّتا. و هو مرويّ عن ابن عمر و قتادة. و الّذي يليق بمذهبنا هو الأوّل.

مَتاعاً لَكُمْ نصب على الغرض، أي: ليتمتّعوا من أكله. تمتيعا لكم وَ لِلسَّيَّارَةِ و لسيّارتكم، أي: لمسافريكم يتزوّدونه طريّا و قديدا.

وَ حُرِّمَ عَلَيْكُمْ صَيْدُ الْبَرِّ أي: ما صيد فيه، أو الصيد فيه. فعلى الأوّل يحرم على المحرم ما صاده الحلال فيه، و إن لم يكن للمحرم فيه مدخل. و هذا موافق لمذهبنا. ما دُمْتُمْ حُرُماً أي: محرمين.

وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ هذا أمر منه تعالى بأن يتّقى جميع معاصيه، و يجتنب جميع محارمه، لأنّ إليه الرجوع في الوقت الّذي لا يملك أحد فيه الضرر

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 327

و النفع سواه، و هو يوم القيامة، فيجازي المحسن بإحسانه، و المسي ء بإساءته.

[سورة المائدة (5): الآيات 97 الى 99]

جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ قِياماً لِلنَّاسِ وَ الشَّهْرَ الْحَرامَ وَ الْهَدْيَ وَ الْقَلائِدَ ذلِكَ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (97) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ وَ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (98) ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما تَكْتُمُونَ (99)

و لمّا ذكر سبحانه حرمة الحرم، عقّبه بذكر البيت الحرام و الشهر الحرام، فقال: جَعَلَ اللَّهُ الْكَعْبَةَ الْبَيْتَ الْحَرامَ عطف بيان على جهة المدح، أو المفعول الثاني قِياماً لِلنَّاسِ انتعاشا لهم، أي: سبب انتعاشهم في أمر دينهم و دنياهم، و نهوضهم إلى أغراضهم و مقاصدهم في أمور معاشهم و معادهم، بأن يلوذ به الخائف، و يأمن فيه الضعيف، و يربح فيه التجّار، و يتوجّه إليه الحجّاج و العمّار. أو ما يقوم به أمر دينهم و دنياهم، و

أنواع منافعهم الدنيويّة و الدينيّة.

و عن ابن عبّاس: معناه: جعل اللّه الكعبة أمنا للناس بها يقومون، أي:

يأمنون، و لولاها لفنوا و هلكوا و ما قاموا، و كان أهل الجاهليّة يأمنون به، فلو لقي الرجل قاتل أبيه و ابنه في الحرم ما قتله.

و عن عطاء: لو تركوه عاما واحدا لا يحجّونه لم ينظروا و لم يؤخّروا. و معناه:

يهلكون.

و

عن عليّ «1» بن إبراهيم عنهم عليهم السّلام قالوا: «ما دامت الكعبة يحجّ الناس إليها

______________________________

(1) تفسير القمّي 1: 187- 188. زبدة التفاسير، ج 2، ص: 328

لم يهلكوا، فإذا هدمت أو تركوا الحجّ هلكوا».

و

في الحديث: «مكتوب في أسفل المقام: إنّي أنا اللّه ذو بكّة، حرّمتها يوم خلقت السماوات و الأرض، و يوم وضعت هذين الجبلين، و حففتهما بسبعة أملاك حنفاء، من جاءني زائرا لهذا البيت عارفا بحقّه، مذعنا لي بالربوبيّة، حرّمت جسده على النار».

و

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «من أتى هذا البيت يريد شيئا للدنيا و الآخرة أصابه».

و قرأ ابن عامر: قيما، على أنّه مصدر على فعل كالشبع، أعلّت عينه كما أعلّت في فعله. و نصبه على المصدر أو الحال.

وَ الشَّهْرَ الْحَرامَ أي: و جعل الشهر الّذي يؤدّى فيه الحجّ- و هو ذو الحجّة- قياما للناس. و قيل: عنى به جنس الأشهر الحرم الأربعة، واحد «1» فرد، و ثلاثة سرد. و هو عطف على «الكعبة» كما تقول: ظننت زيدا منطلقا و عمرا. و كذا قوله:

وَ الْهَدْيَ وَ الْقَلائِدَ أي: و المقلّدات من الهدي خصوصا، لأنّ الثواب فيه أكثر. و قد سبق «2» تفسير القلائد.

ذلِكَ إشارة إلى الجعل، أو إلى ما ذكر من الأمر بحفظ حرمة الإحرام و غيره لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ فإنّ

شرع الأحكام لدفع المضارّ قبل وقوعها، و جلب المنافع المترتّبة عليها، دليل حكمة الشارع و كمال علمه. وَ أَنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ تعميم بعد تخصيص، و مبالغة بعد إطلاق.

و لمّا تقدّم بيان الأحكام عقّبه سبحانه بذكر الوعد و الوعيد، فقال: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن عصاه وَ أَنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لمن تاب و أطاع. وعيد و وعد لمن هتك محارمه، و لمن حافظ عليها، و لمن أصرّ عليه، و لمن أقلع عنه.

و عقّب الإنذار و التبشير بقوله: ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ تشديد في

______________________________

(1) و هو رجب، و السّرد- أي: المتتابع-: ذو القعدة، و ذو الحجّة، و المحرّم.

(2) راجع ص 210 ذيل الآية 2 من سورة المائدة.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 329

إيجاب القيام بما أمر به، أي: الرسول أتى بما أمر به من التبليغ، و لم يبق لكم عذر في التفريط. وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما تَكْتُمُونَ لا يخفى عليه شي ء من أحوالكم الّتي تظهرونها و تخفونها، من تصديق و تكذيب، و فعل و عزيمة. و فيه غاية الزجر و التهديد.

[سورة المائدة (5): آية 100]

قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَ الطَّيِّبُ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (100)

و لمّا بيّن سبحانه الحلال و الحرام، بيّن أنّهما لا يستويان، فقال: قُلْ لا يَسْتَوِي الْخَبِيثُ وَ الطَّيِّبُ حكم عامّ في نفي المساواة عند اللّه تعالى بين الردي ء من الأشخاص و الأعمال و الأموال و جيّدها، رغّب به فمي مصالح الأعمال و حلال الأموال. وَ لَوْ أَعْجَبَكَ كَثْرَةُ الْخَبِيثِ فإنّ العبرة بالجودة و الرداءة دون القلّة و الكثرة، فإنّ المحمود القليل خير من المذموم الكثير. و الخطاب لكلّ معتبر ذي لبّ،

و لذا قال: فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ أي: فاتّقوه في تحرّي الخبيث و إن كثر، و آثروا الطيّب و إن قلّ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ راجين أن تبلغوا الفلاح.

[سورة المائدة (5): الآيات 101 الى 102]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تَسُؤْكُمْ وَ إِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ تُبْدَ لَكُمْ عَفَا اللَّهُ عَنْها وَ اللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ (101) قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ ثُمَّ أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ (102)

و لمّا بيّن سبحانه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يبلّغ ما فيه المصلحة، نهى العباد عن السؤال عمّا لا يعنيهم و لا يحتاجون إليه، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَسْئَلُوا

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 330

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عَنْ أَشْياءَ إِنْ تُبْدَ لَكُمْ تظهر لكم تَسُؤْكُمْ تكرهوا و تحزنوا وَ إِنْ تَسْئَلُوا عَنْها حِينَ يُنَزَّلُ الْقُرْآنُ أي: في زمان الوحي تُبْدَ لَكُمْ يظهر لكم جوابها فتكرهوه و تغتمّوا، فلا تتكلّفوا السؤال عنها في حال.

و الشرطيّة و ما عطف عليها صفتان ل «أشياء»، و هما كمقدّمتين تنتجان ما يمنع السؤال، و هو أنّه ممّا يغمّهم، و العاقل لا يفعل ما يغمّه.

و «أشياء» اسم جمع كطرفاء، غير أنّه قلبت لامه فجعلت لفعاء.

و قيل: أفعلاء، حذفت لامه، جمع لشي ء على أنّ أصله: شيّئ كهيّن، أو شي ء كصديق، فخفّف. و قيل: أفعال، جمع له من غير تغيير، كبيت و أبيات. و يردّه منع صرفه.

عَفَا اللَّهُ عَنْها صفة أخرى، أي: عن أشياء عفا اللّه عنها و لم يكلّف بها، إذ

روي أنّه لمّا نزلت: وَ لِلَّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ «1» قال سراقة بن مالك أو عكاشة بن محصن: يا رسول اللّه في كلّ عام

كتب علينا الحجّ؟ فأعرض عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى أعاد ثلاثا، فقال: «ويحك و ما يؤمنك أن أقول: نعم؟ و اللّه لو قلت:

نعم لوجبت، و لو وجبت ما استطعتم، و لو تركتم لكفرتم، فاتركوني ما تركتكم، فإنّما هلك من قبلكم بكثرة سؤالهم و اختلافهم على أنبيائهم، فإذا أمرتكم بشي ء فأتوا منه ما استطعتم، و إذا نهيتكم عن شي ء فاجتنبوه». فنزلت هذه الآية.

أو استئناف، أي: عفا اللّه عمّا سلف من مسألتكم، فلا تعودوا إلى مثلها.

وَ اللَّهُ غَفُورٌ حَلِيمٌ لا يعاجلكم بعقوبة ما يفرط منكم، و يعفو عن كثير.

و

عن ابن عبّاس: «أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يخطب ذات يوم و هو غضبان من كثرة ما يسألون عنه ممّا لا يعنيهم، فقال: لا أسأل عن شي ء إلّا أجبت. فقال رجل: أين

______________________________

(1) آل عمران: 97. زبدة التفاسير، ج 2، ص: 331

أبي؟ قال: في النار. و قال آخر: من أبي؟ فقال: حذافة بن قيس، و كان يدعى لغيره». فنزلت.

و قال مجاهد: كان ابن عبّاس إذا سئل عن الشي ء لم يجي ء فيه أثر يقول: هو من العفو، ثمّ يقرأ هذه الآية.

ثمّ أخبر سبحانه أنّ قوما سألوا مثل سؤالهم، فلمّا أجيبوا إلى ما سألوا كفروا، فقال: قَدْ سَأَلَها قَوْمٌ الضمير ليس براجع إلى «أشياء» حتّى يجب تعديته ب «عن»، و إنّما هو راجع إلى المسألة الّتي دلّ عليها «تسألوا»، فلذلك لم يعدّ ب «عن». و المعنى: قد سأل هذه المسألة قوم. أو إلى «أشياء» بحذف الجارّ. مِنْ قَبْلِكُمْ متعلّق ب «سألها». و ليس صفة ل «قوم»، فإنّ ظرف الزمان لا يكون صفة للجثّة، و لا حالا منها، و لا خبرا عنها. ثُمَّ

أَصْبَحُوا بِها كافِرِينَ أي: بسببها حيث لم يأتمروا بما سألوا جحودا، كبني إسرائيل كانوا يسألون أنبياءهم عن أشياء، فإذا أمروا بها تركوها فهلكوا، و كقوم عيسى سألوه إنزال المائدة ثمّ كفروا بها، و قوم صالح سألوه الناقة ثمّ عقروها و كفروا بها.

و

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ اللّه افترض عليكم فرائض فلا تضيّعوها، و حدّ لكم حدودا فلا تعتدوها، و نهاكم عن أشياء فلا تنتهكوها، و سكت لكم عن أشياء و لم يدعها نسيانا فلا تتكلّفوها».

و اعلم أنّ الّذي يجوز السؤال عنه هو ما يجوز العمل عليه في الأمور الدينيّة و الدنيويّة، و ما لا يجوز العمل عليه في أمور الدين و الدنيا لا يجوز السؤال عنه، فعلى هذا لا يجوز أن يسأل الإنسان من أبي؟ لأنّ المصلحة قد اقتضت أن يحكم على كلّ من ولد على فراش إنسان بأنّه ولده و إن لم يكن مخلوقا من مائه، فالمسألة بخلاف ذلك سفه لا يجوز.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 332

[سورة المائدة (5): الآيات 103 الى 104]

ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لا سائِبَةٍ وَ لا وَصِيلَةٍ وَ لا حامٍ وَ لكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (103) وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا إِلى ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ إِلَى الرَّسُولِ قالُوا حَسْبُنا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ لا يَهْتَدُونَ (104)

و لمّا تقدّم ذكر الحلال و الحرام بيّن حال ما يعتقده أهل الجاهليّة من ذلك، فقال ردّا و إنكارا لهم على ما ابتدعوه: ما جَعَلَ اللَّهُ مِنْ بَحِيرَةٍ وَ لا سائِبَةٍ وَ لا وَصِيلَةٍ وَ لا حامٍ ما شرع و وضع، و لذلك تعدّى إلى مفعول واحد. و «من» مزيدة.

روي أنّهم

إذا نتجت الناقة خمسة أبطن آخرها ذكر بحروا أذنها- أي:

شقّوها- و حرّموا ركوبها، و خلّوا سبيلها، فلا تركب، و لا تحلب، و لا تطرد عن ماء و لا مرعى. و كان الرجل منهم يقول: إن شفيت أو قدمت من سفري فناقتي سائبة، و يجعلها كالبحيرة في تحريم الانتفاع بها. و إذا ولدت الشاة أنثى فهي لهم، و إن ولدت ذكرا فهو لآلهتهم، و إن ولدتهما وصلت الأنثى أخاها، فلا يذبحوا الذكر لآلهتهم. و إذا نتجت من صلب الفحل عشرة أبطن حرّموا ظهره، و لم يمنعوه من ماء و لا مرعى، و قالوا: قد حمى ظهره.

وَ لكِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ بتحريم ذلك و نسبته إليه وَ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ أي: الحلال من الحرام، أو الآمر من الناهي، بل يقلّدون كبارهم. و فيه أنّ منهم من يعرف بطلان ذلك، و لكن يمنعه حبّ الرئاسة و تقليد الآباء أن يعترف به، كما قال اللّه تعالى: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا هلمّوا إِلى ما أَنْزَلَ

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 333

اللَّهُ من القرآن و اتّباع ما فيه، و الإقرار بصحّته وَ إِلَى الرَّسُولِ و تصديقه و الاقتداء به قالُوا حَسْبُنا كفانا ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا يعنون مذاهب آبائهم.

فهذا بيان لقصور عقلهم، و انهماكهم في التقليد، و أن لا سند لهم سواه.

ثمّ أنكر ذلك عليهم بقوله: أَ وَ لَوْ كانَ آباؤُهُمْ لا يَعْلَمُونَ شَيْئاً من أحكام الدين الحقّ وَ لا يَهْتَدُونَ إليه. الواو للحال، و الهمزة دخلت عليها لإنكار الفعل على هذه الحال، أي: أحسبهم ما وجدوا عليه آباءهم و لو كانوا جهلة ضالّين.

و المعنى: أنّ الاقتداء إنّما يصحّ بمن علم أنّه عالم مهتد، و ذلك لا يعرف

إلّا بالحجّة، فلا يكفي التقليد.

[سورة المائدة (5): آية 105]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)

و لمّا بيّن اللّه سبحانه حكم الكفّار الّذين قلّدوا آباءهم و أسلافهم، و ركنوا إلى أديانهم، عقّبه بالأمر بالطاعة، و بيان أنّ المطيع لا يؤاخذ بذنوب العاصي، فقال:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلَيْكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي: احفظوها و الزموا إصلاحها. و الجارّ مع المجرور جعل اسما ل «الزموا»، و لذلك نصب «أنفسكم». لا يَضُرُّكُمْ مَنْ ضَلَّ إِذَا اهْتَدَيْتُمْ لا يضرّكم الضلال إذا كنتم مهتدين. و من الاهتداء أن ينكر المكلّف المنكر حسب طاقته، كما

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من رأى منكرا و استطاع أن يغيّره بيده فليغيّره بيده، فإن لم يستطع فبلسانه، فإن لم يستطع فبقلبه».

فليس المراد ترك الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، فإنّ من تركهما مع القدرة عليهما فليس بمهتد.

و عن ابن مسعود أنّها قرئت عنده فقال: إنّ هذا ليس بزمانها، إنّها اليوم مقبولة، و لكن يوشك أن يأتي زمان تأمرون فلا يقبل منكم، فحينئذ عليكم أنفسكم. فهي على هذا تسلية لمن يأمر و ينهى فلا يقبل منه، و بسط لعذره. و عنه:

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 334

ليس هذا زمان تأويلها، قيل: فمتى؟ قال: إذا جعل دونها السيف و السوط و السجن.

و

روي أنّ أبا ثعلبة سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن هذه الآية، فقال: «ائتمروا بالمعروف، و تناهوا عن المنكر، حتّى إذا ما رأيت دنيا مؤثّرة، و شحّا مطاعا، و هوى متّبعا، و إعجاب كلّ ذي رأي برأيه، فعليك بخويصة نفسك، و ذر عوامهم، و إنّ من ورائكم أيّاما الصبر فيهنّ كقبض على

الجمر، للعامل منهم مثل أجر خمسين رجلا يعملون مثل عمله».

قيل: الآية نزلت لمّا كان المؤمنون يتحسّرون على أهل العناد من الكفرة، و يتمنّون إيمانهم.

و قيل: كان الرجل إذا أسلم قالوا له: سفهت آباءك، فنزلت.

و قوله: لا يَضُرُّكُمْ يحتمل الرفع على أنّه مستأنف. و يؤيّده قراءة: لا يضيركم. و الجزم على الجواب أو النهي، لكنّه ضمّت الراء اتباعا لضمّة الضاد المنقولة إليها من الراء المدغمة. و تنصره قراءة من قرأ: لا يضرّكم بالفتح. و لا يضركم بكسر الضاد و ضمّها، من: ضاره يضيره و يضوره.

إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي: يجازيكم بأعمالكم. هذا وعد و وعيد للفريقين، و تنبيه على أنّ أحدا لا يؤاخذ بذنب غيره.

[سورة المائدة (5): الآيات 106 الى 109]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ بَيْنِكُمْ إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ حِينَ الْوَصِيَّةِ اثْنانِ ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ تَحْبِسُونَهُما مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ لا نَشْتَرِي بِهِ ثَمَناً وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ (106) فَإِنْ عُثِرَ عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً فَآخَرانِ يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ الْأَوْلَيانِ فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما وَ مَا اعْتَدَيْنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (107) ذلِكَ أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اسْمَعُوا وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (108) يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (109)

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 335

و لمّا قدّم الأمر بالرجوع إلى ما أنزل، عقّبه بذكر هذا الحكم المنزل، فقال:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا شَهادَةُ

بَيْنِكُمْ أي: فيما أمرتم شهادة بينكم. و المراد بالشهادة الإشهاد على الوصيّة. و إضافتها إلى الظرف على الاتّساع. إِذا حَضَرَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ إذا شارفه و ظهرت أماراته. و هو ظرف للشهادة. حِينَ الْوَصِيَّةِ بدل من الظرف. و في إبداله تنبيه على أنّ الوصيّة ممّا ينبغي أن لا يتهاون فيه عند حضور الموت، أي: وقت أمارته و مشارفته. أو ظرف «حضر».

اثْنانِ فاعل «شهادة» إذ تقدير الآية: عليكم شهادة بينكم يشهد اثنان، بحذف الخبر و الفعل. و معناه: فرض أن يشهد اثنان. و يجوز أن يكون خبر «شهادة» على حذف المضاف، أي: شهادة بينكم شهادة اثنين.

ذَوا عَدْلٍ مِنْكُمْ من أهل ملّتكم و دينكم، أي: من المسلمين. و هما صفتان ل «اثنان».

أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ من غير ملّتكم. عطف على «اثنان». و «أو»

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 336

هاهنا للتفصيل لا للتخيير، فإنّ المعنى: أو آخران من غيركم إن لم تجدوا شاهدين منكم.

و قيل: المعنى: ذوا عدل من عشيرتكم، فإنّهم أعلم بأحوال الميّت و بما هو أصلح، أو آخران من غير عشيرتكم. و الأوّل أقوى و أصحّ.

و ذهب جماعة إلى أنّ الآية كانت في شهادة أهل الذمّة ثمّ نسخت. و علماؤنا قائلون إنّ هذه الآية محكمة وردت في شهادة أهل الذمّة. و يقوّي هذا القول تتابع الآثار على أنّها من محكم القرآن و آخر ما نزل.

إِنْ أَنْتُمْ ضَرَبْتُمْ فِي الْأَرْضِ أي: سافرتم فيها فَأَصابَتْكُمْ مُصِيبَةُ الْمَوْتِ أي: قاربتكم. يعني: إن وقعت أمارة موتكم في السفر، و لم يكن معكم رجلان عدلان منكم، فاستشهدوا على الوصيّة آخرين من غيركم، أي: من أهل الذمّة.

تَحْبِسُونَهُما صفة ل «آخران» أي: تقفونهما. و الشرط بجوابه المحذوف المدلول عليه بقوله: «أَوْ آخَرانِ مِنْ غَيْرِكُمْ» اعتراض، فائدته

الدلالة على أنّه ينبغي أن يشهد اثنان منكم، فإن تعذّر- كما في السفر- فمن غيركم.

أو استئناف، كأنّه قيل: كيف نعمل إن ارتبنا بالشاهدين؟ فقال: تحبسونهما ليحلفا.

مِنْ بَعْدِ الصَّلاةِ اللام للعهد، أي: صلاة العصر،

فإنّ الناس كانوا يحلفون بالحجاز بعد صلاة العصر، لاجتماع الناس و تكاثرهم في ذلك الوقت، و تصادم ملائكة النهار و الليل فيه. و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام

و قتادة و سعيد ابن جبير و غيرهم. و قيل: صلاة الظهر. و قيل: أيّ صلاة كانت. و قيل: من بعد صلاة أهل دينهما، يعني: الذمّيّين.

فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ إِنِ ارْتَبْتُمْ أي: ارتاب الوارث منكم، و شكّ في أمانتهما لا

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 337

نَشْتَرِي بِهِ هذا مقسم عليه، و «إِنِ ارْتَبْتُمْ» اعتراض يفيد اختصاص القسم بحال الارتياب. و المعنى: لا نستبدل بالقسم أو باللّه ثَمَناً عرضا من الدنيا، أي: لا نحلف باللّه كاذبا لطمع وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى و لو كان المقسم له قريبا منّا. و جوابه أيضا محذوف، أي: لا نشتري.

وَ لا نَكْتُمُ شَهادَةَ اللَّهِ أي: الشهادة الّتي أمرنا بإقامتها إِنَّا إِذاً لَمِنَ الْآثِمِينَ أي: إن كتمنا.

روي أنّ ثلاثة نفر خرجوا تجّارا من المدينة إلى الشام: تميم بن أوس الداري، و أخوه عديّ بن يزيد، و كانا حينئذ نصرانيّين، و بديل بن أبي مارية مولى عمرو بن العاص. فلمّا قدموا الشام مرض ابن أبي مارية، فدوّن ما معه في صحيفة و طرحها في متاعه، و لم يخبرهما به، و أوصى إليهما بأن يدفعا متاعه إلى أهله و مات. ففتّشاه و أخذا منه إناء من فضّة فيه ثلاثمائة مثقال منقوشا بالذهب، فغيّباه.

فأصاب أهله الصحيفة فطالبوهما، فجحدا، فترافعوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و

آله و سلّم، فنزلت هذه الآية. فصلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم العصر، و دعا بتميم وعديّ، فحلّفهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد صلاة العصر عند المنبر و خلّى سبيلهما. ثمّ وجد الإناء في أيديهما، فأتاهما بنو سهم في ذلك، فقالا: قد اشتريناه منه، و لكن لم يكن لنا عليه بيّنة، فكرهنا أن نقرّ به، فرفعوهما إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فنزلت.

فَإِنْ عُثِرَ فإن اطّلع عَلى أَنَّهُمَا اسْتَحَقَّا إِثْماً أي: فعلا ما أوجب إثما بأيمانهما الكاذبة، و استوجبا أن يقال: إنّهما لمن الآثمين بخيانتهما فَآخَرانِ فشاهدان آخران يَقُومانِ مَقامَهُما مِنَ الَّذِينَ اسْتَحَقَّ عَلَيْهِمُ من الّذين جني عليهم، و هم الورثة. و قرأ حفص: استحقّ على البناء للفاعل. الْأَوْلَيانِ أي: من الورثة الّذين استحقّ عليهم الأوليان، أي: الأحقّان بالشهادة، لقرابتهما و معرفتهما. هو على قراءة البناء للمفعول خبر محذوف، أي: هما الأوليان، كأنّه قيل: و من هما؟ فقيل:

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 338

الأوليان. أو خبر «آخران». أو مبتدأ خبره «آخران». أو بدل منهما، أو من الضمير في «يقومان».

و قرأ حمزة و يعقوب و أبو بكر عن عاصم: الأوّلين، على أنّه صفة «الّذين» أو بدل منه، أي: من الأوّلين الّذين استحقّ عليهم.

فَيُقْسِمانِ بِاللَّهِ لَشَهادَتُنا ليميننا في وصيّة صاحبنا أَحَقُّ مِنْ شَهادَتِهِما أصدق من يمينهما، و أولى بأن تقبل. و إطلاق الشهادة على اليمين مجاز، لوقوعها موقعها كما في اللعان. وَ مَا اعْتَدَيْنا و ما تجاوزنا الحقّ فيما طلبناه من حقّنا إِنَّا إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ الواضعين الباطل موضع الحقّ، أو الظالمين أنفسهم إن اعتدينا. و بعد نزول هذه الآية قام عمرو بن العاص و المطّلب

بن أبي وداعة السهميّان و حلفا و أخذا الإناء.

قال في الأنوار «1»: «و معنى الآيتين: أنّ المحتضر إذا أراد الوصيّة ينبغي أن يشهد عدلين من دينه على وصيّته، أو يوصي إليهما احتياطا، فإن لم يجدهما- بأن كان في سفر- فآخرين من غيرهم من أهل الذمّة. ثمّ إن وقع نزاع و ارتياب أقسما على صدق ما يقولان بالتغليظ في الوقت، فإن اطّلع على أنّهما كذبا بأمارة و مظنّة حلف آخران من أولياء الميّت. و الحكم منسوخ إن كان الاثنان شاهدين، فإنّه لا يحلف الشاهد، و لا يعارض يمينه بيمين الوارث، و ثابت إن كانا وصيّين. و ردّ اليمين إلى الورثة إمّا لظهور خيانة الوصيّين، فإنّ تصديق الوصيّ باليمين لأمانته، أو لتغيير الدعوى، كما في هذه القضيّة».

ذلِكَ أي: الحكم الّذي تقدّم، أو تحليف الشاهد أَدْنى أَنْ يَأْتُوا بِالشَّهادَةِ عَلى وَجْهِها أقرب إلى أن يأتي الشهداء على نحو ما تحمّلوها من غير تحريف

______________________________

(1) أنوار التنزيل 2: 173- 174.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 339

و خيانة فيها أَوْ يَخافُوا أَنْ تُرَدَّ أَيْمانٌ بَعْدَ أَيْمانِهِمْ أو أقرب إلى أن يخافوا أن تردّ اليمين على المدّعين بعد أيمانهم، فيفتضحوا بظهور كذبهم، كما جرى في هذه القضيّة. فربما لا يحلفون كاذبين، و يتحفّظون في الشهادة مخافة ردّ اليمين إلى المستحقّ عليهم. و إنّما جمع الضمير لأنّه حكم يعمّ الشهود كلّهم.

وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ اسْمَعُوا ما توصون به سمع إجابة و قبول وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ أي: فإن لم تتّقوا و لم تسمعوا كنتم قوما فاسقين، و اللّه لا يهدي الفاسقين إلى حجّة أو إلى طريق الجنّة، كما يهدي غيرهم.

قال في كنز العرفان «1»: «و في هاتين الآيتين أحكام:

الأول: إنّ الّذي يحضره

أسباب الموت ينبغي أن يشهد عدلين على وصيّته، إمّا من ذوي قرابته، أو من أهل دينه، و هو الإسلام. فإن تعذّر ذلك عليه، بأن كان في سفر، فآخران من الأجانب أو أهل الذمّة.

الثاني: أنّه إذا حمل الضمير في «منكم» على المسلمين، و في «غيركم» على غيرهم، هل الحكم باق غير منسوخ أو لا؟ قال: أصحابنا بالأوّل، و جوّزوا شهادة أهل الذمّة مع تعذّر المسلمين في الوصيّة. و قال جماعة من الفقهاء بالثاني، و أنّ الآية منسوخة. و الأصحّ الأوّل، لأصالة عدم النسخ، و تكون الآية مخصّصة لأدلّة اشتراط الإيمان و العدالة في الشاهد بما عدا الوصيّة. نعم، يشترط عدالتهم في دينهم، و يرجّحون على فسّاق المسلمين.

الثالث: أنّه إذا حمل الضمير في «منكم» على الأقارب دلّ على قبول شهادة القريب على قريبه مطلقا. و فيه ردّ على من منع ذلك من المخالفين.

الرّابع: أنّه على قول أصحابنا بقبول شهادة الذمّي في الوصيّة مع عدم عدول

______________________________

(1) كنز العرفان 2: 98- 100.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 340

المسلمين، هل يشترط السفر كما في ظاهر الآية أم لا؟ الأصحّ العدم. و بالاشتراط رواية مطروحة.

الخامس: جواز شهادة أهل الذمّة في الوصيّة عند أصحابنا مختصّ بالمال، فلا تسمع في الولاية إجماعا.

السادس: جواز التغليظ في اليمين بالوقت، لقوله تعالى: «بعد الصلاة».

السابع: إنّ الآية تقتضي جواز الدعوى بعد الإحلاف، و هو خلاف القبول، و مناف

لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من حلف فليصدّق».

و يمكن أن يجاب بأنّ الدعوى إنّما توجّهت بعد اعتراف المدّعى عليهما بالإناء، و أنّه كان للميّت، و مع اعتراف الحالف يجوز المطالبة. ثمّ لمّا جازت المطالبة لمكان اعترافهما بملكيّة الميّت التي حلفا على نفيها أوّلا و براءة ذمّتهما، ادّعيا

الشراء فأنكر الورثة، فحلفوا على نفي العلم».

و قوله: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ ظرف ل «لا يهدي». و قيل: بدل من مفعول «و اتّقوا» بدل الاشتمال. أو مفعول «و اسمعوا» على حذف المضاف، أي: و اسمعوا خبر يوم جمعه. أو منصوب بإضمار: اذكر فَيَقُولُ أي: للرسل ما ذا أُجِبْتُمْ أيّ إجابة أجبتم؟ على أنّ «ماذا» في موضع المصدر. أو بأيّ شي ء أجبتم؟ فحذف الجارّ.

و هذا السؤال لتوبيخ قومهم، كما أنّ سؤال الموؤدة «1» لتوبيخ الوائد، و لذلك قالُوا لا عِلْمَ لَنا أي: لا علم لنا بما كنت أنت تعلمه. فوكلوا الأمر إلى علمه بسوء إجابتهم، و لجأوا إليه في الانتقام منهم إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ فتعلم ما نعلمه ممّا أجابونا و أظهروا لنا، و ما لم نعلم ممّا أضمروا في قلوبهم.

و فيه التشكّي منهم، و ردّ الأمر إلى علمه عزّ شأنه بما كابدوا منهم، و ذلك

______________________________

(1) التكوير: 8.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 341

أعظم على الكفرة، و أفتّ في أعضادهم، و أجلب لحسرتهم و سقوطهم في أيديهم، إذا اجتمع توبيخ اللّه و تشكّي أنبيائه عليهم السلام. و مثاله: أن ينكب بعض الخوارج على السلطان خاصّة من خواصّه بليّة قد عرفها السلطان، و اطّلع على كنهها، و عزم على الانتصار له منه، فيجمع بينهما و يقول له: ما فعل بك هذا الخارجي؟ و هو عالم بما فعل به، يريد به توبيخه و تبكيته، فيقول له: أنت أعلم بما فعل بي، تفويضا للأمر إلى علم السلطان، و اتّكالا عليه، و إظهارا للشكاية، و تعظيما لما حلّ به منه.

و قيل: من هول ذلك اليوم يفزعون و يذهلون عن الجواب، ثمّ يجيبون بعد ما يرجع إليهم عقولهم بالشهادة على أممهم.

و قيل:

المعنى: لا علم لنا إلى جنب علمك، فإنّ علمنا ساقط مع علمك و مغمور به، لأنّك علّام الغيوب، و من علم الخفيّات لم تخف عليه الظواهر الّتي منها إجابة الأمم لرسلهم، فكأنّه لا علم لنا إلى جنب علمك.

و قيل: لا علم لنا بما أحدثوا بعدنا، و إنّما الحكم للخاتمة. و كيف يخفى عليهم أمرهم و قد رأوهم سود الوجوه، زرق العيون، موبّخين.

قال الحاكم «1» أبو سعيد الجشمي عليه ما عليه في تفسيره: إنّها تدلّ على بطلان قول الإماميّة إنّ الأئمّة يعلمون الغيب.

و نحن نقول: إنّ هذا القول ظلم منه لهؤلاء القوم، فإنّا لا نعلم أحدا منهم بل أحدا من أهل الإسلام يصف أحدا من الناس أنّه يعلم الغيب، و من وصف مخلوقا بذلك فقد فارق الدين، و الشيعة الإماميّة برآء من هذا القول، فمن نسبهم إلى ذلك فاللّه فيما بينه و بينهم.

______________________________

(1) أبو سعد الجشمي هو المحسّن بن محمد بن كرّامة، مفسّر، عالم بالأصول و الكلام، حنفيّ ثم معتزليّ فزيدي، و هو شيخ الزمخشري، ولد سنة 413، و توفّي مقتولا بمكّة عام 494.

راجع الأعلام للزركلى 6: 176.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 342

[سورة المائدة (5): الآيات 110 الى 115]

إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَ عَلى والِدَتِكَ إِذْ أَيَّدْتُكَ بِرُوحِ الْقُدُسِ تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلاً وَ إِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ إِذْ تَخْلُقُ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ بِإِذْنِي فَتَنْفُخُ فِيها فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي وَ تُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَ الْأَبْرَصَ بِإِذْنِي وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي وَ إِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ إِذْ جِئْتَهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (110) وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أَنْ آمِنُوا بِي

وَ بِرَسُولِي قالُوا آمَنَّا وَ اشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ (111) إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ قالَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (112) قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها وَ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا وَ نَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا وَ نَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ (113) قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ تَكُونُ لَنا عِيداً لِأَوَّلِنا وَ آخِرِنا وَ آيَةً مِنْكَ وَ ارْزُقْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (114)

قالَ اللَّهُ إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً لا أُعَذِّبُهُ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ (115)

و لمّا عرّف سبحانه يوم القيامة بما وصفه به من جمع الرسل فيه، عطف عليه

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 343

بذكر المسيح، فقال بدلا «1» من يوم الجمع: إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ اذْكُرْ نِعْمَتِي عَلَيْكَ وَ عَلى والِدَتِكَ و هو على طريقة: وَ نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ «2»، فإنّ المستقبل المحقّق الوقوع في حكم الماضي.

و المعنى: أنّه تعالى يوبّخ الكفرة يومئذ بسؤال الرسل عن إجابتهم، و تعديد ما أظهر عليهم من الآيات، فكذّبتهم طائفة و سمّوهم سحرة، و غلا آخرون فاتّخذوهم آلهة، كما قال بعض بني إسرائيل لمّا أظهر على يد عيسى من البيّنات الباهرة و المعجزات الساطعة: هذا سِحْرٌ مُبِينٌ «3». و اتّخذوه بعضهم و أمّه إلهين. و يجوز أنّه نصب بإضمار «اذكر».

ثمّ فسّر نعمته بقوله: إِذْ أَيَّدْتُكَ قوّيتك. و هو ظرف ل «نعمتي»، أو حال منه بِرُوحِ الْقُدُسِ بجبرئيل، أو بالكلام الّذي يحيا به الدين أو النفس حياة أبديّة، و يطهّر من الآثام. و يؤيّده قوله: تُكَلِّمُ النَّاسَ فِي الْمَهْدِ وَ كَهْلًا أي: كائنا في المهد و كهلا.

و

المعنى: تكلّمهم في الطفوليّة و الكهولة على سواء، يعني: إلحاق حاله في الطفوليّة بحال الكهوليّة في كمال العقل و التكلّم. يعني: تكلّمهم في هاتين الحالتين من غير أن يتفاوت كلامك في حين الطفوليّة و حين الكهولة، الذي هو وقت تمام العقل و بلوغ الأشدّ، و الحدّ الّذي يستنبأ فيه الأنبياء. و به استدلّ على أنّه سينزل، فإنّه رفع قبل أن يكتهل.

وَ إِذْ عَلَّمْتُكَ الْكِتابَ و قيل: الكتابة يعني الخطّ وَ الْحِكْمَةَ أي: علم الشريعة الّذي هو الكلام المحكم الصواب. و قيل: أراد الكتب، فيكون اسم جنس.

______________________________

(1) أي: جاعلا قوله هذا بدلا من قوله: «يوم يجمع».

(2) الأعراف: 44.

(3) النمل: 13.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 344

ثمّ فصّله بالذكر فقال: وَ التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ و خصّهما من بين جنس الكتب بالذكر لمزيد شرفهما وَ إِذْ تَخْلُقُ تصوّر مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ أي: هيئة مثل هيئة الطير و صورته بِإِذْنِي و أمري و تسهيلي. و سمّاه خلقا، لأنّه كان يقدّره.

فَتَنْفُخُ فِيها الضمير للكاف، لأنّها صفة الهيئة الّتي كان يخلقها عيسى و ينفخ فيها، و لا يرجع إلى الهيئة المضاف إليها، لأنّها ليست صفة من خلقه و لا من نفخه في شي ء، أي: ينفخ فيها الروح، لأنّ الروح جسم يجوز أن ينفخه المسيح بأمر اللّه تعالى.

و الطير يؤنّث و يذكّر، فمن أنّث فعلى الجمع، و من ذكّر فعلى اللفظ. و واحد الطير طائر، كراكب و ركب، و ضائن و ضأن.

و بيّن بقوله: فَتَكُونُ طَيْراً بِإِذْنِي أنّه إذا نفخ المسيح فيها الروح قلّبها اللّه لحما و دما، و خلق فيها الحياة، فصارت طيرا بأمر اللّه و إرادته، لا بفعل المسيح.

و قرأ نافع: طائرا. و يحتمل الإفراد و الجمع، كالباقر.

وَ تُبْرِئُ أي: تصحّح

الْأَكْمَهَ الّذي ولد أعمى وَ الْأَبْرَصَ من به برص مستحكم بِإِذْنِي و المعنى: أنّك تدعوني حتى أبرئ الأكمه و الأبرص.

و نسب ذلك إلى المسيح، لأنّه بدعائه و سؤاله.

وَ إِذْ تُخْرِجُ الْمَوْتى بِإِذْنِي أي: اذكر إذ تدعوني فأحيي الموتى عند دعائك، و أخرجهم من القبور حتى يشاهدهم الناس أحياء. نسب ذلك إلى المسيح أيضا، لأنّه كان بدعائه. قيل: أخرج سام بن نوح و رجلين و امرأة و جارية.

وَ إِذْ كَفَفْتُ بَنِي إِسْرائِيلَ عَنْكَ أي: اليهود حين همّوا بقتلك و أذاك إِذْ جِئْتَهُمْ ظرف ل «كففت»، أي: حين أتيتهم بِالْبَيِّناتِ المعجزات البيّنة مع كفرهم و عنادهم فَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا و جحدوا نبوّتك مِنْهُمْ إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ يعنون به ما جاء به عيسى. يعني: ما هذا الّذي جئت به إلّا سحر ظاهر واضح. و قرأ حمزة

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 345

و الكسائي: إلّا ساحر. فالإشارة إلى عيسى عليه السّلام. و الغرض من تعداد هذه النعمة على عيسى إلزام قومه بالحجّة، فإنّهم ادّعوا أنّه إله.

ثمّ بيّن سبحانه تمام نعمته على عيسى عليه السّلام، فقال: وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ أي: ألهمتهم. و قيل: أمرتهم على ألسنة الرسل. أَنْ آمِنُوا بِي وَ بِرَسُولِي أي: صدّقوا بي و بصفاتي و بعيسى أنّه عبد و نبيّ. و يجوز أن تكون «أن» مصدريّة و أن تكون مفسّرة. قالُوا أي: قال الحواريّون ادّعاء آمَنَّا وَ اشْهَدْ بِأَنَّنا مُسْلِمُونَ مخلصون.

ثمّ أخبر سبحانه عن الحواريّين و سؤالهم فقال: إِذْ قالَ الْحَوارِيُّونَ منصوب ب «اذكر»، أو ظرف ل «قالوا». فيكون تنبيها على أنّ ادّعاءهم الإخلاص مع قولهم: يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ هَلْ يَسْتَطِيعُ رَبُّكَ أَنْ يُنَزِّلَ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ لم يكن بعد عن تحقيق و

استحكام معرفة.

و قيل: هذه الاستطاعة بناء على ما تقتضيه الحكمة و الإرادة، لا على ما تقتضيه القدرة. و المعنى: هل يفعل ذلك ربّك بمسألتك إيّاه ليكون علما على صدقك.

و قيل: يستطيع بمعنى يطيع، كاستجاب بمعنى أجاب، أي: هل يطيعك و يجيبك؟

و قرأ الكسائي: تستطيع ربّك، أي: سؤال ربّك. و المعنى: هل تسأله ذلك من غير صارف يصرفك عن سؤاله.

و المائدة: الخوان إذا كان عليه الطعام، من: ماد الماء يميد إذا تحرّك، أو من:

ماده إذا أعطاه، كأنّها تميد، أي: تعطي من تقدّم إليه. و نظيرها قولهم: شجرة مطعمة.

و يؤيّد الأوّل «1» قوله: قالَ اتَّقُوا اللَّهَ من أمثال هذا الكلام و السؤال

______________________________

(1) يعني: المعنى الأول من معاني «هل يستطيع»، أي: هل يقدر ربك؟ و أنه لم يكن بعد عن

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 346

إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بكمال قدرته و صحّة نبوّتي، أو صدقتم في ادّعاء الإيمان. و على الوجوه الأخر معناه: لا تقترحوا الآيات، و لا تقدّموا بين يدي اللّه و رسوله، لأنّ اللّه تعالى قد أراهم البراهين و المعجزات بإحياء الموتى و غيره ممّا هو آكد ممّا سألوه.

و في هذا دلالة على عدم استحكام دينهم، و قلّة معرفتهم باللّه و صفاته.

قالُوا نُرِيدُ أَنْ نَأْكُلَ مِنْها هذا تمهيد عذر، و بيان لما دعاهم إلى السؤال، و هو أن يتمتّعوا بالأكل منها وَ تَطْمَئِنَّ قُلُوبُنا بانضمام علم المشاهدة إلى علم الاستدلال بكمال قدرته، فإنّ الدلائل كلّما كثرت مكّنت المعرفة في النفس.

وَ نَعْلَمَ أَنْ قَدْ صَدَقْتَنا في ادّعائك النبوّة، أو أنّ اللّه يجيب دعوتنا وَ نَكُونَ عَلَيْها مِنَ الشَّاهِدِينَ إذا استشهدتنا عند الّذين لم يحضروها من بني إسرائيل. أو من الشاهدين للعين، دون السامعين لما يخبر. أو من

الشاهدين للّه بالوحدانيّة، و لك بالنبوّة.

قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لمّا رأى أنّ لهم غرضا صحيحا في ذلك، أو أنّهم لا يقلعون عنه، فأراد إلزامهم الحجّة بكمالها اللَّهُمَّ رَبَّنا أَنْزِلْ عَلَيْنا مائِدَةً مِنَ السَّماءِ أصل اللّهمّ يا اللّه، فحذف حرف النداء، و عوّضت الميم منه. و «ربّنا» نداء ثان تَكُونُ لَنا عِيداً أي: يكون يوم نزولها عيدا نعظّمه، و هو يوم الأحد، و من ثمّ اتّخذه النصارى عيدا. و قيل: العيد السرور العائد، و لذلك سمّي يوم العيد عيدا، أي:

يكون لنا سرورا و فرحا. لِأَوَّلِنا وَ آخِرِنا بدل من «لنا» بإعادة العامل، أي: عيدا لمتقدّمينا و متأخّرينا، يعنون: لمن في زماننا من أهل ديننا و لمن يأتي بعدنا. و قيل:

معناه: يأكل منها أوّلنا و آخرنا. و يجوز أن يريد المقدّمين منّا و الأتباع.

وَ آيَةً مِنْكَ صفة لها، أي: آية كائنة منك تدلّ على كمال قدرتك و صحّة نبوّتي وَ ارْزُقْنا المائدة، أو الشكر عليها وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ خير من يرزق،

______________________________

تحقيق و استحكام معرفة.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 347

لأنّك خالق الرزق و معطيه بلا عوض. و في هذا دلالة على أنّ العباد يرزق بعضهم بعضا، لأنّه لو لم يكن كذلك لم يصحّ أن يقال له سبحانه: أنت خير الرازقين، كما لا يجوز أن يقال: أنت خير الآلهة، لمّا لم يكن غيره سبحانه إلها.

قالَ اللَّهُ مجيبا له إِنِّي مُنَزِّلُها عَلَيْكُمْ إجابة إلى سؤالكم. و قرأ أهل المدينة و الشام و عاصم: منزّلها مشدّدا، و الباقون: منزلها مخفّفا. فَمَنْ يَكْفُرْ بَعْدُ بعد إنزالها مِنْكُمْ فَإِنِّي أُعَذِّبُهُ عَذاباً أي: تعذيبا. و يجوز أن يجعل مفعولا به على السعة. لا أُعَذِّبُهُ الضمير للمصدر، أو للعذاب إن أريد ما يعذّب به على

حذف حرف الجرّ أَحَداً مِنَ الْعالَمِينَ أي: من عالمي زمانهم، أو العالمين مطلقا، فإنّهم مسخوا قردة و خنازير، و لم يعذّب مثل ذلك غيرهم.

عن ابن عبّاس: أنّ عيسى عليه السّلام قال لبني إسرائيل: صوموا ثلاثين يوما ثمّ أسألوا اللّه ما شئتم يعطيكموه. فصاموا ثلاثين يوما، فلمّا فرغوا قالوا: يا عيسى إنّا صمنا و جعنا، فادع اللّه أن ينزل علينا مائدة من السماء. فأقبلت الملائكة بمائدة يحملونها، عليها سبعة أرغفة و سبعة أحوات، حتى وضعوها بين أيديهم، فأكل منها آخر الناس كما أكل أوّلهم. و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

و روى عطاء بن أبي رباح عن سلمان الفارسي أنّه قال: «لمّا سأل الحواريّون عيسى عليه السّلام أن ينزل عليهم المائدة لبس صوفا و بكى و قال: اللّهمّ أنزل علينا مائدة.

فنزلت سفرة حمراء بين غمامتين، و هم ينظرون إليها و هي تهوي منقضّة حتّى سقطت بين أيديهم. فبكى عيسى عليه السّلام و قال: اللّهمّ اجعلني من الشاكرين، اللّهمّ اجعلها رحمة، و لا تجعلها مثلة و عقوبة. و اليهود ينظرون إلى شي ء لم يروا مثله قطّ، و لم يجدوا ريحا أطيب من ريحه.

فقام عيسى عليه السّلام و توضّأ و صلّى صلاة طويلة، ثمّ كشف المنديل عنها و قال:

بسم اللّه خير الرازقين، فإذا هو سمكة مشويّة، و ليس عليها فلوسها، تسيل سيلا من

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 348

الدسم، و عند رأسها ملح، و عند ذنبها خلّ، و حولها من ألوان البقول ما عدا الكرّاث، و إذا خمسة أرغفة، على واحد منها زيتون، و على الثاني عسل، و على الثالث سمن، و على الرابع جبن، و على الخامس قديد.

فقال شمعون: يا روح اللّه أمن طعام الدنيا هذا أم

من طعام الآخرة؟

فقال عيسى عليه السّلام: ليس شي ء ممّا ترون من طعام الدنيا و لا من طعام الآخرة، و لكنّه شي ء افتعله اللّه تعالى بالقدرة الغالبة، كلوا ممّا سألتم يمددكم و يزدكم من فضله.

فقال الحواريّون: يا روح اللّه لو أريتنا من هذه الآية اليوم آية اخرى.

فقال عيسى عليه السّلام: يا سمكة أحيي بإذن اللّه. فاضطربت و عاد عليها فلوسها و شوكها، ففزعوا منها.

فقال عيسى: مالكم تسألون أشياء إذا أعطيتموها كرهتموها؟ ما أخوفني عليكم أن تعذّبوا، يا سمكة عودي كما كنت بإذن اللّه، فعادت السمكة مشويّة كما كانت.

فقالوا: يا روح اللّه كن أوّل من يأكل منها ثمّ نأكل نحن.

فقال عيسى: معاذ اللّه أن آكل منها، و لكن يأكل منها من سألها، فخافوا أن يأكلوا منها.

ثمّ دعا لها عيسى أهل الفاقة و الزّمنى «1» و المرضى و المبتلين، فقال: كلوا منها، و لكم المهنأ «2»، و لغيركم البلاء. فأكل منها ألف و ثلاثمائة رجل و امرأة من فقير و مريض و مبتلى، و كلّهم شبعان يتجشّأ «3».

______________________________

(1) الزّمنى جمع الزمين، أي: المصاب بالزمانة.

(2) المهنأ: ما أتاك بلا مشقّة.

(3) تجشّأ أي: أخرج من فمه الجشاء. و الجشاء: ريح يخرج من الفم مع صوت عند الشبع.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 349

ثمّ نظر عيسى عليه السّلام إلى السمكة فإذا هي كهيئتها حين نزلت من السماء، ثمّ طارت المائدة صعدا و هم ينظرون إليها حتّى توارت عنهم، فلم يأكل يومئذ منها زمن إلّا صحّ، و لا مريض إلّا برى ء، و لا فقير إلّا استغنى، و لم يزل غنيّا حتّى مات.

و ندم الحواريّون و من لم يأكل منها.

و كانت إذا نزلت اجتمع الأغنياء و الفقراء و الصغار و الكبار يتزاحمون عليها، فلمّا رأى

ذلك عيسى جعلها نوبة بينهم، فلبثت أربعين صباحا تنزل ضحى، فلا تزال منصوبة يؤكل منها حتّى إذا فاء الفي ء طارت صعدا، و هم ينظرون في ظلّها حتّى توارت عنهم. و كانت تنزل غبّا، يوما تنزل و يوما لا.

فأوحى اللّه إلى عيسى: عليه السّلام: اجعل مائدتي للفقراء و المرضى دون الأغنياء و الأصحّاء. فعظم ذلك على الأغنياء حتّى شكّوا و شكّكوا الناس فيها.

فأوحى اللّه تعالى إلى عيسى: إنّي شرطت على المكذّبين شرطا إنّ من كفر بعد نزولها أعذّبه عذابا لا أعذّبه أحدا من العالمين. فقال عيسى عليه السّلام: إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ «1». فمسخ منهم ثلاثمائة و ثلاثة و ثلاثون رجلا، باتوا من ليلتهم على فرشهم مع نسائهم في ديارهم فأصبحوا خنازير، يسعون في الطرقات و الكناسات، و يأكلون العذرة في الحشوش. فلمّا رأى الناس ذلك فزعوا إلى عيسى و بكوا، و بكى على الممسوخين أهلوهم، فعاشوا ثلاثة أيّام ثمّ هلكوا.

و

في تفسير أهل البيت عليهم السّلام: كانت المائدة تنزل عليهم فيجتمعون عليها و يأكلون منها، ثمّ ترفع. فقال كبراؤهم و مترفوهم: لا ندع سفلتنا يأكلون منها معنا.

فرفع اللّه المائدة ببغيهم، و مسخوا قردة و خنازير.

و قيل: لمّا وعد اللّه تعالى إنزالها بهذه الشرائط استغفروا و قالوا: لا نريد، فلم ينزل. و الصحيح أنّها نزلت.

______________________________

(1) المائدة: 118.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 350

[سورة المائدة (5): الآيات 116 الى 120]

زبدة التفاسير ج 2 399

وَ إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالَ سُبْحانَكَ ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍّ إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ ما فِي نَفْسِي وَ لا أَعْلَمُ ما فِي

نَفْسِكَ إِنَّكَ أَنْتَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (116) ما قُلْتُ لَهُمْ إِلاَّ ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي كُنْتَ أَنْتَ الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (117) إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (118) قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (119) لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما فِيهِنَّ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (120)

ثمّ عطف سبحانه على ما تقدّم من أمر المسيح عليه السّلام، فقال توبيخا و تبكيتا للكفرة: وَ إِذْ قالَ اللَّهُ يا عِيسَى ابْنَ مَرْيَمَ أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ الاستفهام يراد به التقريع لمن ادّعى ذلك عليه من النصارى، و استعظام لذلك القول. و الجارّ و المجرور صفة ل «إلهين»، أو صلة «اتّخذوني».

و معنى «دون» إمّا المغايرة، فيكون فيه تنبيه على أنّ عبادة اللّه تعالى مع

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 351

عبادة غيره كلا عبادة، فمن عبده مع عبادتها فكأنّه عبدهما و لم يعبده. أو القصور، فإنّهم لم يعتقدوا أنّهما مستقلّان باستحقاق العبادة، و إنّما زعموا أنّ عبادتهما توصل إلى عبادة اللّه تعالى، و كأنّه قيل: اتّخذوني و أمّي إلهين متوصّلين بنا إلى اللّه.

قالَ سُبْحانَكَ أي: أنزّهك تنزيها من أن يكون لك شريك ما يَكُونُ لِي أَنْ أَقُولَ ما لَيْسَ لِي بِحَقٍ ما ينبغي لي أن أقول قولا لا يحقّ لي أن أقوله، و أنا عبد مثلهم، و إنّما تحقّ العبادة لك وحدك.

إِنْ كُنْتُ قُلْتُهُ فَقَدْ عَلِمْتَهُ تَعْلَمُ

ما فِي نَفْسِي ما أخفيه في نفسي كما تعلم ما أعلنه وَ لا أَعْلَمُ ما فِي نَفْسِكَ ما تخفيه من معلوماتك. و قوله: «في نفسك» للمشاكلة، و إلّا فاللّه سبحانه منزّه عن أن تكون له نفس أو قلب تحلّ فيها المعاني، و صنعة المشاكلة من فصيح الكلام. و قيل: المراد بالنفس الذّات.

إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ تقرير للجملتين باعتبار منطوقه و مفهومه، فإنّ ما انطوت عليه النفوس من جملة الغيوب، و لا ينتهي علم أحد إلى ما يعلمه سبحانه.

ثمّ صرّح عيسى بنفي المستفهم عنه بعد تقديم ما يدلّ عليه، فقال: ما قُلْتُ لَهُمْ إِلَّا ما أَمَرْتَنِي بِهِ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ رَبِّي وَ رَبَّكُمْ عطف بيان للضمير في «به»، أو بدل منه، و ليس من شرط البدل جواز طرح المبدل منه مطلقا، ليلزم منه بقاء الموصول بلا راجع. أو خبر مضمر أو مفعوله، مثل: هو أو أعني. و لا يجوز إبداله من «ما أمرتني به»، فإنّ المصدر لا يكون مفعول القول. و لا أن تكون «أن» مفسّرة، لأنّ الأمر مسند إلى اللّه تعالى، و هو سبحانه لا يقول: اعبدوا اللّه ربّي و ربّكم، و القول لا يفسّر، بل الجملة تحكي بعده، إلّا أن يؤوّل القول بالأمر، فكأنّه قيل: ما أمرتهم إلّا ما أمرتني به أن اعبدوا اللّه.

وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً رقيبا عليهم، أمنعهم أن يقولوا ذلك و يعتقدوه، أو مشاهدا لأحوالهم من كفر و إيمان ما دُمْتُ فِيهِمْ فَلَمَّا تَوَفَّيْتَنِي بالرفع إلى السماء،

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 352

لقوله: إِنِّي مُتَوَفِّيكَ وَ رافِعُكَ «1». و التوفّي: أخذ الشي ء وافيا، و الموت نوع منه.

قال اللّه تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها «2». كُنْتَ أَنْتَ

الرَّقِيبَ عَلَيْهِمْ المراقب لأحوالهم، فتمنعهم من القول به بما نصبت لهم من الأدلّة، و أرسلت إليهم من الرسل، و أنزلت عليهم من الآيات وَ أَنْتَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ مطّلع عليه، مراقب له.

إِنْ تُعَذِّبْهُمْ فَإِنَّهُمْ عِبادُكَ أي: فإنّك تعذّب من عبادك الّذين عبدوا غيرك، و عصوا رسلك، منكرين أنبياءك، و لا اعتراض على المالك المطلق فيما يفعل في ملكه وَ إِنْ تَغْفِرْ لَهُمْ فَإِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ القادر على العقاب و الثواب الْحَكِيمُ الّذي لا يفعلهما إلّا عن حكمة و صواب. هذا تسليم الأمر إلى مالكه، و تفويض إلى مدبّره، و تبرّء من أن يكون إليه شي ء من أمور قومه، كما يقول الواحد منّا إذا تبرّأ من تدبير أمر من الأمور، و يريد تفويضه إلى غيره: هذا الأمر لا يدخل في تصرّفي، فإن شئت فافعله، و إن شئت فاتركه، مع علمه و قطعه على أنّ أحد الأمرين لا يكون منه.

و قيل: إنّ المعنى: إن تعذّبهم فبإقامتهم على كفرهم، و إن تغفر لهم فبتوبة كانت لهم، فكأنّه اشترط التوبة و إن لم يكن الشرط ظاهرا في الكلام. أو المعنى: إن المغفرة مستحسنة عقلا لكلّ مجرم، و كلّما كان الجرم أعظم فالعفو عنه أحسن عقلا، فإن عذّبت فعدل، و إن غفرت ففضل. و عدم غفران الشرك بمقتضى الوعيد، فلا امتناع فيه لذاته ليمتنع الترديد و التعليق ب «إن».

قالَ اللَّهُ هذا يَوْمُ يَنْفَعُ الصَّادِقِينَ صِدْقُهُمْ و قرأ نافع: يوم بالنصب، على أنّه ظرف ل «قال»، و خبر «هذا» محذوف، أو ظرف مستقرّ وقع خبرا.

______________________________

(1) آل عمران: 55.

(2) الزمر: 42.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 353

و المعنى: هذا الّذي ذكرنا من كلام عيسى عليه السّلام واقع يوم ينفع الصادقين ما صدقوا فيه.

و

قيل: إنّه خبر، و لكن بني على الفتح، لإضافته إلى الفعل. و ليس بصحيح، لأنّ المضاف إليه معرب.

و المراد بالصدق: الصدق في الدنيا، فإنّ النافع ما كان حال التكليف، فلا ينفع الكافرين صدقهم في يوم القيامة إذا أقرّوا على أنفسهم بسوء أعمالهم.

و قيل: المراد تصديقهم لرسل اللّه و كتبهم.

و قيل: المراد صدقهم يوم القيامة في الشهادة لأنبيائهم بالبلاغ.

لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً أي: دائمين فيها في نعيم مقيم لا يزول رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بما فعلوا وَ رَضُوا عَنْهُ بما أعطاهم ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ هذا بيان للنفع.

ثمّ نبّه على كذب النصارى و فساد دعواهم في المسيح، فقال: لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما فِيهِنَّ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ. و إنّما لم يقل: و من فيهنّ، تغليبا للعقلاء. و قال: «و ما فيهنّ» لأنّ لفظة «ما» تتناول الأجناس تناولا عامّا، فإنّ من أبصر شخصا من بعيد قال: ما هو؟ قبل أن يعرف أمن العقلاء هو أم من غيرهم؟

فلفظة «ما» أولى بإرادة العموم و الشمول. و لأنّ إتباع العقلاء غيرهم من غير عكس مشعر بقصورهم عن معنى الربوبيّة، و نزولهم عن رتبة العبوديّة.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 355

(6) سورة الأنعام

اشارة

مائة و خمس و ستّون آية. و عن ابن عبّاس: هي مكّيّة إلّا ستّ آيات: وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ «1» إلى آخر ثلاث آيات، قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ «2» إلى آخر ثلاث آيات، فإنّهنّ نزلن بالمدينة.

و

روي عن أبيّ بن كعب و عكرمة و قتادة: أنّها كلّها نزلت بمكّة جملة واحدة ليلا، و معها سبعون ألف ملك قد ملأوا بين الخافقين، لهم زجل «3» بالتسبيح و التحميد. فقال النبيّ صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم: سبحان اللّه العظيم و خرّ ساجدا، ثمّ دعا الكتّاب فكتبوها من ليلتهم. و أكثرها حجاج على المشركين، و على من كذّب بالبعث و النشور.

و أيضا

عنه قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنزلت عليّ الأنعام جملة واحدة، شيّعها سبعون ألف ملك، لهم زجل بالتسبيح و التحميد، فمن قرأها صلّى عليه أولئك السبعون ألف ملك بعدد كلّ آية من الأنعام يوما و ليلة».

جابر بن عبد اللّه الأنصاري عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ ثلاث آيات من أوّل

______________________________

(1) الأنعام: 91- 93.

(2) الأنعام: 151- 153.

(3) الزجل: صوت الناس و ضجيجهم. زبدة التفاسير، ج 2، ص: 356

سورة الأنعام إلى قوله: «وَ يَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ» وكّل اللّه به أربعين ملكا يكتبون له مثل عبادتهم إلى يوم القيامة، و ينزل ملك من السماء السابعة و معه مرزبة «1» من حديد، فإذا أراد الشيطان أن يوسوس أو يرمي في قلبه شيئا ضربه بها».

و

روى العيّاشي بإسناده عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إنّ سورة الأنعام نزلت جملة، و شيّعها سبعون ألف ملك، فعظّموها و بجّلوها، فإنّ اسم اللّه تعالى فيها في سبعين موضعا، و لو يعلم الناس ما في قراءتها من الفضل ما تركوها.

ثمّ قال عليه السّلام: من كانت له إلى اللّه حاجة يريد قضاءها فليصلّ أربع ركعات بفاتحة الكتاب و الأنعام، و ليقل في صلاته إذا فرغ من القراءة: يا كريم يا كريم يا كريم، يا عظيم يا عظيم يا عظيم، يا أعظم من كلّ عظيم، يا سميع الدعاء، يا من لا تغيّره الليالي و الأيّام، صلّ على محمّد و آل محمّد، و ارحم

ضعفي و فقري و فاقتي و مسكنتي. يا من رحم الشيخ يعقوب حين ردّ عليه يوسف قرّة عينه، يا من رحم أيّوب بعد حلول بلائه، يا من رحم محمّدا، و من اليتم آواه، و نصره على جبابرة قريش و طواغيتها، و أمكنه منهم، يا مغيث يا مغيث يا مغيث. هكذا تقول مرارا، فو الّذي نفسي بيده لو دعوت اللّه بها بعد ما تصلّي هذه الصلاة في دبر هذه السورة، ثم سألت اللّه جميع حوائجك، لأعطاك إن شاء اللّه» «2».

و

روى عليّ بن إبراهيم بن هاشم، عن أبيه، عن الحسين بن خالد، عن أبي الحسن عليّ بن موسى الرضا عليهما السّلام، قال: «نزلت الأنعام جملة واحدة، شيّعها سبعون ألف ملك، لهم زجل بالتسبيح و التكبير، فمن قرأها سبّحوا له إلى يوم القيامة» «3».

و روى أبو صالح عن ابن عبّاس قال: من قرأ سورة الأنعام في كلّ ليلة كان

______________________________

(1) المرزبة و المرزبّة: عصاة من حديد.

(2) تفسير العيّاشي 1: 353 ح 1.

(3) تفسير القمّي 1: 193.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 357

من الآمنين يوم القيامة، و لم ير النار بعينه أبدا.

[سورة الأنعام (6): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ ثُمَّ قَضى أَجَلاً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ (2) وَ هُوَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَ فِي الْأَرْضِ يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ وَ يَعْلَمُ ما تَكْسِبُونَ (3)

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة المائدة بأنّه على كلّ شي ء قدير، افتتح سورة الأنعام بما يدلّ على كمال قدرته، من خلق السموات و الأرض، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ

الْأَرْضَ اخترعهما بما اشتملا عليه من عجائب الصنعة و بدائع الحكمة. أخبر سبحانه بأنّه حقيق و حريّ بالحمد. و نبّه على أنّه المستحقّ للحمد على هذه النعم الجسام، حمد أو لم يحمد، ليكون حجّة على الّذين هم بربّهم يعدلون. و جمع السماوات دون الأرض، و هي مثلهنّ، لأنّ طبقاتها مختلفة بالذات متفاوتة الآثار و الحركات، دون الأرض.

و قدّمها لشرفها، و علوّ مكانها، و تقدّم وجودها.

وَ جَعَلَ الظُّلُماتِ وَ النُّورَ أنشأهما. و الفرق بين «خلق» و «جعل» الّذي له مفعول واحد: أنّ خلق فيه معنى التقدير، و الجعل فيه معنى التضمين، كإنشاء شي ء من شي ء، أي: قدّر السماوات و الأرض، و ضمّن فيها الظلمات و النور، و لذلك عبّر عن إحداث النور و الظلمة بالجعل، تنبيها على أنّهما عرضان يقومان بالجسم، لا بأنفسهما كما زعمت الثنويّة.

و جمع الظلمات لكثرة أسبابها و الأجرام الحاملة لها، فإنّ أسباب الظلمة تارة

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 358

بالليل، فإنّ جميع الأجرام فيه مظلمة، و تارة بالخسوف و الكسوف، و تارة بالسحاب المتراكم مع الرعد، و تارة بالبحر، و تارة بالظلّ، فإنّ ما من جنس من أجناس الأجرام إلّا و له ظلّ، بخلاف النور، فإنّه من جنس واحد، و هو النار. أو لأنّ المراد بالظلمة الضلال، و بالنور الهدى، و الهدى واحد، و الضلال متعدّد. و تقديمها لتقدّم الأعدام على الملكات.

ثمّ عجب سبحانه ممّن جعل له شريكا، مع ما يرى من الآيات الدالّة على وحدانيّته، فقال: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا جحدوا الحقّ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ معنى «ثمّ» استبعاد عدولهم بعد هذا البيان.

و هذا عطف على قوله: «الحمد للّه»، على معنى: أنّ اللّه حقيق بالحمد على ما خلقه نعمة على العباد، ثمّ الّذين كفروا به يعدلون،

فيكفرون نعمته. و يكون «بربّهم» تنبيها على أنّه خلق هذه الأشياء أسبابا لتكوّنهم و تعيّشهم، فمن حقّه أن يحمد عليها و لا يكفر.

أو على قوله: «خلق»، على معنى: أنّه خلق ما لا يقدر عليه أحد سواه، ثمّ هم يعدلون به ما لا يقدر على شي ء منه.

و الباء على الأوّل متعلّقة، ب «كفروا»، و صلة «يعدلون» محذوفة، أي: يعدلون عنه، ليقع الإنكار على نفس العدول. و على الثاني متعلّقة ب «يعدلون». و المعنى: أنّ الكفّار يسوّون به غيره، بأن جعلوا له أندادا من الأوثان. مأخوذ من قولهم: ما أعدل بفلان أحدا، أي: لا نظير له عندي.

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ أي: ابتدأ خلقكم منه، فإنّه المادّة الأولى، و إنّ آدم الّذي هو أصل البشر خلق منه. أو خلق ءاباءكم، فحذف المضاف. ثُمَّ قَضى أَجَلًا كتب و قدّر أجل الموت وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عِنْدَهُ أجل القيامة. و قيل: الأوّل ما بين الخلق و الموت، و الثاني ما بين الموت و البعث، و هو البرزخ، فإنّ الأجل كما

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 359

يطلق لآخر المدّة يطلق لجملتها. و قيل: الأوّل النوم، و الثاني الموت. و قيل: الأوّل لمن مضى، و الثاني لمن بقي و لمن يأتي.

و «أجل» نكرة خصّصت بالصفة، و لذلك استغنى عن تقديم الخبر.

و الاستئناف به لتعظيمه، و لذلك نكّر و وصف بأنّه مسمّى، أي: مثبت معيّن لا يقبل التغيّر. و أخبر عنه بأنّه عند اللّه تعالى لا مدخل لغيره فيه بعلم و لا قدرة، و لأنّه المقصود بيانه.

ثُمَّ أَنْتُمْ تَمْتَرُونَ استبعاد لامترائهم بعد ما ثبت أنّه خالقهم و خالق أصولهم، و محييهم إلى آجالهم و باعثهم، فإنّ من قدر على خلق الموادّ و جمعها و إيداع

الحياة فيها و إبقائها ما يشاء، كان أقدر على جمع تلك الموادّ و إحيائها ثانيا.

فالآية الأولى دليل التوحيد، و الثانية دليل البعث. و الامتراء الشكّ. و أصله: المري، و هو استخراج «1» اللبن من الضرع.

وَ هُوَ اللَّهُ الضمير للّه، و «اللّه» خبره فِي السَّماواتِ وَ فِي الْأَرْضِ متعلّق باسم اللّه. و المعنى: هو المستحقّ للعبادة فيهما لا غير، كقوله: وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ «2». أو هو المعروف بالإلهيّة، أو هو المتوحّد بالإلهيّة فيهما. فقوله: يَعْلَمُ سِرَّكُمْ وَ جَهْرَكُمْ تقرير له، لأنّ من استوى في علمه السرّ و العلانية هو اللّه وحده.

و يجوز أن يكون «هو» ضمير الشأن، و «الله يعلم سركم و جهركم» مبتدأ و خبر، و «في السماوات» يتعلّق ب «يعلم». و أن يكون «في السماوات» خبرا بعد خبر، أو بدلا من «اللّه» على معنى: أنّه اللّه، و أنّه في السماوات و الأرض. و يكفي

______________________________

(1) و لعلّ وجه النقل من المعنى اللغوي إلى هذا المعنى: أن الشكّ منشأ استخراج العلم، كما يستخرج اللبن من الضرع و يمترى.

(2) الزخرف: 84.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 360

لصحّة الظرفيّة كون المعلوم فيهما، كقولك: رميت الصيد في الحرم، إذا كنت خارجه و الصيد داخله، بمعنى أنّه تعالى و تقدّس لكمال علمه بما فيهما كأنّه فيهما. و قال الزجّاج: لو قلت: هو زيد في البيت و الدار، لم يجز إلّا أن يكون في الكلام دليل على أنّ زيدا يدبّر أمر البيت و الدار، فيكون المعنى: هو المدبّر في البيت و الدار.

فالمعنى: هو المعبود المدبّر في السماوات و الأرض. و ليس الظرف متعلّقا بالمصدر، و هو «سرّكم و جهركم»، لأنّ صفته لا تتقدّم عليه.

وَ يَعْلَمُ

ما تَكْسِبُونَ من خير أو شرّ، فيثيب و يعاقب. و لعلّه أريد بالسرّ و الجهر و ما يخفى و ما يظهر من أحوال الأنفس، و بالمكتسب أعمال الجوارح.

[سورة الأنعام (6): الآيات 4 الى 5]

وَ ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (4) فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (5)

ثمّ أخبر سبحانه عن الكفّار المذكورين في أوّل الآية، فقال: وَ ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ «من» مزيدة للاستغراق مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ للتبعيض «1»، أي: ما يظهر لهم دليل قطّ من الأدلّة الّتي يجب فيها النظر و بها يحصل الاعتبار، أو معجزة من المعجزات، أو آية من آيات القرآن إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ تاركين للنظر فيه، غير ملتفتين إليه، و لا مستدلّين به.

فَقَدْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ يعني: القرآن الّذي تحدّوا به فعجزوا عنه.

و هو كاللازم ممّا قبله، كأنّه قيل: إنّهم لمّا كانوا معرضين عن الآيات كلّها كذّبوا به لمّا جاءهم. أو كالدليل عليه، على معنى: أنّهم لمّا أعرضوا عن القرآن و كذّبوا به و هو أعظم الآيات، فكيف لا يعرضون عن غيره؟! و لذلك رتّب عليه بالفاء.

______________________________

(1) أي: «من» الثانية في قوله تعالى: «من آيات».

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 361

فَسَوْفَ يَأْتِيهِمْ أَنْباءُ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي: سيظهر لهم أخبار الشي ء الّذي كانوا به يستهزؤن، و هو القرآن. يعني: سيعلمون بأيّ شي ء استهزؤا، و سيظهر لهم أنّه لم يكن بموضع الاستهزاء، و ذلك عند نزول العذاب بهم في الدنيا و الآخرة، أو عند ظهور الإسلام و ارتفاع أمره و علوّ كلمته.

[سورة الأنعام (6): آية 6]

أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ وَ أَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ مِدْراراً وَ جَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (6)

ثمّ حذّرهم سبحانه ما نزل بالأمم قبلهم، فقال: أَ لَمْ يَرَوْا ألم ير كفّار قريش

كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ أي: من أهل زمان مقترنين في وقت. و القرن مدّة أغلب أعمار الناس. و هي سبعون سنة. و قيل: ثمانون. و قيل: القرن أهل عصر فيه نبيّ أو فائق في العلم، قلّت المدّة أو كثرت. و اشتقاقه من: قرنت.

مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ جعلنا لهم فيها مكانا، أو قرّرناهم فيها، أو أعطيناهم من القوى و الآلات ما تمكّنوا بها من أنواع التصرّف فيها ما لَمْ نُمَكِّنْ لَكُمْ ما لم نجعل لكم يا أهل مكّة، من البسطة في الأجسام، و السعة في الأموال، و العبيد و الخدم، و الولاية، و طول المقام. أو ما لم نعطكم من القوّة و السعة في المال، و الاستظهار بالعدد و الأسباب، و أنتم تسمعون أخبارهم، و ترون ديارهم و آثارهم.

عدل عن الغيبة إلى الخطاب على طريقة الالتفات.

وَ أَرْسَلْنَا السَّماءَ عَلَيْهِمْ أي: المطر، أو السحاب، أو المظلّة، فإنّ مبدأ المطر منها مِدْراراً مغزارا وَ جَعَلْنَا الْأَنْهارَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمْ فعاشوا في

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 362

الخصب و الريف بين الأنهار و الثمار فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ أي: لم يغن ذلك عنهم شيئا من مقدّمة الإهلاك وَ أَنْشَأْنا و أحدثنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ أمّة اخرى بدلا منهم.

و المعنى: أنّه تعالى كما قدر على أن يهلك من قبلكم كعاد و ثمود، و ينشئ مكانهم آخرين يعمّر بهم بلادهم، يقدر أن يفعل ذلك بكم.

و فيه دلالة صريحة على أنّه سبحانه لا يتعاظمه أن يفني عالما و ينشئ عالما آخر، لقوله: وَ لا يَخافُ عُقْباها «1». ففيه احتجاج على منكري البعث.

[سورة الأنعام (6): الآيات 7 الى 9]

وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَ قالُوا لَوْ

لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً لَقُضِيَ الْأَمْرُ ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ (8) وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلاً وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ (9)

روي أنّ نضر بن الحارث و عبد اللّه بن أبي أميّة و نوفل بن خويلد قالوا عنادا:

يا محمّد لن نؤمن لك حتّى تأتينا بكتاب من عند اللّه، و معه أربعة من الملائكة يشهدون عليه أنّه من عند اللّه و أنّك رسوله، فنزلت: وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ مكتوبا في ورق.

و عن ابن عبّاس: كتابا معلّقا من السماء إلى الأرض.

فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ فمسّوه. و تخصيص اللمس لأنّ التزوير لا يقع فيه، فلا يمكنهم

______________________________

(1) الشمس: 15.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 363

أن يقولوا: إنّما سكّرت أبصارنا، فتبقى لهم. و علّة تقييده بالأيدي لدفع التجوّز، فإنّه قد يتجوّز به للفحص، كقوله: وَ أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ «1». فاللمس باليد أبلغ في الإحساس من المعاينة. لَقالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ تعنّتا و عنادا للحقّ بعد ظهوره.

وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ هلّا أنزل مع محمّد ملك نشاهده يكلّمنا أنّه نبيّ فنصدّقه، كقوله: لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً «2».

وَ لَوْ أَنْزَلْنا مَلَكاً على ما اقترحوه لَقُضِيَ الْأَمْرُ أي: أمر إهلاكهم. هذا جواب لما قالوا، و بيان لما هو المانع ممّا اقترحوه. و المعنى: أنّ الملك لو أنزل بحيث عاينوه كما اقترحوا لحقّ إهلاكهم، فإنّ سنّة اللّه جرت بذلك فيمن قبلهم ثُمَّ لا يُنْظَرُونَ بعد نزوله طرفة عين، لأنّهم لا يؤمنون عند مشاهدة تلك الآية الّتي لا شي ء أبين منها، فتقتضي الحكمة استئصالهم.

وَ لَوْ جَعَلْناهُ مَلَكاً لَجَعَلْناهُ رَجُلًا وَ لَلَبَسْنا عَلَيْهِمْ ما يَلْبِسُونَ هذا جواب ثان إن جعل الهاء للمطلوب.

و إن جعل للرسول فهو جواب اقتراح ثان، فإنّهم تارة يقولون: لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ مَلَكٌ و تارة يقولون: لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً «3».

و على الأوّل معناه: و لو جعلنا قرينا لك ملكا يعاينوه. و على الثاني: و لو جعلنا الرسول ملكا لمثّلناه رجلا، كما مثّل جبرئيل في صورة دحية الكلبي، فإنّ القوّة البشريّة لا تقوى على رؤية الملك في صورته، و إنّما رأى الملائكة بعض الأنبياء صلوات اللّه عليهم بقوّتهم القدسيّة.

و قوله: «و للبسنا» جواب محذوف، أي: و لو جعلناه رجلا للبسنا، أي:

______________________________

(1) الجنّ: 8.

(2) الفرقان: 7.

(3) فصّلت: 14.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 364

لخلطنا عليهم ما يخلطون على أنفسهم، فيقولون: ما هذا إلّا بشر مثلكم، فحصل الاشتباه بينهم، و كذّبوه كما كذّبوا محمدا.

[سورة الأنعام (6): الآيات 10 الى 13]

وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (10) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (11) قُلْ لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلْ لِلَّهِ كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (12) وَ لَهُ ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (13)

ثمّ قال سبحانه على سبيل التسلية لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من تكذيب المشركين إيّاه و استهزائهم به: وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ كما استهزئ قومك، فلست بأوّل رسول استهزئ به، و لا هم أوّل أمّة استهزئت برسولها فَحاقَ فأحاط بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ الشي ء المستهزأ الّذي كانوا يستهزؤن به، و هو الحقّ، حيث أهلكوا من أجل الاستهزاء به. و قيل: فأحاط بهم و بال استهزائهم، أو العذاب الّذي

يسخرون من وقوعه.

قُلْ سِيرُوا سافروا فِي الْأَرْضِ ثُمَّ انْظُرُوا بأبصاركم، و تفكّروا بقلوبكم كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ المستهزئين بالرسل من الأمم السالفة، أي: كيف أهلكهم اللّه تعالى بعذاب الاستئصال كي تعتبروا.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 365

و الفرق بينه و بين قوله: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا «1» أنّ السير ثمّة لأجل النظر، لأنّ الفاء للسببيّة، و لا كذلك هاهنا، و لذلك قيل: معناه: إباحة السير للتجارة و غيرها، و إيجاب النظر في آثار الهالكين.

قُلْ تبكيتا لهم لِمَنْ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ خلقا و ملكا قُلْ لِلَّهِ تقريرا لهم، و تنبيها على أنّه المتعيّن للجواب بالاتّفاق، بحيث لا يمكنهم أن يذكروا غيره. و المعنى: هو للّه، لا خلاف بيني و بينكم في ذلك، و لا تقدرون أن تضيفوا شيئا منه إلى غيره.

كَتَبَ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أوجبها على ذاته و التزمها. و المراد بالرحمة ما يعمّ الدارين، و من ذلك الهداية إلى معرفته، و نصب الأدلّة على توحيده، و إنزال الكتب، و الإمهال على الكفر.

لَيَجْمَعَنَّكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ استئناف و قسم للوعيد على إشراكهم و إغفالهم النظر، أي: ليجمعنّكم في القبور مبعوثين إلى يوم القيامة، فيجازيكم على شرككم.

أو ليجمعنّ آخركم إلى أوّلكم قرنا بعد قرن إلى يوم القيامة، أو في يوم القيامة.

و «إلى» بمعنى «في» شائع. و قيل: بدل من الرحمة بدل البعض، فإنّ من رحمته بعثه إيّاكم، و إنعامه عليكم لا رَيْبَ فِيهِ في اليوم، أو الجمع.

الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بتضييع رأس ما لهم، و هو الفطرة الأصليّة و العقل السليم. و موضع الموصول نصب على الذمّ، أو رفع على الخبر، أي: و أنتم الّذين، أو على الابتداء و خبره قوله: فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ و الفاء للدلالة

على أنّ عدم إيمانهم مسبّب عن خسرانهم، فإنّ إبطال العقل باتّباع الحواسّ و الوهم، و الانهماك في التقليد و إغفال النظر، أدّى بهم إلى الإصرار على الكفر، و الامتناع من الايمان.

وَ لَهُ عطف على «للّه» ما سَكَنَ فِي اللَّيْلِ وَ النَّهارِ أي: ما تمكّن من

______________________________

(1) النمل: 69.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 366

السكنى، بمعنى الحلول و النزول، لا من السكون ضدّ الحركة، و منه: سكن الدار و فيها إذا أقام. و يجوز أن يكون من السكون. و المراد: ما سكن فيها و ما تحرّك، فاكتفى بأحد الضدّين عن الآخر، كقوله تعالى سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «1». و المراد الحرّ و البرد. و الأول موافق لقول ابن عباس: و له ما استقرّ في الليل و النهار من خلق. و تعديته ب «في»، كما في قوله: وَ سَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا «2».

و المعنى: ما اشتملا عليه اشتمال الظرف على المظروف. ذكر في الأوّل السماوات و الأرض، و ذكر هنا الليل و النهار. فالأوّل يجمع المكان، و الثاني يجمع الزمان.

و هما ظرفان لجميع الموجودات، من الأجسام و الأعراض.

وَ هُوَ السَّمِيعُ لكلّ مسموع الْعَلِيمُ بكلّ معلوم، فلا يخفى عليه شي ء.

و يجوز أن يكون وعيدا للمشركين على أقوالهم و أفعالهم.

[سورة الأنعام (6): الآيات 14 الى 16]

قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ يُطْعِمُ وَ لا يُطْعَمُ قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (14) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمَهُ وَ ذلِكَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (16)

قيل: إنّ أهل مكّة قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا محمد تركت ملّة قومك، و قد

______________________________

(1)

النحل: 81.

(2) إبراهيم: 45. زبدة التفاسير، ج 2، ص: 367

علمنا أنّه لا يحملك على ذلك إلّا الفقر، فإنّا نجمع لك من أموالنا حتّى تكون من أغنانا، فنزلت: قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَتَّخِذُ وَلِيًّا مالكا و مولى.

و وليّ الشي ء مالكه الّذي هو أولى به من غيره. هذا إنكار لاتّخاذ غير اللّه وليّا، لا لاتّخاذ الوليّ، فلذلك قدّم و أولي همزة الاستفهام، دون الفعل الّذي هو: اتّخذ. و المراد بالوليّ المعبود، لأنّه ردّ لمن دعاه إلى الشرك.

فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مبدعهما. عن ابن عبّاس: ما عرفت معنى: فاطر السماوات و الأرض، حتّى أتاني أعرابيّان يختصمان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي: ابتدأت بحفرها. و جرّه على الصفة للّه، فإنّه بمعنى الماضي.

وَ هُوَ يُطْعِمُ وَ لا يُطْعَمُ يرزق و لا يرزق. و تخصيص الطعام لشدّة الحاجة إليه. و المعنى: أنّ المنافع كلّها من عنده، و لا يجوز عليه الانتفاع، فكيف أشرك بمن هو فاطر السماوات و الأرض ما هو نازل عن رتبة الحيوانيّة؟! قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أي: أمر ربّي أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ أوّل من استسلم لأمر اللّه و رضي بحكمه، أو أوّل من أخلص العبادة للّه من أهل الزمان، لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سابق أمّته في الدين، كقول موسى: سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ «1». وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بترك أمره و ارتكاب نهيه، أو باتّخاذ غيره وليّا، أي: و قيل لي: و لا تكوننّ من أهل الشرك، أي: أمرت بالإسلام، و نهيت عن الشرك. و يجوز عطفه على «قل».

قُلْ إِنِّي أَخافُ قيل: معناه أوقن و أعلم. و قيل: هو من الخوف. إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ

مبالغة اخرى في قطع أطماعهم، و تعريض لهم بأنّهم عصاة مستوجبون للعذاب. و الشرط معترض بين الفعل و المفعول به. و جوابه محذوف دلّ عليه الجملة.

______________________________

(1) الأعراف: 143.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 368

مَنْ يُصْرَفْ عَنْهُ يَوْمَئِذٍ أي: يصرف العذاب عنه. و قرأ حمزة و الكسائي و يعقوب و أبو بكر عن عاصم: يصرف، على أنّ الضمير فيه للّه تعالى و المفعول به محذوف، أو يومئذ بحذف المضاف، أي: عذاب يومئذ. فَقَدْ رَحِمَهُ الرحمة العظمى الّتي هي النجاة، كما تقول: من أطعمته من جوع فقد أحسنت إليه، تريد:

فقد أتممت الإحسان إليه. أو فقد أثابه و أدخله الجنّة، لأنّ من لم يعذّب فلا بدّ أن يثاب. وَ ذلِكَ أي: الصرف أو الرحمة الْفَوْزُ الْمُبِينُ الفوز بالبغية، الظاهر البيّن.

[سورة الأنعام (6): الآيات 17 الى 18]

وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ هُوَ وَ إِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (17) وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (18)

ثمّ بيّن سبحانه أنّه لا يملك النفع و الضرّ إلّا هو، و لا يكشفه سواه ممّا يعبده المشركون، فقال: وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ يصيبك ببليّة، كمرض و فقر فَلا كاشِفَ لَهُ فلا قادر على كشفه إِلَّا هُوَ وَ إِنْ يَمْسَسْكَ بِخَيْرٍ بنعمة، كصحّة و غنى فَهُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ من الخير و الضرّ و غير ذلك قَدِيرٌ لا يقدر أحد على دفع ما يريد لعباده من مكروه أو محبوب، فكان قادرا على حفظه و إدامته، فلا يقدر غيره على دفعه، كقوله تعالى: فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ «1».

وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ تصوير لقهره و علوّه بالغلبة و القدرة، كقوله:

وَ إِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ «2». يريد أنّهم تحت تسخيره و تذليله وَ هُوَ

الْحَكِيمُ في

______________________________

(1) يونس: 107.

(2) الأعراف: 127.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 369

أمره و تدبيره الْخَبِيرُ العالم بكلّ ما يصحّ أن يخبر به، فكان عالما بالعباد و خفايا أحوالهم.

[سورة الأنعام (6): الآيات 19 الى 20]

قُلْ أَيُّ شَيْ ءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً قُلِ اللَّهُ شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ وَ مَنْ بَلَغَ أَ إِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى قُلْ لا أَشْهَدُ قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَ إِنَّنِي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (19) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20)

روي عن الكلبي أنّ أهل مكّة قالوا: يا محمد لقد سألنا عنك اليهود و النصارى فزعموا أن ليس لك عندهم ذكر و لا صفة، فأرنا من يشهد لك أنّك رسول اللّه، فنزلت: قُلْ أَيُّ شَيْ ءٍ أَكْبَرُ شَهادَةً

أراد: أيّ شهيد أكبر شهادة و أصدق. فوضع شيئا مقام شهيد ليبالغ بالتعميم، فإنّ الشي ء أعمّ العامّ، لوقوعه على كلّ ما يصحّ أن يعلم و يخبر عنه، فيقع على القديم و الجسم و العرض و المحال و المعدوم، و لذلك صحّ أن يقال في اللّه عزّ و جلّ: شي ء لا كالأشياء، بمعنى: أنّه معلوم لا كسائر المعلومات الّتي هي الأجسام و الأعراض، و لم يصحّ: جسم لا كالأجسام.

قُلِ اللَّهُ أي: اللّه أكبر شهادة. ثمّ ابتدأ فقال: شَهِيدٌ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ أي:

هو شهيد يشهد لي بالرسالة. و يجوز أن يكون «اللّه شهيد» هو الجواب، لأنّه تعالى إذا كان الشهيد كان أكبر شي ء شهادة.

وَ أُوحِيَ إِلَيَّ هذَا الْقُرْآنُ لِأُنْذِرَكُمْ بِهِ لأخوّفكم بالقرآن من عذاب اللّه.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 370

و اكتفى بذكر الإنذار عن ذكر البشارة. وَ مَنْ بَلَغَ عطف على ضمير المخاطبين، أي: لأنذركم به يا أهل مكّة

و سائر من بلغه من الأسود و الأحمر، أي: من العرب و العجم، أو من الثقلين. أو لأنذركم أيّها الموجودون و من بلغه إلى يوم القيامة. و هو دليل على أنّ أحكام القرآن تعمّ الموجودين وقت نزوله و من بعدهم، و أنّه لا يؤاخذ بها من لم تبلغه.

و

روى الحسن في تفسيره عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «من بلغه أنّي أدعو إلى أن لا إله إلّا اللّه فقد بلغه».

يعني: بلغته الحجّة، و قامت عليه.

و عن سعيد بن جبير: من بلغه القرآن فكأنّما رأى محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و

في تفسير العيّاشي قال أبو جعفر و أبو عبد اللّه عليهما السّلام: «معناه: من بلغ أن يكون إماما من آل محمّد فهو ينذر بالقرآن، كما أنذر به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم» «1».

و على هذا، فيكون قوله: «و من بلغ» في موضع الرفع عطفا على الضمير في «أنذر».

ثمّ قال تقريرا لهم مع إنكار و استبعاد: أَ إِنَّكُمْ لَتَشْهَدُونَ أَنَّ مَعَ اللَّهِ آلِهَةً أُخْرى بعد وضوح الأدلّة، و قيام الحجّة على وحدانيّته تعالى قُلْ لا أَشْهَدُ بما تشهدون قُلْ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ أي: بل اشهد أن لا إله إلّا اللّه وَ إِنَّنِي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ به، يعني: الأصنام.

الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْرِفُونَهُ يعرفون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بحليته المذكورة في التوراة و الإنجيل، و نعته الثابت فيهما، معرفة خالصة واضحة كَما يَعْرِفُونَ أَبْناءَهُمُ بحلاهم و صفاتهم، لا يخفون عليهم، و لا يلتبسون بغيرهم.

الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ من أهل الكتاب الجاحدين و المشركين فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ لتضييعهم ما به يكتسب الإيمان.

روي أنّ عبد اللّه

بن سلام قال: و أيم الّذي يحلف به ابن سلام لأنا بمحمد أشدّ

______________________________

(1) تفسير العيّاشي 1: 356 ح 12 و 13.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 371

معرفة منّي بابني، لأنّي عرفته بما نعته اللّه لنا في كتابنا، فأشهد أنّه هو، فأمّا ابني فإنّي لا أدري ما أحدثت أمّه.

[سورة الأنعام (6): الآيات 21 الى 22]

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (21) وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (22)

ثم بيّن سبحانه ما يلزمهم من التوبيخ و التهجين بالإشراك، فقال: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى اختلق عَلَى اللَّهِ كَذِباً كقولهم: الملائكة بنات اللّه، و هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ كأن كذّبوا بالقرآن و المعجزات، و سمّوها سحرا. و إنّما ذكر «أو» و هم قد جمعوا بين الأمرين، تنبيها على أنّ كلّا منهما وحده بالغ غاية الإفراط في الظلم على النفس. و الاستفهام في معنى الجحد، أي: لا أحد أظلم منه.

إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ لا يفوز الكافرون المتوغّلون في الكفر و الافتراء برحمة اللّه و ثوابه، و لا بالنجاة من النار.

وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ناصبه محذوف، تقديره: و يوم نحشرهم كان كيت و كيت، فترك ليبقى على الإبهام الّذي هو أدخل في التخويف ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا أَيْنَ شُرَكاؤُكُمُ أي: آلهتكم الّتي جعلتموها شركاء للّه تعالى. و قرأ يعقوب:

يحشرهم و يقول بالياء. الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أي: تزعمونهم شركاء، فحذف المفعولان. و المراد من الاستفهام التوبيخ. و يجوز أن يحال بينهم و بين آلهتهم حينئذ، ليفقدوها في الساعة الّتي علّقوا بها الرجاء فيها، فيروا مكان خزيهم و حسرتهم. و يحتمل أن يشاهدوهم، و لكن لمّا لم ينفعوهم فكأنّهم غيّب

عنهم.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 372

و في الآية دلالة واضحة على بطلان الجبر، و على إثبات المعاد، و حشر جميع الخلائق.

[سورة الأنعام (6): الآيات 23 الى 24]

ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ (23) انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (24)

ثمّ بيّن سبحانه جواب القوم عند توجّه التوبيخ إليهم، فقال: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ أي: كفرهم. و المراد عاقبته. يعني: ثمّ لم يكن عاقبة كفرهم الّذي لزموه مدّة أعمارهم، و قاتلوا عليه، و افتخروا به، و قالوا دين آبائنا. إِلَّا أَنْ قالُوا من فرط الحسرة و الدهشة وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ يكذبون و يحلفون عليه، مع علمهم بأنّه لا ينفعهم، و ذلك كأنّ الممتحن ينطق بما ينفعه و بما لا ينفعه من غير تمييز بينهما حيرة و دهشا. ألا تراهم يقولون: رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ «1» و قد أيقنوا بالخلود، و لم يشكّوا فيه. و قالوا: لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ «2» و قد علموا أنّهم لا يقضى عليهم.

و المعنى: جحدوا الكفر و تبرّؤا منه، و حلفوا على الانتفاء من التديّن به، مع علمهم بأنّه لا ينفعهم ذلك القول.

و قيل: المراد من فتنتهم معذرتهم الّتي يتوهّمون أن يتخلّصوا بها، من: فتنت الذهب إذا خلّصته.

و قيل: جوابهم. و إنّما سمّاه فتنة لأنّه كذب، أو لأنّهم قصدوا به الخلاص.

و قرأ ابن كثير و ابن عامر و حفص: لم تكن بالتاء، و فتنتهم بالرفع، على أنّها

______________________________

(1) المؤمنون: 107.

(2) الزخرف: 77.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 373

الاسم. و نافع و أبو عمرو و أبو بكر بالتاء و النصب، على أنّ الاسم «أن قالوا»، و التأنيث للخبر، كقولهم: من كانت أمّك؟ و الباقون بالياء

و النصب.

انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أي: بنفي الشرك عنها. و المراد بالاستفهام التنبيه على التعجيب منهم. و قول من يقول: المعنى: ما كنّا مشركين عند أنفسنا، و ما علمنا أنّا على خطأ في معتقدنا، و حمل قوله: «انْظُرْ كَيْفَ كَذَبُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ» في الدنيا، فتمحّل و تعسّف يخلّ بالنظم. و ما أدري ما يصنع من ذلك تفسيره بقوله تعالى: يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْ ءٍ «1» بعد قوله: وَ يَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ « «2»» فشبّه كذبهم في الآخرة بكذبهم في الدنيا.

و قرأ حمزة و الكسائي: ربّنا بالنصب، على النداء و المدح.

وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ من الشركاء.

[سورة الأنعام (6): الآيات 25 الى 26]

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (25) وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ وَ إِنْ يُهْلِكُونَ إِلاَّ أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ (26)

روي أنّ أبا سفيان و الوليد و النضر و عتبة و شيبة و أبا جهل و أضرابهم اجتمعوا فسمعوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقرأ: فقالوا للنضر يا أبا قتيلة ما يقول؟: فقال: و الّذي

______________________________

(1، 2) المجادلة: 18 و 14. زبدة التفاسير، ج 2، ص: 374

جعلها- أي: الكعبة- بيته ما أدري ما يقول، إلّا أنّه يحرّك لسانه و يقول أساطير الأوّلين، مثل ما حدّثتكم عن القرون الماضية. فقال أبو سفيان: إنّي لأراه حقّا.

فقال: أبو جهل: كلّا فنزلت:

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ

حين تتلو القرآن وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً

أغطية، جمع كنان، و هو ما يستر الشي ء أَنْ يَفْقَهُوهُ كراهة أن يفقهوه وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً يمنع من استماعه. و الأكنّة في القلوب و الوقر «1» في الآذان مثل في نبوّ قلوبهم و سامعتهم عن قبوله و اعتقاد صحّته. و وجه إسناد الفعل إلى ذاته- و هو قوله:

«و جعلنا»- للدلالة على أنّه ثابت فيهم لا يزول عنهم، كأنّهم مجبولون عليه. أو هي حكاية لما كانوا ينطقون به من قولهم: وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ «2». و قد مرّ «3» تحقيق ذلك في أوّل سورة البقرة عند قوله: خَتَمَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ

و قال القاضي أبو عاصم العامري: أصحّ الأقوال فيه ما

روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يصلّي بالليل، و يقرأ القرآن في الصلاة جهرا،

رجاء أن يستمع إلى قراءته إنسان فيتدبّر معانيه و يؤمن به. فكان المشركون إذا سمعوه آذوه، و منعوه عن الجهر بالقراءة. فكان اللّه تعالى يلقي عليهم النوم، أو يجعل في قلوبهم أكنّة ليقطعهم عن مرادهم، و ذلك بعد ما بلغهم ممّا تقوم به الحجّة و تنقطع به المعذرة، و بعد ما علم اللّه سبحانه أنّهم لا ينتفعون بسماعه و لا يؤمنون به، فشبّه إلقاء النوم عليهم بجعل الغطاء على قلوبهم و بوقر آذانهم، لأنّ ذلك كان يمنعهم من التدبّر، كالوقر و الغطاء. و هذا معنى قوله تعالى: وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ

______________________________

(1) و قرت أذنه و قرا: ثقلت أو ذهب سمعه كله و صمت أذنه.

(2) فصلت: 5.

(3) راجع ج 1: 53- 54.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 375

حِجاباً مَسْتُوراً «1». و هو قول أبي علي الجبائي.

و

يحتمل ذلك وجها آخر، و هو أنّه تعالى يعاقب هؤلاء الكفّار الّذين علم أنّهم لا يؤمنون بعقوبات يجعلها في قلوبهم، يكون موانع من أن يفهموا ما يسمعونه.

و يحتمل أيضا أن يكون سمّى الكفر الّذي في قلوبهم كنّا تشبيها و مجازا، و إعراضهم عن تفهّم القرآن و قرا توسّعا، لأنّ مع الكفر و الإعراض لا يحصل الإيمان و الفهم، كما لا يحصلان مع الكنّ و الوقر. و نسب ذلك إلى نفسه، لأنّه الّذي شبّه أحدهما بالآخر، كما يقول أحدنا لغيره إذا أثنى على إنسان و ذكر مناقبه: جعلته فاضلا، و بالضدّ إذا ذكر مقابحه و فسقه يقول: جعلته فاسقا، و كما يقال: جعل القاضي فلانا عدلا، و كلّ ذلك يراد به الحكم عليه بذلك، و الإبانة عن حاله، كما قال الشاعر:

جعلتني باخلا كلّا و ربّ منى إنّي لأسمح كفّا منك في اللزب «2»

و معناه: سمّيتني باخلا.

وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها لفرط عنادهم، و استحكام التقليد فيهم حَتَّى إِذا جاؤُكَ يُجادِلُونَكَ أي: بلغ تكذيبهم الآيات إلى غاية أنّهم جاؤك يجادلونك. و «حتى» هي الّتي تقع بعدها الجمل لا عمل لها. و الجملة قوله: «إذا جاؤك»، و جوابه و هو قوله: يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا ما هذا القرآن إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ فإنّ جعل أصدق الحديث خرافات الأوّلين و أكاذيبهم- كحديث رستم و إسفنديار، و غيره ممّا لا فائدة فيه، و لا طائل تحته، و غير مطابق للواقع- غاية التكذيب. و «يجادلونك» حال لمجيئهم.

و يجوز أن تكون «حتّى» هي الجارّة، و «إذا جاؤك» في موضع الجرّ،

______________________________

(1) الإسراء: 45.

(2) اللزبة: الشدّة و القحط، و جمعها: لزب.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 376

و «يجادلونك» جواب، و «يقول» تفسير له.

و

الأساطير: الأباطيل، و كلّ كلام لا نظام له. جمع اسطارة و اسطيرة بكسرهما، و اسطورة بالضمّ، و بالهاء في الكلّ. أو جمع أسطار جمع سطر. و أصله السطر بمعنى الخطّ و الكتابة.

وَ هُمْ يَنْهَوْنَ عَنْهُ أي: ينهون الناس عن استماع القرآن، أو الرسول و الإيمان به. وَ يَنْأَوْنَ عَنْهُ و يتباعدون عنه بأنفسهم فرارا منه، فيضلّون و يضلّون. وَ إِنْ يُهْلِكُونَ و ما يهلكون بذلك إِلَّا أَنْفُسَهُمْ وَ ما يَشْعُرُونَ أنّ ضرره لا يتعدّى إلى غيرهم، و إن كانوا يظنّون أنّهم يضرّون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. هكذا قال ابن عبّاس و محمّد بن الحنفيّة و الحسن و السّدي و قتادة و مجاهد في تفسيره. و اختاره الجبائي.

و قال عطاء و مقاتل من العامّة: إنّ المراد به أبو طالب بن عبد المطّلب، لأنّه كان ينهى قريشا عن التعرّض لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ينأى عنه، فلا يؤمن به. فمعناه:

يمنعون الناس عن أذى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لا يتّبعونه بالإيمان.

و هذا لا يصحّ، لأنّ هذه الآية معطوفة على ما تقدّمها، و ما تأخّر عنها معطوف عليها، و كلّها في ذمّ الكفّار المعاندين للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. هذا و قد ثبت إجماع أهل البيت عليهم السّلام على إيمان أبي طالب، و إجماعهم حجّة، لأنّهم أحد الثقلين اللّذين أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالتمسّك بهما

بقوله: «إن تمسّكتم بهما لن تضلّوا».

و يدلّ على ذلك أيضا ما

رواه ابن عمر أنّ أبا بكر جاء بأبيه أبي قحافة يوم الفتح إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ألا تركت الشيخ فآتيه؟ و كان أعمى. فقال أبو بكر: أردت أن يأجره اللّه، و الّذي بعثك بالحقّ لأنا كنت بإسلام أبي طالب أشدّ فرحا منّي بإسلام أبي، ألتمس بذلك قرّة عينك. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: صدقت.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 377

و روى الطبري «1» بإسناده: «أنّ رؤساء قريش لمّا رأوا ذبّ أبي طالب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اجتمعوا عليه، و قالوا: جئناك بفتى قريش جمالا وجودا و شهامة عمارة بن الوليد ندفعه إليك، و تدفع إلينا ابن أخيك الّذي فرّق جماعتنا و سفّه أحلامنا فنقتله. فقال أبو طالب: ما أنصفتموني، تعطونني ابنكم فأغذوه، و أعطيكم ابني فتقتلونه! بل فليأت كلّ امرئ منكم بولده فأقتله. و قال:

منعنا الرسول رسول المليك ببيض تلألأ كلمح البروق

أذود و أحمي رسول المليك حماية حام عليه شفيق

و أقواله و أشعاره المنبئة عن إسلامه كثيرة مشهورة لا تحصى، فمن ذلك قوله:

ألم تعلموا أنّا وجدنا محمدانبيّا كموسى خطّ في أوّل الكتب

و منه:

ألا إنّ أحمد قد جاءهم بحقّ و لم يأتهم بالكذب

و قوله حين يحضّ أخاه حمزة على اتّباع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الصبر في طاعته:

صبرا أبا يعلى على دين أحمد «2» ... إلى قوله

.... فكن لرسول اللّه في اللّه ناصرا و قوله في قصيدته:

أقيم على نصر النبيّ محمدأقاتل عنه بالقنا «3» و القنابل

______________________________

(1) تاريخ الطبري 2: 326- 327.

(2) تمام البيت:

و كن مظهرا للدين وفّقت صابرا

فقد سرّني إذ قلت إنّك مؤمن فكن لرسول ...........

(3) القنا جمع القناة: الرمح. و القنابل جمع القنبلة: الطائفة من الناس أو الخيل.

زبدة التفاسير،

ج 2، ص: 378

و قوله يحضّ النجاشي على نصر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

تعلّم مليك الحبش أنّ محمداوزير لموسى و المسيح بن مريم

أتى بهدى مثل الّذي أتيا به و كلّ بأمر اللّه يهدي و يعصم

و إنّكم تتلونه في كتابكم بصدق حديث لا حديث المرجّم

فلا تجعلوا للّه ندّا و أسلمواو أنّ طريق الحقّ ليس بمظلم

و قوله في وصيّته و قد حضرته الوفاة:

أوصي بنصر النبيّ الخير مشهده عليّا ابني و شيخ القوم عبّاسا

و حمزة الأسد الحامي حقيقته و جعفرا أن يذودا دونه الناسا

و أمثال هذه الأبيات ممّا هو موجود في قصائده المشهورة و وصاياه و خطبه، يطول بها الكتاب.

[سورة الأنعام (6): الآيات 27 الى 28]

وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ وَ لا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (27) بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (28)

ثمّ بيّن سبحانه ما ينال هؤلاء الكفّار يوم القيامة من الحسرة و تمنّي الرجعة، فقال: وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلَى النَّارِ حتّى يعاينوها أو يطّلعون عليها اطّلاعا هي تحتهم. و جوابه محذوف، أي: لو تراهم حين يوقفون على النار لرأيت أمرا شنيعا.

و قيل: معناه: ادخلوها فعرفوا مقدار عذابها، مأخوذا من قولك: وقفته على كذا، إذا عرّفته و فهّمته.

فَقالُوا يا لَيْتَنا نُرَدُّ تمنّيا للرجوع إلى الدنيا وَ لا نُكَذِّبَ بِآياتِ رَبِّنا وَ نَكُونَ

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 379

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وعد منهم بالإيمان، كأنّهم قالوا: و نحن لا نكذّب و نؤمن، استئنافا منهم على وجه الإثبات. و شبّهه سيبويه بقولهم: دعني و لا أعود، أي و أنا لا أعود، تركتني أو لم تتركني.

و يجوز أن يكون

معطوفا على «نردّ»، أو حال من الضمير فيه، فيكون في حكم التمنّي. و حينئذ قوله: «وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ» راجع إلى ما تضمّنه التمنّي من الوعد، فيجوز أن يتعلّق به التكذيب. فلا يرد أن التمنّي لا يكون كاذبا فكيف يتعلّق به التكذيب؟ و هذا كما يقول الرجل: ليت اللّه يرزقني مالا فأحسن إليك و أكافئك على صنيعك. فهذا متمنّى في معنى الوعد. فلو رزق مالا و لم يحسن إلى صاحبه و لم يكافئه كذب، كأنّه قال: إن رزقني اللّه مالا كافأتك على الإحسان.

و نصبهما حمزة و يعقوب و حفص على الجواب، بإضمار «أن» بعد الواو، إجراء لها مجرى الفاء. و معناه: إن رددنا لم نكذّب و نكن من المؤمنين. و قرأ ابن عامر برفع الأوّل على العطف، و نصب الثاني على الجواب.

بَلْ بَدا لَهُمْ ما كانُوا يُخْفُونَ مِنْ قَبْلُ إضراب عن إرادة الإيمان المفهومة من التمنّي. و المعنى: أنّه، ظهر لهم ما كانوا يخفون من الناس من قبائح أعمالهم في صحفهم، و بشهادة جوارحهم عليهم، فلذلك تمنّوا ذلك ضجرا، لا أنّهم عازمون على أنّهم لو ردّوا لآمنوا.

قيل: هو في المنافقين، أي: يظهر نفاقهم الّذي كانوا يسرّونه.

و قيل: هو في أهل الكتاب، أي: يظهر لهم ما كانوا يخفونه من صحّة نبوّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

وَ لَوْ رُدُّوا أي: إلى الدنيا بعد الوقوف على النار و ظهور ما كانوا يخفون لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ من الكفر و المعاصي وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فيما وعدوا به من أنفسهم، لا يؤمنون به.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 380

[سورة الأنعام (6): الآيات 29 الى 32]

وَ قالُوا إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (29) وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ قالَ

أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَ رَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (30) قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً قالُوا يا حَسْرَتَنا عَلى ما فَرَّطْنا فِيها وَ هُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (31) وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ لَلدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (32)

ثمّ أخبر سبحانه عن الكفّار، و إنكارهم البعث و النشور و الحشر و الحساب، فقال: وَ قالُوا عطف على «لعادوا» أي: و لو ردّوا لكفروا و لقالوا. أو على «أنّهم لكاذبون» على معنى: و أنّهم لقوم كاذبون في كلّ شي ء، و هم الّذين قالوا. أو على «نهوا». أو استئناف بذكر ما قالوه في الدنيا. إِنْ هِيَ ما الحياة إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا عنوا بذلك أنّه لا حياة في الآخرة، و إنّما هي هذه الّتي حيينا بها في الدنيا وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ لسنا مبعوثين بعد الموت، أي: قالوا ذلك كما كانوا يقولون قبل معاينة القيامة.

وَ لَوْ تَرى إِذْ وُقِفُوا عَلى رَبِّهِمْ مجاز عن الحبس للسؤال و التوبيخ، كما يوقف العبد الجاني بين يدي مولاه ليعاتبه. و قيل: معناه: وقفوا على قضاء ربّهم أو جزائه، أو عرّفوه حقّ التعريف، كما يقال: وقفته على كلام فلان، أي: عرّفته إيّاه.

قالَ أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِ كأنّه جواب قائل قال: ماذا قال ربّهم حينئذ؟ و الهمزة

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 381

للتقريع على التكذيب بالبعث، و الإشارة إلى البعث و ما يتبعه من الثواب و العقاب قالُوا بَلى هو حقّ وَ رَبِّنا أكّدوا اعترافهم به و أقرّوا به باليمين لانجلاء الأمر غاية الجلاء قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بسبب كفركم، أو

ببدله. و إنّما قال: «ذوقوا» لأنّهم في كلّ حال يجدون ذلك وجدان الذائق المذوق في شدّة الاحساس.

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ إذ فاتهم النعيم، و استوجبوا العذاب المقيم.

و المراد لقاء ما وعد اللّه به من البعث و ما يتبعه من الثواب و العقاب. و جعل لقاءهم لذلك لقاء له تعالى مجازا. و هذا منقول عن ابن عبّاس و الحسن.

حَتَّى إِذا جاءَتْهُمُ السَّاعَةُ غاية ل «كذّبوا» لا ل «خسر» لأنّ خسرانهم لا غاية له بَغْتَةً فجأة من غير أن علموا وقتها. و نصبها على الحال، بمعنى باغتة، أو المصدر، فإنّها نوع المجي ء، كأنّه قيل: بغتتهم الساعة بغتة. و لمّا كان الموت وقوعا في أحوال الآخرة و مقدّماتها جعل من جنس الساعة، و سمّي باسمها، و لذلك

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من مات فقد قامت قيامته».

أو جعل مجي ء الساعة بعد الموت لسرعته كالواقع بغير فترة، فتحسّرهم عند موتهم لا ينافي هذه الغاية.

قالُوا عند معاينة ذلك اليوم و أهواله، و تباين أحوال أهل الثواب و العقاب يا حَسْرَتَنا أي: تعالي فهذا أوانك عَلى ما فَرَّطْنا قصّرنا فِيها في الحياة الدنيا، أضمرت و إن لم يجر ذكرها للعلم بها. أو في الساعة، يعني: في شأنها و الإيمان بها، كما تقول: فرّطت في فلان، و منه: فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ «1». وَ هُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ تمثيل لاستحقاقهم أثقال الآثام. و هو مثل قوله:

______________________________

(1) الزمر: 56.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 382

فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ «1» لأنّ الأثقال تحمل على الظهور في العادة، كما أنّ الكسب يكون في الأيدي.

روي أنّ المؤمن إذا خرج من قبره استقبله أحسن شي ء صورة و أطيبه ريحا فيقول: أنا عملك

الصالح طال ما ركبتك في الدنيا فاركبني أنت اليوم

، فذلك قوله:

يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً «2» أي: ركبانا. و أنّ الكافر إذا خرج من قبره استقبله أقبح شي ء صورة و أخبثه ريحا فيقول: أنا عملك السيّ ء طال ما ركبتني في الدنيا فأنا أركبك اليوم، و ذلك قوله: «وَ هُمْ يَحْمِلُونَ أَوْزارَهُمْ عَلى ظُهُورِهِمْ». أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ بئس شيئا يزرونه وزرهم، بحذف المخصوص بالذمّ.

وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا و ما أعمالها إِلَّا لَعِبٌ و هو الّذي لا يعقّب نفعا وَ لَهْوٌ و ما يلهي الناس و يشغلهم عمّا يعقّب منفعة دائمة و لذّة حقيقيّة. و هو جواب لقولهم: «إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا».

وَ لَلدَّارُ الْآخِرَةُ و ما فيها من أنواع النعيم خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ لدوامها و خلوص منافعها و لذّاتها. و قوله: «لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ» تنبيه على أنّ ما سوى أعمال المتّقين لعب و لهو. و قرأ ابن عامر: و لدار الآخرة. تقديره: و لدار الساعة الآخرة.

أَ فَلا تَعْقِلُونَ أيّ الأمرين خير.

و قرأ نافع و ابن عامر و حفص عن عاصم و يعقوب بالتاء، على خطاب المخاطبين به، أو تغليب الحاضرين على الغائبين.

و في الآية تسلية للفقراء بما حرموا من متاع الدنيا، و تقريع للأغنياء إذا ركنوا إلى حطامها، و لم يعملوا لغيرها.

______________________________

(1) الشورى: 30.

(2) مريم: 85.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 383

[سورة الأنعام (6): الآيات 33 الى 34]

قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (33) وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَ أُوذُوا حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا وَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ وَ لَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ (34)

ثمّ سلّى سبحانه نبيّه على تكذيبهم إيّاه بعد إقامة الحجّة عليهم، فقال:

قَدْ نَعْلَمُ إِنَّهُ لَيَحْزُنُكَ الَّذِي يَقُولُونَ معنى «قد» زيادة الفعل و كثرته، كقوله «1»:

و لكنّه قد يهلك المال نائله.

فهو هاهنا بمنزلة «ربّما» الّذي يجي ء لزيادة الفعل و كثرته. و الهاء في «أنّه» للشأن. و قرأ نافع: ليحزنك من: أحزن. و «الّذي يقولون» هو قولهم: شاعر و مجنون و ساحر و كذّاب.

فَإِنَّهُمْ لا يُكَذِّبُونَكَ في الحقيقة، و إنّما يكذّبون اللّه، لأنّك رسوله المصدّق بالمعجزات، فتكذيبك راجع إليه و إلى جحود آياته. و نحوه قول السيّد لعبده إذا أهانه بعض الناس: إنّهم لم يهينوك، و إنّما أهانوني. و من هذه الطريقة قوله: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ «2». و قيل: معناه: فإنّهم لا يكذّبونك بقلوبهم،

______________________________

(1) من قصيدة لزهير بن أبي سلمى، صدر البيت:

أخو ثقة لا تهلك الخمر ماله

(2) الفتح: 10.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 384

و لكنّهم يجحدون بألسنتهم، كقوله تعالى: وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ «1».

و قرأ نافع و الكسائي: لا يكذبونك، من: أكذبه، إذا وجده كاذبا أو نسبه إلى الكذب.

وَ لكِنَّ الظَّالِمِينَ بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ و لكنّهم يجحدون بآيات اللّه و يكذبونها. فوضع الظالمين موضع الضمير، للدلالة على أنّهم ظلموا بجحودهم، أو جحدوا لتمرّنهم على الظلم. و الباء لتضمين الجحود معنى التكذيب.

و

عن ابن عبّاس: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يسمّى الأمين، فعرفوا أنّه لا يكذب في شي ء، و لكنّهم كانوا يجحدون.

و

روي أنّ الأخنس بن شريق قال لأبي جهل: يا أبا الحكم أخبرني عن محمد صادق هو أم كاذب؟ فإنّه ليس هاهنا أحد غيري و غيرك يسمع كلامنا.

فقال: و يحك و اللّه إنّ محمدا صادق، و ما كذب قطّ، و لكن إذا ذهب بنو قصيّ باللواء و السقاية «2» و

الحجابة و النبوّة فما ذا يكون لسائر قريش؟

و

روى سلام بن مسكين، عن أبي بريد المدني، أنّ رسول اللّه لقي أبا جهل فصافحه أبو جهل، فقيل له في ذلك، فقال: و اللّه إنّي لأعلم أنّه صادق، و لكنّا متى كنّا تبعا لعبد مناف؟ فأنزل اللّه تعالى الآية.

ثمّ قال لمزيد تسلية: وَ لَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ و فيه دليل على أنّ قوله:

«لا يُكَذِّبُونَكَ» ليس لنفي تكذيبه، بل تكذيب مرسله، و هو اللّه تعالى، كما مرّ.

فَصَبَرُوا عَلى ما كُذِّبُوا وَ أُوذُوا على ما نالهم منهم من التكذيب و الأذى في أداء الرسالة، فتأسّ بهم و اصبر حَتَّى أَتاهُمْ نَصْرُنا إيّاهم على المكذّبين. و فيه إيماء بوعد النصر للصابرين. وَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ لمواعيده من قوله:

______________________________

(1) النمل: 14.

(2) في هامش النسخة الخطية: «السقاية: حياض من أدم، يسقون الحاج منها. و الحجابة:

سدنة الكعبة. منه».

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 385

وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ «1» الآيات. وَ لَقَدْ جاءَكَ مِنْ نَبَإِ الْمُرْسَلِينَ أي: بعض قصصهم و ما كابدوا من قومهم.

[سورة الأنعام (6): الآيات 35 الى 36]

وَ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ إِعْراضُهُمْ فَإِنِ اسْتَطَعْتَ أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ (35) إِنَّما يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ يَسْمَعُونَ وَ الْمَوْتى يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ ثُمَّ إِلَيْهِ يُرْجَعُونَ (36)

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يعظم عليه إعراض قومه عن الإيمان و قبول دينه، فنزلت: وَ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكَ

عظم و شقّ إِعْراضُهُمْ عنك و عن الإيمان بما جئت به فَإِنِ اسْتَطَعْتَ قدرت و تهيّأ لك أَنْ تَبْتَغِيَ نَفَقاً فِي الْأَرْضِ أن تطلب سربا و منفذا تنفذ فيه

إلى ما تحتها، فتطلع لهم آية يؤمنون عندها أَوْ سُلَّماً فِي السَّماءِ أو مصعدا تصعد إلى السماء فَتَأْتِيَهُمْ بِآيَةٍ أي بآية ملجئة إلى إيمانهم فافعل، أي: انّك لا تستطيع ذلك. و حذف جواب «إن».

و «في الأرض» صفة ل «نفقا»، و «في السماء» صفة ل «سلّما». و يجوز أن يكونا متعلّقين ب «تبتغي» أو حالين من المستكن. و الجملة الشرطيّة مع جوابها المحذوف جواب الشرط الأوّل.

و المقصود بيان حرصه البالغ على إسلام قومه، و أنّه لو قدر أن يأتيهم بآية

______________________________

(1) الصافات: 171.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 386

من تحت الأرض أو من فوق السماء لأتى بها رجاء إيمانهم.

وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَمَعَهُمْ عَلَى الْهُدى بأن يأتيهم بآية ملجئة، و لكن لم يفعل، لخروجه عن الحكمة، فإنّ الإلجاء مناف للتكليف الّذي هو مناط للعبادة. فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْجاهِلِينَ من الّذين يجهلون ذلك، و يرومون ما هو خلافه. أو من الجهلة بالحرص على ما لا يكون، و الجزع في مواطن الصبر، فإنّ ذلك من دأب الجهلة.

و المراد: لا تجزع و لا تتحسّر لكفرهم و إعراضهم عن الإيمان. و غلّظ الخطاب تبعيدا و زجرا عن هذه الحال.

إِنَّما يَسْتَجِيبُ أي: ما يجيب الإيمان إلّا الَّذِينَ يَسْمَعُونَ بفهم و تأمّل، و يصغون إليك و إلى ما تقرأ عليهم من القرآن فينقادون له، كقوله: أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ «1». و هؤلاء الكفّار الّذين تحرص على إيمانهم كالموتى الّذين لا يسمعون، فكما أيست أن تسمع الموتى كلامك إلى أن يبعثهم اللّه، فكذلك آيس من هؤلاء أن يستجيبوا لك. وَ الْمَوْتى أي: الّذين كالموتى في عدم الإصغاء لجاجا يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ من القبر، فيعلمهم حين لا ينفعهم الايمان ثُمَّ إِلَيْهِ إلى جزائه يُرْجَعُونَ فحينئذ يسمعون

و إن لم ينفعهم، و أمّا قبل ذلك فلا سبيل إلى إسماعهم.

[سورة الأنعام (6): آية 37]

وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (37)

ثمّ عاد إلى حكاية أقوال الكفّار، فقال عاطفا على ما تقدّم: وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ بمعنى: أنزل عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ أي: آية ممّا اقترحوه، أو آية أخرى سوى ما أنزل من الآيات المتكاثرة، لعدم اعتدادهم بها عنادا.

______________________________

(1) ق: 37.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 387

قُلْ إِنَّ اللَّهَ قادِرٌ عَلى أَنْ يُنَزِّلَ آيَةً ممّا اقترحوه، أو آية تضطرّهم إلى الإيمان كنتق الجبل، أو آية إن جحدوها هلكوا وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أنّ اللّه قادر على إنزالها، و أنّ الصارف من الحكمة يصرفه عن إنزالها، و أنّ إنزالها يستجلب عليهم البلاء، و أنّ لهم فيما أنزل مندوحة عن غيره. و قرأ ابن كثير: ينزل بالتخفيف.

و المعنى واحد.

[سورة الأنعام (6): آية 38]

وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ إِلاَّ أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ ما فَرَّطْنا فِي الْكِتابِ مِنْ شَيْ ءٍ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ (38)

و لمّا بيّن سبحانه أنّه قادر على أن ينزل آية، عقّبه بذكر ما يدلّ على كمال قدرته و حسن تدبيره و حكمته، فقال: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ تدبّ على وجهها وَ لا طائِرٍ يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ في الهواء. وصفه به قطعا لمجاز السرعة و نحوها.

و في الكشّاف «1»: فائدة ذكر قوله: «في الأرض» و قوله: «يطير بجناحيه» زيادة التعميم و الإحاطة، كأنّه قيل: و ما من دابّة قطّ في جميع الأرضين السبع، و ما من طائر قطّ في جوّ السماء، و من جميع ما يطير بجناحيه إِلَّا أُمَمٌ أَمْثالُكُمْ محفوظة أحوالها، مقدّرة أرزاقها و آجالها، كما كتبت أرزاقكم و آجالكم و أعمالكم.

و

قيل: أشباهكم في أنّ اللّه أبدعها، و في دلالتها على وحدانيّته، و في أنّهم يموتون و يحشرون. و جمع الأمم للحمل على المعنى، فإنّ النكرة في سياق النفي مفيدة للاستغراق، مغن أن يقال: و ما من دوابّ و لا طير. و المقصود من ذلك الدلالة على كمال قدرته، و شمول علمه، وسعة تدبيره في تلك الخلائق المتقاربة الأجناس المتكاثرة الأصناف، و حفظه لما لها و عليها، و اطّلاعه على أحوالها، لا يشغله شأن

______________________________

(1) الكشّاف 2: 21.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 388

عن شأن، و على أنّ المكلّفين ليسوا بمخصوصين بذلك دون من عداهم من سائر الحيوان. فالآية كالدليل على أنّه قادر على أن ينزّل آية.

ما فَرَّطْنا ما تركنا و ما أغفلنا فِي الْكِتابِ يعني: اللوح المحفوظ مِنْ شَيْ ءٍ من الأرزاق و الآجال و الأعمال و غير ذلك، فإنّه مشتمل على ما يجري في العالم من جليل و دقيق، لم يهمل فيه أمر حيوان و لا جماد.

و قيل: المراد به القرآن، فإنّه قد دوّن فيه ما يحتاج إليه من أمر الدين مجملا أو مفصّلا. و «من» زائدة، و «شي ء» في موضع المصدر لا المفعول به، فإنّ «فرّط» لا يتعدّى بنفسه، و قد عدّي ب «في» إلى الكتاب.

ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ يُحْشَرُونَ يعني: الأمم كلّها، فينصف بعضها من بعض، كما روي أنّه يأخذ للجمّاء «1» من القرناء. و عن ابن عبّاس حشرها موتها.

[سورة الأنعام (6): آية 39]

وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌّ وَ بُكْمٌ فِي الظُّلُماتِ مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ وَ مَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (39)

و بعد ذكر آثار قدرته، و بيان ما يشهد لربوبيّته، و ينادي على عظمته، بيّن حال المتمرّدين المعاندين بقوله: وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا صُمٌ أي: لا

يسمعون مثل هذه الآيات الدالّة على ربوبيّته و كمال علمه و عظم قدرته، سماعا تتأثّر به نفوسهم وَ بُكْمٌ لا ينطقون بالحقّ فِي الظُّلُماتِ خبر ثالث، أي: خابطون في ظلمات الكفر، أو في ظلمة الجهل، و ظلمة العناد، و ظلمة التقليد. و يجوز أن يكون حالا من المستكن في الخبر.

مَنْ يَشَأِ اللَّهُ يُضْلِلْهُ أي: يخذله و يخلّه، فلا يلطف له، لأنّه ليس من أهل

______________________________

(1) أي: ينتقم من العنزة القرناء- و هي التي لها قرن- للجمّاء، و هي التي لا قرن لها.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 389

اللطف. و هم الّذين وضح لهم طريق الحقّ فأعرضوا عنها عنادا و لجاجا و إنكارا.

وَ مَنْ يَشَأْ يَجْعَلْهُ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي: يلطف به، لأنّ اللطف يجدي أهل الاستصواب و الاسترشاد.

[سورة الأنعام (6): الآيات 40 الى 41]

قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ أَ غَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (40) بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ إِنْ شاءَ وَ تَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ (41)

ثم أمر سبحانه نبيّه بمحاجّة الكفّار، فقال: قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ استفهام تعجيب.

و الكاف حرف الخطاب أكّد به الضمير للتأكيد، لا محلّ له من الإعراب، لأنّك تقول: أ رأيتك زيدا ما شأنه؟ فلو جعلت الكاف مفعولا- كما قاله الكوفيّون- لعدّيت الفعل إلى ثلاثة مفاعيل، و ذلك فاسد، و للزم في الآية أن يقال: أ رأيتموكم.

بل الفعل معلّق، أو المفعول محذوف، تقديره: أ رأيتكم آلهتكم تنفعكم إذ تدعونها.

و المعنى: أخبروني.

إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ في الدنيا كما أتى من قبلكم أَوْ أَتَتْكُمُ السَّاعَةُ و هولها، و يدلّ عليه أَ غَيْرَ اللَّهِ تَدْعُونَ أي: أ تخصّون آلهتكم بالدعوة فيما هو عادتكم إذا أصابكم ضرّ، أم تدعون اللّه دونها، أو تخصّون اللّه دونها؟!

و هذا تبكيت لهم إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنّ الأصنام آلهة. و جوابه محذوف، أي: فادعوه.

بَلْ إِيَّاهُ تَدْعُونَ بل تخصّونه بالدعاء، كما حكى عنهم في مواضع. و تقديم المفعول لإفادة التخصيص. فَيَكْشِفُ ما تَدْعُونَ إِلَيْهِ أي: ما تدعونه إلى كشفه إِنْ شاءَ أن يتفضّل عليكم بكشفه و لم يكن مفسدة وَ تَنْسَوْنَ ما تُشْرِكُونَ و تتركون

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 390

آلهتكم في ذلك الوقت، لما ركز في العقول على أنّه القادر على كشف الضرّ دون غيره. أو تنسونه من شدّة الأمر و هوله.

[سورة الأنعام (6): الآيات 42 الى 45]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَخَذْناهُمْ بِالْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ (42) فَلَوْ لا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا وَ لكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (43) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْ ءٍ حَتَّى إِذا فَرِحُوا بِما أُوتُوا أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ (44) فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (45)

ثمّ أعلم اللّه سبحانه نبيّه حال الأمم الماضية في مخالفة رسله، و بيّن حال هؤلاء إذا سلكوا طريق المخالفة كحالهم في نزول العذاب بهم، فقال: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ أي: قبلك. و «من» زائدة للتأكيد. فَأَخَذْناهُمْ أي: فكفروا و كذّبوا المرسلين فأخذناهم بِالْبَأْساءِ بالشدّة و الفقر، من البأس أو البؤس وَ الضَّرَّاءِ و الضرّ و الآفات. و قيل: البأساء من القحط و الجوع، و الضرّاء: المرض و نقصان الأنفس و الأموال. و المراد: أخذناهم بالبليّات في أنفسهم و أموالهم. و هما صيغتا تأنيث لا مذكّر لهما. لَعَلَّهُمْ يَتَضَرَّعُونَ لكي يتذلّلوا لنا، و يتوبوا عن ذنوبهم.

فَلَوْ لا حرف التحضيض، أي: فهلّا إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا تَضَرَّعُوا معناه:

نفي تضرّعهم في

ذلك الوقت، كأنّه قيل: و لم يتضرّعوا إذ جاءهم بأسنا مع قيام ما

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 391

يدعوهم. و لكنّه جاء ب «لولا» ليدلّ على أنّه لم يكن له عذر في ترك التضرّع إلّا عنادهم و قسوة قلوبهم، و إعجابهم بأعمالهم الّتي زيّنها الشيطان لهم، كما قال:

وَ لكِنْ قَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ ما كانُوا يَعْمَلُونَ استدراك على المعنى، و بيان للصارف لهم عن التضرّع، و أنّه لا مانع لهم إلّا قساوة قلوبهم، و إعجابهم بأعمالهم الّتي زيّنها الشيطان لهم.

و في هذا حجّة على من قال: إنّ اللّه لم يرد من الكافر إيمانا، لأنّه سبحانه بيّن أنّه إنّما فعل ذلك بهم ليتضرّعوا، و بيّن أنّ الشيطان هو الّذي زيّن الكفر للكافر، بخلاف ما قالت المجبّرة من أنّه سبحانه هو المزيّن لهم ذلك.

فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أي: تركوا ما وعظوا به من البأساء و الضرّاء، و لم يتّعظوا به فَتَحْنا عَلَيْهِمْ أَبْوابَ كُلِّ شَيْ ءٍ من أنواع النعم، امتحانا لهم بالصحّة و التوسعة بعد السقم و النقم، إلزاما للحجّة و إزاحة للعلّة، كما يفعل الوالد البارّ بولده العاقّ المخاشنة تارة و الملاطفة أخرى، لصلاحه. أو مكرا بهم، لما

روي أنّه عليه السّلام قال: مكر بالقوم و ربّ الكعبة.

و قرأ ابن عامر: فتّحنا بالتشديد في جميع القرآن. و وافقه يعقوب فيما عدا هذا و الّذي في الأعراف «1».

حَتَّى إِذا فَرِحُوا أعجبوا بِما أُوتُوا من النعم، و اشتغلوا بالتلذّذ، و أظهروا البطر بما أعطوه، و لم يروه نعمة من اللّه ليشكروه أَخَذْناهُمْ بَغْتَةً مفاجأة من حيث لا يشعرون فَإِذا هُمْ مُبْلِسُونَ آيسون من النجاة و الرحمة، متحسّرون منقطعوا الحجّة.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إذا رأيت

اللّه يعطي على المعاصي فإنّ ذلك استدراج منه، ثمّ تلا هذه الآية».

______________________________

(1) الأعراف: 96.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 392

و نحوه ما

روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «يا ابن آدم إذا رأيت ربّك يتابع عليك نعمه فاحذره».

فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أي: آخرهم، بحيث لم يبق منهم أحد، فلم يبق لهم عقب و لا نسل، من: دبره دبرا و دبورا، إذا تبعه وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ على إهلاكهم و إعلاء كلمته، فإنّ إهلاك الكفّار و العصاة- من حيث إنّه تخليص لأهل الأرض من شؤم عقائدهم و أعمالهم- نعمة جليلة يحقّ أن يحمد عليها. و فيه إيذان بوجوب الحمد للّه عند هلاكه للظلمة، فإنّه من أجلّ النعم.

و

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «من أحبّ بقاء الظالمين فقد أحبّ أن يعصى اللّه، و من أحبّ أن يعصى اللّه فقد بارز اللّه بالعداوة، و إنّ اللّه حمد نفسه على إهلاك الظالمين، فقال: «فَقُطِعَ دابِرُ الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ».

[سورة الأنعام (6): الآيات 46 الى 47]

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَ أَبْصارَكُمْ وَ خَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ (46) قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً أَوْ جَهْرَةً هَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ (47)

ثمّ زاد سبحانه في الاحتجاج عليهم، فقال: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَخَذَ اللَّهُ سَمْعَكُمْ وَ أَبْصارَكُمْ أي: أصمّكم و أعماكم وَ خَتَمَ عَلى قُلُوبِكُمْ بأن يغطّي عليها ما يزول به عقلكم و فهمكم، و يسلب تمييزكم مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِهِ أي: بذلك، إجراء للضمير مجرى اسم الإشارة، أو بما أخذ و ختم عليه، أو بأحد هذه المذكورات.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 393

انْظُرْ

كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ نكرّرها تارة في جهة النعمة، و مرّة في جهة الشدّة، و تارة من جهة الترغيب و الترهيب، و تارة بالتنبيه و التذكير بأحوال المتقدّمين ثُمَّ هُمْ يَصْدِفُونَ يعرضون عنها. و «ثمّ» لاستبعاد الإعراض بعد تصريف الآيات و ظهورها. و إنّما قال: «انظر» لأنّه سبحانه عجب أوّلا من تتابع نعمه عليهم و ضروب دلائله، من تعريف الآيات و أسباب الاعتبار، ثمّ عجب ثانيا من إعراضهم عنها.

و لمزيد التنبيه و المبالغة في رفع الأعذار زاد في الحجاج، فقال: قُلْ أَ رَأَيْتَكُمْ أي: أعلمتم إِنْ أَتاكُمْ عَذابُ اللَّهِ بَغْتَةً من غير ظهور مقدّمة أَوْ جَهْرَةً بتقدمة أمارة تؤذن بحلوله. فمقابلة الجهرة البغتة، لما في البغتة من معنى الخفية.

و قيل: البغتة أن يأتيهم العذاب ليلا، و الجهرة أن يأتيهم نهارا. هَلْ يُهْلَكُ أي: ما يهلك هلاك سخط و تعذيب إِلَّا الْقَوْمُ الظَّالِمُونَ الكافرون الّذين ظلموا بكفرهم و فسادهم. و لمّا كانت «هل» متضمّنة للنفي صحّ الاستثناء المفرّغ منه.

[سورة الأنعام (6): الآيات 48 الى 49]

وَ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ فَمَنْ آمَنَ وَ أَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (48) وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (49)

ثمّ بيّن سبحانه أنّه لا يبعث الرسل أربابا يقدرون على كلّ شي ء يسألون عنه من الآيات، و إنّما يرسلهم لما يعلمه من المصالح، فقال: وَ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ المؤمنين و من آمن بهم و أطاعهم بالجنّة وَ مُنْذِرِينَ من كذّبهم و عصاهم بالنار. و لم نرسلهم ليقترح عليهم الآيات بعد وضوح أمرهم

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 394

بالبراهين القاطعة.

فَمَنْ آمَنَ وَ أَصْلَحَ ما يجب إصلاحه ممّا شرع لهم فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من العذاب وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ بفوات

الثواب.

وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي: بأدلّتنا و حججنا. و قيل: بمحمد و معجزاته يَمَسُّهُمُ الْعَذابُ أي: يصيبهم ماسّا لهم، كأنّ العذاب حيّ يفعل بهم ما يريد من الآلام بِما كانُوا يَفْسُقُونَ بسبب فسقهم و خروجهم عن التصديق و الطاعة.

[سورة الأنعام (6): آية 50]

قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَ لا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ أَ فَلا تَتَفَكَّرُونَ (50)

ثمّ أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يقول لهم بعد اقتراحهم الآية منه: إنّي لا أدّعي الربوبيّة و لوازمها، من الاقتدار على كلّ شي ء و العلم بالمغيّبات، و لا الملكيّة لأفعل كلّ ما اقترحتموه، و إنّما أدّعي النبوّة، فقال: قُلْ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ مقدوراته، أو خزائن رزقه، أو خزائن رحمته، أي: لا أدّعي أنّي مالك خزائن اللّه.

وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ الّذي يختصّ اللّه بعلمه، و لم يوح إليّ، و لم ينصب عليه دليل. و عن ابن عبّاس: لا أعلم عاقبة ما تصيرون إليه، و إنّما أعلم منه قدر ما يعلّمني اللّه و يخصّني به. و هو من جملة القول، فهو عطف على محلّ قوله: «عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ»، كأنّه قال: لا أقول لكم هذا القول، و لا هذا القول.

وَ لا أَقُولُ لَكُمْ إِنِّي مَلَكٌ أي: من جنس الملائكة، أو أقدر على ما يقدرون عليه، بل إنّي إنسان مثلكم تعرفون نسبي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ فلا أخبركم إلّا

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 395

بما أنزل اللّه إليّ، تبرّأ عن دعوى الألوهيّة أو الملكيّة، و أدّعي النبوّة الّتي هي من الكمالات البشريّة، ردّا لاستبعادهم دعواه، و جزمهم على فساد مدّعاه.

قُلْ

هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ مثل للضالّ و المهتدي، أو الجاهل و العالم، أو مدّعي المستحيل كالألوهيّة أو الملكيّة، و مدّعي المستقيم كالنبوّة.

و الهمزة للإنكار، أي: لا يستويان. أَ فَلا تَتَفَكَّرُونَ فتهتدوا، أو فتميّزوا بين ادّعاء الحقّ و الباطل، أو فتعلموا أنّ اتّباع الوحي ممّا لا محيص عنه.

[سورة الأنعام (6): آية 51]

وَ أَنْذِرْ بِهِ الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (51)

ثمّ أمر سبحانه بعد تقديم البيّنات بالإنذار، فقال: وَ أَنْذِرْ بِهِ الضمير ل «ما يُوحى إِلَيَّ» الَّذِينَ يَخافُونَ أَنْ يُحْشَرُوا إِلى رَبِّهِمْ هم المؤمنون المفرّطون في العمل، أو المجوّزون للحشر، مؤمنا كان أو كافرا، مقرّا به أو متردّدا فيه، فإنّ الإنذار ينجع فيهم، دون الفارغين الجازمين باستحالته.

و

قال الصادق عليه السّلام: «أنذر بالقرآن من يرجون الوصول إلى ربّهم، ترغّبهم فيما عنده، فإنّ القرآن شافع مشفّع لهم».

لَيْسَ لَهُمْ مِنْ دُونِهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ فإنّ شفاعة الشافعين من الأنبياء و المؤمنين تكون بإذن اللّه، لقوله تعالى: مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ «1» فهي راجعة إلى اللّه تعالى. و هذه الجملة في موضع الحال من «يحشروا». و المعنى:

يخافون أن يحشروا غير منصورين و لا مشفوعا لهم، فإنّ المخوف هو الحشر على هذه الحالة.

______________________________

(1) البقرة: 255.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 396

لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ لكي يدخلوا في زمرة أهل التقوى من المؤمنين، بأن ينتهوا عمّا نهوا عنه، و يمتثلوا ما أمروا به.

[سورة الأنعام (6): آية 52]

وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ وَ ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَتَطْرُدَهُمْ فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ (52)

ثمّ أردفهم ذكر المتّقين منهم، و أمر رسوله بتقريبهم و إكرامهم، و أن لا يطيع فيهم من أراد بهم خلاف ذلك، و أن لا يطردهم ترضية لقريش، و أثنى عليهم بأنّهم يواصلون دعاء ربّهم- أي: عبادته- و يواظبون عليها، فقال: وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِ المراد بذكر الغداة و العشيّ الدوام. و قيل: صلاة الصبح و العصر.

و قرأ ابن عامر: بالغدوة.

يُرِيدُونَ وَجْهَهُ يطلبون ثوابه، و يبتغون مرضاته. و هو حال من «يدعون» أي: يدعون ربّهم مخلصين فيه. و الوجه يعبّر به عن ذات الشي ء و حقيقته. و قيّد الدعاء بالإخلاص تنبيها على أنّه ملاك الأمر. و رتّب النهي عليه إشعارا بأنّه يقتضي إكرامهم، و ينافي إبعادهم.

روى الثعلبي بإسناده عن عبد اللّه بن مسعود قال: «مرّ رؤساء قريش على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عنده صهيب و خباب و بلال و عمّار و نظائرهم من ضعفاء المسلمين، فقالوا: يا محمّد أرضيت بهؤلاء من قومك؟ أ فنحن نكون تبعا لهم؟

أ هؤلاء الّذين منّ اللّه عليهم؟ اطردهم عنك، فلعلّك إن طردتهم اتّبعناك. فأنزل اللّه تعالى: «وَ لا تَطْرُدِ» إلى آخره.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 397

قال سلمان و خباب: فينا نزلت هذه الآية، جاء الأقرع بن حابس التميمي و عيينة بن حصين الفزاري، و ذووهم من المؤلّفة قلوبهم، و كان عليهم جلباب من صوف، فوجدوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قاعدا مع بلال و صهيب و عمّار و خباب في ناس من ضعفاء المسلمين، فحقّروهم، و قالوا: يا رسول اللّه لو نحّيت هؤلاء عنك حتّى نخلو بك، فإنّ وفود العرب تأتيك، فنستحي أن يرونا مع هؤلاء الأعبد، فإن طردتهم جلسنا إليك و حادثناك.

فقال: ما أنا بطارد المؤمنين.

قالوا: فأقمهم عنّا إذا جئنا، فإذا أقمنا فأقعدهم معك إن شئت.

فأجابهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى ذلك طمعا في إيمانهم.

فقالا له: أكتب لنا هذا على نفسك كتابا. و روي أنّ عمر قال له: لو فعلت حتّى ننظر إلى ماذا يصيرون.

فدعا بصحيفة و أحضر عليّا عليه السّلام ليكتب. قال:

و نحن قعود في ناحية إذ نزل جبرئيل عليه السّلام بقوله تعالى: «وَ لا تَطْرُدِ الَّذِينَ يَدْعُونَ» إلى آخره، فرمى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالصحيفة، و اعتذر عمر من مقالته، و أقبل علينا، و دنونا منه و هو يقول:

كتب ربّكم على نفسه الرّحمة. فكنّا نقعد معه، و ندنو منه حتّى تمسّ ركبنا ركبته.

و كان يقوم عنّا إذا أراد القيام، فأنزل اللّه عزّ و جلّ: وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ «1» الآية، فترك القيام عنّا إلى أن نقوم عنه. و قال لنا: الحمد للّه الّذي لم يمتني حتى أمرني اللّه أن أصبر نفسي مع قوم من أمّتي، معكم المحيا و معكم الممات».

ما عَلَيْكَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ وَ ما مِنْ حِسابِكَ عَلَيْهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ أي: ليس عليك حساب إيمانهم، فلعلّ إيمانهم عند اللّه تعالى أعظم من إيمان من تطردهم بسؤالهم طمعا في إيمانهم لو آمنوا. أو ليس عليك اعتبار بواطنهم و إخلاصهم، لما

______________________________

(1) الكهف: 28.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 398

اتّسموا بسيرة المتّقين، و إن كان لهم باطن غير مرضيّ كما ذكره المشركون، فحسابهم عليهم لا يتعدّاهم إليك، كما أنّ حسابك عليك لا يتعدّاك إليهم. فجعلت الجملتان بمنزلة جملة واحدة قصد بهما مؤدّى واحد، و هو المعنيّ في قوله: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى «1». و لا يستقلّ بهذا المعنى إلّا الجملتان جميعا، كأنّه قيل: لا تؤاخذ أنت و لا هم بحساب صاحبه.

و قيل: ما عليك من حساب رزقهم، أي: فقرهم. فالمعنى: ليس رزقهم عليك، و لا رزقك عليهم، و إنّما يرزقك و إيّاهم الرزّاق، فدعهم يدنوا منك.

و قيل: إنّ الضمير للمشركين. و المعنى: لا يؤاخذون بحسابك، و لا أنت

تؤاخذ بحسابهم، حتى يهمّك إيمانهم، و يحرّك الحرص عليه إلى أن تطرد المؤمنين طمعا فيه.

و جواب النفي قوله: فَتَطْرُدَهُمْ فتبعّدهم. و جواب النهي قوله: فَتَكُونَ مِنَ الظَّالِمِينَ و يجوز عطفه على «فتطردهم» على وجه التسبّب، لأنّ كونه ظالما مسبّب عن طردهم.

[سورة الأنعام (6): آية 53]

وَ كَذلِكَ فَتَنَّا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لِيَقُولُوا أَ هؤُلاءِ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ (53)

ثمّ أخبر سبحانه أنّه يمتحن الفقراء بالأغنياء، و الأغنياء بالفقراء، و الضعفاء بالأشراف، و الأشراف بالضعفاء: وَ كَذلِكَ و مثل ذلك الفتن العظيمة و الابتلاء، و هو اختلاف أحوال الناس في أمور الدنيا فَتَنَّا أي: ابتلينا بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ كرؤساء قريش بالموالي. بمعنى: عاملناهم معاملة المختبر. أو خذلناهم فافتتنوا،

______________________________

(1) الأنعام: 164.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 399

حتّى كان افتتانهم سببا لِيَقُولُوا على وجه الإنكار أَ هؤُلاءِ أي: المسلمون مَنَّ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنْ بَيْنِنا أي: أنعم عليهم بالتوفيق لإصابة الحقّ، و التوفيق و الهداية، من دوننا و نحن الرؤساء و الأشراف، و هم العبيد و الأرذال؟! و مثل هذا القول لا يصدر إلّا عن مفتون مخذول. و هذا مثل قولهم: لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ «1».

و اللام للتعليل، على أنّ «فتنّا» متضمّن معنى: خذلنا. أو للعاقبة، و المعنى:

أن افتتانهم يؤول إلى هذا القول.

أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِالشَّاكِرِينَ بمن يقع منه الايمان و الشكر من أهل الاسترشاد فيوفّقه، و بمن لا يقع منه من أهل الإنكار و العناد فيخذله. و الاستفهام للتقرير، أي: اللّه أعلم بهم البتّة.

و في هذا دليل واضح على أنّ فقراء المؤمنين و ضعفاءهم أولى بالتقديم و التقريب و التعظيم من أغنيائهم، و

لقد قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «من أتى غنيّا فتواضع لغنائه ذهب ثلثا دينه».

[سورة الأنعام (6): آية 54]

وَ إِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ وَ أَصْلَحَ فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (54)

ثمّ أمر سبحانه بتعظيم المؤمنين، فقال: وَ إِذا جاءَكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِآياتِنا و

هم المؤمنون الّذين يدعون ربّهم. وصفهم بالإيمان بالقرآن و اتّباع الحجج، بعد ما

______________________________

(1) الأحقاف: 11.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 400

زبدة التفاسير ج 2 449

وصفهم بالمواظبة على العبادة. فَقُلْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ أمر بتبليغ سلام اللّه إليهم، و تبشيرهم بسعة رحمة اللّه و فضله، بعد النهي عن طردهم، إيذانا بأنّهم الجامعون لفضيلتي العلم و العمل، و من كان كذلك ينبغي أن يقرّب و لا يطرد، و يعزّ و لا يذلّ، و يبشّر من اللّه تعالى بالسلامة في الدنيا و الرحمة في الآخرة. أو أمر بأن يبدأهم بالسلام تبجيلا لهم و تطييبا لقلوبهم.

و كذلك قوله: كَتَبَ رَبُّكُمْ عَلى نَفْسِهِ الرَّحْمَةَ من جملة ما يقول لهم ليسرّهم و يبشّرهم بسعة رحمة اللّه عليهم. و المعنى: أوجب ربّكم الرحمة إيجابا مؤكّدا على نفسه.

عن عكرمة أنّ هذه الآية نزلت في الّذين نهى اللّه عن طردهم، و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا رآهم بدأهم بالسلام و قال: «الحمد للّه الّذي جعل في أمّتي من أمرني أن أبدأهم بالسلام».

و

قيل: إنّ قوما جاءوا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالوا: إنّا أصبنا ذنوبا عظاما، فلم يردّ عليهم شيئا و سكت عنهم، فانصرفوا، فنزلت هذه الآية.

و قوله: أَنَّهُ مَنْ عَمِلَ مِنْكُمْ سُوءاً استئناف لتفسير الرحمة. و قرأ نافع و ابن عامر و عاصم و يعقوب بالفتح على البدل منها.

و قوله: بِجَهالَةٍ في موضع الحال، أي: من عمل ذنبا جاهلا بحقيقة ما يتبعه من المضارّ و المفاسد. أو متلبّسا بفعل الجهالة، فإنّ ارتكاب ما يؤدّي إلى الضرر من أفعال أهل السفه و الجهل، فإنّ من كان حكيما لم يقدم على فعل شي ء حتّى يعلم حاله.

ثُمَّ تابَ مِنْ بَعْدِهِ

بعد العمل أو السوء وَ أَصْلَحَ بالتدارك و العزم على أن لا يعود إليه فَأَنَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ فتح همزة «أنّه» من فتح الأوّل غير نافع، على إضمار مبتدأ، أي: فأمره أنّه غفور رحيم.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 401

[سورة الأنعام (6): الآيات 55 الى 58]

وَ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَ لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ (55) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (56) قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ كَذَّبْتُمْ بِهِ ما عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ يَقُصُّ الْحَقَّ وَ هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ (57) قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ (58)

ثمّ عطف سبحانه على الآيات الّتي احتجّ بها على مشركي العرب و غيرهم، فقال: وَ كَذلِكَ و مثل ذلك التفصيل الواضح نُفَصِّلُ الْآياتِ آيات القرآن في صفة المطيعين و المجرمين، المصرّين منهم و الأوّابين. وَ لِتَسْتَبِينَ سَبِيلُ الْمُجْرِمِينَ

قرأ نافع بالتاء و نصب السبيل، على معنى: و لتستوضح يا محمد سبيلهم، فتعامل كلّا منهم بما يحقّ له، فصّلنا هذا التفصيل. و ابن كثير و ابن عامر و أبو عمرو و يعقوب و حفص عن عاصم برفعه، على معنى: و لتبين سبيلهم. و الباقون بالياء و الرفع، على تذكير السبيل، فإنّه يذكّر و يؤنّث. و يجوز أن يعطف على علّة مقدّرة، أي: نفصّل الآيات ليظهر الحقّ، و لتستبين سبيل المجرمين.

ثمّ أمر اللّه تعالى نبيّه بأن يظهر البراءة ممّا يعبدونه، فقال: قُلْ إِنِّي نُهِيتُ زجرت بما ركّب فيّ من أدلّة العقل، و بما أوتيت من الآيات من أدلّة السمع في أمر

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 402

التوحيد أَنْ أَعْبُدَ

الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عن عبادة ما تعبدون من دون اللّه، أو ما تدعونها آلهة، أي: تسمّونها.

ثمّ أكّد قطعا لأطماعهم، و إشارة إلى الموجب للنهي و علّة الامتناع عن متابعتهم، و استجهالا لهم، و بيانا لمبدأ ضلالهم، و أنّ ما هم عليه هوى و ليس بهدى، و تنبيها لمن تحرّى الحقّ على أن يتّبع الحجّة و لا يقلّد، فقال: قُلْ لا أَتَّبِعُ أَهْواءَكُمْ أي: لا أجري على طريقتكم الّتي سلكتموها في دينكم، من اتّباع الهوى دون اتّباع الدليل. قَدْ ضَلَلْتُ إِذاً أي: إن اتّبعت أهواءكم فأنا ضالّ. وَ ما أَنَا مِنَ الْمُهْتَدِينَ السالكين طريق الهدى حتى أكون من عدادهم. و فيه تعريض بأنّهم كذلك.

ثمّ نبّه على ما يجب اتّباعه بعد ما بيّن ما لا يجوز اتّباعه، فقال: قُلْ إِنِّي عَلى بَيِّنَةٍ البيّنة الدلالة الواضحة الّتي تفصل الحقّ من الباطل. و قيل: المراد بها القرآن و الوحي، أو الحجج العقليّة، أو ما يعمّها. و المعنى: إنّي على حجّة واضحة و شاهد صدق مِنْ رَبِّي من معرفته و أنّه لا معبود سواه. و إذا كان الشي ء ثابتا عندك ببرهان قاطع قلت: أنا على يقين منه و على بيّنة منه. و يجوز أن يكون صفة ل «بيّنة»، إذ المراد بالبيّنة الدليل، أي: على حجّة من جهة ربّي، و هو القرآن.

وَ كَذَّبْتُمْ بِهِ الضمير ل «ربّي»، أي: و كذّبتم باللّه حيث أشركتم به غيره. أو للبيّنة باعتبار المعنى، و هو القرآن.

ثمّ عقّبه بما دلّ على استعظام تكذيبهم باللّه، و شدّة غضبه عليهم لذلك، و أنّهم أحقّاء بأن يغافصوا «1» بالعذاب المستأصل، فقال: ما عِنْدِي ليس عندي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ يعني: العذاب الّذي استعجلوه بقولهم: فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ

السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ «2». إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ في تعجيل عذابكم و تأخيره

______________________________

(1) غافصه: فاجأه و أخذه على غرّة منه.

(2) الأنفال: 32.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 403

يَقُصُّ الْحَقَ أي: يفصّل الحقّ من الباطل. أو يصنع الحقّ و يدبّره في كلّ ما يقضي من التأخير و التعجيل، من قولهم: قضى الدّرع إذا صنعها. أو يقضي القضاء الحقّ، على أنّه صفة المصدر المحذوف. و أصل القضاء الفصل بتمام الأمر. و أصل الحكم المنع، فكأنّه منع الباطل. و قرأ ابن كثير و نافع و عاصم: يقصّ، أي: يتبع، من: قصّ الأثر، أو من: قصّ الخبر وَ هُوَ خَيْرُ الْفاصِلِينَ القاضين بين الحقّ و الباطل.

قُلْ لَوْ أَنَّ عِنْدِي في قدرتي و مكنتي ما تَسْتَعْجِلُونَ بِهِ من العذاب لَقُضِيَ الْأَمْرُ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ أي: لأهلكتكم عاجلا غضبا لربّي، و انقطع ما بيني و بينكم، فتخلّصت منكم سريعا. وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِالظَّالِمِينَ في معنى الاستدراك، كأنّه قال: و لكنّ الأمر إلى اللّه، و هو أعلم بمن ينبغي أن يؤخذ، و بمن ينبغي أن يمهل منهم.

[سورة الأنعام (6): آية 59]

وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ لا يَعْلَمُها إِلاَّ هُوَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلاَّ يَعْلَمُها وَ لا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (59)

و لمّا ذكر سبحانه أنّه أعلم بالظالمين، بيّن عقيبه أنّه لا يخفى عليه شي ء من الغيب، و يعلم أسرار العالمين، فقال: وَ عِنْدَهُ مَفاتِحُ الْغَيْبِ خزائنه. جمع مفتح بفتح الميم، و هو المخزن، أو جميع ما يتوصّل به إلى المغيّبات. مستعار من المفاتح الّذي هو جمع مفتح بالكسر، و هو المفتاح، لأنّ بالمفاتح يتوصّل إلى ما

في المخازن المغلقة، و هو المتوصّل إلى المغيّبات بذاته وحده المحيط علمه بها، لا يتوصّل إليها سواه، كما يتوصّل إلى ما في المخازن من عنده مفاتح أقفاله.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 404

لا يَعْلَمُها إِلَّا هُوَ فيعلم أوقاتها و ما في تعجيلها و تأخيرها من الحكم، فيظهرها على ما اقتضته حكمته، و تعلّقت به مشيئته. و فيه دليل على أنّه تعالى يعلم الأشياء قبل وقوعها.

وَ يَعْلَمُ ما فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ عطف للإخبار عن تعلّق علمه بالمشاهدات على الإخبار عن اختصاص العلم بالمغيّبات به.

وَ ما تَسْقُطُ مِنْ وَرَقَةٍ إِلَّا يَعْلَمُها يعلم ما سقط من ورق الأشجار و ما بقي، و يعلم أنّها كم انقلبت ظهرا لبطنها عند سقوطها، مبالغة في إحاطة علمه بالجزئيّات.

وَ لا حَبَّةٍ فِي ظُلُماتِ الْأَرْضِ بواطنها إلى تحت الصخرة في أسفل الأرضين السبع وَ لا رَطْبٍ وَ لا يابِسٍ معطوف على «ورقة» و داخل في حكمها، كأنّه قيل:

و ما تسقط من ورقة و لا شي ء من هذه الأشياء إلّا يعلمه.

و قوله: إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ بدل من الاستثناء الأوّل بدل الكلّ، على أنّ الكتاب المبين علم اللّه. أو بدل الاشتمال إن أريد به اللوح. أو كالتكرير لقوله: «إِلَّا يَعْلَمُها» لأنّ معنى «إِلَّا يَعْلَمُها» و «إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ» واحد. و قيل: المراد بالكتاب المبين القرآن.

[سورة الأنعام (6): الآيات 60 الى 62]

وَ هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ وَ يَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ فِيهِ لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (60) وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا وَ هُمْ لا يُفَرِّطُونَ (61) ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ وَ هُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ

(62)

و لمّا نبّه سبحانه بهذه الآية على أنّه عالم بالذات، أشار بعد ذلك إلى أنّه قادر

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 405

بالذات، من حيث إنّه قادر على الإحياء و الإماتة، فقال: وَ هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ أي: يقبض أرواحكم عن التصرّف بالنوم كما يقبضها بالموت. استعير التوفّي من الموت للنوم، لما بينهما من المشاركة في زوال الإحساس و التمييز، فإنّ أصله قبض الشي ء بتمامه.

وَ يَعْلَمُ ما جَرَحْتُمْ بِالنَّهارِ كسبتم فيه من الأعمال. خصّ الليل بالنوم و النهار بالكسب جريا على المعتاد.

ثُمَّ يَبْعَثُكُمْ يوقظكم. أطلق البعث ترشيحا للتوفّي فِيهِ في النهار لِيُقْضى أَجَلٌ مُسَمًّى ليبلغ المتيقّظ آخر أجله المسمّى له في الدنيا ثُمَّ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ بالموت. و هو المرجع إلى موقف الحساب. ثُمَّ يُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في ليلكم و نهاركم بالمجازاة عليه.

و قيل: الآية خطاب للكفرة. و المعنى: أنّكم ملقون كالجيف بالليل، و كاسبون للآثام بالنهار، و أنّه مطّلع على أعمالكم، يبعثكم من القبور في شأن ذلك الّذي قطعتم به أعماركم، من النوم بالليل و كسب الآثام بالنهار، ليقضي الأجل الّذي سمّاه و ضربه لبعث الموتى و جزائهم على أعمالهم، ثمّ إليه مرجعكم بالحساب، ثمّ ينبّئكم بما كنتم تعملون بالجزاء.

ثمّ بيّن كمال قدرته بقوله: وَ هُوَ الْقاهِرُ المقتدر المستعلي فَوْقَ عِبادِهِ أي: هو أعلى أمرا، و أنفذ حكما. لا بمعنى أنّه في مكان مرتفع فوقهم و فوق مكانهم، لأنّ ذلك من صفة الأجسام، و اللّه تعالى منزّه عن ذلك.

وَ يُرْسِلُ عَلَيْكُمْ حَفَظَةً ملائكة تحفظ أعمالكم، و هم الكرام الكاتبون.

و هذا عطف على صلة الألف و اللام في القاهر، تقديره: و هو الّذي يقهر عباده و يرسل عليكم حفظة. و الحكمة فيه- و إن كان اللّه تعالى غنيّا

بعلمه عن كتبة الملائكة-: أنّ المكلّف إذا علم أنّ أعماله تكتب عليه و تعرض على رؤوس

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 406

الأشهاد كان أزجر عن المعاصي، و أنّ العبد إذا وثق بلطف سيّده و اعتمد على عفوه و ستره لم يستح منه استحياءه من خدمه المطّلعين عليه.

حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ تَوَفَّتْهُ رُسُلُنا استوفى روحه ملك الموت و أعوانه. و قرأ حمزة: توفّاه، بالألف ممالة. و يجوز أن يكون ماضيا، و أن يكون مضارعا، بمعنى: تتوفّاه. وَ هُمْ لا يُفَرِّطُونَ بالتواني و التأخير، فإن التفريط التقصير و التأخير عن الحدّ، و الإفراط مجاوزته. و عن مجاهد: جعلت الأرض له مثل الطست يتناول من يتناوله، و ما من أهل بيت إلا و يطوف عليهم في كلّ يوم مرّتين.

ثُمَّ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ إلى حكمه و جزائه مَوْلاهُمُ مالكهم الّذي يتولّى أمرهم الْحَقِ العدل الّذي لا يحكم إلّا بالحقّ أَلا لَهُ الْحُكْمُ يومئذ، لا حكم لغيره فيه. وَ هُوَ أَسْرَعُ الْحاسِبِينَ يحاسب الخلائق في مقدار حلب شاة، و لا يشغله حساب من حساب.

و

روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه سئل: «كيف يحاسب الخلق و لا يرونه؟

قال: كما يرزقهم و لا يرونه».

[سورة الأنعام (6): الآيات 63 الى 64]

قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ تَدْعُونَهُ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (63) قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها وَ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ (64)

ثمّ عاد سبحانه إلى حجاج الكفّار، فقال: قُلْ مَنْ يُنَجِّيكُمْ مِنْ ظُلُماتِ الْبَرِّ

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 407

وَ الْبَحْرِ من شدائدهما و مخاوفهما. استعيرت الظلمة للشدّة و الحاجة، لمشاركتهما في الهول و إبطال الأبصار، فقيل لليوم الشديد: يوم مظلم و يوم ذو كواكب، أي:

اشتدّت ظلمته حتّى صار كالليل.

أو من الخسف في البرّ و الغرق في البحر بذنوبهم.

و قرأ يعقوب: ينجيكم بالتخفيف. و المعنى واحد.

تَدْعُونَهُ عند معاينة هذه الأهوال تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً معلنين و مسرّين، أو إعلانا و إسرارا. و قرأ أبو بكر عن عاصم: خفية بالكسر لَئِنْ أَنْجانا مِنْ هذِهِ أي:

هذه الظلم الشديدة لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ على إرادة القول، أي: تقولون: لئن أنجيتنا من هذه.

و قرأ الكوفيّون: لئن أنجانا، ليوافق قوله: «تدعونه»، إلّا أنّ حمزة و الكسائي أمالاه.

قُلِ اللَّهُ يُنَجِّيكُمْ مِنْها من هذه الشدّة. و شدّده الكوفيّون و هشام عن ابن عامر، و خفّفه الباقون. وَ مِنْ كُلِّ كَرْبٍ غمّ سواها ثُمَّ أَنْتُمْ تُشْرِكُونَ تعودون إلى الشرك، و لا توفون بالعهد بعد قيام الحجّة عليكم. و إنّما وضع «تشركون» موضع: لا تشكرون، تنبيها على أنّ من أشرك في عبادة اللّه تعالى فكأنّه لم يعبده رأسا.

[سورة الأنعام (6): آية 65]

قُلْ هُوَ الْقادِرُ عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ (65)

ثمّ عطف سبحانه على ما تقدّم من الحجج الّتي حاجّ بها الكافرين، و نبّه على

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 408

الإعذار و الإنذار، فقال إيعادا و تهديدا: قُلْ هُوَ الْقادِرُ ذكر حرف التعريف يشعر بكمال قدرته، لأنّه أمارة تخصيص القدرة به، كأنّه يقول: أيّها المخاطب الساكت تعرف قادرا فذلك هو هو لا غير عَلى أَنْ يَبْعَثَ عَلَيْكُمْ عَذاباً مِنْ فَوْقِكُمْ كما أرسل على قوم نوح الطوفان، و أمطر على قوم لوط و أصحاب الفيل الحجارة أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ كما أغرق فرعون، و خسف بقارون.

و

قيل: «من فوقكم»: من قبل أكابركم الظلمة و حكّامكم الجائرة، و «تحت أرجلكم»: من قبل سفلتكم

و عبيدكم. و هذا منقول عن ابن عبّاس. و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و قيل: هو حبس المطر و النبات.

أَوْ يَلْبِسَكُمْ يخلطكم شِيَعاً فرقا مختلفي الأهواء، كلّ فرقة منهم شائعة لإمام. و معنى خلطهم: أن يختلطوا و يشتبكوا في ملاحم القتال، من قوله:

و كتيبة لبّستها بكتيبةحتّى إذا التبست نفضت لها يدي

و

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «معناه: يضرب بعضكم ببعض ممّا يلقيه بينكم من العداوة و العصبيّة».

وَ يُذِيقَ بَعْضَكُمْ بَأْسَ بَعْضٍ يقاتل بعضكم بعضا انْظُرْ كَيْفَ نُصَرِّفُ الْآياتِ بالوعد و الوعيد لَعَلَّهُمْ يَفْقَهُونَ يعلمون الحقّ بها.

عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «سألت اللّه أن لا يبعث على أمّتي عذابا من فوقهم أو من تحت أرجلهم فأعطاني ذلك، و سألته أن لا يجعل بأسهم بينهم فمنعني».

و كذا

عن الحسن قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: سألت اللّه ربّي أن لا يظهر على أمّتي أهل دين فأعطاني، و سألته أن لا يهلكهم جوعا فأعطاني، و سألته أن لا يجمعهم على ضلالة فأعطاني، و سألته أن لا يلبسهم شيعا فمنعني».

و

في تفسير الكلبي: «أنّه لمّا نزلت هذه الآية قام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فتوضّأ و أسبغ وضوءه، ثمّ قام و صلّى فأحسن صلاته، ثمّ سأل اللّه سبحانه أن لا يبعث على أمّته

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 409

عذابا من فوقهم، و لا من تحت أرجلهم، و لا يلبسهم شيعا، و لا يذيق بعضهم بأس بعض.

فنزل جبرئيل عليه السّلام فقال: يا محمد إنّ اللّه تعالى سمع مقالتك، و إنّه قد أجارهم من خصلتين، و لم يجرهم من خصلتين، أجارهم من أن يبعث عليهم عذابا من

فوقهم أو من تحت أرجلهم، و لم يجرهم الخصلتين الأخريين.

فقام و عاد إلى الدعاء، فنزل: الم أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ «1» الآيتين. فقال: لا بدّ من فتنة تبتلي بها الأمّة بعد نبيّها، ليتبيّن الصادق من الكاذب، لأنّ الوحي انقطع، و بقي السّيف و افتراق الكلمة إلى يوم القيامة».

و

في الخبر أنّه قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا وضع السيف في أمّتي لم يدفع عنها إلى يوم القيامة، فأخبرني جبرئيل أنّ فناء أمّتي بالسيف.

و

عن جابر بن عبد اللّه: لمّا نزل «من فوقكم» قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أعوذ بوجهك. فلمّا نزل «أَوْ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِكُمْ أَوْ يَلْبِسَكُمْ شِيَعاً» قال: هاتان أهون.

[سورة الأنعام (6): الآيات 66 الى 68]

وَ كَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ وَ هُوَ الْحَقُّ قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (66) لِكُلِّ نَبَإٍ مُسْتَقَرٌّ وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (67) وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ فَلا تَقْعُدْ بَعْدَ الذِّكْرى مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (68)

و لمّا ذكر سبحانه تصريف الآيات قال عقيب ذلك: وَ كَذَّبَ بِهِ قَوْمُكَ أي:

______________________________

(1) العنكبوت: 1- 2.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 410

بالعذاب أو بالقرآن وَ هُوَ الْحَقُ الواقع لا محالة، أو الصدق قُلْ لَسْتُ عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ بحفيظ و كلّ إليّ أمركم، فأمنعكم من التكذيب إجبارا أو أجازيكم، إنّما أنا منذر و اللّه الحفيظ.

ثمّ قال تهديدا و إيعادا: لِكُلِّ نَبَإٍ لكلّ شي ء ينبأ و يخبر به، إمّا العذاب أو الإيعاد به مُسْتَقَرٌّ وقت استقرار و وقوع لا بدّ من حصوله وَ سَوْفَ تَعْلَمُونَ عند وقوعه في الدنيا أو في الآخرة.

وَ إِذا رَأَيْتَ الَّذِينَ يَخُوضُونَ فِي آياتِنا بالتكذيب و

الاستهزاء بها و الطعن فيها فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ فلا تجالسهم، و قم عنهم حَتَّى يَخُوضُوا فِي حَدِيثٍ غَيْرِهِ فلا بأس بأن تجالسهم حينئذ. و الضمير عائد إلى معنى الآيات، لأنّها القرآن.

وَ إِمَّا يُنْسِيَنَّكَ الشَّيْطانُ بأن يشغلك بوسوسته حتّى تنسى النهي عن مجالستهم. و قرأ ابن عامر: ينسّينّك بالتشديد. فَلا تَقْعُدْ معهم بَعْدَ الذِّكْرى بعد أن تذكر النهي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي: معهم. فوضع الظاهر موضعه، دلالة على أنّهم ظلموا بوضع التكذيب و الاستهزاء موضع التصديق و الاستعظام. و يجوز أن يراد: إن أنساك قبل النهي قبح مجالسة المستهزئين، لأنّها ممّا تنكره العقول، فلا تقعد معهم بعد أن ذكّرناك قبحها و نبّهناك عليه.

و اعلم أنّ النسيان المنفيّ عن الأنبياء و كذا السهو هو الّذي فيما يؤدّونه عن اللّه، و أمّا ما سواه فقد جوّز أصحابنا عليهم أن ينسوه أو يسهوا عنه، ما لم يؤدّ ذلك إلى إخلال بالأدلّة العقليّة و خطأ فيها، و كيف لا يكون كذلك! و قد جوّزوا عليهم النوم و الإغماء، و هما من قبيل السهو. كذا قال الطبرسي في تفسيره الجامع «1».

______________________________

(1) لم نجده في جوامع الجامع، و ذكره في مجمع البيان 4: 317.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 411

[سورة الأنعام (6): الآيات 69 الى 73]

وَ ما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ وَ لكِنْ ذِكْرى لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (69) وَ ذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَ لَهْواً وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ ذَكِّرْ بِهِ أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌّ وَ لا شَفِيعٌ وَ إِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ لا يُؤْخَذْ مِنْها أُولئِكَ الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70) قُلْ أَ نَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما

لا يَنْفَعُنا وَ لا يَضُرُّنا وَ نُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ لَهُ أَصْحابٌ يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى ائْتِنا قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ هُوَ الْهُدى وَ أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (71) وَ أَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ اتَّقُوهُ وَ هُوَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (72) وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُّ وَ لَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (73)

روي: أنّ المسلمين قالوا: لئن كنّا نقوم كلّما استهزؤا بالقرآن لم نستطع أن نجلس في المسجد و نطوف، فنزلت: وَ ما عَلَى الَّذِينَ يَتَّقُونَ

ما يلزم المتّقين الّذين يجالسونهم مِنْ حِسابِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ ممّا يحاسبون عليه من قبائح أعمالهم

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 412

و أقوالهم وَ لكِنْ ذِكْرى و لكن عليهم أن يذكّروهم ذكرى و موعظة، و يمنعوهم عن الخوض و غيره من القبائح، و يظهروا كراهتها.

و يحتمل رفع «ذكرى» على تقدير: و لكن عليهم ذكرى. و لا يجوز عطفه على محلّ «من شي ء»، كقولك: ما في الدار من أحد و لكن زيد، لأنّ «من حسابهم» يأباه. و لا على «شي ء» لذلك، و لأنّ «من» لا تزاد في الإثبات.

لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ يجتنبون ذلك حياء، أو كراهة لمساءتهم. و يحتمل أن يكون الضمير للّذين يتّقون. و المعنى: لعلّهم يثبتون على تقواهم، و لا تنثلم بمجالستهم.

وَ ذَرِ الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَعِباً وَ لَهْواً أي: بنوا أمر دينهم على التشهّي، و تديّنوا بما لا يعود عليهم بنفع عاجلا و آجلا، كعبادة الأصنام و تحريم البحائر و السوائب. أو اتّخذوا دينهم الّذي كلّفوه لعبا و لهوا حيث سخروا به. أو جعلوا

عيدهم الّذي جعل ميقات عبادتهم زمان لهو و لعب. و المعنى: أعرض عنهم، و لا تبال بأفعالهم و أقوالهم. و يجوز أن يكون تهديدا لهم، كقوله: ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً «1». و المعنى: أعرض عنهم، و لا تبال بتكذيبهم و استهزائهم، و لا تشغل قلبك بهم. و عند من جعله منسوخا بآية السيف «2» معناه: كفّ عنهم، و اترك التعرّض لهم.

وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا يعني: اغترّوا بحياتهم حتى أنكروا البعث وَ ذَكِّرْ بِهِ أي: بالقرآن أَنْ تُبْسَلَ نَفْسٌ بِما كَسَبَتْ أي: مخافة أن تسلم نفس إلى الهلاك و العذاب، و ترتهن بسوء كسبها. و أصل الإبسال المنع، لأنّ المسلّم إليه يمنع المسلّم. و منه أسد باسل، لأنّ فريسته لا تفلت منه. و الباسل: الشجاع، لامتناعه من

______________________________

(1) المدّثر: 11.

(2) التوبة: 5 و 29.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 413

قرنه. و هذا بسل عليك، أي: حرام.

لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيٌ ناصر ينجيها من العذاب وَ لا شَفِيعٌ يشفع لها و يدفع عنها العقاب.

وَ إِنْ تَعْدِلْ كُلَّ عَدْلٍ و إن تفد كلّ فداء. و العدل: الفدية، لأنّها تعادل المفدى.

و هاهنا الفداء. و نصب «كلّ» على المصدر. لا يُؤْخَذْ مِنْها الفعل مسند إلى «منها» لا إلى ضمير العدل، لأنّه هاهنا مصدر فلا يسند إليه الأخذ، بخلاف قوله: وَ لا يُؤْخَذُ مِنْها عَدْلٌ «1»، فإنّه بمعنى المفدى به، فصحّ إسناده إليه.

أُولئِكَ إشارة إلى الّذين اتّخذوا دينهم لعبا الَّذِينَ أُبْسِلُوا بِما كَسَبُوا أي: سلّموا إلى العذاب بسبب كسبهم الأعمال القبيحة و العقائد الزائغة.

ثمّ أكّد و فصّل ذلك بقوله: لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ أي: هم بين ماء مغليّ يتجرجر «2» في بطونهم، و نار تشتعل

بأبدانهم بسبب كفرهم.

قُلْ أَ نَدْعُوا أ نعبد مِنْ دُونِ اللَّهِ النافع الضارّ ما لا يَنْفَعُنا وَ لا يَضُرُّنا ما لا يقدر على نفعنا و لا ضرّنا، أي: إن تركنا عبادته وَ نُرَدُّ عَلى أَعْقابِنا و نرجع إلى الشرك بَعْدَ إِذْ هَدانَا اللَّهُ فأنقذنا منه، و رزقنا الإسلام.

كَالَّذِي اسْتَهْوَتْهُ الشَّياطِينُ كالّذي ذهبت به مردة الجنّ و الغيلان في المهامه «3». استفعال من: هوى في الأرض يهوي، إذا ذهب، كأنّ المعنى: طلبت الشياطين هواه. و قرأ حمزة: استهواه بألف ممالة.

و محلّ الكاف النصب على الحال من فاعل «نردّ»، أي: مشبّهين الّذي

______________________________

(1) البقرة: 48.

(2) جرجر الماء في حلقه: صوّت.

(3) المهامه جمع المهمه، و هو الصحراء.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 414

استهوته. أو على المصدر، أي: ردّا مثل ردّ الّذي استهوته.

فِي الْأَرْضِ حَيْرانَ متحيّرا ضالّا عن الطريق لَهُ أي: لهذا المستهوى أَصْحابٌ رفقة يَدْعُونَهُ إِلَى الْهُدَى إلى أن يهدوه الطريق المستقيم. أو سمّي الطريق المستقيم بالهدى، أي: يدعونه إلى الطريق المستقيم. و سمّاه هدى تسمية للمفعول بالمصدر. ائْتِنا يقولون له: ائتنا. و قد اعتسف المهمه تابعا للجنّ، لا يجيبهم و لا يأتيهم. و هذا مبنيّ على ما تزعمه العرب أنّ الجنّ تستهوي الإنسان، و الغيلان كذلك، فشبّه به الضالّ عن الإسلام الّذي لا يلتفت إلى دعاء المسلمين إيّاه.

قُلْ إِنَّ هُدَى اللَّهِ الّذي هو الإسلام هُوَ الْهُدى وحده، و ما عداه ضلال.

وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ «1». فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ «2».

وَ أُمِرْنا لِنُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ من جملة المقول، عطف على «إِنَّ هُدَى اللَّهِ».

و اللام لتعليل الأمر، أي: أمرنا و قيل لنا أسلموا لأجل أن نسلم. و قيل: هي زائدة.

وَ أَنْ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ اتَّقُوهُ

عطف على «لنسلم»، أي: للإسلام و لإقامة الصلاة. أو على موقعه، كأنّه قيل: و أمرنا لأن نسلم و لأن أقيموا، بمعنى: للإسلام و لإقامة الصلاة وَ هُوَ الَّذِي إِلَيْهِ إلى جزائه تُحْشَرُونَ يوم القيامة، فيجازي كلّ عامل منكم بعمله.

وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِ قائما بالحقّ و الحكمة وَ يَوْمَ يَقُولُ كُنْ فَيَكُونُ قَوْلُهُ الْحَقُ جملة اسميّة قدّم فيها الخبر، و هو «يوم»، أي: قوله الحقّ يوم يقول، كقولك: القتال يوم الجمعة. و المعنى: أنّه خالق السماوات و الأرضين، و قوله الحقّ نافذ في الكائنات.

و قيل: «يوم» منصوب بالعطف على السماوات، أو على الهاء في «و اتّقوه».

______________________________

(1) آل عمران: 85.

(2) يونس: 32.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 415

و المراد: حين يكوّن الأشياء و يحدثها، أو حين تقوم القيامة، فيكون التكوين حشر الأموات و إحياءها.

وَ لَهُ الْمُلْكُ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ كقوله: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ «1». و «الصور» قرن ينفخ فيه إسرافيل نفختين، فيفنى الخلق بالنفخة الأولى، و يحيون بالثانية. عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ أي: هو عالم الغيب وَ هُوَ الْحَكِيمُ في أفعاله الْخَبِيرُ العالم بعباده و أعمالهم.

[سورة الأنعام (6): الآيات 74 الى 75]

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ أَ تَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً إِنِّي أَراكَ وَ قَوْمَكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (74) وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ (75)

و لمّا عاب اللّه سبحانه دين المشركين و ذمّ آلهتهم، و احتجّ عليهم بما سلف من بيان حقّية دين الإسلام، بيّن أنّه دين أبيهم الّذي كان ذا قدر عظيم، و هو إبراهيم عليه السّلام، فقال: وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ. قال العامّة: إنّه اسم أب إبراهيم، كما أنّ تارخ اسمه، فهما علمان، كإسرائيل و

يعقوب. و لا خلاف بين النسّابين أنّ اسم أب إبراهيم تارخ.

و قال أصحابنا: إنّ آزر كان اسم جدّ إبراهيم لأمّه. و روي أيضا أنّه كان عمّه.

و قالوا: إنّ آباء نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى آدم كانوا موحّدين. و

رووا عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «لم يزل ينقلني اللّه تعالى من صلب الطاهرين إلى أرحام المطهّرات، لم يدنّسني بدنس

______________________________

(1) غافر: 16. زبدة التفاسير، ج 2، ص: 416

الجاهليّة».

و لو كان في آبائه عليه السّلام كافر لم يصف جميعهم بالطهارة، لقوله تعالى:

إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ «1». و في ذلك أدلّة و براهين ليس هاهنا موضع ذكرها.

و قيل: إنّ آزر اسم صنم يعبده، فلقّب به للزومه عبادته. و عند بعض أنّ آزر وصف معناه: الشيخ أو المعوجّ. و لعلّ منع صرفه لأنّه أعجميّ حمل على موازنه «2»، أو نعت مشتقّ من الأزر أو الوزر. و الأقرب أنّه علم أعجميّ على فاعل، كعابر و شالخ: و قرأ يعقوب: آزر بالضمّ على النداء. و هو يدلّ على أنّه علم.

و قوله: أَ تَتَّخِذُ أَصْناماً آلِهَةً الهمزة للإنكار، أي: لا تفعل ذلك إِنِّي أَراكَ وَ قَوْمَكَ فِي ضَلالٍ عن الحقّ مُبِينٍ ظاهر الضلالة.

و في الآية حثّ للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على محاجّة قومه الّذين دعوه إلى عبادة الأصنام، و الاقتداء بأبيه إبراهيم عليه السّلام فيه، و تسلية له بذلك.

وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ و مثل هذا التبصير نبصّره. و هو حكاية حال ماضية مَلَكُوتَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ربوبيّتها و ملكها، و نوفّقه لمعرفتها، و نهديه لطريق النظر و الاستدلال. و قيل: عجائبها اللطيفة و بدائعها المحكمة. و الملكوت أعظم الملك. و التاء فيه

للمبالغة.

وَ لِيَكُونَ مِنَ الْمُوقِنِينَ أي: ليستدلّ و ليكون من المتيقّنين. أو و فعلنا ذلك ليكون من المتيقّنين بأنّ اللّه سبحانه هو خالق للملك و المالك له.

عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: «كشط اللّه لإبراهيم عن الأرضين حتّى رآهنّ و ما تحتهنّ، و عن السماوات حتى رآهنّ و ما فيهنّ من الملائكة و حملة العرش».

و

روى أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لمّا رأى إبراهيم ملكوت السماوات و الأرض، رأى رجلا يزني فدعا عليه فمات، ثمّ رأى آخر فدعا عليه

______________________________

(1) التوبة: 28.

(2) أي: حمل على ما هو على وزنه، كشالح، الذي هو غير منصرف للعجمة و العلميّة. زبدة التفاسير، ج 2، ص: 417

فمات، ثمّ رأى ثلاثة فدعا عليهم فماتوا. فأوحى اللّه تعالى إليه: يا إبراهيم إنّ دعوتك مستجابة، فلا تدع على عبادي، فإنّي لو شئت أن أميتهم بدعائك ما خلقتهم. إنّي خلقت خلقي على ثلاثة أصناف: صنف يعبدني لا يشرك بي شيئا، فأثيبه. و صنف يعبد غيري، فليس يفوتني. و صنف يعبد غيري، فأخرج من صلبه من يعبدني».

[سورة الأنعام (6): الآيات 76 الى 79]

فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ رَأى كَوْكَباً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ (76) فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ (77) فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي هذا أَكْبَرُ فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (78) إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ حَنِيفاً وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (79)

و لمّا تقدّم ذكر الآيات الّتي أراه اللّه تعالى إبراهيم عليه السّلام، بيّن سبحانه و فصّل كيف استدلّ بها؟ و كيف عرف الحقّ من جهتها؟ فقال: فَلَمَّا

جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ ستره بظلامه رَأى كَوْكَباً و هو الزهرة أو المشتري. و الشرطيّة معطوفة على «قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ». و قوله: «وَ كَذلِكَ نُرِي إِبْراهِيمَ» معترضة بين المعطوف و المعطوف عليه.

قالَ هذا رَبِّي على سبيل الفرض و الوضع، فإنّ المستدلّ على فساد قول

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 418

يحكيه على ما يقوله الخصم، ثمّ يكرّ عليه بالإفساد، فإنّ قومه كانوا يعبدون الأصنام و الشمس و القمر و الكواكب، فأراد أن ينبّههم على خطئهم، و يرشدهم و يبصّرهم طريق النظر و الاستدلال، ليعرفوا أنّ شيئا منها لا يصحّ أن يكون إلها، لو وضح دلالة الحدوث فيها، فقال: هذا ربّي، قول من ينصف خصمه، و يماشي قوله، مع علمه بأنّه مبطل، فيحكي قوله كما هو غير متعصّب لمذهبه، ليكون ذلك أدعى إلى الحقّ، و أدفع لتهيّج الشرّ و الشغب «1».

فَلَمَّا أَفَلَ أي: غاب قالَ لا أُحِبُّ الْآفِلِينَ أي: لا أحبّ عبادة الأرباب المتغيّرين من حال إلى حال، المنتقلين من مكان إلى مكان، فإنّ ذلك من صفات الأجسام، و دليل الحدوث و الإمكان، فضلا عن عبادتهم. فلمّا كان الانتقال و الاحتجاب بالأستار يقتضي الإمكان و الحدوث فيكون منافيا للألوهيّة.

فَلَمَّا رَأَى الْقَمَرَ بازِغاً مبتدئا في الطلوع قالَ هذا رَبِّي فَلَمَّا أَفَلَ قالَ لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي لَأَكُونَنَّ مِنَ الْقَوْمِ الضَّالِّينَ استعجز نفسه، و استعان بربّه في درك الحقّ، فإنّه لا يهتدي إليه إلّا بتوفيقه و لطفه، إرشادا لقومه، و تنبيها لهم على أنّ القمر ايضا لتغيّر حاله لا يصلح للألوهيّة، و أنّ من اتّخذه إلها فهو ضالّ.

فَلَمَّا رَأَى الشَّمْسَ بازِغَةً قالَ هذا رَبِّي تذكير اسم الإشارة لتذكير الخبر، و إن كان إشارة إلى الشمس، و صيانة للربّ عن شبهة التأنيث،

الا تراهم لم يقولوا:

اللّه سبحانه علّامة، و إن كان علّامة أبلغ من علّام، احترازا عن علامة التأنيث. هذا أَكْبَرُ كبّره استدلالا، أو إظهارا لشبهة الخصم، من باب استعمال الإنصاف مع الخصوم.

فَلَمَّا أَفَلَتْ قالَ يا قَوْمِ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ من الأجرام المحدثة المحتاجة إلى محدث يحدثها، الّتي تجعلونها شركاء لخالقها.

______________________________

(1) في هامش النسخة الخطّية: «الشغب- بتسكين الغين- تهييج الفتن. منه».

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 419

و إنّما احتجّ بالأفول دون البزوغ مع أنّه أيضا انتقال، لأنّ الاحتجاج بالأفول أظهر، فإنّه انتقال مع خفاء و احتجاب، و لأنّه رأى الكوكب الّذي يعبدونه في وسط السماء حين حاول الاستدلال.

قيل: إنّه كان استدلاله في نفسه في زمان مهلة النظر الّذي هو أوّل زمان التكليف، فحكاه اللّه سبحانه. و القول الأوّل أظهر، لقوله: «لَئِنْ لَمْ يَهْدِنِي رَبِّي»، و لقوله: «يا قَوْمِ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ».

و لمّا تبرّأ منها توجّه إلى موجدها و مبدعها الّذي دلّت هذه الممكنات عليه، فقال: إِنِّي وَجَّهْتُ وَجْهِيَ لِلَّذِي فَطَرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أي: للّذي دلّت هذه المحدثات على أنّه صانعها، و مبدعها الّذي دبّر أحوالها، و مسيرها و انتقالها، و طلوعها و أفولها. حَنِيفاً مائلا عن الشرك إلى التوحيد وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ

[سورة الأنعام (6): الآيات 80 الى 82]

وَ حاجَّهُ قَوْمُهُ قالَ أَ تُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ وَ قَدْ هَدانِ وَ لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ (80) وَ كَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ وَ لا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ أَحَقُّ بِالْأَمْنِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (81) الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ (82)

روى المفسّرون

أنّ إبراهيم عليه السّلام ولد في زمان نمرود بن كنعان. و زعم بعضهم

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 420

أنّ نمرود كان من ولاة كيكاوس. و بعضهم قال: كان ملكا برأسه. و قيل لنمرود: إنّه يولد في بلده هذه السنة مولود يكون هلاكه و زوال ملكه على يده. ثمّ اختلفوا فقال بعضهم: إنّما قالوا ذلك من طريق التنجيم و التكّهن.

و

قال أبو عبد اللّه و الباقر عليهما السّلام و محمّد بن إسحاق: إنّ نمرود رأى كوكبا طلع فذهب بضوء الشمس و القمر، فسأل عنه فعبّر بأنّه يولد غلام يذهب ملكه على يده، فعند ذلك أمر بقتل كلّ غلام يولد تلك السنة. و أمر بأن يعزل الرجال عن النساء، و بأن يتفحّص عن أحوال النساء، فمن وجدت حبلى تحبس حتّى تلد، فإن كان غلاما قتل، و إن كان جارية خلّيت، حتّى حملت أمّ إبراهيم، فلمّا دنت ولادة إبراهيم خرجت أمّه هاربة، فذهبت به إلى غار و لفّته في خرقة، ثمّ جعلت على باب الغار صخرة، ثمّ انصرفت عنه.

فجعل اللّه تعالى رزقه في إبهامه، فجعل يمصّها فتشخب لبنا، و جعل يشبّ في اليوم كما يشبّ غيره في الجمعة، و يشبّ في الجمعة كما يشبّ غيره في الشهر، و يشبّ في الشهر كما يشبّ غيره في السنة، فمكث ما شاء اللّه أن يمكث.

و قيل: كانت تختلف أمّه إليه، فكان يمصّ أصابعه، فوجدته يمصّ من إصبع ماء، و من إصبع لبنا و من إصبع عسلا، و من إصبع تمرا، و من إصبع سمنا. و لمّا بلغ سنّ التمييز خرج من الغار و نظر إلى النجم و كان آخر الشهر، فرأى الكوكب قبل القمر، ثمّ رأى القمر، ثمّ رأى الشمس، فقال ما قال.

و لمّا رأى قومه يعبدون الأصنام خالفهم. و كان يعيب آلهتهم، حتّى فشا أمره، و جرت المناظرات و المحاجّات، كما قال اللّه تعالى:

وَ حاجَّهُ قَوْمُهُ أي: خاصموه في التوحيد، و بترك عبادة آلهتهم منكرين قالَ أَ تُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ في وحدانيّته. و قرأ نافع و ابن عامر بتخفيف النون. وَ قَدْ هَدانِ إلى توحيده.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 421

و قد خوّفوه أنّ معبوداتهم تصيبه بسوء، فقال في جوابهم: وَ لا أَخافُ ما تُشْرِكُونَ بِهِ أي: لا أخاف معبوداتكم في وقت قطّ، لأنّها لا تقدر بنفسها على نفع و ضرّ إِلَّا أَنْ يَشاءَ رَبِّي شَيْئاً أي: إلّا وقت مشيئة ربّي شيئا، بأن يصيبني بمكروه من جهتها، إن أصبت ذنبا أستوجب به إنزال المكروه، مثل أن يرجمني بكوكب أو بشقّة من الشمس أو القمر على مضرّة، بأن يحييها و يقدّرها فتضرّ و تنفع.

وَسِعَ رَبِّي كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً كأنّه علّة الاستثناء، أي: أحاط به علما، فلا يبعد أن يكون في علمه أن يحيق بي مكروه من جهتها. أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ فتميّزوا بين الصحيح و الفاسد، و القادر و العاجز.

ثمّ احتجّ عليهم، و أكّد الحجاج بقوله: وَ كَيْفَ أَخافُ ما أَشْرَكْتُمْ و لا يتعلّق به ضرر وَ لا تَخافُونَ أَنَّكُمْ أَشْرَكْتُمْ بِاللَّهِ أي: و لا تخافون إشراككم باللّه، و هو حقيق بأن يخاف منه كلّ الخوف، لأنّه إشراك للمصنوع بالصانع، و تسوية بين المقدور العاجز بالقادر الضارّ النافع.

ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ عَلَيْكُمْ سُلْطاناً ما لم ينزّل بإشراكه كتابا، أو لم ينصب عليه دليلا، و لا يصحّ أن يكون علمه حجّة، و كأنّه قال: و ما لكم تنكرون عليّ الأمن في موضع الأمن، و لا تنكرون على أنفسكم الأمن في موضع

الخوف؟! فَأَيُّ الْفَرِيقَيْنِ فريق المشركين أو فريق الموحّدين أَحَقُّ بِالْأَمْنِ و إنّما لم يقل: أيّنا أنا أم أنتم؟ احترازا من تزكية نفسه. إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ما يحقّ أن يخاف منه.

ثمّ استأنف الجواب عمّا استفهم عنه بقوله: الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يَلْبِسُوا و لم يخلطوا إِيمانَهُمْ بِظُلْمٍ أي: بالشرك أُولئِكَ لَهُمُ الْأَمْنُ وَ هُمْ مُهْتَدُونَ محكوم لهم بالاهتداء.

و الدليل على أنّ المراد بالظلم هاهنا الشرك قرينة المقام، و لما

روي أنّ الآية

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 422

لمّا نزلت شقّ ذلك على الصحابة و قالوا: أيّنا لم يظلم نفسه. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ليس ما تظنّون، إنّما هو ما قال لقمان لابنه: يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «1».

و لبس الإيمان بالظلم أن يصدّق بوجود الصانع الحكيم، و يخلط بهذا التصديق الإشراك به. و قيل: المراد بالظلم المعصية.

[سورة الأنعام (6): آية 83]

وَ تِلْكَ حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ عَلى قَوْمِهِ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (83)

وَ تِلْكَ إشارة إلى ما احتجّ به إبراهيم من قوله: «فَلَمَّا جَنَّ عَلَيْهِ اللَّيْلُ» إلى قوله: «وَ هُمْ مُهْتَدُونَ»، أو من قوله: «أَ تُحاجُّونِّي فِي اللَّهِ». حُجَّتُنا آتَيْناها إِبْراهِيمَ أرشدناه إليها، و وفّقناه لها، و أخطرناها بباله عَلى قَوْمِهِ متعلّق ب «حجّتنا» إن جعل خبر «تلك»، و بمحذوف إن جعل بدله، أي: آتيناها إبراهيم حجّة على قومه.

نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ من المؤمنين في العلم و الحكمة. و قرأ الكوفيّون و يعقوب بالتنوين «2». إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ في رفعه و خفضه عَلِيمٌ بحال من يرفعه، و استعداده له.

[سورة الأنعام (6): الآيات 84 الى 90]

وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ كُلاًّ هَدَيْنا وَ نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ وَ أَيُّوبَ وَ يُوسُفَ وَ مُوسى وَ هارُونَ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (84) وَ زَكَرِيَّا وَ يَحْيى وَ عِيسى وَ إِلْياسَ كُلٌّ مِنَ الصَّالِحِينَ (85) وَ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ يُونُسَ وَ لُوطاً وَ كلاًّ فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ (86) وَ مِنْ آبائِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ إِخْوانِهِمْ وَ اجْتَبَيْناهُمْ وَ هَدَيْناهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (87) ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ لَوْ أَشْرَكُوا لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (88)

أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ فَإِنْ يَكْفُرْ بِها هؤُلاءِ فَقَدْ وَكَّلْنا بِها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ (89) أُولئِكَ الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْعالَمِينَ (90)

______________________________

(1) لقمان: 13.

(2) و قرأ الباقون: درجات، بالإضافة.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 423

وَ وَهَبْنا لَهُ لإبراهيم إِسْحاقَ ابنه من سارة وَ يَعْقُوبَ ابن إسحاق كُلًّا منهما هَدَيْنا وَ

نُوحاً هَدَيْنا مِنْ قَبْلُ أي: من قبل إبراهيم. عدّ هداه نعمة على إبراهيم من حيث إنّه أبوه، و شرف الوالد يتعدّى إلى الولد. و المعنى: كلّا من الثلاثة فضّلناهم بالنبوّة. و قيل: بالكرامات و المعجزات.

وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِ الضمير لإبراهيم، إذ الكلام فيه. و قيل: لنوح، لأنّه أقرب، و لأنّ يونس و لوطا ليسا من ذرّيّة إبراهيم، فلو كان لإبراهيم اختصّ البيان بالمعدودين في تلك الآية و الّتي بعدها. و المذكورون في الآية الثالثة عطف على «نوحا». داوُدَ أي: هدينا داود بن إيشا وَ سُلَيْمانَ ابنه وَ أَيُّوبَ هو ولد أموص بن رازج بن روم بن عيصا بن إسحاق بن إبراهيم وَ يُوسُفَ بن يعقوب بن إسحاق وَ مُوسى وَ هارُونَ أخاه ابني عمران بن يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب. و هارون كان أكبر منه بسنة.

وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي: نجزي المحسنين جزاء مثل ما جزينا

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 424

إبراهيم، برفع درجاته، و كثرة أولاده، و النبوّة فيهم.

وَ زَكَرِيَّا بن أذن بن بركيا وَ يَحْيى ابنه وَ عِيسى و هو ابن مريم بنت عمران بن ياشهم بن أمون بن حزقيا. و في ذكره دليل على أنّ الذرّيّة تتناول أولاد البنت. ففيه دلالة واضحة و حجّة قاطعة على أنّ الحسن و الحسين عليهما السّلام ذرّيّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أنّهما ابنا رسول اللّه. و قد صحّ

في الحديث أنّه قال لهما: «ابناي هذان إمامان، قاما أو قعدا». و قال للحسن: «إنّ ابني هذا سيّد».

و أنّ الصحابة كانوا يقولون لكلّ منهما و من أولادهما: يا ابن رسول اللّه، و الأصل في الاستعمال الحقيقة.

وَ إِلْياسَ قيل: هو إدريس جدّ نوح عليه

السّلام، كما قيل: ليعقوب إسرائيل، فيكون البيان مخصوصا بمن في الآية الأولى. و قيل: هو إلياس بن يستر بن فنحاص بن العيزار بن هارون بن عمران نبيّ اللّه، فهو من أسباط هارون أخي موسى. و عن كعب: هو الخضر. كُلٌ من الأنبياء و المرسلين مِنَ الصَّالِحِينَ الكاملين في الصلاح، و هو الإتيان بما ينبغي، و التحرّز عمّا لا ينبغي.

وَ إِسْماعِيلَ بن إبراهيم، من هاجر وَ الْيَسَعَ بن أخطوب بن العجوز.

و قرأ حمزة: و الليسع. و على القراءتين علم أعجميّ أدخل عليه اللام، كما أدخل على اليزيد في قوله:

رأيت الوليد بن اليزيد مباركاشديدا بأعباء الخلافة كاهله

وَ يُونُسَ بن متّى وَ لُوطاً بن هاران ابن أخي إبراهيم. و قيل: ابن أخته. وَ كلًّا فَضَّلْنا عَلَى الْعالَمِينَ بالنبوّة. و فيه دليل على فضلهم على من عداهم من أهل زمانهم.

وَ مِنْ آبائِهِمْ و من آباء هؤلاء الأنبياء، في موضع النصب عطفا على «كلّا» أو «نوحا»، أي: فضّلنا كلّا منهم، أو هدينا هؤلاء و بعض آبائهم وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ إِخْوانِهِمْ بعض منهم، فإنّ منهم من لم يكن نبيّا و لا مهديّا.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 425

وَ اجْتَبَيْناهُمْ و اصطفيناهم عطف على «فضّلنا» أو «هدينا». و اجتبى مأخوذ من: جبيت الماء في الحوض، إذا جمعته. وَ هَدَيْناهُمْ أي: أرشدناهم فاهتدوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي: طريق بيّن لا اعوجاج فيه، و هو الدين الحقّ.

هذا تكرير لبيان ما هدوا إليه.

ذلِكَ إشارة إلى ما تقدّم ذكره من التفضيل و الاجتباء، و الهداية و الاصطفاء هُدَى اللَّهِ هو الإرشاد إلى الثواب للّذين استرشدوا طريق الحقّ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ممّن سمّاهم و من لم يسمّهم في هذه الآيات.

وَ لَوْ أَشْرَكُوا أي: و لو

أشرك هؤلاء الأنبياء مع فضلهم و علوّ شأنهم و تقدّمهم لَحَبِطَ عَنْهُمْ ما كانُوا يَعْمَلُونَ فكانوا كغيرهم في حبوط أعمالهم بسقوط ثوابها، و نحوه قوله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ «1».

أُولئِكَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يريد به الجنس وَ الْحُكْمَ بين الناس، أو الحكمة العمليّة الّتي هي الأحكام الشرعيّة وَ النُّبُوَّةَ و الرسالة فَإِنْ يَكْفُرْ بِها أي: بهذه الثلاثة هؤُلاءِ يعني: قريشا فَقَدْ وَكَّلْنا بِها أي: بمراعاتها قَوْماً لَيْسُوا بِها بِكافِرِينَ و هم الأنبياء المذكورون، و متابعوهم الّذين آمنوا بما أتى به نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قبل وقت مبعثه. و قيل: هم الأنصار، أو أصحاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قيل: كلّ من آمن به، أو الفرس. و قيل: الملائكة.

و معنى توكيلهم بها: أنّهم وفّقوا للإيمان بها و القيام بحقوقها، كما يوكّل الرجل بالشي ء ليقوم به و يتعهّده و يحافظ عليه. و الباء في «بها» صلة «يكفرون»، و في «بكافرين» لتأكيد النفي.

أُولئِكَ يريد الأنبياء المتقدّم ذكرهم الَّذِينَ هَدَى اللَّهُ فَبِهُداهُمُ اقْتَدِهْ فاختصّ طريقهم بالاقتداء، و لا تقتد إلّا بهم. و هذا معنى تقديم المفعول. و المراد

______________________________

(1) الزمر: 65.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 426

بهداهم ما توافقوا عليه من التوحيد و أصول الدين، دون الفروع المختلف فيها، فإنّها ليست هدى مضافا إلى الكلّ، و لا يمكن التأسّي بهم جميعا، لأنّها يتطرّق إليها النسخ، فهي هدى ما لم ينسخ، بخلاف أصول الدين، فإنّها هدى أبدا على الإطلاق. فليس فيه دليل على أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم متعبّد بشرع من قبله.

و الهاء في «اقتده» للوقف. و من اثبتها في الدرج ساكنة- كابن كثير، و نافع، و أبي عمرو، و عاصم- أجرى

الوصل مجرى الوقف. و أشبعها ابن عامر، على أنّها كناية المصدر.

قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ لا أطلب منكم عَلَيْهِ أي: على التبليغ، أو القرآن أَجْراً جعلا من جهتكم، كما لم يسأل من قبلي من النبيّين. و هذا من جملة ما أمر بالاقتداء بهم فيه. إِنْ هُوَ أي: التبليغ، أو القرآن، أو الغرض إِلَّا ذِكْرى لِلْعالَمِينَ إلّا تذكير، أو عظة لهم. و فيه دليل على أنّ نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مبعوث إلى كافّة العالمين، و أنّ النبوّة مختومة به.

[سورة الأنعام (6): آية 91]

وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِذْ قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ ءٍ قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً وَ هُدىً لِلنَّاسِ تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَ تُخْفُونَ كَثِيراً وَ عُلِّمْتُمْ ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ وَ لا آباؤُكُمْ قُلِ اللَّهُ ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ يَلْعَبُونَ (91)

و لمّا تقدّم ذكر الأنبياء و النبوّة، عقّبه سبحانه بالتهجين لمن أنكر النبوّة، فقال:

وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ و ما عرفوه حقّ معرفته، و ما عظّموه حقّ عظمته، و ما وصفوه بما يجب أن يوصف به من الرحمة و الإنعام على العباد و اللطف بهم. إِذْ

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 427

قالُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى بَشَرٍ مِنْ شَيْ ءٍ حين أنكروا الوحي و بعثة الرسل، و ذلك من عظائم رحمته و جلائل نعمته. أو في السخط على الكفّار و شدّة البطش بهم، حين جسروا على هذه المقالة.

و القائلون هم اليهود. و إنّما قالوا ذلك مبالغة في إنكار إنزال القرآن، بدليل نقض كلامهم و إلزامهم بقوله: قُلْ مَنْ أَنْزَلَ الْكِتابَ الَّذِي جاءَ بِهِ مُوسى نُوراً ليستضاء به في الدين «وَ هُدىً لِلنَّاسِ» يهتدون به. و بدليل قراءة الجمهور

في قوله:

تَجْعَلُونَهُ قَراطِيسَ تُبْدُونَها وَ تُخْفُونَ كَثِيراً بالتاء. و إنّما قرأ بالياء ابن كثير و أبو عمرو حملا، على «قالوا» و ما قَدَرُوا اللَّهَ

و المعنى: جاء به موسى و هو نور وَ هُدىً لِلنَّاسِ حتى غيّروه و بعّضوه، و جعلوه و رقات مقطّعة متفرّقة، ليتمكّنوا ممّا حاولوه من الإبداء و الإخفاء. أو تضمّن ذلك توبيخهم على سوء جهلهم بالتوراة، و ذمّهم على تجزئتها، بإبداء بعض انتخبوه و كتبوه في ورقات متفرّقة، و إخفاء بعض لا يشتهونه.

روي أنّه جاء رجل من اليهود يقال له: مالك بن الصيف- و هو من أحبارهم- يخاصم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنشدك بالّذي أنزل التوراة على موسى، أما تجد في التوراة أنّ اللّه تعالى يبغض الحبر السمين، فأنت الحبر السمين، قد سمنت ممّا يطعمك اليهود؟ و كان سمينا. فضحك القوم، فغضب و قال: ما أنزل اللّه على بشر من شي ء. فقال له أصحابه: و يحك و لا موسى؟! فقال: إنّه أغضبني.

فنزعوه و جعلوا مكانه كعب بن الأشرف. فنزلت الآية.

و

قيل: إنّ اليهود قالت: يا محمد أنزل اللّه عليك كتابا؟ قال: نعم. قالوا: و اللّه ما أنزل اللّه من السماء كتابا، فنزلت.

و في رواية أخرى انّها نزلت في مشركي مكّة أنكروا قدرة اللّه عليهم، فألزمهم بإنزال التوراة، لأنّه من المشهورات الذائعة عندهم، و لذلك كانوا يقولون:

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 428

لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ «1».

وَ عُلِّمْتُمْ على لسان محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما لَمْ تَعْلَمُوا أَنْتُمْ مع أنّكم حملة التوراة وَ لا آباؤُكُمْ أي: و لم يعلمه آباؤكم الّذين كانوا قبلكم،

و هم أعلم منكم، و هو ما زاد على ما في التوراة بيانا لما التبس عليكم، و نحوه قوله: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ «2». و قيل: الخطاب لمن آمن من قريش.

قُلِ اللَّهُ أي: أنزله اللّه، أو اللّه أنزله. فأمر اللّه تعالى نبيّه بأن يجيب عنهم، إشعارا بأنّ الجواب متعيّن لا يمكن غيره، و تنبيها على أنّهم بهتوا بحيث لا يقدرون على الجواب. ثُمَّ ذَرْهُمْ فِي خَوْضِهِمْ في أباطيلهم الّتي يخوضون فيها، فلا عليك بعد التبليغ و إلزام الحجّة يَلْعَبُونَ حال من «هم» الأوّل، و الظرف صلة «ذرهم» أو «يلعبون»، أو حال من المفعول، أو فاعل «يلعبون»، أو من «هم» الثاني، و الظرف متّصل بالأوّل.

[سورة الأنعام (6): آية 92]

وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (92)

و لمّا احتجّ سبحانه بإنزال التوراة على موسى، بيّن أنّ سبيل القرآن سبيلها، فقال: وَ هذا أي: القرآن كِتابٌ أَنْزَلْناهُ من السماء إلى الأرض، لأنّ جبرئيل أتى به من السماء مُبارَكٌ كثير الفوائد و المنافع، فإنّ قراءته خير، و العمل به

______________________________

(1) الأنعام: 157.

(2) النمل: 76.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 429

خير، و فيه علم الأوّلين و الآخرين، و فيه الحلال و الحرام، و هو باق إلى آخر التكليف لا يرد عليه نسخ مُصَدِّقُ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ يعني: التوراة و الإنجيل و سائر الكتب المتقدّمة قبله.

وَ لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى معطوف على ما دلّ عليه صفة «كتاب»، كأنّه قيل:

للبركات و للتصديق لما تقدّمه من الكتب، و للإنذار. أو علّة محذوف، أي: و لتنذر أهل أمّ القرى أنزلناه. و إنّما

سمّيت مكّة أمّ القرى. لأنّها مكان أوّل بيت وضع للناس، و لأنّها قبلة لأهل القرى و محجّهم، و لأنّها أعظم القرى شأنا، و لأنّ الأرض بأسرها دحيت من تحتها، فكأنّها تولّدت منها. و قرأ أبو بكر عن عاصم بالياء، أي:

لينذر الكتاب. وَ مَنْ حَوْلَها أهل الشرق و الغرب.

وَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ فإنّ من صدّق بالآخرة خاف العاقبة، و لا يزال الخوف يحمله على النظر و التدبّر حتى يؤمن بالكتاب أو النبيّ، لدلالة الكلام عليه. و الضمير يحتملهما، و يحافظ على الطاعة.

و تخصيص الصلاة لأنّها عماد الدين و علم الإيمان، و من حافظ عليها كانت له لطفا في المحافظة على أخواتها.

[سورة الأنعام (6): آية 93]

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ ءٌ وَ مَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ وَ لَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ وَ الْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِّ وَ كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ (93)

و لمّا تقدّم ذكر نبوّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إنزال الكتاب عليه، عقّبه سبحانه بذكر تهجين الكفّار الّذين كذّبوه أو ادّعوا أنّهم يأتون بمثل ما أتى به، فقال: وَ مَنْ أَظْلَمُ

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 430

مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً الاستفهام في معنى الإنكار، أي: لا أحد أظلم ممّن كذب على اللّه فزعم أنّه بعثه نبيّا، كمسيلمة و الأسود العنسي، أو اختلق عليه أحكاما، كعمرو بن لحى و متابعيه.

و

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «رأيت فيما يرى النائم كأنّ في يديّ سوارين

من ذهب، فكبرا عليّ و أهمّاني، فأوحى اللّه إليّ أن أنفخهما، فنفختهما فطارا عنّي، فأوّلتهما الكذّابين اللّذين أنا بينهما، كذّاب اليمامة مسيلمة، و كذّاب صنعاء الأسود العنسي».

أَوْ قالَ أُوحِيَ إِلَيَّ وَ لَمْ يُوحَ إِلَيْهِ شَيْ ءٌ كعبد اللّه بن سعد بن أبي سرح، كان يكتب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فكان إذا أملى عليه: سميعا عليما، كتب هو: عليما حكيما. و لمّا نزلت: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ فلمّا بلغ قوله: ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ «1»

قال عبد اللّه: تبارك اللّه أحسن الخالقين، تعجّبا من تفصيل خلق الإنسان. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اكتبها، فكذلك نزلت. فشكّ عبد اللّه و قال: لئن كان محمد صادقا لقد أوحي إليّ كما أوحي إليه، و لئن كان كاذبا لقد قلت كما قال. فارتدّ عن الإسلام و لحق مكّة، ثمّ رجع مسلما قبل فتح مكّة. و قيل: هو النضر بن الحارث، أو المستهزؤن.

وَ مَنْ قالَ سَأُنْزِلُ مِثْلَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ كالّذين قالوا: لو نشاء لقلنا مثل هذا.

وَ لَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ اللام للعهد. و هم الّذين مرّ ذكرهم من اليهود المتنبّئة. و حذف مفعول «ترى» لدلالة الظرف عليه، أي: و لو ترى الظالمين فِي غَمَراتِ الْمَوْتِ شدائده و سكراته. و أصل الغمر ما يغمر الأشياء، من: غمره الماء إذا؟؟؟، فاستعيرت للشدّة الغالبة.

وَ الْمَلائِكَةُ باسِطُوا أَيْدِيهِمْ بقبض أرواحهم، كالمتقاضي المسلّط، أو

______________________________

(1) المؤمنون: 12- 14.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 431

بالعذاب أَخْرِجُوا أَنْفُسَكُمُ أي: يقولون: أخرجوها إلينا من أجسادكم، تغليظا و تعنيفا عليهم، أو أخرجوها من العذاب و خلّصوها من أيدينا، أي: لا تقدرون على الخلاص. و جواب «لو» محذوف، أي: لو ترى هذه الحالة لرأيت

أمرا عظيما.

الْيَوْمَ يريد به وقت الإماتة، أو الوقت الممتدّ من الإماتة إلى ما لا نهاية له تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ أي: الهوان، يريد العذاب المتضمّن لشدّة و إهانة.

و إضافته إلى الهون لعراقته «1» و تمكّنه فيه، كقولك: رجل سوء. فالمراد التمكّن في العراقة و أنّه عريق فيه. بِما كُنْتُمْ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ غَيْرَ الْحَقِ كادّعاء الولد و الشريك له، و دعوى النبوّة و الوحي كاذبا. وَ كُنْتُمْ عَنْ آياتِهِ تَسْتَكْبِرُونَ فلا تتأمّلون فيها، و لا تؤمنون بها.

[سورة الأنعام (6): آية 94]

وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ وَراءَ ظُهُورِكُمْ وَ ما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ شُرَكاءُ لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ وَ ضَلَّ عَنْكُمْ ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (94)

ثمّ بيّن سبحانه تمام ما يقال لهم على سبيل التوبيخ، فقال: وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا للحساب و الجزاء فُرادى منفردين عن الأموال و الأولاد و سائر ما آثرتموه من الدنيا، أو عن الأعوان و الأوثان الّتي زعمتم أنّها شفعاؤكم. و هو جمع فرد، و الألف للتأنيث، ككسالى. قيل: نزلت في النضر بن الحارث بن كلدة حين قال: سوف تشفع لي اللّات و العزّى.

و قوله: كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بدل من فرادى، أي: على الهيئة

______________________________

(1) أي: لأصالته، و العرق: أصل كلّ شي ء.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 432

الّتي ولدتم عليها في الانفراد. أو حال ثانية إن جوّز التعدّد فيها. أو حال من الضمير في «فرادى» أي: مشبهين ابتداء خلقكم، أي: تحشرون عراة حفاة غرلا بهما، كما وقع في الحديث. و الغرل «1»: هم القلف. و البهم هم الّذين لا نطق لهم أصلا. أو صفة مصدر «جئتمونا» أي: مجيئا كما خلقناكم أوّل مرّة.

وَ تَرَكْتُمْ ما خَوَّلْناكُمْ ما تفضّلنا به عليكم في

الدنيا، فشغلتم به عن الآخرة وَراءَ ظُهُورِكُمْ ما قدّمتم منه شيئا، و لم تحتملوا نقيرا وَ ما نَرى مَعَكُمْ شُفَعاءَكُمُ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أَنَّهُمْ فِيكُمْ في استعبادكم شُرَكاءُ أي: شركاء اللّه في ربوبيّتكم و استحقاق عبادتكم.

لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ أي: تقطّع وصلكم، و تشتّت جمعكم. و البين من الأضداد، و يستعمل للفصل و الوصل: و قيل: هو الظرف أسند إليه الفعل على الاتّساع. و المعنى: وقع التقطّع بينكم. و يشهد له قراءة نافع و الكسائي و حفص عن عاصم بالنصب على إضمار الفاعل، لدلالة ما قبله عليه. أو أقيم مقام موصوفه، و أصله: لقد تقطّع ما بينكم. و قد قرئ به. وَ ضَلَّ عَنْكُمْ ضاع و بطل ما كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أنّها شفعاؤكم، أو أن لا بعث و لا جزاء.

[سورة الأنعام (6): الآيات 95 الى 103]

إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِّ ذلِكُمُ اللَّهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (95) فالِقُ الْإِصْباحِ وَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ حُسْباناً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (96) وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ لِتَهْتَدُوا بِها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (97) وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ فَمُسْتَقَرٌّ وَ مُسْتَوْدَعٌ قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ (98) وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْ ءٍ فَأَخْرَجْنا مِنْهُ خَضِراً نُخْرِجُ مِنْهُ حَبًّا مُتَراكِباً وَ مِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ دانِيَةٌ وَ جَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمَّانَ مُشْتَبِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ انْظُرُوا إِلى ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَ يَنْعِهِ إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (99)

وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ الْجِنَّ وَ خَلَقَهُمْ وَ خَرَقُوا لَهُ بَنِينَ وَ بَناتٍ بِغَيْرِ عِلْمٍ سُبْحانَهُ

وَ تَعالى عَمَّا يَصِفُونَ (100) بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (101) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ فَاعْبُدُوهُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ (102) لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (103)

______________________________

(1) غرل الصبيّ: لم يختن، فهو أغرل، و جمعه: غرل. و الغرلة: القلفة، و هي جلدة عضو التناسل.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 433

ثمّ عاد الكلام إلى الاحتجاج على المشركين بعجائب الصنع و لطائف التدبير، فقال: إِنَّ اللَّهَ فالِقُ الْحَبِّ وَ النَّوى بالنبات و الشجر. و قيل: أراد الشقّين اللّذين في

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 434

النواة و الحنطة. يُخْرِجُ الْحَيَ يريد به ما ينمو من الحيوان و النبات، ليطابق ما قبله مِنَ الْمَيِّتِ ممّا لا ينمو، كالنطف و البيض و الحبّ و النوى وَ مُخْرِجُ الْمَيِّتِ مِنَ الْحَيِ و مخرج هذه الأشياء الميتة من الحيوان و النبات. ذكره بلفظ الاسم حملا على «فالِقُ الْحَبِّ»، فإنّه معطوف عليه، فإنّ قوله «يُخْرِجُ الْحَيَّ» واقع موقع البيان له. ذلِكُمُ اللَّهُ أي: ذلك المحي و المميت هو الّذي يحقّ له العبادة فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ تصرفون عنه إلى غيره.

فالِقُ الْإِصْباحِ شاقّ عمود الصبح عن الظلمة، أو عن بياض النهار. أو شاقّ ظلمة الإصباح، و هو الغبش «1» في آخر الليل. و الإصباح في الأصل مصدر:

أصبح، إذا دخل في الصبح، سمّي به الصبح.

وَ جَعَلَ اللَّيْلَ سَكَناً يسكن إليه التعب بالنهار، لاستراحته فيه، من: سكن إليه، إذا اطمأنّ إليه استئناسا به، و استرواحا إليه من زوج أو حبيب، و منه قيل للمرأة: سكن، لأنّه يستأنس بها. أو يسكن

فيه الخلق، من قوله تعالى: لِتَسْكُنُوا فِيهِ «2». و نصبه بفعل دلّ عليه «جاعل»، لابه، فإنّه في معنى الماضي. و يدلّ عليه قراءة الكوفيّين: و جعل الليل، حملا على معنى المعطوف عليه، فإنّ «فالق» بمعنى:

فلق، و لذلك قرئ به. أو به على أن لا يكون المراد منه معنى المضيّ، بل يكون المراد منه جعلا مستمرّا في الأزمنة المختلفة. و على هذا يجوز أن يكون وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ عطفا على محلّ «الليل». و يشهد له قراءتهما بالجرّ. و الأحسن نصبهما ب «جعل» مقدّرا.

حُسْباناً أي: على أدوار مختلفة يحسب بهما الأوقات، فيكونان علمي الحسبان، يعلم حساب الأوقات بدورهما و مسيرهما. و هو مصدر: حسب بالفتح،

______________________________

(1) غبش الليل: خالط البياض ظلمته في آخره.

(2) يونس: 67.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 435

كما أنّ الحسبان بالكسر مصدر: حسب. و قيل: جمع حساب، كشهاب و شهبان.

ذلِكَ إشارة إلى جعلهما حسبانا، أي: ذلك التسيير بالحساب المعلوم تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الّذي قهرهما و سيّرهما على الوجه المخصوص الْعَلِيمِ بتدبيرهما، و الأنفع من التداوير الممكنة لهما.

وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ النُّجُومَ أي: خلقها لنفعكم لِتَهْتَدُوا بِها بضوئها و طلوعها و مواضعها فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ في ظلمات الليل في البرّ و البحر.

و إضافتها إليهما لملابستهما إيّاها. أو في مشتبهات الطرق. و سمّاها ظلمات على الاستعارة. و هو إفراد لبعض منافعها بالذكر بعد ما أجملها بقوله: «لكم». قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ بيّنّاها فصلا فصلا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فإنّهم منتفعون به.

وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ هو آدم عليه السّلام. و خلقت أمنّا حوّاء من ضلع من أضلاعه، و منّ علينا بهذا، لأنّ الناس إذا رجعوا إلى أصل واحد كانوا أقرب إلى التوادّ و التعاطف و التآلف. فَمُسْتَقَرٌّ

أي: فلكم استقرار في الأصلاب، أو فوق الأرض وَ مُسْتَوْدَعٌ و استيداع في الأرحام، أو تحت الأرض. أو مستقرّ في الرحم، و مستودع في الصلب. أو المراد منهما: موضع استقرار و استيداع.

و عن الحسن: يا بن آدم أنت وديعة في أهلك، و يوشك أن تلحق بصاحبك.

و أنشد قول لبيد:

و ما المال و الأهلون إلّا وديعةو لا بدّ يوما أن تردّ الودائع

و قرأ ابن كثير و البصريّان بكسر القاف، على أنّه فاعل و المستودع مفعول، أي: فمنكم قارّ و منكم مستودع، لأنّ الاستقرار منّا دون الاستيداع.

قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ بيّنّا الحجج، و ميّزنا الأدلّة لِقَوْمٍ يَفْقَهُونَ ذكر «يعلمون» مع ذكر النجوم، لأنّ أمرها ظاهر، و «يفقهون» مع ذكر خلق بني آدم، لأنّ إنشاءهم من نفس واحدة و تصريفهم بين أحوال مختلفة دقيق غامض يحتاج إلى

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 436

استعمال فطنة و تدقيق نظر، فكان ذكر الفقه الذي هو استعمال فطنة ذكيّة و تدقيق فكر صائب مطابقا له.

وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً من السحاب، أو من جانب السماء، فإنّ كلّ ما علاك و أظلّك فهو سماء فَأَخْرَجْنا على تلوين الخطاب بِهِ بالماء نَباتَ كُلِّ شَيْ ءٍ نبت كلّ صنف من أصناف النامي من الحيوان و النبات، يعني: أنّ السبب واحد و المسبّبات صنوف. فالمراد منه إظهار القدرة في إنبات الأنواع المفنّنة بماء واحد، كما في قوله: يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ «1».

فَأَخْرَجْنا مِنْهُ من النبات أو الماء خَضِراً شيئا غضّا أخضر، و هو ما تشعّب من أصل النبات الخارج من الحبّة. يقال: أخضر و خضر، كأعور و عور.

نُخْرِجُ مِنْهُ من الخضر حَبًّا مُتَراكِباً قد تركّب بعضه على بعض، مثل سنبلة

الحنطة و الشعير و غيرهما وَ مِنَ النَّخْلِ مِنْ طَلْعِها قِنْوانٌ أي: و أخرجنا من النخل نخلا من طلعها قنوان. أو من النخل شي ء من طلعها قنوان. و يجوز أن يكون «من النخل» خبر «قنوان»، و «من طلعها» بدل منه. و المعنى: و حاصلة من طلع النخل قنوان، و هو الأعذاق، جمع قنو و عذق، و هو عنقود التمر. و نظيره صنو «2» و صنوان.

دانِيَةٌ قريبة من المتناول، أو ملتفّة قريب بعضها من بعض. و إنّما اقتصر على ذكرها عن مقابلها- يعني البعيدة- لدلالتها عليه، كقوله: سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ «3»، لأنّ النعمة فيها أظهر.

______________________________

(1) الرعد: 4.

(2) الصنو: الأخ الشقيق، و إذا خرجت نخلتان أو أكثر من أصل واحد فكلّ واحدة منها صنو، و الجمع صنوان.

(3) النحل: 81.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 437

وَ جَنَّاتٍ مِنْ أَعْنابٍ عطف على «نَباتَ كُلِّ شَيْ ءٍ»، أي: أخرجنا جنّات من أعناب.

وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمَّانَ أيضا عطف على «نبات». و الأحسن أن ينتصبا على الاختصاص، لفضل هذين الصنفين عندهم، كقوله: وَ الْمُقِيمِي الصَّلاةِ «1» مُشْتَبِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ حال من الرمّان أو من الجميع، أي: بعض ذلك متشابه و بعضه غير متشابه، في الصورة و القدر و اللون و الطعم. يقال: اشتبه الشيئان و تشابها، كقولك: استويا و تساويا. و الافتعال و التفاعل يشتركان كثيرا.

انْظُرُوا نظر اعتبار و استبصار و استدلال على كمال اقتداره و تدبيره إِلى ثَمَرِهِ أي: ثمر كلّ واحد من ذلك. و قرأ حمزة و الكسائي بضمّ الثاء. و هو جمع ثمرة، كخشب و خشبة، أو ثمار ككتاب و كتب. إِذا أَثْمَرَ إذا أخرج ثمره، كيف يثمر ضعيفا صغيرا لا يكاد ينتفع به وَ يَنْعِهِ و إلى حال نضجه، أو

إلى نضيجه، كيف يعود ضخما ذا نفع و لذّة. و هو في الأصل مصدر: ينعت الثمرة إذا أدركت.

و قيل: جمع يانع، كتاجر و تجر. و المعنى: انظروا من ابتداء خروجه إذا أثمر إلى انتهائه إذا أينع و أدرك، كيف تنتقل عليه الأحوال في الطعم و اللون و الرائحة و الصغر و الكبر.

إِنَّ فِي ذلِكُمْ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بعلامات على وجود القادر الحكيم و توحيده، فإنّ حدوث الأجناس المختلفة و الأنواع المفنّنة من أصل واحد، و نقلها من حال إلى حال، لا يكون إلّا بإحداث عالم قادر يعلم تفاصيلها، و يرجّح ما تقتضيه حكمته ممّا يمكن من أحوالها، و لا يعوّقه عن فعله ندّ يعارضه أو ضدّ يعانده، و لذلك عقّبه بتوبيخ من أشرك به و الردّ عليه، فقال: وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ هما مفعولا «جعل». و قوله: الْجِنَ بدل من «شركاء». و يجوز أن يكون «شركاء

______________________________

(1) الحجّ: 35.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 438

الجنّ» مفعولين قدّم ثانيهما على الأوّل، أي: جعلوا الجنّ شركاء، و «للّه» متعلّق ب «شركاء» أو حال منه. و فائدة تقديم «للّه» استعظام أن يتّخذ للّه شريكا من كان ملكا أو جنّيّا أو إنسيّا، فلذلك قدّم اسم اللّه على الشركاء.

و المراد بالجنّ الملائكة، فإنّهم عبدوهم و قالوا: الملائكة بنات اللّه. و سمّاهم جنّا لاجتنانهم، تحقيرا لشأنهم. أو الشياطين، لأنّهم أطاعوهم كما يطاع اللّه. أو عبدوا الأوثان بتسويلهم و تحريضهم. أو قالوا: اللّه خالق الخير و كلّ نافع، و الشيطان خالق الشرّ و كلّ ضارّ، كما هو رأي الثنويّة.

وَ خَلَقَهُمْ حال بتقدير «قد». و المعنى: و قد علموا أنّ اللّه خالقهم دون الجنّ، و ليس من يخلق كمن لا يخلق.

وَ خَرَقُوا لَهُ اختلقوا و اقترحوا

له. و قال في عين المعاني «1»: الخرق أشنع الكذب، كأنّه يخرق العقل. و قرأ نافع بتشديد الراء للتكثير. بَنِينَ وَ بَناتٍ فقالت اليهود: عزير بن اللّه، و قالت النصارى: المسيح بن اللّه، و قالت العرب: الملائكة بنات اللّه بِغَيْرِ عِلْمٍ من غير أن يعلموا حقيقة ما قالوه، و يروا عليه دليلا، بل جهلا منهم. و هو في موضع الحال من الواو أو المصدر، أي: خرقا بغير علم.

سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يَصِفُونَ أنّ له شريكا أو ولدا.

بَدِيعُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ من إضافة الصفة المشبّهة إلى فاعلها، كقولك:

فلان بديع الشعر، أي: بديع شعره. أو إلى الظرف، كقولهم: ثبت «2» الغدر، أي: ثابت فيه، بمعنى أنّه عديم النظير فيهما. و المعنى: بديع سماواته و أرضه، أو بديع فيهما.

و قيل: معناه مبدعهما و منشئهما ابتداء لا من شي ء، و لا على سبق مثال. و رفعه على

______________________________

(1) عين المعاني في تفسير السبع المثاني، لمحمد بن طيفور السجاوندي الغزنوي، من علماء المائة السادسة، و الظاهر أنه لم يطبع إلى الآن. راجع كشف الظنون 2: 1182.

(2) في هامش النسخة الخطّية: «رجل ثبت الغدر، أي: ثابت في القتال. منه».

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 439

الخبر، و المبتدأ محذوف. أو على الابتداء، و خبره قوله: أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ أي:

من أين و كيف يكون له ولد؟ و لا يستقيم أن يوصف بالولادة، لأنّ الولادة من صفات الأجسام، و صانع الأجسام ليس بجسم حتّى يكون والدا، و لأنّ الولادة لا تكون إلّا بين زوجين.

وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ يكون منها الولد وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ لا يخفى عليه خافية. و لم يقل: «به» لتطرّق التخصيص إلى الأوّل.

و في الآية استدلال

على نفي الولد من ثلاثة وجوه:

الأوّل: أنّه من مبدعاته السماوات و الأرضون، و هي مع أنّها من جنس ما يوصف بالولادة مبرّأة عنها، لاستمرارها و طول مدّتها، فهو أولى بأن يتعالى عنها.

و الثاني: أنّ المعقول من الولد ما يتولّد من ذكر و أنثى متجانسين، و اللّه تعالى منزّه عن المجانسة.

و الثالث: أنّ الولد كفؤ لوالده، و لا كفؤ له لوجهين: الأوّل: أنّ كلّ ما عداه مخلوقه، فلا يكافئه. و الثاني: أنّه سبحانه لذاته عالم بكلّ المعلومات، و لا كذلك غيره بالإجماع.

ذلِكُمُ إشارة إلى الموصوف بما سبق من الصفات. و هو مبتدأ. اللَّهُ رَبُّكُمْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ أخبار مترادفة. و يجوز أن يكون البعض بدلا أو صفة، و البعض خبرا. فَاعْبُدُوهُ حكم مسبّب عن مضمون الجملة، فإنّ من استجمع هذه الصفات استحقّ العبادة وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ أي: و هو مع تلك الصفات متولّي أموركم، فكلوها إليه، و توسّلوا بعبادته إلى إنجاح مآربكم، و رقيب على أعمالكم، فيجازيكم عليها.

لا تُدْرِكُهُ لا تحيط به الْأَبْصارُ جمع بصر، و هو الجوهر اللطيف الّذي به تدرك المبصرات. و قد يقال للعين من حيث إنّها محلّها. و المعنى: أنّه متعال أن

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 440

يكون مبصرا في ذاته، فالأبصار لا تدركه، لأنّها إنّما تدرك ما كان في جهة أو تابعا، كالأجسام و الألوان.

وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ محيط علمه بها، فإنّه للطف إدراكه للمدركات يدرك تلك الجواهر اللطيفة الّتي ركّبها اللّه في حاسّة النظر، و هي الأبصار، لا يدركها مدرك سواه. و قيل: تقديره: و هو يدرك ذوي الأبصار.

وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ فيدرك ما لا تدركه الأبصار. و يجوز أن يكون من باب اللفّ،

أي: لا تدركه الأبصار، لأنّه اللطيف، فيلطف عن أن تدركه الأبصار، و هو يدرك الأبصار، و لا تلطف عن إدراكه، لأنّه خبير بكلّ لطيف.

و

روي عن الرضا عليه السّلام: أنّها الأبصار الّتي في القلوب، لا تقع عليه الأوهام، و لا يدرك كيف هو.

[سورة الأنعام (6): الآيات 104 الى 105]

قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ أَبْصَرَ فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ عَمِيَ فَعَلَيْها وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (104) وَ كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ وَ لِيَقُولُوا دَرَسْتَ وَ لِنُبَيِّنَهُ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (105)

ثمّ بيّن سبحانه أنّه بعد هذه الآيات قد أزاح العلّة للمكلّفين، فقال: قَدْ جاءَكُمْ بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ البصائر جمع بصيرة، و هي نور القلب، كما أنّ البصر نور العين. و سمّيت بها الدلالة، لأنّها تجلّي للنفس الحقّ و تبصّرها به.

فَمَنْ أَبْصَرَ أي: أبصر الحقّ و آمن به فَلِنَفْسِهِ أبصر، لأنّ نفعه لها وَ مَنْ عَمِيَ عن الحقّ و ضلّ فَعَلَيْها و باله. و هذا وارد على لسان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لقوله تعالى: وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أحفظ أعمالكم و أجازيكم عليها، و إنّما أنا منذر، و اللّه تعالى هو الحفيظ عليكم، يحفظ أعمالكم و يجازيكم

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 441

عليها. و هذا كلام ورد على لسان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

وَ كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ و مثل ذلك التصريف نصرّف. و هو إجراء المعنى الدائر في المعاني المتعاقبة ليجتمع فيه وجوه الفائدة من التصرّف، و هو نقل الشي ء من حال إلى حال.

وَ لِيَقُولُوا دَرَسْتَ أي: و ليقولوا: و تعلّمت من اليهود صرفنا. و اللام لام العاقبة. و الدرس القراءة و التعلّم. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو: دارست، أي: دارست أهل الكتاب و ذاكرتهم. و

ابن عامر و يعقوب: درست، من الدروس، أي: قدّمت هذه الآيات و عفت، كقولهم: أساطير الأوّلين.

وَ لِنُبَيِّنَهُ هذا اللام على أصله و حقيقته، لأنّ التبيين مقصود التصريف، بخلاف لام «ليقولوا» فإنّه على المجاز. و الضمير للآيات باعتبار المعنى، لأنّها في معنى القرآن. أو للقرآن و إن لم يذكر، لكونه معلوما. أو للتبيين الّذي هو مصدر الفعل. لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فإنّهم المنتفعون به.

[سورة الأنعام (6): الآيات 106 الى 107]

اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (106) وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكُوا وَ ما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (107)

ثمّ أمر سبحانه نبيّه باتّباع الوحي فقال: اتَّبِعْ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ بالتديّن به لا إِلهَ إِلَّا هُوَ اعتراض أكّد به إيجاب الاتّباع. أو حال مؤكّدة من «ربّك»، بمعنى: منفردا في الألوهيّة وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ لا تبال بأقوالهم، و لا تلتفت إلى آرائهم و أهوائهم، و لا تلاطفهم. و من جعله منسوخا بآية السيف «1»،

______________________________

(1) التوبة: 5 و 29.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 442

حمل الإعراض على ما يعمّ الكفّ عنهم.

وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ توحيدهم و عدم إشراكهم جبرا و قسرا ما أَشْرَكُوا أي:

لاضطرّهم إلى الإيمان بالقسر و الجبر، و لكنّ الجبر مناف للتكليف الذي هو مناط استحقاق الثواب و العقاب، فلم يشأ ذلك. و لا يجوز أن يكون المعنى: أنّه تعالى لا يريد إيمان الكافر، فلذلك لم يؤمن، لأنّ مراده واجب الوقوع كما قالت الأشعريّة، لأنّ إرادة الكفر قبيح، و القبح على اللّه محال.

و

في تفسير أهل البيت عليهم السّلام: لو شاء اللّه أن يجعلهم كلّهم مؤمنين معصومين حتّى كان لا يعصيه أحد، لما كان يحتاج إلى جنّة و لا إلى نار، و

لكنّه أمرهم و نهاهم و امتحنهم، و أعطاهم ماله به عليهم الحجّة من الآلة و الاستطاعة، ليستحقّوا الثواب و العقاب.

وَ ما جَعَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً رقيبا لأعمالهم وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ بموكّل عليهم بذلك، و إنّما أنت رسول عليك البلاغ و علينا الحساب. و جمع بين حفيظ و وكيل لاختلاف معنى اللفظين، فإنّ الحافظ للشي ء هو الّذي يصونه عمّا يضرّه، و الوكيل على الشي ء هو الّذي يجلب الخير إليه.

[سورة الأنعام (6): آية 108]

وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً بِغَيْرِ عِلْمٍ كَذلِكَ زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ عَمَلَهُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (108)

ثمّ نهى اللّه تعالى المؤمنين أن يسبّوا الأصنام، لما في ذلك من المفسدة، فقال: وَ لا تَسُبُّوا الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: و لا تذكروا آلهتهم الّتي يعبدونها بما فيها من القبائح فَيَسُبُّوا اللَّهَ عَدْواً تجاوزا عن الحقّ إلى الباطل بِغَيْرِ عِلْمٍ

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 443

على جهالة باللّه و بما يجب أن يذكر به. و قرأ يعقوب: عدوّا بضمّ العين و تشديد الواو. و يقال: عدا فلان عدوا و عدوّا و عداء و عدوانا.

قال ابن عبّاس: لمّا نزلت: إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ «1».

قال المشركون: لتنتهي عن سبّ آلهتنا أو لنهجونّ إلهك، فنزلت.

و قيل: كان المسلمون يسبّونها فنهوا، لئلّا يكون سبّهم سببا لسبّ اللّه.

و فيه دليل على أنّ النهى عن المنكر الّذي هو من أجلّ الطاعات إذا علم أنّه يؤدّي إلى زيادة الشرّ ينقلب معصية، فصار النهي عن ذلك النهي من جملة الواجبات.

و

سئل أبو عبد اللّه عليه السّلام عن قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنّ الشرك أخفى من دبيب النمل

على صفوانة «2» سوداء في ليلة ظلماء، فقال: كان المؤمنون يسبّون ما يعبد المشركون من دون اللّه، و كان المشركون يسبّون ما يعبد المؤمنون، فنهى اللّه عن سبّ آلهتهم لكيلا يسبّ الكفّار إله المؤمنين، فيكون المؤمنون قد أشركوا من حيث لا يعلمون.

كَذلِكَ أي: مثل ذلك التزيين زَيَّنَّا لِكُلِّ أُمَّةٍ من أمم الكفّار عَمَلَهُمْ أي: خلّيناهم و سوء ما عملوا، و لم نمنعهم حتّى حسن عندهم عملهم السيّ ء، أي:

أمهلنا الشيطان حتّى زيّن لهم. أو زيّنّاه في زعمهم و قولهم: إنّ اللّه أمرنا بهذا و زيّنه لنا. و لا يجوز التزيين على المعنى الحقيقي لقبحه، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

ثُمَّ إِلى رَبِّهِمْ مَرْجِعُهُمْ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ فيوبّخهم عليه و يعاتبهم و يعاقبهم عليه.

______________________________

(1) الأنبياء: 98.

(2) الصفوان: الصخر الأملس.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 444

[سورة الأنعام (6): الآيات 109 الى 110]

وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَ ما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ (109) وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصارَهُمْ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ نَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (110)

ثمّ بيّن سبحانه حال الكفّار الّذين سألوه الآيات المقترحة، فقال: وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ مصدر في موقع الحال، أي: حلفوا باللّه مجدّين مجتهدين.

و الداعي لهم إلى هذا القسم و التأكيد فيه التحكّم على الرسول في طلب الآيات، و استحقار ما رأوا منها. لَئِنْ جاءَتْهُمْ آيَةٌ من مقترحاتهم لَيُؤْمِنُنَّ بِها قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ هو قادر عليها، يظهر منها ما يشاء، و ليس شي ء منها بقدرتي و مشيئتي وَ ما يُشْعِرُكُمْ و ما يدريكم أَنَّها أنّ الآيات المقترحة إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ

يعني: أنا أعلم أنّها إذا جاءت لا يؤمنون، و أنتم

لا تدرون. و ذلك أنّ المؤمنين كانوا يطمعون في إيمانهم عند مجي ء تلك الآيات، فيتمنّون مجيئها، فأخبرهم اللّه تعالى أنّهم لا يدرون ما سبق علمه به من أنّهم لا يؤمنون. و الاستفهام للإنكار، أنكر السبب- و هو مجي ء الآية- مبالغة في نفي المسبّب، و هو الايمان. ففيه تنبيه على أنّه تعالى إنّما لم ينزلها لعلمه بأنّها لا يؤمنون بها إذا جاءت.

و قيل: «لا» مزيدة. و على قراءة الفتح قيل: «أن» بمعنى: لعلّ، إذ قرأ أبيّ:

لعلّها، من قولهم: ائت السوق أنّك تشتري لحما.

و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و أبو بكر عن عاصم و يعقوب: «إنّها» بالكسر، على أنّ الكلام قد تمّ قبله، كأنّه قال: و ما يشعركم ما يكون منهم، ثمّ أخبرهم بما علم.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 445

و قيل: الخطاب للمشركين. و قرأ ابن عامر و حمزة: لا تؤمنون بالتاء.

وَ نُقَلِّبُ أَفْئِدَتَهُمْ وَ أَبْصارَهُمْ عطف على «لا يُؤْمِنُونَ» داخل في حكم «وَ ما يُشْعِرُكُمْ». يعني: و ما يشعركم أنّهم لا يؤمنون، و ما يشعركم أنّا نقلّب أفئدتهم و أبصارهم، أي: نطبع على قلوبهم و أبصارهم، فلا يفقهون و لا يبصرون الحقّ كَما لَمْ يُؤْمِنُوا بِهِ أَوَّلَ مَرَّةٍ كما كانوا عند نزول آياتنا أوّلا لا يؤمنون بها، لكونهم مطبوعا على قلوبهم. وَ نَذَرُهُمْ و ما يشعركم أنّا ندعهم فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ يتحيّرون، أي: نخلّيهم و شأنهم، لا نكفّهم عن الطغيان حتى يعمهوا فيه.

[سورة الأنعام (6): آية 111]

وَ لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ وَ كَلَّمَهُمُ الْمَوْتى وَ حَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْ ءٍ قُبُلاً ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ (111)

ثمّ بيّن سبحانه حالهم في عنادهم، و تردّدهم في طغيانهم و كفرهم، و تمرّدهم و لجاجهم،

فقال: وَ لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ يشهدون لنبيّنا بالرسالة، كما قالوا: لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ «1» وَ كَلَّمَهُمُ الْمَوْتى و أحيينا الموتى حتّى شهدوا له، كما قالوا: فَأْتُوا بِآبائِنا «2» وَ حَشَرْنا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْ ءٍ قُبُلًا كما قالوا:

أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ قَبِيلًا «3». و قبلا جمع قبيل، بمعنى: كفيلا، أو جمع القبيل الّذي هو جمع قبيلة بمعنى جماعات، أو مصدر بمعنى مقابلة كقبلا. و هو قراءة نافع و ابن عامر. و هو على الوجوه حال من «كلّ». و إنّما جاز ذلك لعمومه.

ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا لما سبق عليهم علمه تعالى بكفرهم و عنادهم

______________________________

(1) الفرقان: 21.

(2) الدخان: 36.

(3) الإسراء: 92.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 446

إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ استثناء من أعمّ الأحوال، أي: لا يؤمنون في حال من الأحوال إلّا حال أن يشاء اللّه تعالى إيمانهم، مشيئة إكراه و قسر و اضطرار. يعني: أنّهم لا يؤمنون مختارين قطّ إلّا أن يكرهوا. وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ يَجْهَلُونَ أنّهم لو أوتوا بكلّ آية لم يؤمنوا طوعا، فيقسمون باللّه جهد أيمانهم على ما لا يشعرون، و لذلك أسند الجهل إلى أكثرهم، مع أنّ مطلق الجهل يعمّهم. أو لكنّ أكثر المسلمين يجهلون أنّهم لا يؤمنون، فيتمنّون نزول الآية المقترحة طمعا في إيمانهم.

و في الآية دلالة على أنّ اللّه تعالى لو علم أنّه إذا فعل ما اقترحوه من الآيات آمنوا لفعل ذلك، و لكان من الواجب في حكمته، لأنّه لو لم يجب ذلك، لم يكن لتعليله بأنّه لم يظهر هذه الآيات لعلمه بأنّه لو فعلها لم يؤمنوا، معنى.

[سورة الأنعام (6): الآيات 112 الى 113]

وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِّ يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ زُخْرُفَ الْقَوْلِ غُرُوراً وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ ما

فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ (112) وَ لِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ لِيَرْضَوْهُ وَ لِيَقْتَرِفُوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ (113)

ثمّ بيّن سبحانه ما كان عليه حال الأنبياء عليهم السّلام مع أعدائهم، تسلية لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا أي: و كما خلّينا بينك و بين أعدائك، و لم نمنعهم عنك قسرا و كرها، كذلك فعلنا بمن قبلك من الأنبياء و أعدائهم، لم نمنعهم عن العداوة، لما فيه من الامتحان الّذي هو سبب ظهور الثبات و الصبر، و كثرة الثواب و الأجر.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 447

شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِ مردة الفريقين. و هو بدل من «عدوّا»، أو أوّل مفعولي «جعلنا»، و «عدوّا» مفعوله الثاني، و «لكلّ» متعلّق به أو حال منه.

يُوحِي بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ يوسوس و يلقي خفية شياطين الجنّ إلى شياطين الإنس، أو بعض الجنّ إلى بعض، و بعض الإنس إلى بعض زُخْرُفَ الْقَوْلِ ما يزيّنه و يموّهه من القول و الإغراء على المعاصي. يقال: زخرف القول إذا زيّنه، أي: الذي يستحسن ظاهره، و لا حقيقة له و لا أصل.

غُرُوراً خدعا و أخذا على غرّة. و هو مفعول له، أو مصدر في موقع الحال.

و عن مالك بن دينار: أنّ شيطان الإنس أشدّ عليّ من شيطان الجنّ، لأنّي إذا تعوّذت باللّه ذهب شيطان الجنّ عنّي، و بعض الإنس يجيئني فيجرّني إلى المعاصي عيانا.

وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ ما فَعَلُوهُ أي: ما عادوك، أو ما أوحى بعضهم إلى بعض زخرف القول، بأن يكفّهم عنه اضطرارا و إلجاء، و لا يخلّيهم و شأنهم فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ أي: دعهم و افتراءهم الكذب، فإنّي أجازيهم و أعقابهم. أمر سبحانه

نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأن يخلّي بينهم و بين ما اختاروه، و لا يمنعهم منه بالقهر تهديدا لهم، كما قال: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ «1»، دون أن يكون أمرا واجبا أو ندبا.

وَ لِتَصْغى إِلَيْهِ أَفْئِدَةُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عطف على «غرورا» إن جعل علّة، و إلّا يتعلّق بمحذوف، أي: و ليكون ذلك جعلنا لكلّ نبيّ عدوّا. و لا يجوز أن يكون اللام للعلّة، لأنّه تعالى لا يجوز أن يريد إصغاء القلوب في الكفر و وحي الشياطين، بل اللام لام الصيرورة و العاقبة، كما في قوله:

______________________________

(1) فصلت: 40.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 448

فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً «1». و الصغو: الميل. و الضمير في «إليه» يرجع إلى ما يرجع إليه ضمير «فعلوه»، أي: و لتميل إلى ما ذكر من عداوة الأنبياء و وسوسة الشياطين قلوب الكفّار، و الّذين لا يعتقدون بالآخرة و الحشر و النشر و الحساب.

وَ لِيَرْضَوْهُ و ليحبّوه لأنفسهم وَ لِيَقْتَرِفُوا ليكتسبوا ما هُمْ مُقْتَرِفُونَ من الآثام.

[سورة الأنعام (6): آية 114]

أَ فَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ مُفَصَّلاً وَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَعْلَمُونَ أَنَّهُ مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ (114)

ثمّ أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يقول لهؤلاء الكفّار الّذين مضى ذكرهم هذا القول: أَ فَغَيْرَ اللَّهِ أَبْتَغِي حَكَماً على إرادة القول، أي: قل لهم يا محمد: أ فغير اللّه أطلب من يحكم بيني و بينكم، و يميّز المحقّ منّا من المبطل؟! و «غير» مفعول «أبتغي»، و «حكما» حال منه. و يحتمل عكسه. و حكما أبلغ من حاكم، و لذلك لا يوصف به غير العادل.

وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ إِلَيْكُمُ الْكِتابَ

القرآن المعجز مُفَصَّلًا مبيّنا فيه الحلال و الحرام، و الكفر و الإيمان، و الشهادة لي بالصدق و عليكم بالافتراء، و سائر الحقّ و الباطل بحيث ينفي الالتباس. و فيه تنبيه على أنّ القرآن بإعجازه و تقريره مغن عن سائر الآيات.

وَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يعني: التوراة و الإنجيل يَعْلَمُونَ أَنَّهُ أنّ القرآن

______________________________

(1) القصص: 8.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 449

مُنَزَّلٌ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ هذا تأييد لدلالة الإعجاز على أنّ القرآن حقّ منزل من عند اللّه، يعلم أهل الكتاب به، لتصديقه ما عندهم، مع أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يمارس كتبهم، و لم يخالط علماءهم، و إنّما وصف جميعهم بالعلم، لأنّ أكثرهم يعلمون، و من لم يعلم فهو متمكّن منه بأدنى تأمّل. و قيل: المراد مؤمنوا أهل الكتاب. و قرأ ابن عامر و حفص عن عاصم: منزّل بالتشديد.

فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ من الشاكّين في أنّهم يعلمون ذلك، أو في أنّه منزل، لجحود أكثرهم و كفرهم به، فيكون من باب التهييج، كقوله تعالى: وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ «1». أو «فَلا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُمْتَرِينَ» في أن أهل الكتاب يعلمون أنّه منزل بالحقّ، و لا يريبك جحود أكثرهم و كفرهم به. و قيل: الخطاب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ظاهرا، و المراد خطاب أمّته. و يجوز أن يكون خطابا لكلّ أحد، على معنى أنّه: إذا تظاهرت الحجج على صحّته فلا ينبغي أن يمتري أحد فيه.

[سورة الأنعام (6): آية 115]

وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ صِدْقاً وَ عَدْلاً لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (115)

ثمّ بيّن سبحانه صفة الكتاب المنزل، فقال: وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي: بلغت الغاية حججه و أمره و نهيه و وعده و وعيده

صِدْقاً في الأخبار و المواعيد وَ عَدْلًا في الأقضية و الأحكام. و نصبهما يحتمل التمييز و الحال و المفعول له لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ لا أحد يبدّل شيئا من ذلك بما هو أصدق و أعدل. أو لا أحد يقدر أن يحرّفها شائعا ذائعا كما فعل بالتوراة، على أنّ المراد بها القرآن، فيكون ضمانا لها من اللّه تعالى بأن يحفظه، كقوله: وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «2». أو لا نبيّ و لا كتاب

______________________________

(1) القصص: 87.

(2) الحجر: 9.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 450

زبدة التفاسير ج 2 499

بعدها ينسخها أو يبدّل أحكامها.

و قرأ الكوفيّون و يعقوب: كلمة ربّك، أي: ما تكلّم به، أو القرآن.

وَ هُوَ السَّمِيعُ لما يقولون الْعَلِيمُ بما يضمرون، فلا يهملهم.

[سورة الأنعام (6): الآيات 116 الى 117]

وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (116) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (117)

و لمّا تقدّم ذكر الكتاب بيّن سبحانه أنّ من تبع غير هذا الكتاب ضلّ و أضلّ، فقال: وَ إِنْ تُطِعْ أَكْثَرَ مَنْ فِي الْأَرْضِ أي: أكثر الناس، يريد الكفّار، أو الجهّال، أو أتباع الهوى. و قيل: أهل مكّة. يُضِلُّوكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن الطريق الموصل إليه، فإنّ الضالّ في غالب الأمر لا يأمر إلّا بما فيه ضلال.

إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ و هو ظنّهم أنّ آباءهم كانوا محقّين، فهم يقلّدونهم. أو جهالاتهم و آراؤهم الفاسدة، فإنّ الظنّ يطلق على ما يقابل العلم. و فيه: أنّه لا عبرة في معرفة الحقّ بالكثرة، و إنّما الاعتبار بالحجّة. وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ يقدّرون أنّهم على شي ء. أو يكذبون على اللّه فيما ينسبون إليه، كاتّخاذ الولد، و

جعل عبادة الأوثان وصلة إليه، و تحليل الميتة، و تحريم البحائر. و حقيقة الخرص ما يقال عن ظنّ و تخمين.

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ مَنْ يَضِلُّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ أي: أعلم بالفريقين. و «من» موصولة أو موصوفة في محلّ النصب بفعل دلّ عليه «أعلم»، و هو: يعلم، لا به، فإنّ أفعل لا ينصب الظاهر في مثل ذلك. أو استفهاميّة مرفوعة بالابتداء، و الخبر «يضلّ». و الجملة معلّق عنها الفعل المقدّر.

و في هذا دلالة على أنّ الضلال و الإضلال من فعل العبيد، خلاف ما يقول

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 451

أهل الجبر، و على أنّه لا يجوز التقليد و اتّباع الظنّ في الدين و الاغترار بالكثرة.

و إلى هذا

أشار أمير المؤمنين عليه السّلام حيث قال للحارث الهمداني: «يا حار الحقّ لا يعرف بالرجال، اعرف الحقّ تعرف أهله».

[سورة الأنعام (6): الآيات 118 الى 123]

فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ (118) وَ ما لَكُمْ أَلاَّ تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ إِلاَّ مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ وَ إِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ (119) وَ ذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَ باطِنَهُ إِنَّ الَّذِينَ يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ (120) وَ لا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ وَ إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ إِلى أَوْلِيائِهِمْ لِيُجادِلُوكُمْ وَ إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ (121) أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ كَمَنْ مَثَلُهُ فِي الظُّلُماتِ لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (122)

وَ كَذلِكَ جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها وَ ما يَمْكُرُونَ إِلاَّ بِأَنْفُسِهِمْ وَ ما

يَشْعُرُونَ (123)

و عن ابن عبّاس أنّهم كانوا يدعون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنين إلى أكل الميتة، و يقولون: تأكلون ما قتلتم و لا تأكلون ما قتل ربّكم! فهذا ضلالهم، فقال: سبحانه

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 452

ردّا عليهم: فَكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ هذا مسبّب عن إنكار اتّباع المضلّين الّذين يحرّمون الحلال و يحلّون الحرام. و المعنى: كلوا ممّا ذكر اسم اللّه على ذبحه، و هو المذكّى ببسم اللّه، لا ممّا ذكر عليه اسم غيره، أو مات حتف أنفه. إِنْ كُنْتُمْ بِآياتِهِ مُؤْمِنِينَ فإنّ الإيمان بها يقتضي استباحة ما أحلّه اللّه تعالى، و اجتناب ما حرّمه.

وَ ما لَكُمْ أَلَّا تَأْكُلُوا مِمَّا ذُكِرَ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ أي: و أيّ غرض لكم في أن تتحرّجوا عن أكله؟ و ما يمنعكم عنه؟ وَ قَدْ فَصَّلَ لَكُمْ ما حَرَّمَ عَلَيْكُمْ ممّا لم يحرّم بقوله: حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ «1». و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و ابن عامر: فصّل على البناء للمفعول، و نافع و يعقوب و حفص: حرّم على البناء للفاعل، و هو اللّه تعالى.

إِلَّا مَا اضْطُرِرْتُمْ إِلَيْهِ إلى ما حرّم عليكم، فإنّه ايضا حلال حال الضرورة، حفظا للنفس.

وَ إِنَّ كَثِيراً لَيُضِلُّونَ بتحليل الحرام و تحريم الحلال. و قرأ الكوفيّون بضمّ الياء، و أرادوا: يضلّون أشياعهم، و الباقون بالفتح. بِأَهْوائِهِمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ بتشهّيهم من غير تعلّق بدليل يفيد العلم إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُعْتَدِينَ المتجاوزين الحقّ إلى الباطل، و الحلال إلى الحرام.

وَ ذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَ باطِنَهُ ما أعلنتم منه، و ما أسررتم. و قيل: ما عملتم بجوارحكم، و ما نويتم بقلوبكم. و قيل: الزنا في الحوانيت، و اتّخاذ الأخدان في السرّ.

إِنَّ الَّذِينَ

يَكْسِبُونَ الْإِثْمَ يرتكبون القبيح سَيُجْزَوْنَ بِما كانُوا يَقْتَرِفُونَ يكتسبون.

ثمّ أكّد سبحانه ما قدّم بقوله: وَ لا تَأْكُلُوا مِمَّا لَمْ يُذْكَرِ اسْمُ اللَّهِ عَلَيْهِ على ذبحه. و هذا تصريح في وجوب التسمية على الذبيحة. و ظاهره دالّ على تحريم متروك التسمية عمدا أو نسيانا. و إليه ذهب داود و أحمد. و قال مالك و الشافعي بخلافه،

لقوله عليه السّلام: «ذبيحة المسلم حلال و إن لم يذكر اسم اللّه عليه».

و فرّق أبو

______________________________

(1) المائدة: 3.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 453

حنيفة بين العمد و النسيان. و من ذهب إلى جواز أكل ما لم يذكر عليه اسم اللّه بنسيان أو عمد، أوّله بالميتة، أو بما ذكر غير اسم اللّه عليه.

و عند أصحابنا الإماميّة أنّ المسلم إذا لم يسمّ اللّه متعمّدا لم تحلّ ذبيحته، و إذا كان ناسيا حلّ أكلها بعد أن يكون معتقدا لوجوب التسمية، و أنّ ذبائح الكفّار كلّهم محرّم، أهل الكتاب و غيرهم، من سمّى منهم و من لم يسمّ، لأنّهم لا يعرفون اللّه تعالى على الوجه الصحيح و الطريق الحقّ.

وَ إِنَّهُ لَفِسْقٌ الضمير ل «ما». و يجوز أن يكون للأكل الّذي دلّ عليه «لا تأكلوا».

وَ إِنَّ الشَّياطِينَ لَيُوحُونَ ليوسوسون إِلى أَوْلِيائِهِمْ من الكفّار لِيُجادِلُوكُمْ بقولهم: تأكلون ما قتلتم أنتم و جوارحكم، كالصقر و البازي و الكلب و غيرها، و تدعون ما قتله اللّه تعالى. و هو يؤيّد التأويل بالميتة. وَ إِنْ أَطَعْتُمُوهُمْ في استحلال ما حرّم إِنَّكُمْ لَمُشْرِكُونَ فإنّ من ترك طاعة اللّه إلى طاعة غيره و أتبعه فيه أشرك به. و إنّما حسن حذف الفاء فيه، لأنّ الشرط بلفظ الماضي.

أَ وَ مَنْ كانَ مَيْتاً فَأَحْيَيْناهُ وَ جَعَلْنا لَهُ نُوراً يَمْشِي بِهِ فِي النَّاسِ يستضي ء به بين الناس. مثّل

به من هداه اللّه تعالى و أنقذه من الضلال، و جعل له نور الحجج و الآيات، يتأمّل بها في الأشياء، فيميّز بين الحقّ و الباطل، و المحقّ و المبطل. و قرأ نافع و يعقوب: ميّتا على الأصل.

كَمَنْ مَثَلُهُ صفته. و هو مبتدأ، و خبره: فِي الظُّلُماتِ أي: كمن صفته هذه، و هي قوله: «فِي الظُّلُماتِ» أي: خابط فيها، كقوله: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ «1». لَيْسَ بِخارِجٍ مِنْها لا ينفكّ منها و لا يتخلّص. حال من المستكن في الظرف، لا من الهاء في «مثله»، للفصل. و هو مثل لمن بقي على الضلالة، لا يفارقها بحال.

و إنّما سمّى اللّه تعالى الكافر ميّتا، لأنّه لا ينتفع بحياته، و لا ينتفع غيره بحياته،

______________________________

(1) محمد: 15.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 454

فهو أسوأ حالا من الميّت، إذ لا يوجد من الميّت ما يعاقب عليه، و لا يتضرّر غيره به. و سمّى المؤمن حيّا، لأنّ له و لغيره المصلحة و المنفعة في حياته.

كَذلِكَ كما زيّن للمؤمنين إيمانهم زُيِّنَ لِلْكافِرِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي:

زيّنه الشيطان، أو اللّه عزّ و علا، على قوله: زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ «1». عن الحسن: زيّنه و اللّه لهم الشيطان و أنفسهم. و الآية نزلت في حمزة و أبي جهل. و قيل: في عمّار و أبي جهل.

وَ كَذلِكَ أي: و كما جعلنا في مكّة صناديدها ليمكروا فيها، كذلك جَعَلْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ أَكابِرَ مُجْرِمِيها لِيَمْكُرُوا فِيها اللام للعاقبة. و المعنى: خلّيناهم و شأنهم، و لم نكفّهم عن المنكر. و خصّ الأكابر لأنّهم أقوى في حملهم على الضلال و المكر بالناس، و هو كقوله: أَمَرْنا مُتْرَفِيها «2». وَ ما يَمْكُرُونَ إِلَّا بِأَنْفُسِهِمْ لأنّ وباله يحيق بهم وَ ما يَشْعُرُونَ

ذلك.

و هذه الآية تسلية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و تقديم موعد بالنصرة عليهم.

[سورة الأنعام (6): آية 124]

وَ إِذا جاءَتْهُمْ آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا صَغارٌ عِنْدَ اللَّهِ وَ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما كانُوا يَمْكُرُونَ (124)

روي أنّ الوليد بن المغيرة قال: لو كانت النبوّة حقّا لكنت أولى بها منك، لأنّي أكبر منك سنّا، و أكثر منك مالا.

______________________________

(1) النمل: 4.

(2) الإسراء: 16.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 455

و روي أنّ أبا جهل قال: زاحمنا بني عبد مناف في الشرف حتّى إذا صرنا كفرسي رهان قالوا: منّا نبيّ يوحى إليه. و اللّه لا نرضى به و لا نتّبعه أبدا، إلّا أن يأتينا وحي كما يأتيه، فنزلت: وَ إِذا جاءَتْهُمْ يعني: كفّار قريش آيَةٌ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ حَتَّى نُؤْتى مِثْلَ ما أُوتِيَ رُسُلُ اللَّهِ و نحوها قوله: بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً «1».

اللَّهُ أَعْلَمُ حَيْثُ يَجْعَلُ رِسالَتَهُ استئناف للردّ عليهم، بأنّ النبوّة ليست بالنسب و المال، و إنّما هي بفضائل نفسانيّة يخصّ اللّه تعالى بها من يشاء من عباده، فيجتبي لرسالته من علم أنّه يصلح لها، و هو أعلم بالمكان الّذي يضعها فيه. و قرأ ابن كثير و حفص عن عاصم: رسالته.

سَيُصِيبُ الَّذِينَ أَجْرَمُوا من أكابرها صَغارٌ ذلّ و حقارة بعد كبرهم و عظمهم عِنْدَ اللَّهِ يوم القيامة. و قيل: من عند اللّه. وَ عَذابٌ شَدِيدٌ في الدارين من الأسر و القتل و عذاب النار بِما كانُوا يَمْكُرُونَ بسبب مكرهم، أو جزاء على مكرهم.

[سورة الأنعام (6): الآيات 125 الى 127]

فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ وَ مَنْ يُرِدْ أَنْ يُضِلَّهُ يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ كَذلِكَ يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (125) وَ هذا صِراطُ رَبِّكَ مُسْتَقِيماً قَدْ

فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (126) لَهُمْ دارُ السَّلامِ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ هُوَ وَلِيُّهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (127)

و لمّا تقدّم ذكر المؤمنين و الكافرين، بيّن عقيبه ما يفعله سبحانه بكلّ من

______________________________

(1) المدّثّر: 52.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 456

القبيلتين، فقال: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ أن يلطف به و يوفّقه للإيمان. و لا يفعل ذلك إلّا بمن يعلم أنّ له لطفا. يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فيتّسع له و يفسح فيه مجاله، و يثبت عزمه عليه، و يقوّي دواعيه على التمسّك به، لطفا له بذلك و منّا عليه، حتى تسكن نفسه إليه و تنشرح، حيث تكون النفس طالبة للرشاد و الاهتداء، عائقة عن العناد و المكابرة. و إليه

أشار صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين سئل عنه فقال: «نور يقذفه اللّه تعالى في قلب المؤمن، فينشرح له و ينفسح. فقالوا: هل لذلك من أمارة يعرف بها؟ فقال:

نعم، الإنابة إلى دار الخلود، و التجافي عن دار الغرور، و الاستعداد للموت قبل نزوله».

وَ مَنْ يُرِدْ اللّه أَنْ يُضِلَّهُ أي: يخذله و يخلّيه و شأنه، و هو الّذي لا يلطف له يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً بأن يمنعه ألطافه حتّى يقسو قلبه، و ينبو عن قبول الحقّ و ينسدّ، فلا يدخله الإيمان. و قرأ ابن كثير: ضيقا بالتخفيف، و نافع و أبو بكر عن عاصم: حرجا بالكسر، أي: شديد الضيق، و الباقون بالفتح وصفا بالمصدر.

كَأَنَّما يَصَّعَّدُ يتصعّد فِي السَّماءِ أي: إذا دعي إلى الإسلام كأنّما يزاول أمرا غير ممكن، لأنّ صعود السماء مثل فيما يبعد عن الاستطاعة، و يضيق عنه القدرة. و قيل: معناه: كأنّما يتصاعد إلى السماء نبوّا عن الحقّ، و تباعدا في الهرب منه. و قرأ ابن كثير: يصعد،

و أبو بكر عن عاصم: يصّاعد، بمعنى: يتصاعد.

كَذلِكَ أي: كما يضيق صدره و يبعد قلبه عن الحقّ بالخذلان و التخلية يَجْعَلُ اللَّهُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ أي: الخذلان و منع التوفيق عليهم.

فوضع الظاهر موضع الضمير للتعليل. وصفه تعالى بنقيض ما يوصف به التوفيق من الطيب، أو أراد الفعل الّذي يؤدّي إلى الرجس، و هو العذاب، من الارتجاس، و هو الاضطراب.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 457

وَ هذا إشارة إلى البيان الّذي جاء به القرآن أو الإسلام، أو إلى ما سبق من التوفيق و الخذلان صِراطُ رَبِّكَ طريقه الّذي اقتضته الحكمة، و عادته في التوفيق و الخذلان مُسْتَقِيماً عادلا لا اعوجاج فيه. و انتصابه على أنّه حال مؤكّدة، كقوله: وَ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً «1». قَدْ فَصَّلْنَا الْآياتِ لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ فيعلمون أنّ القادر هو اللّه تعالى، و أنّه عالم بأحوال العباد، حكيم عادل فيما يفعل بهم.

لَهُمْ أي: للّذين تذكّروا و عرفوا الحقّ دارُ السَّلامِ دار اللّه، يعني:

الجنّة. أضافها إلى نفسه تعظيما لها. أو دار السلامة من كلّ آفة و كدر. أو دار تحيّتهم فيها سلام. عِنْدَ رَبِّهِمْ أي: هي مضمونة لهم عند ربّهم، يوصلهم إليها لا محالة، كما تقول: لفلان عندي حقّ لا ينسى. أو ذخيرة لهم لا يعلمون كنهها، كقوله: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ «2».

وَ هُوَ وَلِيُّهُمْ مولاهم و محبّهم و ناصرهم على أعدائهم بِما كانُوا يَعْمَلُونَ بسبب أعمالهم، أو متولّيهم بجزاء ما كانوا يعملون.

[سورة الأنعام (6): الآيات 128 الى 132]

وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً يا مَعْشَرَ الْجِنِّ قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ وَ قالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ وَ بَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا قالَ النَّارُ مَثْواكُمْ خالِدِينَ فِيها إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّ رَبَّكَ

حَكِيمٌ عَلِيمٌ (128) وَ كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (129) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (130) ذلِكَ أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها غافِلُونَ (131) وَ لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ (132)

______________________________

(1) البقرة: 91.

(2) السجدة: 17.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 458

وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً منصوب بمحذوف، تقديره: و اذكر يوم نحشرهم، أو تقديره: و يوم نحشرهم جميعا نقول. و الضمير لمن يحشر من الثقلين. و قرأ حفص عن عاصم و روح عن يعقوب بالياء.

يا مَعْشَرَ الْجِنِ يعني: الشياطين قَدِ اسْتَكْثَرْتُمْ مِنَ الْإِنْسِ أي: من إغوائهم و إضلالهم. أو منهم، بأن جعلتموهم أتباعكم، فحشروا معكم، كقولهم:

استكثر الأمير من الجنود، أي: طلب كثرتهم.

وَ قالَ أَوْلِياؤُهُمْ مِنَ الْإِنْسِ الّذين أطاعوهم و استمعوا إلى وسوستهم رَبَّنَا اسْتَمْتَعَ بَعْضُنا بِبَعْضٍ أي: انتفع الإنس بالشياطين حيث دلّوهم على الشهوات و على أسباب التوصّل إليها، و انتفع الجنّ بالإنس حيث أطاعوهم و ساعدوهم على مرادهم و شهوتهم في إغوائهم، و حصّلوا مرادهم.

و قيل: استمتاع الإنس بهم أنّهم كانوا يعوذون بهم في المفاوز و عند

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 459

المخاوف، كقوله تعالى: وَ أَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ «1».

و استمتاعهم بالإنس اعترافهم بأنّهم يقدرون على تخليصهم و إجارتهم.

وَ بَلَغْنا أَجَلَنَا الَّذِي أَجَّلْتَ لَنا أي: يوم البعث. و هو اعتراف بما فعلوه من طاعة الشيطان، و اتّباع الهوى، و تكذيب البعث، و تحسّر على حالهم.

قالَ أي: قال اللّه تعالى لهم النَّارُ مَثْواكُمْ مقامكم

و منزلكم، أو ذات مثواكم خالِدِينَ فِيها مؤبّدين. و هو حال، و العامل فيها «مثواكم» إن جعل مصدرا، و معنى الإضافة إن جعل مكانا. إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ من الأوقات الّتي ينقلون فيها من النار إلى الزمهرير، فقد روي أنّهم يدخلون واديا فيه من الزمهرير ما يميّز بعض أوصالهم من بعض، فيتعاوون و يطلبون الردّ إلى الجحيم. أو إلّا ما شاء اللّه قبل الدخول، كأنّه قيل: النار مثواكم أبدا، إلّا ما أمهلكم من أوقات حشركم من قبوركم، و مقدار مدّتكم و محاسبتكم.

إِنَّ رَبَّكَ حَكِيمٌ في أفعاله، لا يفعلها إلّا بموجب الحكمة عَلِيمٌ بأعمال الثقلين و أحوالهم.

وَ كَذلِكَ أي: و مثل ذلك المهل بتخلية بعضهم مع بعض نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً نخلّيهم حتّى يتولّى بعضهم بعضا، كما فعل الشياطين و غواة الناس. أو نجعل بعضهم أولياء بعض و قرناءهم في العذاب، كما كانوا في الدنيا.

بِما كانُوا يَكْسِبُونَ بسبب ما كسبوا من الكفر و المعاصي.

و يقال لهم يوم القيامة على جهة التوبيخ: يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ الرسل من الإنس خاصّة، لكن لمّا جمع الثقلان في الخطاب صحّ ذلك و إن كان من أحدهما. و نظيره: يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ «2»، و إن كان اللؤلؤ

______________________________

(1) الجنّ: 6.

(2) الرحمن: 22.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 460

يخرج من الملح دون العذب. و تعلّق قوم بظاهره و قالوا: بعث إلى كلّ من الثقلين رسل من جنسهم. و قيل: الرسل من الجنّ رسل الرسل إليهم، لقوله: وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ «1».

و عن الكلبي: كانت الرسل قبل أن يبعث محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يبعثون إلى النّاس، ثمّ بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و

آله و سلّم إلى الإنس و الجنّ.

يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي يتلون عليكم حججي و دلائلي وَ يُنْذِرُونَكُمْ و يخوّفونكم لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا يعني: يوم القيامة.

قالُوا جوابا شَهِدْنا عَلى أَنْفُسِنا بالجرم و العصيان. و هو اعتراف منهم بأنّ حجّة اللّه لازمة لهم، و بكفرهم و استيجاب العذاب لهم. وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ ذمّ لهم على سوء نظرهم و خطأ رأيهم، فإنّهم اغترّوا بالحياة الدنيويّة و اللذّات الخسيسة، و أعرضوا عن الآخرة بالكلّية، حتّى كان عاقبة أمرهم أن اضطرّوا إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر، و الاستسلام للعذاب المخلّد، تحذيرا للسامعين من مثل حالهم.

و لا ينافي الآية قوله: وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ «2»، لتفاوت الأحوال و المواطن في ذلك اليوم المتطاول، فيقرّون في بعضها، و يجحدون في البعض. أو أريد شهادة أيديهم و أرجلهم و جلودهم حين يختم على أفواههم.

و لمّا كانت الشهادة الأولى حكاية لقولهم كيف يعترفون على أنفسهم، و الثانية ذمّ لهم و تخطئة لرأيهم، و وصف لقلّة نظرهم لأنفسهم، و أنّهم قوم غرّتهم الحياة الدنيا و اللذّات الحاضرة، و عاقبة حالهم اضطرارهم إلى الشهادة على أنفسهم بالكفر، فلا يلزم تكرار الشهادة.

______________________________

(1) الأحقاف: 29.

(2) الأنعام: 23.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 461

ذلِكَ إشارة إلى ما تقدّم من بعثة الرسل. و هو خبر مبتدأ محذوف، أي:

الأمر ذلك. و قوله: أَنْ لَمْ يَكُنْ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها غافِلُونَ تعليل للحكم. و «أن» مصدريّة أو مخفّفة من الثقيلة، أي: الأمر ما قصصنا عليك، لانتفاء كون ربّك، أو لأنّ الشأن لم يكن ربّك مهلك أهل القرى بسبب ظلم أقدموا عليه، أو ملتبسين بظلم، أو ظالما، على معنى: أنّه لو أهلكهم من غير

تنبيه رسول و كتاب لكان ظالما، و هو متعال عن الظلم.

وَ لِكُلٍ من المكلّفين دَرَجاتٌ مراتب مِمَّا عَمِلُوا من أعمالهم على حسب ما يستحقّونه، أو من جزائها، أو من أجلها. و قيل: أراد درجات و دركات من جزاء أعمالهم، فغلب منازل أهل الجنّة. وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا يَعْمَلُونَ فلا يخفى عليه مقاديره، و ما يستحقّ عليه من الثواب و العقاب. و قرأ ابن عامر بالتاء على تغليب الخطاب على الغيبة.

[سورة الأنعام (6): الآيات 133 الى 135]

وَ رَبُّكَ الْغَنِيُّ ذُو الرَّحْمَةِ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ (133) إِنَّ ما تُوعَدُونَ لَآتٍ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (134) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (135)

و لمّا أمر سبحانه بطاعته و حثّ عليها و رغّب فيها، بيّن أنّه لم يأمر بها لحاجة، لأنّه يتعالى عن النفع و الضرّ، فقال: وَ رَبُّكَ الْغَنِيُ عن العباد و العبادة ذُو الرَّحْمَةِ يترحّم عليهم بإمهالهم على التكليف، ليعرضهم المنافع العظيمة الّتي

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 462

لا يحسن إيصالهم إليها إلّا بالاستحقاق، لاقترانها بالتعظيم و الإجلال.

إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ أي: ما به إليكم حاجة، لأنّه غنيّ مطلق، إن يشأ يذهبكم أيّها العصاة وَ يَسْتَخْلِفْ مِنْ بَعْدِكُمْ ما يَشاءُ من الخلق، أي: ينشئ من بعد إهلاككم و إذهابكم خلقا غيركم يطيعونه، يكونون خلفا لكم كَما أَنْشَأَكُمْ مِنْ ذُرِّيَّةِ قَوْمٍ آخَرِينَ أي: قرنا بعد قرن، لكنّه أبقاكم ترحّما عليكم.

إِنَّ ما تُوعَدُونَ من البعث و الحشر، و الثواب و العقاب، و تفاوت أهل الجنّة و النار في الدرجات و الدركات لَآتٍ لكائن لا محالة وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ طالبكم

بالبعث. و الإعجاز أن يأتي الإنسان بشي ء يعجز خصمه عنه، فيكون قد جعله عاجزا منه. فالمعنى: لستم بمعجزين اللّه عن الإتيان بالبعث و العقاب.

قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ على غاية تمكّنكم، و أقصى استطاعتكم و إمكانكم. يقال: مكّن مكانة إذا تمكّن أبلغ التمكّن. أو على حالكم الّتي أنتم عليها، أو على ناحيتكم و جهتكم الّتي أنتم عليها، من قولهم: مكان و مكانة، كمقام و مقامة. و قرأ أبو بكر عن عاصم: مكاناتكم، بالجمع في جميع القرآن. يقال للرجل إذا أمر أن يثبت على حاله: على مكانك يا فلان، أي: اثبت على ما أنت عليه لا تنحرف. و هو أمر تهديد. و المعنى: اثبتوا على كفركم و عداوتكم لي.

إِنِّي عامِلٌ ما كنت عليه من المصابرة و الثبات على الإسلام. و التهديد بصيغة الأمر مبالغة في الوعيد، كأنّ المهدّد يريد تعذيبه، فيحمله بالأمر على ما يفضي به إليه، و تسجيل بأنّ المهدّد لا يتأتّى منه إلّا الشرّ، فكأنّه مأمور به، و هو واجب عليه حتم، ليس له أن يتفصّى عنه و يعمل بخلافه.

فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ أيّنا تكون له العاقبة المحمودة؟

و هذا نحو قوله: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ «1»: جعل «من» استفهاميّة، بمعنى: أيّنا تكون له

______________________________

(1) فصّلت: 40.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 463

عاقبة الدار الحسنى الّتي خلق اللّه هذه الدار لها؟ فمحلّها الرفع، و فعل العلم معلّق عنه. و إن جعلت خبريّة بمعنى: الّذي، فالنصب ب «تعلمون» أي: فسوف تعرفون الّذي تكون له العاقبة. و فيه مع الإنذار إنصاف في المقال و حسن الأدب، و تنبيه على وثوق المنذر بأنّه محقّ.

و قرأ حمزة و الكسائي: يكون بالياء، لأنّ تأنيث العاقبة غير حقيقي.

إِنَّهُ لا يُفْلِحُ

الظَّالِمُونَ وضع «الظالمون» موضع: الكافرون، لأنّه أعمّ و أكثر فائدة.

[سورة الأنعام (6): آية 136]

وَ جَعَلُوا لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ مِنَ الْحَرْثِ وَ الْأَنْعامِ نَصِيباً فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ وَ هذا لِشُرَكائِنا فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ وَ ما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (136)

ثمّ عاد الكلام إلى حجاج المشركين و بيان اعتقاداتهم الفاسدة، فقال:

وَ جَعَلُوا يعني: كفّار مكّة و من تقدّمهم من المشركين لِلَّهِ مِمَّا ذَرَأَ خلق مِنَ الْحَرْثِ من الزرع وَ الْأَنْعامِ أي: المواشي، من الإبل و البقر و الغنم نَصِيباً حظّا فَقالُوا هذا لِلَّهِ بِزَعْمِهِمْ أي: قد زعموا أنه للّه، و اللّه لم يأمرهم بذلك وَ هذا لِشُرَكائِنا يعني: الأوثان. و إنّما جعلوها شركاءهم لأنّهم أشركوها في أموالهم و أفعالهم.

روي أنّهم كانوا يعيّنون شيئا من حرث و نتاج للّه، و يصرفونه إلى الضيفان و المساكين، و شيئا منهما لآلهتهم، و ينفقونه على سدنتها، و يذبحونه عندها. ثمّ إن رأوا ما عيّنوا للّه أزكى و أنمى بدّلوه بما لآلهتهم، و إن رأوا ما لآلهتهم أزكى تركوه لها،

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 464

و اعتلّوا لذلك بأن اللّه غنيّ. فقال سبحانه: فَما كانَ لِشُرَكائِهِمْ فَلا يَصِلُ إِلَى اللَّهِ أي: لا يصل إلى الوجوه الّتي كانوا يصرفونه إليها، من قرى الضيفان و التصدّق على المساكين وَ ما كانَ لِلَّهِ فَهُوَ يَصِلُ إِلى شُرَكائِهِمْ

و في قوله: «ممّا ذرأ» تنبيه على فرط جهالتهم، فإنّهم أشركوا الخالق في خلقه جمادا لا يقدر على شي ء، ثمّ رجّحوه عليه، بأن جعلوا الزاكي له. و في قوله:

«بزعمهم» تنبيه على أنّ ذلك ممّا اخترعوه، لم يأمرهم اللّه به. و قرأ الكسائي بالضمّ في الموضعين «1». و هو لغة فيه.

ساءَ ما يَحْكُمُونَ حكمهم

هذا. و هو إيثار آلهتهم على اللّه، و عملهم على ما لم يشرع لهم.

[سورة الأنعام (6): آية 137]

وَ كَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ لِيُرْدُوهُمْ وَ لِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما فَعَلُوهُ فَذَرْهُمْ وَ ما يَفْتَرُونَ (137)

ثمّ بيّن سبحانه خصلة اخرى من خصالهم الذميمة، فقال: وَ كَذلِكَ أي:

و مثل ذلك التزيين الّذي هو تزيين الشرك في قسمة القربان بين اللّه و آلهتهم زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ بالوأد خيفة العلية أو العار، أو بنحرهم لآلهتهم شُرَكاؤُهُمْ من الجنّ، أو من سدنة الأصنام. و هو فاعل «زيّن».

و قرأ ابن عامر: زيّن، على البناء للمفعول الّذي هو القتل، و نصب الأولاد، و جرّ الشركاء بإضافة القتل إليه، مفصولا بينهما بمفعوله. و هو ضعيف في العربيّة، معدود من ضرورات الشعر، كقوله:

فزججتها بمزجّةزجّ القلوص أبي مزادة

فإنّه فصل بين المضاف و المضاف إليه بالمفعول. و تقديره: فزججت الكتيبة

______________________________

(1) أي: بزعمهم، في هذه الآية، و في الآية 138، و ستأتي في ص: 466.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 465

زجّا مثل زجّ أبي مزادة القلوص. و الزجّ: الطعن. و المزجّة بفتح الزاء: الرمح القصير. و القلوص: الشابّة من النوق. فتقدير الآية: زيّن لهم أن قتل شركاؤهم أولادهم.

لِيُرْدُوهُمْ ليهلكوهم بالإغواء وَ لِيَلْبِسُوا عَلَيْهِمْ دِينَهُمْ و ليخلطوا عليهم و يشبهوه. و دينهم هو ما كانوا عليه من دين إسماعيل. و قيل: دينهم الّذي كان يجب أن يكونوا عليه. و اللام للعلّة إن كان التزيين من الشياطين، و للعاقبة إن كان من السدنة.

وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ مشيئة قسر ما فَعَلُوهُ أي: ما فعل المشركون ما زيّن لهم من القتل، لكن هذه المشيئة منافية للتكليف الّذي هو مناط الثواب و العقاب، فلم يشأها فَذَرْهُمْ

وَ ما يَفْتَرُونَ أي: افتراءهم، أو ما يفترونه من الإفك على اللّه. و فيه غاية الزجر و التهديد، كما يقول القائل: دعه و ما اختار.

و في هذه الآية دلالة واضحة على أنّ تزيين القتل و القتل فعلهم، و أنّهم في إضافة ذلك إلى اللّه تعالى كاذبون.

[سورة الأنعام (6): الآيات 138 الى 139]

وَ قالُوا هذِهِ أَنْعامٌ وَ حَرْثٌ حِجْرٌ لا يَطْعَمُها إِلاَّ مَنْ نَشاءُ بِزَعْمِهِمْ وَ أَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها وَ أَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا افْتِراءً عَلَيْهِ سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ (138) وَ قالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَ مُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا وَ إِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (139)

ثمّ حكى اللّه سبحانه عنهم عقيدة اخرى من عقائدهم الفاسدة، فقال:

وَ قالُوا هذِهِ إشارة إلى ما جعل لآلهتهم أَنْعامٌ وَ حَرْثٌ حِجْرٌ حرام. فعل بمعنى

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 466

المفعول، كالذبح و الطحن بمعنى المذبوح و المطحون. يستوي فيه الواحد و الكثير، و الذكر و الأنثى، لأنّ حكمه حكم الأسماء غير الصفات. لا يَطْعَمُها إِلَّا مَنْ نَشاءُ يعنون: خدم الأوثان و الرجال دون النساء بِزَعْمِهِمْ من غير حجّة لهم.

وَ أَنْعامٌ حُرِّمَتْ ظُهُورُها من البحائر و السوائب و الحوامي «1» وَ أَنْعامٌ لا يَذْكُرُونَ اسْمَ اللَّهِ عَلَيْهَا في الذبح، و إنّما يذكرون أسماء الأصنام عليها. و قيل: لا يحجّون على ظهورها، و لا يلبّون.

و المعنى: أنّهم قسّموا أنعامهم فقالوا: هذه أنعام حجر، و هذه أنعام محرّمة الظهور، و هذه أنعام لا يذكرون عليها اسم اللّه. فجعلوها أجناسا بدعوتهم الباطلة، و نسبوا ذلك التقسيم إلى اللّه.

افْتِراءً عَلَيْهِ أي: فعلوا ذلك كلّه على جهة الافتراء. فهو مفعول له.

و يحتمل نصبه على المصدر، لأنّ ما قالوه تقوّل

على اللّه. و الجارّ متعلّق ب «قالوا» أو بمحذوف هو صفة له، أو على الحال. سَيَجْزِيهِمْ بِما كانُوا يَفْتَرُونَ بسببه أو بدله.

ثمّ حكى اللّه تعالى عنهم مقالة اخرى، فقال: وَ قالُوا ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ يعنون: أجنّة البحائر و السوائب خالِصَةٌ لِذُكُورِنا حلال للذكور خاصّة وَ مُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا أي: دون الإناث، إن ولد حيّا، لقوله: وَ إِنْ يَكُنْ مَيْتَةً فَهُمْ فِيهِ شُرَكاءُ فالذكور و الإناث فيه سواء.

و تأنيث الخالصة للمعنى، فإنّ «ما» في معنى الأجنّة. و ذكّر «محرّم» للحمل على اللفظ. و لذلك وافق عاصم- في رواية أبي بكر- ابن عامر في «تكن» بالتاء، و الباقون بتذكيره. و قرأ ابن كثير و ابن عامر: ميتة بالرفع، و الباقون بالنصب. فيكون لابن عامر التأنيث و الرفع على أنّ «كان» تامّة. و لأبي بكر التأنيث و النصب على:

______________________________

(1) مرّ تفسيرها ذيل الآية 103 من سورة المائدة، راجع ص: 332.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 467

و إن تكن الأجنّة ميتة. و لابن كثير التذكير و الرفع على أنّ «كان» تامّة، و تأنيث الفاعل غير حقيقي. و للباقين التذكير و النصب على: و إن يكن ما في بطنها ميتة.

و قيل: التاء في الخالصة للمبالغة، كما في راوية الشعر، أو هو مصدر كالعافية، وقع موقع الخالص.

سَيَجْزِيهِمْ وَصْفَهُمْ أي: جزاء وصفهم الكذب على اللّه تعالى في التحريم و التحليل، من قوله: وَ تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ «1» هذا حلال و هذا حرام إِنَّهُ حَكِيمٌ فيما يفعل بهم من العقاب آجلا، و في إمهالهم عاجلا عَلِيمٌ بما يفعلونه، لا يخفى عليه شي ء منها.

[سورة الأنعام (6): آية 140]

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ حَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ افْتِراءً عَلَى اللَّهِ قَدْ ضَلُّوا وَ ما

كانُوا مُهْتَدِينَ (140)

ثمّ جمع سبحانه بين الفريقين: الّذين قتلوا الأولاد، و الّذين حرّموا الحلال، فقال: قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ قَتَلُوا أَوْلادَهُمْ يريد بهم العرب الّذين كانوا يقتلون بناتهم مخافة السبي و الفقر. و قرأ ابن كثير و ابن عامر: قتّلوا بالتشديد، بمعنى التكثير.

سَفَهاً بِغَيْرِ عِلْمٍ لخفّة عقلهم، و جهلهم بأنّ اللّه رازق أولادهم. و يجوز نصبه على الحال أو المصدر.

وَ حَرَّمُوا ما رَزَقَهُمُ اللَّهُ من البحائر و نحوها افْتِراءً عَلَى اللَّهِ يحتمل الوجوه المذكورة فيه قَدْ ضَلُّوا قد ذهبوا عن طريق الحقّ بما فعلوه وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ إلى الحقّ و الصواب.

و في هذه الآيات دلالات على بطلان مذهب المجبّرة، لأنّه سبحانه أضاف

______________________________

(1) النحل: 62.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 468

القتل و الافتراء و التحريم إليهم، و نزّه نفسه عن ذلك، و ذمّهم على قتل الأطفال بغير جرم، فكيف يعاقبهم سبحانه عقاب الأبد على غير جرم؟!

[سورة الأنعام (6): آية 141]

وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ مَعْرُوشاتٍ وَ غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ وَ النَّخْلَ وَ الزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ وَ الزَّيْتُونَ وَ الرُّمَّانَ مُتَشابِهاً وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ إِذا أَثْمَرَ وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (141)

و لمّا حكى سبحانه عن المشركين أنّهم جعلوا بعض الأشياء للأوثان، عقّب ذلك البيان بأنّه الخالق لجميع الأشياء، فلا يجوز إضافة شي ء منها إلى الأوثان، و لا تحليل ذلك و لا تحريمه إلّا بإذنه، فقال: وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ جَنَّاتٍ بساتين من الكروم مَعْرُوشاتٍ مرفوعات على ما يحملها من الدعائم وَ غَيْرَ مَعْرُوشاتٍ أي: ملقيات على وجه الأرض بغير عرش. و قيل: المعروشات ما غرسه الناس فعرشوه، و غير معروشات ما نبت في البراري و الجبال.

وَ النَّخْلَ وَ الزَّرْعَ مُخْتَلِفاً أُكُلُهُ

ثمره الّذي يؤكل في اللون و الطعم و الحجم و الرائحة. و الضمير للزرع، و الباقي مقيس عليه. أو للنخل، و الزرع داخل في حكمه، لكونه معطوفا عليه. أو للجميع على تقدير: أكل ذلك، أو كلّ واحد منهما.

و «مختلفا» حال مقدّرة، لأنّه لم يكن كذلك عند الإنشاء، كقوله: فَادْخُلُوها خالِدِينَ «1».

وَ الزَّيْتُونَ و إنشاء الزيتون وَ الرُّمَّانَ مُتَشابِهاً في الهيئة و الكيفيّة وَ غَيْرَ مُتَشابِهٍ فيهما، أي: يتشابه بعض أفرادهما في الهيئة و الكيفيّة، و لا يتشابه

______________________________

(1) الزمر: 73.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 469

بعضها. و إنّما قرن الزيتون إلى الرمّان، لأنّهما متشابهان باكتناز الأوراق في أغصانها.

كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ من ثمر كلّ واحد من ذلك إِذا أَثْمَرَ و إن لم يدرك و لم يينع «1» بعد. و الأمر للإباحة. و إنّما قال ذلك ليعلم أنّ وقت إباحة الأكل من ثمرة وقت الاطلاع «2»، و لا يتوهّم أنّه غير مباح أكله قبل وقت الإيناع.

وَ آتُوا حَقَّهُ يَوْمَ حَصادِهِ

و هو ما تيسّر إعطاؤه المساكين، من الضغث «3» بعد الضغث، و من الحفنة بعد الحفنة. و هو المرويّ عنهم عليهم السّلام.

و قيل: إنّه الزكاة، العشر و نصف العشر، أي: لا تؤخّروه عن أوّل وقت يمكن فيه الإيتاء.

و يؤيّد الأوّل ما قاله السدّي: إنّ الآية منسوخة بفرض العشر، لأنّ الزكاة المقدّرة فرضت بالمدينة، و هذه الآية مكّية. و لأنّ الزكاة لا تخرج يوم الحصاد، بل وقت التنقية و إخراج المؤن.

و قرأ نافع و ابن كثير و حمزة و الكسائي: حصاده بكسر الحاء. و هو لغة فيه.

و يؤيّد القول الأوّل أيضا قوله: وَ لا تُسْرِفُوا في التصدّق، كقوله تعالى:

وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ «4»، بأن تتصدّقوا بالجميع، و لا تبقوا

لعيال، لأنّ الزكاة مقدّرة بقدر معلوم، فلا يتصوّر الإسراف فيها إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ لا يرتضي فعلهم.

______________________________

(1) ينع يينع الثمر ينوعا و إيناعا: أدرك و طاب و حان قطافه.

(2) أي: وقت اطلاع الشجر الثمرة، و هو وقت ظهورها.

(3) الضّغث: قبضة حشيش يختلط فيها الرطب باليابس. و الحفنة: مل ء الكفّين.

(4) الإسراء: 29.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 470

[سورة الأنعام (6): الآيات 142 الى 144]

وَ مِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَ فَرْشاً كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (142) ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (143) وَ مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ وَ مِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (144)

ثمّ بيّن نعمة اخرى، و هي إنشاء الأنعام، فقال عطفا على «جنّات»: وَ مِنَ الْأَنْعامِ حَمُولَةً وَ فَرْشاً أي: و أنشأ من الأنعام ما يحمل الأثقال و ما يفرش للذبح، أو ما يفرش المنسوج من شعره و صوفه و وبره. و قيل: الكبار الصالحة للحمل، و الصغار الدانية من الأرض، مثل الفرش المفروش عليها.

كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ أي: استحلّوا أكل ما أحلّ لكم منه وَ لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ و لا تحرّموا شيئا منها، كما فعله أهل الجاهليّة من التحليل و التحريم في الحرث و الأنعام من عند أنفسهم إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة.

ثمّ فسّر سبحانه الحمولة و الفرش بقوله: ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ بدل من «حمولة» و «فرشا» أو مفعول «كلوا». و قوله

«وَ لا تَتَّبِعُوا» معترض بينهما، أو حال من «مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ» بمعنى: مختلفة أو متعدّدة. و الزوج ما معه آخر من جنسه يزاوجه.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 471

و هما زوجان، بدليل قوله: خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى «1». و قد يقال لمجموعهما. و المراد هاهنا الأوّل، لقوله: مِنَ الضَّأْنِ اثْنَيْنِ زوجين: الكبش «2» و النعجة. و هو بدل من «ثمانية». و الضأن اسم جنس كالإبل، و جمعه ضئين، أو جمع ضائن، كتاجر و تجر. وَ مِنَ الْمَعْزِ اثْنَيْنِ العنز «3» و التيس. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و ابن عامر و يعقوب بفتح العين. و هو جمع ماعز، كصاحب و صحب، أو حارس و حرس.

قُلْ آلذَّكَرَيْنِ ذكر الضأن و ذكر المعز حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أم أنثييهما؟! و الهمزة للإنكار. و نصب الذكرين و الأنثيين ب «حرّم». أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ أو ما حملت إناث الجنسين، ذكرا كان أو أنثى. و المعنى: إنكار أن يحرّم اللّه من جنس الغنم شيئا من نوعي ذكورها و إناثها، و لا ممّا تحمل إناث الجنسين.

نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ أخبروني بأمر معلوم يدلّ على أنّ اللّه تعالى حرّم شيئا من ذلك إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعوى التحريم عليه. و إنّما ذكر اللّه تعالى هذا على وجه الاحتجاج عليهم، و بيّن فريتهم و كذبهم على اللّه تعالى فيما ادّعوا من أنّ ما في بطون الأنعام حلال للذكور و حرام على الإناث، و غير ذلك ممّا حرّموه.

وَ مِنَ الْإِبِلِ اثْنَيْنِ الذكور و الإناث وَ مِنَ الْبَقَرِ اثْنَيْنِ كذلك قُلْ آلذَّكَرَيْنِ حَرَّمَ أَمِ الْأُنْثَيَيْنِ أَمَّا اشْتَمَلَتْ عَلَيْهِ أَرْحامُ الْأُنْثَيَيْنِ كما سبق. و المعنى:

إنكار أنّ اللّه تعالى حرّم شيئا من أجناس الأربعة، ذكرا كان أو

أنثى، أو ما تحمل إناثها، ردّا عليهم، فإنّهم كانوا يحرّمون ذكور الأنعام تارة، و إناثها اخرى، و أولادها كيف كانت تارة، زاعمين أنّ اللّه تعالى حرّمها.

______________________________

(1) النجم: 45.

(2) الكبش: فحل الضأن. و النعجة: الأنثى من الضأن. و الضّأن: خلاف المعز، أي: ذوات الصوف من الغنم.

(3) العنز: الأنثى من المعز. و التيس: الذكر من المعز. و المعز: خلاف الضأن من الغنم، أي:

ذوات الشعر و الأذناب القصار.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 472

أَمْ كُنْتُمْ شُهَداءَ بل أ كنتم شهداء حاضرين مشاهدين إِذْ وَصَّاكُمُ اللَّهُ بِهذا حين وصّاكم بهذا التحريم؟! و معناه: أعرفتم توصية اللّه مشاهدين، إذ أنتم لا تؤمنون بالرسل، و مع ذلك تقولون إنّ اللّه حرّم هذا الّذي تحرّمونه، فلا طريق لكم إلى معرفة أمثال ذلك إلّا المشاهدة و السماع.

فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فنسب إليه تحريم ما لم يحرّم. و المراد كبراؤهم المقرّرون لذلك، أو عمرو بن لحى المؤسّس له، فإنّه الّذي بحّر البحائر و سيّب السوائب و غيّر دين إبراهيم و إسماعيل. لِيُضِلَّ النَّاسَ بِغَيْرِ عِلْمٍ أي:

يعمل عمل القاصد إلى إضلالهم، من أجل دعائه إيّاهم إلى ما لا يثق بصحّته، ممّا لا يأمن من أن يكون فيه هلاكهم، و إن لم يقصد إضلالهم إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ إلى الثواب، لأنّهم مستحقّون العقاب الدائم بكفرهم و ضلالهم.

و قوله: «كُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ» إلى قوله: «الْمُسْرِفِينَ» اعتراض. و كذلك قوله: «كُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ» و «نَبِّئُونِي بِعِلْمٍ» إلى تمام الآيتين. و الاعتراضات لتأكيد التحليل، و الاحتجاج على من ذهب إلى التحريم.

[سورة الأنعام (6): آية 145]

قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَّ مُحَرَّماً عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ إِلاَّ أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً أَوْ دَماً مَسْفُوحاً أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ أَوْ

فِسْقاً أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (145)

و لمّا قدّم تعالى ذكر ما حرّمه المشركون، عقّبه ببيان المحرّمات بقوله: قُلْ لا أَجِدُ فِي ما أُوحِيَ إِلَيَ أي: في القرآن، أو فيما أوحي إليّ مطلقا. و فيه تنبيه على أنّ التحريم إنّما يعلم بالوحي، لا بما تهوى الأنفس. مُحَرَّماً طعاما محرّما عَلى طاعِمٍ يَطْعَمُهُ على آكل يأكله إِلَّا أَنْ يَكُونَ مَيْتَةً إلّا أن يكون الطعام ميتة. و قرأ

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 473

ابن كثير و حمزة بالتاء، لتأنيث الخبر، و نصب «ميتة». و قرأ ابن عامر بالياء و رفع «ميتة» على أنّ «كان» هي التامّة.

أَوْ دَماً مَسْفُوحاً عطف على «أن يكون» مع ما في حيّزه، أي: إلّا وجود ميتة أو دما مسفوحا- أي: مصبوبا- كالدم في العروق، لا المتخلّف بعد الذبح، فإنّه مباح.

أَوْ لَحْمَ خِنزِيرٍ فَإِنَّهُ رِجْسٌ فإنّ الخنزير أو لحمه نجس قذر منفور عنه أَوْ فِسْقاً عطف على «لَحْمَ خِنزِيرٍ»، و ما بينهما اعتراض للتعليل أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ صفة له موضحة. و إنّما سمّى ما ذبح على اسم الصنم فسقا لتوغّله في الفسق.

و يجوز أن يكون «فسقا» مفعولا له من «أهلّ»، و هو عطف على «يكون» و المستكن فيه راجع إلى ما رجع إليه المستكن في «يكون».

فَمَنِ اضْطُرَّ فمن دعته الضرورة إلى تناول شي ء من ذلك غَيْرَ باغٍ على مضطرّ مثله، أو الخارج على الإمام العادل وَ لا عادٍ متجاوز قدر الضرورة فَإِنَّ رَبَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لا يؤاخذه.

و الآية محكمة، لأنّها تدلّ على أنّه لم يجد فيما أوحي إلى تلك الغاية محرّما غير هذه، و ذلك لا ينافي ورود التحريم في شي ء آخر بعد ذلك، فلا

يصحّ الاستدلال بها على نسخ الكتاب بخبر الواحد، و لا على حلّ ما عدا ذلك.

[سورة الأنعام (6): الآيات 146 الى 147]

وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما إِلاَّ ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما أَوِ الْحَوايا أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِبَغْيِهِمْ وَ إِنَّا لَصادِقُونَ (146) فَإِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ وَ لا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (147)

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 474

ثمّ بيّن سبحانه ما حرّم تعالى على اليهود، فقال: وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا أي:

و على اليهود حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ كلّ ما ليس بمنفرج الأصابع، كالإبل و السباع و الطيور. و قيل: كلّ ذي مخلب و حافر. و سمّي الحافر ظفرا مجازا. و كان بعض ذوات الظفر حلالا لهم، فلمّا ظلموا حرّم عليهم، فعمّ التحريم كلّ ذي ظفر، بدليل قوله: فَبِظُلْمٍ مِنَ الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ طَيِّباتٍ أُحِلَّتْ لَهُمْ «1».

و قوله: وَ مِنَ الْبَقَرِ وَ الْغَنَمِ حَرَّمْنا عَلَيْهِمْ شُحُومَهُما الثروب «2» و شحوم الكلى. و الإضافة لزيادة الربط. إِلَّا ما حَمَلَتْ ظُهُورُهُما إلّا ما علقت بظهورهما من الشحم. و هو اللحم السمين، فإنّه لم يحرّم عليهم. أَوِ الْحَوايا أو ما اشتمل على الأمعاء من الشحوم، فإنّه غير محرّم عليهم أيضا. جمع حاوية، أو حاوياء، كقاصعاء و قواصع، أو حويّة، كسفينة و سفائن. و قيل: هو عطف على شحومهما، و «أو» بمعنى الواو. و كذا قوله: أَوْ مَا اخْتَلَطَ بِعَظْمٍ هو شحم الألية، لاتّصالها بالعصعص «3».

ذلِكَ التحريم أو الجزاء جَزَيْناهُمْ و هو تحريم الطيّبات بِبَغْيِهِمْ بسبب ظلمهم وَ إِنَّا لَصادِقُونَ فيما أوعدنا به العاصين، لا نخلفه كما لا نخلف ما وعدناه للمطيعين. أو في الإخبار عن بغيهم.

فَإِنْ كَذَّبُوكَ فيما تقول

فَقُلْ رَبُّكُمْ ذُو رَحْمَةٍ واسِعَةٍ يمهلكم على التكذيب، فلا تغترّوا بإمهاله، فإنّه لا يهمل. وَ لا يُرَدُّ بَأْسُهُ عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ حين ينزل. أو ذو رحمة واسعة على المطيعين، و ذو بأس شديد على المجرمين، فأقام مقامه «وَ لا يُرَدُّ بَأْسُهُ»، لتضمّنه التنبيه على إنزال البأس عليهم، مع الدلالة

______________________________

(1) النساء: 160.

(2) جمع الثرب، و هو الشحم الرقيق الذي على الكرش و الأمعاء.

(3) العصعص و العصعوص: عظم الذنب.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 475

على أنّه لازم لهم لا يمكن ردّه عنهم.

[سورة الأنعام (6): الآيات 148 الى 149]

سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ شَيْ ءٍ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا قُلْ هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ فَتُخْرِجُوهُ لَنا إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَخْرُصُونَ (148) قُلْ فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (149)

و لمّا تقدّم الردّ على المشركين لاعتقاداتهم الباطلة، ردّ سبحانه عليهم مقالتهم الفاسدة، فقال: سَيَقُولُ الَّذِينَ أَشْرَكُوا هذا إخبار بما سوف يقولونه. و وقوع مخبره يدلّ على إعجازه. لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ شَيْ ءٍ زعموا أنّ شركهم و شرك آبائهم و تحريمهم ما حرّموه، بمشيئة اللّه و إرادته، و لولا أنّه شاء ذلك لم يكن شي ء منه. و هذا مذهب المجبّرة بعينه. و لا شكّ في بطلان مذهبهم، فإنّ اللّه تعالى ركّب في العقول ما دلّ على علمه بالقبائح، و براءته عن مشيئة القبائح و إرادتها، و أخبر أنبياءه بذلك، فمن علّق وجود الكفر بمشيئة اللّه فقد كذّب اللّه و كتبه و رسله، و نبذ أدلّة العقل و السمع وراء ظهره.

كَذلِكَ أي: مثل هذا التكذيب الّذي صدر من هؤلاء كَذَّبَ الَّذِينَ

مِنْ قَبْلِهِمْ الرسل و الكتب و أدلّة العقل حَتَّى ذاقُوا بَأْسَنا عذابنا الّذي أنزلنا عليهم بتكذيبهم.

قُلْ تهكّما عليهم هَلْ عِنْدَكُمْ مِنْ عِلْمٍ من أمر معلوم يصحّ الاحتجاج به فيما قلتم فَتُخْرِجُوهُ فتظهروه لَنا و هذا من التهكّم و الشهادة بأن مثل قولهم

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 476

محال أن يكون حجّة إِنْ تَتَّبِعُونَ ما تتّبعون في قولكم هذا إِلَّا الظَّنَّ وَ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَخْرُصُونَ تقدّرون أن الأمر كما تزعمون، أو تكذبون. و فيه دليل على المنع من اتّباع الظنّ، سيّما في الأصول.

قُلْ يا محمد إذا عجز هؤلاء عن إقامة حجّة على ما قالوه فَلِلَّهِ الْحُجَّةُ الْبالِغَةُ البيّنة الواضحة الّتي بلغت غاية المتانة و القوّة على الإثبات، أو بلغ بها صاحبها صحّة دعواه. و هي من الحجّ بمعنى القصد، كأنّها تقصد إثبات الحكم و تطلبه. أو من: حجّ، إذا غلب، فإنّ من تمسّك بها غلب أهل الضلال.

فَلَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ أي: لألجأكم إلى الإيمان و هداكم جميعا إليه، بفعل الإلجاء و القسر، إلّا أنّه لم يفعل ذلك، لأنّ الإلجاء ينافي التكليف.

و قال في الكشّاف: «معناه: قل إن كان الأمر كما زعمتم أنّ ما أنتم عليه بمشيئة اللّه، فاللّه الحجّة البالغة عليكم على قود مذهبكم، فلو شاء لهداكم أجمعين منكم و من مخالفيكم في الدين، فإنّ تعليقكم دينكم بمشيئة اللّه يقتضي أن تعلّقوا دين من يخالفكم أيضا بمشيئته، فتوالوهم و لا تعادوهم، و توافقوهم و لا تخالفوهم، لأنّ المشيئة تجمع بين ما أنتم عليه و بين ما هم عليه» «1».

[سورة الأنعام (6): آية 150]

قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ

هُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ (150)

ثمّ بيّن سبحانه أنّ الطريق الموصل إلى صحّة مذاهبهم منسدّ غير ثابت من

______________________________

(1) الكشّاف 2: 77.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 477

جهة حجّة عقليّة و لا سمعيّة، و ما هذه صفته فهو فاسد لا محالة، فقال: قُلْ هَلُمَّ شُهَداءَكُمُ أحضروهم. و هو اسم فعل لا يتصرّف عند أهل الحجاز، و فعل يؤنّث و يجمع عند بني تميم. و أصله عند البصريّين: هالمّ، من: لمّ إذا قصد، حذفت الألف.

و عند الكوفيّين هل امّ، فحذفت الهمزة بإلقاء حركتها على اللام. و هو بعيد، لأنّ «هل» لا تدخل الأمر. و يكون متعدّيا كما في هذه الآية، و لازما كقوله: هلمّ إلينا.

الَّذِينَ يَشْهَدُونَ أَنَّ اللَّهَ حَرَّمَ هذا يعني: قدوتهم في هذا الأمر. و المراد: أن يحضروا شهداءهم الّذين علم أنّهم يشهدون لهم و ينصرون قولهم، و كان المشهود لهم يقلّدونهم، و يثقون بهم، و يعتضدون بشهادتهم بانقطاع حجّتهم ما يقومون بهم، فيحقّ الحقّ و يبطل الباطل، فأضيفت الشهداء لذلك. وجي ء ب «الّذين» للدلالة على أنّهم شهداء معروفون، موسومون بالشهادة لهم، و ينصرون مذهبهم.

فَإِنْ شَهِدُوا فَلا تَشْهَدْ مَعَهُمْ فلا تصدّقهم فيه، و بيّن لهم فساده، فإنّ تسليمه موافقة لهم في الشهادة الباطلة.

وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا من وضع المظهر موضع المضمر، للدلالة على أنّ مكذّب الآيات متّبع الهوى لا غير، و أنّ متّبع الحجّة لا يكون إلّا مصدّقا بها وَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ كعبدة الأوثان وَ هُمْ بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ يجعلون له عديلا. و إنّما ذكر الفريقين و إن كانوا كلّهم كفّارا ليفصّل وجوه كفرهم، لأنّ منه ما يكون مع الإقرار بالآخرة، كحال أهل الكتاب، و منه ما يكون مع الإنكار، كحال عبدة الأوثان.

[سورة الأنعام (6): الآيات 151 الى 153]

قُلْ تَعالَوْا

أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ أَلاَّ تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيَّاهُمْ وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (151) وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَ إِذا قُلْتُمْ فَاعْدِلُوا وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى وَ بِعَهْدِ اللَّهِ أَوْفُوا ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (152) وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (153)

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 478

و لمّا حكى سبحانه عنهم تحريم ما حرّموه، عقّبه بذكر المحرّمات، فقال:

قُلْ تَعالَوْا أمر من التعالي. و أصله أن يقوله من كان في علوّ لمن كان في سفل، فاتّسع فيه بالتعميم. أَتْلُ أقرأ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ منصوب ب «أتل». و «ما» تحتمل الخبريّة و المصدريّة. و يجوز أن تكون استفهاميّة منصوبة ب «حرّم»، و الجملة مفعول «أتل». و المعنى: أتل أيّ شي ء حرّم ربّكم؟ عَلَيْكُمْ متعلّق ب «حرّم» أو «أتل».

أَلَّا تُشْرِكُوا بِهِ شَيْئاً أن مفسّرة، و «لا» للنهي، أي: لا تشركوا به. و إن جعلت «أن» ناصبة كان «أن لا تشركوا» بدلا من «ما حرّم». إلّا أنّ القول الأوّل أوجه، ليكون «لا تشركوا» «و لا تقربوا» «و لا تقتلوا» «و لا تتّبعوا السبل» النواهي، أو بتعطّف الأوامر عليها، و هي قوله: «وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً»، فإنّ التقدير: و أحسنوا للوالدين إحسانا، و أوفوا، و إذا قلتم فاعدلوا. و يجوز أن تقف على قوله: «حَرَّمَ

رَبُّكُمْ» ثمّ تبتدئ فتقول: أن لا تشركوا، أي: عليكم ترك الإشراك، على أن تكون «أن» الناصبة للفعل. و «شيئا» يحتمل المصدر و المفعول.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 479

وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً أي: و أحسنوا بهما إحسانا. وضعه موضع النهي عن الإساءة إليهما للمبالغة، و للدلالة على أنّ ترك الإساءة في شأنهما غير كاف، بخلاف غيرهما.

وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ مِنْ إِمْلاقٍ من أجل فقر، أو من خشية إملاق نَحْنُ نَرْزُقُكُمْ وَ إِيَّاهُمْ منع لموجبيّة ما كانوا يفعلون لأجله، و احتجاج عليه.

وَ لا تَقْرَبُوا الْفَواحِشَ كبائر الذنوب كلّها ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ بدل منه. و هو مثل قوله: وَ ذَرُوا ظاهِرَ الْإِثْمِ وَ باطِنَهُ «1».

و

عن الباقر عليه السّلام: «ما ظهر هو الزنا، و ما بطن هو المخالّة» «2».

و عن ابن عبّاس: أنّهم كانوا لا يرون بالزنا في السرّ بأسا، و يمنعون منه علانية، فنهى اللّه عنه في الحالتين.

وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ هي نفس المسلم و المعاهد إِلَّا بِالْحَقِ كالقود و قتل المرتدّ و رجم المحصن. و على الأوّل ذكر هذا النهي- و إن كان داخلا في الفواحش- تعظيما لشأنه.

ذلِكُمْ إشارة إلى ما ذكر مفصّلا وَصَّاكُمْ بِهِ بحفظه، فتحلّلوا ما حلّله لكم، و تحرّموا ما حرّمه عليكم لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ترشدون، فإنّ كمال العقل هو الرشد.

وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ المراد بالقرب التصرّف فيه إِلَّا بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إلّا بالفعلة أو الخصلة الّتي هي أحسن ما يفعل بماله، كحفظه و تثميره حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ حتّى يصير بالغا كامل العقل، ثمّ ادفعوه إليه. و هو جمع شدّة كنعمة و أنعم، أو شدّ كصرّ و أصرّ. و قيل: هو كآنك «3». و إنّما خصّ مال اليتيم بالذكر، لأنّه

لا

______________________________

(1) الأنعام: 120.

(2) المخالّة: المصادقة.

(3) الآنك: الأسربّ. و أفعل من أبنية الجمع، و لم يجي ء عليه الواحد إلّا آنك و أشدّ. الصحاح

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 480

يستطيع الدفاع عن نفسه و لا عن ماله، فيكون الطمع في ماله أشدّ، و يد الرغبة إليه أمدّ، فأكّد تعالى النهي عن التصرّف في ماله، و إن كان ذلك واجبا في مال كلّ أحد.

وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ بالعدل و التسوية لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها إلّا ما يسعها و لا تعجز عنه. و إنّما ذكره عقيب الأمر، لأنّ مراعاة التعديل فيهما على الحدّ الّذي لا زيادة فيه و لا نقصان ممّا يتعذّر، فأمر ببلوغ الوسع، و أنّ ما وراءه معفوّ عنه.

وَ إِذا قُلْتُمْ في حكومة و غيرها فَاعْدِلُوا فيه، أي: فقولوا الحقّ وَ لَوْ كانَ المقول له أو عليه في شهادة و غيرها ذا قُرْبى من ذوي قرابتكم. فما ينبغي أن يزيد في القول أو ينقص، كقوله وَ لَوْ عَلى أَنْفُسِكُمْ أَوِ الْوالِدَيْنِ وَ الْأَقْرَبِينَ «1». وَ بِعَهْدِ اللَّهِ أي: ما عهد إليكم من ملازمة العدل و تأدية أحكام الشرع أَوْفُوا بالامتثال ذلِكُمْ وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ تتّعظون به.

وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً الإشارة فيه إلى ما ذكر في السورة، فإنّها بأسرها في إثبات التوحيد و النبوّة و بيان الشريعة. و قرأ حمزة و الكسائي: إنّ بالكسر على الاستئناف، و ابن عامر و يعقوب بالفتح و التخفيف، و الباقون بالفتح مشدّدة بتقدير اللام، على أنّه علّة لقوله: فَاتَّبِعُوهُ أي: فاتّبعوا ما في هذه السورة، لأنّه صراطي مستقيما. و قرأ ابن عامر: صراطي بفتح الياء.

وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ الأديان المختلفة، من اليهوديّة و النصرانيّة و المجوسيّة، و سائر

البدع و الشبهات، أو الطرق التابعة للهوى، فإنّ مقتضى الحجّة واحد، و مقتضى الهوى متعدّد، لاختلاف الطبائع و العادات فَتَفَرَّقَ بِكُمْ فتفرّقكم و تزيلكم عَنْ سَبِيلِهِ عن صراط اللّه المستقيم، و هو دين الإسلام.

و

روي عن ابن مسعود: «أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خطّ خطّا ثمّ قال: هذا سبيل الرشد،

______________________________

4: 1573.

(1) النساء: 135. زبدة التفاسير، ج 2، ص: 481

ثمّ خطّ عن يمينه و عن شماله خطوطا ثمّ قال: هذه سبل، على كلّ سبيل منها شيطان يدعو إليه، ثمّ تلا هذه الآية: «وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً».

ذلِكُمْ الاتّباع وَصَّاكُمْ بِهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ عن الضلال و التفرّق عن الحقّ.

عن ابن عبّاس: هذه الآيات محكمات لم ينسخها شي ء من جميع الكتب، و هي محرّمات على بني آدم كلّهم، و هنّ أمّ الكتاب، من عمل بهنّ دخل الجنّة، و من تركهنّ دخل النار.

و قال كعب الأحبار: و الّذي نفس كعب بيده إنّ هذه الآيات لأوّل شي ء في التوراة، بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ «قُلْ تَعالَوْا أَتْلُ ما حَرَّمَ رَبُّكُمْ عَلَيْكُمْ» الآيات.

[سورة الأنعام (6): الآيات 154 الى 157]

ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ تَماماً عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لَعَلَّهُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (154) وَ هذا كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ فَاتَّبِعُوهُ وَ اتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (155) أَنْ تَقُولُوا إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا وَ إِنْ كُنَّا عَنْ دِراسَتِهِمْ لَغافِلِينَ (156) أَوْ تَقُولُوا لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ وَ صَدَفَ عَنْها سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ بِما كانُوا يَصْدِفُونَ (157)

ثُمَّ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ عطف على «وصّاكم». و «ثمّ» للتراخي في

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 482

الأخبار، أو للتفاوت في الرتبة، كأنّه قيل: ذلكم وصّاكم به قديما و حديثا، ثمّ أعظم من ذلك أنّا آتينا موسى الكتاب. و قيل: هو عطف على ما تقدّم من قوله: وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ «1».

تَماماً للكرامة و النعمة عَلَى الَّذِي أَحْسَنَ على كلّ من أحسن القيام به، أي: من كان محسنا صالحا، يريد به جنس المحسنين. أو على الّذي أحسن تبليغه، و هو موسى. أو تماما على ما أحسنه موسى من العلم و الشرائع، من: أحسن الشي ء إذا أجاد معرفته، أي: زيادة على علمه إتماما له.

وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ و بيانا مفصّلا لكلّ ما يحتاج إليه في الدين. و هو عطف على «تماما». و نصبهما يحتمل العلّة و الحال و المصدر.

وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لَعَلَّهُمْ لعلّ بني إسرائيل بِلِقاءِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ أي: بلقائه للجزاء.

وَ هذا يعني: القرآن كِتابٌ أَنْزَلْناهُ مُبارَكٌ كثير النفع في الدارين فَاتَّبِعُوهُ وَ اتَّقُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بواسطة اتّباعه، و هو العمل بما فيه.

أَنْ تَقُولُوا علّة ل «أنزلناه». و الخطاب لأهل مكّة، أي: أنزلنا القرآن كراهة أن تقولوا يا أهل مكّة: إِنَّما أُنْزِلَ الْكِتابُ عَلى طائِفَتَيْنِ مِنْ قَبْلِنا اليهود و النصارى.

و إنّما خصّهما بالذكر من بين الكتب السماويّة لشهرتهما و ظهور أمرهما، أي: أنزلنا القرآن عليكم لنقطع حجّتكم. وَ إِنْ كُنَّا «إن» هي المخفّفة، و لذلك دخلت اللام الفارقة في خبر «كان»، و الهاء ضمير الشأن، أي: و إن الشأن كنّا عَنْ دِراسَتِهِمْ قراءتهم لَغافِلِينَ لا ندري ما هي، و لم ينزل علينا الكتاب كما أنزل عليهم، لأنّهم كانوا غيرنا، و لو أريد منّا ما أريد منهم لأنزل الكتاب علينا كما أنزل عليهم.

أَوْ تَقُولُوا عطف على الأوّل

لَوْ أَنَّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْكِتابُ لَكُنَّا أَهْدى مِنْهُمْ

______________________________

(1) الأنعام: 84، و مضى تفسيرها في ص: 423.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 483

لحدّة أذهاننا، و ثقابة أفهامنا، و لذلك تلقّفنا فنونا من العلم، كالقصص و الأشعار و الخطب، على أنّا أمّيّون.

فَقَدْ جاءَكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ حجّة واضحة، و دلالة ظاهرة تعرفونها، و هو القرآن. هذا تبكيت لهم، فإنّه جواب الشرط المقدّر، تقديره: إن صدقتم فيما كنتم تعدّونه من أنفسكم فقد جاءكم بيّنة من ربّكم وَ هُدىً يهتدي به الخلق إلى النعيم المقيم و الثواب الجسيم وَ رَحْمَةٌ و نعمة لمن تأمّل فيه و عمل به.

فَمَنْ أَظْلَمُ لنفسه مِمَّنْ كَذَّبَ بِآياتِ اللَّهِ بعد أن عرف صحّتها و صدقها، أو تمكّن من معرفتها وَ صَدَفَ عَنْها أعرض أو صدّ عنها، فضلّ أو أضلّ سَنَجْزِي الَّذِينَ يَصْدِفُونَ يعرضون عَنْ آياتِنا سُوءَ الْعَذابِ شدّته بِما كانُوا يَصْدِفُونَ بإعراضهم أو صدّهم.

[سورة الأنعام (6): آية 158]

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (158)

ثمّ توعّدهم سبحانه بقوله: هَلْ يَنْظُرُونَ أي: ما ينتظرون؟ يعني: أهل مكّة. و هم و إن كانوا غير منتظرين لذلك، لكن لمّا كان يلحقهم لحوق المنتظر شبّهوا بالمنتظرين إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ ملائكة الموت أو العذاب. و قرأ حمزة و الكسائي بالياء. أَوْ يَأْتِيَ رَبُّكَ أي: أمره بالعذاب و كلّ آياته، يعني: آيات القيامة و الهلاك الكلّي، بدلالة قوله: أَوْ يَأْتِيَ بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ يعني: أشراط الساعة، كطلوع الشمس من مغربها، و غير ذلك.

و

عن حذيفة و البراء بن عازب: «كنّا نتذاكر الساعة إذ طلع

علينا رسول

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 484

اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: ما تتذاكرون؟ قلنا: نتذاكر الساعة. قال: إنّها لا تقوم حتّى تروا قبلها عشر آيات: الدخان، و دابّة الأرض، و خسفا بالمشرق، و خسفا بالمغرب، و خسفا بجزيرة العرب، و الدجّال، و طلوع الشمس من مغربها، و يأجوج و مأجوج، و نزول عيسى، و نارا تخرج من عدن».

يَوْمَ يَأْتِي بَعْضُ آياتِ رَبِّكَ لا يَنْفَعُ نَفْساً إِيمانُها كالمحتضر، إذ صار الأمر عيانا، لأنّه ليس بإيمان اختياري، بل إنّما هو إيمان دفع العذاب و اليأس عن أنفسهم، فيصير ملجأ إلى فعل الحسن و ترك القبيح، و الإيمان الاضطراري غير معتبر لَمْ تَكُنْ آمَنَتْ مِنْ قَبْلُ صفة لقوله: «نفسا» أَوْ كَسَبَتْ فِي إِيمانِها خَيْراً عطف على «آمنت». و المعنى: أنّه لا ينفع الإيمان حينئذ نفسا غير مقدّمة إيمانها من قبل ظهور الآيات، أو غير كاسبة في إيمانها خيرا. و في هذا دلالة على أنّ كسب الخير الّذي هو عمل الجوارح غير الإيمان الّذي هو عمل القلب، الا ترى أنّه عطف على ذاك، و الشي ء لا يعطف على نفسه، و إنّما يعطف على غيره.

قُلِ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ وعيد لهم، أي: انتظروا إتيان أحد الثلاثة، فإنّا منتظرون له، و حينئذ لنا الفوز و عليكم الويل.

[سورة الأنعام (6): آية 159]

إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْ ءٍ إِنَّما أَمْرُهُمْ إِلَى اللَّهِ ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (159)

ثمّ عطف سبحانه على ما قدّمه من الوعيد، فقال: إِنَّ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ بدّدوه، فآمنوا ببعض و كفروا ببعض. أو جعلوه أديانا فافترقوا فيه، كما

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «افترقت اليهود على إحدى و سبعين فرقة، كلّها في

الهاوية إلّا واحدة، و افترقت النصاري على ثنتين و سبعين فرقة، كلّها في الهاوية إلّا واحدة، و تفترق أمّتي على ثلاث و سبعين فرقة، كلّها في الهاوية إلّا واحدة».

و لا شبهة أنّ هذه الواحدة هي الفرقة الإماميّة،

لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح، من ركب فيها نجا،

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 485

و من تخلّف عنها غرق».

و قرأ حمزة و الكسائي: فارقوا، أي: باينوا دينهم.

وَ كانُوا شِيَعاً فرقا تشيع كلّ فرقة إماما. و

عن الباقر عليه السّلام: «أنّهم أهل الضلالة، و أصحاب الشبهات و البدع». و رواه أيضا أبو هريرة و عائشة مرفوعا.

لَسْتَ مِنْهُمْ فِي شَيْ ءٍ أي: من السؤال عنهم و عن تفرّقهم، أو من عقابهم.

أو أنت بري ء منهم، و على المباعدة التامّة من الاجتماع معهم في شي ء من مذاهبهم الفاسدة. و قيل: هو نهي عن التعرّض لهم. و هو منسوخ بآية السيف «1».

إِنَّما أَمْرُهُمْ و الحكم بينهم في اختلافهم، و مجازاتهم على سوء أفعالهم إِلَى اللَّهِ يتولّى جزاءهم ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بالعقاب بِما كانُوا يَفْعَلُونَ بفعلهم القبيح.

[سورة الأنعام (6): آية 160]

مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (160)

و لمّا ذكر سبحانه الوعيد على المعاصي، عقّبه بذكر الوعد و تضعيف الجزاء في الطاعات، فقال: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ بالخصلة الواحدة من خصال الطاعات فَلَهُ عَشْرُ أَمْثالِها. أقيمت الصفة مقام الموصوف، أي: عشر حسنات أمثالها، فضلا من اللّه تعالى. و قرأ يعقوب: عشر بالتنوين، و أمثالها بالرفع على الوصف.

و هذا اقلّ ما وعد من الأضعاف، فقد وعد بالواحد سبعين، و سبعمائة، و بغير حساب. و لذا قيل: المراد بالعشر الكثرة دون العدد. و ذلك من عظم

فضل اللّه، و جزيل إنعامه على عباده، حيث لا يقتصر في الثواب على قدر الاستحقاق، بل يزيد عليه، و ربما يعفو عن ذنوب المؤمنين منّا منه عليهم و تفضّلا، و إن عاقب على قدر الاستحقاق عدلا، كما قال: وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ بالخصلة الواحدة فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها قضيّة للعدل. فمضاعفة الحسنات فضل، و مكافأة السيّئات عدل.

______________________________

(1) التوبة: 5 و 29.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 486

وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ بنقص الثواب، و زيادة العقاب.

و

عن أبي ذرّ، عن الصادق المصدّق صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ اللّه تعالى قال: الحسنة عشر أو أزيد، و السيّئة واحدة أو أغفر، فالويل لمن غلبت آحاده أعشاره».

[سورة الأنعام (6): الآيات 161 الى 163]

قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ دِيناً قِيَماً مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (161) قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (162) لا شَرِيكَ لَهُ وَ بِذلِكَ أُمِرْتُ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ (163)

ثمّ أمر اللّه سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: قُلْ إِنَّنِي هَدانِي رَبِّي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ بالوحي و الإرشاد إلى ما نصب من الحجج دِيناً بدل من موضع قوله:

«إلى صراط»، فإنّ المعنى: هداني صراطا مستقيما، كقوله: وَ يَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً «1».

قِيَماً نهاية الاستقامة. فيعل «2» من: قام، كسيّد و هيّن، من: ساد و هان.

و هو ابلغ من المستقيم باعتبار الزنة، و المستقيم أبلغ منه باعتبار الصيغة. و قرأ عاصم و ابن عامر و حمزة و الكسائي قيما، على أنّه مصدر نعت به. فكان قياسه قوما كعوض، فأعلّ لإعلال فعله، كالقيام.

مِلَّةَ إِبْراهِيمَ عطف بيان ل «دينا» حَنِيفاً حال من إبراهيم، أي: هداني و عرّفني ملّة إبراهيم حال كونه

مائلا عن الملل الباطلة إلى الملّة الحقّة ميلا لازما لا رجوع معه، و هي ملّة الإسلام، أي: مخلصا للّه في العبادة. و إنّما وصف دين النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأنّه ملّة إبراهيم ترغيبا فيه للعرب، لجلالة إبراهيم في نفوسهم و نفوس

______________________________

(1) الفتح: 20.

(2) أي: في قراءة: قيّما.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 487

كلّ أهل الأديان، و انتساب العرب إليه، و اتّفاقهم على أنّه كان على الحقّ وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ يعني: إبراهيم كان يدعو إلى اللّه، و ينهى عن عبادة الأصنام. و هذا تعريض لكفّار مكّة.

قُلْ إِنَّ صَلاتِي وَ نُسُكِي عبادتي كلّها أو قرباني، فجمع بين الصلاة و الذبح، و نحوه: فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ «1». و قيل: مناسك حجّي. وَ مَحْيايَ وَ مَماتِي و ما أنا عليه في حياتي و أموت عليه من الإيمان و العمل الصالح، أو طاعات الحياة و الخيرات المضافة إلى الممات، كالوصيّة و التدبير، أو الحياة و الممات أنفسهما.

و قرأ نافع: محياي بإسكان الياء، إجراء للوصل مجرى الوقف. لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ خالصة له.

لا شَرِيكَ لَهُ لا أشرك فيها غيره وَ بِذلِكَ القول أو الإخلاص أُمِرْتُ أمر ربّي وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُسْلِمِينَ من هذه الأمّة، لأنّ إسلام كلّ نبيّ متقدّم على إسلام أمّته.

[سورة الأنعام (6): الآيات 164 الى 165]

قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا وَ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلاَّ عَلَيْها وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (164) وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ وَ رَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَبْلُوَكُمْ فِي ما آتاكُمْ إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (165)

و لمّا أمر سبحانه نبيّه ببيان

الإخلاص في الدين، عقّبه بأمره بأن يبيّن لهم

______________________________

(1) الكوثر: 2.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 488

بطلان أفعال المشركين، فقال: قُلْ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِي رَبًّا فأشركه في عبادتي. و هو جواب عن دعائهم له إلى عبادة آلهتهم. و الهمزة للإنكار، أي: أنا منكر أن أبغي ربّا غيره. وَ هُوَ رَبُّ كُلِّ شَيْ ءٍ حال في موضع العلّة للإنكار و الدليل له، أي: و كلّ ما سواه مربوب مثلي لا يصلح للربوبيّة، و نحوه: أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ «1».

وَ لا تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ إِلَّا عَلَيْها أي: لا تكسب كلّ نفس جزاء كلّ عمل من طاعة أو معصية إلّا عليها، فعليها عقاب معصيتها، و لها ثواب طاعتها. و وجه اتّصالها بما قبلها أنّ المراد أنّه لا ينفعني في ابتغاء ربّ غيره ما أنتم عليه من ذلك.

وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى و هذا جواب عن قولهم: اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ «2». و المعنى: لا تؤخذ نفس غير آثمة بإثم نفس أخرى. و فيه دلالة على فساد قول المجبّرة: إنّ اللّه يعذّب الطفل. بكفر أبيه. ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ مآلكم يوم القيامة فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ بتبيين الرشد من الغي، و تمييز المحقّ من المبطل.

وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ الْأَرْضِ يخلّف كلّ عصر أهل العصر الّذي قبله، يجري ذلك على انتظام و اتّساق إلى يوم القيامة. أو خلفاء اللّه في أرضه تتصرّفون فيها، على أنّ الخطاب عامّ. أو خلفاء الأمم السابقة، على أنّ الخطاب لأمّة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإنّه خاتم النبيّين، فخلّفت أمّته سائر الأمم.

وَ رَفَعَ بَعْضَكُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ في الشرف و الغنى. و قيل: في الصورة و العقل، و المال

و القوّة، و العمر. لِيَبْلُوَكُمْ ليختبركم فِي ما آتاكُمْ من الجاه و المال، كيف تشكرون نعمه؟ و كيف يصنع الشريف بالوضيع، و الغنيّ بالفقير؟ يعني:

يعاملكم معاملة المختبر مظاهرة في العدل، و انتفاء من الظلم، أي: لينظر الغنيّ إلى

______________________________

(1) الزمر: 64.

(2) العنكبوت: 12.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 489

الفقير فيشكر، و ينظر الفقير إلى الغنيّ فيصبر، و يفكّر العاقل في الأدلّة فيعلم و يعمل بما يعلم.

إِنَّ رَبَّكَ سَرِيعُ الْعِقابِ لمن كفّر نعمه، لأنّ ما هو آت قريب، أو لأنّه يسرع إذا أراده في الدنيا وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لمن أقام بشكره. وصف العقاب و لم يضفه إلى نفسه، و وصف ذاته بالمغفرة، و ضمّ إليه الوصف بالرحمة، و أتى ببناء المبالغة و اللام المؤكّدة، تنبيها على أنّه تعالى غفور بالذات معاقب بالعرض، كثير الرحمة مبالغ فيها. و اللّه أعلم بالصواب.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 491

(7) سورة الأعراف

اشارة

عدد آيها مائتان و ستّ آيات.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من قرأ سورة الأعراف جعل اللّه بينه و بين إبليس سترا، و كان آدم شفيعا له يوم القيامة.

و

روى العيّاشي بإسناده عن أبي بصير، عن أبي عبداللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة الأعراف في كلّ شهر كان يوم القيامة من الّذين لا خوف عليهم و لا هم يحزنون، فإن قرأها في كلّ جمعة كان ممّن لا يحاسب يوم القيامة» «1».

و

روى أيضا عنه عليه السّلام: «أما إنّ فيها آيا محكمة، فلا تدعوا قراءتها و تلاوتها و القيام بها، فإنّها تشهد يوم القيامة لمن قرأها عند ربّه» « «2»».

[سورة الأعراف (7): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المص (1) كِتابٌ أُنْزِلَ إِلَيْكَ فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ لِتُنْذِرَ بِهِ وَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ وَ لا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (3)

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة الأنعام بالرحمة، افتتح هذه السورة بأنّه أنزل

______________________________

(1، 2) تفسير العيّاشي 2: 2 ح 1.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 492

كتابا فيه معالم الدين و الحكمة، فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المص أنا اللّه أعلم جميع الأمور و الأحوال و أصدق في جميع الأقوال. و قيل: اسم السورة أو القرآن. و بواقي وجوه الحروف المقطّعة قد سبق «1» في سورة البقرة.

كِتابٌ خبر مبتدأ محذوف، أي: هو كتاب. أو خبر «المص». و المراد به السورة أو القرآن. أُنْزِلَ إِلَيْكَ صفته فَلا يَكُنْ فِي صَدْرِكَ حَرَجٌ مِنْهُ من تبليغه مخافة أن تكذّب فيه أو تقصّر في القيام بحقّه، فإنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يخاف تكذيب قومه له، و

إعراضهم عن قبوله، و أذاهم له، فكان يضيق صدره من الأداء و لا ينبسط له، فآمنه اللّه تعالى، و أمره بترك المبالاة بهم. أو المراد بالحرج الشكّ، فإنّ الشاكّ ضيّق الصدر حرجه، كما أنّ المتيقّن منشرح الصدر منفسحه. و توجّه النهي إلى الحرج للمبالغة، كقولهم: لا أرينّك هاهنا. و الفاء تحتمل العطف و الجواب، فكأنّه قيل: إذا أنزل إليك لتنذر به فلا يحرج صدرك منه.

لِتُنْذِرَ بِهِ متعلّق ب «أنزل» أو ب «لا يكن»، أي: أنزل إليك لإنذارك، أو لا يكن في صدرك حرج لإنذارك، لأنّه إذا أيقن أنّه من عند اللّه جسر على الإنذار، و كذا إذا لم يخفهم، أو علم أنّه موفّق للقيام بتبليغه.

وَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ يحتمل النصب على معنى: لتنذر به و تذكّر تذكيرا، فإنّ الذكرى في معنى التذكير. و الرفع على أنّه خبر مبتدأ محذوف، أو عطف على «كتاب». و الجرّ للعطف على محلّ أن «تنذر» أي: للإنذار و للذكر. و خصّ المؤمنين لأنّهم المنتفعون به.

ثمّ خاطب المكلّفين بقوله: اتَّبِعُوا ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ يعمّ القرآن و السنّة، لقوله: وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «2». و يدخل في وجوب

______________________________

(1) راجع ج 1: 36.

(2) النجم: 3- 4.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 493

الاتّباع الواجب و الندب و المباح، لأنّه يجب أن يعتقد في كلّ منها ما أمر اللّه به، كما يجب أن يعتقد في الحرام وجوب اجتنابه.

وَ لا تَتَّبِعُوا مِنْ دُونِهِ من دون اللّه أَوْلِياءَ يضلّونكم عن دين اللّه و عمّا أمركم باتّباعه من الجنّ و الإنس. و قيل: الضمير في «دونه» ل «ما أنزل»، أي: و لا تتّبعوا من دون دين اللّه دين أولياء.

و عن الحسن: يا

ابن آدم أمرت باتّباع كتاب اللّه و سنّة نبيّه، و اللّه ما أنزلت آية إلّا و يحبّ أن تعلم فيم نزلت و ما معناها.

قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ أي: تذكّرا قليلا أو زمانا قليلا تذكّرون، حيث تتركون دين اللّه و تتّبعون غيره. و «ما» مزيدة لتأكيد القلّة. و إن جعلت مصدريّة لم ينتصب «قليلا» ب «تذكّرون». و قرأ حمزة و الكسائي و حفص عن عاصم: تذكرون، بحذف التاء و تخفيف الذال. و ابن عامر: يتذكّرون بالغيبة، أي: ما يتذكّر هؤلاء يا محمد.

و معنى التذكّر أن تأخذ في الذكر شيئا بعد شي ء، مثل التفقّه و التعلّم.

[سورة الأعراف (7): الآيات 4 الى 5]

وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها فَجاءَها بَأْسُنا بَياتاً أَوْ هُمْ قائِلُونَ (4) فَما كانَ دَعْواهُمْ إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلاَّ أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (5)

و لمّا تقدّم الأمر منه سبحانه للمكلّفين باتّباع القرآن، و التحذير من مخالفته و التذكير، عقّب ذلك بتذكيرهم ما نزل بمن قبلهم من العذاب، و تحذيرهم أن ينزل بهم ما نزل بأولئك، فقال: وَ كَمْ مِنْ قَرْيَةٍ أي: و كثيرا من أهل القرى أَهْلَكْناها أردنا إهلاك أهلها لفرط عصيانهم و عنادهم فَجاءَها فجاء أهلها بَأْسُنا عذابنا بَياتاً بائتين، كقوم لوط. مصدر وقع موقع الحال. أَوْ هُمْ قائِلُونَ عطف عليه، أي: قائلين نصف النهار، كقوم شعيب. يعني: فجاءهم عذابنا في هذين الوقتين: وقت البيات، و وقت القيلولة. و تخصيص هذين الوقتين لأنّهما وقت الغفلة

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 494

و الدعة، فيكون نزول العذاب فيهما أشدّ و أفظع.

و أصل القيلولة الراحة، و منه الإقالة في البيع، لأنّه الإراحة منه بالإعفاء من عقده.

و إنّما حذفت و او الحال استثقالا لاجتماع حرفي العطف، فإنّ واو الحال واو العطف في الأصل استعيرت للوصل، لا

اكتفاء بالضمير، فإنّه غير فصيح. و في التعبيرين مبالغة في غفلتهم و أمنهم من العذاب.

فَما كانَ دَعْواهُمْ أي: دعاؤهم و استغاثتهم، أو ما كانوا يدّعونه من دينهم إِذْ جاءَهُمْ بَأْسُنا إِلَّا أَنْ قالُوا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ إلّا اعترافهم بظلمهم فيما كانوا عليه و بطلانه تحسّرا عليهم. و «دعواهم» خبر «كان»، و «أن قالوا» رفع لأنّه اسم له.

و يجوز العكس.

[سورة الأعراف (7): الآيات 6 الى 9]

فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ وَ لَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ (6) فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ بِعِلْمٍ وَ ما كُنَّا غائِبِينَ (7) وَ الْوَزْنُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (8) وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ (9)

و لمّا أنذرهم سبحانه بالعذاب في الدنيا، عقّبه بالإنذار بعذاب الآخرة، فقال:

فَلَنَسْئَلَنَّ الَّذِينَ أُرْسِلَ إِلَيْهِمْ أي: المرسل إليهم- و هم الأمم- عن قبول الرسالة و إجابتهم الرسل وَ لَنَسْئَلَنَّ الْمُرْسَلِينَ عمّا أجيبوا به، و عمّا عملت أممهم فيما جاؤا به. و المراد من هذا السؤال توبيخ الكفرة و تقريعهم، و التقرير عليهم، و ازدياد

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 495

سرور المثابين بالثناء عليهم، و غمّ المعاقبين بإظهار قبائحهم. و المنفيّ في قوله:

وَ لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ «1» سؤال استعلام. أو الأوّل في موقف الحساب، و هذا عند حصولهم على العقوبة.

فَلَنَقُصَّنَّ عَلَيْهِمْ على الرسل، أي: لنخبرنّهم حين يقولون: لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ «2». أو على الرسل و المرسل إليهم ما كانوا عليه. بِعِلْمٍ عالمين بظواهرهم و بواطنهم، أو بمعلومنا منهم وَ ما كُنَّا غائِبِينَ عنهم، فيخفى علينا شي ء من أحوالهم.

وَ الْوَزْنُ و وزن الأعمال و التمييز بين خفيفها و راجحها. أو المراد به القضاء الحقّ و الحكم العدل. و رفعه بالابتداء، و قوله: يَوْمَئِذٍ خبره، أي:

الوزن الثابت يوم يسأل اللّه الأمم و رسلهم الْحَقُ صفته. أو خبر محذوف، و معناه:

الوزن الحقّ، أي: العدل السويّ.

و اختلفوا في كيفيّة الوزن، لأنّ الأعمال أعراض لا يجوز عليها الاعادة، و لا يكون لها وزن، و لا تقوم بأنفسها. فقيل: توزن الصحائف، فإنّ جمهور العلماء- من موافقينا و مخالفينا- على أنّ صحائف الأعمال توزن بميزان له لسان و كفّتان ينظر إليه الخلائق، إظهارا للمعدلة، و قطعا للمعذرة، و تأكيدا للحجّة، كما يسألهم عن أعمالهم، فتعترف بها ألسنتهم، و تشهد بها جوارحهم.

و يؤيّده ما

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّ الرجل يؤتى به إلى الميزان، فينشر عليه تسعة و تسعون سجلّا، كلّ سجلّ مدّ البصر، فيخرج له بطاقة فيها كلمتا الشهادة، فتوضع السجلّات في كفّة و البطاقة في كفّة، فطاشت «3» السجلّات و ثقلت البطاقة.

______________________________

(1) القصص: 78.

(2) المائدة: 109.

(3) طاش يطيش، أي: خفّ.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 496

و قيل: توزن الأشخاص، لما

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنّه ليأتي العظيم السمين يوم القيامة لا يزن عند اللّه جناح بعوضة، لقوله: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً «1».

فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فمن رجحت أعماله الموزونة الّتي لها وزن و قدر، و هي الحسنات. أو ما يوزن به حسناته. و حينئذ جمعه باعتبار اختلاف الموزونات و تعدّد الوزن، بأن يكون لكلّ نوع من أنواع الطاعات يوم القيامة ميزان. و يؤيّده ما

جاء في الخبر: «أنّ الصلاة ميزان، فمن و في استوفى».

فهو جمع موزون أو ميزان.

فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالنجاة و الثواب.

وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بِما كانُوا بِآياتِنا يَظْلِمُونَ فيكذّبون بدل التصديق، و يكتسبون ما عرّضوها للعذاب، فيضيّعون الفطرة السليمة

الّتي فطرت عليها. و الخسران ذهاب رأس المال، و من أعظم رأس المال النفس، فإذا أهلك نفسه بسوء عمله فقد خسر نفسه.

[سورة الأعراف (7): آية 10]

وَ لَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (10)

ثمّ ذكر سبحانه نعمه على البشر، بالتمكين في الأرض و ما خلق فيها من الأرزاق، مضافا إلى نعمه السابغة عليهم، بإنزال الكتب و إرسال الرسل، فقال:

وَ لَقَدْ مَكَّنَّاكُمْ فِي الْأَرْضِ أي: جعلنا لكم فيها مكانا و قرارا، أو أقدرناكم على التصرّف فيها، و ملّكناكم فيها.

وَ جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ أسبابا تعيشون بها. جمع معيشة، و هي ما يعاش

______________________________

(1) الكهف: 105.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 497

به من أنواع الرزق و وجوه النعم و المنافع، أو ما يتوصّل إلى ذلك. و عن نافع: أنّه همزه تشبيها بما الياء فيه زائدة، كصحائف.

قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ زمانا أو شكرا قليلا تشكرون فيما صنعت إليكم.

[سورة الأعراف (7): الآيات 11 الى 17]

وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (11) قالَ ما مَنَعَكَ أَلاَّ تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (12) قالَ فَاهْبِطْ مِنْها فَما يَكُونُ لَكَ أَنْ تَتَكَبَّرَ فِيها فَاخْرُجْ إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ (13) قالَ أَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (14) قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (15)

قالَ فَبِما أَغْوَيْتَنِي لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ (16) ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ (17)

ثمّ ذكر سبحانه نعمته في ابتداء الخلق، فقال: وَ لَقَدْ خَلَقْناكُمْ ثُمَّ صَوَّرْناكُمْ أي: خلقنا أباكم آدم عليه السّلام طينا غير مصوّر، ثمّ صوّرناه. نزّل خلقه و تصويره منزلة خلق الكلّ و تصويره. أو ابتدأنا خلقكم ثمّ تصويركم، بأن خلقنا آدم ثمّ صوّرناه.

ثُمَّ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ قيل: ذكر «ثمّ» لتأخير الإخبار. و يمكن حملها

على التراخي في الرتبة، لأنّ مقام الامتنان يؤذن أن يكون أبوهم بسجود الملائكة أرفع درجة من خلقهم و تصويرهم. فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ لَمْ يَكُنْ مِنَ

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 498

السَّاجِدِينَ ممّن سجد لآدم.

قالَ ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ أي: أن تسجد و «لا» صلة، كما في: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ «1»، فإنّه بمعنى: ليعلم، بدليل قوله: ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ «2». و الفائدة في زيادتها توكيد معنى الفعل الّذي دخلت عليه و تحقيقه، كأنّه قيل: ما منعك أن تحقّق السجود و تلزمه نفسك، و التنبيه على أنّ الموبّخ عليه ترك السجود. و قيل: الممنوع عن الشي ء مضطرّ إلى خلافه، فكأنّه قيل: ما اضطرّك إلى أن لا تسجد إِذْ أَمَرْتُكَ فيه دليل على أنّ مطلق الأمر للوجوب و الفور.

قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ و إنّما سأله عن المانع من السجود، و قد علم ما منعه، توبيخا له، و إظهارا لمعاندته و كفره و كبره، و افتخاره بأصله، و ازدرائه بأصل آدم، و أنّه خالف أمر ربّه معتقدا أنّه غير واجب عليه، لمّا رأى أنّ سجود الفاضل للمفضول خارج من الصواب، و لهذا قال في جوابه: أنا خير منه. و حقيقة الجواب أن يقول: منعني كذا و كذا، إلّا أنّه أجاب بما يكون جوابا من حيث المعنى، استبعادا لأن يكون مثله مأمورا بالسجود لمثله، كأنّه قال: المانع فيه أنّي خير منه، و لا يحسن للفاضل أن يسجد للمفضول، فكيف يحسن أن يؤمر به؟ يعني: من كان على مثل صفتي يستبعد أن يؤمر بما أمرت به. فهو الّذي سنّ التكبّر.

عن ابن عبّاس: قاس إبليس فأخطأ القياس، و هو أوّل من قاس، فمن قاس الدين بشي ء من رأيه

قرنه اللّه بإبليس. و قال ابن سيرين: أوّل من قاس إبليس، و ما عبدت الشمس و القمر إلّا بالمقاييس.

ثمّ بيّن علّة خيريّته و قال: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ فهو تعليل لفضله على آدم. و مراده منه: أنّ النار أشرف من الطين، و هو خلق منها و آدم من الطين، فلم يجز أن يسجد الأشرف للأدون.

______________________________

(1) الحديد: 29.

(2) ص: 75.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 499

و قد غلط في ذلك، بأن رأى الفضل كلّه باعتبار العنصر، و غفل عمّا يكون باعتبار الفاعل، كما أشار إليه بقوله: ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ «1»، أي:

بغير واسطة. و باعتبار الصورة، كما نبّه عليه بقوله: وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ «2». و باعتبار الغاية، و هو فضله من حيث علومه الجمّة، و لذلك أمر الملائكة بسجوده لمّا بيّن لهم أنّه أعلم منهم، و أنّ له خواصّ ليست لغيره.

و الآية دليل على الكون و الفساد، و أنّ الشياطين أجسام كائنة. و لعلّ إضافة خلق الإنسان إلى الطين و الشيطان إلى النار باعتبار الجزء الغالب.

قالَ فَاهْبِطْ فانزل و انحدر مِنْها من السماء، أو الجنّة، أو عن الدرجة الشريفة الرفيعة الّتي للمطيعين إلى الدرجة الدنيّة الوضيعة الّتي للعاصين. فَما يَكُونُ لَكَ فما يصحّ لك أَنْ تَتَكَبَّرَ عن أمر اللّه فِيها و تعصي، فإنّها مكان الخاشع و المطيع، و ليست بموضع المتكبّرين، و إنّما موضعهم النار، كما قال:

أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ «3». و فيه تنبيه على أنّ التكبّر لا يليق بأهل الجنّة، و أنّه تعالى إنّما طرده و أهبطه للتكبّر لا لمجرّد عصيانه.

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من تواضع رفعه اللّه، و من

تكبّر وضعه اللّه».

فَاخْرُجْ من المكان الّذي أنت فيه إِنَّكَ مِنَ الصَّاغِرِينَ ممّن أهانه اللّه و وضعه لكبره. و هذا الكلام إنّما صدر من اللّه سبحانه على لسان بعض الملائكة.

و الآية لا تدلّ على أنّه يجوز التكبّر في غير الجنّة، فإنّ التكبّر لا يجوز على حال، لأنّه إظهار كبر النفس على جميع الأشياء، و هذا في صفة العباد ذمّ، و في صفة اللّه مدح، إلّا أنّ إبليس تكبّر على اللّه في الجنّة فأخرج منها قسرا، و من تكبّر خارج الجنّة منع من ذلك بالأمر و بالنهي. و يؤيّده قوله تعالى:

______________________________

(1) ص: 75.

(2) الحجر: 29.

(3) الزمر: 60.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 500

زبدة التفاسير ج 2 549

تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً «1».

قالَ أَنْظِرْنِي أمهلني و أخّرني في الأجل إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ إلى يوم القيامة، فلا تمتني، أو لا تعجّل عقوبتي.

قالَ إِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ ظاهره يقتضي الإجابة إلى ما سأله، لكنّه محمول على ما جاء مقيّدا بقوله: إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ «2». و هو النفخة الأولى، أو وقت يعلم اللّه تعالى انتهاء أجله. و في إنجاح مسئوله ابتلاء العباد، و تعريضهم للثواب بمخالفتهم إيّاه. و حكمه حكم ما خلق في الدنيا من صنوف الزخارف، و أنواع الملاذّ و الملاهي، و ما ركّب في الأنفس من الشهوات ليمتحن بها عباده.

قالَ بعد الإمهال فَبِما أَغْوَيْتَنِي بسبب إغوائك إيّاي. و الباء متعلّقة بفعل القسم المحذوف لا ب «أقعدنّ»، فإن اللّام تصدّ عنه. و قيل: الباء للقسم. فعلى الأوّل الباء للسببيّة، و المقسم و المقسم عليه مقدّر. و التقدير: أحلف باللّه بسبب إغوائك إيّاي. و على الثاني، تقديره: أقسم بإغوائك إيّاي.

و المراد بالإغواء تكليفه سبحانه

إيّاه ما وقع به في الغيّ، و لم يثبت عليه كما ثبتت الملائكة.

و قيل: معناه: بسبب أمرك إيّاي بالسجود، فحملتني به الأنفة و الاستنكاف على معصيتك، فتسبّب وقوعي في الغيّ. أو بما خيّبتني من رحمتك و جنّتك. أو بما حكمت بغوايتي، كما يقال: أضللتني، أي: حكمت بضلالتي. أو بما أهلكتني بلعنتك إيّاي، كما في قوله تعالى: فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا «3» أي: هلاكا. و قالوا: غوى الفصيل إذا فقد اللبن فمات. و المصدر غوى مقصورا.

و لا يبعد أن يكون إبليس قد اعتقد أنّ اللّه تعالى يغوي الخلق، بأن يضلّهم، و يكون ذلك من جملة ما كان اعتقده من الشرّ. و على هذا يكون الإغواء على

______________________________

(1) القصص: 83.

(2) الحجر: 38.

(3) مريم: 59.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 501

حقيقته. و قيل: «ما» استفهاميّة، كأنّه قيل: بأيّ شي ء أغويتني؟

ثمّ ابتدأ فقال: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ لأولاد آدم ترصّدا بهم، كما يقعد القطّاع على الطريق ليقطعه على المارّة صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ طريق الإسلام. و نصبه على الظرف. و قيل: تقديره: على صراطك، كقولهم: ضرب زيد الظهر و البطن. و المعنى:

لأجتهدنّ في إغوائهم حتّى يفسدوا بسببي، كما فسدت بسببهم.

ثُمَّ لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ أي: من جميع الجهات الأربع، مثل قصده إيّاهم بالتسويل و الإضلال من أيّ وجه يمكنه، بإتيان العدوّ من الجهات الأربع في الغالب، و لذلك لم يقل: من فوقهم و من تحت أرجلهم.

و قيل: لم يقل: من فوقهم، لأنّ الرحمة تنزل منه. و لم يقل: من تحتهم، لأنّ الإتيان منه يوحش الناس.

و عن ابن عبّاس: من بين أيديهم من قبل الآخرة، و من خلفهم من قبل الدنيا، و عن أيمانهم و عن شمائلهم من

جهة حسناتهم و سيّئاتهم.

و المعنى: أنّي أزيّن لهم الدنيا، و أخوّفهم بالفقر، و أقول لهم: لا جنّة و لا نار، و لا بعث و لا حساب، و أثبّطهم عن الحسنات، و أشغلهم عنها، و أحبّب إليهم السيّئات، و أحثّهم عليها.

و قيل: من بين أيديهم من حيث يعلمون و يقدرون على التحرّز عنه، و من خلفهم من حيث لا يعلمون و لا يقدرون، و عن أيمانهم و عن شمائلهم من حيث يتيسّر لهم أن يعلموا و يتحرّزوا، و لكن لم يفعلوا لعدم تيقّظهم و احتياطهم.

و

عن الباقر عليه السّلام أنّه قال: «لَآتِيَنَّهُمْ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ» معناه: أهوّن عليهم أمر الآخرة.

«وَ مِنْ خَلْفِهِمْ» آمرهم بجمع الأموال، و البخل بها عن الحقوق، لتبقى لورثتهم. «وَ عَنْ أَيْمانِهِمْ» أفسد عليهم أمر دينهم بتزيين الضلالة و تحسين الشبهة.

«وَ عَنْ شَمائِلِهِمْ» بتحبيب اللذّات إليهم، و تغليب الشهوات على قلوبهم». و هذا قريب من قول ابن عبّاس.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 502

و إنّما عدّي الفعل إلى الأوّلين بحرف الابتداء لأنّه منهما متوجّه إليهم، و إلى الآخرين بحرف المجاوزة، لأنّ الآتي منهما جلس متجافيا عن صاحبهما منحرفا عنه غير ملاصق له، ثمّ كثر حتّى استعمل في المتجافي و غيره، كما ذكرناه في «تعال». و نظيره قولهم: جلست عن يمينه أو عن شماله، و قولهم: رميت عن القوس، لأنّ السهم يبعد عنها.

و

عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنّ الشيطان قعد لابن آدم بأطرقة، قعد له بطريق الإسلام، فقال له: تدع دين آبائك، فعصاه فأسلم. ثمّ قعد له بطريق الهجرة، فقال له: تدع ديارك و تتغرّب، فعصاه فهاجر. ثمّ قعد له بطريق الجهاد، فقال له: تقاتل فتقتل فيقسم مالك و تنكح امرأتك، فعصاه

فقاتل».

و عن شقيق: ما من صباح إلّا قعد لي الشيطان على أربعة مراصد: من بين يديّ، و من خلفي، و عن يميني، و عن شمالي. أمّا من بين يديّ فيقول: لا تخف فإنّ اللّه غفور رحيم، فأقرأ: وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً «1». و أمّا من خلفي فيخوّفني الضيعة على مخلّفي، فاقرأ: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها «2». و أمّا من قبل يميني فيأتيني من قبل الثناء، فأقرأ: وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ «3». و أمّا من قبل شمالي فيأتيني من قبل الشهوات، فأقرأ وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ ما يَشْتَهُونَ «4».

وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ مطيعين. و إنّما قاله ظنّا، لقوله تعالى: وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ «5» لمّا رأى فيهم مبدأ الشرّ متعدّدا و مبدأ الخير واحدا،

______________________________

(1) طه: 82.

(2) هود: 6.

(3) الأعراف: 128.

(4) سبأ: 54.

(5) سبأ: 20.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 503

و لأنّه لمّا استنزل آدم ظنّ أنّ ذرّيّته أيضا سيجيبونه، لكونهم أضعف منه. و قيل:

سمعه من الملائكة.

[سورة الأعراف (7): الآيات 18 الى 25]

قالَ اخْرُجْ مِنْها مَذْؤُماً مَدْحُوراً لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ (18) وَ يا آدَمُ اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ (19) فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ لِيُبْدِيَ لَهُما ما وُورِيَ عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما وَ قالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلاَّ أَنْ تَكُونا مَلَكَيْنِ أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ (20) وَ قاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ (21) فَدَلاَّهُما بِغُرُورٍ فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَ طَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَ ناداهُما رَبُّهُما أَ لَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَ أَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ

لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ (22)

قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا وَ تَرْحَمْنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (23) قالَ اهْبِطُوا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ (24) قالَ فِيها تَحْيَوْنَ وَ فِيها تَمُوتُونَ وَ مِنْها تُخْرَجُونَ (25)

ثمّ بيّن سبحانه ما فعله بإبليس من الإهانة و الإذلال، و ما آتاه آدم من الإكرام و الإجلال، فقال: قالَ اخْرُجْ مِنْها من الجنّة، أو من السماء، أو من المنزلة الرفيعة

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 504

مَذْؤُماً مذموما. من: ذأمه إذا ذمّه. مَدْحُوراً مطرودا لَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أطاعك و اقتدى بك من بني آدم. اللام فيه لتوطئة القسم و جوابه. لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكُمْ أَجْمَعِينَ سدّ مسدّ جواب الشرط. و معنى «منكم»: منك و منهم، فغلّب المخاطب.

وَ يا آدَمُ أي: و قلنا يا آدم اسْكُنْ من السكنى، لا من السكون أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ إنّما لم يقل: زوجتك، لأنّ الإضافة أغنت عن ذكره، و كان الحذف أحسن، لما فيه من الإيجاز من غير إخلال بالمعنى فَكُلا مِنْ حَيْثُ شِئْتُما أباح سبحانه لهما أن يأكلا منها أين شاءا و ما شاءا وَ لا تَقْرَبا هذِهِ الشَّجَرَةَ بالأكل فَتَكُونا مِنَ الظَّالِمِينَ فتصيرا من الباخسين نفوسهم الثواب العظيم. و قد مضى تفسير هذه الآية مشروحا في سورة البقرة «1». و «تكونا» يحتمل الجزم على العطف، و النصب على الجواب.

فَوَسْوَسَ لَهُمَا الشَّيْطانُ يقال: وسوس إذا تكلّم كلاما خفيّا يكرّره. و منه:

وسوس الحليّ. و هو فعل غير متعدّ، ك: ولولت المرأة، و وعوع الذئب. و رجل موسوس بكسر الواو. و لا يقال: موسوس بالفتح، و لكن موسوس له و موسوس إليه، و هو الّذي يلقى إليه الوسوسة. و معنى: وسوس له،

فعل الوسوسة لأجله.

و وسوس إليه ألقاها إليه. و هي في الأصل الصوت الخفيّ، كالهينمة «2» للصوت الجليّ، و الخشخشة لصوت النعل. و قد سبق في البقرة كيفيّة وسوسته «3».

لِيُبْدِيَ لَهُما ليظهر لهما. و اللام للعاقبة، أو للغرض على أنّه أراد أيضا

______________________________

(1) راجع ج 1: 126 ذيل الآية 35.

(2) الهينمة: الكلام أو الصوت الخفيّ. راجع الصحاح 5: 2062، لسان العرب 12: 623.

و لعلّ ما ذكره المفسّر «قدّس سرّه» من سهو قلمه الشريف.

(3) راجع ج 1: 127 ذيل الآية 36.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 505

بوسوسته أن يسوأهما بانكشاف عورتهما، و ذلك لعلمه أنّ من أكل هذه الشجرة بدت عورته، و أنّ من بدت عورته لا يترك في الجنّة، و لهذا عبّر عنهما بالسوءة، فقال: ما وُورِيَ ما غطّي عَنْهُما مِنْ سَوْآتِهِما عوراتهما. و المواراة جعل الشي ء وراء ما يستره. و إنّما لم تقلب الواو المضمومة همزة في المشهور، كما قلبت في «أو يصل» تصغير «واصل»، لأنّ الثانية مدّة. و فيه دليل على أنّ كشف العورة من عظائم الأمور، و أنّه لم يزل مستهجنا في الطباع، مستقبحا في العقول.

وَ قالَ ما نَهاكُما رَبُّكُما عَنْ هذِهِ الشَّجَرَةِ إِلَّا أَنْ تَكُونا أي: كراهة أن تكونا مَلَكَيْنِ يعني: أنّه أوهمهما أنّهما إذا أكلا من هذه الشجرة تغيّرت صورتهما إلى صورة الملك. أَوْ تَكُونا مِنَ الْخالِدِينَ الّذين لا يموتون، أو يخلدون في الجنّة.

و استدلّ به على فضل الملائكة على الأنبياء. و جوابه: إنّما كانت رغبتهما في أن يحصل لهما ما للملائكة من الكمالات الفطريّة، و الاستغناء عن الأطعمة و الأشربة، و ذلك لا يدلّ على فضلهم مطلقا، فإنّ الثواب إنّما يستحقّ على الطاعات دون الصور و الهيئات. و لا يمتنع أن يكونا رغبا

في صور الملائكة و هيئاتها، و لا يكون ذلك رغبة في الثواب و لا الفضل. ألا ترى أنّهما رغبا في أن يكونا من الخالدين؟ و ليس الخلود ممّا يقتضي مزيّة في الثواب و لا الفضل.

وَ قاسَمَهُما إِنِّي لَكُما لَمِنَ النَّاصِحِينَ أي: أقسم لهما على أنّه من المخلصين النصيحة في دعائهما إلى التناول من هذه الشجرة، أي: اجتهد في النصيحة اجتهاد المقاسم، و إخراجه على صورة المفاعلة للمبالغة. و قيل: اقسم لهما بالنصيحة، و أقسما له بقبولها، فجعل ذلك مقاسمة.

فَدَلَّاهُما فنزّلهما إلى الأكل من الشجرة، من تدلية الدلو، و هو إرسالها في البئر. نبّه به على أنّه أهبطهما بذلك من درجة عالية إلى رتبة سافلة، فإنّ التدلية

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 506

و الإدلاء إرسال الشي ء من أعلى إلى أسفل. بِغُرُورٍ بما غرّهما به من القسم، فإنّهما ظنّا أنّ أحدا لا يحلف باللّه كاذبا. أو ملتبسين بغرور. و إنّما يخدع المؤمن باللّه.

و عن ابن عمر أنّه كان إذا رأى من عبده حسن صلاة أعتقه. فقيل له: إنّهم يخدعونك. فقال: من خدعنا باللّه انخدعنا له.

فَلَمَّا ذاقَا الشَّجَرَةَ وجدا طعمها آخذين في الأكل منها. و فيه أنّ ذوق الشي ء المحرّم يوجب الذمّ، فكيف استيفاؤه و قضاء الوطر منه؟ بَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما تهافت عنهما لباسهما، و ظهرت لهما عوراتهما، فأبصر كلّ واحد منهما عورة صاحبه، و كانا لا يريانها من أنفسهما، و لا أحدهما من الآخر. و عن عائشة:

ما رأيت منه، و لا رأى منّي. و اختلف في أنّ الشجرة كانت السنبلة أو الكرم أو غيرهما، و أنّ اللباس كان من جنس النور يحول بينها و بين الناظر، أو حلّة، أو من جنس الظفر.

وَ طَفِقا يَخْصِفانِ أخذا يرقعان و يلزقان ورقة

فوق ورقة. يقال: طفق يفعل كذا، بمعنى: أخذ يفعل. عَلَيْهِما على عوراتهما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ. قيل: كان ورق التين.

وَ ناداهُما رَبُّهُما أَ لَمْ أَنْهَكُما عَنْ تِلْكُمَا الشَّجَرَةِ وَ أَقُلْ لَكُما إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُما عَدُوٌّ مُبِينٌ عتاب على ترك الأولى، و عدم ارتكاب المندوب إليه، و توبيخ على الاغترار بقول العدوّ.

و لمّا عاتبهما و وبّخهما على ارتكاب المنهيّ عنه قالا رَبَّنا ظَلَمْنا أَنْفُسَنا أضررناها بنقص الثواب لأجل ترك المندوب إليه وَ إِنْ لَمْ تَغْفِرْ لَنا أي: و إن لم تستره علينا، لأنّ المغفرة هي الستر وَ تَرْحَمْنا و لم تتفضّل علينا بنعمك الّتي يتمّ بها ما فوّتناه نفوسنا من الثواب لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ من جملة من خسر و لم

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 507

يربح. و هذا نهي تنزيه لا تحريم عندنا، لأنّ الأنبياء معصومون منزّهون عن ارتكاب القبائح، لكن قالا ذلك على عادة أولياء اللّه في استعظام الزلّات، و استصغار العظيم من الحسنات.

روي أنّ اللّه سبحانه قال لآدم: ألم يكن لك فيما منحتك من شجر الجنّة مندوحة- أي: كافية- عن هذه الشجرة؟ فقال: بلى و عزّتك، لكن ما ظننت أنّ أحدا من خلقك يحلف بك كاذبا. قال: فبعزّتي لأهبطنّك إلى الأرض، ثمّ لا تنال العيش إلّا كدّا. فأهبط، و علّم صنعة الحديد، و أمر بالحرث، فحرث و سقى و حصد و داس و ذرى و عجن و خبز.

قالَ اهْبِطُوا الخطاب لآدم و حوّاء و إبليس. كرّر الأمر ليعلم أنّهم قرناء أبدا بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ في موقع الحال، أي: متعادين، يعاديهما إبليس و يعاديانه وَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُسْتَقَرٌّ استقرار، أي: موضع استقرار وَ مَتاعٌ و تمتّع و انتفاع بعيش إِلى حِينٍ إلى تقضّي آجالكم.

قالَ فِيها تَحْيَوْنَ

تعيشون وَ فِيها تَمُوتُونَ وَ مِنْها تُخْرَجُونَ عند البعث للجزاء.

و قرأ حمزة و الكسائي و ابن ذكوان عن ابن عامر و يعقوب: تخرجون بفتح التاء و ضمّ الراء.

قال الجبائي: في الآية دلالة على أنّ اللّه سبحانه يخرج العباد يوم القيامة من هذه الأرض الّتي حيوا فيها بعد موتهم، و أنّه يفنيها بعد أن يخرج العباد منها في يوم الحشر، و إذا أراد إفناءها زجرهم عنها زجرة فيصيرون إلى أرض أخرى يقال لها: الساهرة، و تفنى هذه، كما قال: فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ «1».

______________________________

(1) النازعات: 14.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 508

[سورة الأعراف (7): الآيات 26 الى 30]

يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً وَ لِباسُ التَّقْوى ذلِكَ خَيْرٌ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (26) يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ (27) وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً قالُوا وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَ اللَّهُ أَمَرَنا بِها قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (28) قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ ادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كَما بَدَأَكُمْ تَعُودُونَ (29) فَرِيقاً هَدى وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ إِنَّهُمُ اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (30)

و لمّا ذكر نعمته على بني آدم في تبوّئه الدار و المستقرّ، عقّبه بذكر النعمة في الملابس و الستر، فقال خطابا عامّا لجميع أهل القرون و الأمصار إلى يوم القيامة:

يا بَنِي آدَمَ قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً أي: خلقناه لكم بتدبيرات سماويّة، و اسباب نازلة منها، فإنّه قضى و

كتب في اللوح المحفوظ. أو لأنّه ينبت بالمطر الّذي ينزل

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 509

من السماء. و قيل: لأنّ البركات تنسب إلى أنّها تأتي من السماء. و نظيره قوله:

وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ «1». و قوله: وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ «2». يُوارِي سَوْآتِكُمْ الّتي قصد الشيطان إبداءها، و يغنيكم عن خصف الورق.

روي أنّ العرب كانوا يطوفون بالبيت عراة، و يقولون: لا نطوف في ثياب عصينا اللّه تعالى فيها، فنزلت.

وَ رِيشاً و لباسا يتجمّلون به. و الريش الجمال، استعير من ريش الطير، لأنّه لباسه و زينته. و المعنى: أنزل عليكم لباسين: لباسا يواري عوراتكم، و لباسا يزينكم. و قيل: مالا، و منه تريّش الرجل إذا تموّل.

وَ لِباسُ التَّقْوى و هو الورع و خشية اللّه. و قيل: الإيمان. و قيل: السمت الحسن. و قيل: لباس الحرب، من الدروع و المغافر و غيرهما ممّا يتّقى به في الحرب. و قيل: ستر العورة. و لا مانع من حمل ذلك على الجميع. و رفعه بالابتداء، و خبره ذلِكَ خَيْرٌ. أو خبره «خير»، و «ذلك» صفته، كأنّه قيل: و لباس التقوى المشار إليه خير. و في هذه الإشارة تعظيم لباس التقوى. و قرأ نافع و ابن عامر و الكسائي: و لباس بالنصب، عطفا على «لباسا».

ذلِكَ أي: إنزال اللباس مِنْ آياتِ اللَّهِ الدالّة على فضله و رحمته على عباده لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ فيعرفون نعمته. أو يتّعظون فيتورّعون عن القبائح.

و في الكشّاف: «هذه الآية واردة على سبيل الاستطراد عقيب ذكر بدوّ السوءة و خصف الورق عليها، إظهارا للمنّة فيما خلق من اللباس، و لما في العري و كشف العورة من المهانة الفضيحة، و إشعارا بأنّ التستّر باب عظيم من أبواب التقوى» «3».

______________________________

(1) الزمر: 6.

(2) الحديد:

25.

(3) الكشّاف 2: 97.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 510

يا بَنِي آدَمَ لا يَفْتِنَنَّكُمُ الشَّيْطانُ لا يمتحننّكم، بأن يمنعكم دخول الجنّة بإغوائه و إضلاله إيّاكم عن الدين كَما أَخْرَجَ أَبَوَيْكُمْ مِنَ الْجَنَّةِ كما محن أبويكم، بأن أخرجهما منها. و النهي لفظا للشيطان، و المراد نهيهم عن اتّباعه و الافتتان به.

يَنْزِعُ عَنْهُما لِباسَهُما لِيُرِيَهُما سَوْآتِهِما حال من «أبويكم» أو من فاعل «أخرج». و إسناد النزع إليه للتسبّب، أي: أخرجهما نازعا لباسهما، بأن كان سببا في أن ينزع عنهما.

إِنَّهُ يَراكُمْ هُوَ وَ قَبِيلُهُ عطف على الضمير في «يراكم» المؤكّد ب «هو».

و الضمير في «إنّه» ضمير الشأن. مِنْ حَيْثُ لا تَرَوْنَهُمْ فيغتالكم من حيث لا تشعرون. و هذا تعليل للنهي، و تأكيد للتحذير من فتنته. و قبيله: جنوده.

عن ابن عبّاس: إنّ اللّه جعلهم يجرون من بني آدم مجرى الدم، و صدور بني آدم مساكن لهم، كما قال تعالى: يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ «1». فهم يرون بني آدم، و بنو آدم لا يرونهم.

و عن قتادة و مالك بن دينار: و اللّه إن عدوّا يراك و لا تراه لشديد المؤونة، إلّا من عصم اللّه. و إنّما لا يراهم البشر لأنّ أجسامهم شفّافة لطيفة، تحتاج رؤيتها إلى فضل شعاع.

و قال: أبو الهذيل: يجوز أن يمكّنهم اللّه تعالى فيتكشّفوا، فيراهم حينئذ من يحضرهم. و إليه ذهب عليّ بن عيسى. قال: إنّهم ممكّنون من ذلك. و هو الّذي نصره الشيخ المفيد أبو عبد اللّه رحمه اللّه. و قال الشيخ أبو جعفر قدّس سرّه: و هو الأقوى عندي.

إِنَّا جَعَلْنَا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ خلّينا بينهم، لم نكفّهم عنهم حتّى تولّوهم و أطاعوهم فيما سوّلوا لهم من مخالفة اللّه. و هذا تحذير آخر

______________________________

(1) الناس: 5.

زبدة التفاسير،

ج 2، ص: 511

أبلغ من الأوّل.

وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً فعلة متناهية في القبح، كعبادة الصنم و كشف العورة في الطواف، فنهوا عنه قالُوا في جواب الناهي وَجَدْنا عَلَيْها آباءَنا وَ اللَّهُ أَمَرَنا بِها اعتذروا و احتجّوا بأمرين: تقليد الآباء، و الافتراء على اللّه. فأعرض عن الأوّل، لظهور فساده، وردّ الثاني بقوله: قُلْ إِنَّ اللَّهَ لا يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ لأنّ فعل القبيح مستحيل عليه، لعدم الداعي، و وجود الصارف، فكيف يأمر بفعله؟ أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ إنكار لإضافتهم القبيح إليه، و شهادة عليهم بالجهل، متضمّنا للنهي عن الافتراء على اللّه تعالى.

عن الحسن: إنّ اللّه بعث محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى العرب و هم قدريّة مجبّرة يحملون ذنوبهم على اللّه. و تصديقه قول اللّه تعالى: «وَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً» إلى قوله: قُلْ أَمَرَ رَبِّي بِالْقِسْطِ بالعدل. و هو الوسط من كلّ أمر، المتجافي عن طرفي الإفراط و التفريط، يشهد العقل المستقيم أنّه حقّ حسن. و قيل: هو التوحيد.

وَ أَقِيمُوا وُجُوهَكُمْ أي: و قل توجّهوا إلى عبادته، و اقصدوها مستقيمين، غير عادلين إلى غيرها. أو أقيموها نحو القبلة. عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ في كلّ وقت سجود أو مكانه، و هو الصلاة، أو في أيّ مسجد حضرتكم الصلاة، و لا تقولوا حتى نرجع إلى مسجدنا. أو اقصدوا المسجد في وقت كلّ صلاة أمر بالجماعة لها ندبا عند الأكثرين، و حتما عند الأقلّين.

وَ ادْعُوهُ و اعبدوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي: الطاعة، مبتغين بها وجهه خالصا، فإنّ إليه مصيركم لا غير كَما بَدَأَكُمْ كما أنشأكم ابتداء تَعُودُونَ بإعادته، فيجازيكم على أعمالكم، فإنّه ليس بعثكم أشدّ من ابتدائكم. احتجّ عليهم في إنكارهم الإعادة بابتداء الخلق. و المعنى: أنّه

يعيدكم فيجازيكم على أعمالكم، فأخلصوا له العبادة. و إنّما شبّه الإعادة بالإبداء تقريرا لإمكانها و القدرة عليها.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 512

و قيل: كما بدأكم من التراب تعودون إليه.

و قيل: كما بدأكم حفاة عراة غرلا «1» تعودون.

و قيل: معناه: تبعثون على ما متّم عليه، المؤمن على إيمانه، و الكافر على كفره.

فَرِيقاً هَدى و هم المؤمنون، وفّقهم للإيمان وَ فَرِيقاً حَقَّ عَلَيْهِمُ الضَّلالَةُ أي: الخذلان، إذ لم يقبلوا الهدى، و لم يكن لهم لطف، فهم يضلّون و لا يهتدون.

و «فريقا» منصوب بفعل مضمر يفسّره ما بعده، و التقدير: و خذل فريقا حقّ عليهم الضلالة. و هذا دليل على أنّ علم اللّه لا أثر له في ضلالهم، و أنّهم هم الضالّون باختيارهم.

إِنَّهُمُ الفريق الّذين حقّ عليهم الضلالة اتَّخَذُوا الشَّياطِينَ أَوْلِياءَ أطاعوهم فيما أمروهم مِنْ دُونِ اللَّهِ و هذا تعليل لخذلانهم، و تحقيق لضلالتهم، و دليل على أنّ مولاهم في الضلالة الشيطان دون اللّه. وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ و هم مع ذلك يظنّون أنّهم في ذلك على هداية و حقّ.

[سورة الأعراف (7): آية 31]

يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ (31)

و لمّا تقدّم ذكر ما أنعم سبحانه على عباده من اللباس و الرزق، أمرهم في اثرها بتناول الزينة و التستّر و الاقتصاد في المأكل و المشرب، فقال: يا بَنِي آدَمَ خُذُوا زِينَتَكُمْ ثيابكم الّتي تتزيّنون بها عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ أي: كلّ صلاة.

و

روى العيّاشي بإسناده: «أنّ الحسن بن عليّ عليه السّلام كان إذا قام إلى الصلاة لبس

______________________________

(1) غرل الصبيّ: لم يختن، فهو أغرل، و جمعه: غرل. زبدة التفاسير، ج 2، ص: 513

أجود ثيابه. فقيل له: يا ابن رسول اللّه لم تلبس

أجود ثيابك؟ فقال: إنّ اللّه جميل يحبّ الجمال، فأتجمّل لربّي، و هو يقول: «خُذُوا زِينَتَكُمْ عِنْدَ كُلِّ مَسْجِدٍ» فأحبّ أن ألبس أجود ثيابي» «1».

و

قيل: خذوا زينتكم للصلاة في الجمعات و الأعياد. و هذا مرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

و قيل: هو أمر بلبس الثياب في الصلاة و الطواف، و كانوا يطوفون عراة، و قالوا: إنّا لا نعبد اللّه في ثياب أذنبنا فيها، كما مرّ «2». و كان يطوف الرجال بالنهار و النساء بالليل. و فيه دليل على وجوب ستر العورة في الصلاة و الطواف.

و

قيل: أخذ الزينة هو التمشّط عند كلّ صلاة. و هو المرويّ عن الصادق عليه السّلام.

و روي أنّ بني عامر في أيّام حجّهم كانوا لا يأكلون الطعام إلّا قوتا، و لا يأكلون دسما، يعظّمون بذلك حجّهم، فقال المسلمون: فإنّا أحقّ أن نفعل، فقال اللّه سبحانه: وَ كُلُوا وَ اشْرَبُوا وَ لا تُسْرِفُوا أي: لا تأكلوا محرّما، فإنّ أكل الحرام و إن قلّ إسراف و مجاوزة عن الحدّ، و لا حلالا على وجه لا يحلّ، كمن لا يملك إلّا دينارا فاشترى به طيبا فتطيّب به و ترك عياله محتاجين. أو و لا تسرفوا بإفراط الطعام و الشره عليه. عن ابن عبّاس: كل ما شئت و البس ما شئت، ما أخطأتك خصلتان: سرف و مخيلة «3». إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْرِفِينَ لا يرتضي فعلهم.

و قد حكي أنّ الرشيد كان له طبيب نصرانيّ حاذق، فقال ذات يوم لعليّ بن الحسين بن واقد: أليس في كتابكم من علم الطبّ شي ء، و العلم علمان: علم الأبدان و علم الأديان؟

فقال له عليّ: قد جمع اللّه الطبّ كلّه في نصف آية من كتابه، و هو قوله: «كلوا

______________________________

(1) تفسير العيّاشي 2: 14

ح 29.

(2) في ص: 509.

(3) المخيلة: الكبر.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 514

و اشربوا و لا تسرفوا».

فقال النصراني: أ يؤثر من رسولكم شي ء في الطبّ؟

فقال: جمع نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الطبّ في ألفاظ يسيرة.

قال: و ما هي؟

قال:

قوله: «المعدة بيت الداء، و الحمية راس كلّ دواء، و أعط كلّ بدن ما عوّدته».

فقال الطبيب: ما ترك كتابكم و لا نبيّكم لجالينوس طبّا.

[سورة الأعراف (7): آية 32]

قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (32)

و لمّا حثّ اللّه سبحانه على أخذ الزينة عند كلّ مسجد و ندب إليه، و أباح الأكل و الشرب، و نهى عن الإسراف، و كان قوم من العرب يحرّمون كثيرا من هذا الجنس، حتّى إنّهم كانوا يحرّمون السمون و الألبان في الإحرام، و يحرّمون السوائب و البحائر، أنكر عزّ اسمه ذلك عليهم، فقال: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ من الثياب و سائر ما يتجمّل به الَّتِي أَخْرَجَ لِعِبادِهِ من النبات كالقطن و الكتّان، و الحيوان كالحرير و الصوف، و المعادن كالدروع وَ الطَّيِّباتِ مِنَ الرِّزْقِ المستلذّات من المآكل و المشارب. و فيه دليل على أنّ الأصل في المطاعم و الملابس و أنواع التجمّلات الإباحة، لأنّ الاستفهام في «من» للإنكار.

قُلْ هِيَ لِلَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بالأصالة. و الكفّار و إن شاركوهم فيها فتبع خالِصَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ لا يشاركهم فيها غيرهم. و انتصابها على الحال. و قرأ

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 515

نافع بالرفع، على أنّها خبر بعد خبر.

كَذلِكَ أي: كتفصيلنا هذا الحكم نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ نفصّل سائر الأحكام لأهل العلم و أرباب العقول.

و في هذه الآية دلالة

على جواز لبس الثياب الفاخرة، و أكل الأطعمة الطيّبة من الحلال.

و

روى العيّاشي بإسناده عن الحسن بن زيد، عن عمر بن عليّ، عن أبيه زين العابدين عليّ بن الحسين عليه السّلام: «أنّه كان يشتري كساء الخزّ بخمسين دينارا، فإذا أصاف «1» تصدّق به، و لا يرى به بأسا، و يقول: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ» الآية» «2».

و

بإسناده عن يوسف بن إبراهيم، قال: «دخلت على أبي عبد اللّه عليه السّلام و عليّ جبّة خزّ و طيلسان خزّ، فنظر إليّ فقلت: جعلت فداك هذا خزّ ما تقول فيه؟

فقال عليه السّلام: لا بأس بالخزّ. قلت: و سداه «3» إبريسم. قال: لا بأس به، فقد أصيب الحسين عليه السّلام و عليه جبّة خزّ. ثمّ قال: إنّ عبد اللّه بن عبّاس لمّا بعثه أمير المؤمنين عليه السّلام إلى الخوارج لبس أفضل ثيابه، و تطيّب بأطيب طيبه، و ركب أفضل مراكبه، فخرج إليهم فوافقهم. فقالوا: يا ابن عبّاس بينا أنت خير الناس إذ أتيتنا في لباس الجبابرة و مراكبهم. فتلا هذه الآية: «قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ» إلى آخرها. فألبس و أتجمّل، فإنّ اللّه جميل يحبّ الجمال، و ليكن من حلال» «4».

و في الآية دلالة أيضا على أنّ الأشياء على الإباحة، لقوله: «من حرّم».

فالسمع ورد مؤكّدا لما في العقل.

______________________________

(1) أي: دخل في الصيف.

(2) تفسير العيّاشي 2: 16 ح 35.

(3) السدى و السداة من الثوب: ما مدّ من خيوطه، و الجمع: أسدية.

(4) تفسير العيّاشي 2: 15 ح 32.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 516

[سورة الأعراف (7): آية 33]

قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ وَ الْإِثْمَ وَ الْبَغْيَ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ أَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ

ما لا تَعْلَمُونَ (33)

ثمّ بيّن سبحانه المحرّمات، فقال: قُلْ إِنَّما حَرَّمَ رَبِّيَ الْفَواحِشَ ما تفاحش قبحه، أي: تزايد. و قيل: هي ما يتعلّق بالفروج. ما ظَهَرَ مِنْها وَ ما بَطَنَ ما علن منها و ما خفي.

وَ الْإِثْمَ و ما يوجب الإثم. تعميم بعد تخصيص. و قيل: شرب الخمر.

وَ الْبَغْيَ الظلم أو الكبر. أفرده بالذكر للمبالغة، كما قال: وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ «1». بِغَيْرِ الْحَقِ متعلّق ب «البغي»، مؤكّد له معنى.

وَ أَنْ تُشْرِكُوا بِاللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً تهكّم بالمشركين، لأنّه لا يجوز أن ينزل برهانا بأن يشرك به غيره، و تنبيه على تحريم اتّباع ما لم يدلّ عليه برهان.

وَ أَنْ تَقُولُوا عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ بالإلحاد في صفاته، و الافتراء عليه، كقولهم: اللّه أمرنا بها.

[سورة الأعراف (7): آية 34]

وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ (34)

ثمّ بيّن ما فيه تسلية النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في تأخير عذاب الكفّار، و وعيد لهم بالعذاب النازل عند الأجل المقدّر، فقال: وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ مدّة أو وقت لنزول العذاب بهم

______________________________

(1) النحل: 90.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 517

فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ انقرضت مدّتهم، أو حان وقتهم لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ أي: لا يتأخّرون و لا يتقدّمون أقصر وقت. أو لا يطلبون التأخّر و التقدّم لشدّة الهول.

[سورة الأعراف (7): الآيات 35 الى 39]

يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي فَمَنِ اتَّقى وَ أَصْلَحَ فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (35) وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (36) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا يَتَوَفَّوْنَهُمْ قالُوا أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا وَ شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ (37) قالَ ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ فِي النَّارِ كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ لَعَنَتْ أُخْتَها حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ وَ لكِنْ لا تَعْلَمُونَ (38) وَ قالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (39)

ثمّ خاطب جميع المكلّفين من بني آدم، فقال: يا بَنِي آدَمَ إِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 518

أي: إن يأتكم. و «ما» زائدة. رُسُلٌ مِنْكُمْ من جنسكم يَقُصُّونَ عَلَيْكُمْ آياتِي ذكر الشرط بحرف الشكّ في مقام الجزم

لتنزيل المخاطب العالم بوقوع الشرط عقلا منزلة الجاهل، لمخالفته مقتضى العلم. و ضمّت إليها «ما» تأكيدا لمعنى الشرط، و لذلك أكّد فعلها بالنون و جوابه. فَمَنِ اتَّقى وَ أَصْلَحَ فمن اتّقى التكذيب و أصلح عمله منكم فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ في الآخرة وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ

وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا منكم بِآياتِنا بحججنا وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها عن قبولها أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ الملازمون لها هُمْ فِيها خالِدُونَ باقون على وجه الدوام. و إدخال الفاء في الخبر الأوّل دون الثاني، للمبالغة في الوعد و المسامحة في الوعيد.

فَمَنْ أَظْلَمُ فمن أشنع ظلما مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً ممّن تقوّل عليه ما لم يقله أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ أو كذّب ما قاله. و المراد بالاستفهام الإخبار، و إنّما جاء بصورة الاستفهام ليكون أبلغ. أُولئِكَ يَنالُهُمْ نَصِيبُهُمْ مِنَ الْكِتابِ ممّا كتب لهم من الأرزاق و الأعمار. و قيل: الكتاب اللوح المحفوظ، أي: ممّا أثبت لهم فيه.

حَتَّى إِذا جاءَتْهُمْ رُسُلُنا أي: ملك الموت و أعوانه يَتَوَفَّوْنَهُمْ يتوفّون أرواحهم. و هو حال من الرسل، و «حتّى» غاية لنيلهم نصيبهم و استيفائهم له، أي:

إلى وقت وفاتهم، و هي الّتي يبتدأ بعدها الكلام. و المستأنف هاهنا الجملة الشرطيّة.

و المعنى: حتّى إذا استوفوا أرزاقهم و آجالهم، و جاءهم ملك الموت مع أعوانه.

قالُوا جواب «إذا» أي، قال الرسل توبيخا لهم: أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أين الآلهة التي كنتم تعبدونها؟ و لفظة «ما» وصلت ب «أين» في خطّ المصحف، و حقّها الفصل، لأنّها موصولة.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 519

قالُوا ضَلُّوا أي: غابوا عَنَّا فلا نراهم و لا ننتفع بهم وَ شَهِدُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ أَنَّهُمْ كانُوا كافِرِينَ اعترفوا بأنّهم كانوا ضالّين فيما كانوا عليه.

قالَ أي: قال اللّه تعالى لهم

يوم القيامة، أو أحد من الملائكة: ادْخُلُوا فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِكُمْ أي: كائنين في جملة أمم مصاحبين لهم مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ يعني: كفّار الأمم الماضية من النوعين فِي النَّارِ متعلّق ب «ادخلوا» أي: ادخلوا في النار مع أمم قد مضت من قبلكم، و تقدّم زمانهم زمانكم.

كُلَّما دَخَلَتْ أُمَّةٌ في النار لَعَنَتْ أُخْتَها شبيهتها في الدين. و هم الّذين ضلّوا بالاقتداء بهم. حَتَّى إِذَا ادَّارَكُوا فِيها جَمِيعاً أي: تداركوا و تلاحقوا و اجتمعوا في النار قالَتْ أُخْراهُمْ دخولا أو منزلة. و هم الأتباع و السفلة.

لِأُولاهُمْ أي: لأجل أولاهم، إذ الخطاب مع اللّه لا معهم. و هم القادة و الرؤساء لهم. رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا سنّوا لنا الضلال، و دعونا إليه، فاقتدينا بهم.

قال الصادق عليه السّلام: «هم أئمّة الجور».

فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مضاعفا مِنَ النَّارِ لأنّهم ضلّوا و أضلّوا.

قالَ لِكُلٍّ ضِعْفٌ أي: لكلّ من رؤساء الضلالة و أتباعهم عذاب مضاعف.

أمّا القادة فبكفرهم و تضليلهم. و أمّا الأتباع فبكفرهم و تقليدهم. أو لأنّ كلّا منهم كانوا ضالّين و مضلّين. وَ لكِنْ لا تَعْلَمُونَ ما لكم أو ما لكلّ فريق. و قرأ عاصم بالياء على الغيبة، ردّا على قوله: «لكلّ ضعف».

وَ قالَتْ أُولاهُمْ لِأُخْراهُمْ و قال الرؤساء للأتباع: فَما كانَ لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ عطفوا كلامهم على قول اللّه تعالى: «لكلّ ضعف» أي: فقد ثبت أن لا فضل لكم علينا و لا تفاوت في الكفر، حتّى تطلبوا من اللّه أن يزيد في عذابنا و ينقص من عذابكم، بل إنّا و إيّاكم مساوون في الضلال، و استحقاق ضعف العذاب. فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ من قول القادة، أو من قول اللّه لكلا الفريقين.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 520

[سورة الأعراف (7): الآيات 40 الى 41]

إِنَّ الَّذِينَ

كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ وَ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ (40) لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ وَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (41)

ثمّ عاد الكلام إلى الوعيد، فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ اسْتَكْبَرُوا عَنْها أي: عن الإيمان بها لا تُفَتَّحُ لَهُمْ أَبْوابُ السَّماءِ أي: لا يصعد لهم أدعيتهم و أعمالهم، كما تفتّح لأعمال المؤمنين، كقوله تعالى: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ «1».

و قيل: لا تصعد أرواحهم إذا ماتوا، كما تصعد أرواح المؤمنين لتتّصل بالملائكة.

و قيل: لا تنزل عليهم البركة و لا يغاثون، كما قال: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ «2».

و التاء في «تفتّح» لتأنيث الأبواب، و التشديد لكثرتها. و قرأ أبو عمرو بالتخفيف، و حمزة و الكسائي به و بالياء، لأنّ التأنيث غير حقيقيّ، و الفعل مقدّم.

وَ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ أي: حتّى يدخل ما هو مثل في عظم الجرم- و هو البعير- فيما هو مثل في ضيق المسلك- و هو ثقبة الإبرة- و ذلك ممّا لا يكون، فكذا ما يتوقّف عليه. و هذا كما تقول العرب في التبعيد

______________________________

(1) فاطر: 10.

(2) القمر: 11.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 521

و الأمر المستحيل: لا أفعل كذا حتّى يشيب الغراب، و حتّى يبيضّ القار «1». قال الشاعر:

إذا شاب الغراب أتيت أهلي و صار القار كاللبن الحليب

فتعليق الحكم بما لا يتوهّم وجوده و لا يتصوّر حصوله تأكيد له، و تحقيق لليأس من وجوده.

وَ كَذلِكَ و مثل ذلك الجزاء الفظيع نَجْزِي الْمُجْرِمِينَ المكذّبين بآيات اللّه تعالى.

روي عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال في هذه الآية: «أمّا المؤمنون فترفع أعمالهم و أرواحهم إلى السماء،

فتفتّح لهم أبوابها. و أمّا الكافر فيصعد بعمله و روحه حتّى إذا بلغ إلى السماء نادى مناد: اهبطوا به إلى سجّين، و هو واد بحضر موت يقال له:

برهوت».

و قيل: لا تفتّح لهم أبواب السماء لدخول الجنّة، لأنّ الجنّة في السماء.

لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ فراش وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ أغطية. و التنوين فيه للبدل عن الإعلال عند سيبويه، و للصرف عند غيره. وَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ عبّر عنهم بالمجرمين تارة و بالظالمين أخرى، إشعارا بأنّهم بتكذيبهم الآيات اتّصفوا بهذه الأوصاف الذميمة. و ذكر الجرم مع الحرمان من الجنّة، و الظلم مع التعذيب بالنار، تنبيها على أنّه أعظم الأجرام.

[سورة الأعراف (7): الآيات 42 الى 43]

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (42) وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا وَ ما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ وَ نُودُوا أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43)

______________________________

(1) أي: القير.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 522

و لمّا كانت عادة اللّه تعالى جارية في أن يشفع الوعيد بالوعد، فقال بعد ذلك:

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ الجملة الفعليّة بين المبتدأ- و هو الموصول- و خبره- و هو اسم الإشارة- للترغيب في اكتساب ما لا يبلغه وصف الواصف من النعيم الدائم، مع الإجلال و التعظيم بما هو في الوسع، و هو الإمكان الواسع غير الضّيق من الإيمان و العمل الصالح.

وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ أي: نخرج من قلوبهم أسباب الحقد و الحسد و العداوة في الجنّة. أو

نطهّرها منه حتّى لا يكون بينهم إلّا التوادّ و التعاطف، و إن رأوا رجلا أرفع درجة منهم. تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ زيادة في لذّتهم و سرورهم.

وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي هَدانا لِهذا لموجب هذا الفوز العظيم و الأجر الجسيم وَ ما كُنَّا لِنَهْتَدِيَ و ما كان يستقيم أن نكون مهتدين لَوْ لا أَنْ هَدانَا اللَّهُ لو لا هداية اللّه و توفيقه. و اللام لتوكيد النفي. و جواب «لولا» محذوف دلّ عليه ما قبله.

و قرأ ابن عامر: ما كنّا بغير واو، على أنّها مبيّنة للأولى.

لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ فاهتدينا بإرشادهم. يقولون ذلك ابتهاجا و فرط سرورهم بأنّ ما علموه يقينا في الدنيا صار لهم عين اليقين في الآخرة، و تلذّذا بالتكلّم به، لا تعبّدا و تقرّبا.

وَ نُودُوا يناديهم مناد من جهة اللّه أَنْ تِلْكُمُ الْجَنَّةُ إذا رأوها من بعيد،

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 523

أو بعد دخولها أُورِثْتُمُوها أعطيتموها إرثا بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بسبب أعمالكم، لا بالتفضّل كما يقول المبطلة. و هو حال من «الجنّة»، و العامل فيها معنى الإشارة. أو خبر و الجملة صفة «تلكم». و «أن» في المواضع الخمسة- المتقدّمة و المتأخّرة- هي المخفّفة، و الضمير للشأن، أي: و نودوا بأنّه تلكم الجنّة. أو المفسّرة، لأنّ المناداة و التأذين من القول، كأنّه قيل: و قيل لهم، أي: تلكم الجنّة أورثتموها، أي: يصير إليكم كما يصير الميراث إلى أهله.

و قيل: معناه جعلها اللّه سبحانه بدلا لكم عمّا كان أعدّ للكفّار لو آمنوا، فقد

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنه قال: ما من أحد إلّا و له منزل في الجنّة و منزل في النار.

فأمّا الكافر فيرث المؤمن منزله من النار، و المؤمن يرث

الكافر منزله من الجنّة، فذلك قوله: «أورثتموها».

[سورة الأعراف (7): الآيات 44 الى 47]

وَ نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا قالُوا نَعَمْ فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (44) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ كافِرُونَ (45) وَ بَيْنَهُما حِجابٌ وَ عَلَى الْأَعْرافِ رِجالٌ يَعْرِفُونَ كُلاًّ بِسِيماهُمْ وَ نادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لَمْ يَدْخُلُوها وَ هُمْ يَطْمَعُونَ (46) وَ إِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ قالُوا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (47)

ثمّ حكى سبحانه ما يجري بين أهل الجنّة و النار بعد استقرارهم في الدارين،

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 524

فقال: وَ نادى أي: و سينادي أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ تبجّحا «1» بحالهم، و شماتة بأصحاب النار، و تحسيرا لهم أَنْ قَدْ وَجَدْنا ما وَعَدَنا رَبُّنا حَقًّا فَهَلْ وَجَدْتُمْ ما وَعَدَ رَبُّكُمْ حَقًّا. إنّما لم يقل «ما وعدكم ربّكم» كما قال: «ما وَعَدَنا رَبُّنا» لدلالة «وعدنا» عليه، فحذف تخفيفا، و ليتناول كلّ ما وعد اللّه من البعث و الحساب و سائر أحوال القيامة، لأنّهم كانوا مكذّبين بذلك أجمع. و لأنّ ما ساءهم من الموعود لم يكن بأسره مخصوصا وعده بهم، كالبعث و الحساب و نعيم الجنّة لأهلها.

قالُوا نَعَمْ أي: قال أهل النار: وجدنا ما وعدنا ربّنا من العقاب حقّا و صدقا. و قرأ الكسائي بكسر العين. و هما لغتان. فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ قيل: هو صاحب الصور. و قيل: هو مالك خازن النار، نادى بأمر اللّه نداء بَيْنَهُمْ بين الفريقين بحيث يسمع جميع أهل الجنّة و أهل النار أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ و قرأ ابن كثير و ابن عامر و حمزة و

الكسائي: «أنّ لعنة اللّه» بالتشديد و النصب. و قرئ «إنّ» بالكسر، على إرادة القول، أو إجراء «أذّن» مجرى: قال.

روي عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام أنّه قال: «المؤذّن أمير المؤمنين عليه السّلام». ذكره عليّ بن إبراهيم في تفسيره «2» بعد أن قال: حدّثني أبي، عن محمد بن الفضيل، عن الرضا.

و

رواه أبو القاسم الحسكاني بإسناده عن محمّد بن الحنفيّة، عن عليّ عليه السّلام أنّه قال: «أنا ذلك المؤذّن» «3».

و

بإسناده عن أبي صالح عن ابن عبّاس قال: «إنّ لعليّ بن أبي طالب عليه السّلام في كتاب اللّه أسماء لا يعرفها الناس، منها قوله: «فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ»، فهو المؤذّن بينهم،

______________________________

(1) تبجّح و تباجح أي: افتخر و تعظّم و باهى.

(2) تفسير القمّي 1: 231.

(3) شواهد التنزيل 1: 267 ح 261- 262. زبدة التفاسير، ج 2، ص: 525

يقول: ألا لعنة اللّه على الّذين كذّبوا بولايتي، و استخفّوا بحقّي» «1».

الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ صفة ل «الظالمين» مقرّرة، أو ذمّ مرفوع أو منصوب وَ يَبْغُونَها عِوَجاً زيغا و ميلا عمّا هو عليه. و العوج بالكسر في المعاني و الأعيان ما لم تكن منتصبة، و بالفتح في المنتصبة، كالحائط و الرمح. وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ و هي القيامة كافِرُونَ جاحدون.

وَ بَيْنَهُما حِجابٌ أي: بين الفريقين، لقوله: فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ «2». أو بين الجنّة و النار ليمنع وصول أثر إحداهما إلى الاخرى. و هو الأعراف.

وَ عَلَى الْأَعْرافِ أي: على أعراف الحجاب، أي: أعاليه، و هي الأسوار المضروبة بينهما. جمع عرف، مستعار من عرف الفرس و عرف الديك. و قيل: العرف ما ارتفع من الشي ء، فإنّه يكون لظهوره أعرف من غيره. رِجالٌ من الموحّدين قصرّوا في العمل، كما روي عن ابن مسعود: أنّهم قوم استوت حسناتهم

و سيّئاتهم، فحالت حسناتهم بينهم و بين النار، و حالت سيّئاتهم بينهم و بين الجنّة، فيحبسون بين الجنّة و النار، حتّى يقضي اللّه فيهم ما شاء.

و روى الضحّاك عن ابن عبّاس: أنّ الأعراف موضع عال على الصراط، عليه حمزة و العبّاس و عليّ و جعفر، يعرفون محبّيهم ببياض الوجوه، و مبغضيهم بسواد الوجوه. و رواه الثعلبي بالإسناد في تفسيره.

و قيل: إنّهم الملائكة في صورة الرجال، يعرفون أهل الجنّة و النار، و يكونون خزنة الجنّة و النار، و يكونون حفظة الأعمال، الشاهدين بها في الآخرة.

و عن الحسن و مجاهد: أنّهم فضلاء المؤمنين. و عن الجبائي: أنّهم الشهداء، و هم عدول الآخرة.

______________________________

(1) شواهد التنزيل 1: 267 ح 261- 262.

(2) الحديد: 13.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 526

يَعْرِفُونَ كُلًّا من أهل الجنّة و النار بِسِيماهُمْ بعلامتهم الّتي أعلمهم اللّه بها، كبياض الوجه و سواده. «فعلى» من: سام إبله، إذا أرسلها في المرعى معلمة.

أو من: و سم على القلب، كالجاه من الوجه. و إنّما يعرفون ذلك بالإلهام أو تعليم الملائكة.

و

روي عن أبي جعفر عليه السّلام: «أصحاب الأعراف هم آل محمّد عليهم السّلام، لا يدخل الجنّة إلّا من عرفهم و عرفوه، و لا يدخل النار إلّا من أنكرهم و أنكروه».

و

روى عمر بن شيبة بإسناده عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «يا عليّ كأنّي بك يوم القيامة و بيدك عصا عوسج «1» تسوق قوما إلى الجنّة، و آخرين إلى النار».

و

روي أيضا عن عمر بن شيبة و غيره: أنّ عليّا عليه السّلام قسيم النار و الجنّة.

و

روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده رفعه إلى الأصبغ بن نباتة قال: «كنت جالسا عند عليّ عليه السّلام فأتاه ابن الكوّاء فسأله عن هذه

الآية. فقال: و يحك يا ابن الكوّاء نحن نوقف يوم القيامة بين الجنّة و النار، فمن ينصرنا عرفناه بسيماه فأدخلناه الجنّة، و من أبغضنا عرفناه بسيماه فأدخلناه النار» «2».

و

عن الصادق عليه السّلام: «الأعراف كثبان «3» بين الجنّة و النار، فيقف عليها كلّ نبيّ و كلّ خليفة نبيّ مع المذنبين من أهل زمانه، كما يقف صاحب الجيش مع الضعفاء من جنده، و قد سيق المحسنون إلى الجنّة، فيقول ذلك الخليفة للمذنبين الواقفين معه: انظروا إلى إخوانكم المحسنين قد سيقوا إلى الجنّة، فيسلّم المذنبون عليهم، و ذلك قوله: وَ نادَوْا أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ أي: إذا نظروا إليهم سلّموا عليهم.

______________________________

(1) العوسج: جنس شجيرات من فصيلة الباذنجانيّات، أغصانه شائكة، يصلح سياجا.

(2) شواهد التنزيل 1: 263 ح 256.

(3) الكثيب: التلّ من الرمل، و جمعه: كثبان.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 527

لَمْ يَدْخُلُوها وَ هُمْ يَطْمَعُونَ أن يدخلهم اللّه بشفاعة النبيّ أو الإمام. و هذا حال من الواو. و الواو إن كانت راجعة إلى الأنبياء أو الأئمّة فالطمع طمع يقين، مثل قول إبراهيم: وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ «1»، و إلّا طمع حسن ظنّ.

وَ إِذا صُرِفَتْ أَبْصارُهُمْ تِلْقاءَ أَصْحابِ النَّارِ و رأوا ما هم فيه من العذاب قالُوا نعوذ باللّه رَبَّنا لا تَجْعَلْنا مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي: في النار. و قيل: إن صارفا يصرف أبصارهم لينظروا فيستعيذوا.

[سورة الأعراف (7): الآيات 48 الى 49]

وَ نادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ رِجالاً يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ قالُوا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ (48) أَ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (49)

وَ نادى أَصْحابُ الْأَعْرافِ أي: الأنبياء و الخلفاء رِجالًا يَعْرِفُونَهُمْ بِسِيماهُمْ من رؤساء الكفرة و أئمّة

الضلال قالُوا تعييرا و توبيخا ما أَغْنى عَنْكُمْ جَمْعُكُمْ كثرتكم، أو جمعكم المال وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ عن الحقّ، أو على الخلق.

ثمّ قالوا لهم: أَ هؤُلاءِ الَّذِينَ أَقْسَمْتُمْ لا يَنالُهُمُ اللَّهُ بِرَحْمَةٍ إشارة إلى ضعفاء أهل الجنّة الّذين كانت الكفرة و سائر أهل الضلال يحتقرونهم في الدنيا، و يحلفون أنّ اللّه لا يدخلهم الجنّة، فالتفتوا إلى أصحاب الجنّة و قالوا: ادْخُلُوا الْجَنَّةَ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمْ وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ و هذا أوفق للوجوه الأخيرة. و على الأوّل معناه: قيل

______________________________

(1) الشعراء: 82.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 528

لأصحاب الأعراف: ادخلوا الجنّة بفضل اللّه، بعد أن حبسوا حتّى أبصروا الفريقين و عرفوهم و قالوا لهم ما قالوا.

و قيل: لمّا عيّروا أصحاب النار أقسموا أنّ أصحاب الأعراف لا يدخلون الجنّة، فقال اللّه تعالى أو بعض الملائكة: أ هؤلاء الّذين أقسمتم؟

[سورة الأعراف (7): الآيات 50 الى 51]

وَ نادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ (50) الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَ لَعِباً وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا وَ ما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (51)

ثمّ ذكر سبحانه كلام أهل النار و ما أظهروه من الافتقار، بدلا ممّا كانوا عليه من الاستكبار، فقال: وَ نادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ أَنْ أَفِيضُوا عَلَيْنا أي:

صبّوا. و هو دليل على أنّ الجنّة فوق النار. مِنَ الْماءِ أَوْ مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ من سائر الأشربة ليلائم الإفاضة. أو من الفواكه و سائر الأطعمة، كقوله «1»: علفتها تبنا و ماء باردا. قالُوا إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ منعهما عنهم منع المحرّم عن المكلّف.

الَّذِينَ اتَّخَذُوا دِينَهُمْ لَهْواً وَ لَعِباً كتحريم البحيرة، و التصدية حول البيت.

و اللهو صرف

الهمّ بما لا يحسن أن يصرف به. و اللعب طلب الفرح بما لا يحسن أن

______________________________

(1) صدره:

لمّا حططت الرحل عنها واردا أي: لمّا حططت الرحل عن الناقة حال كوني واردا للماء، علفتها تبنا و سقيتها ماء باردا.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 529

يطلب به. وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا أي: اغترّوا بها و بطول و بطول البقاء فيها، فكأنّ الدنيا غرّتهم.

فَالْيَوْمَ نَنْساهُمْ نفعل بهم فعل الناسين، فنتركهم في النار، فلا نجيب لهم دعوة، و لا نرحم لهم عبرة كَما نَسُوا لِقاءَ يَوْمِهِمْ هذا فلم يخطروه ببالهم، و لم يستعدّوا له وَ ما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ و كما كانوا منكرين أنّها من عند اللّه.

و «ما» في الموضعين مصدريّة. و التقدير: كنسيانهم و كونهم جاحدين.

[سورة الأعراف (7): الآيات 52 الى 53]

وَ لَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ عَلى عِلْمٍ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ تَأْوِيلَهُ يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ فَيَشْفَعُوا لَنا أَوْ نُرَدُّ فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (53)

و لمّا ذكر اللّه حال الفريقين، بيّن أنّه قد أتاهم الكتاب و الحجّة دفعا لمعذرتهم، فقال: وَ لَقَدْ جِئْناهُمْ بِكِتابٍ فَصَّلْناهُ بيّنّا معانيه من العقائد و الأحكام و المواعظ مفصّلة عَلى عِلْمٍ عالمين بوجه تفصيل أحكامه و مواعظه و جميع معانيه. و هو حال من فاعل «فصّلناه». هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ حالان من الهاء، أي: فصّلنا القرآن حال كونه هاديا و سببا للرحمة في الدارين.

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا تَأْوِيلَهُ أي: ما يؤول إليه أمر الكتاب من تبيّن صدقه بظهور صحّة ما نطق به من الوعد و الوعيد. و المعنى: ما ينتظرون إلّا عاقبة

ما وعدوا به. يَوْمَ يَأْتِي تَأْوِيلُهُ عاقبة ما وعدوا به يَقُولُ الَّذِينَ نَسُوهُ مِنْ قَبْلُ تركوه ترك

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 530

الناسي قَدْ جاءَتْ رُسُلُ رَبِّنا بِالْحَقِ أي: قد تبيّن لنا أنّهم جاؤا بالحقّ فَهَلْ لَنا مِنْ شُفَعاءَ تمنّوا أن يكون لهم شفعاء فَيَشْفَعُوا لَنا اليوم في إزالة العقاب أَوْ نُرَدُّ أو هل نردّ إلى الدنيا فَنَعْمَلَ غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ جواب الاستفهام الثاني.

قَدْ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بصرف أعمارهم في الكفر وَ ضَلَّ عَنْهُمْ و بطل ما كانُوا يَفْتَرُونَ على الأصنام بقولهم إنّها آلهة تشفع لنا، فلم تنفعهم.

[سورة الأعراف (7): آية 54]

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثاً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ مُسَخَّراتٍ بِأَمْرِهِ أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (54)

و لمّا ذكر سبحانه الكفّار و عبادتهم غير اللّه، احتجّ عليهم بمقدوراته و مصنوعاته، و دلّهم بذلك على أنّه لا معبود سواه، فقال مخاطبا لجميع الخلق: إِنَّ رَبَّكُمُ خالقكم و مالككم اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أنشأهما و أوجدهما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي: في ستّة أوقات، كقوله: وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ «1» أي:

وقتئذ. أو في مقدار ستّة أيّام من أيّام الدنيا، فإنّ المتعارف في اليوم زمان طلوع الشمس إلى غروبها. و لم يكن خلق الأشياء بالتدريج مع قدرته على إيجاده دفعة، إلا ليدلّ على اختياره و قدرته، و لتعتبره النظّار، و ليكون حثّا على التأنّي و الرفق في الأمور. و خلقهما في هذه المدّة لا أزيد و لا أقلّ، و رتّبهما على الأسبوع، فابتدأ بالأحد و الاثنين و الثلاثاء و الأربعاء و الخميس و الجمعة، لمصلحة لا يعلمها إلّا

هو.

______________________________

(1) الأنفال: 16.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 531

ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ استوى أمره، أو استولى على خلق العرش.

و قيل: إنّ الاستواء على العرش صفة للّه تعالى بلا كيف. و المعنى: أنّ له تعالى استواء على العرش على الوجه الّذي عناه منزّها عن الاستقرار و التمكّن، كما روي عن مالك بن أنس أنّه قال: الاستواء غير مجهول، و كيفيّته غير معلومة، و السؤال عنه بدعة.

و العرش: الجسم المحيط بسائر الأجسام. سمّي به لارتفاعه، أو للتشبيه بسرير الملك، فإنّ الأمور و التدابير تنزل منه. و قيل: الملك، أي: استوى و استولى أمره على ملكه.

يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يغطّيه به. و لم يذكر عكسه، لأنّ الكلام يدلّ عليه.

و قد ذكر في موضع آخر: يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَ يُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ «1». و قرأ حمزة و الكسائي و يعقوب و أبو بكر عن عاصم بالتشديد فيه و في الرعد «2»، للدلالة على التكرير. يَطْلُبُهُ حَثِيثاً يعقّبه سريعا، بأن يأتي أحدهما عقيب الآخر، كما يأتي الشي ء في اثر الشي ء طالبا له على وجه لا يفصل بينهما شي ء. و الحثيث فعيل من الحثّ. و هو صفة مصدر محذوف، أو حال من الفاعل بمعنى: حاثّا، أو المفعول بمعنى: محثوثا، أو منهما.

وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومَ مُسَخَّراتٍ مذلّلات جاريات في مجاريهنّ بِأَمْرِهِ أي: بمشيئته و تدبيره و تصريفه. و سمّى ذلك أمرا على التشبيه، كأنّهنّ مأمورات بذلك. و نصبها بالعطف على «السماوات». و نصب «مسخّرات» على الحال. و قرأ ابن عامر كلّها بالرفع على الابتداء و الخبر.

و لمّا ذكر أنّه خلقهنّ مسخّرات بأمره قال: أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ فإنّه

______________________________

(1) الزمر: 5.

(2) الرعد: 3.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 532

الموجد و المتصرّف مطلقا،

أي: هو الّذي خلق الأشياء، و هو الّذي صرّفها على حسب إرادته تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ تعالى بالوحدانيّة و الألوهيّة، و تعظّم بالتفرّد في الربوبيّة.

قال في الأنوار: «و تحقيق الآية و اللّه أعلم: أنّ الكفرة كانوا متّخذين أربابا، فبيّن لهم أنّ المستحقّ للربوبيّة واحد، و هو اللّه تعالى، لأنّه الّذي له الخلق و الأمر، فإنّه تعالى خلق العالم على ترتيب قويم و تدبير حكيم، فأبدع الأفلاك ثمّ زيّنها بالكواكب، كما أشار إليه بقوله: فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ «1».

و عمد إلى إيجاد الأجرام السفليّة، فخلق جسما قابلا للصور المتبدّلة و الهيئات المختلفة. ثمّ قسّمها بصور نوعيّة متضادّة الآثار و الأفعال، و أشار إليه بقوله: خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ «2» أي، ما في جهة السفل في يومين.

ثمّ أنشأ أنواع المواليد الثلاثة: المعادن، و الحيوان، و النبات، بتركيب موادّها أوّلا، و تصويرها ثانيا، كما قال بعد قوله: خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَ بارَكَ فِيها وَ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ « «3»» أي: مع اليومين الأوّلين، لقوله في سورة السجدة: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ «4».

ثمّ لمّا تمّ له عالم الملك عمد إلى تدبيره كالملك الجالس على عرشه لتدبير المملكة، فدبّر الأمر من السماء إلى الأرض، بتحريك الأفلاك، و تسيير الكواكب، و تكوير الليالي و الأيّام.

______________________________

(1) فصّلت: 12.

(2، 3) فصّلت: 9- 10.

(4) السجدة: 4.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 533

ثمّ صرّح بما هو فذلكة التقرير و نتيجته، فقال: «أَلا لَهُ الْخَلْقُ وَ الْأَمْرُ تَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ» «1».

[سورة الأعراف (7): الآيات 55 الى 56]

ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ (55) وَ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها

وَ ادْعُوهُ خَوْفاً وَ طَمَعاً إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (56)

ثمّ أمر سبحانه بعد ذكره دلائل توحيده بدعائه على وجه الخشوع و التذلّل كافّة عبيده، فقال: ادْعُوا رَبَّكُمْ تَضَرُّعاً وَ خُفْيَةً أي: ذوي تضرّع، من الضراعة، و هي الذلّة، و ذوي خفية، فإنّ الإخفاء دليل الإخلاص.

و قيل: التضرّع رفع الصوت، و الخفية السرّ، أي: أدعوه علانية و سرّا.

و يؤيّد الأوّل ما

روي: «أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان في غزاة، فأشرفوا على واد، فجعل الناس يهلّلون و يكبّرون و يرفعون أصواتهم. فقال: أيّها الناس اربعوا «2» على أنفسكم، أما إنّكم لا تدعون أصمّ و لا نائيا، إنّكم تدعون سميعا قريبا، إنّه معكم».

و عن الحسن قال: «بين دعوة السرّ و دعوة العلانية سبعون ضعفا».

و قرأ أبو بكر عن عاصم: خفية بالكسر. و هما لغتان.

إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ المجاوزين الحدّ المرسوم في جميع العبادات و الدعوات. و نبّه به على أنّ الدّاعي ينبغي أن لا يطلب ما لا يليق به، كرتبة

______________________________

(1) أنوار التنزيل 3: 12- 13.

(2) يقال: اربع على نفسك أي: توقّف و كفّ.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 534

الأنبياء عليهم السّلام، و الصعود إلى السماء. و قيل: هو الصياح في الدعاء و الإكثار و الإطناب فيه. و الرواية المذكورة تؤيّده.

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: سيكون قوم يعتدون في الدعاء، و حسب المرء أن يقول:

اللّهمّ إنّي أسألك الجنّة، و ما قرّب إليها من قول و عمل، و أعوذ بك من النار، و ما قرّب إليها من قول و عمل، ثمّ قرأ: «إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُعْتَدِينَ».

وَ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بالكفر و المعاصي بَعْدَ إِصْلاحِها بعد أن أصلحها اللّه ببعث الأنبياء و

إنزال الكتب و شرع الأحكام.

وَ ادْعُوهُ خَوْفاً ذوي خوف من الردّ، لقصور أعمالكم، و عدم استحقاقكم وَ طَمَعاً و ذوي طمع في إجابته تفضّلا و إحسانا، لفرط رحمته. إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ مِنَ الْمُحْسِنِينَ ترجيح للطمع، و تنبيه على ما يتوسّل به إلى الإجابة. و تذكير قريب، لأنّ الرحمة بمعنى الرحم أو الترحّم. أو لأنّه صفة محذوف، أي: أمر قريب.

أو على تشبيهه بفعيل الّذي بمعنى مفعول، أو الّذي هو بزنة المصدر كالنقيض. أو للفرق بين القريب من النسب و القريب من غيره. و الإحسان هو النفع الّذي يستحقّ به الحمد، و الإساءة هي الضرر الّذي يستحقّ به الذمّ.

[سورة الأعراف (7): آية 57]

وَ هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ سَحاباً ثِقالاً سُقْناهُ لِبَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ فَأَخْرَجْنا بِهِ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ كَذلِكَ نُخْرِجُ الْمَوْتى لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (57)

و لمّا أخبر اللّه تعالى في الآية المتقدّمة بأنّه خلق السماوات و الأرض و ما فيهما من البدائع، عطف على ذلك بقوله: وَ هُوَ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً. و قرأ

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 535

ابن كثير و حمزة و الكسائي: الريح على الوحدة، و «نشرا» «1» جمع نشور بمعنى ناشر. و قرأ ابن عامر: و «نشرا» بالتخفيف حيث وقع. و حمزة و الكسائي: نشرا بفتح النون حيث وقع، على أنّه مصدر في موقع الحال، بمعنى: ناشرات، أو مفعول مطلق، فإنّ الإرسال و النشر متقاربان، فكأنّه قيل: نشرها نشرا. و عاصم: بشرا، و هو تخفيف بشر جمع بشير.

بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ قدّام رحمته. يعني: الغيث الّذي هو أحسن النعم أثرا، فإنّ الصبا تثير السحاب، و الشمال تجمعه، و الجنوب تذره، و الدبور تفرّقه.

حَتَّى إِذا أَقَلَّتْ أي: حملت هذه الرياح. و

اشتقاق الإقلال من القلّة، فإنّ المقلّ للشي ء يستقلّه، يعني: الرافع المطيق يرى ما يرفعه قليلا. سَحاباً ثِقالًا بالماء. جمعه، لأنّ السحاب- بمعنى السحائب- جمع سحابة. سُقْناهُ أي: السحاب. و إفراد الضمير باعتبار اللفظ. لِبَلَدٍ مَيِّتٍ لأجل بلد ليس فيه حياة، أو لإحيائه، أو لسقيه. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و ابن عامر و أبو بكر عن عاصم: ميت.

فَأَنْزَلْنا بِهِ الْماءَ بالبلد، أو بالسحاب، أو بالسوق، أو بالريح. و كذلك فَأَخْرَجْنا بِهِ و يحتمل فيه عود الضمير إلى الماء. و إذا كان للبلد فالباء للإلصاق في الأوّل. و للظرفيّة في الثاني. و إذا كان لغيره فهي للسببيّة فيهما. مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ من كلّ أنواعها. و «من» للتبعيض أو للتبيين.

كَذلِكَ إشارة إلى إخراج الثمرات، أو إلى إحياء البلد الميّت، أي: كما نحييه بإحداث القوّة النامية فيه، و تطريتها «2» بأنواع النباتات و الثمرات

______________________________

(1) أي: قرأ ابن كثير وحده: و نشرا، لما سيأتي في السطر التالي أن قراءة حمزة و الكسائي:

نشرا.

(2) أي: جعلها ذات طراوة بأنواع النبات.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 536

نُخْرِجُ الْمَوْتى من الأجداث، و نحييها بردّ النفوس إلى موادّ أبدانها بعد جمعها و تطريتها بالقوى و الحواسّ. لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ فتعلمون أنّ من قدر على ذلك قدر على هذا، إذ كلّ واحد منهما إعادة الشي ء بعد إنشائه، فلا يكون فرقا بين الإخراجين.

[سورة الأعراف (7): آية 58]

وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ يَخْرُجُ نَباتُهُ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ الَّذِي خَبُثَ لا يَخْرُجُ إِلاَّ نَكِداً كَذلِكَ نُصَرِّفُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ (58)

ثمّ بيّن سبحانه حال الأرض الّتي يأتيها المطر، فقال: وَ الْبَلَدُ الطَّيِّبُ الأرض العذبة الكريمة التربة يَخْرُجُ نَباتُهُ زرعه خروجا زاكيا ناميا بِإِذْنِ رَبِّهِ بمشيئته و تيسيره. عبّر به عن كثرة النبات و حسنه

و غزارة نفعه، كأنّه قيل: يخرج نباته حسنا وافيا، لأنّه أوقعه في مقابلة قوله: وَ الَّذِي خَبُثَ و هو السبخة الّتي لا تنبت ما ينتفع به. لا يَخْرُجُ إِلَّا نَكِداً نباتا قليلا عسر الخروج منه، من: نكد عيشهم بالكسر ينكد نكدا، إذا اشتدّ و عسر. و نصبه على الحال.

و تقدير الكلام: و البلد الّذي خبث لا يخرج نباته إلّا نكدا، فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه، فصار مرفوعا مستترا. أو يقدّر: و نبات الّذي خبث.

كَذلِكَ مثل ذلك التصريف نُصَرِّفُ الْآياتِ نردّدها و نكرّرها لِقَوْمٍ يَشْكُرُونَ نعمة اللّه تعالى، فيتفكّرون فيها، و يعتبرون بها. و الآية مثل لمن تدبّر الآيات و انتفع بها، و لمن لم يرفع إليها رأسا، و لم يتأثّر بها.

و عن مجاهد: ذرّيّة آدم منهم خبيث و طيّب. و عن قتادة: المؤمن سمع كتاب اللّه بعقله فوعاه و انتفع به، كالأرض الطيّبة أصابها الغيث فأنبتت، و الكافر بخلاف ذلك.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 537

[سورة الأعراف (7): الآيات 59 الى 64]

لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (59) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (60) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (61) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنْصَحُ لَكُمْ وَ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (62) أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَ لِتَتَّقُوا وَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (63)

فَكَذَّبُوهُ فَأَنْجَيْناهُ وَ الَّذِينَ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَ أَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ (64)

و لمّا بيّن سبحانه الأدلّة على وحدانيّته ذكر بعده حال من عاند و كذّب رسله، تسلية لنبيّنا

محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و تثبيتا له على احتمال الأذى من قومه، و تحذيرا لهم عن الاقتداء بأولئك، فينزل بهم ما نزل بهم. و ابتدأ بقصّة نوح، لأنّه شيخ الأنبياء و مقدّمهم، فقال:

لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً و هو ابن لمك بن متوشلخ بن أخنوخ، و هو إدريس النبيّ عليه السّلام، أوّل نبيّ بعده. و ولد في العام الّذي مات آدم عليه السّلام قبل موت آدم في الألف الأولى، و بعث في الثانية إِلى قَوْمِهِ و هو ابن أربعمائة. و قيل: ابن خمسين أو أربعين.

و لبث في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما. و كان في تلك الألف ثلاثة قرون

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 538

عايشهم و عمّر فيهم. و كان يدعوهم ليلا و نهارا، فلا يزيدهم دعاؤه إلّا فرارا. و كان يضربه قومه حتّى يغشى عليه، فإذا أفاق قال: اللّهمّ اهد قومي، فإنّهم لا يعلمون. ثمّ شكاهم إلى اللّه تعالى، فغرقت له الدنيا، و عاش بعد ذلك تسعين سنة. و روي أكثر من ذلك أيضا.

و ذكر اللام لأنّه جواب قسم محذوف، كأنّه قيل: حقّا أقول: إنّا أرسلناه، و لا تكاد تطلق هذه اللام إلّا مع «قد» لأنّها مظنّة التوقّع، فإنّ المخاطب إذا سمعها توقّع وقوع ما صدّر بها.

فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ أي: اعبدوه وحده، لقوله: ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ بالرفع على محلّ «من إله». و قرأ الكسائي: غيره بالجرّ على اللفظ. إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ إن لم تؤمنوا. و هذا وعيد و بيان للداعي إلى عبادة اللّه، لأنّه هو الّذي يحذر عقابه دون من كانوا يعبدونه من دونه. و اليوم هو القيامة، أو يوم نزول الطوفان.

قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ

أي: الأشراف، فإنّهم يملأون العيون بحسن منظرهم و بهجتهم و وجاهتهم إِنَّا لَنَراكَ فِي ضَلالٍ ذهاب عن الحقّ مُبِينٍ بيّن الضلالة.

و المراد بالرؤية رؤية القلب الّذي هو العلم. و قيل: رؤية البصر، أي: نراك بأبصارنا على هذه الحال.

قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي ضَلالَةٌ أي: شي ء من الضلال. بالغ في النفي، فإنّ الضلالة كانت أبلغ في نفي الضلال، كما بالغوا في الإثبات، و عرّض لهم به. وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ استدراك باعتبار ما يلزمه، و هو كونه على هدى، كأنّه قال: و لكنّي على هدى في الغاية، لأنّي رسول من اللّه.

أُبَلِّغُكُمْ كلام مستأنف بيانا لكونه رسول ربّ العالمين، أو صفة ل «رسول». قرأ أبو عمرو: و أبلغكم بالتخفيف. رِسالاتِ رَبِّي جمع الرسالات

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 539

لاختلاف أوقاتها. أو لتنوّع معانيها، كالعقائد و المواعظ و الأحكام. أو لأنّ المراد بها ما أوحي إليه و إلى الأنبياء قبله، كصحف شيث و إدريس عليهما السّلام. و المعنى: ما أوحي إليّ في الأوقات المتطاولة في المعاني المختلفة من الأوامر و النواهي. أو ما أوحي إليّ و إلى الأنبياء السابقة.

وَ أَنْصَحُ لَكُمْ في زيادة اللام دلالة على إمحاض النصيحة للمنصوح له.

وَ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ هو تقرير لما أوعدهم به، فإنّ معناه أعلم من قدرته و شدّة بطشه على أعدائه، و أنّ بأسه لا يردّ عن القوم المجرمين، أو من جهته بالوحي، أشياء لا علم لكم بها.

أَ وَ عَجِبْتُمْ الهمزة للإنكار، و الواو عطف على محذوف، أي: أكذبتم و عجبتم أَنْ جاءَكُمْ من أن جاءكم ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ رسالة أو موعظة عَلى رَجُلٍ على لسان رجل مِنْكُمْ من جملتكم، أو من جنسكم، فإنّهم كانوا يتعجّبون من

إرسال البشر، و يقولون: ما هذا إلّا بشر مثلكم، و لو شاء اللّه لأنزل ملائكة، ما سمعنا بهذا في آبائنا الأوّلين لِيُنْذِرَكُمْ ليحذّركم عاقبة الكفر و المعاصي وَ لِتَتَّقُوا و لتخشوا اللّه في ترك الشرك و المعاصي بسبب الإنذار وَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ و لترحموا بالتقوى.

و فائدة حرف الترجّي التنبيه على أنّ المتّقي ينبغي أن لا يعتمد على تقواه، و لا يأمن من عذاب اللّه، فإنّ الاعتماد على التقوى مستلزم للعجب في الأعمال، و هو محبط لها.

فَكَذَّبُوهُ فكذّبوا نوحا فيما دعاهم إليه فَأَنْجَيْناهُ وَ الَّذِينَ مَعَهُ و هم من آمن به. و كانوا أربعين رجلا و أربعين امرأة. و قيل: كانوا تسعة: بنوه سام و يافث و حام، و ستّة ممّن آمن به. فِي الْفُلْكِ متعلّق ب «معه»، كأنّه قال: و الّذين استقرّوا معه في الفلك، أو صحبوه فيه. أو ب «أنجيناه»، أي: أنجيناهم في السفينة من

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 540

الطوفان. أو حال من الموصول، أو من الضمير في «معه».

وَ أَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا بالطوفان إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً عَمِينَ أي: عمي القلوب غير مستبصرين. يقال: رجل عم، إذا كان أعمى القلب، و رجل أعمى في البصر. و أصله عميين فخفّف. و الفرق بين العمى و العامي: أنّ العمى يدلّ على عمى ثابت، و العامي على عمى حادث.

و في حديث وهب بن منبّه: «أنّ نوحا عليه السّلام كان أوّل نبيّ نبّأه عزّ و جلّ بعد إدريس، و كان إلى الأدمة ما هو «1»، دقيق الوجه، في رأسه طول، عظيم العينين، دقيق الساقين، طويلا جسيما. دعا قومه إلى اللّه حتّى انقرضت ثلاثة قرون منهم، كلّ قرن ثلاثمائة سنة، يدعوهم سرّا و جهرا فلا يزدادون إلّا طغيانا، و

لا يأتي منهم قرن إلّا كان أعتى «2» على اللّه من الّذين قبلهم.

و كان الرجل منهم يأتي بابنه و هو صغير فيقيمه على رأس نوح فيقول: يا بنيّ إن بقيت بعدي فلا تطيعنّ هذا المجنون. و كانوا يثورون إلى نوح فيضربونه حتّى يسيل مسامعه دما، و حتّى لا يعقل شيئا ممّا يصنع به، فيحمل فيرمى به في بيته أو على باب داره مغشيّا عليه.

فأوحى اللّه تعالى إليه: أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ «3». فعندها أقبل على الدعاء عليهم، و لم يكن دعا عليهم قبل ذلك، فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً « «4»» إلى آخر السورة. فأعقم اللّه تعالى أصلاب الرجال و أرحام النساء، فلبثوا أربعين سنة لا يولد لهم ولد، و قحطوا في تلك الأربعين سنة حتّى هلكت أموالهم، و أصابهم الجهد و البلاء.

______________________________

(1) أي: قريبا إلى الأدمة.

(2) من: عتى عتوّا، استكبر و عصى و جاوز الحدّ.

(3، 4) هود: 36.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 541

ثمّ قال لهم نوح: اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً «1» الآيات. فأعذر إليهم و أنذر، فلم يزدادوا إلّا كفرا. فلمّا يئس منهم أقصر عن كلامهم و دعائهم، فلم يؤمنوا وَ قالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَ لا تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لا سُواعاً «2» الآية، يعني: آلهتهم، حتى غرقهم اللّه و آلهتهم الّتي كانوا يعبدونها.

و بعد نوح عبد الناس الأصنام، و سمّوا أصنامهم بأسماء أصنام قوم نوح.

فاتّخذ أهل اليمن يغوث و يعوق، و أهل دومة الجندل اتّخذوا صنما سمّوه ودّا، و اتّخذت حمير صنما سمّته نسرا، و هذيل صنما سمّوه سواعا. فلم يزالوا يعبدونها حتّى جاء الإسلام.

و سنذكر قصّة السفينة و الغرق في سورة هود عليه

السّلام إن شاء اللّه.

و

روى الشيخ أبو جعفر بإسناده في كتاب النبوّة مرفوعا إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لمّا بعث اللّه عزّ و جلّ نوحا دعا قومه علانية، فلمّا سمع أولاد هبة اللّه- يعني:

شيث عليه السّلام- من نوح تصديق ما في أيديهم من العلم، و عرفوا أنّ العلم الّذي في أيديهم هو العلم الّذي جاء به نوح، صدّقوه و سلّموا له. فأمّا ولد قابيل فإنّهم كذّبوه و قالوا: إنّ الجنّ كانوا قبلنا فبعث اللّه إليهم ملكا، فلو أراد أن يبعث إلينا لبعث إلينا ملكا من الملائكة».

و

روى عبد العظيم بن عبد اللّه الحسني قال: سمعت عليّ بن محمّد عليه السّلام يقول: «عاش نوح عليه السّلام ألفين و خمسمائة سنة، و كان يوما في السفينة نائما فهبّت ريح فكشفت عورته، فضحك حام و يافث، و زجرهما سام و نهاهما عن الضحك، و كان كلّما غطّى سام ما يكشفه الريح كشفه حام و يافث، فانتبه نوح فرآهم يضحكون فقال: ما هذا؟ فأخبره سام بما كان، فرفع يده إلى السماء

______________________________

(1) هود: 36.

(2) نوح: 23. زبدة التفاسير، ج 2، ص: 542

يدعو، فقال: اللّهمّ غيّر ماء صلب حام حتّى لا يولد له إلّا السودان، اللّهمّ غيّر ماء صلب يافث. فغيّر اللّه ماء صلبهما، فجميع السودان من صلب حام حيث كانوا، و جميع الترك و السقلاب و يأجوج و مأجوج و الصين من يافث، و جميع البيض سواهم من سام».

و

روى إبراهيم بن هاشم، عن عليّ بن الحكم، عن بعض أصحابنا، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «عاش نوح ألفي سنة و خمسمائة سنة، منها ثمانمائة و خمسين قبل أن يبعث، و ألف سنة إلّا خمسين عاما و هو في قومه، و

مأتي عام في عمل السفينة، و خمسمائة عام بعد ما نزل من السفينة و نضب الماء. فمصّر الأمصار، و أسكن ولده البلدان.

ثمّ إنّ ملك الموت جاءه و هو في الشمس فقال: السلام عليك.

فردّ عليه نوح عليه السّلام، و قال له: ما جاء بك يا ملك الموت؟

فقال: جئت لأقبض روحك.

فقال له: تدعني أتحوّل من الشمس إلى الظلّ؟

فقال له: نعم.

قال: فتحوّل نوح، ثمّ قال: يا ملك الموت كأنّ ما مرّ بي من الدنيا مثل تحوّلي من الشمس إلى الظلّ، فامض لما أمرت به. قال: فقبض روحه صلّى اللّه على نبيّنا و عليه» «1».

[سورة الأعراف (7): الآيات 65 الى 72]

وَ إِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ (65) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ وَ إِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ (66) قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (67) أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنَا لَكُمْ ناصِحٌ أَمِينٌ (68) أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ وَ زادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (69)

قالُوا أَ جِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَ نَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (70) قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ وَ غَضَبٌ أَ تُجادِلُونَنِي فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (71) فَأَنْجَيْناهُ وَ الَّذِينَ مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ قَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ ما كانُوا مُؤْمِنِينَ (72)

______________________________

(1) لم نجده في تفسير القمّي، و رواه عنه في مجمع

البيان 2: 435.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 543

ثم حكى سبحانه قصّة هود عليه السّلام، فقال عطفا على «نُوحاً إِلى قَوْمِهِ»: وَ إِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً عطف بيان ل «أخاهم». و المراد به الواحد منهم، كقولهم: يا أخا العرب. و هو: هود بن عبد اللّه بن رباح بن الخلود بن عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح. و قيل: هود بن شالخ بن أرفخشذ بن سام بن نوح ابن عمّ أبي عاد. و عاد اسم أبي القبيلة. و هو: عاد بن عوص بن ارم بن سام بن نوح عليه السّلام.

قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ استأنف به و لم يعطف كما في قصّة نوح، كأنّه جواب سائل قال: فما قال لهم حين أرسل؟ أَ فَلا تَتَّقُونَ عذاب اللّه، و كأنّ قومه كانوا أقرب من قوم نوح، و لذا قال: «أخاهم».

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 544

قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ وصف الملأ الّذين كفروا دون الملأ من قوم نوح، لأنّه كان في أشرافهم من آمن به كمرثد بن سعد، بخلاف قوم نوح. إِنَّا لَنَراكَ فِي سَفاهَةٍ متمكّنا و منغمسا في خفّة عقل، راسخا فيها حيث فارقت دين قومك. فجعلوا السفاهة ظرفا على طريق المجاز، لإفادة أنّه متمكّن فيها غير خال عنها. وَ إِنَّا لَنَظُنُّكَ مِنَ الْكاذِبِينَ أي: كذّبوه ظانّين لا متيقّنين.

قالَ يا قَوْمِ لَيْسَ بِي سَفاهَةٌ أي: لم يحملني على هذا الإخبار السفاهة وَ لكِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ

في إجابة «1» الأنبياء عليهم السّلام- من نسبتهم إلى الضلال و السفاهة، بما أجابوهم به من الكلام الصادر عن الحلم و الإغضاء، و ترك المقابلة بما قالوا لهم، مع علمهم بأنّ خصومهم أضلّ

الناس و أسفههم- أدب حسن و خلق عظيم. و حكاية اللّه عزّ و جلّ ذلك تعليم لعباده كيف يخاطبون السفهاء؟ و كيف يغضّون عنهم، و يسبلون أذيالهم على ما يكون منهم؟

و الحاصل: أنّ هذا تعليم من اللّه أن لا يقابل السفهاء بالكلام القبيح، و لكن يقتصر الإنسان على نفي ما أضيف إليه عن النفس.

أُبَلِّغُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ أَنَا لَكُمْ ناصِحٌ فيما أدعوا إليه من توحيد اللّه و طاعته أَمِينٌ ثقة مأمون في تأدية الرسالة، فلا أكذب فيه. أو عرفت فيما بينكم بالنصح و الأمانة، فما حقّي أن أتّهم.

أَ وَ عَجِبْتُمْ أَنْ جاءَكُمْ ذِكْرٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي: لا عجب في أن جاءكم نبوّة عَلى رَجُلٍ مِنْكُمْ لِيُنْذِرَكُمْ وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ أي: اذكروا وقت استخلافكم مِنْ بَعْدِ قَوْمِ نُوحٍ أي: في مساكنهم أو في الأرض، بأن جعلكم ملوكا، فإنّ شدّاد بن عاد ممّن ملك معمورة الأرض من رمل عالج إلى بحر عمان، فخوّفهم هود أوّلا من

______________________________

(1) خبر مقدّم، و المبتدأ قوله بعد أسطر: أدب حسن.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 545

عقاب اللّه تعالى، ثمّ ذكّرهم بإنعامه.

وَ زادَكُمْ فِي الْخَلْقِ بَصْطَةً أي: طولا و قوّة. قال الكلبي: كان أطولهم مائة ذراع، و أقصرهم ستّين ذراعا. و

قال أبو جعفر عليه السّلام: «كانوا كأنّهم النخل الطوال، و كان الرجل منهم ينحو الجبل بيده فيهدم منه قطعة».

فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ أي: نعم اللّه في استخلافكم و بسطة أجرامكم، و غير ذلك من عطاياه. و واحد الآلاء إلى «1»، و نحوه أنى و آناء، و ضلع و أضلاع، و عنب و أعناب. لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ لكي تفوزوا بنعيم الدنيا و الآخرة.

قالُوا أَ جِئْتَنا لِنَعْبُدَ اللَّهَ وَحْدَهُ وَ نَذَرَ ما كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا من

الأصنام.

استبعدوا اختصاص اللّه تعالى بالعبادة، و الإعراض عمّا أشرك به آباؤهم، انهماكا في التقليد، و حبّا لما ألفوه. و معنى المجي ء إمّا المجي ء من مكان اعتزل به عن قومه، أو من السماء على التهكّم، أو القصد على المجاز، كقولهم: ذهب يسبّني، و لا يراد حقيقة الذهاب.

فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب المدلول عليه بقوله: «أَ فَلا تَتَّقُونَ». و هذا استعجال منهم للعذاب. إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في أنّك رسول اللّه إلينا، و في نزول العذاب بنا لو لم نترك عبادة الأصنام.

قالَ قَدْ وَقَعَ عَلَيْكُمْ قد وجب و حقّ عليكم، أو نزل عليكم على أنّ المتوقّع الّذي لا بدّ من نزوله بمنزلة الواقع مِنْ رَبِّكُمْ رِجْسٌ عذاب، من الارتجاس، و هو الاضطراب وَ غَضَبٌ إرادة انتقام.

أَ تُجادِلُونَنِي أ تناظرونني و تخاصمونني فِي أَسْماءٍ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ في أشياء ما هي إلّا أسماء ليس تحتها مسمّيات، لأنّكم سمّيتموها آلهة، و معنى الإلهيّة فيها معدوم، فإنّ المستحقّ للعبادة بالذات هو الموجد للكلّ. و نحوه

______________________________

(1) الإلي و الإلى و الألى: النعمة. و مثّل لها المصنّف «قدّس سرّه» بثلاث صيغ، ف: أنى على زنة ألى، و ضلع على زنة إلي، و عنب على زنة إلى.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 546

قوله: ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ «1». ما نَزَّلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ أي: لو استحقّت للعبادة كان استحقاقها بجعله عزّ و جلّ، إمّا بإنزال آية أو نصب حجّة. فبيّن بذلك أنّ منتهى حجّتهم و سندهم أنّ الأصنام تسمّى آلهة، من غير دليل يدلّ على تحقّق المسمّى، لفرط جهالتهم و غباوتهم.

و لمّا وضح الحقّ و أنتم مصرّون على العناد فَانْتَظِرُوا نزول عذاب اللّه، فإنّه نازل بكم إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ

لنزوله بكم.

فَأَنْجَيْناهُ وَ الَّذِينَ مَعَهُ في الدين، من العذاب بِرَحْمَةٍ مِنَّا عليهم، بأن أخرجناهم من بينهم قبل إنزال العذاب بهم وَ قَطَعْنا دابِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أي:

دمّرناهم و استأصلناهم عن آخرهم، فلم يبق لهم نسل و لا ذرّيّة وَ ما كانُوا مُؤْمِنِينَ تعريض بمن آمن منهم، و تنبيه على أنّ الفارق بين من نجا و من هلك هو الإيمان.

و قصّة عاد إجمالا: أنّهم قد تبسّطوا في البلاد ما بين عمان و حضر موت، و كانت مساكنهم في اليمن بالشحر و الأحقاف، و هي رمال يقال لها: رمل عالج.

و كان لهم زرع و نخل، و لهم أعمار طويلة، و أجساد عظيمة. و كانت لهم أصنام يعبدونها: صداء، و صمود، و الهباء. فبعث اللّه إليهم هودا نبيّا، و كان من أوسطهم و أفضلهم حسبا، فكذّبوه و ازدادوا عتوّا و تجبّرا، فأمسك اللّه عنهم القطر ثلاث سنين حتّى جهدوا. و كان الناس إذا نزل بهم بلاء طلبوا إلى اللّه الفرج منه عند بيته الحرام، مسلمهم و مشركهم. و أهل مكّة إذ ذاك العماليق، أولاد عمليق بن لاوذ بن سام بن نوح، و سيّدهم معاوية بن بكر.

فجهّزت عاد إلى مكّة سبعين رجلا، منهم قيل بن عنز و مرثد بن سعد الّذي كان يكتم إسلامه. فلمّا قدموا نزلوا على معاوية بن بكر- و هو بظاهر مكّة خارجا

______________________________

(1) العنكبوت: 42.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 547

عن الحرم، فأنزلهم و أكرمهم، و كانوا أخواله و أصهاره. فأقاموا عنده شهرا يشربون الخمر و تغنّيهم الجرادتان- قينتان كانتا لمعاوية بن بكر- اسم إحداهما وردة و الاخرى جرادة، فقيل لهما الجرادتان على التغليب.

فلمّا رأى طول مقامهم و ذهولهم باللهو عمّا قدموا له أهمّه ذلك، و قال: قد

هلك أخوالي و اصهاري و هؤلاء على ما هم عليه. و كان يستحي أن يكلّمهم خيفة أن يظنّوا به ثقل مقامهم عليه، فذكر ذلك للقينتين. فقالتا: قل شعرا نغنّيهم به لا يدرون من قاله. فقال معاوية:

ألا يا قيل و يحك قم فهينم «1»لعلّ اللّه يسقينا غماما

فيسقي أرض عاد إن عاداقد أمسوا ما يبينون الكلاما

فلمّا غنّتا به قالوا: إنّ قومكم يتغوّثون من البلاء الّذي نزل بهم، و قد أبطأتم عليهم، فادخلوا الحرم و استسقوا لقومكم.

فقال لهم مرثد بن سعد: و اللّه لا تسقون بدعائكم، و لكن إن أطعتم نبيّكم و تبتم إلى اللّه سقيتم، و أظهر إسلامه.

فقالوا لمعاوية: احبس عنّا مرثدا، لا يقدمنّ معنا مكّة، فإنّه قد اتّبع دين هود و ترك ديننا. ثمّ دخلوا مكّة.

فقال قيل: اللّهمّ اسق عادا ما كنت تسقيهم.

فأنشأ اللّه سحابات ثلاثا: بيضاء، و حمراء، و سوداء. ثمّ ناداه مناد من السماء يا قيل: اختر لنفسك و قومك.

فقال: اخترت السوداء، فإنّها أكثرهنّ ماء. فخرجت على عاد من واد لهم يقال له: المغيث. فاستبشروا بها و قالوا: هذا عارض ممطرنا. فجاءتهم منها ريح عقيم، فتدمغهم بالحجارة فأهلكتهم. و نجا هود و المؤمنون معه، فأتوا مكّة، فعبدوا اللّه فيها حتى ماتوا.

و

روى أبو حمزة الثمالي، عن سالم، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إنّ للّه بيت ريح

______________________________

(1) أمر من الهينمة، و هو الصوت الخفيّ، أي: فادع اللّه تعالى. زبدة التفاسير، ج 2، ص: 548

مقفل عليه لو فتح لأذرت «1» ما بين السماء و الأرض، ما أرسل على قوم عاد إلّا قدر الخاتم».

و

روي عنه عليه السّلام: «أنّه كان هود و صالح و شعيب و إسماعيل و نبيّنا صلّى اللّه عليه و عليهم يتكلّمون بالعربيّة».

[سورة الأعراف (7): الآيات 73 الى 79]

وَ إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (73) وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ مِنْ بَعْدِ عادٍ وَ بَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً وَ تَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (74) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ أَ تَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ (75) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (76) فَعَقَرُوا النَّاقَةَ وَ عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ وَ قالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (77)

فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (78) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ وَ لكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ (79)

______________________________

(1) أذرته الريح إذراء: أطارته و فرّقته.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 549

و بعد ذكر قصّة عاد عطف عليها قصّة صالح، فقال: وَ إِلى ثَمُودَ أي:

و أرسلنا إلى ثمود. و هي قبيلة أخرى من العرب سمّوا باسم أبيهم الأكبر، و هو ثمود بن عابر بن ارم بن سام. و قيل: سمّوا به لقلّة مائهم، من الثمد، و هو الماء القليل.

و كانت مساكنهم الحجر بين الحجاز و الشام إلى وادي القرى. أَخاهُمْ صالِحاً صالح بن عبيد بن آسف بن ماسح بن عبيد بن حاذر بن ثمود. فصالح من ولد ثمود.

قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ معجزة ظاهرة الدلالة على صحّة نبوّتي.

و قوله: هذِهِ ناقَةُ

اللَّهِ لَكُمْ آيَةً استئناف لبيانها، كأنّه قيل: ما هذه البيّنة؟

فقال: هذه ناقة اللّه لكم. و «آية» نصب على الحال، و العامل فيها معنى الإشارة.

و «لكم» بيان لمن هي له آية. و يجوز أن تكون «ناقة اللّه» بدلا أو عطف بيان، و «لكم» خبرا عاملا في «آية». و إضافة الناقة إلى اللّه تعالى لتعظيمها، و لأنّها جاءت من عند اللّه بلا وسائط و أسباب معهودة، فإنّها خرجت من صخرة ملساء، كما سنذكر، و لذلك كانت آية.

فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ العشب وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ بعقر أو نحر.

نهى عن المسّ الّذي هو مقدّمة الإصابة بالسوء الجامع لأنواع الأذى، مبالغة في الأمر، و إزاحة للعذر. فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ جواب للنهي.

وَ اذْكُرُوا إِذْ جَعَلَكُمْ خُلَفاءَ في الأرض، بأن مكّنكم فيها مِنْ بَعْدِ عادٍ وَ بَوَّأَكُمْ فِي الْأَرْضِ و أنزلكم في أرض الحجر، و جعل لكم فيها مساكن تأوون إليها.

تَتَّخِذُونَ مِنْ سُهُولِها قُصُوراً أي: تبنونها من سهولة الأرض بما تعملون منها من اللبن و الآجرّ وَ تَنْحِتُونَ الْجِبالَ بُيُوتاً تسكنونها في الشتاء. و انتصاب «بيوتا» على الحال المقدّرة، كما تقول: خط هذا الثوب قميصا، لأنّ الجبل لا يكون

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 550

زبدة التفاسير ج 2 599

بيتا في حال النحت، و لا الثوب قميصا. أو على المفعوليّة، على أنّ التقدير: بيوتا من الجبال، أو تنحتون بمعنى: تتّخذون.

فَاذْكُرُوا آلاءَ اللَّهِ نعم اللّه عليكم، بما أعطاكم من القوّة و التمكّن في الأرض وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ و لا تضطربوا بالفساد في الأرض، و لا تبالغوا فيه.

قالَ الْمَلَأُ. و قرأ ابن عامر: و قال الملأ بالواو. الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا تعظّموا و أبوا من اتّباع الرسول الداعي إلى اللّه مِنْ قَوْمِهِ

لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أي: للّذين استضعفوهم و استذلّوهم لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ بدل من «لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا» بدل الكلّ إن كان الضمير ل «قومه»، و بدل البعض إن كان ل «الّذين». و ذلك أنّ الراجع إذا رجع إلى «قومه» فقد جعل «من آمن» مفسّرا لمن استضعف منهم، فدلّ أنّ استضعافهم كان مقصورا على المؤمنين، و إذا رجع إلى «الذين استضعفوا» لم يكن الاستضعاف مقصورا عليهم، و دلّ أنّ المستضعفين كانوا مؤمنين و كافرين.

أَ تَعْلَمُونَ أَنَّ صالِحاً مُرْسَلٌ مِنْ رَبِّهِ قالوه على الاستهزاء قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلَ بِهِ مُؤْمِنُونَ عدلوا به عن الجواب السويّ الّذي هو «نعم» تنبيها على أنّ إرساله أظهر من أن يشكّ فيه عاقل، و يخفى على ذي رأي، و إنّما الكلام فيمن آمن به و من كفر، فلذلك قال: قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا بِالَّذِي آمَنْتُمْ بِهِ كافِرُونَ على وجه المقابلة. و وضعوا «آمنتم به» موضع: أرسل به، ردّا لما جعلوه معلوما مسلّما.

فَعَقَرُوا النَّاقَةَ فنحروها. قال الأزهري «1»: «العقر عند العرب قطع عرقوب البعير، ثمّ جعل النحر عقرا، لأنّ ناحر البعير يعقره ثمّ ينحره». أسند إلى جميعهم فعل بعضهم- و هو قدار بن سالف مع أصحابه- للملابسة، أو لأنّه كان برضاهم.

و قدار كان أحيمر أزرق قصيرا، و كانوا تسعة رهط.

روى الثعلبي بإسناده مرفوعا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «يا علي أ تدري من

______________________________

(1) تهذيب اللغة 1: 215. زبدة التفاسير، ج 2، ص: 551

أشقى الأوّلين؟ قال: اللّه و رسوله أعلم. قال: عاقر الناقة. قال: أ تدري من أشقى الآخرين؟ قال: اللّه و رسوله أعلم. قال: الّذي يخضب هذه من هذه، و أشار إلى لحيته و رأسه».

وَ عَتَوْا و استكبروا و تولّوا

عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ عن امتثاله، و هو ما بلّغهم صالح بقوله: «فذروها». أو عن شأن ربّهم، و هو دينه. وَ قالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب. و إنّما استعجلوه لتكذيبهم به، و لذلك علّقوه بما كانوا به كافرين، و هو قوله: إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ من عند اللّه.

فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ أي: الصيحة الّتي زلزلت لها الأرض و اضطربوا لها، أو الزلزلة الّتي زلزلت بها الأرض فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ في مساكنهم و بلادهم جاثِمِينَ صرعى ميّتين هامدين لا حراك بهم. يقال: الناس جثم، أي: قعود لا حراك بهم. و منه المجثمة الّتي جاء النهي عنها، و هي البهيمة تربط و تجمع قوائمها لترمى.

و

عن جابر أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا مرّ بالحجر قال: «لا تسألوا الآيات فقد سألها قوم صالح فأخذتهم الصيحة، فلم يبق منهم إلّا رجل واحد كان في حرم اللّه.

قالوا: من هو؟ قال: ذاك أبو رغال، فلمّا خرج من الحرم أصابه ما أصاب قومه.

و روي أنّ صالحا كان بعثه إلى قوم فخالف أمره».

فَتَوَلَّى عَنْهُمْ تولّى يتحسّر على ما فاته من إيمانهم و يتحزّن لهم وَ قالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالَةَ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ لقد بذلت فيكم وسعي، و لم آل جهدا في النصيحة لكم وَ لكِنْ لا تُحِبُّونَ النَّاصِحِينَ حكاية حال ماضية. و ظاهره يدلّ أنّ تولّيه عنهم كان بعد أن أبصرهم موتى صرعى، و لعلّه خاطبهم به بعد هلاكهم، كما

خاطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أهل قليب بدر، و قال: إنّا وجدنا ما وعدنا ربّنا حقّا، فهل وجدتم ما وعد ربّكم حقّا؟

أو ذكر ذلك على سبيل التحسّر عليهم كما مرّ، كما

يقول

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 552

الرجل لصاحبه و هو ميّت، و كان قد نصحه فلم يسمع منه حتّى ألقى بنفسه في التهلكة: يا أخي كم نصحتك، و كم قلت لك فلم تقبل منّي؟ و يجوز أن يتولّى عنهم تولّي ذاهب عنهم، منكر لإصرارهم حين رأى العلامات قبل نزول العذاب.

و ملخّص قصّتهم: أنّ عادا لمّا هلكت عمرت ثمود بلادها، و خلّفوهم في الأرض، و كثروا و عمّروا أعمارا طوالا، حتّى إن الرجل كان يبني المسكن المحكم فينهدم في حياته، فنحتوا البيوت من الجبال. و كانوا في سعة و رخاء من العيش، فعتوا على اللّه، و أفسدوا في الأرض، و عبدوا الأوثان، فبعث اللّه إليهم صالحا، و كانوا قوما عربا، و صالح من أوسطهم نسبا. فدعاهم إلى اللّه، فلم يتّبعه إلّا قليل منهم مستضعفون، فحذّرهم و أنذرهم. فسألوه آية.

فقال: أيّة آية تريدون؟

قالوا: تخرج معنا إلى عيدنا في يوم معلوم لهم من السنة، فتدعو إلهك و ندعو آلهتنا، فإن استجيب لك اتّبعناك، و إن استجيب لنا اتّبعتنا.

فقال صالح: نعم. فخرج معهم و دعوا أوثانهم، و سألوها الاستجابة فلم تجبهم.

ثمّ قال سيّدهم جندع بن عمرو، و أشار إلى صخرة منفردة في ناحية الجبل يقال لها الكاثبة: أخرج لنا من هذه الصخرة ناقة مخترجة جوفاء و براء. و المخترجة هي الّتي شاكلت البخت. فإن فعلت صدّقناك و أجبناك.

فأخذ صالح عليه السّلام المواثيق عليهم لئن فعلت ذلك لتؤمننّ و لتصدّقنّ؟ قالوا:

نعم. فصلّى و دعا ربّه فتمخّضت الصخرة تمخّض النتوج بولدها، فانصدعت عن ناقة عشراء جوفاء و براء كما وصفوا، لا يعلم ما بين جنبيها إلّا اللّه، و عظماؤهم ينظرون، ثمّ نتجت ولدا مثلها في العظم. فآمن به جندع و رهط من

قومه، و منع الباقين من الإيمان ذؤاب بن عمرو، و الحباب صاحب أوثانهم، و رباب كاهنهم.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 553

فمكثت الناقة مع ولدها ترعى الشجر و تشرب الماء، و كانت ترد غبّا، فإذا كان يومها وضعت رأسها في البئر، فما ترفعه حتّى تشرب كلّ ماء فيها، ثمّ تتفحّج «1» فيحتلبون ما شاؤا حتى تمتلئ أوانيهم، فيشربون و يدّخرون.

قال أبو موسى الأشعري: أتيت أرض ثمود فذرعت مصدر الناقة فوجدته ستّين ذراعا. و في رواية الحسن بن محبوب: ثمانون ذراعا.

و كانت الناقة إذا وقع الحرّ تصيّفت بظهر الوادي، فتهرب منها أنعامهم فتهبط إلى بطنه، و إذا وقع البرد تشتّت بطن الوادي فتهرب مواشيهم إلى ظهره، فشقّ ذلك عليهم. و زيّنت عقرها لهم امرأتان: عنيزة أمّ غنم، و صدقة بنت المختار، لمّا أضرّت به من مواشيهما، و كانتا كثيرتي المواشي.

فعنيزة دعت قدار بن سالف- و كان ولد زنا- و قالت: أعطيك أيّ بناتي شئت على أن تعقر الناقة. و كان قدار عزيزا منيعا في قومه. و دعت صدقة- و هي ذات جمال- رجلا من ثمود يقال له: مصدع بن مهرج، و جعلت له نفسها على أن يعقر الناقة.

فاستغويا غواة ثمود، فأتبعهما سبعة نفر، فعقروها، و اقتسموا لحمها و طبخوه.

فانطلق سقبها «2» حتّى رقى جبلا اسمه قارة، فرغا «3» ثلاثا. و كان صالح قال لهم: أدركوا الفصيل عسى أن يرفع عنكم العذاب، فلم يقدروا عليه. و انفجّت «4» الصخرة بعد رغائه فدخلها.

فقال لهم صالح: تصبحون غدا و وجوهكم مصفرّة، و بعد غد و وجوهكم محمرّة، و اليوم الثالث و وجوهكم مسودّة، ثمّ يصبحكم العذاب.

______________________________

(1) أي: تفرّج ما بين رجليها.

(2) السقب: ولد الناقة ساعة يولد، و جمعه: أسقب.

(3) رغا البعير:

صوّت و ضجّ.

(4) أي: انفتحت.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 554

فلمّا رأوا العلامات طلبوا أن يقتلوه، فأنجاه اللّه إلى أرض فلسطين. و لمّا كان اليوم الرابع و ارتفع الضحى تحنّطوا بالصبر «1» و تكفّنوا بالأنطاع «2»، فأتتهم صيحة من السماء، فتقطّعت قلوبهم، فهلكوا.

و

روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مرّ بقبر أبي رغال فقال: «أ تدرون من هذا؟ قالوا: اللّه و رسوله أعلم، فذكر قصّة أبي رغال، و أنّه دفن هاهنا، و دفن معه غصن من ذهب.

فابتدروه و بحثوا عنه بأسيافهم فاستخرجوا الغصن».

و

روي أنّ عقرهم الناقة كان يوم الأربعاء، و نزل بهم العذاب يوم السبت.

و

روي أنّه خرج في مائة و عشرة من المسلمين و هو يبكي، فالتفت فرأى الدخان ساطعا، فعلم أنّهم قد هلكوا، و كانوا ألفا و خمسمائة. و روي أنّه رجع بمن معه، فسكنوا ديارهم.

[سورة الأعراف (7): الآيات 80 الى 84]

وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (80) إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (81) وَ ما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (82) فَأَنْجَيْناهُ وَ أَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (83) وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (84)

ثمّ عطف اللّه سبحانه على قصّتهم قصّة لوط، و قال: وَ لُوطاً أي: أرسلنا

______________________________

(1) الصّبر: عصارة شجر مرّ.

(2) النطع: بساط من الجلد يفرش تحت المحكوم عليه بالعذاب.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 555

لوطا. و هو لوط بن هاران بن تارخ ابن أخي إبراهيم الخليل. و قيل: إنّه كان ابن خالة إبراهيم، و كانت سارة امرأة إبراهيم أخت لوط. إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ وقت قوله لهم. أو و اذكر لوطا.

و «إذ» بدل منه. أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ توبيخ و تقريع على تلك الفعلة المتمادية في القبح، و هي إتيان الرجال في أدبارهم. ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ ما عملها قبلكم أحد قطّ.

و الباء للتعدية. و «من» الأولى لتأكيد النفي و الاستغراق، و الثانية للتبعيض، و الجملة استئناف مقرّر للإنكار، كأنّه وبّخهم أوّلا بإتيان الفاحشة ثمّ باختراعها، فإنّه أسوأ.

و قوله: إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بيان لقوله: «أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ». و هو أبلغ في الإنكار و التوبيخ. و قرأ نافع و حفص: إنّكم، على الإخبار المستأنف. و «شهوة» مفعول له، أي: للاشتهاء. أو مصدر موضع الحال، أي: ذوي شهوة. و في التقييد بها وصفهم بالبهيميّة الصرفة، و تنبيه على أنّ العاقل ينبغي أن يكون الداعي له إلى المباشرة طلب الولد و بقاء النوع، لا قضاء الوطر. و «مِنْ دُونِ النِّساءِ» في موضع الحال أيضا، أي: تاركين إتيان النساء اللاتي أباح اللّه إتيانهنّ، أي: مجامعتهنّ، من: أتى المرأة إذا غشيها.

بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ متجاوزون الحدّ في الفساد، حتى تجاوزتم المعتاد إلى غير المعتاد. و هذا إضراب عن الإنكار إلى الإخبار عن حالهم الّتي أدّت بهم إلى ارتكاب أمثالها، و هي اعتياد الإسراف في كلّ شي ء. أو عن الإنكار عليها إلى الذمّ على جميع معايبهم. أو عن محذوف، مثل: لا عذر لكم فيه، بل أنتم قوم عادتكم الإسراف.

وَ ما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوهُمْ مِنْ قَرْيَتِكُمْ يعني: ما أجابوا لوطا عمّا كلّمهم به بما يكون جوابا، و لكنّهم جاؤا بما لا يتعلّق بكلامه و نصيحته،

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 556

من الأمر بإخراجه و من معه من المؤمنين من قريتهم، و الاستهزاء بهم. فقالوا

استهزاء و افتخارا بما كانوا فيه من القذرات: إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ أي: من الفواحش و الخبائث.

فَأَنْجَيْناهُ وَ أَهْلَهُ فخلّصنا لوطا و من آمن معه إِلَّا امْرَأَتَهُ فإنّها كانت تسرّ الكفر موالية لأهل سدوم كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ من الّذين غبروا في ديارهم، أي: بقوا فيها. و التذكير لتغليب الذكور. روي أنّها التفتت فأصابها الحجر فماتت.

وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً أي: نوعا من المطر عجيبا، و هو مبيّن بقوله:

وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ «1». فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ تفكّر بعين العقل كيف كان مآل أمر المقترفين للسيّئات؟ و عاقبة فعلهم من عذاب الدنيا بالاستئصال قبل عذاب الآخرة بالخلود في النار.

و تحرير قصّتهم على ما

روي عن أبي حمزة الثمالي و أبي بصير عن أبي جعفر عليه السّلام و غيره: أنّ لوطا لمّا هاجر مع عمّه إبراهيم إلى الشام نزل بالأردن، فأرسله اللّه إلى أهل سدوم ليدعوهم إلى اللّه، و ينهاهم عمّا اخترعوه من الفاحشة.

فلبث في قومه ثلاثين سنة، و كان نازلا فيهم، و لم يكن منهم، يدعوهم إلى اللّه، و ينهاهم عن الفواحش، و يحثّهم على الطاعة، فلم يجيبوه، و لم يطيعوه.

و كانوا لا يتطهّرون من الجنابة، بخلاء أشحّاء على الطعام، فأعقبهم البخل الداء الّذي لا دواء له في فروجهم. و ذلك أنّهم كانوا على طريق السيّارة إلى الشام و مصر، و كان ينزل بهم الضيفان، فدعاهم البخل إلى أن كانوا إذا نزل بهم الضيف فضحوه، و إنّما فعلوا ذلك لتنكل النازلة عليهم، من غير شهوة بهم إلى ذلك.

فأوردهم البخل هذا الداء، حتى صاروا يطلبونه من الرجال، و يعطون عليه الجعل.

وكان لوط سخيّا كريما يقري الضيف إذا نزل به، فنهوه عن ذلك و قالوا: لا

______________________________

(1) الحجر: 74.

زبدة

التفاسير، ج 2، ص: 557

تقرينّ ضيفا جاء ينزل بك، فإنّك إن فعلت فضحنا ضيفك. فكان لوط إذا نزل به الضيف كتم أمره مخافة أن يفضحه قومه.

و لمّا أراد اللّه سبحانه عذابهم بعث إليهم رسلا مبشّرين و منذرين. فلمّا عتوا عن أمره بعث اللّه إليهم جبرئيل في نفر من الملائكة، فأقبلوا إلى إبراهيم قبل لوط.

فلمّا رآهم إبراهيم ذبح عجلا سمينا، فلمّا رأى أيديهم لا تصل إليه نكرهم، و أوجس منهم خيفة، قالوا: يا إبراهيم إنّا رسل ربّك، و نحن لا نأكل الطعام، إنّا أرسلنا إلى قوم لوط. و خرجوا من عند إبراهيم، فوقفوا على لوط و هو يسقي الزرع.

فقال: من أنتم؟

قالوا: نحن أبناء السبيل أضفنا الليلة.

فقال لوط: إنّ أهل هذه القرية قوم سوء، ينكحون الرجال في أدبارهم، و يأخذون أموالهم.

قالوا: قد أبطأنا فأضفنا.

فجاء لوط إلى أهله و كانت كافرة، فقال: قد أتاني أضياف في هذه الليلة، فاكتمي أمرهم.

قالت: أفعل. و كانت العلامة بينها و بين قومها أنّه إذا كان عند لوط أضياف بالنهار تدخّن من فوق السطح، و إذا كان بالليل توقد النار.

فلمّا دخل جبرئيل و الملائكة معه بيت لوط و ثبت امرأته على السطح فأوقدت نارا، فأقبل القوم من كلّ ناحية يهرعون إليه، أي: يسرعون، و دار بينهم ما قصّه اللّه تعالى في مواضع من كتابه. فضرب جبرئيل بجناحه على عيونهم فطمسها، فلمّا رأوا ذلك علموا أنّه قد أتاهم العذاب.

فقال جبرئيل للوط: أخرج من بينهم أنت و أهلك إلّا امرأتك.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 558

فقال: كيف أخرج و قد اجتمعوا حول داري؟

فوضع بين يديه عمودا من نور، و قال: اتّبع هذا العمود، و لا يلتفت منكم أحد.

فخرجوا من القرية. فلمّا طلع الفجر ضرب جبرئيل عليه السّلام بجناحه

في طرف القرية فقلعها من تخوم الأرضين السابعة، ثمّ رفعها في الهواء، حتّى سمع أهل السماء نباح كلابهم و صراخ ديوكهم، ثم قلبها عليهم. و هو قول اللّه عزّ و جلّ جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها «1». و ذلك بعد أن أمطر اللّه عليهم حجارة من سجّيل، و هلكت امرأته، بأن أرسل اللّه عليها صخرة فقتلتها، كما مرّ.

و قيل: قلبت المدينة على الحاضرين منهم، فجعل عاليها سافلها، و أمطرت الحجارة على الغائبين، فأهلكوا بها.

و قال الكلبي: أوّل من عمل عمل قوم لوط إبليس الخبيث، لأنّ بلادهم أخصبت، فانتجعها «2» أهل البلدان، فتمثّل لهم إبليس في صورة شابّ، ثمّ دعاهم إلى دبره فنكح في دبره، ثمّ عبثوا بذلك العمل. فلمّا كثر ذلك فيهم عجّت الأرض إلى ربّها، فسمعت السماء فعجّت إلى ربّها، فسمع العرش فعجّ إلى ربّه، فأمر اللّه السماء أن تحصبهم، و أمر الأرض أن تخسف بهم.

[سورة الأعراف (7): الآيات 85 الى 93]

وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَوْفُوا الْكَيْلَ وَ الْمِيزانَ وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بَعْدَ إِصْلاحِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (85) وَ لا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ تُوعِدُونَ وَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ تَبْغُونَها عِوَجاً وَ اذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلاً فَكَثَّرَكُمْ وَ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (86) وَ إِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ وَ طائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا فَاصْبِرُوا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (87) قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا قالَ أَ وَ لَوْ كُنَّا

كارِهِينَ (88) قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها وَ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِّ وَ أَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ (89)

وَ قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (90) فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (91) الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ (92) فَتَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قالَ يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ فَكَيْفَ آسى عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ (93)

______________________________

(1) هود: 82.

(2) انتجع القوم الكلأ: ذهبوا لطلبه في مواضعه.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 560

ثمّ عطف اللّه سبحانه على ما تقدّم من القصص قصّة شعيب، فقال: وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً أي: و أرسلنا إليهم. و هم أولاد مدين بن إبراهيم عليه السّلام، فنسبت القبيلة إليه. قال عطاء: هو شعيب بن توبة بن مدين بن إبراهيم. و قال قتادة: هو شعيب بن بويب. و قال ابن إسحاق: هو شعيب بن ميكيل بن يشحب بن مدين.

و كان يقال له خطيب الأنبياء، لحسن مراجعته قومه.

قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ قَدْ جاءَتْكُمْ بَيِّنَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ أي:

معجزة من عند ربّكم شاهدة بصحّة نبوّتي، أوجبت عليكم الإيمان. و ليس في القرآن أنّها ما هي، كما لم تذكر أكثر معجزات الأنبياء فيه، و لكن قد وقع العلم بأنّه كانت له معجزة تشهد له و تصدّقه، و إلّا لم تصحّ دعواه. و كان متنبّئا لا نبيّا. و ما روي من أنّ معجزاته هي محاربة عصا موسى التنّين «1»

حين دفع إليه غنمه، و ولادة الغنم الّتي دفعها إليه الدرع «2» خاصّة حين وعده أن يكون له الدرع من أولادها، و وقوع عصا آدم على يده في المرّات السبع، متأخّر «3» عن هذه المقاولة. و يحتمل أن تكون كرامة لموسى عليه السّلام، أو إرهاصا «4» لنبوّته.

فَأَوْفُوا الْكَيْلَ أي: آلة الكيل على الإضمار، و هي المكيال. أو إطلاق الكيل على المكيال، كالعيش على المعاش، و هو ما يعاش به، لقوله وَ الْمِيزانَ كما قال في سورة هود: أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ «5». أو أوفوا الكيل و وزن الميزان. و يجوز أن يكون الميزان مصدرا، كالميعاد و الميلاد.

______________________________

(1) التنّين: الحيّة العظيمة.

(2) الدرع جمع الأدرع، و هو من الفرس و الشاة ما اسودّ رأسه و ابيضّ سائر جسده.

(3) خبر «و ما روي ...» قبل ثلاثة أسطر.

(4) الإرهاص: ما يصدر من النبيّ من خوارق العادة قبل دعوى النبوّة.

(5) هود: 85.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 561

وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ و لا تنقصوهم حقوقهم. و إنّما قال:

«أشياءهم» للتعميم، تنبيها على أنّهم كانوا يبخسون الجليل و الحقير و القليل و الكثير. و قيل: كانوا مكّاسين «1»، لا يدعون شيئا إلّا مكسوه.

وَ لا تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بالكفر و البخس و غيرهما بَعْدَ إِصْلاحِها بعد ما أصلح الصالحون أمرها. أو أهلها من الأنبياء و أتباعهم العاملين بالشرائع. أو أصلحوا فيها. و الإضافة إليها كالإضافة في بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ «2» أي: مكركم في الليل و النهار.

ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إشارة إلى ما ذكر من الوفاء بالكيل و الميزان و ترك البخس و الإفساد في الأرض. أو إلى العمل بما أمرهم به و نهاهم عنه. و معنى الخيريّة إمّا الزيادة مطلقا، أو في الإنسانيّة

و حسن الأحدوثة، و ما تطلبونه من الربح، لأنّ الناس إن عرفوا منكم النصفة و الأمانة رغبوا في متاجرتكم.

إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ مصدّقين لي في قولي.

وَ لا تَقْعُدُوا بِكُلِّ صِراطٍ بكلّ منهاج من مناهج الدين، مشبّهين بالشيطان في قوله: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ «3». تُوعِدُونَ تخوّفون بالقتل و الضرب و الحبس. و صراط الحقّ و إن كان واحدا، كقوله تعالى: وَ أَنَّ هذا صِراطِي مُسْتَقِيماً فَاتَّبِعُوهُ وَ لا تَتَّبِعُوا السُّبُلَ فَتَفَرَّقَ بِكُمْ عَنْ سَبِيلِهِ «4»، لكنّه يتشعّب إلى معارف و حدود و أحكام، فلهذا قال: بكلّ صراط. و كانوا إذا رأوا أحدا يسعى في شي ء منها منعوه.

______________________________

(1) مكسه: ظلمه، و في البيع: انتقص الثمن. و المكّاس: من يأخذ المكس، أي: الدراهم التي كانت تؤخذ من بائعي السلع في الجاهليّة.

(2) سبأ: 33.

(3) الأعراف: 16.

(4) الأنعام: 153.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 562

و قيل: كانوا يجلسون على المراصد فيقولون لمن يريد شعيبا: إنّه كذّاب فلا يفتننّك عن دينك، و يوعدون لمن آمن به.

و قيل: كانوا يقطعون الطريق. و قيل: كانوا عشّارين.

و يؤيّد الأوّل قوله: وَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعني: الّذي قعدوا عليه.

فوضع الظاهر موضع المضمر، بيانا لكلّ صراط، و دلالة على عظم ما يصدّون عنه، و تقبيحا لما كانوا عليه. أو الإيمان باللّه تعالى. و محلّ «توعدون» و «تصدّون» النصب على الحال من الضمير في «تقعدوا» أي: و لا تقعدوا موعدين و صادّين عن سبيل اللّه، و باغيها عوجا.

مَنْ آمَنَ بِهِ أي: باللّه، أو بكلّ صراط على الأوّل. و «من» مفعول «تصدّون» على إعمال الأقرب. و لو كان مفعول «توعدون» لقال: و تصدّونهم.

وَ تَبْغُونَها عِوَجاً و تطلبون لسبيل اللّه تعالى عوجا، بإلقاء الشبه، أو بوصفها للناس بأنّها معوجّة غير

مستقيمة، لتصدّوهم عن سلوكها و الدخول فيها.

وَ اذْكُرُوا إِذْ كُنْتُمْ قَلِيلًا عددكم فَكَثَّرَكُمْ بالبركة في النسل. و «إذ» مفعول به غير ظرف، أي: و اذكروا على وجه الشكر وقت كونكم قليلا عددكم.

قيل: إنّ مدين بن إبراهيم الخليل عليه السّلام تزوّج بنت لوط فولدت له، فرمى اللّه في نسلها بالبركة و النماء، فكثروا. و يجوز أن يكون معناه: إذ كنتم فقراء مقلّين فجعلكم أغنياء مكثرين.

وَ انْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ آخر أمر من أفسد قبلكم من الأمم، و اعتبروا بهم، كقوم نوح و هود و صالح و لوط، كانوا قريبي العهد ممّا أصاب المؤتفكة.

وَ إِنْ كانَ طائِفَةٌ مِنْكُمْ آمَنُوا بِالَّذِي أُرْسِلْتُ بِهِ و قبلوا قولي وَ طائِفَةٌ لَمْ يُؤْمِنُوا لم يصدّقوني فَاصْبِرُوا فتربّصوا و انتظروا حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بَيْنَنا أي:

بين الفريقين بنصر المحقّين على المبطلين. فهو وعد للمؤمنين و وعيد للكافرين،

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 563

كقوله: فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ «1». وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ إذ لا معقّب لحكمه، و لا حيف فيه.

قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا أي: قال الّذين رفعوا أنفسهم فوق مقدارها مِنْ قَوْمِهِ لَنُخْرِجَنَّكَ يا شُعَيْبُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَكَ مِنْ قَرْيَتِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا أي: ليكوننّ أحد الأمرين: إمّا إخراجكم من بلدتنا، أو عودكم في الكفر. و شعيب لم يكن في ملّتهم قطّ، لأنّ الأنبياء لا يجوز عليهم الكفر لا قبل البعث و لا بعدها، لكن غلّبوا الجماعة على الواحد، فخوطب هو و قومه بخطابهم. و على التغليب أجري الجواب في قوله: قالَ أَ وَ لَوْ كُنَّا كارِهِينَ الواو للحال، و الهمزة للاستفهام، أي: و كيف نعود فيها في حال كوننا كارهين للدخول فيها؟

و قيل: المعنى: إنّكم لا تقدرون على ردّنا إلى دينكم

على كره منّا. فيكون على هذا «كارهين» بمعنى: مكرهين. أو يكون ذكر العود لظنّهم أنّه كان قبل ذلك على دينهم، و قد كان عليه السّلام يخفي دينه فيهم.

قَدِ افْتَرَيْنا عَلَى اللَّهِ اختلقنا عليه كَذِباً إِنْ عُدْنا فِي مِلَّتِكُمْ بَعْدَ إِذْ نَجَّانَا اللَّهُ مِنْها شرط جوابه محذوف، دليله «قد افترينا». و هو بمعنى المستقبل، لأنّه لم يقع، لكنّه جعل كالواقع للمبالغة. و أدخل عليه «قد» لتقريبه من الحال، أي: قد افترينا الآن إن هممنا بالعود بعد الخلاص منها، حيث نزعم أنّ للّه تعالى ندّا، و أنّه قد تبيّن لنا أنّ ما كنّا عليه باطل، و ما أنتم عليه حقّ. و قيل: إنّه جواب قسم، و تقديره:

و اللّه لقد افترينا.

وَ ما يَكُونُ لَنا و ما يصحّ و ما ينبغي لنا أَنْ نَعُودَ فِيها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّنا خذلاننا و منعنا الألطاف، لعلمه أنّها لا تنفع فينا، فيكون فعلها بنا عبثا، و اللّه تعالى متعال عن فعل العبث.

______________________________

(1) التوبة: 52.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 564

و قيل: أراد به قطع طمعهم في العود بسبب التعليق على ما لا يكون، فإنّ مشيئة اللّه لعودهم في الكفر محال خارج عن الحكمة. فهذا من قبيل قوله: وَ لا يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ حَتَّى يَلِجَ الْجَمَلُ فِي سَمِّ الْخِياطِ «1». و كما قيل:

إذا شاب الغراب أتيت أهلي و صار القار كاللبن الحليب

وَسِعَ رَبُّنا كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً أي: أحاط علمه بكلّ شي ء ممّا كان و ما يكون، فهو يعلم أحوال عباده كيف تتحوّل، و قلوبهم كيف تنقلب، و كيف تقسو بعد الرقّة، و تمرض بعد الصحّة، و ترجع إلى الكفر بعد الإيمان. أو علمه أحاط بكلّ ما هو من الحكمة، و ما هو خارج عنها.

عَلَى اللَّهِ

تَوَكَّلْنا في أن يثبّتنا على الإيمان، و يخلّصنا من الأشرار، و يوفّقنا لازدياد الإيقان. رَبَّنَا افْتَحْ أي: احكم بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ فإنّ الفتاحة الحكومة. أو أظهر أمرنا، بأن تنزل عليهم عذابا يتبيّن معه أنّا على الحقّ و أنّهم على الباطل، و يتميّز المحقّ من المبطل، من: فتح المشكل إذا بيّنه. وَ أَنْتَ خَيْرُ الْفاتِحِينَ على المعنيين.

وَ قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ أي: اشرافهم، للّذين دونهم يثبّطونهم عن الإيمان لَئِنِ اتَّبَعْتُمْ شُعَيْباً و تركتم دينكم إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ لاستبدالكم ضلالته بهداكم. أو لفوات ما يحصل بالبخس و التطفيف، لأنّه ينهاكم عنهما، و يحملكم على الإيفاء و التسوية. و هو سادّ مسدّ جواب الشرط و القسم الموطّأ باللام.

فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ الزلزلة. و في سورة الحجر: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ «2».

و لعلّها كانت من مباديها. فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ أي: في مدينتهم جاثِمِينَ ميّتين لا حراك لهم.

______________________________

(1) الأعراف: 40.

(2) الحجر: 73.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 565

الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً مبتدأ خبره: كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيهَا أي: استؤصلوا، كأن لم يقيموا بها. و المغنى: المنزل.

الَّذِينَ كَذَّبُوا شُعَيْباً كانُوا هُمُ الْخاسِرِينَ أي: هم المخصوصون بالخسران العظيم دينا و دنيا، لا الّذين صدّقوه و اتّبعوه كما زعموا: فإنّهم الرابحون في الدارين.

و للتنبيه على هذا و المبالغة فيه كرّر الموصول، و استأنف بالجملتين، و أتى بهما اسميّتين. ففي هذا الاستئناف و التكرار تسفيه لرأي الملأ، و ردّ لمقالتهم.

فَتَوَلَّى عَنْهُمْ لمّا رأى إقبال العذاب عليهم وَ قالَ تاسّفا بهم، لشدّة حزنه عليهم: يا قَوْمِ لَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ رِسالاتِ رَبِّي وَ نَصَحْتُ لَكُمْ لقد أعذرت إليكم في النصيحة، و إبلاغ الرسالة، و التحذير ممّا حلّ بكم، فلم تصدّقوني.

ثم أنكر على نفسه فقال: فَكَيْفَ آسى أحزن جدّا، فإنّ الأسى

شدّة الحزن عَلى قَوْمٍ كافِرِينَ الّذين ليسوا أهل حزن، لاستحقاقهم ما نزل عليهم بكفرهم. أو قال هذا اعتذارا عن عدم شدّة حزنه عليهم. و المعنى: لقد بالغت في الإبلاغ و الإنذار، و بذلت و سعي في النصح و الإشفاق، فلم تصدّقوا قولي، فكيف أحزن عليكم و أنتم لستم أحقّاء بالأسى؟!

[سورة الأعراف (7): الآيات 94 الى 95]

وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ وَ الضَّرَّاءِ لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ (94) ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ حَتَّى عَفَوْا وَ قالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَ السَّرَّاءُ فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (95)

ثمّ ذكر سبحانه بعد ما اقتصّ من قصص الأنبياء، و تكذيب أممهم إيّاهم، و ما نزل بهم من العذاب، سنّته في أمثالهم، تسلية لنبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا أَخَذْنا أَهْلَها بِالْبَأْساءِ بالبؤس، و هو الفقر وَ الضَّرَّاءِ و هو

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 566

المرض لَعَلَّهُمْ يَضَّرَّعُونَ كي يتضرّعوا و يتذلّلوا و يتوبوا.

ثُمَّ بَدَّلْنا مَكانَ السَّيِّئَةِ الْحَسَنَةَ رفعنا ما كانوا فيه من البلاء و الشدّة، و أعطيناهم بدله السعة و السلامة، ابتلاء لهم بهذين الأمرين، كقوله: وَ بَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَ السَّيِّئاتِ «1». حَتَّى عَفَوْا كثروا عددا و عددا. يقال: عفا النبات و الشحم و الوبر، إذا كثر. و منه

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «و اعفوا اللحى».

فأبطرتهم النعمة و الصحّة و أشروا وَ قالُوا قَدْ مَسَّ آباءَنَا الضَّرَّاءُ وَ السَّرَّاءُ كفرانا لنعمة اللّه، و نسيانا لذكره، و اعتقادا بأنّ هذه عادة الدهر، يعاقب في الناس بين الضّرّاء و السّرّاء، و قد مسّ آباءنا نحو ذلك، فلم ينتقلوا عمّا كانوا عليه.

فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً فجأة عبرة لمن بعدهم

وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بنزول العذاب إلّا بعد حلوله، و هو أشدّ الأخذ و أفظعه.

[سورة الأعراف (7): الآيات 96 الى 99]

وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنْ كَذَّبُوا فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (96) أَ فَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً وَ هُمْ نائِمُونَ (97) أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرى أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى وَ هُمْ يَلْعَبُونَ (98) أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ (99)

ثمّ بيّن سبحانه أنّ كلّ من أهلكه من الأمم المتقدّم ذكرهم إنّما أتوا في ذلك

______________________________

(1) الأعراف: 168.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 567

من قبل نفوسهم، فقال: وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى يعني: القرى المدلول عليها بقوله:

وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَبِيٍ «1». فكأنّه قال: و لو أنّ أهل تلك القرى الّذين كذّبوا.

و قيل: مكّة و ما حولها. و قيل: اللام للجنس. آمَنُوا بدل أن كفروا وَ اتَّقَوْا مكان أن أشركوا و عصوا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ خيرات نامية مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أي: لوسّعنا عليهم الخير، و يسّرناه لهم من كلّ جانب. و منه قولهم:

فتحت على القارئ، إذا تعذّرت عليه القراءة فيسّرتها عليه بالتلقين. و قيل: المراد المطر و النبات. و قرأ ابن عامر: لفتّحنا بالتشديد.

وَ لكِنْ كَذَّبُوا الرسل فَأَخَذْناهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ بسوء كسبهم، من الكفر و المعاصي.

أَ فَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى عطف على قوله: «فَأَخَذْناهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ».

و ما بينهما اعتراض، و الهمزة للإنكار. و المعنى: أبعد ذلك أمن أهل القرى الّذين يكذّبون نبيّنا أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً؟ أي: وقت بيات، أو مبيّتا، أو مبيّنين، أو بمعنى: تبييتا، كالسلام بمعنى التسليم، فكأنّه قيل: أن يبيّتهم بأسنا تبييتا. و هو

في الأصل مصدر بمعنى: البيتوتة. وَ هُمْ نائِمُونَ حال من ضمير «هم» البارز، أو المستتر في «بياتا».

أَ وَ أَمِنَ أَهْلُ الْقُرى قرأ ابن كثير و نافع و ابن عامر: أو بالسكون، على الترديد. أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى ضحوة النهار. و هو في الأصل ضوء الشمس إذا ارتفعت. و نصبه على الظرف. وَ هُمْ يَلْعَبُونَ يلهون من فرط الغفلة، أو يشتغلون بما لا ينفعهم، فكأنّهم يلعبون. و تخصيص هذين الوقتين لغفلتهم فيهما غالبا.

أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ تكرير لقوله: «أَ فَأَمِنَ أَهْلُ الْقُرى . و مكر اللّه تعالى استعارة لاستدراج العبد، و أخذه من حيث لا يحتسب. فعلى العاقل أن يكون خائفا

______________________________

(1) الأعراف: 94.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 568

من مكر اللّه، كالمحارب الّذي يخاف من عدوّه الكمين و البيات و الغيلة.

و عن ربيع بن خثيم أنّ ابنته قالت له: مالي أري الناس ينامون، و لا أراك تنام؟ قال: يا بنتاه إنّ أباك يخاف البيات. أراد قوله: «أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا بَياتاً».

فَلا يَأْمَنُ مَكْرَ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْخاسِرُونَ الّذين خسروا بالكفر و ترك النظر و الاعتبار.

قيل: إنّ الأنبياء و سائر المعصومين أمنوا مكر اللّه، و ليسوا بخاسرين.

و أجيب أنّ تقدير الآية: لا يأمن مكر اللّه من المذنبين إلّا القوم الخاسرون، بدلالة قوله تعالى: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ «1». أو لا يؤمّن عذاب اللّه للعصاة إلّا الخاسرون، و المعصومون لا يؤمّنون عذاب اللّه للعصاة. أو لا يأمن عقاب اللّه جهلا بحكمته إلّا الخاسرون.

[سورة الأعراف (7): الآيات 100 الى 102]

أَ وَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (100) تِلْكَ الْقُرى نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا

بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ (101) وَ ما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ مِنْ عَهْدٍ وَ إِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ لَفاسِقِينَ (102)

ثمّ أنكر سبحانه عليهم تركهم الاعتبار بمن تقدّمهم من الأمم، فقال: أَ وَ لَمْ يَهْدِ لِلَّذِينَ يَرِثُونَ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ أَهْلِها أي: يخلفون من خلا قبلهم، و يرثون

______________________________

(1) الدخان: 51.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 569

أرضهم. و إنّما عدّي باللام لأنّه بمعنى: يبيّن. أَنْ لَوْ نَشاءُ أَصَبْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ أنّ الشأن لو نشاء أصبناهم بجزاء ذنوبهم كما أصبنا من قبلهم، و أهلكناهم كما أهلكنا أولئك وَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِهِمْ معطوف على ما دلّ عليه «أَ وَ لَمْ يَهْدِ»، فكأنّه قيل:

يغفلون عن الهداية و نطبع على قلوبهم. أو على «يَرِثُونَ الْأَرْضَ». أو منقطع عنه، بمعنى: و نحن نطبع. و لا يجوز عطفه على «أصبناهم» على أنّه بمعنى: و طبعنا، لأنّه في سياقة جواب «لو»، و هو يدلّ على نفي الطبع عنهم، و هذا باطل، لأنّ القوم كانوا مطبوعا على قلوبهم من فرط الكفر و اقتراف الذنب، و الرسوخ عليه عنادا و لجاجا، مع ظهور الحقّ عليهم. و قد ذكرنا معنى الطبع «1» غير مرّة. فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ سماع تفهّم و اعتبار.

تِلْكَ الْقُرى يعني: قرى الأمم المارّ ذكرهم نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْبائِها لتخبر قومك بها، فيعتبروا و يحذروا عن الإصرار على مثل حالهم. و الجملة الفعليّة حاليّة إن جعل القرى خبرا ل «تلك»، فيكون كلاما مفيدا بالتقييد بالقرى، كما يفيد بشرط التقييد بالصفة في قولك: هو الرجل الكريم. و خبر إن جعلت صفة ل «تلك».

و يجوز أن يكونا خبرين، و «من» للتبعيض، أي: نقصّ بعض أنبائها، و لها أنباء غيرها لا نقصّها.

وَ لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات

فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا عند مجيئهم بها بِما كَذَّبُوا مِنْ قَبْلُ و من قبل مجي ء الرسل، بل كانوا مستمرّين على التكذيب. أو فما كانوا ليؤمنوا مدّة عمرهم بما كذّبوا به أوّلا حين جاءتهم الرسل، و لم تؤثّر فيهم قطّ دعوتهم المتطاولة و الآيات المتتابعة. و اللام لتأكيد النفي، و الدلالة على أنّ الإيمان كان منافيا لحالهم، لفرط عنادهم و لجاجهم، و تصميمهم على الكفر، و انهماكهم في المعصية، مع تكرار المواعظ عليهم و تتابع الآيات.

______________________________

(1) راجع ص 187 ذيل الآية 155 من سورة النساء.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 570

كَذلِكَ أي: مثل ذلك الطبع الشديد يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الْكافِرِينَ فلا تلين شكيمتهم «1» بالآيات و النذر.

وَ ما وَجَدْنا لِأَكْثَرِهِمْ لأكثر الناس، و الآية اعتراض. أو لأكثر الأمم المذكورين مِنْ عَهْدٍ من وفاء عهد، فإنّ أكثرهم نقضوا ما عهد اللّه إليهم في الإيمان و التقوى، بإنزال الآيات و نصب الحجج. أو ما عهدوا إليه حين كانوا في ضرّ و مخافة، مثل: لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ «2».

وَ إِنْ وَجَدْنا أَكْثَرَهُمْ أي: و إن الشأن علمناهم لَفاسِقِينَ خارجين عن الطاعة، من: وجدت زيدا ذا الحفاظ، لدخول «إن» المخفّفة و اللام الفارقة، و ذلك لا يجوز إلّا في المبتدأ و الخبر، و الأفعال الداخلة عليهما. و عند الكوفيّين «إن» للنفي، و اللام بمعنى «إلّا». و ذكر الأكثر مع أنّ كلّهم كافرون، لأنّ أكثرهم مع كفرهم فاسق في دينه، غير لازم لمذهبه، ناقض للعهد، قليل الوفاء به.

[سورة الأعراف (7): الآيات 103 الى 126]

ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِ فَظَلَمُوا بِها فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (103) وَ قالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (104) حَقِيقٌ عَلى أَنْ

لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ (105) قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ فَأْتِ بِها إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (106) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (107)

وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (108) قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (109) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ فَما ذا تَأْمُرُونَ (110) قالُوا أَرْجِهْ وَ أَخاهُ وَ أَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (111) يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (112)

وَ جاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (113) قالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (114) قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ (115) قالَ أَلْقُوا فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ وَ جاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ (116) وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (117)

فَوَقَعَ الْحَقُّ وَ بَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (118) فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَ انْقَلَبُوا صاغِرِينَ (119) وَ أُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (120) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (121) رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ (122)

قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ فِي الْمَدِينَةِ لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (123) لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (124) قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (125) وَ ما تَنْقِمُ مِنَّا إِلاَّ أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً وَ تَوَفَّنا مُسْلِمِينَ (126)

______________________________

(1) الشكيمة: الأنفة و الإباء و عدم الانقياد.

(2) يونس: 22.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 572

ثمّ عطف سبحانه قصّة موسى عليه السّلام على ما تقدّم من قصص الأنبياء عليهم السّلام، فقال: ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى الضمير للرسل في قوله: «وَ

لَقَدْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ». أو للأمم. بِآياتِنا يعني: المعجزات إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ فَظَلَمُوا بِها بأن كفروا بها مكان الإيمان الّذي هو من حقّها، لوضوحها. و لهذا المعنى وضع «ظلموا» موضع: كفروا. و فرعون لقب لمن ملك مصر، ككسرى لمن ملك فارس.

و كان اسمه قابوس. و قيل: الوليد بن مصعب بن الريّان. فَانْظُرْ نظر الاعتبار كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ من الإغراق.

وَ قالَ مُوسى يا فِرْعَوْنُ إِنِّي رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ إليك و إلى قومك.

و قوله: حَقِيقٌ عَلى أَنْ لا أَقُولَ عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَ يجوز أن يكون هذا جوابا لتكذيبه إيّاه في دعوى الرسالة. و إنّما لم يذكره لدلالة قوله: «فظلموا بها» عليه.

و كأنّ أصله: حقيق عليّ أن لا أقول، كما قرأ نافع، أي: واجب عليّ، فقلب لأمن الالتباس. أو لأنّ ما لزمك فقد لزمته، فلمّا كان قول الحقّ حقيقا عليه كان هو حقيقا على قول الحقّ، أي: لازما له. أو لأنّ حقيقا يتضمّن معنى: حريص.

و التوجيه الرابع- و هو الأوجه الأدخل في نكت القرآن-: أن يغرق موسى عليه السّلام في وصف نفسه بالصدق في ذلك المقام، لا سيّما و

قد روي أنّ عدوّ اللّه فرعون قال له- لمّا قال: «رَسُولٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ»-: كذبت. فيقول: أنا حقيق عليّ قول الحقّ،

أي: واجب عليّ قول الحقّ أن أكون أنا قائله و القائم به، و لا يرضى إلّا بمثلي ناطقا به. و يحتمل أن يكون «على» بمعنى الباء، لإفادة التمكّن، كقولهم: رميت السهم على القوس، و جئت على حال حسنة.

قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ بمعجزة ظاهرة الدلالة على صدقي مِنْ رَبِّكُمْ فَأَرْسِلْ مَعِيَ بَنِي إِسْرائِيلَ فخلّهم من عقال التسخير حتّى يرجعوا معي إلى الأرض المقدّسة الّتي هي وطن آبائهم. و كان

قد استعبد فرعون و القبط بني إسرائيل، و استخدموهم في الأعمال الشاقّة، فأنقذهم اللّه بموسى. و كان بين اليوم الّذي دخل

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 573

يوسف مصر و اليوم الّذي دخله موسى أربعمائة عام.

قالَ إِنْ كُنْتَ جِئْتَ بِآيَةٍ بحجّة من عند من أرسلك فَأْتِ بِها فأحضرها عندي ليثبت بها صدقك، و يصحّ بها دعواك إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في الدعوى.

فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ظاهر أمره، لا يشكّ في أنّه ثعبان، و هو الحيّة العظيمة.

و

روي أنّه لمّا ألقاها صارت ثعبانا أشعر فاغرا «1» فاه، بين لحييه ثمانون ذراعا، وضع لحيه الأسفل على الأرض، و لحيه الأعلى على سور القصر. ثمّ توجّه نحو فرعون، فوثب فرعون من سريره و هرب و أحدث، و صاح: يا موسى أنشدك بالّذي أرسلك أن تأخذه و أنا أومن بك، و أرسل معك بني إسرائيل. و انهزم الناس مزدحمين، فمات منهم خمسة و عشرون ألفا، و يصيح فرعون: خذه يا موسى.

فأخذه موسى، فعاد عصا.

و اعلم أنّ عصا موسى كانت بصفة الجانّ في ابتداء النبوّة، كما حكاه اللّه تعالى في قوله: فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌ «2». أمّا عند فرعون فصارت بصفة الثعبان. و قيل: إنّه سبحانه شبّهها بالجانّ لسرعة حركتها و نشاطها و خفّتها، مع أنّها في جسم الثعبان، فلا منافاة.

و

روي أنّ هذه العصا كانت لآدم عليه السّلام من آس الجنّة حين أهبط، و كانت تدور بين أولاده، حتّى انتهت النوبة إلى شعيب، فكانت ميراثا له مع أربعين عصا كانت لآبائه. فلمّا استأجر شعيب موسى أمره بدخول بيت فيه العصيّ، و قال له: خذ عصا من تلك العصيّ. فوقعت تلك العصا بيد موسى، فاستردّها شعيب، و قال: خذ غيرها، حتّى

فعل ذلك سبع مرّات،

و قيل: ثلاث مرّات، في كلّ مرّة تقع يده عليها دون غيرها، فتركها في يده في المرّة الأخيرة.

______________________________

(1) أي: فاتحا.

(2) النمل: 10، القصص: 31.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 574

فلمّا خرج من عنده متوجّها إلى مصر و رأى نارا و أتى الشجرة، فناداه اللّه تعالى: أن يا موسى إنّي أنا اللّه، و أمره بإلقائها، فألقاها فصارت حيّة، فولّى هاربا.

فناداه اللّه: خذها و لا تخف. فأدخل يده بين لحييها فعادت عصا. فلمّا أتى فرعون ألقاها بين يديه، على ما تقدّم بيانه.

و قيل: كان الأنبياء عليهم السّلام يأخذون العصا تجنّبا من الخيلاء. و

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من خرج في سفر و معه عصا لوز مرّ، و تلا هذه الآية: وَ لَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ إلى قوله: وَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ «1» آمنه اللّه من كلّ سبع ضارّ، و من كلّ لصّ، و من كلّ ذات حمة «2»، حتى رجع إلى أهله و منزله، و كان معه سبعة و سبعون من المعقّبات، يستغفرون له حتّى يرجع و يضعها».

و قيل: أوّل من أخذ من أخذ العصا عند الخطبة في العرب قسّ بن ساعدة.

رويّ أنّ فرعون قال له: هل معك آية اخرى؟ قال: نعم. فأدخل يده في جيبه ثمّ أخرجها،

كما قال عزّ و جلّ: وَ نَزَعَ يَدَهُ أي: أخرجها من جيبه، أو من تحت إبطه فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ أي: بيضاء بياضا خارجا عن العادة، بحيث تجتمع عليها النظّارة. و قيل: بيضاء للنظّار، لا أنّها كانت بيضاء في جبلّتها.

و

روي أنّه عليه السّلام كان آدم شديد الأدمة، فأدخل يده في جيبه أو تحت إبطه ثمّ نزعها فإذا هي بيضاء نورانيّة، غلب شعاعها

شعاع الشمس.

قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ بالسحر، ماهر فيه.

و اعلم أنّه تعالى قال في سورة الشعراء: قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ «3». و قال هاهنا:

«قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ». و يمكن أن يكون قاله هو و قالوه أيضا، فحكى قوله هناك و قولهم هنا. أو قالوه عنه للناس على طريق التبليغ، كما يفعله الملوك، يبلّغ

______________________________

(1) القصص: 22- 28.

(2) الحمة: السمّ.

(3) الشعراء: 34.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 575

خواصّهم ما يرونه من الرأي إلى العامّة. و المعنى: قال الأشراف من قومه لمن دونهم في الرتبة، أصالة أو نيابة: «إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ».

يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بسحره فَما ذا تَأْمُرُونَ تشيرون في أن نفعل، من: أمرته فأمرني بكذا، إذا شاورته فأشار عليك برأي. و قيل: هذا قول الأشراف بعضهم لبعض على سبيل المشورة. و يحتمل أن يكون خطابهم إلى فرعون، و إنّما قالوا: «تأمرون» بلفظ الجمع على خطاب الملوك.

قالُوا لفرعون أَرْجِهْ وَ أَخاهُ أي: أخّر أمرهما حتّى ترى رأيك فيهما و تدبير أمرهما.

و أصله: أرجئه، كما قرأ أبو عمرو و أبو بكر و يعقوب، من: أرجأت. و كذلك:

أرجئهو، على قراءة ابن كثير و هشام عن ابن عامر على الأصل في الضمير. أو:

أرجهي، من: أرجيت، كما قرأ نافع في رواية ورش و إسماعيل و الكسائي. و أمّا قراءة نافع في رواية قالون: أرجه بحذف الياء، فللاكتفاء بالكسرة عنها. و أمّا قراءة عاصم و حمزة: أرجه بسكون الهاء، فلتشبيه المنفصل بالمتّصل، و جعل «جه» ك «إبل» في إسكان وسطه. و أمّا قراءة ابن ذكوان عن ابن عامر: أرجئه بالهمزة و كسر الهاء، فلا يرتضيه النحاة، فإنّ الهاء لا تكسر إلّا إذا كان قبلها كسرة أو ياء ساكنة.

و

وجهه أنّ الهمزة لمّا كانت تقلب ياء أجريت مجراها.

وَ أَرْسِلْ فِي الْمَدائِنِ التي حولك حاشِرِينَ جامعين للسحرة، يحشرون من يعلمونه منهم. و عن ابن عبّاس: هم أصحاب الشرط، أرسلهم في حشر السحرة، و كانوا اثنين و سبعين رجلا.

يَأْتُوكَ بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ ليجتمعوا و يعارضوا موسى فيغلبوه. و قرأ حمزة و الكسائي: بكلّ سحّار، فيه و في يونس «1». و يؤيّده اتّفاقهم عليه في الشعراء «2».

______________________________

(1) يونس: 79.

(2) الشعراء: 37.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 576

وَ جاءَ السَّحَرَةُ فِرْعَوْنَ بعد ما أرسل الشرط في طلبهم قالُوا إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ كلام مستأنف، كأنّه جواب سائل قال ما قالوا إذ جاؤا.

و قرأ ابن كثير و نافع و حفص عن عاصم: إن لنا، على الإخبار و إيجاب الأجر، كأنّهم قالوا: لا بدّ لنا من أجر. و التنكير للتعظيم.

قالَ نَعَمْ أي: إنّ لكم لأجرا وَ إِنَّكُمْ لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ عطف على ما سدّ مسدّه «نعم»، أي: إنّ لكم لأجرا و إنّكم لمن المقرّبين، زيادة على الجواب، أي: لا أقتصر على الأجر وحده، بل لكم مع الأجر ما يقلّ عنده الأجر، و هو التبجيل و التقريب. و قيل: إنّه قال لهم: تكونون أوّل من يدخل بي و آخر من يخرج.

قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ تخيير السحرة موسى مراعاة منهم لأدب حسن معه، كما يفعل أهل الصناعات إذا التقوا، أو إظهارا للجلادة، و لكن كانت رغبتهم في أن يلقوا قبله، فنبّهوا عليها بتغيير النظم، إذ مقتضى النظم: إمّا أن نلقي و إمّا أن تلقي، فيغيّروه إلى ما هو أبلغ، و هو إتيانهم بالجملة الاسميّة، و تعريف الخبر، و توسيط الفصل، و تأكيد ضميرهم المتّصل

بالمنفصل، فلذلك قالَ بل أَلْقُوا كرما و تسامحا، أو تحقيرا بهم، و قلّة مبالاة بهم، و وثوقا على شأنه، و ثقة بما كان بصدده من المعجز الإلهي و التأييد السماوي.

فَلَمَّا أَلْقَوْا سَحَرُوا أَعْيُنَ النَّاسِ بما أروهم ممّا لا حقيقة له في الخارج من الحيل و الشعبذة، كقوله: يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى «1»، بخلاف موسى وَ اسْتَرْهَبُوهُمْ و أرهبوهم إرهابا شديدا، كأنّهم طلبوا رهبتهم وَ جاؤُ بِسِحْرٍ عَظِيمٍ في فنّه.

روي أنّهم ألقوا حبالا غلاظا و خشبا طوالا، بعد أن لوّنوها بلون الحيّات، و جعلوا فيها الزئبق، فإذا هي أمثال الحيّات قد ملأت الأرض، و ركب بعضها بعضا.

______________________________

(1) طه: 66.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 577

و

روي أنّ فرعون قبل صدور السحر من السحرة دعا رؤساءهم و معلّميهم فقال لهم: ما صنعتم؟ قالوا: قد عملنا سحرا عظيما لا يطيقه سحرة أهل الأرض، إلّا أن يكون أمرا من السماء، فإنّه لا طاقة لنا به. و هم كانوا ثمانين ألفا.

و قيل: سبعين ألفا. و قيل: بضعة و ثلاثين ألفا. و قيل: كان يعلّمهم مجوسيّان من أهل نينوى. و قال فرعون: لا يغالب موسى إلّا بما هو منه، يعني: السحر.

وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فألقاها فصارت حيّة عظيمة فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ تبتلع ما يَأْفِكُونَ أي: ما يزوّرونه و يقلبونه عن الحقّ إلى الباطل، من:

الإفك، و هو الصرف و قلب الشي ء عن وجهه. و يجوز أن تكون «ما» مصدريّة، و هي مع الفعل بمعنى المفعول، أي: تلقف مأفوكهم. و قرأ حفص عن عاصم: تلقف بالتخفيف حيث كان.

و قيل: إنّها لمّا تلقّفت حبالهم و عصيّهم بأسرها أقبلت على الحاضرين، فهربوا و ازدحموا حتّى هلك جمع عظيم، ثمّ أخذها موسى فصارت عصا

كما كانت، و أعدم اللّه بقدرته تلك الأجرام العظيمة، إذ فرّقها أجزاء لطيفة. فقالت السحرة: لو كان هذا سحرا لبقيت حبالنا و عصيّنا.

فَوَقَعَ الْحَقُ فثبت، لظهور أمر موسى بهذه المعجزة البيّنة وَ بَطَلَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من السحر و المعارضة.

فَغُلِبُوا هُنالِكَ وَ انْقَلَبُوا صاغِرِينَ أي: صاروا أذلّاء منهزمين. أو رجعوا إلى المدينة أذلّاء مقهورين. و الضمير لفرعون و قومه.

وَ أُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ أي: جعلهم اللّه ملقين على وجوههم، تنبيها على أنّ الحقّ بهرهم «1» و اضطرّهم إلى السجود، بحيث لم يبق لهم تمالك. أو أنّ اللّه تعالى ألهمهم ذلك حتّى ينكسر فرعون بالّذين أراد بهم كسر موسى، و ينقلب الأمر

______________________________

(1) بهره، أي: غلبه وفاق عليه.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 578

عليه. أو مبالغة في سرعة خرورهم و شدّته، كأنّما ألقاهم ملق. أو أنّهم لم يتمالكوا ممّا رأوا، فكأنّهم ألقوا.

قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ أبدلوا الثاني من الأوّل، لئلّا يتوهّم أنّهم أرادوا به فرعون.

و عن قتادة: كانت السحرة أوّل النهار كفّارا سحرة، و في آخره شهداء بررة.

قالَ فِرْعَوْنُ آمَنْتُمْ بِهِ باللّه، أو بموسى. و الاستفهام فيه للإنكار. و قرأ حمزة و الكسائي و أبو بكر عن عاصم، و روح عن يعقوب، بتحقيق الهمزتين على الأصل. و قرأ حفص: آمنتم به على الإخبار. و قرأ نافع و ابن كثير و أبو عمرو و ابن عامر: ءامنتم، بهمزة و مدّة طويلة في تقدير ألفين. قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ قبل أن أرخّص لكم بالإيمان.

إِنَّ هذا لَمَكْرٌ مَكَرْتُمُوهُ أي: إنّ هذا الصنيع لحيلة احتلتموها أنتم و موسى فِي الْمَدِينَةِ في مصر قبل أن تخرجوا للميعاد لِتُخْرِجُوا مِنْها أَهْلَها يعني:

القبط، و تخلص لكم و لبني إسرائيل فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة ما

فعلتم.

و هو تهديد مجمل، تفصيله: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ أي: من كلّ شقّ طرفا. و عن الحسن: هو أن تقطع اليد اليمنى و الرجل اليسرى. ثُمَّ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ تفضيحا لكم، و تنكيلا لأمثالكم.

قيل: إنّه أوّل من سنّ ذلك، فشرعه اللّه تعالى للقطّاع، تعظيما لجرمهم.

قالُوا إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ بالموت لا محالة، فلا نبالي بوعيدك. أو إنّا لمنقلبون إلى ربّنا و ثوابه إن فعلت بنا ذلك، كأنّهم استطابوه شغفا على لقاء اللّه تعالى. أو مصيرنا و مصيرك إلى ربّنا، فيحكم بيننا.

وَ ما تَنْقِمُ مِنَّا و ما تعيب و تنكر منّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِآياتِ رَبِّنا لَمَّا جاءَتْنا أي: إلّا الايمان بآيات اللّه، و هو خير الأعمال، و أصل كلّ منفعة و خير. و مثله قول الشاعر:

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 579 و لا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم بهنّ فلول من قراع الكتائب

ثمّ فزعوا إلى اللّه فقالوا: رَبَّنا أَفْرِغْ عَلَيْنا صَبْراً أي: أفض علينا صبرا كثيرا حتّى يغمرنا، كما يفرغ الماء. أو صبّ علينا ما يطهّرنا من الآثام، و هو الصبر على وعيد فرعون. وَ تَوَفَّنا مُسْلِمِينَ ثابتين على الإسلام.

قيل: إنّه فعل بهم ما أوعدهم به. و قيل: إنه لم يقدر عليهم، لقوله: أَنْتُما وَ مَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ «1».

روي عن ابن عبّاس: أنّه لمّا آمن السحرة أسلم من بني إسرائيل ستّمائة ألف نفس، فأرادوا الفساد في الأرض، فخاف القبط منهم.

[سورة الأعراف (7): الآيات 127 الى 129]

وَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ أَ تَذَرُ مُوسى وَ قَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ قالَ سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَ نَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ وَ إِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ (127) قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَ اصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ

الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (128) قالُوا أُوذِينا مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (129)

وَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِ فِرْعَوْنَ تحريضا له على قتل موسى بعد أن أسلم السحرة و غيرهم أَ تَذَرُ مُوسى وَ قَوْمَهُ لِيُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ بتغيير الناس عليك،

______________________________

(1) القصص: 35.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 580

و دعوتهم إلى مخالفتك وَ يَذَرَكَ عطف على «يفسدوا»، لأنّه إذا تركهم و لم يمنعهم فكان ذلك مؤدّيا إلى ترك آلهته. أو جواب الاستفهام بالواو، كقول الحطيئة:

ألم أك جاركم و يكون بيني و بينكم المودّة و الإخاء

على معنى: أ يكون منك ترك موسى، و يكون منه تركه إيّاك؟

وَ آلِهَتَكَ معبوداتك. قيل: كان يعبد الكواكب. و قيل: صنع لقومه أصناما، و أمرهم أن يعبدوها تقرّبا إليه، و لذلك قال: أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى «1».

قالَ فرعون سَنُقَتِّلُ أَبْناءَهُمْ وَ نَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ أي: سنعيد عليهم كما كنّا نفعل من قتل الأبناء و استعباد النساء، ليعلم موسى أنّا على ما كنّا عليه من القهر و الغلبة، و لا يتوهّم أنّه المولود الّذي حكم المنجّمون و الكهنة بذهاب ملكنا على يده، و يعلم أنّ غلبته لا أثر لها في ملكنا. وَ إِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ غالبون، و هم مقهورون تحت أيدينا.

و لمّا سمع بنو إسرائيل قول فرعون و تضجّروا منه قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ تسكينا لهم و تسلية لقلوبهم: اسْتَعِينُوا في دفع الأعادي عنكم بِاللَّهِ وَ اصْبِرُوا على أذيّتهم.

ثم قال تقريرا للأمر بالاستعانة باللّه، و التثبّت بالأمر بالصبر: إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أي: ينقلها إلى من يشاء نقل المواريث، فيورّثكم بعد هلاك فرعون كما أورثها فرعون وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ

فهذا وعد لهم بالنصرة، و تذكير لما وعدهم من إهلاك القبط و توريثهم ديارهم، و تحقيق له، و بشارة بأنّ الخاتمة المحمودة للمتمسّكين بالتقوى، و أنّ المشيئة متناولة لهم. و اللام في الأرض تحتمل العهد، و هو أرض مصر، أو للجنس.

قالُوا أي: بنو إسرائيل أُوذِينا بقتل الأبناء و استعباد النساء

______________________________

(1) النازعات: 24.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 581

مِنْ قَبْلِ أَنْ تَأْتِيَنا بالرسالة وَ مِنْ بَعْدِ ما جِئْتَنا أيضا، فإنّ فرعون يتوعّدنا، و يأخذ أموالنا، و يكلّفنا الأعمال الشاقّة، فلم ينفعنا مجيئك إيّانا.

قالَ عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُهْلِكَ عَدُوَّكُمْ فرعون وَ يَسْتَخْلِفَكُمْ أي: يملّككم ما كانوا يملكونه فِي الْأَرْضِ في أرض مصر. و هذا تصريح بما كنّى عنه أوّلا، لمّا رأى أنّهم لم يتسلّوا بذلك. و لعلّه أتى بفعل الطمع لعدم جزمه بأنّهم المستخلفون بأعيانهم أو أولادهم. و قد روي أنّ مصر إنّما فتح لهم في زمن داود.

و قال الزجّاج: «عسى» طمع و إشفاق، إلّا أنّ ما يطمع اللّه فيه فهو واجب.

و هو معنى قول أكثر المفسّرين: «عسى» من اللّه واجب. فالمعنى: أوجب ربّكم على نفسه أن يهلك عدوّكم فرعون و قومه.

فَيَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ فيرى الكائن ممّا تعملون، من شكر و كفران و طاعة و عصيان، فيجازيكم على حسب ما يوجد منكم. و حقيقة معناه أن يظهر معلومه، أي: يبتليكم بالنعمة ليظهر شكركم، كما ابتلاكم بالمحنة ليظهر صبركم. و مثله:

وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ الصَّابِرِينَ «1».

[سورة الأعراف (7): الآيات 130 الى 132]

وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ بِالسِّنِينَ وَ نَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (130) فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا هذِهِ وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَ مَنْ مَعَهُ أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (131) وَ قالُوا

مَهْما تَأْتِنا بِهِ مِنْ آيَةٍ لِتَسْحَرَنا بِها فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (132)

ثمّ بيّن سبحانه ما فعله بآل فرعون، و أقسم عليه تأكيدا له، فقال:

______________________________

(1) محمد: 31.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 582

وَ لَقَدْ أَخَذْنا آلَ فِرْعَوْنَ آل الرجل: خاصّته الّذين يؤول أمره إليهم، و أمرهم إليه.

و معناه: عاقبنا قوم فرعون بِالسِّنِينَ بسنيّ القحط، أي: بالجدوب و القحوط، لقلّة الأمطار و المياه. و السنة من الأسماء الغالبة، كالدابّة و النجم، غلبت على عام القحط، لكثرة ما يذكر عنه و يؤرّخ به، ثمّ اشتقّ منها فقيل: أسنت القوم، إذا قحطوا.

وَ نَقْصٍ مِنَ الثَّمَراتِ بكثرة الآفات لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ لكي يتنبّهوا على أنّ ذلك بشؤم كفرهم و معاصيهم فيتّعظوا، أو ترقّ قلوبهم بالشدائد فيفزعوا إلى اللّه تعالى، و يرغبوا فيما عنده.

و عن ابن عبّاس: أنّ السنين كانت لباديتهم و أهل مواشيهم، و أما نقص الثمرات فكان في أمصارهم.

و عن كعب: يأتي على الناس زمان لا تحمل النخلة إلّا تمرة.

قيل: عاش فرعون أربعمائة سنة، و لم ير مكروها في ثلاثمائة و عشرين سنة، و لو أصابه في تلك المدّة وجع أو جوع أو حمّى لما ادّعى الربوبيّة.

فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ من الخصب و السعة قالُوا لَنا هذِهِ لأجلنا، مختصّة بنا، و نحن مستحقّوها. و اللام مثلها في قولك: الجلّ للفرس.

وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ من جدب و بلاء يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَ مَنْ مَعَهُ يتشاءموا بهم، و يقولوا هذا بشئومهم: و لو لا مكانهم لما أصابتنا، كما قال الكفّار لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: هذه من عندك. و هذا إغراق في وصفهم بالغباوة و القساوة، فإنّ الشدائد- مع أنّها ترقّق القلوب و تذلّل الطبائع، سيّما بعد مشاهدة الآيات- لم تؤثّر فيهم،

بل زادوا عندها عتوّا و انهماكا في الغيّ.

و إنّما عرّف الحسنة و ذكرها مع أداة التحقيق- و هي كلمة «إذا»- لكثرة وقوعها، و تعلّق الإرادة بإحداثها بالذات. و نكّر السيّئة و أتى بها مع حرف الشكّ، لندورها، و عدم القصد لها إلّا بالتبع.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 583

أَلا إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ أي: سبب خيرهم و شرّهم عند اللّه، و هو حكمه و مشيئته، و اللّه هو الّذي يشاء ما يصيبهم من الحسنة و السيّئة، كقوله: قُلْ كُلٌّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ «1». أو سبب شؤمهم عند اللّه، و هو أعمالهم المكتوبة عنده، فإنّها الّتي ساقت إليهم ما يسوءهم. وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أنّ ما يصيبهم من اللّه، أو من شؤم أعمالهم.

وَ قالُوا مَهْما أصلها «ما» الشرطيّة، ضمّت إليها «ما» المزيدة، ثمّ قلبت ألفها هاء، استثقالا لتكرير المتجانسين. و قيل: مركّبة من «مه» الّذي يصوّت به الكافّ و «ما» للجزاء، كأنّه قيل: كفّ ما تأتنا به. و محلّها الرفع على الابتداء، أو النصب بفعل يفسّره قوله: تَأْتِنا بِهِ أي: أيّما شي ء تحضرنا تأتنا به.

مِنْ آيَةٍ بيان ل «مهما». و إنّما سمّوها آية على زعم موسى، لانتفاء اعتقادهم بها، و لذلك قالوا: لِتَسْحَرَنا بِها أعيننا و تشبّه علينا. و الضمير في «به» و «بها» باعتبار اللفظ و المعنى، فإنّه في معنى الآية. و المعنى: أنّهم قالوا لموسى: أيّ شي ء تأتنا به من الآيات لتسحرنا بالتموّه علينا بها. فَما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ بمصدّقين. أرادوا أنّهم مصرّون على تكذيبهم إيّاه و إن أتى بجميع الآيات.

[سورة الأعراف (7): الآيات 133 الى 137]

فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ وَ الْجَرادَ وَ الْقُمَّلَ وَ الضَّفادِعَ وَ الدَّمَ آياتٍ مُفَصَّلاتٍ فَاسْتَكْبَرُوا وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (133) وَ لَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ

قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ وَ لَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ (134) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ هُمْ بالِغُوهُ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (135) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِّ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ (136) وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا الَّتِي بارَكْنا فِيها وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ بِما صَبَرُوا وَ دَمَّرْنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَ قَوْمُهُ وَ ما كانُوا يَعْرِشُونَ (137)

______________________________

(1) النساء: 78.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 584

ثمّ زاد اللّه سبحانه في الآيات تأكيدا لأمر موسى عليه السّلام، فقال: فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الطُّوفانَ ما طاف بهم و غشي أماكنهم و حروثهم، من مطر أو سيل.

قيل: إنّه أرسل عليهم الماء ثمانية أيّام في ظلمة شديدة، لا يقدر أحد أن يخرج من بيته. و دخل الماء بيوتهم حتّى قاموا و بلغ إلى تراقيهم، و من جلس غرق. و كانت بيوت موسى و سائر بني إسرائيل منضمّة ببيوتهم، فلم يدخل فيها قطرة، و ركد على أراضيهم، فمنعهم من الحرث و التصرّف فيها، و دام ذلك عليهم أسبوعا. فقالوا لموسى: ادع لنا ربّك يكشف عنّا و نحن نؤمن بك، فدعا فكشف الكلأ و الزرع ما لم يعهد مثله، و لم يؤمنوا. و قيل: المراد بالطوفان الطاعون.

وَ الْجَرادَ أي: أرسل عليهم الجراد بعد الطوفان، فأكلت عامّة زروعهم و ثمارهم، ثمّ أكلت كلّ شي ء حتّى الأبواب و سقوف البيوت و الثياب، و لم يدخل بيوت بني إسرائيل. ففزعوا إلى موسى ثانيا، فدعا و خرج إلى الصحراء و أشار بعصاه نحو المشرق و المغرب، فرجعت إلى النواحي الّتي جاءت منها، فلم يؤمنوا.

زبدة التفاسير،

ج 2، ص: 585

وَ الْقُمَّلَ و أرسل عليهم القمّل بعد ارتفاع عذاب الجراد. قيل: هي كبار القردان «1». و قيل: أولاد الجراد قبل نبات أجنحتها. و قيل: البراغيث. و كان يقع في أطعمتهم، و يدخل بين أثوابهم و جلودهم فيمصّها، ففزعوا إليه فرفع عنهم. فقالوا:

قد تحقّقنا الآن أنّك ساحر.

وَ الضَّفادِعَ أي: ثمّ أرسلناها عليهم بحيث لا يكشف ثوب و طعام إلّا وجدت فيه. و كانت تمتلئ منها مضاجعهم، و تثب إلى قدورهم و هي تغلي، و أفواههم عند التكلّم. فضجّوا و فزعوا إلى موسى، و قالوا: ارحمنا هذه المرّة و لا نعودنّ. فدعا فكشف عنهم، و لم يؤمنوا.

وَ الدَّمَ أي: بعد رفع عذاب الضفادع عنهم أرسلنا عليهم الدم، فصارت مياههم دما، و إذا شربه الاسرائيلي كان ماء. و كان القبطي يقول للاسرائيلي: خذ الماء في فيك و صبّه في فيّ، فكان إذا صبّه في فم القبطي تحوّل دما. و عطش فرعون حتّى أشرف على الهلاك، فكان يمصّ الأشجار الرطبة، فإذا مضغها صار ماءها الطيّب الحلو ملحا أجاجا. و قيل: المراد منه الرعاف.

آياتٍ نصب على الحال مُفَصَّلاتٍ مبيّنات ظاهرات، لا تشكل على عاقل أنّها آيات اللّه تعالى و نقمته عليهم. أو مفصّلات لامتحان أحوالهم أ يوفون بما وعدوا من أنفسهم أم ينكثون؟ إلزاما للحجّة عليهم، إذ كان بين كلّ آيتين منها شهر، و كان امتداد كلّ واحدة أسبوعا. و قيل: إنّ موسى لبث فيهم بعد ما غلب السحرة عشرين سنة يريهم هذه الآيات على مهل.

فَاسْتَكْبَرُوا عن الإيمان وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ مصرّين على الكفر و المعاصي.

وَ لَمَّا وَقَعَ عَلَيْهِمُ الرِّجْزُ يعني: العذاب المفصّل، أو الطاعون الّذي أرسله اللّه عليهم بعد ذلك قالُوا يا مُوسَى ادْعُ لَنا رَبَّكَ

بِما عَهِدَ عِنْدَكَ

______________________________

(1) القرد و القراد، و جمعه قردان: دويبّة تتعلّق بالبعير و نحوه، و هي كالقمّل للإنسان.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 586

«ما» مصدريّة، أي: بعهده عندك، و هو النبوّة. أو موصولة، أي: بالّذي عهدك، أو بالّذي عهده إليك أن تدعوه به فيجيبك كما أجابك في آياتك.

و هي صلة ل «ادع». أو حال من الضمير فيه، بمعنى: ادع اللّه متوسّلا إليه بما عهد عندك. أو متعلّق بمحذوف دلّ عليه التماسهم، مثل: أسعفنا إلى ما نطلب منك بحقّ ما عهد عندك. أو قسم مجاب بقوله: لَئِنْ كَشَفْتَ عَنَّا الرِّجْزَ لَنُؤْمِنَنَّ لَكَ لنصدّقنّ بنبوّتك. وَ لَنُرْسِلَنَّ مَعَكَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي: أقسمنا بعهد اللّه عندك لئن كشفت عنّا الرجز لنؤمننّ.

فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الرِّجْزَ إِلى أَجَلٍ إلى حدّ من الزمان هُمْ بالِغُوهُ لا محالة، فيعذّبون أو يهلكون. و هو وقت الغرق، أو الموت. و قيل: إلى أجل عيّنوه لإيمانهم. إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ جواب «لمّا» أي: فلمّا كشفنا عنهم فاجئوا النكث و بادروه من غير توقّف و تأمّل فيه.

فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فأردنا الانتقام منهم فَأَغْرَقْناهُمْ فِي الْيَمِ أي: البحر الّذي لا يدرك قعره. و قيل: هو لجّة البحر و معظم مائه. و اشتقاقه من التيمّم، لأنّ المستنفعين به يقصدونه. بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ أي: كان إغراقهم بسبب تكذيبهم بالآيات و عدم فكرهم فيها، حتّى صاروا غافلين عن نزول العذاب بهم. و قيل: الضمير للنقمة الّتي دلّ عليها قوله: «فانتقمنا».

وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ بالاستعباد و ذبح الأبناء من مستضعفيهم مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا يعني: أرض الشام، ملكها بنو إسرائيل بعد الفراعنة و العمالقة، و تمكّنوا في نواحيها الشرقيّة و الغربيّة كيف شاءوا الَّتِي بارَكْنا فِيها بأنواع الخصب

و السعة، من الزروع و الثمار و العيون و الأنهار.

وَ تَمَّتْ كَلِمَتُ رَبِّكَ الْحُسْنى عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أي: مضت، من قولك: تمّ عليّ الأمر، إذا مضى و استمرّ. و الحسنى تأنيث الأحسن، صفة للكلمة. و المعنى:

و مضت عليهم و اتّصلت بالإنجاز عدته إيّاهم بالنصرة و التمكين. و هو قوله: وَ نُرِيدُ

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 587

أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا إلى قوله: ما كانُوا يَحْذَرُونَ «1». بِما صَبَرُوا بسبب صبرهم على الشدائد.

وَ دَمَّرْنا و خرّبنا ما كانَ يَصْنَعُ فِرْعَوْنُ وَ قَوْمُهُ يعملونه من القصور و سائر العمارات وَ ما كانُوا يَعْرِشُونَ من الجنّات. أو ما كانوا يرفعون من البنيان، كصرح «2» هامان. و قرأ ابن عامر و أبو بكر: يعرشون بالضمّ.

و هذا آخر ما اقتصّ اللّه سبحانه من نبأ فرعون و القبط، و تكذيبهم بآيات اللّه تعالى.

[سورة الأعراف (7): الآيات 138 الى 141]

وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتَوْا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ قالُوا يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (138) إِنَّ هؤُلاءِ مُتَبَّرٌ ما هُمْ فِيهِ وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (139) قالَ أَ غَيْرَ اللَّهِ أَبْغِيكُمْ إِلهاً وَ هُوَ فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (140) وَ إِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (141)

ثمّ اقتصّ نبأ بني إسرائيل و ما أحدثوا بعده من الأمور الشنيعة، بعد إنقاذهم من فرعون و معاينتهم للآيات العظام، تسلية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ممّا رأى منهم،

______________________________

(1) القصص: 5- 6.

(2) الصرح: القصر و كلّ بناء عال.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 588

و إيقاظا للمؤمنين حتّى لا يغفلوا عن محاسبة أنفسهم و مراقبة أحوالهم، فقال:

وَ

جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ بأن جعلنا لهم فيه طرقا يابسة حتّى عبروا، ثمّ أغرقنا فرعون و قومه. و البحر هو النيل، نهر مصر.

روي أنّ موسى عليه السّلام عبر بهم يوم عاشوراء بعد إهلاك فرعون و قومه، فصاموه شكرا.

فَأَتَوْا فمرّوا عَلى قَوْمٍ يَعْكُفُونَ يقيمون و يواظبون عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ على عبادتها. قيل: كانت تماثيل بقر، و ذلك أوّل شأن العجل. و القوم كانوا من العمالقة الّذين أمر موسى بقتالهم. و قيل: من لخم. و هي حيّ من اليمن، منهم ملوك العرب في الجاهليّة. و قرأ حمزة: يعكفون بالكسر.

قالُوا أي: قال الجهّال من قومه يا مُوسَى اجْعَلْ لَنا إِلهاً انصب لنا مثالا نعبده كَما لَهُمْ آلِهَةٌ يعبدونها. و «ما» كافّة للكاف، و لذلك وقعت الجملة بعدها.

عن عليّ عليه السّلام: «أنّ يهوديّا قال له: اختلفتم بعد نبيّكم قبل أن يجفّ ماؤه.

فقال: قلتم: اجعل لنا آلهة، و لمّا تجفّ أقدامكم».

قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ وصفهم بالجهل المطلق و أكّده، لبعد ما صدر عنهم عن العقل ممّا قالوا، و للتعجّب منه بعد ما رأوا من الآيات الباهرة.

ثمّ قال تنبيها و إيقاظا: إِنَّ هؤُلاءِ إشارة إلى القوم مُتَبَّرٌ مكسّر مدمّر ما هُمْ فِيهِ من عبادة الأصنام. يعني: أنّ اللّه تعالى يهدم دينهم الّذي هم عليه، و يحطّم أصنامهم، و يجعلها رضاضا. وَ باطِلٌ و مضمحلّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من عبادتها فيما سلف. و إنّما بالغ في هذا الكلام بإيقاع «هؤلاء» اسم «إن»، و الإخبار عمّا هم فيه بالتبار، و عمّا فعلوا بالبطلان، و تقديم الخبرين في الجملتين الواقعتين خبرا ل «إنّ»، للتنبيه على أنّ الدمار لاحق بهم لا محالة، و أنّ الإحباط الكلّي لازم لما مضى عنهم، تنفيرا و تحذيرا عمّا طلبوا.

قالَ

أَ غَيْرَ اللَّهِ المستحقّ للعبادة أَبْغِيكُمْ إِلهاً أطلب لكم معبودا وَ هُوَ

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 589

فَضَّلَكُمْ عَلَى الْعالَمِينَ و الحال أنّه خصّكم بنعم لم يعطها غيركم. و الهمزة للإنكار و التعجّب من طلبهم عبادة غير اللّه تعالى، مع كونهم مغمورين في نعم اللّه. و فيه تنبيه على سوء معاملتهم، حيث قابلوا تخصيص اللّه إيّاهم من بين أمثالهم بما لم يستحقّوه تفضّلا، بأن قصدوا أن يشركوا به أخسّ شي ء من مخلوقاته.

ثمّ فصّل إعطاء النعم عليهم بقوله: وَ إِذْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ و اذكروا صنيعه تعالى معكم في هذا الوقت. و قرأ ابن عامر: أنجاكم. يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ يبغونكم شدّة العذاب، من: سام السلعة إذا طلبها. و هذا استئناف لبيان ما أنجاهم منه. أو حال من المخاطبين، أو من آل فرعون، أو منهما. يُقَتِّلُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ بدل منه مبيّن. و قرأ نافع: يقتلون بالتخفيف. وَ فِي ذلِكُمْ إشارة إلى الإنجاء أو العذاب بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ نعمة أو محنة عظيمة منه.

[سورة الأعراف (7): الآيات 142 الى 143]

وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ لَيْلَةً وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ أَرْبَعِينَ لَيْلَةً وَ قالَ مُوسى لِأَخِيهِ هارُونَ اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ (142) وَ لَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ قالَ لَنْ تَرانِي وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ فَسَوْفَ تَرانِي فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ (143)

ثمّ بيّن تعالى تمام نعمته على بني إسرائيل، فقال: وَ واعَدْنا مُوسى ثَلاثِينَ

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 590

لَيْلَةً لإعطاء التوراة. و هو شهر ذي القعدة. و قرأ أبو

عمرو و يعقوب: و وعدنا.

وَ أَتْمَمْناها بِعَشْرٍ من ذي الحجّة فَتَمَّ مِيقاتُ رَبِّهِ فتمّ ما وقّته اللّه له من الوقت و ضربه له أَرْبَعِينَ لَيْلَةً أي: بالغا هذا العدد. و نصبه على الحال.

و

روي أنّ موسى عليه السّلام وعد بني إسرائيل و هو بمصر: إن أهلك اللّه عدوّهم أتاهم بكتاب من عند اللّه فيه بيان ما يأتون و يذرون. فلمّا هلك فرعون سأل موسى ربّه الكتاب، فأمره بصوم ثلاثين يوما، فلمّا أتمّ الثلاثين أنكر خلوف «1» فيه، فتسوّك. فقالت الملائكة: كنّا نشمّ من فيك رائحة المسك، فأفسدته بالسواك.

و قيل: أوحى اللّه إليه: أما علمت أنّ خلوف فم الصائم أطيب عندي من ريح المسك؟ فأمره اللّه أن يزيد عليها عشرة أيّام من ذي الحجّة لذلك.

و قيل: أمره اللّه بأن يصوم ثلاثين يوما، و أن يعمل فيها بما يقرّبه من اللّه، ثم أنزلت عليه التوراة في العشر، و كلّم فيها.

و لقد أجمل ذكر الأربعين في سورة البقرة، و فصّلها هاهنا.

وَ قالَ مُوسى وقت خروجه إلى الميقات لِأَخِيهِ هارُونَ عطف بيان لأخيه اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي كن خليفتي فيهم وَ أَصْلِحْ ما يجب أن يصلح من أمورهم. أو كن مصلحا في حال غيبتي. وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ و لا تتّبع من سلك الإفساد، و لا تطع من دعاك إليه. أراد بذلك إصلاح قومه، و إن كان المخاطب به أخاه.

و قيل: إنّما أمر موسى أخاه هارون بأن يخلفه و ينوب عنه في قومه مع أنّ هارون كان نبيّا، لأنّ الرئاسة كانت لموسى عليه السّلام عليه و على أمّته، و لم يكن يجوز أن يقول هارون لموسى ذلك. و في هذا دلالة على أنّ منزلة الإمامة منفصلة من النبوّة و غير

داخلة فيها، و إنّما اجتمع الأمران لأنبياء مخصوصين، لأنّ هارون لو كان له

______________________________

(1) خلف خلوفا فم الصائم: تغيّرت رائحته و فسدت.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 591

القيام بأمر الأمّة من حيث كان نبيّا لما احتاج فيه إلى استخلاف موسى إيّاه و إقامته مقامه.

ثمّ ذكر سبحانه حديث الميقات، فقال: وَ لَمَّا جاءَ مُوسى لِمِيقاتِنا لوقتنا الّذي وقّتناه و حدّدناه. و اللام للاختصاص، فكأنّه قيل: اختصّ مجيئه لميقاتنا، كما تقول: أتيته لخمس خلون من الشهر. وَ كَلَّمَهُ رَبُّهُ من غير واسطة، كما يكلّم الملائكة. و تكليمه أن ينشئ الكلام منطوقا في بعض الأجرام، كما خلقه مخطوطا في اللوح، لأنّ الكلام عرض لا بدّ له من محلّ يقوم به. و

روي: أنّه عليه السّلام كان يسمع ذلك الكلام من كلّ جهة.

و عن ابن عبّاس: كلّمه أربعين يوما، و أربعين ليلة.

قالَ رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ المفعول الثاني محذوف، يعني: أرني نفسك أنظر إليك، أي: اجعلني متمكّنا من رؤيتك، بأن تتجلّى لي فأنظر إليك و أراك. و إنّما طلب الرؤية لقومه حين قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً «1»، و لذلك دعاهم سفهاء و ضلّالا، و قال لمّا أخذتهم الرجفة: أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا «2». و لم يسأل ذلك إلّا بعد أن أنكر عليهم و نبّههم على الحقّ، فلجّوا و تمادوا في لجاجهم، فأراد أن يسمعوا النصّ من عند اللّه باستحالة الرؤية، و هو قوله: قالَ لَنْ تَرانِي ليتيقّنوا و تزول شبهتهم.

و معنى «لن» تأكيد النفي الّذي يعطيه «لا»، و ذلك أنّ «لا» ينفي المستقبل، تقول: لا أفعل غدا، فإذا أكّدت النفي قلت: لن افعل غدا. و الأصحّ أنّ «لن» ينفي مدخوله على وجه التأبيد، كما قال: لَنْ

يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ «3». فقوله:

لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ «4» نفي للرؤية فيما يستقبل. و قوله: «لن تراني» تأكيد و بيان أنّ

______________________________

(1) البقرة: 55.

(2) الأعراف: 155.

(3) الحجّ: 73.

(4) الأنعام: 103.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 592

الرؤية منافية لصفاته.

و إنّما لم يقل موسى: أرهم ينظروا، لأنّ اللّه سبحانه إنّما كلّم موسى و هم يسمعون، فلمّا سمعوا كلام ربّ العزّة أرادوا أن يري موسى ذاته فيبصروه معه، كما أسمعه كلامه فسمعوه منه، إرادة مبنيّة على قياس فاسد، فلذلك قال موسى: «أرني أنظر إليك». و لأنّه إذا زجر عمّا طلب، و أنكر عليه في نبوّته و اختصاصه و زلفته عند اللّه، و قيل له: لن تراني، كان غيره أولى بالإنكار. و لأنّ الرسول إمام أمّته، فكان ما يخاطب به راجعا إليهم.

و قوله: «أنظر إليك» و ما فيه من معنى المقابلة الّتي هي محض التشبيه و التجسيم، دليل على أنّه ترجمة عن مقترحهم و حكاية لقولهم. و كيف طلب موسى ذلك لنفسه و هو أعلم الناس باللّه و صفاته، و ما يجوز عليه و ما لا يجوز، و بتعاليه عن الرؤية الّتي هي إدراك ببعض الحواسّ؟! و ذلك إنّما يصحّ فيما كان في جهة، و ما ليس بجسم و لا عرض فمحال أن يكون في جهة. و جلّ صاحب الجبل أن يجعل اللّه منظورا إليه، مقابلا بحاسّة النظر، فكيف بمن هو أعرق في معرفة اللّه؟! و إنّما قال: «لن تراني» و لم يقل كما قال موسى، لأنّه لمّا كان «أرني» بمعنى:

اجعلني متمكّنا من الرؤية الّتي هي الإدراك، علم أنّ الطلب هو الرؤية، لا النظر الّذي لا إدراك معه، فقيل: لن تراني، و لم يقل: لن تنظر إليّ.

و قوله: وَ

لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ استدراك يريد أن يبيّن به أنّه لا يطيقه.

و المعنى: أنّ النظر إليّ محال فلا تطلبه، و لكن عليك أن تنظر إلى الجبل كيف أفعل به؟ و كيف أجعله دكّا بسبب طلبك الرؤية؟ لتستعظم ما أقدمت عليه بما أريك من عظم أثره. كأنّه عزّ و جلّ حقّق عند طلب الرؤية ما مثله عند نسبة الولد إليه في قوله: وَ تَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً.

فَإِنِ اسْتَقَرَّ مَكانَهُ كما كان مستقرّا ثابتا فَسَوْفَ تَرانِي تعليق لوجود الرؤية بوجود ما لا يكون، من استقرار الجبل مكانه حين يدكّه دكّا و يسوّيه بالأرض.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 593

فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ فلمّا ظهر له عظمته و اقتداره، و تصدّى له أمره و إرادته جَعَلَهُ دَكًّا مدكوكا مفتّتا. مصدر بمعنى مفعول، كضرب الأمير. و الدكّ و الدقّ أخوان، كالشكّ و الشقّ. و قرأ حمزة و الكسائي: دكّاء. و هي اسم للرابية الناشزة من الأرض كالدكّة. أو أرضا دكّاء، أي: مستوية. و منه قولهم: ناقة دكّاء للّتي لا سنام لها.

قيل: ساخ في الأرض حتّى فني.

و قيل: تقطّع أربع قطع: قطعة ذهبت نحو المشرق، و قطعه ذهبت نحو المغرب، و قطعة سقطت في البحر، و قطعة صارت رملا.

و

في الحديث: صار الجبل ستّة أجبل: ثلاثة بالمدينة، و ثلاثة بمكّة، فالّتي بالمدينة: أحد و ورقان و رضوي، و الّتي بمكّة: ثور و ثبير و حراء.

وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً مغشيّا عليه غشية كالموت من هول ما رأى. و الصعق من باب: فعلته ففعل، تقول: صعقته فصعق. و أصله من الصاعقة.

و عن ابن عبّاس: أخذته الغشية يوم الخميس يوم عرفة، و أفاق عشيّة الجمعة. و أمّا السبعون الّذين كانوا معه فقد ماتوا

كلّهم، لقوله: ثُمَّ بَعَثْناكُمْ مِنْ بَعْدِ مَوْتِكُمْ «1».

و

روي «2» أنّ الملائكة مرّت عليه و هو مغشيّ عليه، فجعلوا يلكزونه بأرجلهم و يقولون: يا ابن النساء الحيّض أطمعت في رؤية ربّ العزّة؟

______________________________

(1) البقرة: 56.

(2) أوردها في الكشّاف (2: 155). وليت المفسّر «قدّس سرّه» لم يذكرها هنا.

و الجدير الأليق تنزيه الملائكة عليهم السّلام- و هم عباد مكرمون لا يسبقونه بالقول و هم بأمره يعملون (سورة الأنبياء: 26- 27)- عن مثل هذا الكلام الجافي، و إهانة موسى كليم اللّه عليه السّلام باللكز بالرجل، و الحطّ من كرامته، و خطابه بما لا يخاطب به إلا السفلة الرعاع. و هي رواية غير مسندة، و تشبه أن تكون من الإسرائيليّات، و أقاصيص المهوّسين، و خرافات الجاهلين.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 594

فَلَمَّا أَفاقَ من صعقته قالَ تعظيما لما رأى سُبْحانَكَ أنزّهك ممّا لا يجوز عليك تُبْتُ إِلَيْكَ من الجرأة و الإقدام على تلك المقالة العظيمة بغير إذنك، و إن كان لغرض صحيح وَ أَنَا أَوَّلُ الْمُؤْمِنِينَ بأنّك لا ترى.

قال صاحب «1» الكشّاف: «فانظر أيّها الطالب للحقّ، و السالك في طريق الرشاد، إلى إعظام اللّه أمر الرؤية في هذه الآية، و كيف أرجف الجبل بطالبيها، و جعله دكّا، و أصعقهم و لم يخلّ كليمه من نفيان «2» ذلك، مبالغة في إعظام الأمر؟

و كيف سبّح ربّه ملتجأ إليه، و تاب من إجراء تلك الكلمة على لسانه، فقال: و أنا أوّل المؤمنين؟ ثمّ تعجّب من المتسمّين بالإسلام كيف اتّخذوا هذه العظيمة مذهبا؟ نعوذ باللّه من الأهواء المضلّة، و الطرق الملحدة».

و قيل في الآية وجه آخر: و هو أن يكون المراد بقوله: «أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ» عرّفني نفسك تعريفا واضحا جليّا، بإظهار بعض آيات الآخرة الّتي تضطرّ الخلق

إلى معرفتك. «أنظر إليك» أعرفك معرفة ضروريّة كأنّي أنظر إليك، كما جاء في الحديث: «سترون ربّكم كما ترون القمر ليلة البدر» بمعنى: ستعرفونه معرفة جليّة مثل أبصاركم القمر إذا استوى بدرا. «قالَ لَنْ تَرانِي» لن تطيق معرفتي على هذه الطريقة، و لن تحتمل قوّتك تلك الآية. «وَ لكِنِ انْظُرْ إِلَى الْجَبَلِ» فإنّي أورد عليه آية من تلك الآيات، فإن ثبت لتجلّيها و استقرّ مكانه فسوف تثبت لها و تطيقها. «فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ» فلمّا ظهرت للجبل آية من آيات ربّه «جَعَلَهُ دَكًّا وَ خَرَّ مُوسى صَعِقاً» لعظم ما رأى. «فَلَمَّا أَفاقَ قالَ سُبْحانَكَ تُبْتُ إِلَيْكَ» ممّا اقترحت و تجاسرت، و أنا من المؤمنين بعظمتك و جلالك.

______________________________

(1) الكشّاف 2: 156.

(2) النفيان: ما تنفيه الريح في أصول الشجر من التراب. و المراد هنا: ما يتطاير من أجزاء الجبل عند اندكاكه.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 595

[سورة الأعراف (7): الآيات 144 الى 147]

قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي فَخُذْ ما آتَيْتُكَ وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (144) وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلاً لِكُلِّ شَيْ ءٍ فَخُذْها بِقُوَّةٍ وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ (145) سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ لا يُؤْمِنُوا بِها وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِّ يَتَّخِذُوهُ سَبِيلاً ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ (146) وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ لِقاءِ الْآخِرَةِ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (147)

ثمّ أخبر سبحانه عن عظيم نعمته على موسى بالاصطفاء، و إجلال القدر، و أمره إيّاه بالشكر، بقوله: قالَ يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ اخترتك عَلَى النَّاسِ أي:

الموجودين في زمانك. و هارون و إن كان نبيّا كان مأمورا باتّباعه، و لم يكن كليما و لا صاحب شرع. بِرِسالاتِي يعني: أسفار التوراة. و قرأ نافع و ابن كثير:

برسالتي. وَ بِكَلامِي و بتكليمي إيّاك فَخُذْ ما آتَيْتُكَ أعطيتك من الرسالة و الحكمة وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ على النعمة في ذلك. روي أنّ سؤال الرؤية يوم عرفة، و إعطاء التوراة يوم النحر.

وَ كَتَبْنا لَهُ فِي الْأَلْواحِ يريد ألواح التوراة. قيل: كانت سبعة ألواح. و قيل:

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 596

عشرة. و قيل: لوحين، و إنّها كانت من زمرّد. و قيل: زبرجد خضراء أو ياقوتة حمراء. و قيل: كانت من صخرة صمّاء ليّنها اللّه تعالى لموسى، فقطعها بيده أو شقّها بأصابعه. و قيل: كانت من خشب. و قيل: أنزلت التوراة و هي سبعون وقر «1» بعير، يقرأ الجزء منه في سنة، لم يقرأها إلّا أربعة نفر: موسى، و يوشع، و عزير، و عيسى.

مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ احتاجت إليه بنو إسرائيل في دينهم من المواعظ و تفصيل الأحكام، و الحلال و الحرام، و ذكر الجنّة و النار، و غير ذلك من العبر و الأخبار مَوْعِظَةً وَ تَفْصِيلًا لِكُلِّ شَيْ ءٍ بدل من الجارّ و المجرور، أي: كتبنا كلّ شي ء من المواعظ و تفصيل الأحكام.

فَخُذْها على إضمار القول عطفا على «كتبنا»، أي: فقلنا له: خذها. أو بدل من قوله: «فَخُذْ ما آتَيْتُكَ». و الهاء للألواح، أو لكلّ شي ء، فإنّه بمعنى الأشياء، أو للرسالات. بِقُوَّةٍ بجدّ و عزيمة، فعل أولي العزم من الرسل.

وَ أْمُرْ قَوْمَكَ يَأْخُذُوا بِأَحْسَنِها أي: بأحسن ما فيها، كالصبر و العفو بالإضافة إلى الانتصار و الاقتصاص، على طريقة الندب و الحثّ على الأفضل، كقوله: وَ اتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ

إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ «2». أو بواجباتها، فإنّ الواجب أحسن من غيره. و يجوز أن يراد بالأحسن البالغ في الحسن مطلقا لا بالإضافة، و هو المأمور به واجبا كان أو ندبا، كقولهم: الصيف أحرّ من الشتاء.

سَأُرِيكُمْ دارَ الْفاسِقِينَ دار فرعون و قومه بمصر خاوية على عروشها، لفسقهم. أو منازل عاد و ثمود و أضرابهم، لتعتبروا فلا تفسقوا. أو دارهم في الآخرة، و هي جهنّم.

و في تفسير عليّ بن إبراهيم «3» أنّ معناه: «يجيئكم قوم فسّاق تكون الدولة

______________________________

(1) الوقر: الحمل الثقيل.

(2) الزمر: 55.

(3) تفسير القمّي 1: 240.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 597

لهم»، كقوله: وَ كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ بَعْضاً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ «1».

سَأَصْرِفُ عَنْ آياتِيَ المنصوبة في الآفاق و الأنفس الَّذِينَ يَتَكَبَّرُونَ فِي الْأَرْضِ بالطبع على قلوبهم و خذلانهم، فلا يتفكّرون فيها، و لا يعتبرون بها.

و

في الحديث: «إذا عظّمت أمّتي الدنيا نزع عنها هيبة الإسلام، و إذا تركوا الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر حرمت بركة الوحي».

و قيل: معناه: سأصرفهم عن إبطالها و إن اجتهدوا، كما اجتهد فرعون في إبطال آية موسى، فأبى اللّه إلّا علوّ أمره، و هلاك فرعون و قومه.

و قوله: بِغَيْرِ الْحَقِ صلة «يتكبّرون» أي: يتكبّرون بما ليس بحقّ، و هو دينهم الباطل. أو حال من فاعله، يعني: يتكبّرون غير محقّين، لأنّ التكبّر بالحقّ للّه تعالى وحده.

وَ إِنْ يَرَوْا كُلَّ آيَةٍ من الآيات المنزلة عليهم أو المعجزة لا يُؤْمِنُوا بِها لعنادهم و اختلال عقولهم، بسبب انهماكهم في الهوى و التقليد. و هو يؤيّد الوجه الأوّل.

وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الرُّشْدِ الصواب و الحقّ لا يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا لاستيلاء الشيطنة عليهم. و قرأ حمزة و الكسائي: الرّشد بفتحتين.

وَ إِنْ يَرَوْا سَبِيلَ الغَيِ الضلال يَتَّخِذُوهُ سَبِيلًا ذلِكَ الصرف بِأَنَّهُمْ

كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ كانُوا عَنْها غافِلِينَ بسبب تكذيبهم بآيات اللّه، و عدم تدبّرهم لها.

و يجوز أن ينصب لفظة «ذلك» على المصدر، أي: سأصرف ذلك الصرف بسببهما.

وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا بحججنا و معجزات رسلنا وَ لِقاءِ الْآخِرَةِ من إضافة المصدر إلى المفعول به، أو إلى الظرف، أي: و لقائهم الآخرة، أو ما وعد اللّه تعالى في الآخرة حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ لا ينتفعون بها هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ إلّا جزاء أعمالهم.

______________________________

(1) الأنعام: 129.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 598

و اعلم أنّ هاتين الآيتين اعتراض بين قصّة موسى و الخطاب لنبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و المراد أنّه يصرف المتكبّرين عن آياته كما صرف فرعون عن موسى. و يجوز أن تكونا ليستا باعتراض، و الخطاب لموسى زيادة في البيان عن إتمام ما وعده من إهلاك أعدائه، و صرفهم عن الاعتراض على آياته. و معناه: خذها آمنا من طعن الطاعنين.

[سورة الأعراف (7): الآيات 148 الى 151]

وَ اتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ مِنْ حُلِيِّهِمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَ لا يَهْدِيهِمْ سَبِيلاً اتَّخَذُوهُ وَ كانُوا ظالِمِينَ (148) وَ لَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ وَ رَأَوْا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا وَ يَغْفِرْ لَنا لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (149) وَ لَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي مِنْ بَعْدِي أَ عَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ وَ أَلْقَى الْأَلْواحَ وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ يَجُرُّهُ إِلَيْهِ قالَ ابْنَ أُمَّ إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ وَ لا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (150) قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي وَ أَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (151)

ثمّ أخبر عن قصّة بني إسرائيل، و ما أحدثوا

عند خروج موسى عليه السّلام إلى ميقات ربّه، فقال: وَ اتَّخَذَ قَوْمُ مُوسى مِنْ بَعْدِهِ من بعد خروجه إلى الطور مِنْ حُلِيِّهِمْ الّتي استعاروها من قوم فرعون حين همّوا بالخروج من مصر، و بقيت في

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 599

أيديهم بعد هلاك فرعون و قومه. و أضافها إليهم، لأنّها كانت في أيديهم، أو ملكوها بعد هلاكهم. و هو جمع حلي، كثدي و ثديّ. و قرأ حمزة و الكسائي بالكسر «1» بالاتباع، كدليّ «2». و يعقوب على الإفراد «3»، لأنّه اسم جنس.

عِجْلًا جَسَداً أي: جسدا من الذهب خاليا من الروح. و عن وهب بدنا ذا لحم و دم. لَهُ خُوارٌ صوت البقر.

قيل: إنّ السامريّ صاغ العجل من الحليّ، فالقى في فمه من تراب أثر فرس جبرئيل عليه السّلام الّذي قبضه يوم قطع البحر، فصار عجلا حيّا فصاح.

و قيل: صاغه بنوع من الحيل، فتدخل الريح جوفه و تصوّت.

و إنّما نسب الاتّخاذ إليهم و هو فعله، إمّا لأنّهم رضوا به. أو لأنّ السامريّ بين ظهرانيّهم فعل ذلك، كما يقال: بنو تميم قالوا كذا و فعلوا كذا، و القائل و الفاعل كان واحدا منهم. أو لأنّ المراد اتّخاذهم إيّاه إلها، فحذف المفعول الثاني.

أَ لَمْ يَرَوْا حين اتّخذوه إلها أَنَّهُ لا يُكَلِّمُهُمْ وَ لا يَهْدِيهِمْ سَبِيلًا حتّى لا يتّخذوه معبودا. و هذا تقريع على فرط ضلالتهم و إخلالهم بالنظر. و المعنى: ألم يروا حين اتّخذوه إلها أنّه لا يقدر على كلام، و لا على إرشاد سبيل كآحاد البشر، حتّى حسبوا أنّه خالق الأجسام و القوى و القدر؟! ثمّ ابتدأ فقال: اتَّخَذُوهُ تكرير للذمّ، أي: أقدموا على ما أقدموا عليه من الأمر المنكر الّذي هو اتّخاذ العجل إلها وَ كانُوا ظالِمِينَ

واضعين الأشياء في غير مواضعها، فلم تكن عبادة العجل بدعا منهم.

وَ لَمَّا سُقِطَ فِي أَيْدِيهِمْ كناية عن اشتداد ندمهم على عبادة العجل، فإنّ

______________________________

(1) أي: حليّهم.

(2) جمع الدلو.

(3) أي: حليهم.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 600

زبدة التفاسير ج 2 643

النادم المتحسّر يعضّ يده غمّا، فتصير يده مسقوطا فيها، لأنّ فاه وقع فيها.

و «سقط» مسند إلى «في أيديهم». وَ رَأَوْا و علموا أَنَّهُمْ قَدْ ضَلُّوا باتّخاذ العجل حين رجع إليهم موسى قالُوا لَئِنْ لَمْ يَرْحَمْنا رَبُّنا بإنزال التوبة وَ يَغْفِرْ لَنا بالتجاوز عن الخطيئة لَنَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ و قرأ حمزة و الكسائي بالتاء «1»، و ربّنا على النداء.

وَ لَمَّا رَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً شديد الغضب. و قيل: حزينا.

قالَ بِئْسَما خَلَفْتُمُونِي أي: بئسما فعلتم خلفي حيث عبدتم العجل، و الخطاب للعبدة. أو قمتم مقامي فلم تكفّوا العبدة، و الخطاب لهارون و المؤمنين معه. و «ما» نكرة موصوفة تفسّر المستكن في «بئس» و المخصوص بالذمّ محذوف، تقديره:

بئس خلافة خلفتمونيها من بعدي خلافتكم.

و معنى قوله: مِنْ بَعْدِي بعد انطلاقي إلى ميقات ربّي. أو من بعد ما رأيتم منّي من التوحيد و التنزيه، و الحمل عليه و الكفّ عمّا ينافيه.

أَ عَجِلْتُمْ أَمْرَ رَبِّكُمْ أ تركتموه غير تامّ. يقال: عجل عن الأمر، إذا تركه غير تامّ. و نقيضه: تمّ عليه، و أعجله عنه غيري. و يضمّن معنى «سبق»، فيعدّى تعديته.

فيقال: عجلت الأمر. و الأمر هو انتظار موسى حافظين لعهده بعده، أي: أ عجلتم وعد ربّكم الّذي وعدنيه لكم من الأربعين، و قدّرتم موتي، و غيّرتم بعدي كما غيّرت الأمم بعد أنبيائهم؟

قيل: إنّ السامريّ قال لهم: إنّ موسى لن يرجع، و أنّه قد مات.

روي أنّهم عدّوا عشرين يوما بلياليها، فجعلوها أربعين،

ثمّ أحدثوا ما أحدثوا.

وَ أَلْقَى الْأَلْواحَ طرحها من شدّة الغضب و فرط الضجر، حميّة للدين.

______________________________

(1) أي: قرءا: لم ترحمنا ربّنا ....

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 601

روي أنّ التوراة كانت سبعة أسباع في سبعة أسباع في سبعة ألواح، فلمّا ألقاها انكسرت، فرفع ستّة اسباعها، و كان فيها تفصيل كلّ شي ء، و بقي سبع كان فيه المواعظ و الأحكام.

وَ أَخَذَ بِرَأْسِ أَخِيهِ بشعر رأسه يَجُرُّهُ إِلَيْهِ لشدّة ما ورد عليه من استعظام فعلهم، مفكّرا فيما كان منهم، كما يفعل الإنسان بنفسه مثل ذلك عند الغضب و شدّة الفكر، فيقبض على لحيته و يعضّ شفته. فأجرى موسى أخاه هارون مجرى نفسه، فصنع به ما يصنع الإنسان بنفسه عند حالة الغضب و الفكر.

و قال المفيد رحمه اللّه: أراد موسى أن يظهر ما اعتراه من شدّة الغضب على قومه، بسبب ما صاروا إليه من الكفر و الارتداد، فصدر ذلك منه للتألّم بضلالهم، و إعلامهم عظم الحال عنده، لينزجروا عن مثله في مستقبل الأحوال. و هارون كان أكبر منه بثلاث سنين. و كان حمولا ليّنا، و لذلك كان أحبّ إلى بني إسرائيل.

قالَ ابْنَ أُمَ ذكر الأمّ ليرقّقه عليه، فإنّ ذكرها أبلغ في الاستعطاف. و كانا من أب و أمّ. و قرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي و أبو بكر عن عاصم: ابن أمّ بالكسر.

و أصله: يا ابن أمّي، فحذفت الياء اكتفاء بالكسرة تخفيفا، كالمنادى المضاف إلى الياء. و الباقون بالفتح، زيادة في التخفيف، لطوله، أو تشبيها بخمسة عشر.

إِنَّ الْقَوْمَ الّذين تركتني بين أظهرهم اسْتَضْعَفُونِي قهروني و اتّخذوني ضعيفا، و لم آل جهدا في كفّهم بالإنذار و الوعظ وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي أي: قاربوا قتلي، لشدّة إنكاري عليهم فَلا تُشْمِتْ بِيَ الْأَعْداءَ فلا

تفعل بي ما يشمتون بي لأجله، من الاستهانة بي و الإساءة إليّ، أي: لا تسرّهم بما تفعل بي ما يوهم ظاهره خلاف التعظيم. وَ لا تَجْعَلْنِي مَعَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي: قرينا لهم و معدودا فيهم، في إظهار الغضب عليّ.

قالَ موسى حين تبيّن له ما نبّهه هارون عليه من الاعتذار، و ذكر شماتة

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 602

الأعداء، و خوف التهمة، و دخول الشبهة على القوم رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِأَخِي ليرضي أخاه، و يظهر لأهل الشماتة رضاه عنه، و يرفع دخول الشبهة عليهم من عدم رضا موسى عن أخيه، فلا يتمّ لهم شماتتهم. و هذا الدعاء على وجه الانقطاع إلى اللّه، أو على ترك الأولى، لا أنّه كان وقع منه أو من أخيه قبيح كبير أو صغير يحتاج أن يستغفر منه، فإنّ الدليل قد دلّ على أنّ الأنبياء لا يجوز أن يقع منهم شي ء من القبيح.

وَ أَدْخِلْنا فِي رَحْمَتِكَ بمزيد الإنعام علينا وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فأنت أرحم بنا منّا على أنفسنا.

[سورة الأعراف (7): الآيات 152 الى 154]

إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ ذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ (152) وَ الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِها وَ آمَنُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (153) وَ لَمَّا سَكَتَ عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ أَخَذَ الْأَلْواحَ وَ فِي نُسْخَتِها هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ (154)

ثمّ أوعد اللّه سبحانه عبدة العجل، فقال: إِنَّ الَّذِينَ اتَّخَذُوا الْعِجْلَ سَيَنالُهُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّهِمْ و هو ما أمرهم به من قتل أنفسهم وَ ذِلَّةٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا و هي خروجهم من ديارهم. و قيل: الجزية. وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُفْتَرِينَ على اللّه تعالى، و لا فرية أعظم من قول السامريّ: هذا

إلهكم و إله موسى، فإنّه فرية لم يفتر مثلها أحد قبلهم و لا بعدهم.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 603

وَ الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ من الكفر و المعاصي ثُمَّ تابُوا و رجعوا مِنْ بَعْدِها من بعد السيّئات وَ آمَنُوا و أخلصوا الإيمان و ما هو مقتضاه من الأعمال الصالحة، و استأنفوا عمل الإيمان إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها من بعد التوبة لَغَفُورٌ لستور عليهم، محّاء لما كان منهم من الذنب، و إن عظم كجريمة عبدة العجل، و كثر كجرائم بني إسرائيل رَحِيمٌ منعم عليهم.

وَ لَمَّا سَكَتَ أي: سكن عَنْ مُوسَى الْغَضَبُ في هذا الكلام مبالغة و بلاغة، من حيث إنّه جعل الغضب الحامل له على ما فعل كالآمر به و المغري عليه، فقال له: ألق الألواح و جرّ برأس أخيك، فترك النطق بذلك و قطع الإغراء، و لهذا عبّر عن سكونه بالسكوت. و المعنى: و لمّا انطفى غضبه.

أَخَذَ الْأَلْواحَ الّتي ألقاها وَ فِي نُسْخَتِها و فيما نسخ فيها، أي: كتب.

فعلة بمعنى المفعول، كالخطبة. و قيل: فيما نسخ منها، أي: من الألواح المنكسرة هُدىً دلالة و بيان للحقّ وَ رَحْمَةٌ إرشاد إلى الصلاح و الخير لِلَّذِينَ هُمْ لِرَبِّهِمْ يَرْهَبُونَ دخلت اللام على المفعول لضعف الفعل بالتأخير، كما تقول: لك ضربت، و نحوه: لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ «1». أو حذف المفعول، و اللام للتعليل، و التقدير: يرهبون معاصي اللّه لربّهم.

[سورة الأعراف (7): الآيات 155 الى 156]

وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ سَبْعِينَ رَجُلاً لِمِيقاتِنا فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيَّايَ أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا إِنْ هِيَ إِلاَّ فِتْنَتُكَ تُضِلُّ بِها مَنْ تَشاءُ وَ تَهْدِي مَنْ تَشاءُ أَنْتَ وَلِيُّنا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ (155) وَ اكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ

الدُّنْيا حَسَنَةً وَ فِي الْآخِرَةِ إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ مَنْ أَشاءُ وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ (156)

______________________________

(1) يوسف: 43.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 604

ثمّ أخبر سبحانه عن اختيار موسى من قومه عند خروجه إلى ميقات ربّه، فقال: وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ أي: من قومه، فحذف الجارّ و أوصل الفعل إليه سَبْعِينَ رَجُلًا لِمِيقاتِنا خرج بهم إلى طور سيناء لميقات ربّه.

و اختلف في سبب اختياره إيّاهم و وقته. فقيل: إنّه اختارهم حين خرج إلى الميقات ليكلّمه اللّه سبحانه بحضرتهم، و يعطيه التوراة في حضورهم، فيكونوا شهداء له عند بني إسرائيل لمّا لم يثقوا بخبره أنّ اللّه سبحانه يكلّمه. فلمّا حضروا الميقات و سمعوا كلامه سألوا الرؤية، فأصابتهم الصاعقة، ثمّ أحياهم اللّه. فابتدأ سبحانه بحديث الميقات، ثم اعترض حديث العجل، فلمّا تمّ عاد إلى بقيّة القصّة.

و هذا الميقات هو الميعاد الأوّل الّذي تقدّم ذكره.

و هذا منقول عن أبي على الجبائي و أبي مسلم و جماعة من المفسّرين. و هو الصحيح. و رواه عليّ بن إبراهيم في تفسيره «1».

و قيل: إنّه اختارهم بعد الميقات الأوّل للميقات الثاني بعد عبادة العجل، ليعتذروا من ذلك.

روي أنّه تعالى أمر موسى بأن يأتيه في سبعين من بني إسرائيل، فاختار من اثني عشر سبطا، و من كلّ سبط ستّة، فزاد اثنان. فقال: ليتخلّف منكم رجلان.

فتشاحّوا. فقال: إنّ لمن قعد منكم مثل أجر من خرج. فقعد كالب و يوشع، و ذهب

______________________________

(1) تفسير القمّي 1: 241. زبدة التفاسير، ج 2، ص: 605

مع الباقين. فلمّا دنوا من الجبل غشيه غمام، فدخل موسى عليه السّلام بهم الغمام، و خرّوا سجّدا، فسمعوه تعالى و هو

يكلّم موسى يأمره و ينهاه. ثمّ انكشف الغمام، فأقبلوا إليه فطلبوا الرؤية، فوعظهم و زجرهم و أنكر عليهم.

فقالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً «1». فقال: رَبِّ أَرِنِي أَنْظُرْ إِلَيْكَ «2». فأجيب: لَنْ تَرانِي « «3»» فأخذتهم الرجفة، أي: الصاعقة أو رجفة الجبل، فصعقوا منها.

فَلَمَّا أَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ قالَ رَبِّ لَوْ شِئْتَ أَهْلَكْتَهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِيَّايَ هذا تمنّي هلاكهم و هلاكه قبل أن يرى ما رأى من تبعة طلب الرؤية، أو بسبب آخر غير الرجفة. أو عنى به أنّك قدرت على إهلاكهم قبل ذلك، بحمل فرعون على إهلاكهم، و بإغراقهم في البحر، فترحّمت عليهم بالإنقاذ منها، فإن ترحّمت عليهم مرّة أخرى لم يبعد من عميم إحسانك.

أَ تُهْلِكُنا بِما فَعَلَ السُّفَهاءُ مِنَّا من العناد و التجاسر على طلب الرؤية. قاله بعضهم. و قيل: المراد بما فعل السفهاء عبادة العجل. و السبعون اختارهم موسى لميقات التوبة عنها، فغشيتهم هيبة قلقوا منها و رجفوا، حتّى كادت تبين مفاصلهم، و أشرفوا على الهلاك، فخاف عليهم موسى فبكى و دعا، فكشف اللّه عنهم.

إِنْ هِيَ ما هذه الحالة إِلَّا فِتْنَتُكَ ابتلاؤك حين كلّمتني و أسمعتهم كلامك حتّى طمعوا في الرؤية، لاستدلالهم بالكلام على الرؤية استدلالا فاسدا حتّى افتتنوا. أو أوجدت في العجل خوارا فزاغوا به.

تُضِلُّ بِها بالفتنة تخلية و خذلانا مَنْ تَشاءُ أي: الجاهلين غير الثابتين في معرفتك وَ تَهْدِي مَنْ تَشاءُ أي: العالمين بك. و جعل ذلك إضلالا و هدى من اللّه، لأنّ محنته لمّا كانت سببا لأن ضلّوا و اهتدوا فكأنّه أضلّهم بها و هداهم، على الاتّساع في الكلام. و قيل: معناه: تهلك بها من تشاء، و تنجي من تشاء.

أَنْتَ وَلِيُّنا مولانا القائم بأمورنا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا

وَ أَنْتَ خَيْرُ الْغافِرِينَ

______________________________

(1) البقرة: 55.

(2، 3) الأعراف: 143.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 606

تغفر السيّئة، و تبدّلها بالحسنة.

وَ اكْتُبْ لَنا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةً حسن معيشة و توفيق طاعة. قال هذا على لسان القوم. وَ فِي الْآخِرَةِ أي: و اكتب لنا في الآخرة أيضا حسنة. و هي الجنّة. إِنَّا هُدْنا إِلَيْكَ أي: تبنا إليك، من: هاد إذا رجع و تاب. و الهود جمع الهائد، و هو التائب. و لبعضهم:

يا راكب الذنب هدهدو اسجد كأنّك هدهد

قالَ عَذابِي أُصِيبُ بِهِ أي: من صفته أنّي أصيب به مَنْ أَشاءُ تعذيبه ممّن عصاني، و استحقّه بعصياني وَ رَحْمَتِي وَسِعَتْ كُلَّ شَيْ ءٍ في الدنيا، المؤمن و الكافر، بل المكلّف و غيره، بحيث لا أحد إلّا و هو متقلّب في نعمتي فَسَأَكْتُبُها فسأثبت هذه الرحمة في الآخرة كتبة خاصّة منكم يا بني إسرائيل لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ الكفر و المعاصي وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ خصّها بالذكر لإنافتها «1»، و لأنّها كانت أشقّ عليهم وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِنا يُؤْمِنُونَ فلا يكفرون بشي ء منها. يعني: للّذين يؤمنون في آخر الزمان من أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بجميع آياتنا و كتبنا.

[سورة الأعراف (7): آية 157]

الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَّ الْأُمِّيَّ الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ وَ نَصَرُوهُ وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (157)

و روي عن ابن عبّاس و قتادة و ابن جريج أنّه لمّا نزلت: «و رحمتي وسعت

______________________________

(1) أي: زيادتها، يقال: أناف على كذا، أي: زاد.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 607

كلّ

شي ء» قال إبليس: أنا من ذلك الشي ء، فنزعها اللّه من إبليس بقوله: «فَسَأَكْتُبُها لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ» الآية. فقالت اليهود و النصارى: نحن نتّقي و نؤتي الزكاة و نؤمن بآيات ربّنا، فنزعها منهم و جعلها لهذه الأمّة بقوله: الَّذِينَ يَتَّبِعُونَ الرَّسُولَ النَّبِيَ و على هذا هو خبر مبتدأ تقديره: هم الّذين يتّبعون الرسول الّذي نوحي إليه كتابا مختصّا به، و هو القرآن. و النبيّ صاحب المعجزات. و قيل: سمّي رسولا بالإضافة إلى اللّه، و نبيّا بالإضافة إلى العباد. و يحتمل أن يكون بدلا من «يتّقون» بدل الكلّ أو البعض.

أو يكون مبتدأ خبره: يأمرهم.

الْأُمِّيَ الّذي لا يكتب و لا يقرأ. وصفه به تنبيها على أنّ كمال علمه مع حاله هذه إحدى معجزاته. و

روي عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام: «أنّ الأمّيّ بمعنى المنسوب إلى أمّ القرى، و هي مكّة».

و قيل: إنّه منسوب إلى الأمّة. و المعنى: أنّه على جبلّة الأمّة قبل استفادة الكتابة. أو المراد بالأمّة العرب، لأنّها لم تكن تحسن الكتابة. أو منسوب إلى الأمّ.

و المعنى: أنّه على ما ولدته أمّة قبل تعلّم الكتابة.

الَّذِي يَجِدُونَهُ مَكْتُوباً عِنْدَهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ اسما و صفة، فقد روي أنّه مكتوب في السفر الخامس من التوراة: إنّي سأقيم لهم نبيّا من إخوتهم مثلك، و أجعل كلامي في فيه، فيقول لهم كلّ ما أوصيه به. و فيها أيضا مكتوب: و أمّا ابن الأمة فقد باركت عليه جدّا جدّا، و سيلد اثني عشر عظيما، و أؤخّره لأمّة عظيمة.

و في الإنجيل بشارة بالفارقليط في مواضع، منها: نعطيكم فارقليط يكون معكم آخر الدهر كلّه. و فيه أيضا قول المسيح للحواريّين: أنا أذهب و سيأتيكم الفارقليط روح الحقّ الّذي لا يتكلّم من قبل نفسه، إنّه

نذيركم بجميع الخلق، و يخبركم بالأمور المزمعة، و يمدحني، و يشهد لي.

يَأْمُرُهُمْ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهاهُمْ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُحِلُّ لَهُمُ الطَّيِّباتِ ممّا حرّم

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 608

عليهم، كالشحوم وَ يُحَرِّمُ عَلَيْهِمُ الْخَبائِثَ ما يستخبث، كالميتة و الدم و لحم الخنزير، أو ما خبث في الحكم من المكاسب الخبيثة، كالربا و الرشوة.

وَ يَضَعُ عَنْهُمْ إِصْرَهُمْ و يخفّف عليهم الثقل الّذي يأصر صاحبه، أي:

يحبسه من الحراك لثقله. و هو مثل لثقل ما كلّفوا به، نحو اشتراط قتل الأنفس في صحّة التوبة. وَ الْأَغْلالَ الَّتِي كانَتْ عَلَيْهِمْ العهود الّتي كانت في ذممهم. و هذا أيضا مثل لما كان في شرائعهم من الأشياء الشاقّة، نحو قطع الأعضاء الخاطئة، و قرض موضع النجاسة من الجلد و الثوب، و إحراق الغنائم، و تحريم العروق في اللحم، و تحريم السبت.

و عن عطاء: كانت بنو إسرائيل إذا قامت تصلّي لبسوا المسوح «1»، و غلّوا أيديهم إلى أعناقهم، و ربّما ثقب الرجل ترقوته، و جعل فيها طرف السلسلة، و أوثقها إلى السارية، يحبس نفسه على العبادة. و جعل تلك العهود بمنزلة الأغلال الّتي تكون في الأعناق، للزومها، كما يقال: هذا طوق في عنقك.

فَالَّذِينَ آمَنُوا بِهِ وَ عَزَّرُوهُ و عظّموه، أو منعوه حتّى لا يقوى عليه عدوّ.

و أصل التعزير المنع، و منه التعزير للضرب دون الحدّ، لأنّه يمنع من معاودة القبيح.

وَ نَصَرُوهُ لي و لديني وَ اتَّبَعُوا النُّورَ الَّذِي أُنْزِلَ مَعَهُ أي: مع نبوّته، و هو القرآن.

و إنّما سمّاه نورا لأنّه بإعجازه ظاهر أمره مظهر غيره. أو لأنّه كاشف الحقائق مظهر لها. أو لأنّه نور في القلوب، كما أنّ الضياء نور في العيون، و يهتدي به الخلق في أمور الدين، كما يهتدون بالنور في

أمور الدنيا.

و يجوز أن يكون «معه» متعلّقا ب «اتّبعوا» أي: و اتّبعوا النور المنزل مع اتّباع

______________________________

(1) المسوح جمع المسح، و هو الكساء من شعر، أو ما يلبس من نسيج الشعر على البدن تقشّفا و زهدا.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 609

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فيكون إشارة إلى اتّباع الكتاب و السنّة.

أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالرحمة الأبديّة. و مضمون الآية جواب دعاء موسى عليه السّلام.

[سورة الأعراف (7): آية 158]

قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ كَلِماتِهِ وَ اتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (158)

ثمّ أمر اللّه سبحانه نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يخاطب جميع الخلق من العرب و العجم، فقال: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ جَمِيعاً حال من «إليكم». و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مبعوثا إلى كافّة الثقلين، بخلاف سائر الرسل، فإنّهم مبعوثون إلى أقوامهم.

الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ صفة للّه تعالى، و إن حيل بين الصفة و الموصوف بما هو متعلّق المضاف إلى الرسول، لأنّه كالتقدّم عليه. أو مدح منصوب أو مرفوع. أو مبتدأ خبره: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ و هو على الوجوه الأول بيان لما قبله، فإنّ من ملك العالم كان هو الإله لا غيره. و في قوله: يُحيِي وَ يُمِيتُ مزيد تقرير لاختصاصه بالألوهيّة، لأنّه لا يقدر على الإحياء و الإماتة غيره.

فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ النَّبِيِّ الْأُمِّيِّ الَّذِي يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ كَلِماتِهِ ما أنزل عليه و على سائر الرسل من كتبه و وحيه. و إنّما عدل عن

التكلّم إلى الغيبة، لإجراء هذه الصفات الداعية إلى الايمان و الاتّباع له.

وَ اتَّبِعُوهُ لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ جعل رجاء الاهتداء أثر الأمرين، تنبيها على أنّ

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 610

من صدّقه و لم يتابعه بالتزام شرعه فهو يعدّ في خطط الضلالة.

[سورة الأعراف (7): آية 159]

وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ (159)

ثمّ عاد الكلام إلى قصّة بني إسرائيل، فقال: وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى يعني: من بني إسرائيل أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِ يهدون الناس محقّين، أو بكلمة الحقّ وَ بِهِ و بالحقّ يَعْدِلُونَ بينهم في الحكم. و المراد بها الثابتون على الإيمان القائلون بالحقّ من أهل زمانه. أتبع ذكرهم ذكر أضدادهم على ما هو عادة القرآن، تنبيها على أنّ تعارض الخير و الشرّ و تزاحم أهل الحقّ و الباطل أمر مستمرّ. و قيل: هم مؤمنوا أهل الكتاب، مثل عبد اللّه بن سلام و ابن صوريا و غيرهما.

و

في حديث أبي حمزة الثمالي و الحكم بن ظهير: «أنّ موسى عليه السّلام لمّا أخذ الألواح قال: ربّ إنّي أجد في الألواح أمّة هي خير أمّة أخرجت للناس، يأمرون بالمعروف و ينهون عن المنكر، فاجعلهم أمّتي.

قال: تلك أمّة أحمد.

قال: ربّ إنّي أجد في الألواح أمّة هم الآخرون في الخلق، السابقون في دخول الجنّة، فاجعلهم أمّتي.

قال: تلك أمّة أحمد.

قال: ربّ فإنّي أجد في الألواح أمّة يقاتلون الأعور الكذّاب، فاجعلهم أمّتي.

قال: تلك أمّة أحمد.

قال: ربّ إنّي أجد في الألواح أمّة إذا همّ أحدهم بحسنة ثمّ لم يعملها كتبت له حسنة، و إن عملها كتبت له عشرة أمثالها، و إن همّ بسيّئة و لم يعملها لم يكتب عليه، و إن عملها كتبت عليه سيّئة واحدة، فاجعلهم من أمّتي.

قال: تلك أمّة أحمد.

قال: ربّ إنّي أجد في الألواح

أمّة هم الشافعون و هم المشفوع لهم، فاجعلهم أمّتي.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 611

قال: تلك أمّة أحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

قال موسى: ربّ اجعلني من أمّة أحمد.

قال أبو حمزة الثمالي: فأعطي موسى آيتين لم يعطوها، يعني: أمّة محمد.

قال اللّه: يا مُوسى إِنِّي اصْطَفَيْتُكَ عَلَى النَّاسِ بِرِسالاتِي وَ بِكَلامِي «1». و قال:

وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ قال: فرضي موسى كلّ الرضا».

و

في حديث غير أبي حمزة قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لمّا قرأ: وَ مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ «2» هذه لكم، و قد أعطى اللّه قوم موسى مثلها».

و قيل: هم قوم وراء الصين رآهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليلة المعراج، فآمنوا به.

و روي أنّ بني إسرائيل لمّا قتلوا أنبياءهم و كفروا و كانوا اثني عشر سبطا، تبّرأ سبط منهم ممّا صنعوا و اعتذروا، و سألوا اللّه أن يفرّق بينهم و بين إخوانهم. ففتح اللّه لهم نفقا في الأرض، فساروا فيه سنة و نصفا حتّى خرجوا من وراء الصين، و هم هنالك حنفاء مسلمون، يستقبلون قبلتنا.

و

ذكر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّ جبرئيل ذهب برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليلة الإسراء نحوهم فكلّمهم. فقال لهم جبرئيل: هل تعرفون من تكلّمون؟ قالوا: لا. قال: هذا محمّد النبيّ الأمّي فآمنوا به. و قالوا: يا رسول اللّه: إنّ موسى أوصانا من أدرك منكم أحمد فليقرأ عليه منّي السلام. فردّ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على موسى عليه السّلام السلام. ثمّ أقرأهم عشر سور من القرآن نزلت بمكّة، و لم تكن

نزلت فريضة غير الصلاة و الزكاة. و أمرهم أن يقيموا مكانهم. و كانوا يسبتون فأمرهم أن يجمّعوا، أي: يصلّوا صلاة الجمعة، و يتركوا السبت.

و هذه الرواية منقولة عن ابن عبّاس و السدّي و الربيع و الضحّاك و عطاء، و مرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام. ثمّ قالوا: و ليس لأحد منهم مال دون صاحبه، يمطرون

______________________________

(1) الأعراف: 144.

(2) الأعراف: 181. زبدة التفاسير، ج 2، ص: 612

باللّيل، و يضحون بالنهار و يزرعون، لا يصل إليهم منّا أحد، و لا منهم إلينا، و هم على الحقّ.

و قيل: لو كانوا في طرف من الدنيا متمسّكين بشريعة، و لم يبلغهم نسخها، كانوا معذورين. و هذا من باب الفرض و التقدير، و إلّا فقد طار الخبر بشريعة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى كلّ أفق، و تغلغل في كلّ نفق، و لم يبق مدر و لا وبر، و لا سهل و لا جبل، و لا برّ و لا بحر، في مشارق الأرض و مغاربها، إلّا و قد ألقاه اللّه إليهم، و ملأ به مسامعهم، و ألزمهم به الحجّة، و هو سائلهم عنه يوم القيامة.

[سورة الأعراف (7): الآيات 160 الى 162]

وَ قَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ عَشْرَةَ أَسْباطاً أُمَماً وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ مَشْرَبَهُمْ وَ ظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ الْغَمامَ وَ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ ما ظَلَمُونا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (160) وَ إِذْ قِيلَ لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ وَ كُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَ قُولُوا حِطَّةٌ وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ (161) فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلاً غَيْرَ الَّذِي قِيلَ

لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ (162)

ثمّ أخبر سبحانه خبرا آخر عن بني إسرائيل، فقال: وَ قَطَّعْناهُمُ اثْنَتَيْ

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 613

عَشْرَةَ و صيّرناهم قطعا متميّزا بعضهم عن بعض. و نصب «اثنتي عشرة» على أنّه مفعول ثان ل «قطع»، فإنّه متضمّن معنى «صيّر» أو حال. و تأنيثه للحمل على الأمّة أو القطعة. أَسْباطاً بدل منه، و لذلك جمع. أو تمييز له، على أنّ كلّ واحدة من اثنتي عشرة أسباط، فكأنّه قيل: اثنتي عشرة قبيلة، و كلّ قبيلة أسباط لا سبط، فوضع أسباطا موضع قبيلة. و الأسباط أولاد الأولاد، جمع سبط. و كانوا اثنتي عشرة قبيلة من اثني عشر ولدا من ولد يعقوب عليه السّلام.

أُمَماً على الأوّل بدل بعد بدل، أو نعت ل «أسباطا». و على الثاني بدل من «أسباطا»، أي: و قطّعناهم أمما، لأنّ كلّ أسباط أمّة عظيمة و جماعة كثيفة العدد، و كلّ واحدة كانت تؤمّ خلاف ما تؤمّه الأخرى، فإنّ كلّ أمّة منهم ترجع إلى رئيسهم ليتميّزوا في مشربهم و مطعمهم، فيخفّ الأمر على موسى عليه السّلام، و لا يقع بينهم اختلاف و تباغض.

وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى إِذِ اسْتَسْقاهُ قَوْمُهُ في التيه أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْحَجَرَ فَانْبَجَسَتْ مِنْهُ أي: فضرب فانفجرت من الحجر. و حذفه للإيماء على أنّ موسى عليه السّلام لم يتوقّف في الامتثال، و أنّ ضربه لم يكن مؤثّرا في ذاته، بل الانبجاس بفعل اللّه سبحانه، لكن يتوقّف على الضرب و إن كان غير مؤثّر فيه. و الانبجاس:

الانفتاح بسعة و كثرة. اثْنَتا عَشْرَةَ عَيْناً قَدْ عَلِمَ كُلُّ أُناسٍ كلّ أمّة من تلك الأمم مَشْرَبَهُمْ و الأناس اسم جمع غير تكسير، نحو رخال «1» و توام.

وَ ظَلَّلْنا عَلَيْهِمُ

الْغَمامَ ليقيهم حرّ الشمس وَ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى كُلُوا أي: و قلنا لهم: كلوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ ما ظَلَمُونا بالتجاوز عن أوامرنا وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ قد سبق في سورة البقرة «2» تفسير هذه الآية.

وَ إِذْ قِيلَ بإضمار «اذكر» لَهُمُ اسْكُنُوا هذِهِ الْقَرْيَةَ قرية بيت المقدس

______________________________

(1) الرخال: هي الإناث من أولاد الضأن. و التوام واحدة: توأم.

(2) في ج 1: 153.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 614

وَ كُلُوا مِنْها حَيْثُ شِئْتُمْ وَ قُولُوا حِطَّةٌ وَ ادْخُلُوا الْبابَ سُجَّداً مثل ما في سورة البقرة «1» البقرة معنى، غير أنّ قوله: «فكلوا منها» بالفاء أفاد تسبّب سكناهم للأكل منها، و لم يتعرّض له هاهنا اكتفاء بذكره ثمّ، أو بدلالة الحال عليه. و أمّا تقديم «قولوا» على «و ادخلوا» فلا أثر له في المعنى، لأنّه لا يوجب الترتيب، و كذا الواو العاطفة بينهما. نَغْفِرْ لَكُمْ خَطِيئاتِكُمْ سَنَزِيدُ الْمُحْسِنِينَ

قرأ نافع و ابن عامر و يعقوب: تغفر بالتاء و البناء للمفعول، و خطيئاتكم بالجمع و الرفع، غير ابن عامر، فإنّه وحّد. و قرأ أبو عمرو: خطاياكم.

فَبَدَّلَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ قَوْلًا غَيْرَ الَّذِي قِيلَ لَهُمْ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَظْلِمُونَ قد مرّ «2» تفسيره أيضا.

[سورة الأعراف (7): الآيات 163 الى 166]

وَ سْئَلْهُمْ عَنِ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ يَوْمَ سَبْتِهِمْ شُرَّعاً وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ كَذلِكَ نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (163) وَ إِذْ قالَتْ أُمَّةٌ مِنْهُمْ لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (164) فَلَمَّا نَسُوا ما ذُكِّرُوا بِهِ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَ أَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بِعَذابٍ بَئِيسٍ بِما

كانُوا يَفْسُقُونَ (165) فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ (166)

______________________________

(1) في ج 1: 153- 154.

(2) راجع ج 1: 155 ذيل الآية 59 من سورة البقرة.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 615

ثمّ ابتدأ بخبر آخر من أخبار بني إسرائيل، فقال مخاطبا لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

وَ سْئَلْهُمْ للتقرير و التقريع بقديم كفرهم و عصيانهم، و الإعلام بما هو من علومهم الّتي لا تعلم إلّا بكتاب أو وحي، ليكون معجزة عليهم عَنِ الْقَرْيَةِ عن خبرها و ما وقع بأهلها الَّتِي كانَتْ حاضِرَةَ الْبَحْرِ قريبة منه. و هي: أيلة، قرية بين مدين و الطور على شاطئ البحر. و قيل: مدين. و قيل: طبرية. إِذْ يَعْدُونَ فِي السَّبْتِ يتجاوزون حدود اللّه بالصيد يوم السبت، و قد نهوا أن يشتغلوا فيه بغير العبادة.

و «إذ» ظرف ل «كانت»، أو حاضرة، أو للمضاف المحذوف، أي: لأهل القرية. أو بدل من المضاف بدل الاشتمال، كأنّه قيل: و اسألهم عن أهل القرية وقت عدوانهم في تعظيم السبت.

إِذْ تَأْتِيهِمْ حِيتانُهُمْ ظرف ل «يعدون» أو بدل بعد بدل منه. و الحيتان جمع الحوت، بمعنى السمك. يَوْمَ سَبْتِهِمْ يوم تعظيمهم أمر السبت. مصدر: سبتت اليهود، إذا عظّمت سبتها بترك الصيد و التجرّد للعبادة. و قيل: اسم لليوم. و الإضافة لاختصاصهم بأحكام فيه. شُرَّعاً حال من الحيتان. و معناه: ظاهرة على وجه الماء، من: شرع علينا، إذا دنا و أشرف.

وَ يَوْمَ لا يَسْبِتُونَ لا تَأْتِيهِمْ بل كانت تغوص في البحر. قيل: إنّهم ألقوا الشبكة في الماء يوم السبت حتّى كان يقع فيها السمك، ثمّ كانوا لا يخرجون الشبكة من الماء إلى يوم الأحد.

و في رواية عكرمة عن ابن عبّاس: اتّخذوا الحياض، فكانوا

يسوقون الحيتان إليها، و لا يمكنها الخروج منها، فيأخذونها يوم الأحد. و قيل: إنّهم اصطادوها و تناولوها باليد في يوم السبت.

كَذلِكَ مثل ذلك البلاء الشديد نَبْلُوهُمْ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ بسبب فسقهم.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 616

وَ إِذْ قالَتْ عطف على «إذ يعدون» أُمَّةٌ مِنْهُمْ جماعة من أهل القرى، يعني: صلحاءهم الّذين اجتهدوا في موعظتهم حتّى أيسوا من اتّعاظهم لِمَ تَعِظُونَ قَوْماً اللَّهُ مُهْلِكُهُمْ مخزيهم و مستأصلهم في الدنيا بمعصيتهم أَوْ مُعَذِّبُهُمْ عَذاباً شَدِيداً في الآخرة، لتماديهم في العصيان. قالوه مبالغة في أنّ الوعظ لا ينفع فيهم، أو سؤالا عن علّة الوعظ و نفعه، و كأنّه تقاول بينهم، أو قول من ارعوى عن الوعظ لمن لم يرعو منهم. و قيل: المراد طائفة من الفرقة الهالكة أجابوا به وعّاظهم، ردّا عليهم و تهكّما بهم.

قالُوا مَعْذِرَةً إِلى رَبِّكُمْ جواب للسؤال، أي: موعظتنا إنهاء عذر إلى اللّه تعالى، حتّى لا تنسب إلى تفريط في النهي عن المنكر. و قرأ حفص: معذرة بالنصب على المصدر أو العلّة، أي: اعتذرنا به معذرة، أو وعظناهم معذرة وَ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ و لطمعنا أن يتّقوا و يرجعوا، إذ اليأس لا يحصل إلّا بالهلاك.

فَلَمَّا نَسُوا تركوا ترك الناسي ما ذُكِّرُوا بِهِ ما ذكّروهم به صلحاؤهم أَنْجَيْنَا الَّذِينَ يَنْهَوْنَ عَنِ السُّوءِ وَ أَخَذْنَا الَّذِينَ ظَلَمُوا بالاعتداء و مخالفة أمر اللّه تعالى بِعَذابٍ بَئِيسٍ شديد. فعيل من: بؤس يبؤس بؤسا، إذا اشتدّ.

و قرأ أبو بكر بيئس على فيعل، كضيغم. و ابن عامر: بئس بكسر الباء و سكون الهمزة، على أنّه بئس كحذر. كما قرئ به شاذّا فخفّف عينه بنقل حركتها إلى الفاء، ككبد. و نافع: بيس على قلب الهمزة ياء، كما قلبت في ذيب، أو على أنه فعل

الذمّ وصف به فجعل اسما. بِما كانُوا يَفْسُقُونَ بسبب فسقهم.

فَلَمَّا عَتَوْا عَنْ ما نُهُوا عَنْهُ تكبّروا عن ترك ما نهوا عنه، كقوله تعالى:

وَ عَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ «1» قُلْنا لَهُمْ كُونُوا قِرَدَةً عبارة عن مسخهم قردة خاسِئِينَ مطرودين مبعّدين. و هذا كقوله:

______________________________

(1) الأعراف: 77.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 617

إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «1». و الظاهر أنّ اللّه عذّبهم أوّلا بعذاب شديد، فعتوا بعد ذلك فمسخهم. و يجوز أن تكون الآية الثانية تقريرا و تفصيلا للأولى.

و لم يذكر الفرقة الثالثة الّتي قالت لم تعظون؟ أ هي الناجية أم من الهالكة؟

و اختلف في ذلك فقيل:

هلكت الفرقتان، و نجت الفرقة الناهية. و روي ذلك عن الصادق عليه السّلام.

و قيل: نجت الفرقتان و هلكت الفرقة الثالثة، و هي الآخذة للحيتان، لأنّ الناهي إذا علم أنّ النهي لا يؤثّر في المنهيّ سقط عنه النهي.

و

روي أنّ الناهين لمّا أيسوا عن اتّعاظ المعتدين كرهوا مساكنتهم، فقسّموا القرية بجدار فيه باب مطروق، فأصبحوا يوما و لم يخرج إليهم أحد من المعتدين، فقالوا: إنّ لهم شأنا، فدخلوا عليهم فإذا هم قردة، فلم يعرفوا أنسباءهم، و لكن القرود تعرفهم، فجعلت تأتي أنسباءهم، و تشمّ ثيابهم، و تدور باكية حولهم، ثمّ ماتوا بعد ثلاث.

و في الكشّاف: «أنّ أصحاب السبت كانوا مستقيمين على ما أمروا به و ما نهوا عنه برهة من الدهر، ثمّ جاء إبليس فقال لهم: إنّما نهيتم عن أخذها يوم السبت، فاتّخذوا حياضا تسوقون الحيتان إليها يوم السبت، فلا تقدر على الخروج منها، و تأخذونها يوم الأحد.

و أخذ رجل منهم حوتا و ربط في ذنبه خيطا إلى خشبة في الساحل، ثمّ شواه يوم الأحد. فوجد جاره ريح السمك، فتطلّع

في تنّوره فقال له: إنّي أرى اللّه سيعذّبك، فلمّا لم يره عذّب أخذ في السبت القابل حوتين.

فلمّا رأوا أنّ العذاب لا يعاجلهم صادوا و أكلوا و ملّحوا و باعوا. و كانوا نحوا من سبعين ألفا. فصار أهل القرية أثلاثا: ثلث نهوا، و كانوا نحوا من اثني عشر ألفا،

______________________________

(1) النحل: 40.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 618

و ثلث قالوا: لم تعظون قوما؟ و ثلث هم أصحاب الخطيئة.

فلمّا لم ينتهوا قال المسلمون: إنّا لا نساكنكم. فقسّموا القرية بجدار، للمسلمين باب، و للمعتدين باب. و لعنهم داود عليه السّلام، فأصبح الناهون ذات يوم في مجالسهم و لم يخرج من المعتدين أحد، فقالوا: إنّ للناس شأنا، فعلوا الجدار فنظروا فإذا هم قردة، ففتحوا الباب و دخلوا عليهم، فعرفت القردة أنسباءها من الإنس، و الإنس لا يعرفون أنسباءهم من القرود. فجعل القرد يأتي نسيبه فيشمّ ثيابه و يبكي. فيقول: ألم ننهك؟ فيقول برأسه: بلى. و قيل: صار الشباب قردة، و الشيوخ خنازير» «1».

و في المجمع «2» عن ابن عبّاس: أنّهم بقوا ثلاثة أيّام ينظر إليهم الناس، ثمّ هلكوا و لم يتناسلوا. قال: و لم يمكث مسخ فوق ثلاثة أيّام. و

عن ابن مسعود قال:

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه لم يمسخ شيئا فجعل له نسلا و عقبا.

[سورة الأعراف (7): الآيات 167 الى 170]

وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (167) وَ قَطَّعْناهُمْ فِي الْأَرْضِ أُمَماً مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ وَ مِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ وَ بَلَوْناهُمْ بِالْحَسَناتِ وَ السَّيِّئاتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (168) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ وَرِثُوا الْكِتابَ يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى وَ يَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا وَ إِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ

يَأْخُذُوهُ أَ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ مِيثاقُ الْكِتابِ أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلاَّ الْحَقَّ وَ دَرَسُوا ما فِيهِ وَ الدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (169) وَ الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ (170)

______________________________

(1) الكشّاف 2: 172.

(2) مجمع البيان 4: 493.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 619

ثمّ خاطب سبحانه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكَ أي: أعلم. تفعّل من الإيذان بمعناه، كالتوعّد و الإيعاد. و معناه: و اذكر إذ عزم ربّك، لأنّ العازم على الأمر يحدّث به نفسه و يؤذنها بفعله. و أجري مجرى فعل القسم، ك: علم اللّه و شهد اللّه، و لذلك أجيب بما يجاب به القسم، و هو قوله: لَيَبْعَثَنَّ عَلَيْهِمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ.

و المعنى: و إذ أوجب ربّك على نفسه ليسلّطنّ على اليهود إلى يوم القيامة مَنْ يَسُومُهُمْ سُوءَ الْعَذابِ كالإذلال و ضرب الجزية، كما روي أنّ اللّه بعث عليهم بعد سليمان عليه السّلام بختنصّر، فخرّب ديارهم، و قتل مقاتليهم، و سبى نساءهم و ذراريهم، و ضرب الجزية على من بقي منهم، و كانوا يؤدّونها إلى المجوس، حتّى بعث اللّه محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ففعل ما فعل، ثمّ ضرب عليهم الجزية، فلا تزال مضروبة عليهم إلى آخر الدهر. و معنى البعث هاهنا بمعنى الإطلاق و التخلية و الأمر.

إِنَّ رَبَّكَ لَسَرِيعُ الْعِقابِ عاقبهم في الدنيا وَ إِنَّهُ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ لمن تاب و آمن. و هذه الآية دالّة على أنّ اليهود لا يكون لهم دولة و عزّة إلى يوم القيامة.

وَ قَطَّعْناهُمْ و فرّقناهم فِي الْأَرْضِ أُمَماً فرقا و جماعات، بحيث لا يكاد يخلو قطر منهم، تتمّة لإدبارهم

حتّى لا يكون لهم شوكة قطّ. و «أمما» مفعول ثان أو حال مِنْهُمُ الصَّالِحُونَ صفة أو بدل منه. و هم الّذين آمنوا بالمدينة و نظراؤهم وَ مِنْهُمْ دُونَ ذلِكَ تقديره: و منهم ناس دون ذلك، أي: منحطّون عن الصلاح. و هم كفرتهم و فسقتهم.

وَ بَلَوْناهُمْ و اختبرناهم، أي: نعاملهم معاملة أهل الاختبار بِالْحَسَناتِ وَ السَّيِّئاتِ بالنعم و النقم لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ ينتبهون فينتهون فينيبون عمّا كانوا

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 620

عليه.

ثمّ ذكر سبحانه الأخلاف بعد الأسلاف بقوله: فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ من بعد المذكورين خَلْفٌ بدل سوء. مصدر نعت به، و لذلك يقع على الواحد و الجمع.

و قيل: جمع. و هو شائع في الشرّ، و الخلف بالفتح في الخير. و المراد بهم الّذين كانوا في عصر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. وَرِثُوا الْكِتابَ أي: بقيّة التوراة من أسلافهم، يقرءونها و يقفون على ما فيها من الأوامر و النواهي، و لا يعملون بها.

يَأْخُذُونَ عَرَضَ هذَا الْأَدْنى حطام هذا الشي ء الأدنى، يعني: الدنيا و ما يتمتّع به منها، من: الدنوّ أو الدناءة، و هو ما كانوا يأخذون من الرشا في الحكومة و على تحريف الكلم عن مواضعه. و الجملة حال من الواو.

وَ يَقُولُونَ سَيُغْفَرُ لَنا لا يؤاخذنا اللّه تعالى بذلك، و يتجاوز عنه. و هو يحتمل العطف و الحال. و الفعل مسند إلى الجارّ و المجرور، أو مصدر «يأخذون».

و الّذي عليه المجبّرة هو مذهب اليهود بعينه كما ترى.

و عن مالك بن دينار رحمه اللّه: يأتي على الناس زمان إن قصّروا عمّا أمروا به، قالوا: سيغفر لنا، لأنّا لم نشرك باللّه شيئا، فهؤلاء من هذه الأمّة أشباه الّذين ذكرهم اللّه، و تلا الآية.

وَ إِنْ يَأْتِهِمْ عَرَضٌ مِثْلُهُ

يَأْخُذُوهُ حال من الضمير في «لنا» أي: يرجون المغفرة، مصرّين على الذنب، عائدين إلى مثل فعلهم، غير تائبين عنه.

أَ لَمْ يُؤْخَذْ عَلَيْهِمْ على هؤلاء المرتشين مِيثاقُ الْكِتابِ الميثاق في التوراة أَنْ لا يَقُولُوا عَلَى اللَّهِ إِلَّا الْحَقَ عطف بيان للميثاق، أو متعلّق به، أي: بأن لا يقولوا، أي: لا يكذّبوا على اللّه، و لا يضيفوا إليه إلّا ما أنزله. و المراد توبيخهم على البتّ بالمغفرة مع عدم التوبة، و الدلالة على أنّه افتراء على اللّه، و خروج عن ميثاق الكتاب.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 621

وَ دَرَسُوا ما فِيهِ و قرءوا ما فيه. عطف على «ألم يؤخذ» من حيث المعنى، فكأنّه قيل: أخذ عليهم ميثاق الكتاب و درسوا ما فيه، فإنّه تقرير. أو على «ورثوا»، و هو اعتراض.

وَ الدَّارُ الْآخِرَةُ خَيْرٌ من ذلك العرض الحقير لِلَّذِينَ يَتَّقُونَ ممّا يأخذ هؤلاء أَ فَلا تَعْقِلُونَ فيعلموا ذلك، و لا يستبدلوا الأدنى المؤدّي إلى العقاب بالنعيم المخلّد. و قرأ نافع و ابن عامر و حفص و يعقوب بالتاء على التلوين.

وَ الَّذِينَ يُمَسِّكُونَ بِالْكِتابِ عطف على «الَّذِينَ يَتَّقُونَ». و قوله: «أَ فَلا تَعْقِلُونَ» اعتراض، أي خير للّذين لا يحرّفونه و لا يكتمونه، و يعملون بكلّ ما فيه.

وَ أَقامُوا الصَّلاةَ إفراد إقامتها لإنافتها على سائر أنواع التمسّكات. و يجوز أن تكون الجملة الموصولة مبتدأ خبره: إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُصْلِحِينَ على تقدير:

منهم. أو وضع الظاهر موضع المضمر، تنبيها على أنّ الإصلاح كالمانع من التضييع.

و قرأ أبو بكر: يمسكون بالتخفيف.

[سورة الأعراف (7): آية 171]

وَ إِذْ نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ وَ ظَنُّوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ خُذُوا ما آتَيْناكُمْ بِقُوَّةٍ وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ (171)

ثمّ عاد الكلام إلى قوم موسى عليه السّلام فقال: وَ إِذْ

نَتَقْنَا الْجَبَلَ فَوْقَهُمْ أي: قلعناه و رفعناه فوقهم، كقوله: وَ رَفَعْنا فَوْقَكُمُ الطُّورَ «1». و أصل النتق الجذب. كَأَنَّهُ ظُلَّةٌ سقيفة. و هي: كلّ ما أظلّك. وَ ظَنُّوا و تيقّنوا أَنَّهُ واقِعٌ بِهِمْ ساقط عليهم، لأنّ الجبل لا يثبت في الجوّ، و لأنّهم كانوا يوعدون به، و ذلك لأنّهم أبوا أن يقبلوا أحكام التوراة، فرفع اللّه الطور على رؤوسهم مقدار عسكرهم، و كان فرسخا

______________________________

(1) البقرة: 63.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 622

في فرسخ. و قيل لهم: إن قبلتموها بما فيها و إلّا ليقعنّ عليكم، فلمّا نظروا إلى الجبل خرّوا سجّدا على أحد شقّي وجوههم، ينظرون إلى الجبل خوفا من سقوطه.

و قوله: خُذُوا على إضمار القول، أي: و قلنا: خذوا، أو قائلين:

خذوا ما آتَيْناكُمْ من الكتاب بِقُوَّةٍ بجدّ و عزم على تحمّل مشاقّه. و هو حال من الواو. وَ اذْكُرُوا ما فِيهِ من الأوامر و النواهي، فاعملوا به و لا تتركوه كالمنسيّ لَعَلَّكُمْ تَتَّقُونَ فضائح الأعمال و رذائل الأخلاق.

[سورة الأعراف (7): الآيات 172 الى 174]

وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا أَنْ تَقُولُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ (172) أَوْ تَقُولُوا إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ أَ فَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ (173) وَ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (174)

ثمّ ذكر سبحانه ما أخذ على الخلق من المواثيق بعقولهم عقيب ذكر المواثيق الّتي في الكتب، جمعا بين دلائل السمع و العقل، و إبلاغا في إقامة الحجّة، فقال:

وَ إِذْ أَخَذَ رَبُّكَ مِنْ بَنِي آدَمَ مِنْ ظُهُورِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ أي: أخرج من أصلابهم نسلا بعد نسل و قرنا بعد قرن. و «من ظهورهم» بدل من «بني

آدم» بدل البعض. و قرأ نافع و أبو عمرو و ابن عامر و يعقوب: ذرّيّاتهم. و من أفرد فللاستغناء عن جمعه، لوقوعه

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 623

على الجمع، ألا ترى إلى قوله: وَ كُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ «1».

و قوله: وَ أَشْهَدَهُمْ عَلى أَنْفُسِهِمْ أَ لَسْتُ بِرَبِّكُمْ قالُوا بَلى شَهِدْنا من باب التمثيل. و المعنى في ذلك: أنّه نصب لهم الأدلّة على ربوبيّته، و ركّب في عقولهم ما يدعوهم إلى الإقرار بها، و جعلها مميّزة بين الضلالة و الهداية، حتّى صاروا بمنزلة من قيل لهم: أ لست بربّكم؟ قالوا: بلى شهدنا، أي: أقررنا بربوبيّتك. فنزّل تمكينهم من العلم بها و تمكّنهم منه بمنزلة الإشهاد و الاعتراف، على طريقة التمثيل.

و قوله: أَنْ تَقُولُوا مفعول له على حذف المضاف، أي: نصبنا الأدلّة الّتي تشهد العقول على صحّتها كراهة أن تقولوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّا كُنَّا عَنْ هذا غافِلِينَ لم ننبّه عليه بدليل.

أَوْ تَقُولُوا عطف على «أَنْ تَقُولُوا». و قرأ أبو عمرو كليهما بالياء على الغيبة، لأنّ أوّل الكلام على الغيبة، أي: كراهة أن يقولوا كذا أو يقولوا: إِنَّما أَشْرَكَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا ذُرِّيَّةً مِنْ بَعْدِهِمْ فاقتدينا بهم أَ فَتُهْلِكُنا بِما فَعَلَ الْمُبْطِلُونَ يعني: آباءهم المبطلين بتأسيس الشرك. و لمّا كان نصب الأدلّة على التوحيد قائما معهم، فلا عذر لهم في الإعراض عنه و الإقبال على تقليد الآباء و الاقتداء بهم، كما لا عذر لآبائهم في الشرك، لأنّه نصبت الأدلّة لهم أيضا على التوحيد، فهذا العذر منهم أيضا غير صحيح.

و قيل: لمّا خلق اللّه آدم أخرج من ظهره ذرّيّة كالذرّ و أحياهم، و جعل لهم العقل و النطق، و ألهمهم ذلك. و القول الأوّل أشهر بين المفسّرين و

أصحّ.

و لا شبهة أنّ المقصود من إيراد هذا الكلام هنا إلزام اليهود بمقتضى الميثاق العامّ بعد ما ألزمهم بالميثاق المخصوص، و الاحتجاج عليهم بالحجج السمعيّة و العقليّة، و منعهم عن التقليد، و حملهم على النظر و الاستدلال، كما قال: وَ كَذلِكَ

______________________________

(1) الأعراف: 173.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 624

أي: و مثل ذلك التفصيل البليغ نُفَصِّلُ الْآياتِ وَ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي: عن التقليد و اتّباع الباطل.

[سورة الأعراف (7): الآيات 175 الى 178]

وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا فَانْسَلَخَ مِنْها فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ (175) وَ لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ بِها وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَ اتَّبَعَ هَواهُ فَمَثَلُهُ كَمَثَلِ الْكَلْبِ إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَاقْصُصِ الْقَصَصَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (176) ساءَ مَثَلاً الْقَوْمُ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ أَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ (177) مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِي وَ مَنْ يُضْلِلْ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (178)

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يقرأ عليهم قصّة أخرى من أخبار بني إسرائيل، فقال: وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ أي: على اليهود نَبَأَ الَّذِي آتَيْناهُ آياتِنا

هو عالم من علماء بني إسرائيل من الكنعانيّين، اسمه بلعم بن باعوراء، أوتي علم بعض كتب اللّه تعالى، و عنده الاسم الأعظم. و هو مرويّ عن الباقر عليه السّلام.

و قيل: هو أميّة بن أبي الصلت، كان قد قرأ الكتب، و علم أنّ اللّه تعالى مرسل رسولا في ذلك الزمان، و رجا أن يكون هو، فلمّا بعث محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حسده و كفر به.

فَانْسَلَخَ مِنْها من الآيات، بأن كفر بها و أعرض عنها، كالشي ء الّذي ينسلخ من الجلد فَأَتْبَعَهُ الشَّيْطانُ تبعه و لحقه فأدركه، و صار

قرينا له حتّى أضلّه. و تبع و أتبع و اتّبع بمعنى. و قيل: استتبعه. فَكانَ مِنَ الْغاوِينَ

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 625

فصار من الضالّين.

روي أنّ قومه سألوه أن يدعو على موسى و من معه. فقال: كيف أدعو على من معه الملائكة؟ فألحّوا عليه حتى دعا عليهم، فبقوا في التيه.

وَ لَوْ شِئْنا لَرَفَعْناهُ إلى منازل الأبرار من العلماء بِها بسبب تلك الآيات و ملازمتها وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ مال إلى الدنيا و رغب فيها، أو إلى السفالة و الدناءة وَ اتَّبَعَ هَواهُ في إيثار الدنيا و استرضاء قومه، و أعرض عن مقتضى الآيات. و كان أصل الكلام أن يقول: و لكنّه أعرض عنها، فأوقع موقعه «أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَ اتَّبَعَ هَواهُ» مبالغة، و تنبيها على ما حمله عليه، و أنّ حبّ الدنيا رأس كلّ خطيئة.

و إنّما علّق اللّه سبحانه رفعه بمشيئة اللّه، و لم يعلّقه بفعله الّذي يستحقّ به الرفع، لأنّ مشيئة اللّه رفعه تابعة للزومه الآيات، فذكرت المشيئة، و المراد ما هي تابعة له و مسبّبة عنه، كأنّه قيل: و لو لزمها لرفعناه بها. ألا ترى إلى قوله: «وَ لكِنَّهُ أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ» فإنّه تعالى استدرك مشيئته بإخلاده الّذي هو فعله، فوجب أن يكون «وَ لَوْ شِئْنا» في معنى ما هو فعله، و لو كان الكلام على ظاهره لوجب أن يقال: لرفعناه و لكنّا لم نشأ.

ثمّ ضرب مثلا لكلّ مؤثر هواه على هدى اللّه من أهل القبلة، فقال:

فَمَثَلُهُ فصفته الّتي هي مثل في الخسّة كَمَثَلِ الْكَلْبِ كصفته في أخسّ أحواله، و هو إِنْ تَحْمِلْ عَلَيْهِ يَلْهَثْ أَوْ تَتْرُكْهُ يَلْهَثْ أي: يلهث دائما، سواء حمل عليه بالزجر و الطرد أو ترك و لم يتعرّض له،

أي: يتّصل لهثه في الحالين جميعا، و ذلك لضعف فؤاده، بخلاف سائر الحيوانات، فإنّها لا تلهث إلّا حين هيجت. و اللهث إدلاع اللسان من التنفّس الشديد. و الشرطيّة في موضع الحال. و المعنى: لاهثا في الحالتين، أي: إن و عظته فهو ضالّ، و إن لم تعظه فهو ضالّ. و مثله قوله تعالى:

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 626

سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَ دَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ «1».

و قيل: شبّه بالكلب إذا أخرج لسانه لإيذاء الناس بلسانه، حملت عليه أو تركته. و التمثيل واقع موقع لازم التركيب الّذي هو نفي الرفع، و وضع المنزلة للمبالغة.

و قيل: لمّا دعا على موسى خرج لسانه فوقع على صدره، و جعل يلهث كالكلب.

ذلِكَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا من اليهود، بعد ما قرءوا نعت رسول اللّه في التوراة، و بشّروا الناس بقرب مبعثه، و كانوا يستفتحون به فَاقْصُصِ الْقَصَصَ أي: قصّة بلعم على اليهود، فإنّها نحو قصصهم لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ تفكّرا يؤدّي بهم إلى الاتّعاظ، فيحذرون مثل عاقبته، إذ ساروا بسيرته، و زاغوا شبه زيغه، و يعلمون أنّك علمته من جهة الوحي فتزداد الحجّة لزوما لهم.

ساءَ مَثَلًا الْقَوْمُ أي: مثل القوم الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا بعد قيام الحجّة عليهم و علمهم بها. و قوله: وَ أَنْفُسَهُمْ كانُوا يَظْلِمُونَ إمّا أن يكون داخلا في الصلة معطوفا على «كذّبوا» بمعنى: الّذين جمعوا بين تكذيب الآيات و ظلم أنفسهم.

أو منقطعا عنها، بمعنى: و ما ظلموا بالتكذيب إلّا أنفسهم، فإنّ وباله لا يتخطّاها، و لذلك قدّم المفعول، فكأنّه قيل: رخّصوا أنفسهم بالظلم لم يتعدّها إلى غيرها.

مَنْ يَهْدِ اللَّهُ إلى نيل الثواب، أو الّذي هداه اللّه فقبل الهداية و أجاب إليها فَهُوَ الْمُهْتَدِي للإيمان وَ مَنْ يُضْلِلْ أي: يضلله اللّه عن

طريق الجنّة، و عن نيل الثواب، عقوبة على كفره و فسقه. أو الّذي اختار الضلالة فخلّى اللّه بينه و بين ما اختاره، و لم يمنعه منه بالجبر. فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ خسروا أنفسهم في حرمانهم عن الجنّة. و إفراد الضمير أوّلا و الجمع ثانيا باعتبار اللفظ و المعنى، تنبيها

______________________________

(1) الأعراف: 193.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 627

على أنّ المهتدين كواحد، لاتّحاد طريقهم، بخلاف الضالّين.

[سورة الأعراف (7): آية 179]

وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (179)

و لمّا بيّن سبحانه أمر الكفّار و ضرب لهم الأمثال، عقّبه ببيان حالهم في المصير و المآل، فقال: وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ كَثِيراً مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ اللام للعاقبة، أي: خلقنا كثيرا من الثقلين على أنّ مصيرهم إلى جهنّم بسوء اختيارهم. و هم الكفّار المصرّون على الكفر، المعاندون المكابرون، فما أثّر اللطف فيهم.

ثم فصّل بيان حالهم بقوله: لَهُمْ قُلُوبٌ لا يَفْقَهُونَ بِها أي: لا يلقون أذهانهم إلى النظر في دلائل معرفة اللّه وَ لَهُمْ أَعْيُنٌ لا يُبْصِرُونَ بِها أي: لا ينظرون إلى مخلوقاته نظر اعتبار وَ لَهُمْ آذانٌ لا يَسْمَعُونَ بِها أي: لا يسمعون ما يتلى عليهم من المواعظ و الأذكار، سماع تأمّل و تذكّر، فلا يأتي منهم إلّا أفعال أهل النار، فكأنّهم مخلوقون لها.

أُولئِكَ كَالْأَنْعامِ في عدم الفقه و الإبصار للاعتبار و الاستماع للتدبّر، أو في أنّ مشاعرهم و قواهم متوجّهة إلى أسباب التعيّش مقصورة عليها بَلْ هُمْ أَضَلُ فإنّ البهائم إذا زجرت انزجرت، و إذا أرشدت إلى طريق اهتدت، و تدرك من المنافع و المضارّ، و تجتهد في

جذبها و دفعها غاية جهدها، و هؤلاء لا يهتدون إلى شي ء من أمور الدين، مع ما ركّب فيهم من العقول الدالّة على الرشاد، و الصارفة عن العناد.

أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ الكاملون في الغفلة.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 628

[سورة الأعراف (7): الآيات 180 الى 181]

وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى فَادْعُوهُ بِها وَ ذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (180) وَ مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِّ وَ بِهِ يَعْدِلُونَ (181)

و بعد ذكر أهل العناد رغّب العباد إلى طريق التوحيد، فقال: وَ لِلَّهِ الْأَسْماءُ الْحُسْنى الّتي هي أحسن الأسماء، لأنّها دالّة على معاني هي أحسن المعاني، بعضها يرجع إلى صفات ذاته، كالعالم و القادر و الحيّ و الإله، و بعضها يرجع إلى صفات فعله، كالخالق و الرازق و البارئ و المصوّر، و بعضها يفيد التمجيد و التقديس، كالغنيّ و الواحد فَادْعُوهُ بِها فسمّوه بتلك الأسماء.

وَ ذَرُوا الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي أَسْمائِهِ و اتركوا الّذين يعدلون بأسمائه عمّا هي عليه، فيسمّون بها أصنامهم، أو يصفونه بما لا يليق به، كإسناد القبائح و خلق الفحشاء و المنكر إليه، و كذا نسبة التشبيه إليه، كالرؤية و نحوها. أو يسمّونه بما لا يجوز تسميته به، إذ ربّما يوهم معنى فاسدا، كقولهم: يا أبا المكارم، يا أبيض الوجه. و هذا دالّ على أنّ أسماء اللّه توقيفيّة. أو ذروهم و إلحادهم فيها، بإطلاقها على الأصنام، و باشتقاق أسمائها منها، كاللات من اللّه، و العزّى من العزيز، و لا توافقوهم عليه، أو أعرضوا عنهم، فإنّ اللّه مجازيهم، كما قال: سَيُجْزَوْنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي: جزاء عملهم.

و قرأ حمزة: يلحدون بالفتح. يقال: لحد و ألحد، إذا مال عن القصد.

وَ مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ يَهْدُونَ بِالْحَقِ أي: جماعة يدعون الناس إلى توحيد اللّه و

أحكامه وَ بِهِ يَعْدِلُونَ و بالحقّ يحكمون.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه كان يقول إذا قرأها: «هذه لكم، و قد أعطي القوم بين

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 629

أيديكم مثلها: وَ مِنْ قَوْمِ مُوسى أُمَّةٌ «1»». الآية.

و

قال الربيع بن أنس: قرأ النبيّ هذه الآية فقال: «إنّ من أمّتي قوما على الحقّ حتّى ينزل عيسى عليه السّلام».

و

عن عليّ عليه السّلام: «و الّذي نفسي بيده لتفترقنّ الأمّة على ثلاث و سبعين فرقة، كلّها في النار إلّا فرقة واحدة: «وَ مِمَّنْ خَلَقْنا أُمَّةٌ» الآية، فهذه الّتي تنجو».

و

عن الباقر و الصادق عليهما السّلام أنّهما قالا: «نحن هم».

و استدلّ به على صحّة الإجماع، لأنّ المراد منه أنّ في كلّ قرن طائفة بهذه الصفة،

لقوله عليه السّلام: «لا تزال من أمّتي طائفة على الحقّ إلى أن يأتي أمر اللّه»،

إذ لو اختصّ بعهد الرسول أو غيره لم تكن لذكره فائدة، فإنّه معلوم.

[سورة الأعراف (7): الآيات 182 الى 186]

وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (182) وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (183) أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (184) أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ وَ أَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (185) مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَلا هادِيَ لَهُ وَ يَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (186)

و لمّا ذكر سبحانه المؤمنين بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الهادين بالحقّ، ذكر بعده المكذّبين

______________________________

(1) الأعراف: 159.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 630

بآياته، فقال: وَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا سَنَسْتَدْرِجُهُمْ أصل الاستدراج الاستصعاد أو الاستنزال درجة بعد درجة. و المعنى: سنستدنيهم إلى الهلاك قليلا قليلا حتى يقعوا

فيه بغتة. مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ ما نريد بهم، و ذلك بأن تتواتر عليهم النعم، فيظنّوا أنّها لطف من اللّه تعالى بهم، فيزدادوا بطرا و انهماكا في الغيّ، حتى يحقّ عليهم كلمة العذاب.

وَ أُمْلِي لَهُمْ عطف على «سَنَسْتَدْرِجُهُمْ» أي: أمهلهم و لا أعاجلهم بالعقوبة إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ إنّ أخذي شديد. و إنّما سمّاه كيدا لأنّه شبيه به، فإنّه في الظاهر إحسان و في الحقيقة خذلان.

عن قتادة: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان على الصفا فدعاهم فخذا فخذا إلى توحيد اللّه، يحذّرهم بأس اللّه. فقال قائلهم: إنّ صاحبكم لمجنون، بات يهوّت «1» إلى الصباح، فنزلت: أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِهِمْ

ألم يتفكّر هؤلاء الكفّار فيعلموا ما بصاحبهم- يعني: بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- مِنْ جِنَّةٍ جنون إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ موضّح إنذاره بحيث لا يخفى على أحد.

أَ وَ لَمْ يَنْظُرُوا نظر استدلال فِي مَلَكُوتِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فيما تدلّان على وجوب وجوبه و وحدانيّته وَ ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ و فيما خلق اللّه ممّا يقع عليه اسم الشي ء من أجناس خلقه الّتي لا يمكن حصرها، ليدلّهم على كمال قدرة صانعها، و وحدة مبدعها، و عظم شأن مالكها و متولّي أمرها، ليظهر لهم صحّة ما يدعوهم إليه.

وَ أَنْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ عطف على «ملكوت». و «أن» مصدريّة أو مخفّفة من الثقيلة، و اسمها ضمير الشأن. و كذا اسم «يكون». و المعنى:

أو لم ينظروا في اقتراب آجالهم و توقّع حلولها، فيسارعوا إلى طلب الحقّ و التوجّه

______________________________

(1) أي: يصيح من: هوّت تهويتا به، أي: صاح.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 631

إلى ما ينجيهم، قبل مفاجأة الموت و

نزول العذاب؟ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ أي: بعد القرآن يُؤْمِنُونَ إذا لم يؤمنوا به؟ و هو النهاية في البيان، كأنّه إخبار عنهم بالطبع و التصميم على الكفر بعد إلزام الحجّة و الإرشاد إلى النظر.

قال في الكشّاف: «قوله: «فَبِأَيِّ حَدِيثٍ» متعلّق بقوله: «عَسى أَنْ يَكُونَ قَدِ اقْتَرَبَ أَجَلُهُمْ» كأنّه قيل: لعلّ أجلهم قد اقترب، فما بالهم لا يبادرون إلى الايمان بالقرآن قبل الفوت؟ و ماذا ينتظرون بعد وضوح الحقّ؟ فإن لم يؤمنوا به فبأيّ حديث أحقّ منه يريدون أن يؤمنوا به» «1».

مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ أي: يخلّه و يمنعه عن التوفيق، لتوغّله في العناد فَلا هادِيَ لَهُ من بعد اللّه وَ يَذَرُهُمْ فِي طُغْيانِهِمْ بالرفع على الاستئناف. و قرأ أبو عمرو و عاصم و يعقوب بالياء، لقوله: «مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ». و حمزة و الكسائي به و بالجزم، عطفا على محلّ «فَلا هادِيَ لَهُ»، كأنّه قيل: لا يهده أحد غيره و يذرهم في ضلالتهم.

يَعْمَهُونَ يتحيّرون. و هو حال من «هم».

[سورة الأعراف (7): آية 187]

يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أَيَّانَ مُرْساها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي لا يُجَلِّيها لِوَقْتِها إِلاَّ هُوَ ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا تَأْتِيكُمْ إِلاَّ بَغْتَةً يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (187)

و لمّا تقدّم الوعيد بالساعة سألوا عن وقتها، فقال سبحانه:

______________________________

(1) الكشاف 2: 182- 183.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 632

يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ أي: القيامة. و هي من الأسماء الغالبة، كالنجم للثريّا. و إطلاقها عليها إمّا لوقوعها بغتة، أو لسرعة حسابها، أو لأنّها على طولها عند اللّه تعالى كساعة. أَيَّانَ مُرْساها متى إرساؤها؟ أي: إثباتها. و اشتقاق أيّان من أيّ، لأنّ معناه: أيّ وقت؟

و هو من: أويت، لأنّ البعض آو إلى الكلّ متساند

إليه. و الإرساء من الرسو، بمعنى الثبوت، فإنّ رسو الشي ء ثباته و استقراره، و منه: رسا الجبل، و أرسى السفينة.

قُلْ إِنَّما عِلْمُها علم إرسائها عِنْدَ رَبِّي يعني: استأثر به لم يطلع عليه ملكا مقرّبا و لا نبيّا مرسلا، فضلا عن غيرهما من خلقه، ليكون العباد على حذر منه، و ذلك أدعى لهم إلى الطاعة، و أزجر عن المعصية، كما أخفى سبحانه وقت الموت لذلك لا يُجَلِّيها لا يظهر أمرها، و لا يكشف خفاء علمها لِوَقْتِها في وقتها إِلَّا هُوَ يعني: أنّ الخفاء بها مستمرّ على غيره إلى وقت وقوعها. و اللام للتوقيت، كاللام في قوله: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ «1».

ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كثرت و عظمت على أهلها من الملائكة و الجنّ و الإنس، لأهوالها و شدائدها. و كأنّه إشارة إلى الحكمة في إخفائها. لا تَأْتِيكُمْ إِلَّا بَغْتَةً فجأة على غفلة.

و في الحديث: «أنّ الساعة تهيج بالناس، و الرجل يصلح حوضه، و الرجل يسقي ماشيته، و الرجل يقوّم سلعته في سوقه، و الرجل يخفض ميزانه و يرفعه».

يَسْئَلُونَكَ كَأَنَّكَ حَفِيٌّ عَنْها عالم بها. فعيل من: حفي عن الشي ء إذا سأل عنه، و حفي بفلان يحفي به بالغ في البرّ به، فإنّ من بالغ في السؤال عن الشي ء و البحث عنه استحكم علمه فيه، و لذلك عدّي ب «عن».

و قيل: هي صلة الفعل، أي: يسألونك عنها كأنّك حفيّ عالم بها.

و قيل: من الحفاوة، بمعنى الشفقة، فإنّ قريشا قالوا له: إنّ بيننا و بينك قرابة،

______________________________

(1) الإسراء: 78.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 633

فقل لنا متى الساعة؟ و معناه حينئذ: يسألونك عنها كأنّك حفيّ تتحفّى بهم، فتخصّهم لأجل قرابتهم بتعليم وقتها.

و قيل: معناه: كأنّك حفيّ بالسؤال عنها، أي: تحبّه في

زعمهم، و الحال أنّك تكره السؤال عنها، لأنّه من الغيب الّذي استأثره اللّه تعالى بعلمه، من: حفي بالشي ء إذا فرح.

قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ كرّره لتكرير «يسألونك»، لما نيط به من هذه الزيادة، و للمبالغة وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أن علمها عند اللّه، و لم يؤته أحدا من خلقه.

[سورة الأعراف (7): آية 188]

قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً وَ لا ضَرًّا إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَ ما مَسَّنِيَ السُّوءُ إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (188)

و لمّا تقدّم إجابة القوم بأنّه لا يعلم الغيب، عقّبه بأنّ علم الغيب يختصّ به المالك للنفع و الضرّ، و هو اللّه سبحانه، فقال: قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي نَفْعاً أي: جلب نفع وَ لا ضَرًّا و لا دفع ضرر. و هو إظهار للعبوديّة، و الانتفاء عمّا يختصّ بالربوبيّة من العلم بالغيوب إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ ربّي و مالكي من النفع لي و الدفع عنّي، فيلهمني إيّاه و يوفّقني له.

وَ لَوْ كُنْتُ أَعْلَمُ الْغَيْبَ لَاسْتَكْثَرْتُ مِنَ الْخَيْرِ وَ ما مَسَّنِيَ السُّوءُ أي: و لو كنت أعلمه لكانت حالي على خلاف ما هي عليه، فكنت استكثر المنافع و اجتنب المضارّ حتّى لا يمسّني شي ء منها، و لم أكن غالبا مرّة و مغلوبا أخرى في الحروب،

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 634

و رابحا مرّة و خاسرا أخرى إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ ما أنا إلّا عبد مرسل للإنذار و البشارة لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فإنّهم المنتفعون بهما. و يجوز أن يكون متعلّقا بالبشير، و متعلّق النذير محذوف، أي: إلّا نذير للكافرين، و بشير لقوم يؤمنون.

[سورة الأعراف (7): الآيات 189 الى 193]

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ وَ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها لِيَسْكُنَ إِلَيْها فَلَمَّا تَغَشَّاها حَمَلَتْ حَمْلاً خَفِيفاً فَمَرَّتْ بِهِ فَلَمَّا أَثْقَلَتْ دَعَوَا اللَّهَ رَبَّهُما لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (189) فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (190) أَ يُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ (191) وَ لا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ نَصْراً وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (192)

وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَتَّبِعُوكُمْ سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَ دَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ (193)

و لمّا تقدّم ذكر اللّه سبحانه، ذكر عقيبه ما يدلّ على وحدانيّته، فقال: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ و هو آدم عليه السّلام وَ جَعَلَ مِنْها من جسدها، من ضلع من أضلاعها زَوْجَها و هي حوّاء لِيَسْكُنَ إِلَيْها ليأنس بها، و يطمئنّ إليها اطمئنان الشي ء إلى جزئه أو جنسه. و تذكير الضمير باعتبار معنى النفس، لتبيين أنّ المراد بها آدم، و لأنّ الذكر هو الّذي يسكن إلى الأنثى، و ليناسب قوله: فَلَمَّا تَغَشَّاها أي: جامعها، فإنّ التغشّي كناية عن الجماع، و كذلك الغشيان و الإتيان.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 635

حَمَلَتْ حَمْلًا خَفِيفاً خفّ عليها بحيث لم يمنعها الحمل عن شي ء من التصرّف، و لم تلق منه ما تلقى منه العوامل غالبا من الأذى. أو محمولا خفيفا، و هو النطفة. فَمَرَّتْ بِهِ فاستمرّت به، و قامت و قعدت.

فَلَمَّا أَثْقَلَتْ صارت ذات ثقل بكبر الولد في بطنها. أو حان وقت ثقل حملها، كما يقال: أقربت. دَعَوَا أي: دعا آدم و حوّاء اللَّهَ رَبَّهُما و مالك أمرهما الّذي هو الحقيق أن يلتجأ إليه لَئِنْ آتَيْتَنا صالِحاً وهبت لنا ولدا سويّا قد صلح بدنه. و قيل: ولدا ذكرا، لأنّ الذكورة من الصلاح و الجودة. لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ لك على هذه النعمة المجدّدة. و الضمير في «آتيتنا» و «لنكوننّ» لهما و لكلّ من يتناسل من ذرّيّتهما.

فَلَمَّا آتاهُما صالِحاً جَعَلا لَهُ شُرَكاءَ فِيما آتاهُما أي: جعل أولادهما له شركاء فيما آتى أولادهما، على حذف المضاف و إقامة المضاف إليه مقامه، فإنّ آدم و حوّاء بريئان من الشرك. و معنى إشراكهم فيما آتاهم اللّه تسميتهم أولادهم بعبد العزّى

و عبد مناف و عبد يغوث و ما أشبه ذلك، مكان عبد اللّه و عبد الرحمن و عبد الرحيم.

و يدلّ على حذف المضاف قوله: فَتَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ حيث جمع الضمير. و كذلك قوله: أَ يُشْرِكُونَ ما لا يَخْلُقُ شَيْئاً ما لا يقدر على خلق شي ء وَ هُمْ يُخْلَقُونَ يعني: الأصنام أجريت مجرى أولي العلم بناء على اعتقادهم فيها و تسميتهم إيّاها آلهة.

و ما قالت العامّة من أنّ حوّاء لمّا حملت أتاها إبليس في صورة رجل فقال لها: ما يدريك ما في بطنك، لعلّه بهيمة أو كلب؟ و ما يدريك من أين يخرج؟

فخافت من ذلك و ذكرت لآدم عليه السّلام، فهمّا منه. ثمّ عاد إليها و قال: إنّي من اللّه بمنزلة، فإن دعوت اللّه تعالى أن يجعله خلقا مثلك، و يسهّل عليك خروجه، تسمّيه

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 636

عبد الحارث برضا آدم، و كان اسمه حارثا بين الملائكة، فتقبّلت. فلمّا ولدت سمّته عبد الحارث.

فذلك بعيد غاية البعد، تأباه العقول و تنكره، لأنّ البراهين الساطعة دالّة على عصمة الأنبياء، فلا يجوز عليهم الشرك و المعاصي و طاعة الشيطان.

و قيل: الخطاب في «خلقكم» لآل قصيّ من قريش، أي: خلقكم من نفس قصيّ، و جعل من جنسها زوجها عربيّة قرشيّة، فلمّا آتاهما ما طلبا من الولد الصالح السويّ جعلا له شركاء فيما آتاهما، حيث سمّيا أولادهما الأربعة بعبد مناف و عبد العزّى و عبد قصيّ و عبد الدار.

و حكى البلخي عن جماعة من العلماء أنّهم قالوا: لو صحّ الخبر الأوّل لم يكن في ذلك إلّا إشراكا في التسمية، و ليس ذلك بكفر و لا معصية. و اختاره الطبري «1».

وَ لا يَسْتَطِيعُونَ لَهُمْ لعبدتهم نَصْراً وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ

فيدفعون عنها ما يعتريها من الحوادث.

وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ أي: المشركين إِلَى الْهُدى إلى ما هو هدى و رشاد، و هو الإسلام لا يَتَّبِعُوكُمْ و قرأ نافع بالتخفيف.

و قيل: الخطاب للمشركين، و «هم» ضمير الأصنام، أي: إن تدعوهم إلى أن يهدوكم لا يتّبعوكم إلى مرادكم و طلبتكم، و لا يجيبوكم كما يجيبكم اللّه.

سَواءٌ عَلَيْكُمْ أَ دَعَوْتُمُوهُمْ أَمْ أَنْتُمْ صامِتُونَ على دعائهم، في أنّه لا فلاح معهم. و إنّما لم يقل: أم صمتّم، للمبالغة في عدم إفادة الدعاء، من حيث إنّ الأصنام مستمرّة بالثبات على الصمات في عدم الإجابة. أو لأنّهم ما كانوا يدعونها لحوائجهم، فكأنّه قيل: سواء عليكم إحداثكم دعاءهم في إلحاح الحوائج أو

______________________________

(1) تفسير الطبري 9: 101.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 637

استمراركم على الصمات من دعائهم.

[سورة الأعراف (7): الآيات 194 الى 198]

إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ فَادْعُوهُمْ فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (194) أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ كِيدُونِ فَلا تُنْظِرُونِ (195) إِنَّ وَلِيِّيَ اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ وَ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ (196) وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ (197) وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ إِلَى الْهُدى لا يَسْمَعُوا وَ تَراهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَ هُمْ لا يُبْصِرُونَ (198)

ثمّ أتمّ سبحانه الحجّة على المشركين بقوله: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: تعبدونهم و تسمّونهم آلهة عِبادٌ أَمْثالُكُمْ من حيث إنّها مملوكة مسخّرة فَادْعُوهُمْ في مهمّاتكم، و لصرف الأسواء عنكم فَلْيَسْتَجِيبُوا لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنّهم آلهة. و يحتمل أنّهم لمّا نحتوها بصور الأناسيّ قال لهم: إنّ نهاية أمرهم أن يكونوا أحياء عقلاء أمثالكم، فلا يستحقّون

عبادتكم، كما لا يستحقّ بعضكم عبادة بعض.

ثمّ أبطل أن يكونوا عبادا أمثالهم، فقال: أَ لَهُمْ أَرْجُلٌ يَمْشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَيْدٍ يَبْطِشُونَ بِها أَمْ لَهُمْ أَعْيُنٌ يُبْصِرُونَ بِها أَمْ لَهُمْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 638

روي: أنّهم كانوا يخوّفون الرسول بآلهتهم، فأمره اللّه تعالى بقوله: قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ

و استعينوا بهم في عداوتي ثُمَّ كِيدُونِ فبالغوا فيما تقدرون عليه من مكروهي أنتم و شركاؤكم فَلا تُنْظِرُونِ فلا تمهلوني، فإنّي لا أبالي بكم، لوثوقي على ولاية اللّه تعالى و حفظه.

إِنَّ وَلِيِّيَ ناصري و حافظي و دافع شرّكم عنّي اللَّهُ الَّذِي نَزَّلَ الْكِتابَ القرآن وَ هُوَ يَتَوَلَّى الصَّالِحِينَ أي: و من عادته تعالى أن يتولّى الصلحاء المطيعين من عباده، فضلا عن أنبيائه.

ثمّ تمّم التعليل لعدم مبالاته بهم، فقال: وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَكُمْ وَ لا أَنْفُسَهُمْ يَنْصُرُونَ كرّر ذلك لأنّ ما تقدّم فإنّه على وجه التقريع و التوبيخ، و ما ذكره هنا فإنّه على وجه الفرق بين صفة من يجوز له العبادة و صفة من لا يجوز له، فكأنّه قال: إنّ من أعبده ينصرني، و من تعبدونه لا يقدر على نصركم و لا على نصر نفسه «1».

[سورة الأعراف (7): الآيات 199 الى 200]

خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ (199) وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (200)

و لمّا أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالدعاء إليه و تبليغ رسالته، علّمه محاسن الأفعال

______________________________

(1) سقط من النسخة الخطّية تفسير الآية (198) كملا، و إليك تفسيرها باختصار من مجمع البيان: وَ إِنْ تَدْعُوهُمْ يعني: إن دعوتم هؤلاء الذين تعبدونهم من الأصنام إِلَى الْهُدى أي: إلى الرشد و المنافع. و

قيل: معناه: و إن دعوتم المشركين إلى الدين. لا يَسْمَعُوا أي:

لا يسمعوا دعاءكم وَ تَراهُمْ فاتحة أعينهم نحوكم على ما صوّرتموهم عليه من الصور.

و قيل: معناه: لا يقبلوا، و منه: سمع اللّه لمن حمده. يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ وَ هُمْ لا يُبْصِرُونَ الحجّة.

يعني: مشركي العرب.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 639

و مكارم الأخلاق و الخصال، فقال: خُذِ الْعَفْوَ أي: خذ ما عفا لك من أفعال الناس و أخلاقهم، و تسهّل من غير كلفة، و لا تداقّهم، و لا تطلب ما يشقّ عليهم حتّى لا ينفروا، من العفو الّذي هو ضدّ الجهد و المشقّة، و منه:

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «يسّروا و لا تعسّروا».

فأمر سبحانه بالتسامح و ترك الاستقصاء. أو خذ العفو عن المذنبين أو الفضل و ما تسهّل من صدقاتهم، و ذلك قبل وجوب الزكاة، فلمّا نزلت أمر أن يأخذهم بها طوعا أو كرها.

وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ المعروف المستحسن من الأفعال وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ فلا تمارهم، و لا تكافئ السفهاء بمثل سفههم، و احلم عنهم، و أغض على ما يسوؤك منهم، صيانة لقدرك، فإنّ مجاوبة السفيه تضع عن القدر.

قيل: إنّه لمّا نزلت الآية سأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جبرئيل عن ذلك، فقال: لا أدري حتى أسأل. ثمّ أتاه فقال: يا محمد إنّ اللّه يأمرك أن تصل من قطعك، و تعطي من حرمك، و تعفو عمّن ظلمك.

و

عن الصادق عليه السّلام: «أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بمكارم الأخلاق، و ليست في القرآن آية أجمع لمكارم الأخلاق منها».

قال ابن زيد: لمّا نزلت هذه الآية قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كيف يا ربّ هذا و الغضب؟

فنزل

قوله: وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ ينخسنّك مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ نخس في القلب، أي:

وسوسة تحملك على خلاف ما أمرت به، كاعتراء غضب. و النزغ و النسغ و النخس:

الغرز، كأنّه ينخس الإنسان حين يغريه على خلاف مأمور اللّه تعالى. فشبّه وسوسته للناس- إغراء لهم على المعاصي و إزعاجا- بغرز السائق ما يسوقه. و جعل النزغ نازغا كما قيل: جدّ جدّه.

فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ و لا تطعه إِنَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ يعلم ما فيه صلاح أمرك، فيحملك عليه. أو سميع بأقوال من آذاك، عليم بأفعاله، فيجازيه عليها، مغنيا إيّاك

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 640

عن الانتقام و متابعة الشيطان.

[سورة الأعراف (7): الآيات 201 الى 203]

إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ مِنَ الشَّيْطانِ تَذَكَّرُوا فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ (201) وَ إِخْوانُهُمْ يَمُدُّونَهُمْ فِي الغَيِّ ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ (202) وَ إِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي هذا بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (203)

ثمّ ذكر سبحانه طريقة المتّقين إذا عرضت لهم وساوس الشياطين، فقال:

إِنَّ الَّذِينَ اتَّقَوْا باجتناب معاصيه إِذا مَسَّهُمْ طائِفٌ لمّة مِنَ الشَّيْطانِ و هو اسم فاعل من: طاف يطوف، كأنّها طافت بهم و دارت حولهم، فلم تقدر أن تؤثّر فيهم. أو من: طاف به الخيال يطيف طيفا. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و الكسائي و يعقوب: طيف، على أنّه مصدر أو تخفيف طيّف، ك: لين و هين. و المراد بالشيطان الجنس، و لذلك جمع ضميره في قوله: «و إخوانهم».

و معنى الآية: أن المتّقين عادتهم أنه إذا أصابهم أدنى نزغ من الشيطان و إلمام بوسوسته تَذَكَّرُوا ما أمر اللّه تعالى به و نهى عنه فَإِذا هُمْ مُبْصِرُونَ فأبصروا الرشد، أو بسبب التذكّر مواقع الخطأ و

مكائد الشيطان، فيتحرّزون عنها و لا يتّبعونه فيها.

و الآية تأكيد و تقرير لما قبلها. و كذا قوله: وَ إِخْوانُهُمْ أي: و إخوان الشياطين الّذين لم يتّقوا يَمُدُّونَهُمْ يمدّهم الشياطين، أي: يكونون لهم مددا و يزيدونهم فِي الغَيِ بالتزيين و الحمل عليه. و قرأ نافع: يمدّونهم، من: أمدّ. ثُمَّ لا يُقْصِرُونَ لا يمسكون و لا يكفّون عن إغوائهم.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 641

و يجوز أن يكون الضمير للإخوان، أي: لا يتّقون عن الغيّ و لا يقصرون كالمتّقين. و يجوز أن يراد بالإخوان الشياطين، و يرجع ضمير «إخوانهم» إلى الجاهلين، فيكون الخبر جاريا على ما هو له. و الأوّل أوجه، لأنّ إخوانهم في مقابلة الّذين اتّقوا.

وَ إِذا لَمْ تَأْتِهِمْ بِآيَةٍ من القرآن، أو من الآيات المقترحة قالُوا لَوْ لا اجْتَبَيْتَها هلّا جمعتها تقوّلا من عند نفسك كسائر ما تقرؤه، لقولهم: إن هذا إلّا إفك مفترى، من: اجتبى الشي ء، أي: جباه لنفسه، بمعنى: جمعه، كقولك: اجتمعه.

أو هلّا أخذتها منزّلة عليك مقترحة، أي: هلّا طلبتها، من جبى إليه فاجتباه، أي:

أخذه، كقولك: جليت إليه العروس فاجتلاها.

قُلْ إِنَّما أَتَّبِعُ ما يُوحى إِلَيَّ مِنْ رَبِّي لست بمختلق للآيات، أو لست بمقترح لها هذا أي: هذا القرآن بَصائِرُ مِنْ رَبِّكُمْ حجج بيّنة و دلائل واضحة يعود المؤمنون بها بصراء بعد العمى. أو هو بمنزلة بصائر القلوب، بها يبصر الحقّ و يدرك الصواب. وَ هُدىً و دلالة تهدي إلى الرشد وَ رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ خصّهم بالذكر لأنّهم المنتفعون بها دون غيرهم.

[سورة الأعراف (7): الآيات 204 الى 206]

وَ إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (204) وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً وَ دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ وَ لا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ (205) إِنَّ

الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ يُسَبِّحُونَهُ وَ لَهُ يَسْجُدُونَ (206)

وَ إِذا قُرِئَ الْقُرْآنُ فَاسْتَمِعُوا لَهُ وَ أَنْصِتُوا ظاهر اللفظ يقتضي وجوب

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 642

استماع القرآن و الإنصات له وقت قراءته، في الصلاة و غير الصلاة.

و عن ابن مسعود و سعيد بن جبير و سعيد بن المسيّب و مجاهد و الزهري:

أنّه في الصلاة خلف الامام الذي يؤتمّ به إذا سمعت قراءته. قالوا: و كان المسلمون يتكلّمون في صلاتهم و يسلّم بعضهم على بعض، و إذا دخل داخل فقال لهم: كم صلّيتم؟ أجابوه. فبهذه الآية نهوا عن ذلك، و أمروا بالاستماع، ثمّ صار سنّة في غير الصلاة أن ينصت القوم في مجلس يقرأ فيه القرآن. و هذا مرويّ أيضا عن أبي جعفر عليه السّلام.

و عن عطاء و زيد بن أسلم: أنّه في الخطبة أمر بالإنصات و الاستماع إلى الامام يوم الجمعة.

و عن الحسن: أنّه في الخطبة و الصلاة جميعا.

و قيل: معناه: إذا تلا عليكم الرسول القرآن عند نزوله فاستمعوا له.

و قال الجبائي: إنّها نزلت في ابتداء التبليغ ليعلموا أو يتفهّموا.

و قال أحمد بن حنبل: أجمعت الأمّة على أنّها نزلت في الصلاة.

و

قال الشيخ أبو جعفر قدّس سرّه: «أقوى الأقوال الأوّل، لأنّه لا حال يجب فيها الإنصات لقراءة القرآن إلّا حال قراءة الإمام في الصلاة، فإنّ على المأموم الإنصات لذلك و الاستماع له، فأمّا خارج الصلاة فلا خلاف أنّ الإنصات و الاستماع غير واجب.

و ما

روي عن الصادق عليه السّلام: «إذا قرئ عندك القرآن وجب عليك الإنصات و الاستماع» يحمل على تأكيد الاستحباب» «1».

لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لترحموا لاتّعاظكم بمواعظه.

وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ عامّ في الأذكار من القراءة و الدعاء و التسبيح و التهليل.

______________________________

(1) التبيان: 5:

68.

زبدة التفاسير، ج 2، ص: 643

و

روى زرارة عن أحدهما عليهما السّلام قال: «معناه: إذا كنت خلف إمام تأتمّ به فأنصت، و سبّح في نفسك».

يعني: فيما لا يجهر الإمام فيه بالقراءة.

تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً متضرّعا و خائفا وَ دُونَ الْجَهْرِ مِنَ الْقَوْلِ و متكلّما كلاما فوق السرّ و دون الجهر، لأنّ الإخفاء أدخل في الإخلاص، و أبعد من الرياء، و أقرب إلى القبول بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ بالغدوات و العشيّات، لفضل هذين الوقتين. و قيل:

المراد دوام الذكر و اتّصاله. وَ لا تَكُنْ مِنَ الْغافِلِينَ عن ذكر اللّه تعالى، اللاهين عنه.

ثمّ ذكر سبحانه ما يبعث إلى الذكر و يدعو إليه، فقال: إِنَّ الَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يعني: ملائكة الملأ الأعلى. و المعنى: عند دنوّ المنزلة و الزلفة و القرب من فضل اللّه و رحمته، لتوفّرهم على طاعته و ابتغاء مرضاته. لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ مع جلالة قدرهم و علوّ مرتبتهم وَ يُسَبِّحُونَهُ و ينزّهونه عمّا لا يليق به وَ لَهُ يَسْجُدُونَ و يخصّونه بالسجود و التذلّل، و لا يشركون به غيره. و هو تعريض بمن عداهم من المكلّفين، و لهذا شرع السجود لقراءته. و هي أول سجدات القرآن.

و اختلف في وجوب سجدة التلاوة عندها و استحبابها، فعند أبي حنيفة واجبة، و عند الشافعي سنّة مؤكّدة، و إليه ذهب أصحابنا. و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إذا قرأ ابن آدم السجدة فسجد اعتزل الشيطان يبكي فيقول: يا ويله أمر هذا بالسجود فسجد فله الجنّة، و أمرت بالسجود فعصيت فلي النار».

الجزء الثالث

(8) سورة الأنفال

اشارة

سورة الأنفال مدنيّة. و آيها خمس و سبعون.

و

في خبر أبيّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأ سورة الأنفال و براءة فأنا شفيع له،

و شاهد يوم القيامة أنّه بري ء من النفاق، و أعطي من الأجر بعدد كلّ منافق و منافقة، في دار الدنيا عشر حسنات، و محي عنه عشر سيّئات، و رفع له عشر درجات، و كان العرش و حملته يصلّون عليه أيّام حياته في الدنيا».

و

عن الصادق عليه السّلام: «من قرأهما في كلّ شهر لم يدخله نفاق أبدا، و كان من شيعة أمير المؤمنين عليه السّلام حقّا، و يأكل يوم القيامة من موائد الجنّة معهم، حتّى يفرغ الناس من الحساب».

[سورة الأنفال (8): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْأَنْفالِ قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (1)

و لمّا قصّ اللّه سبحانه في سورة الأعراف قصص الأنبياء و ختمها بذكر

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 6

نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، افتتح سورة الأنفال بذكره، ثمّ ذكر ما جرى بينه و بين قومه، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يَسْئَلُونَكَ أي: يسألك يا محمّد جماعة من أصحابك عَنِ الْأَنْفالِ أي: عن حكمها.

و اختلف في الأنفال ما هي؟ فقال ابن عبّاس و جماعة: إنّها غنيمة بدر. و قال قوم: هي أنفال السرايا. و قيل: هي ما شذّ عن المشركين من عبد و جارية من غير قتال. و قال قوم: هو الخمس.

و الصحيح ما

قال الباقر و الصادق عليهما السّلام: إنّها كلّ ما أخذ من دار الحرب بغير قتال، و كلّ أرض انجلى أهلها عنها بغير قتال أيضا، و يسمّيها الفقهاء فيئا، و الأرضون الموات، و الآجام، و بطون الأودية، و قطائع الملوك إذا لم تكن مغصوبة، و ميراث من لا وارث له.

قُلِ الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ و لمن قام مقامه بعده من الأئمّة

المعصومين صلوات اللّه عليهم، يصرفونها حيث شاؤا من مصالحهم و مصالح عيالهم. و

قالا عليهما السّلام: «إنّ غنائم بدر كانت للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خاصّة، فقسّمها بينهم تفضّلا منه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

و هو مذهب أصحابنا الإماميّة. و يؤيّده أنّ الأنفال جمع نفل، و هي الزيادة على الشي ء، سمّي به لكونه زائدا على الغنيمة، كما سمّيت النافلة نافلة لزيادتها على الفرض، و سمّي ولد الولد نافلة لزيادته على الأولاد. و قيل: سمّيت النافلة نفلا، لأنّ هذه الأمّة فضّلت بها على سائر الأمم.

و اختلفوا في نسخ هذه الآية، فقال جماعة من المفسّرين: نعم، نسخت بآية وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ «1» الآية. و قال الطبري «2» و أصحابنا: ليست منسوخة. و هو الحقّ، لعدم المنافاة بينها و بين آية الخمس، لما ذكرنا من المغايرة بين الموضوعين.

______________________________

(1) الأنفال: 41.

(2) تفسير الطبري 9: 119.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 7

و قال سعيد بن المسيّب و جماعة: لا نفل بعد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و منعه جماعة من الفقهاء و أصحابنا، لما بيّنّا أنّها للإمام القائم مقامه.

و فائدة الجمع بين اللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كفائدته في قوله: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ «1» على وجه يأتي إن شاء اللّه. فالمعنى: حكمها مختصّ باللّه تعالى و رسوله. و تخصيصها علم بفعل الرسول، فإنّ فعله حجّة كقوله. و في الكشّاف «2»: أن حكمها مختصّ بهما، اللّه حاكم، و الرسول منفذ.

عن ابن عبّاس: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال يوم بدر: من فعل كذا فله كذا.

فتسارع الشبّان فقتلوا سبعين و أسروا سبعين،

ثمّ طلبوا نفلهم، و بقي الشيوخ و الوجوه تحت الرايات. فلمّا كانت الغنيمة جاء الشبّان يطلبون نفلهم. فقال الشيوخ: لا تستأثروا علينا، فإنّا كنّا ردءا، أي: عونا لكم، و لو وقعت عليكم الهزيمة لرجعتم إلينا. و جرى التشاجر بينهم، فنزلت. فقسّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم النفل بينهم بالسويّة.

و

عن سعد بن أبي وقّاص: قتل أخي عمير يوم بدر، فقتلت به سعيد بن العاص، و أخذت سيفه فأعجبني، فجئت به إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقلت له: إنّ اللّه قد شفى صدري من المشركين، فهب لي هذا السيف. فقال: ليس لي هذا و لا لك. فما جاوزت إلّا قليلا حتّى جاءني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قد أنزلت سورة الأنفال، فقال: يا سعد إنّك سألتني السيف و ليس لي، و إنّه قد صار لي، فاذهب فخذه.

و

قال عبادة بن الصامت: اختلفنا في النفل و ساءت فيه أخلاقنا، فنزعه اللّه من أيدينا فجعله لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقسّمه بيننا على السواء.

فخاطبنا بقوله:

فَاتَّقُوا اللَّهَ في الاختلاف و المشاجرة في الأنفال وَ أَصْلِحُوا ذاتَ بَيْنِكُمْ الحال

______________________________

(1) الأنفال: 41، و سيأتي تفسيرها في ص: 42.

(2) الكشّاف 2: 195.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 8

الّتي بينكم من المنازعة بالمحابّة و الائتلاف، و المساعدة و المواساة فيما رزقكم اللّه تعالى، و تسليم أمره إلى اللّه و الرسول.

و قال الزّجاج: «ذات بينكم» أي: حقيقة وصلكم، و منه: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ «1» أي: وصلكم و اجتماعكم على أوامر اللّه.

وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فيه إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإنّ الإيمان يقتضي ذلك.

أو إن كنتم كاملي الإيمان، فإنّ كمال

الايمان بطاعة الأوامر، و الاتّقاء عن المعاصي، و إصلاح ذات البين بالعدل و الإحسان.

[سورة الأنفال (8): الآيات 2 الى 6]

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (3) أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (4) كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ (5) يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِّ بَعْدَ ما تَبَيَّنَ كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ (6)

ثمّ بيّن صفة خلّص المؤمنين بقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ أي: الكاملون في الإيمان الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ ذكر عندهم عقوبته و عدله، و وعيده على المعاصي بالعقاب، و اقتداره عليه وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ فزعت لذكره تهيّبا من جلاله، و استعظاما

______________________________

(1) الأنعام: 94.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 9

له. و أمّا إذا ذكرت نعمة اللّه على عباده، و إحسانه إليهم، و فضله و رحمته عليهم، و ثوابه على الطاعات، اطمأنّت قلوبهم، كما قال تعالى: أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ «1»، و سكنت نفوسهم إلى عفو اللّه، فلا تنافي بين الآيتين.

و قيل: هو الرجل يهمّ بمعصية فيقال له: اتّق اللّه، فينزع عنها خوفا من عقابه.

وَ إِذا تُلِيَتْ عَلَيْهِمْ آياتُهُ زادَتْهُمْ إِيماناً لزيادة المؤمن به، أي: ازدادوا يقينا و طمأنينة نفس و تصديقا بها، منضمّا إلى يقينهم بما أنزل قبل ذلك من القرآن، كما روي عن ابن عبّاس أنّ المعنى زادتهم تصديقا مع تصديقهم بما أنزل إليهم قبل ذلك. يعني: أنّهم يصدّقون بالأولى و الثانية و الثالثة، و هكذا فكلّ ما يأتي من عند اللّه فيزداد تصديقهم كميّة لا كيفيّة، لأنّ الإيمان لا يقبل الزيادة و النقصان عندنا.

و قيل: إنّ

المراد ازدياد الايمان، لاطمئنان النفس و رسوخ اليقين بتظاهر الأدلّة، أو بالعمل بموجبها. و هو قول من قال: إنّ الايمان يزيد بالطاعة و ينقص بالمعصية، بناء على أنّ العمل داخل فيه.

وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ يفوّضون إليه أمورهم، و لا يخشون و لا يرجون إلّا إيّاه.

الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ إنّما خصّ فرض الصلاة و الزكاة بالذكر لعظم شأنهما، و تأكّد الأمر فيهما.

أُولئِكَ المستجمعون لهذه الخصال الحميدة هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا هم الّذين استحقّوا إطلاق اسم الإيمان حقيقة عليهم، لأنّهم حقّقوا إيمانهم، بأن ضمّوا

______________________________

(1) الرّعد: 28.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 10

إليه مكارم أعمال القلوب، من الخشية و الإخلاص و التوكّل، و محاسن أفعال الجوارح الّتي هي المعيار عليها، من الصّلاة و الصدقة. و «حقّا» صفة مصدر محذوف، أي: إيمانا حقّا. أو مصدر مؤكّد للجملة الّتي هي «أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ» كما تقول: هو عبد اللّه حقّا، أي: حقّ ذلك حقّا.

لَهُمْ دَرَجاتٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ شرف و كرامة و علوّ منزلة. و قيل: درجات الجنّة يرتقونها بأعمالهم. وَ مَغْفِرَةٌ و تجاوز لما فرط منهم من السيّئات وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ أي: حظّ عظيم أعدّ لهم فيها على سبيل التعظيم لا ينقطع عدده، و لا ينتهي أمده.

و هذا معنى الثواب.

كَما أَخْرَجَكَ رَبُّكَ مِنْ بَيْتِكَ الكاف في محلّ الرفع على أنّه خبر مبتدأ محذوف، تقديره: هذه الحال كحال إخراجك. و المعنى: أنّ حالهم في كراهة ما حكم اللّه في الأنفال، مثل حالهم في كراهة خروجك من بيتك للحرب.

و يجوز أن يكون في محلّ النصب، على أنّه صفة لمصدر الفعل المقّدر في قوله: «الْأَنْفالُ لِلَّهِ وَ الرَّسُولِ» أي: الأنفال استقرّت للّه و الرسول و ثبتت مع كراهتهم، ثباتا مثل ثبات إخراج ربّك إيّاك

من بيتك مع كراهتهم، يعني: من المدينة، لأنّها مهاجره و مسكنه، أو بيته فيها.

بِالْحَقِ أي: إخراجا ملتبسا بالحكمة و الصواب الّذي لا محيد عنه.

و سبب كراهتهم أنّ عير قريش أقبلت من الشام و فيها تجارة عظيمة، و معها أربعون راكبا، منهم أبو سفيان و عمرو بن العاص و عمرو بن هشام، فأخبر جبرئيل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فأخبر المسلمين، فأعجبهم تلقّي العير، لكثرة المال و قلّة الرجال.

فلمّا خرجوا بلغ أهل مكّة خروجهم، فنادى أبو جهل فوق الكعبة: يا أهل

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 11

مكّة النجاء «1» النجاء على كلّ صعب و ذلول، عيركم أموالكم، إن أصابها محمد لن تفلحوا بعدها أبدا.

و قد رأت عاتكة أخت العبّاس بن عبد المطّلب رؤيا قبل ذلك بثلاث ليال، فقالت لأخيها: إنّي رأيت عجبا، رأيت كأنّ ملكا نزل من السماء فأخذ صخرة من الجبل ثمّ حلق «2» بها، فلم يبق بيت من بيوت مكّة إلّا اصابه حجر من تلك الصخرة. فحدّث بها العبّاس، فقال أبو جهل: ما يرضى رجالهم أن يتنبّئوا حتّى تتنبّأ نساؤهم. و برواية أخرى قال: هذه نبيّة ثانية من بني عبد المطّلب.

فخرج أبو جهل بجميع أهل مكّة، و هم النفير في المثل السائر: لا في العير و لا في النفير. فقيل له: إنّ العير أخذت طريق الساحل و نجت، فارجع بالناس إلى مكّة. فقال: لا و اللّه لا يكون ذلك أبدا حتّى ننحر الجزور، و نشرب الخمور، و نقيم القينات «3» و المعازف ببدر، فيتسامع جميع العرب بمخرجنا، و إنّ محمّدا لم يصب العير، و إنّا قد أعضضناه «4». فمضى بهم إلى بدر. و بدر ماء كانت العرب تجتمع فيه لسوقهم يوما

في السنة.

و

نزل جبرئيل فقال: يا محمّد إنّ اللّه وعدكم إحدى الطائفتين: إمّا العير و إمّا قريشا. فاستشار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أصحابه و قال: ما تقولون: إنّ القوم قد خرجوا من مكّة على كلّ صعب و ذلول، فالعير أحبّ إليكم أم النفير؟

______________________________

(1) أي: أسرعوا أسرعوا.

(2) أي: رمى بها إلى فوق.

(3) أي: المغنّيات، و الواحدة: قينة.

(4) في الصحاح (3: 1091- 1092): «أعضضته الشي ء فعضّه. و يقال: أعضضته سيفي، أي:

ضربته به». زبدة التفاسير، ج 3، ص: 12

قالوا: بل العير أحبّ إلينا من لقاء العدوّ.

فتغيّر وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثمّ ردّد عليهم فقال: إنّ العير قد مضت على ساحل البحر، و هذا أبو جهل قد أقبل.

فقالوا: يا رسول اللّه عليك بالعير ودع العدوّ.

فقام عند غضب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أبو بكر و عمرو و قالا فأحسنا.

ثمّ قام سعد بن عبادة فقال: أنظر أمرك فامض، فو اللّه لو سرت إلى عدن أبين «1» ما تخلّف عنك رجل من الأنصار.

ثمّ قال المقداد بن عمرو: يا رسول اللّه امض لما أمرك اللّه، فإنّا معك حيث ما أحببت، لا نقول لك كما قال بنو إسرائيل لموسى: فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ «2»، و لكن اذهب أنت و ربّك فقاتلا إنّا معكما مقاتلون، ما دامت عين منّا تطرف. فضحك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

ثمّ قال: أشيروا عليّ أيّها الناس و هو يريد الأنصار، لأنّهم كانوا عدده، و قد قالوا له حين بايعوه على العقبة: إنّا برآء من ذمامك حتّى تصل إلى ديارنا، فإذا وصلت إلينا فأنت في ذمامنا، نمنعك ممّا نمنع منه أبناءنا

و نساءنا.

فكان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يتخوّف أنّ الأنصار لا يروا نصرته إلّا على عدوّ دهمه بالمدينة.

فقام سعد بن معاذ فقال: لكأنّك تريدنا يا رسول اللّه؟

قال: أجل.

قال: قد آمنّا بك و صدّقناك، و شهدنا أنّ ما جئت به هو الحقّ، و أعطيناك على ذلك عهودنا و مواثيقنا على السمع و الطاعة، فامض يا رسول اللّه لما

______________________________

(1) في الصحاح (5: 2082): «أبين اسم رجل نسب إليه عدن، يقال: عدن أبين».

(2) المائدة: 24. زبدة التفاسير، ج 3، ص: 13

أردت، فو الّذي بعثك بالحقّ لو استعرضت بنا هذا البحر فخضته لخضناه معك، ما تخلّف منّا رجل واحد، و ما نكره أن تلقى بنا عدوّنا، و إنّا لصبر عند الحرب، صدق عند اللقاء، و لعلّ اللّه يريك منّا ما تقرّ به عينك، فسر بنا على بركة اللّه.

ففرح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و نشّطه قول سعد ثم قال: سيروا على بركة اللّه و أبشروا، فإنّ اللّه وعدني إحدى الطائفتين، و اللّه لكأنّي الآن أنظر إلى مصارع القوم.

و

روي أنّه قيل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين فرغ من بدر: عليك بالعير ليس دونها شي ء. فناداه العبّاس و هو في وثاقه: لا يصلح. فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لم؟ قال: لأنّ اللّه وعدك إحدى الطائفتين، و قد أعطاك ما وعدك.

و كانت تلك الكراهة من بعضهم لقوله: وَ إِنَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ لَكارِهُونَ و هو في موقع الحال، أي: أخرجك في حال كراهتهم خروجك من بيتك إلى حرب مشركي مكّة في بدر.

يُجادِلُونَكَ فِي الْحَقِ ينازعونك في إيثارك الجهاد بإظهار الحقّ، لإيثارهم تلقّي العير عليه. بَعْدَ ما

تَبَيَّنَ لهم أنّهم ينصرون أينما توجّهوا، و ذلك بإعلام الرسول. و جدالهم قولهم: ما كان خروجنا إلّا للعير، و هلّا قلت لنا لنستعدّ و نتأهّب؟

و ذلك لكراهتهم القتال.

ثمّ شبّه حالهم في فرط فزعهم و رعبهم و هم يسار بهم إلى الظفر و الغنيمة، بحال من يجذب إلى القتل و يساق على الصغار إلى الموت المتيقّن، فقال: كَأَنَّما يُساقُونَ إِلَى الْمَوْتِ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ أي: يكرهون القتال كراهة من يساق إلى الموت و هو يشاهد أسبابه. و كان ذلك لقلّة عددهم، و عدم تأهّبهم، إذ روي أنّهم كانوا رجّالة، و ما كان فيهم إلّا فارسان. و فيه إيماء إلى أنّ مجادلتهم إنما كانت لفرط فزعهم و رعبهم.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 14

[سورة الأنفال (8): الآيات 7 الى 14]

وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ أَنَّها لَكُمْ وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ وَ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ يَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ (7) لِيُحِقَّ الْحَقَّ وَ يُبْطِلَ الْباطِلَ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (8) إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ فَاسْتَجابَ لَكُمْ أَنِّي مُمِدُّكُمْ بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ (9) وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ إِلاَّ بُشْرى وَ لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ وَ مَا النَّصْرُ إِلاَّ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (10) إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ أَمَنَةً مِنْهُ وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ وَ لِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ وَ يُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ (11)

إِذْ يُوحِي رَبُّكَ إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَ اضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ (12) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (13) ذلِكُمْ فَذُوقُوهُ وَ أَنَّ لِلْكافِرِينَ

عَذابَ النَّارِ (14)

وَ إِذْ يَعِدُكُمُ اللَّهُ إِحْدَى الطَّائِفَتَيْنِ إمّا النفير أو العير. و هذا على إضمار «اذكر». و «إحدى» ثاني مفعولي «يعدكم»، و قد أبدل منها قوله: أَنَّها لَكُمْ بدل الاشتمال وَ تَوَدُّونَ أَنَّ غَيْرَ ذاتِ الشَّوْكَةِ تَكُونُ لَكُمْ يعني: العير، فإنّه لم يكن فيها إلّا أربعون فارسا، و لذلك يتمنّونها، و يكرهون الطائفة الّتي هي ذات الشوكة، لكثرة

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 15

عددهم و عدّتهم. و الشوكة الحدّة، مستعارة من واحدة الشوك.

وَ يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُحِقَّ الْحَقَ أن يثبته، أي: يعزّ الإسلام و يعليه بِكَلِماتِهِ بآياته المنزلة في محاربتهم، أو بأوامره للملائكة بالإمداد وَ يَقْطَعَ دابِرَ الْكافِرِينَ باستئصالهم و قتلهم و أسرهم و طرحهم في قليب بدر. و الدابر: الآخر، من: دبر إذا أدبر. و قطع الدابر عبارة عن الاستئصال.

و المعنى: أنّكم تريدون الفائدة العاجلة، و لا تريدون مكروها، و اللّه يريد ما يرجع إلى علوّ أمور الدين و إظهار الحقّ، و ما يحصل لكم من فوز الدارين، فشتّان ما بين المرادين، و لذلك اختار لكم الطائفة ذات الشوكة، و كسر قوّتهم، و غلّبكم عليهم مع كثرتهم و قلّتكم، فأذلّهم و أعزّكم.

لِيُحِقَّ الْحَقَ متعلّق بمحذوف، تقديره: فعل ذلك لتثبيت دين الحقّ وَ يُبْطِلَ الْباطِلَ أي: الشرك. و ليس بتكرير، لأنّ الأوّل لبيان المراد، و ما بينه و بين مرادهم من التفاوت، و الثاني لبيان الداعي إلى حمل الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على اختيار ذات الشوكة و نصرتهم عليها وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ذلك.

روي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا نظر إلى المشركين و هم ألف، و إلى أصحابه و هم ثلاثمائة

و ثلاثة عشر، فاستقبل القبلة و مدّ يده و قال: اللّهمّ أنجز لي ما وعدتني، اللّهمّ إن تهلك هذه العصابة لا تعبد في الأرض، فما زال يهتف كذلك حتّى سقط رداؤه من منكبيه، فأنزل اللّه تعالى: إِذْ تَسْتَغِيثُونَ رَبَّكُمْ

و هذا بدل من «إذ يعدكم»، أو متعلّق بقوله: «ليحقّ الحقّ»، أو على إضمار «اذكر».

و قيل: استغاثتهم أنّهم لمّا علموا أن لا محيص عن القتال أخذوا يقولون: أي ربّ انصرنا على عدوّك، أغثنا يا غياث المستغيثين.

فَاسْتَجابَ لَكُمْ فأغاثكم و أجاب دعوتكم أَنِّي مُمِدُّكُمْ بأنّي ممدّكم، فحذف الجارّ و سلّط عليه الفعل.

و قرأ أبو عمرو بالكسر «1» على إرادة القول، أو إجراء «استجاب» مجرى

______________________________

(1) أي: بكسر: إنّ.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 16

«قال»، لأنّ الاستجابة من القول.

بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ عليهم ثياب بيض و عمائم بيض، قد أرخوا أذنابها بين أكتافهم مُرْدِفِينَ متبعين المؤمنين، أو متبعين بعضهم بعضا، من: أردفته إذا جئت بعده، أو متبعين بعضهم بعض المؤمنين أو أنفسهم المؤمنين، من: أردفته إيّاه فردفه.

و قرأ نافع و يعقوب: مردفين بفتح الدال، أي: متبعين أو متّبعين، بمعنى: أنّهم كانوا مقدّمة الجيش أو ساقتهم.

وَ ما جَعَلَهُ اللَّهُ أي: إمدادكم بالملائكة إِلَّا بُشْرى إلّا بشارة لكم بالنصر وَ لِتَطْمَئِنَّ بِهِ قُلُوبُكُمْ فيزول ما بها من الوجل، لقلّتكم و ذلّتكم وَ مَا النَّصْرُ بالملائكة و غيرهم من الأسباب إِلَّا مِنْ عِنْدِ اللَّهِ فينصر من يشاء، قلّ العدد أم كثر إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يمنع عن مراده حَكِيمٌ في أفعاله، يجريها على ما تقتضيه الحكمة. و إمداد الملائكة و كثرة العدد و الأهب و نحوهما وسائط، فلا تحسبوا النصر منها حقيقة، و لا تيأسوا منه بفقدها.

و اختلف في أنّ الملائكة هل قاتلت يوم

بدر أم لا؟ فقيل: ما قاتلت و لكن شجّعت و كثّرت سواد المسلمين و بشّرت بالنصر، و إلّا فملك واحد كاف في إهلاك أهل الدنيا كلّهم، فإنّ جبرئيل أهلك بريشة من جناحه مدائن قوم لوط، و أهلك بلاد ثمود و قوم صالح بصيحة واحدة.

و قيل: إنّها قاتلت. و روي عن ابن مسعود أنّه سأله أبو جهل من أين يأتينا الضرب و لا نرى الشخص؟ فقال: من قبل الملائكة. فقال: هم غلبونا لا أنتم.

و عن ابن عبّاس أيضا: أنّ الملائكة قاتلت يوم بدر. و في رواية: قاتلت يوم بدر، و لم تقاتل يوم الأحزاب و يوم حنين.

و

روي: أنّ رجلا من المسلمين بينما هو يشتدّ في أثر رجل من المشركين إذ سمع صوت ضربة بالسوط فوقه، فنظر إلى المشرك قد خرّ مستلقيا و شقّ وجهه، فحدّث الأنصاري رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: صدقت ذلك من مدد السّماء.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 17

و عن أبي داود المازني: تبعت رجلا من المشركين لأضربه يوم بدر، فوقع رأسه بين يدي قبل أن يصل إليه سيفي.

و قوله: إِذْ يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ بدل ثان من «إذ يعدكم»، أو متعلّق بالنصر، أو بما في «عند اللّه» من معنى الفعل، أو يجعل «أو» بإضمار «اذكر».

و قرأ نافع بالتخفيف، من: أغشيته الشي ء إذا غشّيته إيّاه. و الفاعل على القراءتين هو اللّه تعالى. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو: يغشاكم النّعاس بالرفع.

أَمَنَةً مِنْهُ أمنا من اللّه تعالى. و هو مفعول له باعتبار المعنى، فإنّ قوله «يُغَشِّيكُمُ النُّعاسَ» متضمّن معنى: تنعسون، و «يغشاكم» بمعناه، فيكون فاعل الفعل المعلّل و العلّة واحدا. و «منه» صفة ل «أمنة». و المعنى: إذ يتغشّون لأمنكم الحاصل من

اللّه بإزالة الرعب من قلوبكم، فإنّ الإنسان لا يأخذه النوم في حال الخوف، فآمنهم اللّه تعالى بزوال الرعب عن قلوبهم، كما يقال: الخوف مسهر، و الأمن منيم.

و الأمنة الدعة الّتي تنافي المخافة.

و عن ابن عبّاس: النعاس في القتال أمنة من اللّه، و في الصلاة وسوسة الشيطان.

وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ بِهِ من الحدث و الجنابة وَ يُذْهِبَ عَنْكُمْ رِجْزَ الشَّيْطانِ يعني: الجنابة، لأنّه من تخييله أو وسوسته و تخويفه إيّاهم من العطش، و ذلك أنّ المشركين قد سبقوهم إلى الماء، و نزل المسلمون في كثيب «1» أعفر تسوخ فيه الأقدام، و ناموا فاحتلم أكثرهم، فتمثّل لهم إبليس و قال: يا أصحاب محمد أنتم تزعمون أنّكم على الحقّ، و أنتم تصلّون على الجنابة، و قد عطشتم، و لو كنتم على حقّ ما غلبكم هؤلاء على الماء، و ها هم الآن يمشون إليكم، فيقتلونكم و يسوقون بقيّتكم إلى مكّة. فحزنوا لذلك، فأنزل اللّه المطر، فمطروا ليلا حتّى جرى

______________________________

(1) الكثيب: التلّ من الرمل.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 18

الوادي، و اغتسلوا و توضّؤوا، و اتّخذوا الحياض على عدوة «1» الوادي، و تلبّد «2» الرمل الّذي كان بينهم و بين العدوّ حتّى ثبتت عليه الأقدام، و زالت وسوسة الشيطان، و طابت النفوس.

وَ لِيَرْبِطَ عَلى قُلُوبِكُمْ و ليشدّ عليها. و معناه: يشجّع قلوبكم، و يزيدكم قوّة قلب و سكون نفس، و الثقة على لطف اللّه وَ يُثَبِّتَ بِهِ الْأَقْدامَ أي: بالمطر حتّى لا تسوخ في الرمل، أو بالربط على القلوب حتّى تثبت في المعركة، فإنّ الجرأة تثبّت القدم في مواطن الحرب.

إِذْ يُوحِي رَبُّكَ بدل ثالث، أو متعلّق ب «يثبّت» إِلَى الْمَلائِكَةِ أَنِّي مَعَكُمْ في إعانتهم و تثبيتهم. و هو

مفعول «يوحي». فَثَبِّتُوا الَّذِينَ آمَنُوا بالبشارة، أو بتكثير سوادهم، أو بمجاهدة أعدائهم.

و قوله: سَأُلْقِي فِي قُلُوبِ الَّذِينَ كَفَرُوا الرُّعْبَ كالتفسير لقوله: أَنِّي مَعَكُمْ فَثَبِّتُوا. و لا معونة أعظم من إلقاء الرعب في قلوب الكفّار، و لا تثبيت أبلغ من ضرب أعناقهم. فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ أي: أعاليها الّتي هي المذابح، لأنّها مفاصل، فكان إيقاع الضرب فيها حزّا و تطييرا للرؤوس، لأنّها فوق الأعناق وَ اضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ أصابع، أي: حزّوا رقابهم و اقطعوا أطرافهم من اليدين و الرجلين، فإنّ الضرب إمّا واقع على مقتل أو غير مقتل، فأمرهم بأن يجمعوا عليهم النوعين معا.

و فيه دليل على أنّهم قاتلوا. و من منع ذلك جعل الخطاب فيه مع المؤمنين، إمّا على تغيير الخطاب، أو على أنّ قوله: «سألقي» إلى قوله: «كلّ بنان» تلقين للملائكة ما يثبّتون المؤمنين به، كأنّه قال: قولوا لهم قولي هذا.

ذلِكَ إشارة إلى ما وقع بهم من القتل أو الأمر به. و الخطاب في «ذلك»

______________________________

(1) العدوة: المكان المتباعد، أو المرتفع.

(2) تلبّد الرمل أي: تجمّع و لصق بعضه ببعض.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 19

للرسول، أو لكلّ أحد من المخاطبين قبل بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أي: ذلك العقاب العاجل أو أمر الملائكة به بسبب مشاقّتهم و مخالفتهم لهما. و اشتقاقه من الشقّ، لأنّ كلّا من المعاندين في شقّ خلاف شقّ الآخر، كالمعاداة من العدوة بمعنى الجانب، و المخاصمة من الخصم، و هو أيضا الجانب.

و قوله: وَ مَنْ يُشاقِقِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ تقرير للتعليل، أو وعيد بما أعدّ لهم في الآخرة بعد ما حاق بهم في الدنيا.

ذلِكُمْ الخطاب فيه مع الكفرة على طريقة الالتفات. و محلّه الرفع، أي:

الأمر ذلكم، أو ذلكم واقع، أو

نصب بفعل دلّ عليه قوله: فَذُوقُوهُ أو غيره، مثل:

باشروا أو عليكم، فتكون الفاء عاطفة وَ أَنَّ لِلْكافِرِينَ عَذابَ النَّارِ عطف على «ذلكم»، أو نصب على المفعول معه. و المعنى: ذوقوا ما عجّل لكم مع ما أجّل لكم في الآخرة. و وضع الظاهر فيه موضع الضمير للدلالة على أنّ الكفر سبب العذاب الآجل، أو الجمع بينهما.

[سورة الأنفال (8): الآيات 15 الى 18]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ (15) وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلاَّ مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (16) فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ وَ ما رَمَيْتَ إِذْ رَمَيْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى وَ لِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (17) ذلِكُمْ وَ أَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ (18)

و لمّا أمدّ سبحانه المسلمين بالملائكة، و وعدهم النصر و الظفر بالكفّار، نهاهم عقيبه عن الفرار، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا زَحْفاً

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 20

متزاحفين. حال من «الَّذِينَ كَفَرُوا». و الزحف: الجيش الدهم «1» الّذي يرى لكثرته كأنّه يزحف، أي: يدبّ دبيبا، من: زحف الصبيّ إذا دبّ على استه قليلا قليلا، سمّي بالمصدر. و الجمع زحوف. و المعنى: إذا لقيتموهم للقتال و هم كثير جمّ و أنتم قليل. فَلا تُوَلُّوهُمُ الْأَدْبارَ فلا تنصرفوا عنهم منهزمين من العدوّ.

و يجوز أن يكون حالا من الفاعل و المفعول، أي: إذا لقيتموهم متزاحفين يدبّون إليكم و تدبّون إليهم فلا تنهزموا. أو حال من الفاعل، كأنّهم أخبروا بما سيكون منهم يوم حنين حين تولّوا مدبرين و هم زحف اثنا عشر ألفا.

وَ مَنْ يُوَلِّهِمْ يَوْمَئِذٍ دُبُرَهُ إِلَّا مُتَحَرِّفاً لِقِتالٍ يريد الكرّ

بعد الفرّ، يخيّل عدوّه أنّه منهزم ثمّ يعطف عليه، و هو باب من خدع الحرب و مكايدها. أو يكون التحرّف لأجل إصلاح لأمته «2» و سائر أسلحته أَوْ مُتَحَيِّزاً إِلى فِئَةٍ أو منحازا إلى فئة اخرى من المسلمين على القرب ليستعين بهم. و انتصابهما على الحال، و «إلّا» لغو لا عمل لها. أو على الاستثناء من المولّين، أي: و من يولّهم إلّا رجلا منهم متحرّفا أو متحيّزا. و وزن متحيّز متفيعل لا متفعّل، لأنّه من: حاز يحوز، فبناء متفعّل منه متحوّز.

فَقَدْ باءَ بِغَضَبٍ مِنَ اللَّهِ وَ مَأْواهُ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ هذا إذا لم يزد العدوّ على الضعف، لقوله: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ «3» الآية.

و قيل: الآية مخصوصة بأهل بيته و الحاضرين معه في الحرب.

و عن ابن عبّاس: أنّ الفرار من الزحف من أكبر الكبائر.

روي أنّه لمّا طلعت قريش من العقنقل قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم داعيا للّه تعالى: هذه قريش

______________________________

(1) الدّهم: العدد الكثير.

(2) اللأمة: الدرع.

(3) الأنفال: 66. زبدة التفاسير، ج 3، ص: 21

جاءت بخيلائها و فخرها يكذّبون رسولك، اللّهمّ إنّي أسألك ما وعدتني. فأتاه جبرئيل و قال له: خذ قبضة من تراب فارمهم بها. فلمّا التقى الجمعان قال لعليّ عليه السّلام:

أعطني قبضة من حصباء الوادي، فأعطاه فرمى بها في وجوههم، و قال: شاهت الوجوه. فلم يبق مشرك إلّا شغل بعينيه فانهزموا، و ردفهم المؤمنون يقتلونهم و يأسرونهم.

ثمّ لمّا انصرفوا أقبلوا على التفاخر، فيقول الرجل: قتلت و أسرت، فنزلت:

فَلَمْ تَقْتُلُوهُمْ الفاء جواب شرط محذوف، تقديره: إن افتخرتم بقتلهم فأنتم لم تقتلوهم بقوّتكم وَ لكِنَّ اللَّهَ قَتَلَهُمْ بإنزال الملائكة و إلقاء الرعب في قلوبهم.

وَ ما رَمَيْتَ يا محمّد رمية توصلها إلى أحداقهم، و

لم تقدر عليه إِذْ رَمَيْتَ أي: أتيت بصورة الرمي وَ لكِنَّ اللَّهَ رَمى أتى بما هو غاية الرمي، فأوصلها إلى أعينهم جميعا حتّى انهزموا، و تمكّنت من قطع دابرهم. و هذا من عجائب المعجزات. و اللفظ كما يطلق على المسمّى، يطلق على ما هو كماله و المقصود منه.

و قيل: معناه: ما رميت بالرعب إذ رميت بالحصباء، و لكنّ اللّه رمى بالرعب في قلوبهم.

و قيل: إنّه نزل في طعنة طعن بها أبيّ بن خلف يوم أحد و لم يخرج منه دم، فجعل يخور حتّى مات. أو في رمية سهم رماه يوم خيبر نحو الحصن فأصاب كنانة بن أبي الحقيق على فراشه. و أكثر المفسّرين على القول الأوّل.

و قرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي: و لكن بالتخفيف و رفع ما بعده في الموضعين.

وَ لِيُبْلِيَ الْمُؤْمِنِينَ مِنْهُ بَلاءً حَسَناً و لينعم عليهم نعمة عظيمة من ذلك النصر و الغنيمة و مشاهدة الآيات، أو من عنده تعالى. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لاستغاثتهم

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 22

و دعائهم عَلِيمٌ بنيّاتهم و أحوالهم.

ذلِكُمْ إشارة إلى البلاء الحسن، أو القتل، أو الرمي. و محلّه الرفع، أي:

الغرض أو الأمر ذلكم. و و قوله: وَ أَنَّ اللَّهَ مُوهِنُ كَيْدِ الْكافِرِينَ معطوف عليه، أي:

المقصود إبلاء المؤمنين، و توهين كيد الكافرين، و إبطال حيلهم.

و قرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو: موهّن بالتشديد، و حفص: موهن كيد بالإضافة و التخفيف.

[سورة الأنفال (8): الآيات 19 الى 23]

إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ وَ إِنْ تَنْتَهُوا فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ إِنْ تَعُودُوا نَعُدْ وَ لَنْ تُغْنِيَ عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ شَيْئاً وَ لَوْ كَثُرَتْ وَ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ (19) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لا تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ أَنْتُمْ

تَسْمَعُونَ (20) وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا وَ هُمْ لا يَسْمَعُونَ (21) إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الصُّمُّ الْبُكْمُ الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (22) وَ لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ خَيْراً لَأَسْمَعَهُمْ وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ لَتَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ (23)

ثمّ خاطب أهل مكّة على سبيل التهكّم بقوله: إِنْ تَسْتَفْتِحُوا فَقَدْ جاءَكُمُ الْفَتْحُ و ذلك أنّهم حين أرادوا الخروج تعلّقوا بأستار الكعبة و قالوا: اللّهمّ انصر أعلى الجندين، و أهدى الفئتين، و أكرم الحزبين. و برواية أخرى: اللّهمّ انصر أقرانا للضيف، و أوصلنا للرحم، و أفكّنا للعاني، إن كان محمّد على حقّ فانصره، و إن كنّا على حقّ فانصرنا.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 23

و روي أنّ أبا جهل قال يوم بدر: اللّهمّ أيّنا كان أهجر و أقطع للرحم فأحنه اليوم، أي: فأهلكه.

وَ إِنْ تَنْتَهُوا عن الكفر و معاداة الرسول فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لتضمّنه سلامة الدارين و خير المنزلتين. و قيل: «إِنْ تَسْتَفْتِحُوا» خطاب للمؤمنين، و «إِنْ تَنْتَهُوا» للكافرين. وَ إِنْ تَعُودُوا لمحاربته نَعُدْ لنصره وَ لَنْ تُغْنِيَ و لن تدفع عَنْكُمْ فِئَتُكُمْ جماعتكم شَيْئاً من الإغناء أو المضارّ وَ لَوْ كَثُرَتْ فئتكم وَ أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُؤْمِنِينَ بالنصر و المعونة.

و قرأ نافع و ابن عامر و حفص: و أنّ بالفتح، على تقدير: و لأنّ اللّه مع المؤمنين كان ذلك.

و قيل: الآية خطاب للمؤمنين. و المعنى: إن تستنصروا فقد جاءكم النصر، و إن تنتهوا عن التكاسل في القتال و الرغبة عمّا يستأثره الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فهو خير لكم، و إن تعودوا إليه نعد عليكم بالإنكار أو تهييج العدوّ، و لن تغني حينئذ كثرتكم إذا لم يكن اللّه معكم بالنصر، فإنّ اللّه مع الكاملين في

إيمانهم.

و يؤيّد ذلك أمر اللّه سبحانه المؤمنين بالطاعة الّتي هي سبب النصرة، و نهيهم عن التولّي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد تلك الآية، بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لا تَوَلَّوْا عَنْهُ أي: لا تتولّوا عن الرسول، فإنّ المراد بالآية الأمر بطاعته و النهي عن الإعراض عنه. و ذكر طاعة اللّه للتوطئة و التنبيه على أنّ طاعة اللّه تعالى في طاعة الرسول، لقوله: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ «1».

و قيل: الضمير للجهاد، أو للأمر الّذي دلّ عليه الطاعة.

______________________________

(1) النساء: 80.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 24

وَ أَنْتُمْ تَسْمَعُونَ القرآن و المواعظ سماع فهم و تصديق.

وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ قالُوا سَمِعْنا كالكفرة أو المنافقين الذين ادّعوا السماع وَ هُمْ لا يَسْمَعُونَ سماعا ينتفعون به، لأنّهم ليسوا بمصدّقين، فكأنّهم لا يسمعون رأسا.

و المعنى: أنّكم تصدّقون بالقرآن و النبوّة، فإذا تولّيتم عن طاعة الرسول في بعض الأمور- من قسمة الغنائم و غيرها- كان تصديقكم كلا تصديق، و أشبه سماعكم سماع من لا يؤمن به.

ثمّ قال ذمّا للمعرضين عن أمر اللّه و رسوله: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ أي:

شرّ ما يدبّ على الأرض، أو شرّ البهائم الصُّمُ عن سماع الحقّ الْبُكْمُ عن قراءته الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ شيئا منه. عدّهم من البهائم أوّلا ثمّ جعلهم شرّها، لإبطالهم ما ميّزوا به و فضّلوا لأجله، و هو العقل.

وَ لَوْ عَلِمَ اللَّهُ فِيهِمْ في هؤلاء الصمّ البكم خَيْراً انتفاعا باللطف لَأَسْمَعَهُمْ للطف بهم حتّى يسمعوا سماع المصدّقين وَ لَوْ أَسْمَعَهُمْ أي: و لو لطف بهم و قد علم أن لا خير فيهم لَتَوَلَّوْا عنه و لم ينتفعوا به. أو و لو لطف بهم فصدّقوا

لارتدّوا بعد التصديق و القبول، و كذّبوا فلم يستقيموا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ لعنادهم. و في هذا دلالة على أنّه سبحانه لا يمنع أحدا اللطف، إذا علم أنّه ينتفع به.

و

قال الباقر عليه السّلام: «بنو عبد الدار لم يسلم منهم غير مصعب بن عمير و سويد بن حرملة». و كانوا يقولون: نحن صمّ بكم عمّا جاء به محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قد قتلوا جميعا بأحد، و كانوا أصحاب اللواء.

و قيل: قالوا للنبيّ: أحي لنا قصيّا، فإنّه كان شيخا مباركا حتّى يشهد لك فنؤمن بك. فالمعنى: لأسمعهم كلام قصيّ.

و عن ابن جريج: هم المنافقون. و عن الحسن: هم أهل الكتاب.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 25

[سورة الأنفال (8): الآيات 24 الى 25]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ إِذا دَعاكُمْ لِما يُحْيِيكُمْ وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ وَ أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (25)

ثمّ أمر سبحانه عباده بطاعة رسوله، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اسْتَجِيبُوا لِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ بالطاعة و الامتثال إِذا دَعاكُمْ و حّد الضمير فيه لما سبق، و لأنّ دعوة اللّه تسمع من الرسول لِما يُحْيِيكُمْ من العلوم الدينيّة و الأحكام الشرعيّة، فإنّها حياة القلب، و الجهل موته، قال:

لا تعجبنّ الجهول حلّته فذاك ميت و ثوبه كفن

أو ممّا يورثكم الحياة الأبديّة في النعيم الدائم، من العقائد الحسنة المرضيّة و الأعمال السنيّة. أو من الجهاد، فإنّه سبب بقاء المؤمنين، إذ لو تركوه لغلبهم العدوّ و قتلهم. أو الشهادة، لقوله: بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ «1».

وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَحُولُ بَيْنَ الْمَرْءِ وَ قَلْبِهِ تمثيل لغاية قربه من العبد، كقوله:

وَ نَحْنُ

أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ «2»، فإنّ الحائل بين الشي ء و غيره أقرب إلى ذلك الشي ء من ذلك الغير. و تنبيه على أنّه مطّلع على مكنونات القلوب و ضمائرها، ممّا عسى يغفل عنه صاحبها، فكأنّه بينه و بين قلبه.

أو حثّ على المبادرة إلى إخلاص القلوب و تصفيتها قبل أن يحول اللّه تعالى بينه و بين قلبه بالموت أو غيره، فبادروا إلى الطاعات قبل الحيلولة.

أو تصوير و تخييل لتملّكه على العبد قلبه، فيفسخ عزائمه، و يغيّر مقاصده،

______________________________

(1) آل عمران: 169.

(2) ق: 16.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 26

و يبدله بالخوف أمنا، و بالأمن خوفا، و بالذكر نسيانا، و بالنسيان ذكرا، و ما أشبه ذلك ممّا هو جائز عليه تعالى. و منه

قول أمير المؤمنين عليه السّلام: «عرفت اللّه بفسخ العزائم».

و ما

جاء في الدعاء: يا مقلّب القلوب.

و

روى يونس بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «أنّ اللّه يحول بين المرء و قلبه» معناه: لا يستيقن القلب أنّ الحقّ باطل أبدا، و لا يستيقن القلب أنّ الباطل حقّ أبدا».

و روى هشام بن سالم عنه قال: «معناه: يحول بينه و بين أن يعلم أنّ الباطل حقّ». أوردهما العيّاشي في تفسيره «1».

وَ أَنَّهُ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فيجازيكم بأعمالكم على حسب سلامة القلوب و إخلاص الطاعة.

وَ اتَّقُوا فِتْنَةً لا تُصِيبَنَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْكُمْ خَاصَّةً أي: اتّقوا ذنبا يعمّكم أثره، كترك النهي عن المنكر، و المداهنة في الأمر بالمعروف، و افتراق الكلمة، و إظهار البدع، و التكاسل في الجهاد. و قيل: الفتنة العذاب.

و قوله: «لا تصيبنّ» لا يخلو: إما أن يكون جوابا للأمر، أو نهيا بعد أمر معطوفا عليه بحذف الواو، أو صفة ل «فتنة».

فإذا كان جوابا فالمعنى: إن أصابتكم لا تصيب الظالمين

منكم خاصّة، بل تعمّكم. و إنّما جاز دخول النون في جواب الشرط، مع أنّه متردّد لا يليق به النون المؤكّدة، لأنّ فيه معنى النهي فساغ، كقوله: ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَ جُنُودُهُ «2»، و كما تقول: انزل عن الدابّة لا تطرحك، و يجوز، لا تطرحنّك.

و إذا كانت نهيا- بعد أمر باتّقاء الذنب- عن التعرّض للظلم، فإنّ وباله يصيب الظالم خاصّة و يعود عليه. فكأنّه قيل: و احذروا ذنبا أو عقابا، ثمّ قيل: لا تتعرّضوا

______________________________

(1) تفسير العيّاشي 2: 52 ح 36 و 39.

(2) النمل: 18.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 27

للظلم فيصيب العقاب أو أثر الذنب و وباله من ظلم منكم خاصّة. و كذلك إذا جعلته صفة على إرادة القول، كأنّه قيل: و اتّقوا فتنة مقولا فيها: لا تصيبنّ. و نظيره قوله:

حتّى إذا جنّ الظلام و اختلطجاءوا بمذق هل رأيت الذئب قط

و المذق اللبن المخلوط بالماء. و المعنى: بمذق مقول فيه هذا القول، لأنّ فيه لون الورقة «1» الّتي هي لون الذئب. و يعضده قراءة ابن مسعود: لتصيبنّ، على جواب القسم المحذوف. و يكون «من» للتبيين على هذا، لأنّ المعنى: لا تصيبنّكم خاصّة على ظلمكم، لأنّ الظلم أقبح منكم من سائر الناس، و للتبعيض على الوجه الأوّل.

و في الكشّاف: «روي عن الحسن: أنّها نزلت في عليّ و عمّار و طلحة و الزبير، و هو يوم الجمل خاصّة. قال الزبير: نزلت فينا و قرأناها زمانا، و ما أرانا من أهلها، فإذا نحن المعنيّون بها».

و

روي: أنّ الزبير كان يساير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوما، إذا أقبل عليّ عليه السّلام، فضحك إليه الزبير، فقال رسول اللّه: كيف حبّك لعليّ؟ فقال: يا رسول اللّه بأبي

أنت و أمّي، إنّي أحبّه كحبّي لوالدي أو أشدّ حبّا. قال: فكيف أنت إذا سرت إليه تقاتله؟». «2»

و قال في المجمع «3»: «روى الثعلبي بإسناده عن حذيفة أنّه قال: أتتكم فتن كقطع الليل المظلم، يهلك فيها كلّ شجاع بطل، و كلّ راكب موضع، و كلّ خطيب مصقع «4»».

و

في حديث أبي أيّوب الأنصاري أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لعمّار: «إنّه سيكون بعدي هنات، حتّى يختلف السيف فيما بينهم، و حتّى يقتل بعضهم بعضا، و حتّى يبرأ بعضهم من بعض، فإذا رأيت ذلك فعليك بهذا الأصلع عن يميني عليّ بن أبي طالب،

______________________________

(1) الورقة: سواد في غبرة، و الأورق: الذي لونه لون الرماد.

(2) الكشّاف 2: 212.

(3) مجمع البيان 4: 534.

(4) راكب موضع أي: مسرع، و المصقع: البليغ. زبدة التفاسير، ج 3، ص: 28

فإن سلك الناس كلّهم واديا و سلك عليّ واديا فاسلك وادي علي، و خلّ عن الناس.

يا عمّار إنّ عليّا لا يردّك عن هدى، و لا يدلّك على ردى. يا عمّار طاعة عليّ طاعتي، و طاعتي طاعة اللّه» «1». رواه السيّد أبو طالب الهروي بإسناده عن علقمة و الأسود عن أبي أيّوب الأنصاري.

و

في كتاب شواهد التنزيل للحاكم أبي القاسم الحسكاني رحمة اللّه، و حدّثنا عنه السيّد أبو الحمد مهدي بن نزار الحسيني، حدّثني محمد بن القاسم ابن أحمد، قال: حدّثني أبو سعيد محمّد بن الفضيل بن محمّد، قال: حدّثنا محمّد ابن صالح العرزمي، قال: حدّثنا عبد الرحمن بن أبي حاتم، قال: حدّثنا أبو سعيد الأشجّ، عن أبي خلف الأحمر، عن إبراهيم بن طهمان، عن سعيد بن أبي عروبة، عن قتادة، عن سعيد بن المسيّب، عن ابن عبّاس قال: «لمّا نزلت هذه الآية: «وَ

اتَّقُوا فِتْنَةً» قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من ظلم عليّا مقعدي هذا بعد وفاتي، فكأنّما جحد نبوّتي و نبوّة الأنبياء قبلي» «2».

و عن ابن عبّاس: أنّه سئل عن هذه الفتنة فقال: أبهموا ما أبهم اللّه.

وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن لم يتّق المعاصي و المظالم.

[سورة الأنفال (8): آية 26]

وَ اذْكُرُوا إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ فَآواكُمْ وَ أَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (26)

ثمّ عاد سبحانه إلى وقعة بدر، و بيّن حالتهم السالفة في القلّة و الضعف، و إنعامه عليهم بالنصر و التأييد و التكثير، فقال وَ اذْكُرُوا معشر المهاجرين إِذْ أَنْتُمْ قَلِيلٌ أي: وقت كونكم أقلّة أذلّة مُسْتَضْعَفُونَ فِي الْأَرْضِ أرض مكّة،

______________________________

(1) مجمع البيان 4: 534.

(2) شواهد التنزيل 1: 271 ح 269.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 29

يستضعفكم قريش قبل الهجرة. و «إذ» هنا مفعول به، و ليس بظرف ل «مستضعفون».

و قيل: الخطاب للعرب، كانوا أذلّاء في أيدي الفرس و الروم.

تَخافُونَ أَنْ يَتَخَطَّفَكُمُ النَّاسُ يستلبكم كفّار قريش إن خرجتم من مكّة، أو من عداهم، فإنّهم كانوا جميعا معادين مضادّين لهم.

فَآواكُمْ إلى المدينة، أو جعل لكم مأوى تتحصّنون به عن أعاديكم وَ أَيَّدَكُمْ بِنَصْرِهِ و قوّاكم على الكفّار بمظاهرة الأنصار، أو بإمداد الملائكة يوم بدر وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ من الغنائم لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إرادة أن تشكروا هذه النعم.

و عن قتادة: كانت العرب أذلّ الناس و أشقاهم عيشا، و أعراهم جلدا، يؤكلون و لا يأكلون، فمكّن اللّه لهم في البلاد، و وسّع عليهم في الرزق و الغنائم، و جعلهم ملوكا.

[سورة الأنفال (8): الآيات 27 الى 28]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ (27) وَ اعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَ أَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (28)

روي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حاصر يهود قريظة إحدى و عشرين ليلة، فسألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الصلح على ما

صالح عليه إخوانهم من بني النضير، على أن يسيروا إلى إخوانهم إلى أذرعات و أريحا من أرض الشام. فأبى أن يعطيهم ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلّا أن ينزلوا على حكم سعد بن معاذ.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 30

فقالوا: أرسل إلينا أبا لبابة. و كان مناصحا لهم، لأنّ عياله و ماله و ولده كانت عندهم.

فبعثه رسول اللّه، فأتاهم. فقالوا: ما ترى يا أبا لبابة أ ننزل على حكم سعد بن معاذ؟ فأشار أبو لبابة إلى حلقه أنّه الذبح فلا تفعلوا. فأتاه جبرئيل عليه السّلام فأخبره بذلك.

قال أبو لبابة: فو اللّه ما زالت قدماي من مكانهما حتّى عرفت أنّي قد خنت اللّه و رسوله. فنزلت في شأنه: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَخُونُوا اللَّهَ وَ الرَّسُولَ من الخون، و هو النقص، كما أنّ أصل الوفاء التمام. و منه: تخوّنه، أي: تنقّصه، ثمّ استعمل في ضدّ الأمانة و الوفاء، لأنّك إذا خنت الرجل في شي ء فقد أدخلت عليه النقصان فيه.

و المعنى: لا تخونوا اللّه بترك أوامره، و الرسول بترك سننه و شرائعه.

و عن الحسن: أنّ من ترك شيئا من الدين و ضيّعه فقد خان اللّه و رسوله.

وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ و لا تخونوا الأمانات فيما بينكم، بأن لا تحفظوها.

و هو مجزوم بالعطف على الأوّل، أو منصوب على الجواب بالواو. وَ أَنْتُمْ تَعْلَمُونَ أنّكم تخونون. أو أنتم علماء تميّزون الحسن من القبيح. أو أنتم تعلمون ما في الخيانة من الذمّ و العقاب.

و لمّا نزلت هذه الآية شدّ أبو لبابة نفسه على سارية من سواري المسجد، و قال: و اللّه لا أذوق طعاما و لا شرابا حتى أموت أو يتوب اللّه عليّ، فمكث سبعة أيّام لا

يذوق فيها طعاما و لا شرابا، حتّى خرّ مغشيّا عليه، ثمّ تاب اللّه عليه. فقيل له: يا أبا لبابة قد تيب عليك. فقال: لا و اللّه لا أحلّ نفسي حتّى يكون رسول اللّه هو الّذي يحلّني، فحلّه بيده.

ثمّ قال أبو لبابة: إنّ من تمام توبتي أن أهجر دار قومي الّتي أصبت فيها

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 31

الذنب، و أن انخلع عن مالي. فقال النبيّ: يجزيك الثلث أن تتصدّق به.

و هذه الرواية مرويّة أيضا عن الكلبي و الزهري.

و

قال عطاء: سمعت جابر بن عبد اللّه يقول: إنّ أبا سفيان خرج من مكّة، فأتى جبرئيل عليه السّلام النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: إنّ أبا سفيان في مكان كذا و كذا، فاخرجوا إليه و اكتموا. قال: فكتب إليه رجل من المنافقين: إنّ محمّدا يريدكم فخذوا حذركم.

فأنزل اللّه هذه الآية.

و قال السدّي: كانوا يسمعون الشي ء من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيفشونه حتّى يبلغ المشركين، فنزلت.

و قيل: المراد بالخيانة الغلول في المغانم.

وَ اعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ لأنّهم سبب الوقوع في الإثم أو العقاب، أو محنة من اللّه تعالى ليبلوكم فيهم، فلا يحملنّكم حبّهم على الخيانة، كأبي لبابة وَ أَنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ لمن آثر رضا اللّه تعالى عليهم، و راعى حدوده فيهم، فعليكم أن تزهدوا في الدنيا، و لا تحرصوا على جمع المال و حبّ الأولاد، و لا تؤثروهما على نعيم الأبد.

قال في المجمع: «بيّن سبحانه بهذه الآية أنّه يختبر خلقه بالأموال و الأولاد، ليتبيّن الراضي بقسمه ممّن لا يرضى به، و إن كان سبحانه أعلم بهم من أنفسهم، و لكن ليظهر الأفعال الّتي بها يستحقّ الثواب و العقاب. و إلى

هذا

أشار أمير المؤمنين عليه السّلام في قوله: «لا يقولنّ أحدكم: اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الفتنة، لأنّه ليس أحد إلّا و هو مشتمل على فتنة، و لكن من استعاذ فليستعذ من مضلّات الفتن، فإنّ اللّه سبحانه يقول: «وَ اعْلَمُوا أَنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ». و قد روي هذا المعنى عن ابن مسعود أيضا» «1».

______________________________

(1) مجمع البيان 4: 536.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 32

[سورة الأنفال (8): آية 29]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً وَ يُكَفِّرْ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)

و لمّا أمر اللّه سبحانه بالطاعة و ترك الخيانة، بيّن بعده ما أعدّه لمن امتثل أمره في الدنيا و الآخرة، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَتَّقُوا اللَّهَ إن تتّقوا عقابه باتّقاء معاصيه و أداء فرائضه يَجْعَلْ لَكُمْ فُرْقاناً هداية و نورا في قلوبكم، و شرحا في صدوركم بوسيلة التوفيق و اللطف، تفرّقون به بين الحقّ و الباطل. أو نصرا و فتحا، كقوله تعالى يَوْمَ الْفُرْقانِ «1» لأنّه يفرّق بين المحقّ و المبطل، بإعزاز المؤمنين و إذلال الكافرين. أو مخرجا من الشبهات. أو نجاة عمّا تحذرون في الدارين. أو ظهورا يشهّر أمركم في أقطار الأرض و يبثّ صيتكم، من قوله: بتّ أفعل كذا حتّى سطع الفرقان، أي: الصبح.

وَ يُكَفِّرْ و يستر عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذنوبكم بالتجاوز و العفو عنها. قيل: السيّئات الصغائر، و الذنوب الكبائر. و قيل: المراد ما تقدّم و ما تأخّر، لأنّها في أهل بدر، و قد غفرهما اللّه تعالى لهم.

وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ على خلقه بما أنعم عليهم في الدنيا من أنواع النعم من غير سبق استحقاق منهم، و في الآخرة بما زاد على قدر

استحقاقهم.

[سورة الأنفال (8): آية 30]

وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ (30)

روي أنّ قريشا- لمّا أسلمت الأنصار و بايعوه- خافوا أن يعلو أمره و يعظم

______________________________

(1) الأنفال: 41. زبدة التفاسير، ج 3، ص: 33

شأنه، فاجتمعوا في دار الندوة متشاورين في أمره، فدخل عليهم إبليس في صورة شيخ، و قال: أنا شيخ من نجد، ما أنا من تهامة، دخلت مكّة فسمعت باجتماعكم، فأردت أن أحضركم، و لن تعدموا منّي رأيا و نصحا.

فقال أبو البختري: رأيي أن تحبسوه في بيت، و تشدّوا وثاقه، و تسدّوا بابه غير كوّة، تلقون إليه طعامه و شرابه منها، و تتربّصوا به ريب المنون.

فقال إبليس: بئس الرأي، يأتيكم من يقاتلكم من قومه و يخلّصه من أيديكم.

فقال هشام بن عمرو: رأيي أن تحملوه على جمل و تخرجوه من بين أظهركم، فلا يضرّكم ما صنع و استرحتم.

فقال إبليس: بئس الرأي، يفسد قوما غيركم و يقاتلكم بهم.

فقال أبو جهل: أنا أرى أن تأخذوا من كلّ بطن غلاما، و تعطوه سيفا صارما، فيضربوه ضربة رجل واحد، فيتفرّق دمه في القبائل، فلا يقوى بنو هاشم على حرب قريش كلّهم، فإذا طلبوا العقل عقلناه و استرحنا.

فقال الشيخ: هذا الفتى هو أجودكم رأيا.

فتفرّقوا على رأي أبي جهل مجتمعين على قتله. فأخبر جبرئيل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بذلك، و أمره بالهجرة و أن يبيّت في مضجعه عليّا، فنام في مضجعه، و قال له: اتّشح ببردتي، فإنّه لن يصل إليك أمر تكرهه، و خرج مع أبي بكر إلى الغار.

و باتوا مترصّدين، فلمّا أصبحوا ساروا إلى مضجعه فأبصروا عليّا فبهتوا، و خيّب اللّه سعيهم، و اقتصّوا أثره، و

أرسلوا في طلبه، فلمّا بلغوا الجبل و مرّوا بالغار رأوا على بابه نسج العنكبوت، فقالوا: لو كان ها هنا لم يكن نسج العنكبوت على بابه. فمكث فيه ثلاثا، ثمّ قدم المدينة، فأبطل اللّه تعالى مكرهم.

فذكّر عزّ و جلّ ها هنا رسوله إنجاءه إيّاه من مكرهم حين كان بمكّة، ليشكر اللّه على خلاصه من مكرهم و استيلائه عليهم، فقال: وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي:

اذكر إذ يحتال كفّار قريش في إبطال أمرك، و يدبّرون في هلاكك لِيُثْبِتُوكَ بالوثاق أو الحبس أو الإثخان بالجرح، من قولهم: ضربه حتّى أثبته لا حراك به و لا

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 34

براح «1». و الأوّل مرويّ عن ابن عبّاس. أَوْ يَقْتُلُوكَ بسيوفهم و خناجرهم أَوْ يُخْرِجُوكَ من مكّة.

وَ يَمْكُرُونَ و يخفون المكائد لك وَ يَمْكُرُ اللَّهُ و يخفي اللّه ما أعدّ لهم حتّى يأتيهم بغتة. أو المراد بمكر اللّه مجازاته إيّاهم على مكرهم، أو معاملته معهم معاملة الماكرين. وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ أي: مكره أنفذ من مكر غيره و أبلغ تأثيرا.

أو لأنّه لا ينزل إلّا ما هو حقّ و عدل. و إسناد أمثال هذا ممّا يحسن للمزاوجة، أو لضرب من التأويل. و لا يجوز إطلاقها ابتداء، لتضمّنه القبح و الذمّ، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا.

[سورة الأنفال (8): الآيات 31 الى 32]

وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (31) وَ إِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (32)

ثمّ أخبر سبحانه عن عناد هؤلاء الكفّار في الحقّ، فقال: وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا قالُوا قَدْ سَمِعْنا لَوْ نَشاءُ لَقُلْنا مِثْلَ هذا إِنْ هذا إِلَّا

أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ما سطره الأوّلون من القصص. قائله النضر بن الحارث بن كلدة، فإنّه حين سمع اقتصاص اللّه أحاديث القرون، قال: لو شئت لقلت مثل هذا. و هو الّذي جاء من بلاد فارس بنسخة حديث رستم و إسفنديار، فزعم أنّ هذا مثل ذلك، و أنّه من جملة الأساطير.

و إسناده إلى الجميع إسناد ما فعله رئيس القوم إليهم، فإنّه كان قاصّهم.

و قيل: هو قول الّذين ائتمروا في أمره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و هذا غاية مكابرتهم و فرط عنادهم، إذ لو استطاعوا ذلك فما منعهم عن أن يقولوا مثله؟! و قد تحدّاهم و قرعهم

______________________________

(1) أي: لم يبرح و لم يزل من مكانه.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 35

بالعجز عشر سنين، ثمّ قارعهم بالسيف فلم يعارضوا سورة، مع أنفتهم و فرط استنكافهم أن يغلبوا، خصوصا في باب البلاغة و الفصاحة.

وَ إِذْ قالُوا اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا القرآن هُوَ الْحَقَ منزلا مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أي: حجارة من سجّيل عقوبة على إنكاره، كما فعلت بأصحاب الفيل أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ أَلِيمٍ بنوع آخر من أنواع العذاب.

هذا أيضا من كلام النضر.

روي أنّه لمّا قال: «إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ» قال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ويلك إنّه كلام اللّه. فقال ذلك.

و مراده من هذا القول التهكّم و إظهار اليقين و الجزم التامّ على كونه باطلا، فكان تعليق العذاب بكونه حقّا مع اعتقاد أنّه ليس بحقّ كتعليقه بالمحال عنده، كما في قولك: إن كان الباطل حقّا فأمطر علينا حجارة.

و فائدة تعريف الحقّ الدلالة على أنّ المعلّق به كونه حقّا بالوجه الّذي يدّعيه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و هو

تنزيله، لا الحقّ مطلقا، لتجويزهم أن يكون مطابقا للواقع غير منزل، كأساطير الأوّلين.

روي أنّ معاوية قال لرجل من سبأ: ما أجهل قومك حين ملّكوا عليهم امرأة!! قال: أجهل من قومي قومك، قالوا لرسول اللّه حين دعاهم إلى الحقّ: «إن كان هذا هو الحق فأمطر علينا حجارة» و لم يقولوا: إن كان هذا هو الحقّ فاهدنا له.

[سورة الأنفال (8): الآيات 33 الى 34]

وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ وَ ما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (33) وَ ما لَهُمْ أَلاَّ يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ وَ هُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ ما كانُوا أَوْلِياءَهُ إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلاَّ الْمُتَّقُونَ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (34)

ثمّ ذكر سبحانه سبب إمهالهم، و موجب التوقّف في إجابة دعائهم، مع فرط

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 36

عنادهم و شقاهم، فقال: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ اللّام لتأكيد النفي، و الدلالة على أن تعذيبهم عذاب استئصال و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بين أظهرهم خارج عن عادة اللّه تعالى، غير مستقيم في قضائه، لفضله و حرمته. قال ابن عبّاس: إنّ اللّه تعالى لم يعذّب قومه حتّى أخرجوه من مكّة. و كذا لا يعذّبهم حين الاستغفار عن الذنوب، لقوله: وَ ما كانَ اللَّهُ مُعَذِّبَهُمْ وَ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ

و المراد باستغفارهم إما استغفار من بقي فيهم من المؤمنين بعد خروجه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن مكّة، كما روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا خرج من مكّة بقيت فيها بقيّة من المؤمنين، و لم يهاجروا لعذر، و كانوا على عزم الهجرة، فرفع اللّه العذاب عن مشركي مكّة لحرمة استغفارهم، فلمّا خرجوا أذن اللّه في فتح مكّة.

و هذا

منقول عن ابن عبّاس و عطيّة و الضحّاك. و اختاره الجبائي.

و قيل: معناه: و ما كان اللّه ليعذّبهم بعذاب الاستئصال في الدنيا و هم يقولون:

اللّهمّ غفرانك، و إنّما يعذّبهم في الآخرة. أو المراد فرض الاستغفار على معنى: لو استغفروا لم يعذّبوا، كقوله تعالى: وَ ما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها مُصْلِحُونَ «1» أي: لو أصلحوا.

وَ ما لَهُمْ أَلَّا يُعَذِّبَهُمُ اللَّهُ و ما يمنع تعذيبهم متى لم تكن فيهم، و لم يمكن الاستغفار؟ و كيف لا يعذّبون وَ هُمْ يَصُدُّونَ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ و حالهم صدّ الناس عنه، و من صدّهم عنه إلجاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنين إلى الهجرة، و إحصارهم عام الحديبية. روي أنّهم قالوا: نحن ولاة البيت و الحرم، فنصدّ من نشاء، و ندخل من نشاء.

وَ ما كانُوا أَوْلِياءَهُ أي: مستحقّين ولاية أمره مع شركهم إِنْ أَوْلِياؤُهُ إِلَّا الْمُتَّقُونَ من الشرك، الّذين لا يعبدون فيه غير اللّه تعالى. أو إلّا المتّقون من

______________________________

(1) هود: 117.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 37

المسلمين، فليس كلّ مسلم أيضا ممّن يصلح لأن يلي أمره، بل إنّما يستأهل ولايته من كان برّا تقيّا، فكيف بالكفرة و عبدة الأصنام؟

وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أن لا ولاية لهم عليه. كأنّه استثنى من كان يعلم و يعاند لطلب الرئاسة. أو أراد بالأكثر الجميع، كما يراد بالقلّة العدم.

[سورة الأنفال (8): آية 35]

وَ ما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ إِلاَّ مُكاءً وَ تَصْدِيَةً فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (35)

روي أنّهم كانوا يطوفون عراة، الرجال و النساء، مشبكين بين أصابعهم يصفرون فيها و يصفّقون، فنزلت: وَ ما كانَ صَلاتُهُمْ عِنْدَ الْبَيْتِ أي: دعاؤهم، أو ما يسمّونه صلاة، أو ما يضعون موضعها إِلَّا

مُكاءً صفيرا، من: مكا يمكو إذا صفر وَ تَصْدِيَةً تصفيقا. و هو ضرب اليد على اليد. تفعلة من الصدى، أو من: صدّ يصدّ، كقوله تعالى: إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ «1» أي: يصيحون، على إبدال أحد حرفي التضعيف بالياء.

و اعلم أنّ مساق الكلام لتقرير استحقاقهم العذاب، أو عدم ولايتهم للمسجد، فإنها لا تليق ممّن هذه صلاته.

و قيل: كانوا يفعلون ذلك إذا قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في صلاته، لما

روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان إذا صلّى في المسجد الحرام قام رجلان من بني عبد الدار عن يمينه فيصفران، و رجلان عن يساره يصفّقان بأيديهما، فيخلطان عليه صلاته، فقتلهم اللّه جميعا ببدر،

كما قال: فَذُوقُوا الْعَذابَ يعني: القتل و الأسر يوم بدر. و قيل:

عذاب الآخرة. و اللّام يحتمل أن تكون للعهد، و المعهود: ائتنا بعذاب أليم بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ اعتقادا و عملا.

______________________________

(1) الزخرف: 57.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 38

[سورة الأنفال (8): الآيات 36 الى 37]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَسَيُنْفِقُونَها ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ثُمَّ يُغْلَبُونَ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ (36) لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ وَ يَجْعَلَ الْخَبِيثَ بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فَيَجْعَلَهُ فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (37)

روي أنّ أبا سفيان استأجر ليوم أحد ألفين من الأحابيش، و هم فرق مختلفون من قبائل شتّى، و منه يقال: عندي أحبوش منهم، أي: جماعة منهم، سوى من استجاش «1» من العرب، و أنفق عليهم أربعين أوقية، و الأوقية اثنان و أربعون مثقالا، أو استأجرهم لأصحاب العير، فإنّه لمّا أصيب قريش ببدر قيل لهم: أعينوا بهذا المال على حرب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لعلّنا

ندرك منه ثأرنا، ففعلوا، فنزلت: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنْفِقُونَ أَمْوالَهُمْ في قتال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنين لِيَصُدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ليمنعوا بذلك الناس عن دين اللّه الّذي أتى به محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و قيل: نزلت في المطعمين يوم بدر، و كانوا اثني عشر رجلا من قريش، يطعم كلّ واحد منهم كلّ يوم عشر جزر «2». و غرضهم في هذا الإنفاق الصدّ عن اتّباع محمّد، و هو سبيل اللّه.

و إنّما قال: ليصدّوا، و إن كانوا لم يقصدوا ذلك، من حيث لم يعلموا أنّ ذلك دين اللّه، لأنّ فعلهم ذلك كان صدّا عن دين اللّه و إن لم يقصدوا ذلك.

فَسَيُنْفِقُونَها بتمامها. و يحتمل أن يكون الأوّل إخبارا عن إنفاقهم في تلك الحال، و هو إنفاق يوم بدر، و الثاني إخبارا عن إنفاقهم فيما يستقبل، و هو الإنفاق في يوم أحد. أو يراد بهما واحد، على أنّ مساق الأوّل لبيان غرض الإنفاق،

______________________________

(1) أي: جمع الجيش منهم.

(2) الجزر جمع الجزور، و هو من الإبل يقع على الذكر و الأنثى.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 39

و مساق الثاني لبيان عاقبته، و أنّه لم يقع بعد.

ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً ندما و غمّا، لفواتها من غير مقصود. و جعل ذاتها حسرة- و هي عاقبة إنفاقها- مبالغة. ثُمَّ يُغْلَبُونَ آخر الأمر، و إن كان الحرب بينهم و بين المؤمنين سجالا قبل ذلك، أي: مرّة تكون لهم و مرّة عليهم.

و في هذا دلالة على صحّة نبوّة النبيّ، لأنّه أخبر بالشي ء قبل كونه، فوجد على ما أخبر به.

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: ثبتوا على الكفر منهم، إذ أسلم بعضهم إِلى جَهَنَّمَ يُحْشَرُونَ يساقون.

لِيَمِيزَ اللَّهُ الْخَبِيثَ مِنَ الطَّيِّبِ

أي: الفريق الخبيث- و هم الكافرون- من الفريق الطيّب، و هم المؤمنون. أو يميز الفساد من الصلاح. و اللّام متعلّقة ب «يحشرون» أو «يغلبون»، أو ما أنفقه المشركون في عداوة رسول اللّه ممّا أنفقه المسلمون في نصرته. و حينئذ اللّام متعلّقة بقوله: «ثُمَّ تَكُونُ عَلَيْهِمْ حَسْرَةً».

و قرأ حمزة و الكسائي و يعقوب: ليميّز من التمييز، و هو أبلغ من الميز.

وَ يَجْعَلَ الْخَبِيثَ و يجعل الفريق الخبيث من الكفّار بَعْضَهُ عَلى بَعْضٍ فَيَرْكُمَهُ جَمِيعاً فيجمعه و يضمّ بعضه إلى بعض حتّى يتراكبوا، لفرط ازدحامهم. أو يضمّ إلى الكافر ما أنفقه، ليزيد به عذابه، ليعاقبهم به، كما قال: يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ «1» الآية. فَيَجْعَلَهُ كلّه فِي جَهَنَّمَ أُولئِكَ إشارة إلى الخبيث، لأنّه مقدّر بالفريق الخبيث، أو إلى المنفقين هُمُ الْخاسِرُونَ الكاملون في الخسران، لأنّهم خسروا أنفسهم و أموالهم.

[سورة الأنفال (8): الآيات 38 الى 40]

قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَنْتَهُوا يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ وَ إِنْ يَعُودُوا فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ (38) وَ قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ وَ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ فَإِنِ انْتَهَوْا فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (39) وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ نِعْمَ الْمَوْلى وَ نِعْمَ النَّصِيرُ (40)

______________________________

(1) التوبة: 35.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 40

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بدعائهم إلى التوبة و الإيمان، فقال: قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا يعني: أبا سفيان و أصحابه. و المعنى: قل لأجلهم، لقوله: إِنْ يَنْتَهُوا على صيغة الغائب، أي: ينتهوا عن معاداة الرسول بالدخول في الإسلام يُغْفَرْ لَهُمْ ما قَدْ سَلَفَ من الشرك و عداوة الرسول و سائر ذنوبهم. و منه

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الإسلام يجبّ ما قبله».

وَ إِنْ

يَعُودُوا إلى قتاله فَقَدْ مَضَتْ سُنَّتُ الْأَوَّلِينَ الّذين تحزّبوا على الأنبياء بالتدمير، كما جرى على أهل بدر، فليتوقّعوا مثل ذلك إن لم ينتهوا.

وَ قاتِلُوهُمْ حَتَّى لا تَكُونَ فِتْنَةٌ لا يوجد فيهم شرك وَ يَكُونَ الدِّينُ كُلُّهُ لِلَّهِ و يضمحلّ كلّ دين، و يبقى دين الإسلام وحده.

عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «لم يجي ء تأويل هذه الآية، و لو قد قام قائمنا بعد سيرى من يدركه ما يكون من تأويل هذه الآية، و ليبلغنّ دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما بلغ الليل، حتّى لا يكون مشرك على ظهر الأرض».

فَإِنِ انْتَهَوْا عن الكفر فَإِنَّ اللَّهَ بِما يَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فيجازيهم على انتهائهم عنه و إسلامهم. و عن يعقوب: تعملون بالتاء، على معنى: فإنّ اللّه بما تعملون من الجهاد و الدعوة إلى الإسلام، و الإخراج من ظلمة الكفر إلى نور الإيمان بصير، فيجازيكم عليه أحسن الجزاء. و يكون تعليقه بانتهائهم دلالة على أنّه كما يستدعي إثابتهم للمباشرة، يستدعي إثابة مقاتليهم للتسبّب.

وَ إِنْ تَوَلَّوْا و إن لم ينتهوا فَاعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَوْلاكُمْ ناصركم فثقوا بولاية اللّه و نصرته، و لا تبالوا بمعاداتهم نِعْمَ الْمَوْلى لا يضيع من تولّاه وَ نِعْمَ النَّصِيرُ لا يغلب من نصره.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 41

[سورة الأنفال (8): الآيات 41 الى 44]

وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ وَ ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا يَوْمَ الْفُرْقانِ يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (41) إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا وَ هُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى وَ الرَّكْبُ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ لَوْ تَواعَدْتُمْ لاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ وَ لكِنْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً

لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ وَ إِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ عَلِيمٌ (42) إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلاً وَ لَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ وَ لَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ وَ لكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (43) وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلاً وَ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولاً وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (44)

و بعد الأمر بالجهاد بيّن ما يلحقه من حكم الغنيمة، فقال مخاطبا للمسلمين:

وَ اعْلَمُوا أَنَّما غَنِمْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ «ما» موصولة، و «من شي ء» بيانه، أي: ممّا يقع عليه اسم الشي ء حتّى الخيط و المخيط، لا في الكنز و المعدن و الغوص، فإنّ النصاب شرط فيه، كما صرّح به فقهاؤنا في كتبهم. فلفظ «شي ء» و إن اقتضى العموم، لكن البيان من الأئمّة عليهم السّلام خصّصه.

و الغنيمة لغة: هي الفائدة. و اصطلاحا:

ما أخذ من الكفّار بقتال، و إلّا فهو في ء و نفل. و هو مذهب أصحابنا و الشافعي، و يروى عن الباقر و الصادق عليهما السّلام.

و قيل:

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 42

إنّهما بمعنى واحد.

ثمّ إنّ عند أصحابنا أنّ الفي ء للإمام خاصّة، و الغنيمة يخرج منها الخمس، كما قال اللّه تعالى: فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ مبتدأ خبره محذوف، أي: فثابت أنّ للّه خمسه وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى و هذه الأسهم الثلاثة اليوم للإمام القائم مقام الرّسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ أي: ليتامى آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و مساكينهم و أبناء سبيلهم، لا يشركهم في ذلك غيرهم، لأنّ اللّه سبحانه حرّم عليهم الصدقة، لكونها أوساخ الناس، و عوّضهم عن ذلك الخمس. و

روى ذلك الطبري «1» عن عليّ بن الحسين زين العابدين و محمّد بن عليّ الباقر.

و

عن أبي عبد اللّه عليهم السّلام أيضا أنّه قال: «لمّا حرّم اللّه علينا الصدقة أنزل لنا الخمس، فالصدقة علينا حرام، و الخمس لنا حلال».

و

رووا عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قيل له: «إنّ اللّه تعالى قال: «وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ» فقال: أيتامنا و مساكيننا» «2». فثلاثة أسهم أخر للطوائف المذكورين من بني هاشم.

و اعلم أيّدك اللّه تعالى أنّ علماء الجمهور على أنّ اسم اللّه هنا للتبرّك، و أنّ المراد قسم الخمس على الخمسة المذكورين في الآية في حياة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أنّ المراد بذي القربى هم بنو هاشم و بنو المطّلب دون بني عبد شمس و بني نوفل،

لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ بني المطّلب ما فارقونا في جاهليّة و لا إسلام، و بنو هاشم و بنو المطّلب شي ء واحد، و شبك بين أصابعه».

و أن الثلاثة الباقية في باقي المسلمين.

و أمّا بعد حياة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال مالك: الأمر فيه إلى الإمام، يصرفه إلى ما يراه أهمّ من وجوه القرب.

______________________________

(1) راجع تفسير الطبري ج 10: 7.

(2) رواه في الكشّاف 2: 222.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 43

و قال أبو حنيفة: يسقط سهمه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و سهم ذوي القربى، و صار الكلّ مصروفا إلى الثلاثة الباقية من المسلمين.

و قال الشافعي: إنّ سهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يصرف إلى ما كان يصرفه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إليه من مصالح المسلمين. و قيل: إلى الإمام. و قيل: إلى الأقسام

الأربعة.

و قال أصحابنا الإماميّة: إنّه يقسّم ستّة أقسام: ثلاثة للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حياته، و بعده للإمام القائم مقامه، و هو المعنيّ بذي القربى، و الثلاثة الباقية لمن سمّاهم اللّه من بني عبد المطّلب خاصّة دون غيرهم.

و قولهم هو الحقّ. أمّا أوّلا: فلأنّه لا يلزمهم مخالفة للآية الكريمة بسبب إسقاط سهم اللّه من البين، و كذا إسقاط سهم الرسول بعد حياته.

و أمّا ثانيا: فلما ورد من النقل الصحيح عن أئمّتنا عليهم السّلام. و كذا نقله الخصم عن عليّ عليه السّلام، و عن ابن عبّاس، كما حكاه الزمخشري في الكشّاف «1».

و أمّا ثالثا: فلأنّا إذا أعطينا لفقراء ذي القربى من اليتامى و المساكين و أبناء السبيل جاز بالإجماع، و برئت الذمّة يقينا، و إذا أعطينا غيرهم لم يجز عند الإماميّة، فكان التخصيص بذي القربى أحوط. و لفظة الآية و إن كانت أعمّ، لكن ما من عامّ إلّا و قد خصّ كما في الأصول، فهذا مخصوص بما رويناه عن أئمّة الهدى كما مرّ.

على أنّا نقول لفظة الآية عامّ مخصوص بالاتّفاق، فإنّ ذا القربى مخصوص ببني هاشم، و اليتامى و المساكين و ابن السبيل عامّ في المشرك و الذميّ و غيرهم، مع أنّه مخصوص بمن ليس كذلك.

قال السيّد «2» قدّس سرّه: كون ذي القربى مفردا يدلّ على أنّه الامام القائم مقام

______________________________

(1) الكشّاف 2: 222.

(2) الانتصار: 87.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 44

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، إذ لو أراد الجمع لقال: ذوي القربى.

و فيه نظر، لجواز إرادة الجنس.

قوله: إذ لو كان المراد جميع قرابات بني هاشم، لزم أن يكون ما عطف عليه- أعني: اليتامى و المساكين و ابن السبيل- من غيرهم

لا منهم، لأنّ العطف يقتضي المغايرة.

و أجيب بجواز عطف الخاصّ على العامّ، لمزيد فائدة و وفور عناية. فالأولى حينئذ الاعتماد في هذه المحتملات على بيانه عليه السّلام، و بيان الأئمّة بعده.

و في الآية المذكورة من التوكيد ما ليس في غيرها، فإنّه صدّرها بالأمر بالعلم، أي: تحقّق عندكم ذلك حتّى إنّه لم يرد لها ناسخ اتّفاقا. ثمّ أتى ب «أنّ» المؤكّدة في موضعين. ثمّ قال: إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ و هو متعلّق بمحذوف دلّ عليه «و اعلموا» أي: إن كنتم آمنتم باللّه فاعلموا أنّه جعل الخمس لهؤلاء، فسلّموه إليهم، و اقطعوا عنه أطماعكم، و اقتنعوا بالأخماس الأربعة الباقية، فإنّ العلم للعمل، فإذا أمر به لم يرد منه العلم المجرّد، لأنّه مقصود بالعرض، و المقصود بالذات هو العمل.

وَ ما أَنْزَلْنا عَلى عَبْدِنا معطوف على «باللّه» أي: إن كنتم آمنتم باللّه و بالمنزل على عبدنا من الآيات و الملائكة و النصرة يَوْمَ الْفُرْقانِ يوم بدر، فإنّه فرّق فيه بين الحقّ و الباطل يَوْمَ الْتَقَى الْجَمْعانِ المسلمون و الكفّار، بدل منه وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فيقدر على نصر القليل على الكثير، و الإمداد بالملائكة.

عن الكلبي: أنّها نزلت ببدر. و قال الواقدي: نزل الخمس في غزوة بني قينقاع بعد بدر بشهر و ثلاثة أيّام، للنصف من شوّال، على رأس عشرين شهرا من الهجرة.

إِذْ أَنْتُمْ بِالْعُدْوَةِ الدُّنْيا من المدينة. و هو بدل ثان من «يَوْمَ الْفُرْقانِ».

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 45

و العدوة بالحركات الثلاث شطّ الوادي. و المشهور الضمّ و الكسر. و هو قراءة ابن كثير و أبي عمرو و يعقوب.

وَ هُمْ بِالْعُدْوَةِ الْقُصْوى البعدى من المدينة. تأنيث الأقصى. و كان قياسه قلب الواو ياء، كالدنيا و العليا، تفرقة بين

الاسم و الصفة، فجاء على الأصل شاذّا كالقود، و هو أكثر استعمالا من القصيا، كما كثر استعمال «استصوب» مع مجي ء «استصاب» و «أغيلت» مع «أغالت» «1».

وَ الرَّكْبُ أي: العير أو قوّادها أَسْفَلَ مِنْكُمْ في مكان أسفل من مكانكم، يعني: الساحل. قال الكلبي: كانوا على شطّ البحر بثلاثة أميال. و هو منصوب على الظرف، واقع موقع خبر المبتدأ، و الجملة حال من الظرف قبله.

و الفائدة في ذكر هذه المراكز الإخبار عن الحال الدّالة على قوّة المشركين و شوكتهم، و تكامل عدّتهم، و ضعف المسلمين، و أن غلبتهم في مثل هذه الحال ليست إلّا بأمر إلهي، لم يتيسّر إلّا بحوله و قوّته، و ذلك أنّ العدوة القصوى الّتي أناخ بها المشركون كان فيها الماء، و العدوة الدنيا رخوة تسوخ فيها الأرجل، و لا يمشى فيها إلّا بتعب و مشقّة، و ما كان فيها ماء، و كانت العير وراء ظهور العدوّ، مع كثرة عددهم، و فرط حمايتهم و حميّتهم، و غاية جهدهم في أن لا يبرحوا بهم إلى مكّة.

و أيضا لمثل هذه الفائدة قال: وَ لَوْ تَواعَدْتُمْ أي: لو تواعدتم أنتم و هم القتال، ثمّ علمتم حالهم و حالكم لَاخْتَلَفْتُمْ فِي الْمِيعادِ أي: لثبّطكم قلّتكم و كثرتهم عن الوفاء بالموعد، هيبة منهم، و يأسا من الظفر عليهم، لتتحقّقوا أنّ ما اتّفق لكم من الفتح ليس إلّا صنعا من اللّه تعالى خارقا للعادة، فتزدادوا إيمانا و شكرا.

وَ لكِنْ جمع بينكم على هذه الحال من غير ميعاد، بل حين وعدكم إحدى

______________________________

(1) أغالت أو أغيلت المرأة ولدها: أرضعته و هي حامل.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 46

الطائفتين مبهمة غير مبيّنة، حتّى خرجتم لتأخذوا العير راغبين في الخروج، و شخص «1» بقريش مخوّفين

ممّا بلغهم من تعرّض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأموالهم، حتّى نفروا ليمنعوا عيرهم، و سبّب الأسباب حتّى أناخ هؤلاء بالعدوة الدنيا و هؤلاء بالعدوة القصوى، و وراءهم العير يحامون عليها، حتّى قامت الحرب على ساق و كان ما كان.

لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا أي: حقيقا بأن يفعل، و هو نصر أوليائه و قهر أعدائه.

و قوله: لِيَهْلِكَ مَنْ هَلَكَ عَنْ بَيِّنَةٍ بدل منه، أو متعلّق بقوله: «مفعولا».

و المعنى: ليموت من يموت عن بيّنة عاينها وَ يَحْيى مَنْ حَيَّ عَنْ بَيِّنَةٍ و يعيش من يعيش عن حجّة شاهدها، لئلّا يكون له حجّة و معذرة، فإنّ وقعة بدر من الآيات الواضحة و المعجزات الباهرة للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

أو المعنى: ليصدر كفر من كفر و إيمان من آمن عن وضوح بيّنة و قيام حجّة عليه، و يصدر إسلام من أسلم عن يقين و علم بأنّه الدين الحقّ الّذي يجب التمسّك به. فالهلاك و الحياة مستعارتان للكفر و الإسلام. و المعنيّ ب «من هلك» و «من حيّ» المشارف للهلاك الأبدي و الحياة السرمدي.

و قرأ ابن كثير برواية البزّي و نافع و أبو بكر و يعقوب: من حيي بفكّ الإدغام، للحمل على المستقبل.

وَ إِنَّ اللَّهَ لَسَمِيعٌ لأقوال من كفر و آمن عَلِيمٌ بكفر من كفر و عقابه، و إيمان من آمن و ثوابه. فالجمع بين الوصفين لاشتمال الأمرين على القول و الاعتقاد.

إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا مقدّر ب «اذكر». أو بدل ثان من «يوم

______________________________

(1) في هامش النسخة الخطيّة: «شخص به إذا أخرجه. منه».

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 47

الفرقان». أو متعلّق ب «عليم»، أي: يعلم المصالح، إذ يقلّلهم في عينك في رؤياك،

و ذلك أنّ اللّه سبحانه أراه إيّاهم في رؤياه قليلا، فأخبر بذلك أصحابه، فكان تثبيتا لهم و تشجيعا على عدوّهم.

وَ لَوْ أَراكَهُمْ كَثِيراً لَفَشِلْتُمْ لجبنتم وَ لَتَنازَعْتُمْ فِي الْأَمْرِ أمر القتال، و تفرّقت آراؤكم بين الثبات و الفرار وَ لكِنَّ اللَّهَ سَلَّمَ أنعم بالسلامة من الفشل و التنازع إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ يعلم ما سيكون و ما يغيّر أحوالها، من الجرأة و الجبن و الصبر و الجزع.

وَ إِذْ يُرِيكُمُوهُمْ الضميران مفعولا «يري» إِذِ الْتَقَيْتُمْ فِي أَعْيُنِكُمْ قَلِيلًا حال من المفعول الثاني. و إنّما قلّلهم في أعين المسلمين لا غير، لما روي عن ابن مسعود أنّه قال: لقد قلّلوا في أعيننا حتّى قلت لرجل إلى جنبي: أ تراهم سبعين؟

فقال: أ تراهم مائة؟ تصديقا لرؤيا رسول اللّه و تثبيتا لهم.

وَ يُقَلِّلُكُمْ فِي أَعْيُنِهِمْ حتّى قال أبو جهل: إنّ محمدا و أصحابه أكلة جزور.

و روي أيضا أنّه كان يقول: خذوهم بالأيدي أخذا، و لا تقاتلوهم.

و إنّما قلّلهم في أعينهم قبل القتال ليجترؤا عليهم، و لا يستعدّوا لهم بعد اللقاء، ثم كثّرهم حتّى يرونهم مثليهم، لتفجأهم الكثرة فتبهتهم، و تكسر قلوبهم، و تفلّ «1» شوكتهم حين يرون ما لم يكن في حسابهم. و هذا من عظائم آيات تلك الوقعة، فإنّ البصر و إن كان قد يرى الكثير قليلا و القليل كثيرا، لكن لا على هذا الوجه و لا إلى هذا الحدّ، و إنّما يتصوّر ذلك بصدّ اللّه الأبصار عن إبصار بعض دون بعض، مع التساوي في شروط الرؤية.

لِيَقْضِيَ اللَّهُ أَمْراً كانَ مَفْعُولًا كرّره لاختلاف المعلّل به. أو لأنّ المراد بالأمر ثمّ الاكتفاء على الوجه المحكي، و هاهنا إعزاز الإسلام و أهله، و إذلال الشرك و حزبه. وَ إِلَى اللَّهِ

تُرْجَعُ الْأُمُورُ امور العباد، فيجازيهم على ما يستحقّونه.

______________________________

(1) أي: تكسر.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 48

[سورة الأنفال (8): الآيات 45 الى 54]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً فَاثْبُتُوا وَ اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (45) وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لا تَنازَعُوا فَتَفْشَلُوا وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ وَ اصْبِرُوا إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ (46) وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بَطَراً وَ رِئاءَ النَّاسِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (47) وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ وَ قالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَ إِنِّي جارٌ لَكُمْ فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ وَ قالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ وَ اللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ (48) إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ غَرَّ هؤُلاءِ دِينُهُمْ وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (49)

وَ لَوْ تَرى إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ وَ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (50) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (51) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (52) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (53) كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ وَ كُلٌّ كانُوا ظالِمِينَ (54)

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 49

ثمّ أمر سبحانه بالقتال و الثبات في الحرب، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا لَقِيتُمْ فِئَةً أي: إذا حاربتم جماعة كافرة. و لم يصفها، لأنّ المؤمنين ما كانوا يحاربون إلّا الكفّار. و

اللقاء ممّا غلب استعماله في القتال. فَاثْبُتُوا للقائهم، و لا تفرّوا.

وَ اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً في مواطن القتال، مستعينين به، مستظهرين بذكره، مترقّبين لنصره، داعين له على عدوّكم، بأن تقولوا: اللّهمّ اخذلهم، اللّهمّ اقطع دابرهم لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ تظفرون بمرادكم من النصرة و المثوبة.

و فيه تنبيه على أنّ العبد ينبغي أن لا يشغله شي ء عن ذكر اللّه تعالى، و أن يلتجئ إليه عند الشدائد، و يقبل عليه بشراشره «1» فارغ البال، واثقا بأنّ لطفه لا ينفكّ عنه في شي ء من الأحوال.

و ناهيك بما في خطب أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه في أيّام صفّين، و في مشاهده مع البغاة و الخوارج- من البلاغة و البيان، و لطائف المعاني، و بليغات المواعظ و النصائح- دليلا على أنّهم كانوا لا يشغلهم عن ذكر اللّه شاغل و إن تفاقم الأمر.

وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لا تَنازَعُوا لا تتنازعوا فيما بينكم باختلاف الآراء، كما فعلتم ببدر أو أحد فَتَفْشَلُوا فتجبنوا، و تضعفوا عن قتال عدوّكم. هذا جواب النهي منصوب بإضمار «أن». وَ تَذْهَبَ رِيحُكُمْ و الريح مستعارة للدولة، شبّهت في تمشّي أمرها و نفاذه بهبوب الريح و نفوذها. فقيل: هبّت رياح فلان إذا دالت له الدولة و نفذ أمره، و ركدت ريحه إذا أدبر أمره.

______________________________

(1) الشراشر: النفس و جميع الجسد.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 50

زبدة التفاسير ج 3 99

و قيل: المراد بها الحقيقة، فإنّ النصرة لا تكون إلّا بريح يبعثها اللّه تعالى. و

في الحديث: «نصرت بالصبا، و أهلكت عاد بالدبور».

وَ اصْبِرُوا على قتال الأعداء إِنَّ اللَّهَ مَعَ الصَّابِرِينَ بالحفظ و النصر.

وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ خَرَجُوا مِنْ دِيارِهِمْ يعني: أهل مكّة حين خرجوا منها لحماية العير بَطَراً للبطر و الطرب و الفخر،

أو بطرين طربين متفاخرين وَ رِئاءَ النَّاسِ ليثنوا عليهم بالشجاعة و السماحة. و ذلك أنّهم لمّا بلغوا الجحفة وافاهم رسول أبي سفيان أن ارجعوا فقد سلمت عيركم. فقال أبو جهل: لا و اللّه حتّى تقدم بدرا، و نشرب بها الخمور، و تعزف علينا القيان «1»، و نطعم بها من حضرنا من العرب.

فوافوها فسقوا كأس المنايا، و ناحت عليهم النوائح مكان غناء القيان. فنهى اللّه تعالى المؤمنين أن يكونوا أمثالهم بطرين مرائين، و أمرهم بأن يكونوا أهل تقوى و إخلاص، من حيث إنّ النهي عن الشي ء أمر بضدّه.

وَ يَصُدُّونَ و يمنعون غيرهم عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ معطوف على «بطرا» إن جعل مصدرا في موضع الحال. و كذا إن جعل مفعولا له، لكن على تأويل المصدر.

وَ اللَّهُ بِما يَعْمَلُونَ مُحِيطٌ عالم بأعمالكم، فيجازيكم على وفقها.

وَ إِذْ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أي: اذكر وقت تزيين الشيطان أَعْمالَهُمْ في معاداة الرسول و غيرها وَ قالَ لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ لا يغلبكم أحد من الناس، لكثرة عددكم و قوّتكم. و «لكم» خبر «لا غالب» أو صفته، تقديره: لا غالب كائن لكم. و ليس مفعوله، و إلّا لانتصب، فقيل: لا غالبا لكم، بمعنى: لا غالبا إيّاكم، كقولك: لا ضاربا زيدا عندنا.

وَ إِنِّي جارٌ لَكُمْ أي: ناصركم و دافع عنكم السوء. و هذه وسوسة نفسانيّة.

و المعنى: أنّه ألقى في خاطرهم و خيّل إليهم أنّهم لا يغلبون و لا يطاقون، لكثرة

______________________________

(1) القيان جمع القينة، و هي المغنيّة.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 51

عددهم و عددهم، و أوهمهم أنّ اتّباعهم إيّاه فيما يظنّون أنّها قربات مجير لهم، حتّى قالوا: اللّهمّ انصر أهدى الفئتين، و أفضل الدينين، كما ذكر.

فَلَمَّا تَراءَتِ الْفِئَتانِ أي: تلاقى الفريقان نَكَصَ عَلى عَقِبَيْهِ

رجع القهقرى، أي: بطل كيده، و عاد ما خيّل إليهم أنّه مجيرهم سبب هلاكهم وَ قالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكُمْ إِنِّي أَرى ما لا تَرَوْنَ من إمداد الملائكة للمسلمين إِنِّي أَخافُ اللَّهَ أخاف عذاب اللّه على أيدي من أراهم. يعني: تبرّأ منهم، و خاف عليهم، و أيس من حالهم، لمّا رأى إمداد اللّه تعالى المسلمين بالملائكة.

قيل: لمّا اجتمعت قريش على المسير ذكروا ما بينهم و بين كنانة من الحرب، و كاد ذلك يثبّطهم، فتمثّل لهم إبليس بصورة سراقة بن مالك بن جعشم الشاعر الكناني- و كان من أشرافهم- في جند من الشياطين معه راية، و قال: لا غالب لكم اليوم، و إنّي مجيركم من بني كنانة، فلمّا رأى الملائكة تنزل نكص.

و

روي: كانت يده في يد الحارث بن هشام، فلمّا نكص قال له الحارث: إلى أين؟ أ تخذلنا في هذه الحال؟ قال: إنّي أرى ما لا ترون، و دفع في صدر الحارث و انطلق. و انهزموا، فلمّا بلغوا مكّة قالوا: هزم الناس سراقة. فبلغ ذلك سراقة فقال:

و اللّه ما شعرت بمسيركم حتّى بلغتني هزيمتكم. فلمّا أسلموا علموا أنّه الشيطان.

و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام. و نقل عن الكلبي.

و هذا هو المشهور بين المفسّرين.

و على هذا يحتمل أن يكون معنى قوله: «إِنِّي أَخافُ اللَّهَ» أنّي أخافه أن يصيبني مكروها من الملائكة، أو يهلكني. و يكون الوقت في قوله: إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ «1» هذا الوقت الموعود، إذ رأى فيه ما لم ير قبله، فإنّ الملائكة لا ينزلون إلّا لقيام الساعة أو للعذاب. و الأوّل قول الحسن، و اختيار ابن بحر.

______________________________

(1) الحجر: 38.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 52

و

في الحديث: «ما رؤي إبليس يوما أصغر

و لا أدحر و لا أغيظ من يوم عرفة، لما راى من نزول الرحمة، إلّا ما رؤي يوم بدر».

وَ اللَّهُ شَدِيدُ الْعِقابِ يجوز أن يكون من كلامه، و أن يكون مستأنفا.

إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ بالمدينة وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ و الّذين لم يطمئنّوا إلى الإيمان بعد، و بقي في قلوبهم شكّ و شبهة في الإسلام. و قيل: هم المشركون. و قيل: المنافقون. و العطف لتغاير الوصفين.

غَرَّ هؤُلاءِ يعنون المؤمنين دِينُهُمْ أي: اغترّوا بدينهم، و أنّهم ينصرون من أجله، حتّى تعرّضوا لما لا يديّ «1» لهم به، فخرجوا و هم ثلاثمائة و بضعة عشر إلى زهاء ألف.

ثمّ قال جوابا لهم: وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ في أموره فَإِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب لا يذلّ من استجار به و إن قلّ، فيسلّط القليل الضعيف على الكثير القويّ. حَكِيمٌ يفعل بحكمته البالغة ما يستبعده العقل و يعجز عن إدراكه.

وَ لَوْ تَرى و لو رأيت، فإنّ «لو» تجعل المضارع ماضيا عكس «إن» إِذْ يَتَوَفَّى الَّذِينَ كَفَرُوا الْمَلائِكَةُ ببدر. و «إذ» ظرف «ترى» و المفعول محذوف، أي:

و لو ترى الكفرة أو حالهم حينئذ. و «الملائكة» فاعل «يتوفّى». و يدلّ عليه قراءة ابن عامر بالتاء.

و يجوز أن يكون الفاعل ضميرا للّه، و قوله: «الملائكة» مبتدأ خبره:

يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ و الجملة حال من «الَّذِينَ كَفَرُوا» و استغني فيه بالضمير عن الواو. و هو على الأوّل حال منهم، أو من الملائكة، أو منهما، لاشتماله على الضميرين.

______________________________

(1) يديّ و يديّ جمع اليد، و جمع الجمع الأيادي، يقال: لا يدين لك بهذا، أي: لا قوّة و لا طاقة لك به.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 53

وَ أَدْبارَهُمْ ظهورهم أو أستاههم. و قيل: المراد تعميم الضرب، أي:

يضربون ما أقبل منهم

و ما أدبر.

وَ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ عطف على «يضربون» بإضمار القول، أي:

و يقولون: ذوقوا، بشارة لهم بعذاب الآخرة. و قيل: كانت مع الملائكة مقامع من حديد كلّما ضربوا التهبت النار منها في جراحاتهم. و جواب «لو» محذوف، لتفظيع الأمر و تهويله، تقديره: لرأيت أمرا فظيعا منكرا.

ذلِكَ الضرب و العذاب بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ بسبب ما كسبتم من الكفر و المعاصي. و هو خبر ل «ذلك». وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ عطف عليه، أي: ذلك العذاب بسببين: بسبب كفركم و معاصيكم، و بأن اللّه يعذّب الكفّار بالعدل، لأنّه لا يظلم عباده في عقوبتهم، و قد بالغ في نفي الظلم عن نفسه بقوله: «ظلّام» فإنّه صيغة المبالغة. أو تكثير الظلم لأجل كثرة العبيد. أو لأنّ العذاب من العظم بحيث لولا الاستحقاق لكان المعذّب بمثله ظلّاما بليغ الظلم متفاقمه.

و قوله: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ مرفوع المحلّ بالخبر، تقديره: دأب هؤلاء مثل دأب آل فرعون، و هو عملهم و طريقهم الّذي دأبوا فيه، أي: داموا عليه. وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من قبل آل فرعون.

كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ تفسير لدأبهم فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ كما أخذ هؤلاء إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ لا يغلبه في دفعه شي ء.

ذلِكَ إشارة إلى ما حلّ بهم، أي: ذلك العذاب بِأَنَّ اللَّهَ بسبب أنّ اللّه لَمْ يَكُ مُغَيِّراً نِعْمَةً أَنْعَمَها عَلى قَوْمٍ مبدّلا إيّاها بالنقمة حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ أي: لا يصحّ ذلك في حكمته حتّى يبدّلوا ما بهم من الحال إلى حال أسوأ، كتغيير قريش حالهم في صلة الرحم و الكفّ عن تعرّض الآيات و الرسل بمعاداة الرسول و من تبعه منهم، و السعي في إراقة دمائهم، و التكذيب بالآيات

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 54

و الاستهزاء بها،

إلى غير ذلك ممّا أحدثوه بعد البعث.

و عن السدّي: النعمة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أنعم اللّه به على قريش، فكفروا به و كذّبوه، فنقله إلى الأنصار.

و هذا من جري عادة اللّه تعالى، فإنّ عادته سبحانه جارية على تغيير نعمته متى غيّر العبد أعماله بأسوأ منه، فإنّه كما تغيّر الحال المرضيّة إلى المسخوطة، تغيّر الحال المسخوطة إلى أسخط منها. فكفرة قريش كانوا قبل بعثة الرسول إليهم كفرة عبدة أصنام، فلمّا بعث إليهم النبيّ بالآيات البيّنات، فكذّبوه و عادوه، و تحزّبوا عليه ساعين في اراقة دمه، غيّروا حالهم إلى أسوأ ممّا كانت، فغيّر اللّه ما أنعم به عليهم من إمهالهم، و عاجلهم بالعذاب.

و أصل «يك» يكون، فحذفت الحركة للجزم، ثمّ الواو لالتقاء الساكنين، ثمّ النون لشبهه بالحروف اللينة تخفيفا، مع أنّ كثرة الاستعمال أيضا مقتضية للتخفيف.

وَ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لما يقول مكذّبو الرسل عَلِيمٌ بما يفعلون.

و قوله: كَدَأْبِ آلِ فِرْعَوْنَ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذَّبُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ فَأَهْلَكْناهُمْ بِذُنُوبِهِمْ وَ أَغْرَقْنا آلَ فِرْعَوْنَ تكرير للتأكيد، و لما نيط به من الدلالة على كفران النعم بقوله: «بِآياتِ رَبِّهِمْ»، و بيان ما أخذ به آل فرعون.

و قيل: الأوّل لتشبيه الكفر و الأخذ به، و الثاني لتشبيه التغيير في النعمة بسبب تغييرهم ما بأنفسهم.

وَ كُلٌ من الفرق المكذّبة، أو من غرقى القبط و قتلى قريش كانُوا ظالِمِينَ أنفسهم بالكفر و المعاصي، فلم يعاقبوا إلّا عن استحقاق.

[سورة الأنفال (8): الآيات 55 الى 56]

إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (55) الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ وَ هُمْ لا يَتَّقُونَ (56)

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 55

ثمّ ذمّ اللّه سبحانه الكفّار، فقال: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ إنّ

شرّ من يدبّ على وجه الأرض في معلوم اللّه أو في حكمه الَّذِينَ كَفَرُوا أصرّوا على الكفر و رسخوا فيه فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ لإصرارهم على الكفر، و لجاجهم و عنادهم فيه، فلا يتوقّع منهم إيمان، و هم قوم مطبوعون على الكفر بأنّهم لا يؤمنون. و ذكر الفاء العاطفة للتنبيه على أنّ تحقّق المعطوف عليه مستدع لتحقّق المعطوف.

و قوله: الَّذِينَ عاهَدْتَ مِنْهُمْ ثُمَّ يَنْقُضُونَ عَهْدَهُمْ فِي كُلِّ مَرَّةٍ بدل من «الَّذِينَ كَفَرُوا» بدل البعض، للبيان و التخصيص. و هم بنو قريظة، عاهدهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على أن لا يمالئوا عليه عدوّا فنكثوا، بأن أعانوا مشركي مكّة بالسلاح، و قالوا:

نسينا و أخطأنا، ثمّ عاهدهم فنكثوا و مالأوا عليه الأحزاب يوم الخندق، و ركب كعب بن الأشرف إلى مكّة فحالفهم.

و «من» لتضمين المعاهدة معنى الأخذ. و المراد بالمرّة مرّة المعاهدة أو مرّة المحاربة، أي: كلّما عاهدتم نقضوا العهد و لم يفوا به. و جعلهم اللّه شرّ الدّوابّ، لأنّ شرّ الناس الكفّار، و شرّ الكفّار المصرّون منهم، و شرّ المصرّين الّذين ينقضون العهد.

وَ هُمْ لا يَتَّقُونَ لا يخافون عاقبة الغدر و تبعته، و لا يبالون ما فيه من العار و النار، أو نصر اللّه للمؤمنين و تسليطه إيّاهم عليهم.

[سورة الأنفال (8): الآيات 57 الى 58]

فَإِمَّا تَثْقَفَنَّهُمْ فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ مَنْ خَلْفَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ (57) وَ إِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ خِيانَةً فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ عَلى سَواءٍ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ (58)

ثمّ حكم سبحانه في هؤلاء الناقضين للعهود، فقال لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: فَإِمَّا

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 56

تَثْقَفَنَّهُمْ فإمّا تصادفنّهم و تظفرنّ بهم فِي الْحَرْبِ فَشَرِّدْ بِهِمْ ففرّق عن محاربتك و مناصبتك بقتلهم و النكاية

فيهم مَنْ خَلْفَهُمْ من وراءهم من الكفرة. و التشريد تفريق على اضطراب. لَعَلَّهُمْ يَذَّكَّرُونَ لعلّ المشرّدين يتّعظون، فلا يجسر عليك بعدهم أحد، اعتبارا بهم، و اتّعاظا بحالهم.

وَ إِمَّا تَخافَنَّ مِنْ قَوْمٍ معاهدين خِيانَةً نقض عهد بأمارات تلوح لك فَانْبِذْ إِلَيْهِمْ فاطرح إليهم عهدهم عَلى سَواءٍ على طريق مقتصد مستو في العداوة، و ذلك بأن تخبرهم بنبذ العهد إخبارا ظاهرا مبيّنا لهم أنّك قطعت ما بينك و بينهم، و لا تبدأهم بالقتال و هم على توهّم بقاء العهد، فيكون ذلك خيانة منك. أو على سواء في الخوف، أو العلم بنقض العهد. و هو في موضع الحال من النابذ على الوجه الأوّل، أي: ثابتا على طريق سويّ، أو من المنبوذ إليهم، أو منهما على غيره، أي: حاصلين على استواء في الخوف أو العلم.

و قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْخائِنِينَ تعليل للأمر بالنبذ، و النهي عن مناجزة القتال المدلول عليه بالحال، على طريقة الاستئناف. و المعنى: فلا تخنهم، بأن تناجزهم القتال من غير إعلامهم بالنبذ.

قال الواقدي: هذه الآية نزلت في بني قينقاع، و بهذه الآية سار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إليهم.

[سورة الأنفال (8): الآيات 59 الى 63]

وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ (59) وَ أَعِدُّوا لَهُمْ مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ تُرْهِبُونَ بِهِ عَدُوَّ اللَّهِ وَ عَدُوَّكُمْ وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ لا تَعْلَمُونَهُمُ اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ يُوَفَّ إِلَيْكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ (60) وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ فَاجْنَحْ لَها وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (61) وَ إِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ (62) وَ أَلَّفَ بَيْنَ

قُلُوبِهِمْ لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ إِنَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (63)

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 57

و لمّا تقدّم الأمر بقتال الكفّار، عقّبه سبحانه بوعد النصر و الأمر بالإعداد لقتالهم، فقال مخاطبا لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا مفعولا «يحسبنّ»، أي: لا تحسبنّ يا محمّد الكافرين قد سبقوا أمر اللّه و أعجزوه، و أنّهم فاتوك، فإنّ اللّه تعالى يظفرك بهم كما وعدك، و يظهرك عليهم. و السبق و الفوت بمعنى واحد.

و قرأ ابن عامر و حمزة و حفص بالياء، على أنّ الفاعل ضمير أحد، أو «من خلفهم»، أو «الّذين كفروا» و المفعول الأوّل أنفسهم، فحذف للتكرار.

و قيل فيه: أصله أن سبقوا. و هو ضعيف، لأنّ «أن» المصدريّة كالموصول، فلا تحذف.

و قيل: وقع الفعل على إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ بالفتح على قراءة ابن عامر، و أنّ «لا» «1» صلة، و «سبقوا» حال، بمعنى: سابقين أو مفلتين.

و الأظهر أنّه تعليل للنهي، أي: لا تحسبنّهم سبقوا فأفلتوا، لأنّهم لا يفوتون اللّه، أو لا يجدون طالبهم عاجزا عن إدراكهم. و كذا إن كسرت «إنّ» إلّا أنّه تعليل على سبيل الاستئناف. و لعلّ الآية إزاحة لما يحذر به من نبذ العهد و إيقاظ العدوّ.

و عن الزهري أنّها نزلت فيمن أفلت من فلّ المشركين.

______________________________

(1) أي: زائدة، فيكون المعنى: و لا يحسبنّ الذين كفروا أنهم يعجزون.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 58

وَ أَعِدُّوا أيّها المؤمنون لَهُمْ لناقضي العهد أو الكفّار مَا اسْتَطَعْتُمْ مِنْ قُوَّةٍ من كلّ ما يتقوّى به في الحرب، من العدد و سائر آلات الحرب.

و

عن عقبة بن عامر سمعته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول على

المنبر: «ألا إنّ القوّة الرمي، قالها ثلاثا». و مات عقبة عن سبعين قوسا في سبيل اللّه.

و لعلّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خصّه بالذكر لأنّه أقواه.

وَ مِنْ رِباطِ الْخَيْلِ اسم للخيل التي تربط في سبيل اللّه. فعال بمعنى مفعول، أو مصدر سمّي به. يقال: ربط ربطا و رباطا، و رابط مرابطة و رباطا. أو جمع ربيط، كفصيل و فصال. و عطفها على «قوّة» إذا فسّرت بكلّ ما يتقوّى به، كعطف جبرئيل و ميكائيل على الملائكة.

و

جاء في الحديث: «أنّ الشيطان لا يقرب صاحب فرس، و لا دارا فيها فرس عتيق».

و

روي: «أنّ صهيل الخيل يرهب الجنّ».

تُرْهِبُونَ بِهِ تخوّفون به. و عن يعقوب: ترهّبون بالتشديد. و الضمير ل «مَا اسْتَطَعْتُمْ» أو للإعداد عَدُوَّ اللَّهِ وَ عَدُوَّكُمْ كفّار مكّة وَ آخَرِينَ مِنْ دُونِهِمْ و ترهبون كفّارا آخرين من غيرهم من الكفرة. قيل: هم اليهود. و قيل: المنافقون.

و قيل: الفرس. و قيل: كفرة الجنّ. لا تَعْلَمُونَهُمُ لا تعرفونهم بأعيانهم اللَّهُ يَعْلَمُهُمْ يعرفهم، لأنّه المطّلع على الأسرار.

وَ ما تُنْفِقُوا مِنْ شَيْ ءٍ فِي سَبِيلِ اللَّهِ في الجهاد يُوَفَّ إِلَيْكُمْ يوفّر عليكم ثوابه وَ أَنْتُمْ لا تُظْلَمُونَ بتضييع العمل أو نقص الثواب.

وَ إِنْ جَنَحُوا لِلسَّلْمِ و إن مالوا للصلح أو الاستسلام، و منه الجناح.

و قد يعدّى باللام و إلى. و قرأ أبو بكر بكسر السين. فَاجْنَحْ لَها و عاهد معهم. و تأنيث الضمير لحمل السلم على نقيضها و هي الحرب، أو لأنّه بمعنى المسالمة.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 59

وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ و لا تخف من إبطانهم خداعا فيه، فإنّ اللّه يعصمك من مكرهم، و يحيقه بهم. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم الْعَلِيمُ بنيّاتهم.

و الآية مخصوصة بأهل الكتاب، لاتّصالها بقصّتهم. و قيل: عامّة

نسختها آية السيف «1». و الأصحّ أنّها ليست بمنسوخة، لأنّها في الموادعة لأهل الكتاب، و آية السيف لعبّاد الأوثان.

وَ إِنْ يُرِيدُوا أَنْ يَخْدَعُوكَ في الصلح، بأن يقصدوا به دفع أصحابك عن القتال، حتّى يقوى أمرهم فيبدؤوكم بالقتال بالاستعداد التامّ فَإِنَّ حَسْبَكَ اللَّهُ فإنّ محسبك اللّه تعالى و كافيك من مكرهم هُوَ الَّذِي أَيَّدَكَ بِنَصْرِهِ وَ بِالْمُؤْمِنِينَ جميعا، ينصرونك على أعدائك، يريد الأنصار، و هم الأوس و الخزرج.

وَ أَلَّفَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ مع ما فيهم من العصبيّة و الضغينة في أدنى شي ء، و التهالك على الانتقام بحيث لا يكاد يأتلف فيهم قلبان، فإنّه لم يكن حيّان من العرب بينهما من العداوة مثل ما كان بين هذين الحيّين، فألّف اللّه بين قلوبهم حتّى صاروا كنفس واحدة في التحابّ و التوادّ، و هذا من معجزاته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و بيانه قوله: لَوْ أَنْفَقْتَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ما أَلَّفْتَ بَيْنَ قُلُوبِهِمْ أي: كان تناهي عداوتهم بحيث لو أنفق منفق في إصلاح ذات بينهم ما في الأرض من الأموال لم يقدر على الألفة و الإصلاح، و إزالة ضغائن الجاهليّة وَ لكِنَّ اللَّهَ أَلَّفَ بَيْنَهُمْ بقدرته البالغة، فإنّه المالك للقلوب، يقلبها كيف يشاء. فتصافوا، و صاروا أنصارا بميامن الإسلام، و بركة سيّد الأنام عليه و آله أفضل الصلاة و السلام.

إِنَّهُ عَزِيزٌ تامّ القدرة و الغلبة، لا يعصي عليه ما يريد حَكِيمٌ يعلم أنّه كيف ينبغي أن يفعل ما يريده.

______________________________

(1) التوبة: 5 و 29.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 60

[سورة الأنفال (8): الآيات 64 الى 69]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ وَ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (64) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا

أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (65) الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ (66) ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا وَ اللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (67) لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ سَبَقَ لَمَسَّكُمْ فِيما أَخَذْتُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (68)

فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ حَلالاً طَيِّباً وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (69)

ثمّ أمر سبحانه بقتال الكفّار، و حثّ عليه بقوله: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَسْبُكَ اللَّهُ كافيك. و قوله: وَ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إمّا في محلّ النصب على المفعول معه.

و المعنى: كفاك اللّه مع متّبعيك من المؤمنين ناصرا. أو في محلّ الجرّ عطفا على المكنيّ عند الكوفيّين. أو الرفع عطفا على اسم اللّه تعالى، أي: كفاك اللّه عزّ و جلّ و المؤمنون. و هذه الآية نزلت بالبيداء في غزوة بدر قبل القتال.

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ حَرِّضِ الْمُؤْمِنِينَ عَلَى الْقِتالِ بالغ في حثّهم عليه. و أصله الحرض، و هو أن ينهكه المرض حتّى يشفى- أي: يشرف- على الموت إِنْ يَكُنْ

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 61

مِنْكُمْ عِشْرُونَ صابِرُونَ على القتال يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ من العدوّ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ يَغْلِبُوا أَلْفاً مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا اللفظ لفظ الخبر، و المراد منه الأمر. و هذه عدة من اللّه بأنّ الجماعة من المؤمنين إن صبروا غلبوا عشرة أمثالهم من الكفّار بتأييد اللّه و عونه.

و قرأ ابن كثير و نافع و ابن عامر: تكن بالتاء في الآيتين. و وافقهم البصريّان في «و إن تكن منكم مائة».

بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا

يَفْقَهُونَ بسبب أنّ الكفّار جهلة باللّه و اليوم الآخر، لا يثبتون ثبات المؤمنين، رجاء الثواب و عوالي الدرجات قتلوا أو قتلوا، و لا يستحقّون من اللّه تعالى إلّا الهوان و الخذلان، فيقاتلون على غير احتساب ثواب كالبهائم.

عن ابن جريج: كان عليهم أن لا يفرّوا، و يثبت الواحد منهم للعشرة. و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعث حمزة بن عبد المطّلب في ثلاثين راكبا، فلقي أبا جهل في ثلاثمائة راكب، فثقل ذلك عليهم و ضجّوا منه. و كان ذلك الحكم مدّة طويلة، ثمّ نسخ و خفّف عنهم بمقاومة الواحد الاثنين، بقوله عزّ و جلّ: الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً فيه «1» لغتان: الفتح، و هو قراءة عاصم و حمزة. و الضمّ، و هو قراءة الباقين. و الضعف ضعف البدن. و قيل: ضعف البصيرة و الاستقامة في الدين، و كانوا متفاوتين فيها.

و قال في المجمع: «أراد به ضعف البصيرة و العزيمة، و لم يرد ضعف البدن، فإنّ الّذين أسلموا في الابتداء لم يكونوا كلّهم أقوياء البدن، بل كان فيهم القويّ و الضعيف، و لكن كانوا أقوياء البصيرة و اليقين، و لمّا كثر المسلمون و اختلط بهم من كان أضعف يقينا و بصيرة نزل: «الْآنَ خَفَّفَ اللَّهُ عَنْكُمْ وَ عَلِمَ أَنَّ فِيكُمْ ضَعْفاً» «2».

______________________________

(1) أي: في «ضعفا».

(2) مجمع البيان 4: 557.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 62

فَإِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ مِائَةٌ صابِرَةٌ على القتال يَغْلِبُوا مِائَتَيْنِ من العدوّ وَ إِنْ يَكُنْ مِنْكُمْ أَلْفٌ صابرة يَغْلِبُوا أَلْفَيْنِ منهم بِإِذْنِ اللَّهِ بعلم اللّه أو بأمر اللّه وَ اللَّهُ مَعَ الصَّابِرِينَ بالنصر و المعونة، فكيف لا يغلبون؟ قيل: كان فيهم قلّة فأمروا بذلك، ثمّ لمّا

كثروا خفّف عنهم. و تكرير المعنى الواحد بذكر الأعداد المتناسبة قبل التخفيف و بعده، للدلالة على أنّ حكم القليل و الكثير واحد لا يتفاوت، لأنّ الحال قد يتفاوت بين مقاومة العشرين المائتين و المائة الألف، و كذلك بين مقاومة المائة المائتين و الألف الألفين.

و اعلم أنّ هذه الآية ناسخة للأولى كما مرّ، و المعتبر في الناسخ و المنسوخ بالنزول دون التلاوة. و عن الحسن: أنّ التغليظ كان على أهل بدر، ثمّ جاءت الرخصة.

روي أنّه كان القتلى من المشركين يوم بدر سبعين، قتل منهم أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه عليه سبعة و عشرين. و كان الأسرى أيضا سبعين، و لم يؤسر أحد من أصحاب رسول اللّه، فجمعوا الأسارى و قرنوهم في الحبال، و ساقوهم على أقدامهم. و قتل من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تسعة رجال، منهم سعد بن خيثمة، و كان من النقباء من الأوس.

و عن محمّد بن إسحاق: استشهد من المسلمين يوم بدر أحد عشر رجلا، أربعة من قريش و سبعة من الأنصار، و قيل: ثمانية. و قتل من المشركين بضعة و أربعون رجلا.

و

عن ابن عبّاس قال: لمّا أمسى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم بدر و الناس محبوسون بالوثاق بات ساهرا أوّل الليل، فقال له أصحابه: مالك لا تنام؟ فقال عليه الصلاة و السلام: سمعت أنين عمّي العبّاس في وثاقه. فأطلقوه فسكت، فنام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 63

و

في كتاب عليّ بن إبراهيم «1»: لمّا قتل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم النضر بن الحارث و عقبة بن أبي معيط خافت

الأنصار أن يقتل الأسارى، فقالوا: يا رسول اللّه قتلنا سبعين منهم و هم قومك و أسرتك، فخذ من هؤلاء الفداء، و قد كانوا أخذوا ما وجدوه من الغنائم في عسكر قريش.

و

روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم بدر كره أخذ الفداء، حتّى رأى سعد بن معاذ كراهية ذلك في وجهه، فقال: يا رسول اللّه هذا أوّل حرب لقينا فيه المشركين، و الإثخان في القتل أحبّ من استبقاء الرجال.

و كذا قال عمر بن الخطاب: يا رسول اللّه كذّبوك و أخرجوك، فقدّمهم و اضرب أعناقهم، و مكّن عليّا من عقيل فيضرب عنقه، و مكّنّي من فلان أضرب عنقه، فإنّ هؤلاء أئمّة الكفر. و قال أبو بكر: أهلك و قومك؛ استبقهم و خذ منهم فدية تكون لنا قوّة على الكفّار.

و أيضا

في كتاب عليّ بن إبراهيم «2»: كان أكثر الفداء أربعة آلاف درهم، و أقلّه ألف درهم. فبعثت قريش بالفداء أوّلا فأوّلا، فبعثت زينب بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من فداء زوجها أبي العاص بن الربيع، و بعثت قلائد لها كانت خديجة جهّزتها بها، و كان أبو العاص ابن أخت خديجة، فلمّا رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تلك القلائد قال: رحم اللّه خديجة هذه قلائد هي جهّزتها بها، فأطلقه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بشرط أن يبعث إليه زينب، و لا يمنعها من اللحوق به، فعاهده على ذلك و وفى له.

و كان أكثر الفداء أربعة آلاف درهم، و أقلّه ألف درهم.

ثمّ نزلت: ما كانَ لِنَبِيٍ ما استقام لنبيّ و ما صحّ له أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى

______________________________

(1) تفسير القمّي 1: 270.

(2)

لم نجده في تفسير عليّ بن إبراهيم، و الظاهر أنّه من كلام الطبري قدّس سرّه، إذ نقل أولا عن كتاب عليّ بن إبراهيم ثم عقّبه بما في المتن هنا، و حسبه المؤلّف قدّس سرّه أنّه من تتمّة المنقول عن تفسير القمّي. راجع مجمع البيان 4: 559.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 64

من المشركين ليفديهم أو يمنّ عليهم. و قرأ البصريّان بالتاء. حَتَّى يُثْخِنَ فِي الْأَرْضِ يكثر القتل و يبالغ فيه بإشاعته، حتّى يذلّ الكفر و يقلّ حزبه، و يعزّ الإسلام و يستولي أهله، من: أثخنه المرض إذا أثقله. و أصله الثخانة.

تُرِيدُونَ عَرَضَ الدُّنْيا حطامها بأخذكم الفداء. سمّي عرضا لأنّه حدث قليل اللبث. و الخطاب للمؤمنين الّذين رغبوا في أخذ الفداء من الأسرى. وَ اللَّهُ يُرِيدُ الْآخِرَةَ يريد لكم ثواب الآخرة، أو سبب نيل ثواب الآخرة، من إعزاز دينه و قمع أعدائه.

وَ اللَّهُ عَزِيزٌ يغلّب أولياءه على أعدائه حَكِيمٌ يعلم ما يليق بكلّ حال و يخصّه بها، و لهذا أمر بالإثخان و منع عن الافتداء حين كانت الشوكة للمشركين، و خيّر بينه و بين المنّ لمّا تحوّلت الحال و صارت الغلبة للمؤمنين.

لَوْ لا كِتابٌ مِنَ اللَّهِ أي: حكم فيه سَبَقَ في اللوح بإباحة الغنائم لكم، و من ذلك الفداء، و رفع التعذيب عن أهل بدر، أو عن قوم لم يصرّح لهم بالنهي عنه، أو عن الخطأ في اجتهادهم لأنّهم نظروا في أنّ استبقاءهم ربّما كان سببا في إسلامهم و توبتهم، و أنّ فداءهم يتقوّى به المسلمون على الجهاد في سبيل اللّه، و خفي عليهم أنّ قتلهم أعزّ للإسلام، و أهيب لمن وراءهم، و أفلّ لشوكتهم.

لَمَسَّكُمْ لنالكم فِيما أَخَذْتُمْ من الفداء عَذابٌ عَظِيمٌ

قال ابن زيد: قال رسول اللّه

صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد نزول هذه الآية: «لو نزل عذاب من السماء لما نجا منكم غير عمر و سعد بن معاذ».

و قيل: معناه: لولا كتاب من اللّه في القرآن أنّه لا يعذّبكم و النبيّ بين أظهركم، حيث قال: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ وَ أَنْتَ فِيهِمْ «1».

فَكُلُوا مِمَّا غَنِمْتُمْ من الفدية، فإنّها من جملة الغنائم. و قيل: أمسكوا عن

______________________________

(1) الأنفال: 33.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 65

الغنائم و لم يمدّوا أيديهم إليها بعد العتاب على الفداء، فنزلت. و الفاء للتسبيب، و السبب محذوف، تقديره: أبحت لكم الغنائم فكلوا. و بنحوه تشبّث من زعم أنّ الأمر الوارد بعد الحظر للإباحة.

حَلالًا حال من المغنوم أو صفة للمصدر، أي: أكلا حلالا. و فائدته إزاحة ما وقع في نفوسهم منه بسبب تلك المعاتبة، و لذلك وصفه بقوله: طَيِّباً وَ اتَّقُوا اللَّهَ في مخالفته إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ غفر لكم ذنبكم رَحِيمٌ أباح لكم ما أخذتم.

[سورة الأنفال (8): الآيات 70 الى 71]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (70) وَ إِنْ يُرِيدُوا خِيانَتَكَ فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (71)

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كلّف العبّاس أن يفدي نفسه و ابني أخويه عقيل بن أبي طالب و نوفل بن الحارث.

فقال: يا محمّد تركتني أتكفّف «1» قريشا ما بقيت.

فقال: فأين الذهب الّذي دفعته إلى أمّ الفضل وقت خروجك، و قلت لها: لا أدري ما يصيبني في وجهي هذا، فإن حدث بي حدث فهو لك و لعبد اللّه و عبيد اللّه و الفضل و

قثم.

فقال: و ما يدريك؟

______________________________

(1) تكفّف الناس: مدّ كفّه إليهم يستعطي. زبدة التفاسير، ج 3، ص: 66

قال: أخبرني به ربّي.

قال: فأشهد أنّك صادق، لا إله إلّا اللّه و أنّك رسوله، و اللّه لم يطّلع عليه أحد إلّا اللّه، و لقد دفعته إليها في سواد الليل، و لقد كنت مرتابا في أمرك، و إذ أخبرتني بذلك فزال ريبي و شكّي في نبوّتك.

فنزلت: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِمَنْ فِي أَيْدِيكُمْ مِنَ الْأَسْرى أي: أيديكم قابضة عليهم. و قرأ أبو عمرو: من الأسارى. و القراءة الأولى أولى، لأنّ الأسير فعيل بمعنى المفعول، و ذلك يجمع على فعلى، نحو جريح و جرحى. و قيل: وجه القراءة الثانية تشبيهه بكسالى، كما شبّهوا كسلى بأسرى.

إِنْ يَعْلَمِ اللَّهُ فِي قُلُوبِكُمْ خَيْراً خلوص عقيدة و صحّة نيّة في الإيمان يُؤْتِكُمْ خَيْراً مِمَّا أُخِذَ مِنْكُمْ من الفداء إمّا بأن يخلفكم في الدنيا أضعافه، أو يثيبكم في الآخرة. قال العبّاس: فأبدلني اللّه خيرا من ذلك، لي الآن عشرون عبدا، إن أدناهم ليضرب- أي: ليسافر- في عشرين ألفا، و أعطاني زمزم ما أحبّ أن لي بها جميع أموال أهل مكّة، و أنا أنتظر المغفرة من ربّكم، يعني: الموعود بقوله:

وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ

و روي أنّه قدم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مال البحرين ثمانون ألفا، فتوضّأ لصلاة الظهر، و ما صلّى حتّى فرّقه، و أمر العبّاس أن يأخذ منه، فأخذ ما قدر على حمله، و كان يقول: هذا خير ممّا أخذ منّي، و أرجو المغفرة.

وَ إِنْ يُرِيدُوا يعني: الأسرى خِيانَتَكَ نقض ما عاهدوك من الإسلام فَقَدْ خانُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ بأن خرجوا إلى بدر و قاتلوا مع المشركين، أو بأن

نقضوا الميثاق المأخوذ بالعقل فَأَمْكَنَ مِنْهُمْ أي: فأمكنك منهم كما فعل يوم بدر، و سيمكّنك منهم ثانيا إن خانوك وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بما يقولونه، و بما في نفوسكم، و بجميع الأشياء حَكِيمٌ فيما يفعله.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 67

[سورة الأنفال (8): الآيات 72 الى 73]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ إِلاَّ عَلى قَوْمٍ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (72) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إِلاَّ تَفْعَلُوهُ تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ وَ فَسادٌ كَبِيرٌ (73)

ثمّ ختم اللّه سبحانه السورة بإيجاب موالاة المؤمنين و قطع موالاة الكافرين، فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا أي: فارقوا أوطانهم حبّا للّه تعالى و لرسوله. و هم المهاجرون من مكّة إلى المدينة. وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ فصرفوها في الكراع «1» و السلاح، و أنفقوها على المحاويج وَ أَنْفُسِهِمْ بمباشرة القتال فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا هم الأنصار آووا المهاجرين إلى ديارهم، و نصروهم على أعدائهم أُولئِكَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ أي: يتولّى بعضهم بعضا في الميراث. و

كان المهاجرون و الأنصار يتوارثون بالهجرة و النصرة دون الأقارب، أو بالمؤاخاة، و هذا مرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام،

ثمّ نسخ بقوله: وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ «2» وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَمْ يُهاجِرُوا ما لَكُمْ مِنْ وَلايَتِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ حَتَّى يُهاجِرُوا أي: من

______________________________

(1) الكراع: اسم يطلق على الخيل و البغال و الحمير، أو اسم لجماعة الخيل خاصّة.

(2) الأنفال: 75.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 68

تولّيهم في الميراث.

و قرأ حمزة: ولايتهم بالكسر. قال الزجّاج: هي بفتح الواو من النصرة و النسب، و بالكسر هي بمنزلة الإمارة. و وجه الكسر أنّه شبّه تولّي بعضهم بعضا بالصناعة و العمل، لأنّ كلّ ما كان من هذا الجنس مكسور، كالصياغة و الكتابة، فكأنّ الرجل بتولّيه صاحبه يباشر أمرا و يزاول عملا.

وَ إِنِ اسْتَنْصَرُوكُمْ أي: و إن طلب المؤمنون الّذين لم يهاجروا منكم النصرة لهم على الكفّار فِي الدِّينِ فَعَلَيْكُمُ النَّصْرُ فواجب عليكم أن تنصروهم على المشركين إِلَّا عَلى قَوْمٍ من المشركين بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ مِيثاقٌ عهد، فلا يجوز لكم نصرهم عليهم، لأنّهم لا يبتدؤن بالقتال، إذ الميثاق مانع من ذلك وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ في الميراث أو المؤازرة. و هو بمفهومه يدلّ على نهي المسلمين عن موالاة الكفّار و معاونتهم، و إن كانوا أقارب إِلَّا تَفْعَلُوهُ أي: إلّا تفعلوا ما أمرتم به من تواصل المسلمين و تولّي بعضهم بعضا حتّى في التوارث، و قطع العلائق بينكم و بين الكفّار، و جعل قرابتهم كلا قرابة في التوارث تَكُنْ فِتْنَةٌ فِي الْأَرْضِ تحصل فتنة عظيمة فيها، و هي ضعف الايمان و ظهور الكفر وَ فَسادٌ كَبِيرٌ في الدين.

[سورة الأنفال (8): الآيات 74 الى 75]

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (74) وَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا مَعَكُمْ فَأُولئِكَ مِنْكُمْ وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (75)

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 69

و لمّا قسّم المؤمنين ثلاثة أقسام، بيّن أنّ الكاملين في الايمان منهم هم الّذين حقّقوا إيمانهم، فقال: وَ الَّذِينَ

آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ آوَوْا وَ نَصَرُوا أُولئِكَ هُمُ الْمُؤْمِنُونَ حَقًّا. ثمّ وعد لهم الموعد الكريم بقوله: لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ لا تبعة و لا منّة فيه، و ذلك لأنّهم حقّقوا إيمانهم بالهجرة و النصرة، و الانسلاخ من الأهل و المال لأجل الدين. و ليس بتكرار، لأنّ هذه الآية واردة للثناء عليهم و الشهادة لهم مع الموعد الكريم، و الآية الأولى للأمر بالتواصل.

ثمّ ألحق بهم في الأمرين من سيلحق بهم و يتّسم بسمتهم، فقال: وَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْ بَعْدُ من بعد فتح مكّة. و قيل: من بعد إيمانكم. وَ هاجَرُوا بعد هجرتكم وَ جاهَدُوا في الجهاد و بذل الأموال فيه مَعَكُمْ أيّها المؤمنون. يريد اللاحقين بعد السابقين إلى الهجرة، كقوله: وَ الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ «1» فألحقهم اللّه بهم تفضّلا منه و ترغيبا، فقال: فَأُولئِكَ مِنْكُمْ أي: من جملتكم أيّها المهاجرون و الأنصار، و حكمهم كحكمكم في وجوب موالاتهم و نصرتهم و إن تأخّر إيمانهم و هجرتهم.

وَ أُولُوا الْأَرْحامِ و أولوا القرابات بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ في حكمه، أو في اللوح، أو في القرآن. و هذا نسخ للتوارث بالهجرة و النصرة كما مرّ آنفا. و فيه دلالة على أن من كان أقرب إلى الميّت في النسب كان أولى بالميراث.

إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ من المواريث و الحكمة، في إناطتها بنسبة الإسلام و المظاهرة أوّلا، و اعتبار القربة ثانيا.

______________________________

(1) الحشر: 10.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 71

(9) سورة التوبة

[سورة التوبة (9): الآيات 1 الى 2]

بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (1) فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَ

أَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ (2)

مدنيّة، و آياتها مائة و تسع و عشرون.

و لها أربعة «1» عشر اسما:

البراءة، لأنّها مفتّحة بها، و نزلت بإظهار البراءة من الكفّار.

و التوبة، لكثرة ما فيها من ذكر التوبة، كقوله تعالى: وَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ «2» فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا «3».

و الفاضحة، لأنّها فضحت المنافقين بإظهار نفاقهم.

______________________________

(1) ذكر الشارح قدّس سرّه ثلاثة عشر اسما فقط، و سقط الرابع عشر من قلمه، و هو- كما في تفسير البيضاوي 3: 58- المخزية، لما فيها مما يخزي المنافقين.

(2) التوبة: 15 و 74 و 118.

(3) التوبة: 15 و 74 و 118.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 72

و المبعثرة، لأنّها تبعثر عن أسرار المنافقين، أي: تبحث عنها.

و المنقّرة لذلك، لأنّ التنقير بمعنى البحث و التفتيش.

و المقشقشة، لأنّها تبرئ من آمن بها من النفاق و الشرك، لما فيها من الدعاء إلى الإخلاص. يقال: قشقشه إذا برّأه، و تقشقش المريض من علّته إذا برى ء منها و أفاق.

و البحوث، لأنّها تتضمّن ذكر المنافقين و البحث عن سرائرهم.

و المدمدمة، أي: المهلكة، و منه قوله: فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ «1».

و الحافرة، لأنّها حفرت عن قلوب المنافقين ما كانوا يسرّونه.

و المثيرة، لأنّها أثارت مخازيهم و مقابحهم.

و المنكّلة، لأنّها تنكّلهم.

و المشرّدة، إذ تشرّدهم.

و سورة العذاب، لأنّها نزلت بعذابهم.

و إنّما تركت التسمية فيها، لأنّها نزلت لرفع الأمان، و بسم اللّه أمان، كما

ورد عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «لم ينزل بسم اللّه الرحمن الرحيم راس سورة براءة، لرفع الأمان و للسيف».

و هذا منقول عن سفيان بن عيينة. و اختاره أبو العبّاس المبرّد.

و

قيل: كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا نزلت عليه سورة أو آية بيّن موضعهما،

و توفّي و لم يبيّن موضعها.

و كانت قصّتها تشابه قصّة الأنفال و تناسبها، لأنّ في الأنفال ذكر العهود، و في براءة نبذها، فضمّت إليها، و لهذا سمّيتا قرينتين، و تعدّان السابعة من السبع الطوال.

و قيل: لمّا اختلفت الصحابة في أنّهما سورة واحدة- و هي سابعة السبع

______________________________

(1) الشمس: 14.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 73

الطوال- أو سورتان تركت بينهما فرجة، و لم يكتب «بسم اللّه» لقول من قال: هما سورة واحدة.

و يؤيّد الأوّل ما

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «الأنفال و براءة واحدة».

و

روي ذلك عن سعيد بن المسيّب، عن أبيّ بن كعب، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ سورة الأنفال و براءة فأنا شفيع له».

الخبر بتمامه مضى ذكره في صدر سورة الأنفال «1».

و

روى الثعلبي بإسناده عن عائشة، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «ما نزل عليّ القرآن إلّا آية آية و حرفا حرفا، خلا سورة البراءة و قل هو اللّه أحد، فإنّهما نزلتا و معهما سبعون ألف صفّ من الملائكة».

و على قول من قال إنّهما سورتان قيل: و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة الأنفال بإيجاب البراءة من الكفّار، افتتح هذه السورة بأنّه تعالى و رسوله بريئان منهم، كما أمر المسلمين بالبراءة منهم في سورة الأنفال، فقال: بَراءَةٌ مِنَ اللَّهِ أي: هذه براءة. و «من» ابتدائيّة متعلّقة بمحذوف تقديره: واصلة من اللّه وَ رَسُولِهِ أي:

انقطاع منهما للعصمة، و رفع الأمان، و خروج من العهود. و يجوز أن تكون براءة مبتدأ، لتخصّصها بصفتها، و الخبر قوله: إِلَى الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كما تقول: رجل من قريش في الدار. و المعنى: أنّ اللّه و رسوله

برئا من العهد الّذي عاهدتم به المشركين.

و إنّما علّقت البراءة باللّه و رسوله و المعاهدة بالمسلمين، للدلالة على أنّه يجب عليهم نبذ عهود المشركين إليهم، و إن كانت صادرة بإذن اللّه و اتّفاق الرسول، فإنّهما برئا الآن منها. و ذلك أنّهم عاهدوا مشركي العرب فنكثوا إلّا أناسا، منهم بنو ضمرة و بنو كنانة، فأمرهم بنبذ العهد إلى الناكثين، و أمهل المشركين أربعة أشهر

______________________________

(1) راجع ص: 5.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 74

ليسيروا أين شاؤا، فقال خطابا للمشركين: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ شوّال و ذي القعدة و ذي الحجّة و المحرّم، آمنين أين شئتم، و ذلك لصيانة الأشهر الحرم من القتل و القتال فيها.

و قيل: إنّ براءة نزلت في شوّال سنة تسع من الهجرة، و فتح مكّة سنة ثمان.

و قيل:

كان ابتداؤها من النحر إلى العاشر من ربيع الآخر، لأنّ التبليغ كان يوم النحر.

و هو الأصحّ، لأنّه مرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و قال ابن عبّاس: إنّما أجّلهم الأشهر الأربعة من شوّال إلى آخر المحرّم، لأنّ هذه الآية نزلت في شوّال.

قال في الكشّاف: «كان نزول براءة سنة تسع من الهجرة، و فتح مكّة سنة ثمان، و كان الأمير عتّاب بن أسيد، فأمّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أبا بكر على موسم الحجّ سنة تسع، ثمّ أتبعه عليّا عليه السّلام راكبا العضباء- و هي ناقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- ليقرأها على أهل الموسم. فقيل له: لو بعثت بها إلى أبي بكر. فقال: لا يؤدّي عنّي إلّا رجل منّي. فلمّا دنا عليّ عليه السّلام سمع أبو بكر الرغاء فوقف، فقال: هذا رغاء ناقة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

و سلّم، فلمّا لحقه قال: أمير أو مأمور؟ قال: مأمور.

و

روي: أنّ أبا بكر لمّا كان ببعض الطريق هبط جبرئيل، فقال: يا محمّد لا يبلّغ رسالتك إلّا رجل منك، فأرسل عليّا عليه السلام. فرجع أبو بكر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا رسول اللّه أ شي ء نزل من السماء؟ قال: نعم، فسر و أنت على الموسم، و عليّ ينادي بالآي. فلمّا كان قبل التروية خطب أبو بكر و حدّثهم عن مناسكهم. و قام عليّ يوم النحر عند جمرة العقبة فقال: يا أيّها الناس إنّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إليكم. فقالوا: بماذا؟ فقرأ عليهم ثلاثين أو أربعين آية. و عن مجاهد ثلاث عشرة آية. ثمّ قال: أمرت بأربع: أن لا يقرب البيت بعد هذا العام مشرك. و لا يطوف بالبيت عريان. و لا يدخل الجنّة إلّا كلّ نفس مؤمنة. و أن يتمّ كلّ

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 75

ذي عهد عهده. فقالوا عند ذلك: يا عليّ أبلغ ابن عمّك أنّا قد نبذنا العهد وراء ظهورنا، و أنّه ليس بيننا و بينه عهد إلّا طعن بالرماح و ضرب بالسيوف» «1» انتهى كلامه.

و

قال في المجمع: «روى عاصم بن حميد، عن أبي بصير، عن الباقر عليه السّلام قال: خطب عليّ عليه السّلام الناس يوم النحر، و اخترط سيفه فقال: لا يطوفنّ بالبيت عريان، و لا يحجّنّ بالبيت مشرك، و من كانت له مدّة فهو إلى مدّته، و من لم يكن له مدّة فمدّته أربعة أشهر، و قرأ عليهم سورة براءة» «2».

و

قيل: إنّه أخذها من أبي بكر قبل الخروج و دفعها إلى عليّ عليه السّلام، و قال: لا يبلّغ عنّي إلّا

أنا أو رجل منّي.

و

روى أصحابنا: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ولّاه ايضا الموسم، و أنّه حين أخذ البراءة من أبي بكر رجع أبو بكر.

و

روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده عن سماك بن حرب، عن أنس بن مالك: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعث ببراءة مع أبي بكر إلى أهل مكّة، فلمّا بلغ ذا الحليفة بعث إليه فردّه، و قال: لا يذهب بهذا إلّا رجل من أهل بيتي، فبعث عليّا عليه السّلام» «3».

و تحريم القتال في الأشهر الحرم قد نسخ، و أبيح قتال المشركين فيها بعد ذلك.

وَ اعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ لا تفوتونه و إن أمهلكم وَ أَنَّ اللَّهَ مُخْزِي الْكافِرِينَ أي: مذلّهم في الدنيا بالقتل و الأسر، و في الآخرة بالعذاب الأليم.

______________________________

(1) الكشّاف 2: 243- 244.

(2) مجمع البيان 5: 3- 4.

(3) شواهد التنزيل 1: 305 ح 309.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 76

[سورة التوبة (9): الآيات 3 الى 4]

وَ أَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ أَنَّ اللَّهَ بَرِي ءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ وَ رَسُولُهُ فَإِنْ تُبْتُمْ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ وَ بَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ (3) إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً وَ لَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (4)

و لمّا أخبر بثبوت البراءة أخبر بعد ذلك بوجوب الإعلام بما ثبت، فقال:

وَ أَذانٌ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ إِلَى النَّاسِ أي: إعلام منهما إليهم. فعال بمعنى الإفعال، أي: الإيذان، كالأمان و العطاء بمعنى الإيمان و الإعطاء. و المراد من الناس الناكثون، أو جميع الناس من عاهد منهم و من لم يعاهد. و رفعه

كرفع براءة بعينه على الوجهين، فالجملة معطوفة على مثلها.

يَوْمَ الْحَجِّ الْأَكْبَرِ قيل: يوم النحر، لأنّ فيه تمام الحجّ و معظم أفعاله، و لأنّ الإعلام كان فيه، و لما

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وقف يوم النحر عند الجمرات في حجّة الوداع، فقال: هذا يوم الحجّ الأكبر.

و

روي أنّ عليّا عليه السّلام أخذ رجل بلجام دابّته فقال: ما الحجّ الأكبر؟ فقال: يومك هذا، خلّ عن دابّتي. و قيل: يوم عرفة، لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

«الحجّ عرفة».

و وصف بالحجّ الأكبر لأنّ العمرة تسمّى الحجّ الأصغر. أو لأنّ المراد بالحجّ ما يقع في ذلك اليوم من أعماله، فإنّه أكبر من باقي الأعمال. أو لأنّ ذلك الحجّ اجتمع فيه المسلمون و المشركون، و وافق عيده أعياد أهل الكتاب، و لم يتّفق ذلك

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 77

قبله و لا بعده، فعظم في قلب كلّ مؤمن و كافر، و ظهر فيه عزّ المسلمين و ذلّ المشركين.

أَنَّ اللَّهَ أي: بأنّ اللّه، حذف الباء تخفيفا. بَرِي ءٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ أي: من عهودهم وَ رَسُولِهِ عطف على الضمير المستكن في «بري ء» فَإِنْ تُبْتُمْ من الكفر و الغدر فَهُوَ فالتوب خَيْرٌ لَكُمْ من الإقامة عليهما، لأنّكم تنجون به من خزي الدنيا و عذاب الآخرة وَ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ عن التوبة، أو تبتم على التولّي و الإعراض عن الإسلام و الوفاء فَاعْلَمُوا أَنَّكُمْ غَيْرُ مُعْجِزِي اللَّهِ غير سابقين اللّه هربا، و لا فائتين أخذه و عقابه. و في هذا إعلام بأنّ الإمهال ليس بعجز، بل إنّما هو لإظهار الحجّة و المصلحة.

ثمّ أوعدهم بعذاب الآخرة فقال: وَ بَشِّرِ الَّذِينَ كَفَرُوا بِعَذابٍ أَلِيمٍ في الآخرة. و ذكر البشارة مكان النذارة للتهكّم.

و قوله: إِلَّا الَّذِينَ

عاهَدْتُمْ مِنَ الْمُشْرِكِينَ استثناء من المشركين أو استدراك، فكأنّه قيل لهم بعد أن أمروا بنبذ العهد إلى الناكثين: و لكن الّذين عاهدوا منهم ثُمَّ لَمْ يَنْقُصُوكُمْ شَيْئاً من شروط العهد أصلا و لم ينكثوه، أو لم يقتلوا منكم و لم يضرّوكم قطّ وَ لَمْ يُظاهِرُوا عَلَيْكُمْ أَحَداً من أعدائكم فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ إِلى مُدَّتِهِمْ إلى تمام مدّتهم الّتي وقع العهد إليها، و لا تجروهم مجرى الناكثين، و لا تجعلوا الوفيّ كالغادر إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ تعليل و تنبيه على أنّ إتمام عهدهم من باب التقوى.

و المراد بهم بنو كنانة و بنو ضمرة و أشباههم، فإنّهم قد بقي من أجلهم تسعة أشهر، فأمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بإتمامها لهم، لأنّهم لم يظاهروا على المؤمنين، و لم ينقضوا عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. أو المراد أهل هجر و أهل البحرين و أيلة و دومة الجندل، فإنّ له عليه السّلام عليهم عهودا بالصلح و الجزية، و لم ينبذ إليهم بنقض عهد و لا حاربهم بعد، لأنّهم لم ينقضوا العهود، و كانوا أهل ذمّة إلى أن مضى لسبيله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 78

[سورة التوبة (9): الآيات 5 الى 6]

فَإِذَا انْسَلَخَ الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ وَ خُذُوهُمْ وَ احْصُرُوهُمْ وَ اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5) وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ فَأَجِرْهُ حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ (6)

ثمّ بيّن سبحانه الحكم في المشركين بعد انقضاء المدّة، فقال: فَإِذَا انْسَلَخَ انقضى. و أصل الانسلاح خروج الشي ء ممّا لابسه،

من سلخ الشاة الْأَشْهُرُ الْحُرُمُ الّتي أبيح للناكثين أن يسيحوا فيها. و قيل: هي رجب و ذو القعدة و ذو الحجّة و المحرّم، ثلاثة سرد، و واحد فرد. و هذا مخلّ بالنظم، لأنّ اللام في الأشهر الحرم إشارة إلى أربعة أشهر في قوله: «فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ أَرْبَعَةَ أَشْهُرٍ» فصرفه إلى غيرها مخلّ بالنظم، و أيضا مخالف للإجماع.

فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ الناكثين، وضعوا السيف فيهم حَيْثُ وَجَدْتُمُوهُمْ من حلّ أو حرم وَ خُذُوهُمْ و أسروهم. و الأخيذ الأسير. وَ احْصُرُوهُمْ و احبسوهم. أو حيلوا بينهم و بين المسجد الحرام. أو امنعوهم من التصرّف في البلاد. وَ اقْعُدُوا لَهُمْ كُلَّ مَرْصَدٍ كلّ ممرّ و طريق ترصدونهم، أي: ضيّقوا المسالك عليهم لئلّا يتبسّطوا في البلاد، فتتمكّنوا من أخذهم. و الأمر للتخيير. و انتصابه على

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 79

الظرف، كقوله: لَأَقْعُدَنَّ لَهُمْ صِراطَكَ الْمُسْتَقِيمَ «1». و هذا ناسخ لكلّ آية وردت في الصلح و الإعراض عنهم.

فَإِنْ تابُوا من الشرك بالإيمان وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ تصديقا لتوبتهم و إيمانهم. و المعنى: قبلوا إقامة الصلاة و إيتاء الزكاة، لأنّ عصمة الدم لا تقف على إقامة الصلاة و أداء الزكاة، فثبت أنّ المراد به القبول. فَخَلُّوا سَبِيلَهُمْ فدعوهم و لا تتعرّضوا لهم بشي ء من ذلك، أو دعوهم يحجّوا و يدخلوا المسجد الحرام. و فيه دليل على أنّ تارك الصلاة و مانع الزكاة لا يخلّى سبيله إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ تعليل للأمر، أي: فخلّوهم، لأنّ اللّه غفور رحيم، غفر لهم ما قد سلف من كفرهم و غدرهم، و وعد لهم الثواب بالتوبة.

وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ المأمور بالتعرّض لهم اسْتَجارَكَ استأمنك و طلب منك جوارك. و «أحد» رفع بفعل يفسّره ما بعده،

لا بالابتداء، لأنّ «إن» من عوامل الفعل لا تدخل على غيره. فتقدير الكلام: و إن استجارك أحد فَأَجِرْهُ فأمّنه حَتَّى يَسْمَعَ كَلامَ اللَّهِ و يتدبّره، و يطّلع على حقيقة الأمر ثُمَّ أَبْلِغْهُ مَأْمَنَهُ موضع أمنه بعد ذلك- يعني: داره الّتي يأمن فيها- إن لم يسلم، ثمّ قاتله إن شئت من غير غدر و لا خيانة. و هذا الحكم ثابت في كلّ وقت. و عن الحسن: هي محكمة إلى يوم القيامة. و إنّما خصّ كلام اللّه لأنّ معظم الأدلّة فيه.

ذلِكَ الأمن أو الأمر بالاجارة بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْلَمُونَ بسبب أنّهم قوم جهلة لا يعلمون ما الايمان، و ما حقيقة ما تدعوهم إليه؟ فلا بدّ من أمانهم ريثما يسمعون و يتدبّرون.

و

عن سعيد بن جبير: «جاء رجل من المشركين إلى عليّ عليه السّلام فقال: إن أراد الرجل منّا أن يأتي محمّدا بعد انقضاء هذا الأجل يسمع كلام اللّه، أو يأتيه لحاجة

______________________________

(1) الأعراف: 16. زبدة التفاسير، ج 3، ص: 80

قتل؟ قال: لا، لأنّ اللّه يقول: «وَ إِنْ أَحَدٌ مِنَ الْمُشْرِكِينَ اسْتَجارَكَ» الآية».

و عن السدّي و الضحّاك: هي منسوخة بقوله تعالى: فَاقْتُلُوا الْمُشْرِكِينَ «1».

[سورة التوبة (9): الآيات 7 الى 12]

كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَ عِنْدَ رَسُولِهِ إِلاَّ الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ (7) كَيْفَ وَ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ إِلاًّ وَ لا ذِمَّةً يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ وَ تَأْبى قُلُوبُهُمْ وَ أَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ (8) اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (9) لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلاًّ وَ لا ذِمَّةً وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ (10) فَإِنْ تابُوا وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَ نُفَصِّلُ الْآياتِ

لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (11)

وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ (12)

و لمّا أمر سبحانه بنبذ العهود إلى المشركين، بيّن أنّ العلّة في ذلك ما ظهر منهم من الغدر، و أمر بإتمام العهد لمن استقام على الأمر، فقال:

______________________________

(1) التوبة: 5.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 81

كَيْفَ يَكُونُ لِلْمُشْرِكِينَ عَهْدٌ عِنْدَ اللَّهِ وَ عِنْدَ رَسُولِهِ استفهام بمعنى الإنكار و الاستبعاد لأن يكون لهم عهد و لا ينكثوه مع وغرة «1» صدورهم و غدرهم، أو لأن يفي اللّه و رسوله بالعهد و هم نكثوه. و خبر «يكون»: «كيف»، و قدّم للاستفهام، أو «للمشركين» أو «عند اللّه». و هو على الأوّلين صفة للعهد، أو ظرف له، أو لقوله: «يكون». و «كيف» على الأخيرين حال من العهد. و قوله: «للمشركين» إن لم يكن خبرا فتبيين.

إِلَّا الَّذِينَ عاهَدْتُمْ عِنْدَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ هم المستثنون قبل من بني كنانة و بني ضمرة و نظرائهم. و محلّه النصب على الاستثناء، أو الجرّ على البدل، أو الرفع على أنّ الاستثناء منقطع، أي: و لكنّ الّذين عاهدتم منهم عند المسجد الحرام.

فَمَا اسْتَقامُوا لَكُمْ فَاسْتَقِيمُوا لَهُمْ ما تحتمل الشرطيّة و المصدريّة، أي:

فتربّصوا أمرهم فلا تقاتلوهم، فإن استقاموا على العهد فاستقيموا على الوفاء. أو ما داموا باقين معكم على الطريقة المستقيمة فكونوا معهم كذلك. و هذا كقوله: فَأَتِمُّوا إِلَيْهِمْ عَهْدَهُمْ «2» غير أنّه مطلق و هذا مقيّد. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُتَّقِينَ للنكث و الغدر، فإنّ التربّص بهم من أعمال المتّقين.

كَيْفَ تكرار لاستبعاد ثباتهم على العهد، أو بقاء حكمه، مع التنبيه على العلّة. و حذف الفعل للعلم به، أي: كيف يكون لهم عهد؟ وَ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ أي:

و حالهم

أنّهم إن يظفروا بكم بعد ما سبق لهم من تأكيد الأيمان و المواثيق لا يَرْقُبُوا فِيكُمْ لا يراعوا و لا يحفظوا إِلًّا حلفا. و قيل: قرابة. و قيل: ربوبيّة. و لعلّه اشتقّ للحلف من الألّ، و هو الجؤار «3». يقال: له أليل، أي: أنين يرفع به صوته، لأنّهم كانوا إذا تحالفوا رفعوا به أصواتهم، ثم استعير للقرابة، لأنّها تعقد بين الأقارب ما لا يعقده الحلف، ثمّ للربوبيّة و التربية. و قيل: اشتقاقه من: ألّل الشي ء إذا حدّده، أو من: ألّ

______________________________

(1) الوغر: الحقد و العداوة و الضغن، و وغرة الصدر: شدّة غيظه.

(2) التوبة: 4.

(3) جأر يجأر جؤارا إلى اللّه: رفع صوته بالدعاء.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 82

البرق إذا لمع. وَ لا ذِمَّةً عهدا أو حقّا يعاب على إغفاله و إهماله.

و قوله: يُرْضُونَكُمْ بِأَفْواهِهِمْ كلام مستأنف في وصف حالهم من مخالفة الظاهر الباطن، مقرّر لاستبعاد الثبات منهم على العهد، و إباء القلوب مخالفة ما فيها من الأضغان، لما يجرونه على ألسنتهم من الكلام الجميل، و هذه المخالفة موجبة لعدم مراقبتهم عند الظفر. و المعنى: يتكلّمون بكلام الموالين لترضوا عنهم وَ تَأْبى قُلُوبُهُمْ ما تتفوّه به أفواههم، للعداوة و الغدر و نقض العهد.

وَ أَكْثَرُهُمْ فاسِقُونَ متمرّدون في الكفر و الشرك، لأنّه لا عقيدة لهم تمنعهم، و لا مروءة تردعهم، و هم رؤساء الكفرة. أو خارجون عن طريق الوفاء بالعهد. و تخصيص الأكثر لما في بعض الكفرة من التباعد عن الغدر، و التعفّف عمّا يجرّ إلى أحدوثة السوء. و لا يجوز جعل هذه الجملة الفعليّة حالا من فاعل «لا يرقبوا»، فإنّهم بعد ظهورهم لا يرضون.

اشْتَرَوْا بِآياتِ اللَّهِ استبدلوا بالقرآن و الإسلام ثَمَناً قَلِيلًا عرضا يسيرا، و هو اتّباع الأهواء

و الشهوات فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِهِ فعدلوا عن دينه الموصل إلى رحمته، و صرفوا غيرهم عنه، أو سبيل بيته بحصر الحجّاج و العمّار. و الفاء للدلالة على أن اشتراءهم أدّاهم إلى الصدّ.

إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ بئس العمل عملهم هذا، أو ما دلّ عليه قوله:

لا يَرْقُبُونَ فِي مُؤْمِنٍ إِلًّا وَ لا ذِمَّةً فهو تفسير لا تكرير. و قيل: الأوّل عامّ في الناقضين، و هذا خاصّ بالّذين اشتروا، و هم اليهود أو الأعراب الّذين جمعهم أبو سفيان و أطعمهم. وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُعْتَدُونَ المجاوزون الغاية في الظلم و الشرارة.

فَإِنْ تابُوا عن الكفر و الصدّ و نقض العهد وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ فَإِخْوانُكُمْ فهم إخوانكم فِي الدِّينِ لهم ما لكم و عليهم ما عليكم وَ نُفَصِّلُ الْآياتِ و نبيّنها لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ اعتراض للحثّ على تأمّل ما فصّل من أحكام المعاهدين أو خصال التائبين، فكأنّه قيل: و من تأمّل تفصيلها فهو العالم.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 83

وَ إِنْ نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ و إن نقضوا ما بايعوا عليه من الأيمان أو الوفاء بالعهود مِنْ بَعْدِ عَهْدِهِمْ من بعد أن عقدوها وَ طَعَنُوا فِي دِينِكُمْ بصريح التكذيب و تقبيح الأحكام فَقاتِلُوا أَئِمَّةَ الْكُفْرِ أي: فقاتلوهم. فوضع أئمّة الكفر موضع الضمير، للدلالة على أنّهم صاروا بذلك ذوي الرئاسة و التقدّم في الكفر و الضلالة، أحقّاء بالقتل. و قيل: المراد بالأئمّة رؤساء المشركين. فالتخصيص إمّا لأنّ قتلهم أهمّ، و هم أحقّ به، أو للمنع من مراقبتهم.

و قرأ نافع و ابن كثير و أبو عمرو: أئمّة، بتسهيل «1» الثانية بلا فصل بينهما.

و عاصم و ابن عامر و حمزة و الكسائي و روح عن يعقوب: أئمّة، بتحقيق الهمزتين على الأصل. و التصريح بالياء لحن.

و عن

حذيفة: لم يأت أهل هذه الآية بعد. و

قرأ عليّ عليه السّلام الآية يوم الجمل، ثمّ قال: «و اللّه لقد عهد إليّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال لي: يا علي لتقاتلنّ الفئة الناكثة، و الفئة الباغية، و الفئة المارقة».

إِنَّهُمْ لا أَيْمانَ لَهُمْ أي: لا عهود لهم على الحقيقة- يعني: لا يحفظونها- و إلّا لما طعنوا و لم ينكثوا، فلا تعطوهم الأمان بعد النكث و الردّة. و فيه دليل على أنّ الذمّي إذا طعن في الإسلام فقد نكث عهده. و قرأ ابن عامر: لا إيمان، بمعنى: لا أمان أو لا إسلام.

و على القراءة الأولى استشهد الحنفي على أنّ يمين الكافر ليس يمينا. و هو ضعيف، لأنّ المراد نفي الوثوق عليها، لا أنّها ليست بأيمان.

و على الثانية تشبّث بها من لم يقبل توبة المرتدّ. و هو أيضا ضعيف، لجواز أن يكون بمعنى: لا يؤمنون، على أنّ الإخبار عن قوم معيّنين، إذ ليس لهم إيمان فيراقبوا لأجله.

______________________________

(1) أي: تلفّظ الهمزة الثانية بين بين، أي: بين مخرج الهمزة و الياء.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 84

و قوله: لَعَلَّهُمْ يَنْتَهُونَ متعلّق ب «قاتلوا» أي: ليكن غرضكم في مقاتلتهم أن ينتهوا عمّا هم عليه، لا إيصال الأذيّة بهم كما هو طريقة المؤذين. و هذا من غاية كرمه العميم و فضله الجسيم، جلّ كرمه و عظم فضله.

[سورة التوبة (9): آية 13]

أَ لا تُقاتِلُونَ قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ وَ هَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ وَ هُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ أَ تَخْشَوْنَهُمْ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (13)

ثمّ حرّض المؤمنين على القتال، فقال: أَ لا تُقاتِلُونَ دخول الهمزة على «لا» للإنكار، فأفادت المبالغة في الفعل و التحريض فيه، أي: هلّا تقاتلون قَوْماً نَكَثُوا أَيْمانَهُمْ الّتي

حلفوها مع الرسول و المؤمنين على أن لا يعاونوا عليهم، فعاونوا بني بكر على خزاعة وَ هَمُّوا بِإِخْراجِ الرَّسُولِ حين تشاوروا في أمره بدار الندوة، فأذن اللّه له في الهجرة، فخرج بنفسه، على ما مرّ ذكره في قوله: وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا «1». و قيل: هم اليهود نكثوا عهد رسول اللّه، و همّوا بإخراجه من المدينة.

وَ هُمْ بَدَؤُكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بالمعاداة و المقاتلة، لأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بدأهم بالدعوة و إلزام الحجّة بالكتاب و التحدّي به، فعدلوا عن معارضته إلى المعاداة و المقاتلة، و البادي أظلم، فما يمنعكم أن تقابلوهم و تقاتلوهم؟ أَ تَخْشَوْنَهُمْ الهمزة للتوبيخ الّذي يتضمّن التشجيع، أي: أ تتركون قتالهم خشية أن ينالكم مكروه منهم؟ فَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشَوْهُ فقاتلوا أعداءه و لا تتركوا أمره إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإنّ قضيّة الايمان أن لا يخشى المؤمن إلّا ربّه، و لا يبالي بمن سواه، كقوله: وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ «2».

______________________________

(1) راجع ص: 33 ذيل الآية 30 من سورة الأنفال.

(2) الأحزاب: 39.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 85

[سورة التوبة (9): الآيات 14 الى 15]

قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ وَ يُخْزِهِمْ وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ (14) وَ يُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ وَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (15)

ثمّ أمرهم بالقتال بعد بيان موجبه، و التوبيخ على تركه، و التوعيد عليه، فقال: قاتِلُوهُمْ يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ بِأَيْدِيكُمْ قتلا وَ يُخْزِهِمْ أسرا وَ يَنْصُرْكُمْ عَلَيْهِمْ غلبة. هذا وعد للمؤمنين إن قاتلوهم بالنصر عليهم، و التمكّن من قتلهم و إذلالهم، ليثبّت قلوبهم و يصحّح نيّاتهم وَ يَشْفِ صُدُورَ قَوْمٍ مُؤْمِنِينَ طائفة منهم، يعني: بني خزاعة. و

عن ابن عبّاس: هم بطون من اليمن و

سبأ قدموا مكّة و أسلموا، فلقوا من أهلها أذى شديدا، فشكوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: أبشروا فإنّ الفرج قريب.

وَ يُذْهِبْ غَيْظَ قُلُوبِهِمْ لما لقوا منهم من المكروه، و قد أوفى اللّه تعالى بما وعدهم به. و الآية من المعجزات. وَ يَتُوبُ اللَّهُ عَلى مَنْ يَشاءُ استئناف كلام. و فيه إخبار بأنّ بعضهم سيتوب عن كفره. و قد كان ذلك أيضا، فإنّ كثيرا منهم قد أسلموا و حسن إسلامهم. وَ اللَّهُ عَلِيمٌ يعلم ما سيكون كما يعلم ما كان حَكِيمٌ لا يفعل و لا يحكم إلّا على وفق الحكمة و المصلحة.

[سورة التوبة (9): آية 16]

أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ وَ لَمْ يَتَّخِذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لا رَسُولِهِ وَ لا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (16)

ثمّ نبّه سبحانه على جلالة موقع الجهاد، فقال خطابا للمؤمنين حين كره

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 86

بعضهم القتال: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تُتْرَكُوا أم منقطعة. و معنى الهمزة فيها التوبيخ على الحسبان. و المعنى: لا تظنّوا أنّكم تتركون على ما أنتم عليه وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ الَّذِينَ جاهَدُوا مِنْكُمْ و الحال أنّه لم يبيّن اللّه و لم يميّز الخلّص منكم، و هم المجاهدون في سبيل اللّه لوجه اللّه. نفى العلم و أراد نفي المعلوم للمبالغة، فإنّه كالبرهان عليه، من حيث إنّ تعلّق العلم به مستلزم لوقوعه، كما يقال: ما علم اللّه ما قيل في فلان، أي: ما وجد ذلك. و «لمّا» معناها التوقّع، فدلّت على أنّ تميّز ذلك و إيضاحه متوقّع كائن.

وَ لَمْ يَتَّخِذُوا عطف على «جاهدوا» داخل في الصلة مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لا رَسُولِهِ وَ لَا الْمُؤْمِنِينَ وَلِيجَةً

هو الّذي يعرّفه الرجل أسراره ثقة به. شبّه ببطانة الثوب، كما شبّه بالشعار. فعيلة من: ولج، كالدخيلة من: دخل. يعني:

بطانة و أولياء يوالونهم و يفشون إليهم أسرارهم. وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ يعلم أعمالكم فيجازيكم عليها. و هو كالمزيح لما يتوهّم من ظاهر قوله: «وَ لَمَّا يَعْلَمِ اللَّهُ».

[سورة التوبة (9): الآيات 17 الى 18]

ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ أَنْ يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ وَ فِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ (17) إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ وَ لَمْ يَخْشَ إِلاَّ اللَّهَ فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ (18)

و لمّا أمر اللّه تعالى بقتال المشركين، و قطع العصمة و الموالاة عنهم، أمر بمنعهم عن المساجد، فقال: ما كانَ لِلْمُشْرِكِينَ ما صحّ لهم و ما استقام أَنْ

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 87

يَعْمُرُوا مَساجِدَ اللَّهِ شيئا من المساجد، فضلا عن المسجد الحرام الّذي هو صدرها و مقدّمها. و قيل: هو المراد، و إنّما جمع لأنّه قبلة المساجد كلّها و إمامها، فعامره كعامر الجميع، أو لأنّ كلّ موضع منه مسجد. و يدلّ عليه قراءة ابن كثير و أبي عمرو و يعقوب بالتوحيد.

شاهِدِينَ عَلى أَنْفُسِهِمْ بِالْكُفْرِ حال من الواو في «يعمروا». و معنى شهادتهم على أنفسهم بالكفر: ظهور كفرهم و تكذيبهم الرسول، و أنّهم نصبوا أصنامهم حول البيت، و كانوا يطوفون حول البيت عراة، و كلّما طافوا بها شوطا سجدوا لها.

و قيل: هو قولهم: لبّيك لا شريك لك إلّا شريك هو لك، تملكه و ما ملك.

و المعنى: ما استقام أن يجمعوا بين أمرين متنافيين: عمارة بيت اللّه تعالى، و عبادة غيره.

روي أنّ المهاجرين و الأنصار عيّروا أسارى بدر، و وبّخ عليّ عليه

السّلام العبّاس حين أسر بقتال رسول اللّه و قطيعة الرحم، و أغلظ له في القول. فقال العبّاس:

تذكرون مساوينا و تكتمون محاسننا. فقالوا: أ لكم محاسن؟ قالوا: نعم، و نحن أفضل منكم أجرا، إنّا لنعمر المسجد الحرام، و نحجب الكعبة، و نسقي الحجيج، و نفكّ العاني. فنزلت: أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ

الّتي يفتخرون بها بما قارنها من الشرك، لأنهم أوقعوها على الوجه الّذي لا يستحقّ لأجله الثواب عليها عند اللّه. وَ فِي النَّارِ هُمْ خالِدُونَ مقيمون مؤبّدون لأجله.

إِنَّما يَعْمُرُ مَساجِدَ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ أَقامَ الصَّلاةَ بحدودها المعتبرة في شرع الإسلام وَ آتَى الزَّكاةَ إن وجب عليه إلى مستحقّها. و المعنى:

إنّما تستقيم عمارتها لهؤلاء الجامعين للكمالات العلميّة و العمليّة، لا لغيرهم. و من عمارتها: رمّ ما استهدم منها، و كنسها و تنظيفها، و تزيينها بالفرش، و تنويرها

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 88

بالسرج، و زيارتها للعبادة، و إدامة العبادة و الذكر و درس العلم، و صيانتها ممّا لم تبن له، كحديث الدنيا.

و

في الحديث: يأتي في آخر الزمان ناس من أمّتي يأتون المساجد يقعدون فيها حلقا، ذكرهم الدنيا و حبّ الدنيا، لا تجالسوهم، فليس للّه بهم حاجة.

و

روي أيضا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الحديث في المسجد يأكل الحسنات كما تأكل البهيمة الحشيش».

و

قال أيضا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «قال اللّه تعالى: إنّ بيوتي في أرضي المساجد، و إنّ زوّاري فيها عمّارها، فطوبى لعبد تطهّر في بيته ثمّ زارني في بيتي، فحقّ على المزور أن يكرم زائره».

و

عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من ألف المسجد ألفه اللّه».

و

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إذا رأيتم الرجل يعتاد المساجد

فاشهدوا له بالايمان».

و

عنه أيضا برواية أنس: «من أسرج في مسجد سراجا لم تزل الملائكة و حملة العرش تستغفر له ما دام في ذلك المسجد ضوءه».

و إنّما لم يذكر الإيمان بالرسول لما علم أنّ الايمان باللّه قرينه، و تمامه الإيمان به، و لدلالة قوله: «وَ أَقامَ الصَّلاةَ وَ آتَى الزَّكاةَ» عليه.

وَ لَمْ يَخْشَ إِلَّا اللَّهَ أي: في أبواب الدين، فإنّ الخشية عن المحاذير جليّة لا يكاد الرجل يتمالك عنها. قيل: كانوا يخشون الأصنام و يرجونها، فأريد نفي تلك الخشية عنهم. فَعَسى أُولئِكَ أَنْ يَكُونُوا مِنَ الْمُهْتَدِينَ ذكره بصيغة التوقّع قطعا لأطماع المشركين في الاهتداء و الانتفاع بأعمالهم، و توبيخا لهم بالقطع بأنّهم مهتدون، فإنّ هؤلاء مع كمالهم إذا كان اهتداؤهم دائرا بين عسى و لعلّ فما ظنّك بأضدادهم؟ و منعا للمؤمنين أن يغترّوا بأحوالهم و يتّكلوا عليها.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 89

[سورة التوبة (9): الآيات 19 الى 22]

أَ جَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَ عِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ جاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (19) الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (20) يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَ رِضْوانٍ وَ جَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها نَعِيمٌ مُقِيمٌ (21) خالِدِينَ فِيها أَبَداً إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (22)

روي عن الحسن و الشعبي و محمّد بن كعب القرظي: أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و العبّاس بن عبد المطّلب و طلحة بن شيبة افتخروا، فقال طلحة: أنا صاحب البيت، و بيدي مفتاحه، و لو أشاء بتّ فيه. و قال العبّاس: أنا صاحب السقاية و القائم عليها. و قال عليّ عليه

السّلام: ما أدري ما تقولان، لقد صلّيت إلى القبلة ستّة أشهر قبل الناس، و أنا صاحب الجهاد. فنزلت: أَ جَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ وَ عِمارَةَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ كَمَنْ آمَنَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ جاهَدَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ

السقاية و العمارة مصدران من: سقى و عمر، فلا يشبّهان بالجثث، بل لا بدّ من إضمار، تقديره: أ جعلتم أهل سقاية الحاجّ كمن آمن؟ أو أ جعلتم سقاية الحاجّ كإيمان من آمن؟ و يؤيّد الأوّل قراءة من قرأ: سقاة الحاجّ و عمرة المسجد الحرام.

و معنى الهمزة إنكار أن يشبّه المشركون و أعمالهم المحبطة بالمؤمنين و أعمالهم المثبتة.

ثمّ قرّر ذلك بقوله: لا يَسْتَوُونَ عِنْدَ اللَّهِ و بيّن عدم تساويهم بقوله: وَ اللَّهُ

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 90

لا يَهْدِي إلى طريق الثواب الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي: الكفرة ظلمة بالشرك و معاداة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، منهمكون في الضلالة، فكيف يساوون الّذين هداهم اللّه و وفّقهم للحقّ و الصواب؟! و قيل: المراد بالظالمين الّذين يسوّون بينهم و بين المؤمنين.

عن ابن سيرين: أنّ عليّا عليه السّلام قال للعبّاس: يا عمّ ألا تهاجر، ألا تلحق برسول اللّه؟ فقال: أ لست في أفضل من الهجرة: أعمر المسجد الحرام، و أسقي حاجّ بيت اللّه؟ فنزلت.

و

روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده عن ابن بريدة، عن أبيه قال: «بينا شيبة و العبّاس يتفاخران إذ مرّ بهما عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فقال: بماذا تتفاخران؟

فقال العبّاس: لقد أوتيت من الفضل ما لم يؤت أحد، سقاية الحاجّ.

و قال شيبة: أوتيت عمارة المسجد الحرام.

فقال عليّ عليه السّلام: استحييت لكما، فقد أوتيت على صغري ما لم تؤتيا.

فقالا: و ما أوتيت يا عليّ؟

قال: ضربت خراطيمكما بالسيف حتّى آمنتما

باللّه و رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فقام العبّاس مغضبا يجرّ ذيله حتّى دخل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قال: أما ترى إلى ما يستقبلني عليّ؟

فقال: ادعوا عليّا. فدعي له، فقال: ما حملك على ما استقبلت به عمّك؟

فقال: يا رسول اللّه صدمته بالحقّ، فمن شاء فليغضب و من شاء فليرض.

فنزل جبرئيل و قال: يا محمّد إنّ ربّك يقرأ عليك السلام و يقول: اتل عمّك:

«أَ جَعَلْتُمْ سِقايَةَ الْحاجِّ» الآيات.

فقال العبّاس: قد رضينا، ثلاث مرّات» «1».

______________________________

(1) شواهد التنزيل 1: 328 ح 338.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 91

الَّذِينَ آمَنُوا وَ هاجَرُوا وَ جاهَدُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ أَعْظَمُ دَرَجَةً عِنْدَ اللَّهِ أعلى رتبة و أكثر كرامة ممّن لم يستجمع هذه الصفات، أو من أهل السقاية و العمارة عندكم وَ أُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ المختصّون بالفوز بالثواب و نيل الحسنى عند اللّه دونكم.

يُبَشِّرُهُمْ رَبُّهُمْ بِرَحْمَةٍ مِنْهُ وَ رِضْوانٍ وَ جَنَّاتٍ لَهُمْ فِيها في الجنّات نَعِيمٌ مُقِيمٌ دائم لا يزول. و قرأ حمزة: يبشرهم بالتخفيف. و تنكير المبشّر به من الرحمة و الرضوان و النعيم المقيم، إشعار بأنّها وراء صفة الواصف و تعريف المعرّف.

خالِدِينَ فِيها أَبَداً أكّد الخلود بالتأبيد، لأنّه قد يستعمل للمكث الطويل إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ يستحقر دونه ما استوجبوه لأجله، أو نعم الدنيا.

[سورة التوبة (9): الآيات 23 الى 24]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَ إِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (23) قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ وَ أَزْواجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ وَ أَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها وَ مَساكِنُ تَرْضَوْنَها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ جِهادٍ فِي سَبِيلِهِ

فَتَرَبَّصُوا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (24)

روي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام أنها نزلت في ابن أبي بلتعة حيث كتب إلى قريش بخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا أراد فتح مكّة، فنهاه اللّه تعالى و سائر المؤمنين عن موالاة الكفّار و إن كانوا في النسب الأقربين، بقوله: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا آباءَكُمْ وَ إِخْوانَكُمْ أَوْلِياءَ إِنِ اسْتَحَبُّوا الْكُفْرَ عَلَى الْإِيمانِ

إن اختاروه

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 92

و حرّضوا غيرهم عليه.

و قيل: نزلت نهيا عن موالاة التسعة الّذين ارتدّوا و لحقوا بمكّة. و المعنى: لا تتّخذوهم أولياء يمنعونكم عن الإيمان و يصدّونكم عن الطاعة.

و قيل: نزلت في المهاجرين، فإنّهم لمّا أمروا بالهجرة قالوا: إن هاجرنا قطعنا آباءنا و أبناءنا و عشائرنا، و ذهبت تجاراتنا، و بقينا ضائعين.

و روي: أنّ من المهاجرين من تعلّقت به زوجته، و منهم من تعلّق به أبواه و أولاده، فكانوا يمنعونهم من الهجرة، فيتركونها لأجهلهم. فبهذه الآية بيّن سبحانه أنّ أمر الدين مقدّم على النسب، و إذا وجب قطع قرابة الوالدين و الولد فالأجنبيّ أولى. و بعد نزولها هاجروا، فجعل الرجل يأتيه أبوه و ابنه و أخوه أو بعض أقربائه فلا يلتفت إليه و لا ينزله و لا ينفق عليه، و بعد ذلك رخّص لهم في الإنفاق.

ثمّ قال تأكيدا لهذا النهي بقوله: وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ مِنْكُمْ فترك طاعة اللّه لأجلهم، أو اطّلعهم على أسرار المسلمين فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ بوضعهم الموالاة في غير محلّها. و

في الحديث: «لا يجد أحد طعم الإيمان حتّى يحبّ في اللّه و يبغض في اللّه، و حتّى يحبّ في اللّه أبعد الناس، و يبغض

في اللّه أقرب الناس إليه».

قُلْ إِنْ كانَ آباؤُكُمْ وَ أَبْناؤُكُمْ وَ إِخْوانُكُمْ وَ أَزْواجُكُمْ وَ عَشِيرَتُكُمْ أقرباؤكم.

مأخوذ من العشرة. و قيل: من العشيرة، فإنّ العشيرة جماعة ترجع إلى عقد كعقد العشرة. و قرأ أبو بكر: عشيراتكم. وَ أَمْوالٌ اقْتَرَفْتُمُوها اكتسبتموها و اقتطعتموها و جمعتموها وَ تِجارَةٌ تَخْشَوْنَ كَسادَها تخافون أنّها تكسد إذا اشتغلتم بطاعة اللّه تعالى و الجهاد وَ مَساكِنُ تَرْضَوْنَها اخترتموها لأنفسكم، و يعجبكم المقام فيها أَحَبَّ إِلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ من طاعتهما وَ جِهادٍ فِي سَبِيلِهِ الحبّ الاختياري دون الطبيعي، فإنّه لا يدخل تحت التكليف في التحفّظ عنه فَتَرَبَّصُوا فانتظروا حَتَّى يَأْتِيَ اللَّهُ بِأَمْرِهِ جواب الشرط متضمّن للوعيد. و الأمر بمعنى العقوبة

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 93

العاجلة أو الآجلة. و قيل: فتح مكّة. وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ لا يرشدهم، بل يخلّيهم لعنادهم.

و في الآية تشديد عظيم، فإنّ فيها تكليف المؤمن أن يتجرّد من الآباء و الأبناء و العشائر و جميع حظوظ الدنيا لأجل الدين، و قلّ من يتخلّص منه. اللّهمّ وفّقنا لما يوافق رضاك، حتى نحبّ فيك الأبعدين، و نبغض فيك الأقربين.

[سورة التوبة (9): الآيات 25 الى 27]

لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ شَيْئاً وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ ثُمَّ وَلَّيْتُمْ مُدْبِرِينَ (25) ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ أَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَ عَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ ذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ (26) ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (27)

و لمّا تقدّم أمر المؤمنين بالقتال، ذكّرهم بعده ما أتاهم من النصرة حالا بعد حال، فقال: لَقَدْ نَصَرَكُمُ اللَّهُ فِي مَواطِنَ كَثِيرَةٍ يعني: مواطن الحرب، و هي

مواقعها و مواقفها. و

روي عن الصادقين عليهم السّلام أنّهم قالوا: أنّها كانت ثمانين موطنا.

و

روي أنّ المتوكّل اشتكى في مرضه شكاية شديدة، فنذر أن يتصدّق بمال كثير إن شفاه اللّه، فلمّا عوفي سأل العلماء عن حدّ المال الكثير، فاختلفت أقوالهم، فأشير عليه أن يسأل أبا الحسن عليّ بن محمد بن عليّ بن موسى عليه السّلام، و قد كان حبسه في داره، فأمر أن يكتب إليه، فكتب: يتصدّق بثمانين درهما. ثمّ سألوه عن العلّة في ذلك، فقرأ هذه الآية، و قال: عدّدنا تلك المواطن فبلغن ثمانين موطنا.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 94

وَ يَوْمَ حُنَيْنٍ و موطن يوم حنين. و يجوز أن يقدّر: في أيّام مواطن، أو يفسّر الموطن بالوقت، كمقتل الحسين عليه السّلام. و لا يمنع إبدال قوله: إِذْ أَعْجَبَتْكُمْ كَثْرَتُكُمْ من «يوم حنين» أن يعطف على موضع «في مواطن» فإنّه لا يقتضي تشاركهما فيما أضيف إليه المعطوف، حتّى يقتضي كثرتهم و إعجابها إيّاهم في جميع المواطن.

و هذا قول القاضي في تفسيره «1»، ردّ بذلك قول الزمخشري في الكشّاف حيث قال: «الواجب أن يكون «يوم حنين» منصوبا بفعل مضمر لا بهذا الظاهر، و موجب ذلك أنّ قوله: «إذ أعجبتكم» بدل من «يوم حنين» فلو جعلت ناصبه هذا الظاهر لم يصحّ، لأنّ كثرتهم لم تعجبهم في جميع تلك المواطن، و لم يكونوا كثيرا في جميعها، فبقي أن يكون ناصبه فعلا خاصّا به، إلّا إذا نصبت «إذ» بإضمار:

اذكر» «2».

و حنين واد بين مكّة و الطائف، كانت فيه الوقعة بين المسلمين- و هم اثنا عشر ألفا، منهم عشرة آلاف حضروا فتح مكّة، و قد انضمّ إليهم ألفان من الطلقاء- و بين هوازن و ثقيف، و هم أربعة آلاف.

فلمّا التقوا قال رجل

من المسلمين: لن نغلب اليوم من قلّة. فساءت مقالته رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قيل: قائلها أبو بكر. و

قد روي عن أصحابنا: أن أبا بكر عانهم، و عليّا عليه السّلام أعانهم. فاقتتلوا قتالا شديدا، فانهزم المسلمون حتّى بلغ فلّهم «3» مكّة، و بقي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مركزه، و بقي عليّ عليه السّلام و معه الراية يقاتلهم، و العبّاس بن عبد المطّلب آخذ بلجام بغلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن يمينه، و أبو سفيان بن الحارث بن

______________________________

(1) أنوار التنزيل 3: 64.

(2) الكشّاف 2: 259.

(3) فلّ القوم: هزمهم، و رجل فلّ و قوم فلّ: منهزم و منهزمون. زبدة التفاسير، ج 3، ص: 95

عبد المطّلب عن يساره في تسعة من بني هاشم، و عاشرهم أيمن بن أمّ أيمن.

و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم للعبّاس و كان صيّتا: صح بالناس. فنادى: يا معشر المهاجرين و الأنصار، يا أهل بيعة الشجرة، يا أصحاب سورة البقرة، إلى أين تفرّون؟ هذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فكرّوا و هم يقولون: لبّيك لبّيك. و نزلت الملائكة عليهم البياض على خيول بلق، فنظر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى قتال المسلمين فقال: الآن حمي الوطيس «1».

أنا النبيّ لا كذب أنا ابن عبد المطّلب

ثمّ أخذ كفّا من تراب فرماهم به، ثمّ قال: انهزموا و ربّ الكعبة، فانهزموا و نزل النصر من عند اللّه، و انهزمت هوازن،

كما حكى اللّه تعالى ذلك بقوله: فَلَمْ تُغْنِ عَنْكُمْ أي: الكثرة شَيْئاً من الإغناء، أو من أمر العدوّ وَ ضاقَتْ عَلَيْكُمُ الْأَرْضُ

بِما رَحُبَتْ «ما» مصدريّة، و الباء بمعنى «مع»، أي: مع رحبها- أي:

سعتها- لا تجدون فيها مفرّا تطمئنّ إليه نفوسكم من شدّة الرعب، أي: لا تثبتون فيها، كمن لا يسعه مكانه، فكأنّها ضاقت عليكم. و الجارّ و المجرور في موضع الحال، أي: ملتبسة برحبها ثُمَّ وَلَّيْتُمْ الكفّار ظهوركم مُدْبِرِينَ منهزمين.

و الإدبار الذهاب إلى خلف، خلاف الإقبال.

ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ رحمته الّتي سكنوا بها و آمنوا عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ الّذين انهزموا. و إعادة الجارّ للتنبيه على اختلاف حاليهما. و قيل: هم الّذين ثبتوا مع الرسول و لم يفرّوا.

و

روى الحسن بن عليّ بن فضّال عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام أنّه قال: «السكينة ريح من الجنّة تخرج منها طيّبة، لها صورة كصورة وجه الإنسان، تكون

______________________________

(1) في هامش النسخة الخطّية: «الوطيس: التنّور، مثل في شدّة الحرّ، فجعله رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كناية عن شدّة الحرب. منه». زبدة التفاسير، ج 3، ص: 96

مع الأنبياء». رواه العيّاشي «1» مسندا.

وَ أَنْزَلَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها بأعينكم، يعني: الملائكة. و كانوا خمسة آلاف، أو ثمانية آلاف، أو ستّة عشر ألفا، على اختلاف الأقوال. عن الجبائي: أنّ الملائكة نزلوا يوم حنين بتقوية قلوب المؤمنين و تشجيعهم، و لم يباشروا القتال يومئذ، و لم يقاتلوا إلّا يوم بدر.

وَ عَذَّبَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالقتل و الأسر، و سبي النساء و الذراري، و سلب الأموال وَ ذلِكَ جَزاءُ الْكافِرِينَ أي: ما فعل بهم جزاء كفرهم في الدنيا.

ثُمَّ يَتُوبُ اللَّهُ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عَلى مَنْ يَشاءُ منهم بالتوفيق للإسلام وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ يتجاوز عنهم و يتفضّل عليهم.

روي: أنّ ناسا منهم جاءوا فبايعوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على

الإسلام، و قالوا: يا رسول اللّه أنت خير الناس و أبرّ الناس، و قد سبي أهلونا و أولادنا، و أخذت أموالنا، و قد سبي يومئذ ستّة آلاف نفس، و أخذ من الإبل و الغنم ما لا يحصى.

فقال: إنّ عندي ما ترون، إنّ خير القول أصدقه، اختاروا إمّا ذراريكم و نساءكم و إمّا أموالكم.

فقالوا: ما كنّا نعدل بالأحساب شيئا.

فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: إنّ هؤلاء جاءوا مسلمين، و إنّا خيّرناهم بين الذراري و الأموال، فلم يعدلوا بالأحساب شيئا، فمن كان بيده سبي و طابت نفسه أن يردّه فشأنه، و من لا فليعطنا، و ليكن قرضا علينا حتّى نصيب شيئا فنعطيه مكانه.

فقالوا: رضينا و سلّمنا.

فقال: إنّي لا أدري لعلّ فيكم من لا يرضى، فمروا عرفاءكم فليرفعوا ذلك

______________________________

(1) تفسير العيّاشي 2: 84 ح 39. زبدة التفاسير، ج 3، ص: 97

إلينا. فرفعت إليه العرفاء أنّهم قد رضوا.

[سورة التوبة (9): آية 28]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ بَعْدَ عامِهِمْ هذا وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (28)

و لمّا تقدّم النهي عن ولاية المشركين، أزال سبحانه ولايتهم عن المسجد الحرام، و حظر عليهم دخوله، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ مصدر، يقال نجس نجسا، و قذر قذرا. و معناه: ذووا نجس. فجعلوا نجاسة بعينها مبالغة في وصفهم- لفرط خبث باطنهم و ظاهرهم- بها، كقولهم: زيد فسق، فإنّ معهم الشرك الّذي هو رأس النجاسات الّتي يجب الاجتناب عنها، فالاجتناب عنه بطريق أولى، و لأنّهم لا يجتنبون الأحداث و الأخباث.

و عن ابن عبّاس: أعيانهم نجسة كالكلاب و الخنازير. و عن الحسن: من صافح مشركا

توضّأ. و

عن الصادقين عليهما السّلام: من صافح الكافر و يده رطبة غسل يده.

و به قال فقهاؤنا، فإنّ الكفّار بأنواعهم كافر نجس العين، و ظاهر الآية يدلّ على ذلك، و به أيضا روايات متظافرة مرويّة عن أئمّتنا عليهم السّلام.

فَلا يَقْرَبُوا الْمَسْجِدَ الْحَرامَ لنجاستهم. و إنّما نهى عن الاقتراب للمبالغة، أو للمنع عن دخول الحرم، فلا يحجّوا و لا يعتمروا، كما كانوا يفعلون في الجاهليّة بَعْدَ عامِهِمْ هذا و هو سنة براءة الّتي نادى فيها عليّ عليه السّلام بالبراءة، و

قال: لا يحجّنّ بعد هذا العام مشرك،

و هو عام تسع من الهجرة. و قيل: سنة حجّة الوداع. و عندنا أنّهم كما منعوا من المسجد الحرام منعوا من جميع المساجد، لاشتراك العلّة، و هي النجاسة.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 98

و قال قتادة: سمّاهم نجسا لأنّهم يجنبون و لا يغتسلون، و يحدثون و لا يتوضّئون، و لم يجتنبوا عن أنواع النجاسات، فمنعوا من دخول المسجد، كما أنّ الجنب و صاحب النجاسات لا يجوز لهم دخول المسجد.

و روي عن عمر بن عبد العزيز أنّه كتب: امنعوا اليهود و النصارى من دخول مساجد المسلمين، و أتبع نهيه قول اللّه تعالى: «إِنَّمَا الْمُشْرِكُونَ نَجَسٌ» الآية، للعلّة المشتركة.

وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فقرا بسبب منع المشركين من الحرم، و انقطاع ما كان لكم في قدومهم عليكم من الارفاق و المكاسب فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ من عطائه، أو تفضّله على وجه آخر. و قد أنجز اللّه وعده، بأن أرسل السماء عليهم مدرارا أكثر به خيرهم، و وفّق أهل جدّة و صنعاء و تبالة «1» و جرش فأسلموا و امتاروا «2» لهم. ثمّ فتح عليهم البلاد و الغنائم، و توجّه إليهم الناس من أقطار الأرض، فحملوا الطعام

إلى مكّة، و كان ذلك أعود عليهم إِنْ شاءَ إن أوجبت الحكمة إغناءكم، و كان مصلحة لكم في دينكم.

و في الأنوار: «قيّده بالمشيئة لتنقطع الآمال إلى اللّه، و لينبّه على أنّه متفضّل في ذلك، و أنّ الغنى الموعود يكون لبعض دون بعض، و في عام دون عام» «3».

إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بأحوالكم حَكِيمٌ فيما يعطي و يمنع على وفق الحكمة و المصلحة.

______________________________

(1) في هامش النسخة الخطّية: «التبالة- بفتح التاء، و تخفيف الباء الموحّدة- بلدة صغيرة في اليمن. و الجرش- بضمّ الجيم، و فتح الراء- مخلاف من مخاليف اليمن. منه». و المخلاف:

الكورة من البلاد- و هي: البقعة التي تجتمع فيها المساكن و القرى.

(2) امتار أي: جمع الطعام و المئونة. و الميرة: الطعام الذي يدّخره الإنسان.

(3) أنوار التنزيل 3: 65.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 99

[سورة التوبة (9): آية 29]

قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ عَنْ يَدٍ وَ هُمْ صاغِرُونَ (29)

و عن ابن عبّاس: أنّ الشيطان ألقى في قلوبهم الخوف و قال: من أين تأكلون؟ فأمرهم اللّه بقتال أهل الكتاب، و أغناهم بالجزية. ثم بيّن أنّ من الكفّار من يجوز تبقيته بالجزية، فقال: قاتِلُوا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ لا بِالْيَوْمِ الْآخِرِ أي: لا يؤمنون بهما على ما ينبغي، كما بيّنّاه في أوائل «1» سورة البقرة، فإنّ إيمانهم كلا إيمان، و لأنّ اليهود مثنّية و النصارى مثلّثة.

وَ لا يُحَرِّمُونَ ما حَرَّمَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ ما ثبت تحريمه بالكتاب و السنّة.

و قيل: رسوله هو الّذي يزعمون اتّباعه. و المعنى: أنّهم يخالفون أصل دينهم المنسوخ اعتقادا و عملا.

وَ لا يَدِينُونَ دِينَ الْحَقِ

الثابت الّذي هو ناسخ سائر الأديان و مبطلها.

فالمعنى: و لا يعتقدون دين الإسلام الّذي هو الحقّ. يقال: فلان يدين بكذا إذا اتّخذه دينه و معتقده.

و قوله: مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ بيان ل «الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ» حَتَّى يُعْطُوا الْجِزْيَةَ ما تقرّر عليهم أن يعطوه. مشتقّ من: جزى دينه إذا قضاه، فإنّها قطعة من المال على أهل الذمّة أن يجزوه، أي: يقضوه عَنْ يَدٍ حال من الضمير، أي: عن يد مواتية غير ممتنعة، بمعنى: منقادين. أو عن يدهم، بمعنى: مسلّمين بأيديهم غير

______________________________

(1) راجع ج 1: 59.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 100

زبدة التفاسير ج 3 149

باعثين بأيدي غيرهم، و لذلك منع من التوكيل فيه. أو عن غنى، و لذلك قيل: لا تؤخذ من الفقير. أو عن يد قاهرة عليهم، بمعنى: أذلّاء عاجزين. أو حال من الجزية، بمعنى: نقدا مسلّمة عن يد إلى يد أو عن إنعام عليهم، فإنّ إبقاءهم بالجزية نعمة عظيمة.

وَ هُمْ صاغِرُونَ أذلّاء. و هو أن يأتي بها بنفسه ماشيا غير راكب، و يسلّمها و هو قائم و الآخذ جالس، و أن يؤخذ بتلبيبه «1» و يقال له: أدّها. و عن ابن عبّاس رضى اللّه عنه: تؤخذ الجزية من الذمّي و توجأ «2» عنقه.

و مفهوم الآية يقتضي تخصيص الجزية بأهل الكتاب. و يؤيّده أنّ عمر لم يكن يأخذ الجزية من المجوس، حتّى شهد عبد الرحمن بن عوف أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخذها من مجوس هجر، و أنّه

قال: سنّوا بهم سنّة أهل الكتاب،

و ذلك لأنّ لهم شبهة كتاب، فالحقوا بالكتابيّين. و هذا موافق لمذهب فقهائنا الاماميّة.

و أمّا سائر الكفرة فلا تؤخذ منهم الجزية عندنا و عند الشافعي. و أمّا عند

الحنفيّة فتؤخذ منهم إلّا من مشركي العرب. و عند مالك تؤخذ من كلّ كافر إلّا المرتدّ. و بيان كميّة الجزية و سائر ما يتعلّق بها من كيفيّة الأخذ و غيرها مذكور في كتب الفقه.

______________________________

(1) لبّبت الرجل تلبيبا، إذا جمعت ثيابه عند صدره و نحره في الخصومة ثم جررته.

(2) أي: تضرب باليد أو غيرها.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 101

[سورة التوبة (9): الآيات 30 الى 35]

وَ قالَتِ الْيَهُودُ عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ وَ قالَتِ النَّصارى الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (30) اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ وَ ما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا إِلهاً واحِداً لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (31) يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلاَّ أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (32) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (33) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَ الرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (34)

يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ فَتُكْوى بِها جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ هذا ما كَنَزْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ (35)

ثمّ حكى اللّه سبحانه عن اليهود و النصارى أقوالهم الشنيعة، فقال: وَ قالَتِ الْيَهُودُ أي: بعضهم لا كلّهم عُزَيْرٌ ابْنُ اللَّهِ مبتدأ و خبر. و هو اسم أعجميّ، كعازر و عيزار و عزرائيل. و لعجمته و تعريفه امتنع من الصرف. و قرأ عاصم و الكسائي و يعقوب منوّنا على أنّه عربيّ. و إنّما قالوا ذلك

لأنّه لم يبق فيهم بعد وقعة بختنصّر من يحفظ التوراة، و هو لمّا أحياه اللّه تعالى بعد مائة عام أملى عليهم التوراة حفظا، فتعجّبوا من ذلك و قالوا: ما هذا إلّا لأنّه ابن اللّه. و الدليل على أنّ هذا القول كان فيهم أنّ الآية قرئت عليهم فلم يكذّبوا، مع تهالكهم على التكذيب.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 102

و عن ابن عبّاس: جاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سلام بن مشكم و نعمان بن أوفى و شاس بن قيس و مالك بن الصيف فقالوا ذلك.

و قيل: قائله فنحاص. و سبب هذا القول أنّ اليهود قتلوا الأنبياء بعد موسى عليه السّلام، فرفع اللّه عنهم التوراة و محاها من قلوبهم، فخرج عزير و هو غلام يسيح في الأرض، فأتاه جبرئيل فقال له: إلى أين تذهب؟ قال: أطلب العلم، فحفّظه التوراة، فأملاها عليهم عن ظهر لسانه لا يخرم حرفا، فقالوا: ما جمع اللّه التوراة في صدره و هو غلام إلّا لأنّه ابنه.

وَ قالَتِ النَّصارى أي: بعضهم الْمَسِيحُ ابْنُ اللَّهِ و إنّما قالوه استحالة لأن يكون ولد بلا أب، أو لأنّه لا يفعل ما فعله من إبراء الأكمه و الأبرص و إحياء الموتى من لم يكن إلها.

ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ إمّا تأكيد لنسبة هذا القول إليهم، و نفي للتجوّز عنها، أو إشعار بأنّه قول مجرّد عن برهان و تحقيق، مماثل للمهمل الّذي يوجد في الأفواه و لا يوجد مفهومه في الأعيان يُضاهِؤُنَ قَوْلَ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: يضاهي قولهم قول الّذين كفروا، بحذف المضاف و إقامة المضاف إليه مقامه. و المضاهاة المشابهة، و الهمزة لغة فيه، و قد قرأ به عاصم، و منه قولهم: امرأة ضهياء على فعيل، للّتي شابهت

الرجال في أنّها لا تحيض مِنْ قَبْلُ أي: من قبلهم. و المعنى: أنّ الّذين كانوا في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من اليهود و النصارى يضاهي قولهم قول قدمائهم، على معنى أنّ الكفر قديم فيهم، أو قول المشركين الّذين قالوا: الملائكة بنات اللّه، أو قول اليهود على أنّ الضمير للنصارى.

قاتَلَهُمُ اللَّهُ دعاء عليهم بالإهلاك، فإنّ من قاتله اللّه تعالى هلك، أو تعجّب من شناعة قولهم. و قال ابن الأنباري: المقاتلة من القتل، فإذا أخبر عن اللّه بها كانت بمعنى اللعنة، لأنّ من لعنه اللّه فهو بمنزلة المقتول الهالك. أَنَّى يُؤْفَكُونَ كيف

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 103

يصرفون عن الحقّ إلى الباطل.

اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ أَرْباباً مِنْ دُونِ اللَّهِ بأن أطاعوهم في تحريم ما أحلّ اللّه و تحليل ما حرّم اللّه، أو بالسجود لهم، كما تطاع الأرباب في أوامرهم.

و لهذا يسمّى أتباع الشيطان فيما يوسوس به عباده، كما قال اللّه تعالى: يَعْبُدُونَ الْجِنَ «1». يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ «2».

روى الثعلبي بإسناده عن عديّ بن حاتم قال: «أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و في عنقي صليب من ذهب، فقال لي: يا عديّ اطرح هذا الوثن من عنقك. قال:

فطرحته، ثمّ انتهيت إليه و هو يقرأ من سورة براءة هذه الآية: «اتَّخَذُوا أَحْبارَهُمْ وَ رُهْبانَهُمْ». فقلت: إنّا لسنا نعبدهم. فقال: أ ليسوا يحرّمون ما أحلّ اللّه فتحرّمونه، و يحلّون ما حرّمه فتحلّونه؟ قلت: بلى. قال: فتلك عبادتهم.

و

روي عن أبي جعفر عليه السّلام و أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّهما قالا: «أما و اللّه ما صاموا لهم و لا صلّوا، و لكنّهم أحلّوا لهم حراما و حرّموا عليهم حلالا، فاتّبعوهم

فعبدوهم من حيث لا يشعرون».

و عن فضيل: ما ابالي أطعت مخلوقا في معصية الخالق، أو صلّيت لغير القبلة.

وَ الْمَسِيحَ ابْنَ مَرْيَمَ أهّلوه للعبادة حين جعلوه ابنا للّه تعالى. الا ترى إلى قوله تعالى: قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ «3». وَ ما أُمِرُوا و ما أمر المتّخذون أو المتّخذون أربابا، فيكون كالدليل على بطلان الاتّخاذ إِلَّا لِيَعْبُدُوا ليطيعوا إِلهاً واحِداً و هو اللّه تعالى. و أمّا طاعة الرسول و سائر من أمر اللّه تعالى

______________________________

(1) سبأ: 41.

(2) مريم: 44.

(3) الزخرف: 81.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 104

بطاعته فهو في الحقيقة طاعة اللّه تعالى. و الأمر هو أدلّة العقل و النصوص في الإنجيل لا إِلهَ إِلَّا هُوَ صفة ثانية، أو استئناف مقرّر للتوحيد سُبْحانَهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ تنزيه له عن أن يكون له شريك.

يُرِيدُونَ أَنْ يُطْفِؤُا يخمدوا نُورَ اللَّهِ حجّته الدّالة على وحدانيّته و تقدّسه عن الولد، أو القرآن، أو نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بِأَفْواهِهِمْ بشركهم، أو بتكذيبهم وَ يَأْبَى اللَّهُ الإباء في الأصل المنع و الامتناع، و قد جرى مجرى عدم الإرادة و الرضا هاهنا. فالمعنى: و لا يريد و لا يرضى إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ بإعلاء التوحيد و إعزاز الإسلام. و إنّما صحّ الاستثناء المفرّغ و الفعل موجب، لأنّه في معنى النفي كما فسّر.

و قيل: إنّه سبحانه مثّل حالهم في طلبهم إبطال نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بتكذيبه، بحال من يريد أن ينفخ في نور عظيم منبثّ في الآفاق، يريد اللّه أن يزيده و يبلغه الغاية القصوى من الإضاءة و الإنارة، ليطفئه بنفخه و يطمسه.

وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ محذوف الجواب، و هو: لأتمّ، لدلالة ما قبله

عليه.

و قوله: هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى بالحجج و الدلائل المبيّنة وَ دِينِ الْحَقِ أي: الإسلام و ما تضمّنه من أحكامه لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ كالبيان «1» لقوله: «وَ يَأْبَى اللَّهُ إِلَّا أَنْ يُتِمَّ نُورَهُ» و لذلك كرّر وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ غير أنّه وضع «المشركون» موضع «الكافرون»، للدلالة على أنّهم ضمّوا الكفر بالرسول إلى الشرك باللّه. و الضمير في «ليظهره» للدّين الحقّ أو للرسول. و اللام في الدين للجنس، أي: ليعلي دين الإسلام على سائر الأديان بالحجّة و الغلبة فينسخها، أو على أهلها فيخذلهم حتّى لا يبقى على وجه الأرض إلّا مغلوب، فلا يغلب أحد أهل الإسلام بالحجّة، و هم يغلبون أهل سائر الأديان بالحجّة. و أمّا الظهور بالغلبة،

______________________________

(1) خبر لقوله: و قوله، في أوّل العبارة.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 105

فهو أنّ كلّ طائفة من المسلمين قد غلبوا على ناحية من نواحي أهل الشرك، و لحقهم قهر من جهتهم.

و قيل: أراد عند نزول عيسى عليه السّلام لا يبقى أهل دين إلّا أسلم أو أدّى الجزية.

و

قال أبو جعفر عليه السّلام: «إنّ ذلك يكون عند خروج المهديّ من آل محمد عليه السّلام، فلا يبقى أحد إلّا أقرّ بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

و قال الكلبي: لا يبقى دين إلّا ظهر الإسلام عليه، و سيكون ذلك و لم يكن بعد، و لا تقوم الساعة حتّى يكون ذلك.

قال المقداد بن الأسود: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «لا يبقى على ظهر الأرض بيت مدر و لا وبر إلّا أدخله اللّه كلمة الإسلام إما بعزّ عزيز و إمّا بذلّ ذليل، أمّا بعزّهم فيجعلهم اللّه من أهله فيعزّوا به، و أمّا بذلّهم فيدينون له».

و

عن ابن عبّاس: أنّ الهاء في «ليظهره» عائد إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أي:

ليعلّمه اللّه الأديان كلّها حتّى لا يخفى عليه شي ء منها.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْأَحْبارِ وَ الرُّهْبانِ لَيَأْكُلُونَ أَمْوالَ النَّاسِ بِالْباطِلِ أي: يأخذونها و يتناولونها من الجهة الّتي يحرم منها أخذه. و سمّى أخذ المال أكلا لأنّه الغرض الأعظم منه. و المعنى: أنّهم كانوا يأخذون الرشا في تبديل الأحكام و تخفيف الشرائع و المسامحة فيها من عوامهم وَ يَصُدُّونَ و يمنعون غيرهم عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن اتّباع دينه الّذي هو الإسلام.

و قوله: وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ يقتنون و يجمعون الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ وَ لا يُنْفِقُونَها فِي سَبِيلِ اللَّهِ يحتمل أن يراد به الكثير من الأحبار و الرهبان، فيكون مبالغة في وصفهم بالحرص على المال و الضنّ بها. و أن يراد المسلمون الّذين يجمعون المال و يقتنونه و لا يؤدّون حقّه. و حينئذ اقترانه بالمرتشين من أهل الكتاب للتغليظ. و يدلّ عليه

أنّه لمّا نزل كبر على المسلمين، فذكر عمر لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: «إنّ اللّه لم

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 106

يفرض الزكاة إلّا ليطيب بها ما بقي من أموالكم».

و

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما أدّي زكاته فليس بكنز و إن كان باطنا، و ما بلغ أن يزكّى فلم يزكّ فهو كنز و إن كان ظاهرا»

معناه: فليس بكنز أوعد اللّه عليه، فإنّ الوعيد على الكنز مع عدم الإنفاق فيما أمر اللّه تعالى أن ينفق فيه.

و كذلك

قوله عليه السّلام: «من ترك صفراء أو بيضاء كوي بها».

و

قوله: «تبّا للذهب و تبّا للفضّة. قالها ثلاثا. فقالوا له: أيّ مال نتّخذ؟

قال: لسانا ذاكرا، و قلبا خاشعا، و زوجة تعين أحدكم على دينه».

و

توفّي رجل فوجد في مئزره دينار، فقال عليه الصلاة و السلام: «كيّة» «1». و توفّي آخر فوجد في مئزره ديناران، فقال عليه الصلاة و السلام: «كيّتان».

معناه: ما لم يؤدّ حقّها،

لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما من صاحب ذهب و لا فضّة لا يؤدّي منها حقّها، إلّا إذا كان يوم القيامة صفّحت له صفائح من نار، فيكوى بها جبينه و جنبه و ظهره».

و الضمير في «و لا ينفقونها» إلى المعنى، لأنّ المراد بهما دنانير و دراهم كثيرة، كما

قال عليّ عليه السّلام: «أربعة آلاف و ما دونها نفقة، و ما فوقها كنز».

و قيل: الضمير راجع إلى الأموال الّتي يتضمّنها الذهب و الفضّة. أو معناه: و لا ينفقونها و الذهب، كما أنّ معنى قوله: فإنّي و قيّار بها لغريب، أي: و قيّار كذلك.

و حينئذ تخصيص الضمير بالفضّة لقربها، و دلالة حكمها على أنّ الذهب أولى بهذا الحكم.

و إنّما خصّ الذهب و الفضّة من بين الأموال بالذكر، لأنّهما قانون التموّل، و أثمان الأشياء، و لا يكنزهما إلّا من فضلا عن حاجته.

فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ و هو الكيّ بهما.

قوله: يَوْمَ يُحْمى عَلَيْها فِي نارِ جَهَنَّمَ أي: يوم توقد النار ذات حمى شديد

______________________________

(1) الكيّة: اسم المرّة من: كوى.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 107

عليها، من قوله: نار حامية. و لو قيل: يوم تحمى، لم يعط هذا المعنى. و أصله:

تحمى بالنار، فجعل الإحماء للنار مبالغة، ثم حذفت النار و أسند الفعل إلى الجارّ و المجرور، تنبيها على المقصود، فانتقل من صيغة التأنيث إلى صيغة التذكير، كما تقول: رفعت القصّة إلى الأمير، فإن لم تذكر القصّة قلت: رفع إلى الأمير.

فَتُكْوى بِها بتلك

الكنوز المحماة جِباهُهُمْ وَ جُنُوبُهُمْ وَ ظُهُورُهُمْ تخصيص هذه المواضع، لأنّ جمعهم و إمساكهم كان لطلب الوجاهة بالغنى عند الناس، و التنعّم بالمطاعم الشهيّة، بحيث يتضلّعون منها و ينفخون جنوبهم، و بالملابس البهيّة الّتي يطرحونها على ظهورهم، كما ترى أغنياء زمانك. أو لأنّهم كانوا يعبسون وجوههم للسائل و يولّونه جنوبهم و ظهورهم في المجالس. أو لأنّها أشرف الأعضاء الظاهرة، فإنّها المشتملة على الأعضاء الرئيسة الّتي هي الدماغ و القلب و الكبد. أو لأنّها أصول الجهات الأربع الّتي هي مقاديم البدن و مآخيره و جنباه.

هذا ما كَنَزْتُمْ على إرادة القول، أي: يقال لهم: هذا ما كنزتم لِأَنْفُسِكُمْ لمنفعتها، و كان عين مضرّتها و سبب تعذيبها فَذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْنِزُونَ أي: وبال كنزكم و المال الّذي تكنزونه و تجمعونه و تمنعون حقّ اللّه منه، فحذف لدلالة الكلام عليه.

أورد مسلم بن الحجّاج في الصحيح «1» أنّه قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «و ما من عبد له مال لا يؤدّي زكاته إلّا جمع يوم القيامة صفائح يحمى عليها في نار جهنّم، فتكوى بها جبهته و جنباه و ظهره، حتّى يقضي اللّه بين عباده في يوم كان مقداره خمسين ألف سنة ممّا تعدّون، ثم يرى سبيله إمّا إلى الجنّة و إمّا إلى النار».

______________________________

(1) صحيح مسلم 2: 680 ح 24.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 108

و

روى ثوبان عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من ترك كنزا مثّل له يوم القيامة شجاعا «1» أقرع له ذنبان يتبعه، و يقول: ويلك ما أنت؟ فيقول: أنا كنزك الّذي تركت بعدك، فلا يزال يتبعه حتّى يلقمه يده فيقضمها، ثمّ يتبعه سائر جسده».

[سورة التوبة (9): آية 36]

إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا

عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ وَ قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (36)

و لمّا ذكر سبحانه وعيد الظالم لنفسه بكنز المال من غير إخراج الزكاة و غيرها من حقوق اللّه منه، اقتضى ذلك أن يذكر النهي عن مثل حاله، و هو الظلم في الأشهر الحرم الّذي يؤدّي إلى مثل حاله أو شرّ منه في المنقلب، فقال: إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ مبلغ عدد شهور السنة عِنْدَ اللَّهِ في حكم اللّه و تقديره. و هو معمول «عدّة» لأنّها مصدر اثْنا عَشَرَ شَهْراً فِي كِتابِ اللَّهِ أي: في اللوح المحفوظ، أو في القرآن، أو في جميع الكتب المنزلة على أنبيائه، أو فيما أثبته في حكمه و رآه حكمة و صوابا. و هو صفة ل «اثنا عشر».

و قوله: يَوْمَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ متعلّق بما فيه من معنى الثبوت، أو بالكتاب إن جعل مصدرا. و المعنى: أن هذا أمر ثابت في نفس الأمر مذ خلق اللّه تعالى الأجرام و الأزمنة. و إنّما تعبّد اللّه المسلمين أن يجعلوا سنتهم اثني عشر شهرا

______________________________

(1) الشجاع: ضرب من الحيّات.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 109

ليوافق ذلك عدد الأهلّة و منازل القمر، دون ما دان به أهل الكتاب. و الشهر مأخوذ من شهرة الأمر، لحاجة الناس إليه في معاملاتهم و غير ذلك من مصالحهم المعلّقة بالشهور.

مِنْها أَرْبَعَةٌ حُرُمٌ واحد فرد و هو رجب، و ثلاثة سرد: ذو القعدة و ذو الحجّة و المحرّم.

ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ أي: تحريم الأشهر الحرم هو الدين المستقيم، دين إبراهيم و إسماعيل عليهما السّلام. و العرب قد تمسّكت به وراثة منهما، فكانوا

يعظّمون الأشهر الحرم، و يحرّمون القتال فيها، حتّى لو لقي الرجل قاتل أبيه لم يهجه.

فَلا تَظْلِمُوا فِيهِنَّ أَنْفُسَكُمْ بهتك حرمتها و ارتكاب حرامها. و أكثر الأمّة على أنّ حرمة المقاتلة فيها منسوخة. و أوّلوا الظلم بارتكاب المعاصي فيهنّ، فإنّه أعظم وزرا، كارتكابها في الحرم و حال الإحرام. و عن عطاء أنّه لا يحلّ للناس أن يغزوا في الحرم و في الأشهر الحرم، إلّا أن يقاتلوا، و ما نسخت.

و يؤيّد الأوّل ما

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حاصر الطائف و غزا هوازن بحنين في شوّال و ذي القعدة.

وَ قاتِلُوا الْمُشْرِكِينَ كَافَّةً جميعا مؤتلفين غير مختلفين كَما يُقاتِلُونَكُمْ كَافَّةً جميعا. و هي مصدر: كفّ عن الشي ء، فإنّ الجميع مكفوف عن الزيادة، وقع موقع الحال من الفاعل أو المفعول وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ حثّهم على التقوى بضمان النصر لأهلها.

و في هذه الآية دلالة على أنّ الاعتبار في السنين بالشهور القمريّة لا الشمسيّة، و الأحكام الشرعيّة معلّقة بها، و ذلك لما علم اللّه تعالى فيه من المصلحة، و لسهولة معرفة ذلك على الخاصّ و العامّ.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 110

[سورة التوبة (9): آية 37]

إِنَّمَا النَّسِي ءُ زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُحِلُّونَهُ عاماً وَ يُحَرِّمُونَهُ عاماً لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (37)

و لمّا قدّم سبحانه ذكر السنة و الشهر، عقّبه بذكر ما كانوا يفعلونه من النسي ء، فقال: إِنَّمَا النَّسِي ءُ أي: تأخير حرمة الشهر إلى شهر آخر. و ذلك أنّهم كانوا أصحاب حروب و غارات، و كانوا إذا جاء شهر حرام و هم محاربون شقّ عليهم ترك المحاربة، فكانوا يحلّونه و يحرّمون مكانه شهرا

آخر، حتّى رفضوا خصوص الأشهر و اعتبروا مجرّد العدد، و ربما زادوا في عدد الشهور، فيجعلونها ثلاثة عشر شهرا ليتّسع لهم الوقت، و لذلك قال تعالى: «إِنَّ عِدَّةَ الشُّهُورِ عِنْدَ اللَّهِ اثْنا عَشَرَ شَهْراً» يعني: من غير زيادة زادوها. و عن نافع برواية ورش: إنّما النسيّ بقلب الهمزة ياء و إدغام الياء فيها. زِيادَةٌ فِي الْكُفْرِ لأنّه تحريم ما أحلّه اللّه تعالى و تحليل ما حرّمه اللّه، و هو كفر آخر ضمّوه إلى كفرهم.

يُضَلُّ بِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا ضلالا زائدا. و قرأ حمزة و الكسائي و حفص:

يضلّ على البناء للمفعول. و عن يعقوب: يضلّ على أنّ الفعل للّه تعالى على سبيل التخلية. يُحِلُّونَهُ عاماً يحلّون النسي ء من الأشهر الحرم سنة وَ يُحَرِّمُونَهُ عاماً و يحرّمون مكانه شهرا آخر في سنة اخرى، فيتركونه على حرمته.

و يروى أنّه حدث ذلك في كنانة، لأنّهم كانوا فقراء محاويج إلى الغارة، و كان جنادة بن عوف الكناني مطاعا في الجاهليّة، و كان يقوم على جمل في الموسم فينادي: إنّ آلهتكم قد أحلّت لكم المحرّم فأحلّوه، ثمّ ينادي في القابل: إنّ آلهتكم

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 111

قد حرّمت عليكم المحرّم فحرّموه. و الجملتان تفسير للضلال أو حال.

لِيُواطِؤُا عِدَّةَ ما حَرَّمَ اللَّهُ ليوافقوا عدّة الأربعة المحرّمة و لا يخالفوها، و قد خالفوا تخصيص الأشهر الحرم بالتحريم. و اللام متعلّقة ب «يحرّمونه»، أو بما دلّ عليه مجموع الفعلين فَيُحِلُّوا ما حَرَّمَ اللَّهُ بمواطاة العدّة وحدها من غير مراعاة الوقت.

زُيِّنَ لَهُمْ سُوءُ أَعْمالِهِمْ فحسبوا أعمالهم القبيحة حسنة وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ هداية موصلة إلى الاهتداء، تخلية و خذلانا، أي: لا يلطف بهم، بل يخذلهم. أو هداية موصلة إلى الجنّة، لفرط كفرهم و عنادهم.

قال

ابن عبّاس: أوّل من سنّ النسي ء عمرو بن يحيى بن قمعة بن جندب، و قال مجاهد: كان المشركون يحجّون في كلّ شهرين، فحجّوا في ذي الحجّة عامين، ثمّ حجّوا في المحرّم عامين، ثمّ حجّوا في صفر عامين، و كذلك في الشهور، حتّى وافقت الحجّة الّتي قبل حجّة الوداع في ذي القعدة، ثمّ حجّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في العام القابل حجّة الوداع فوافقت ذا الحجّة، فذلك حين

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في خطبته: «ألا إنّ الزمان قد استدار كهيئته يوم خلق السموات و الأرض، السنة اثنا عشر شهرا، منها أربعة حرم، ثلاثة متواليات: ذو القعدة، و ذو الحجّة، و المحرّم، و رجب الّذي بين جمادى و شعبان».

أراد عليه السّلام بذلك أنّ الأشهر الحرم رجعت إلى مواضعها، و عاد الحجّ إلى ذي الحجّة، و بطل النسي ء.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 112

[سورة التوبة (9): الآيات 38 الى 40]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ اثَّاقَلْتُمْ إِلَى الْأَرْضِ أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا مِنَ الْآخِرَةِ فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ قَلِيلٌ (38) إِلاَّ تَنْفِرُوا يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً وَ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ وَ لا تَضُرُّوهُ شَيْئاً وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (39) إِلاَّ تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ إِذْ هُما فِي الْغارِ إِذْ يَقُولُ لِصاحِبِهِ لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلَيْهِ وَ أَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها وَ جَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى وَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (40)

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا رجع من الطائف أمر بالجهاد لغزوة الروم،

و

ذلك في زمان عسرة و قيظ و قحط و وقت إدراك الثمار، فأحبّوا المقام في المسكن و المال، و شقّ عليهم الخروج إلى القتال، و كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قلّما خرج في غزوة إلّا كنّى عنها و ورّى بغيرها إلّا غزوة تبوك، لبعد شقّتها و كثرة العدوّ، ليتأهّب الناس، فأخبرهم بالّذي يريد و استنفرهم. فلمّا علم اللّه سبحانه تثاقل الناس عاتبهم فقال:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ما لَكُمْ إِذا قِيلَ لَكُمُ انْفِرُوا اخرجوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ في الجهاد للقربة، و هو هنا غزوة تبوك اثَّاقَلْتُمْ أصله: تثاقلتم، فأدغمت التاء في الثاء ثمّ أدخلت همزة الوصل، أي: تباطأتم إِلَى الْأَرْضِ متعلّق به، كأنّه ضمّن معنى الإخلاد و الميل فعدّي ب «إلى» أي: ملتم إلى الإقامة بأرضكم و دياركم أَ رَضِيتُمْ بِالْحَياةِ الدُّنْيا و غرورها مِنَ الْآخِرَةِ بدل الآخرة و نعيمها فَما مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا فما التمتّع بها فِي الْآخِرَةِ في جنب الآخرة إِلَّا قَلِيلٌ مستحقر.

إِلَّا تَنْفِرُوا إن لا تنفروا إلى ما استنفرتم إليه يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً بالإهلاك بسبب فظيع، كقحط و ظهور عدوّ وَ يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ و يستبدل بكم

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 113

آخرين مطيعين، كأهل اليمن و أبناء فارس وَ لا تَضُرُّوهُ شَيْئاً أي: لا يقدح تثاقلكم في نصر دينه شيئا، فإنّه الغنيّ عن كلّ شي ء و في كلّ أمر. و قيل: الضمير للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أي: و لا تضرّوا الرسول، فإنّ اللّه وعد له بالعصمة و النصرة و وعده حقّ. و فيه سخط عظيم على المتثاقلين، حيث هدّدهم بعذاب عظيم مطلق يتناول عذاب الدارين، و أنّه يهلكهم و يستبدل بهم قوما آخرين خيرا منهم و

أطوع، و أنّه غنيّ عنهم في نصرة دينه.

وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فيقدر على التبديل و تغيير الأسباب و النصرة بلا مدد، كما قال جلّت قدرته: إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ أي: إن تركتم نصرته فسينصره اللّه، كما نصره و جعله منصورا على أعدائه إِذْ أَخْرَجَهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ثانِيَ اثْنَيْنِ حال كونه أحد اثنين، أي: لم يكن معه إلّا رجل واحد- و هو أبو بكر- فلن يخذله من بعد، فحذف الجزاء و أقيم ما هو كالدليل عليه- أعني: قوله: «فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ»- مقامه. و إن لم تنصروه فقد أوجب اللّه له النصر حتّى نصره في ذلك الوقت، فلن يخذله في غيره. و إسناد الإخراج إلى الكفرة لأنّ همّهم بإخراجه أو قتله تسبيب، لإذن اللّه له بالخروج.

إِذْ هُما فِي الْغارِ بدل من «إذ أخرجه» بدل البعض، إذ المراد به زمان متّسع. و الغار النقب العظيم في الجبل. و هو هاهنا نقب في أعلى ثور. و ثور جبل في يمنى مكّة على مسيرة ساعة، مكثا فيه ثلاثا.

إِذْ يَقُولُ بدل ثان أو ظرف ل «ثاني» لِصاحِبِهِ و هو أبو بكر لا تَحْزَنْ إِنَّ اللَّهَ مَعَنا مطّلع علينا و عالم بحالنا، يحفظنا و ينصرنا. و لمّا دخلا الغار بعث اللّه حمامتين فباضتا في أسفله، و العنكبوت فنسجت عليه. و

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اللهمّ أعم أبصارهم.

فلمّا طلع سراقة بن مالك و نظراؤه فوق الغار جعلوا يتردّدون حوله، و لم يروه و لا يفطنون، و قد أخذ اللّه بأبصارهم عنه. و سراقة لمّا رأى بيض الحمام

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 114

و بيت العنكبوت قال: لو دخله أحد لانكسر البيض و تفسّخ بيت العنكبوت، فانصرفوا.

و

روى

عليّ بن إبراهيم بن هاشم قال: «كان رجل من خزاعة فيهم يقال له أبو كرز، فما زال يقفو أثر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى وقف بهم على باب الحجر، فقال:

هذه قدم محمّد، هي و اللّه أخت القدم الّتي في المقام، و هذه قدم أبي قحافة أو ابنه.

و قال: ما جازوا هذا المكان، إمّا أن يكونوا قد صعدوا في السماء، أو دخلوا في الأرض. و جاء فارس من الملائكة في صورة الإنس فوقف على باب الغار، و هو يقول لهم: اطلبوه في الشعاب فليس هاهنا، و كانت العنكبوت نسجت على باب الغار. و نزل رجل من قريش فبال على باب الغار، فقال أبو بكر: قد أبصرونا يا رسول اللّه. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لو أبصرونا ما استقبلونا بعوراتهم».

فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ أمنته الّتي تسكن عندها القلوب عَلَيْهِ على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فأيقن أنّهم لا يصلون إليه.

و قال بعضهم «1»: يجوز أن تكون الهاء الّتي في «عليه» راجعا إلى أبي بكر.

و هذا بعيد، لأن الضمائر قبل هذا و بعده تعود إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بلا خلاف، و ذلك في قوله: «إِلَّا تَنْصُرُوهُ فَقَدْ نَصَرَهُ اللَّهُ» و في قوله: «إذ أخرجه» و في قوله: «لصاحبه» و قوله فيما بعد: «و أيّده» فكيف يتخلّلها ضمير عائد إلى غيره؟! هذا، و قد قال اللّه تعالى في هذه السورة: ثُمَّ أَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ «2» و قال في سورة الفتح: فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ «3».

وَ أَيَّدَهُ بِجُنُودٍ لَمْ تَرَوْها يعني: الملائكة أنزلهم ليحرسوه

في الغار، أو

______________________________

(1) أنوار التنزيل 3: 68- 69.

(2) التوبة: 26.

(3) الفتح: 26.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 115

ليعينوه على العدوّ يوم بدر و الأحزاب و حنين. و على هذا الوجه، الجملة معطوفة على قوله: «نصره اللّه». وَ جَعَلَ كَلِمَةَ الَّذِينَ كَفَرُوا السُّفْلى يعني: الشرك، أو دعوة الكفر وَ كَلِمَةُ اللَّهِ هِيَ الْعُلْيا يعني: التوحيد، أو دعوة الإسلام. و المعنى: و جعل ذلك بتخليص الرسول عن أيدي المشركين إلى المدينة، فإنّه المبدأ له، أو بتأييده إيّاه بالملائكة في هذه المواطن، أو بحفظه و نصره له حيث حضر.

و قرأ يعقوب: كلمة اللّه بالنصب، عطفا على «كلمة الّذين». و الرفع أبلغ، لما فيه من الاشعار بأنّ كلمة اللّه عالية في نفسها و إن فاق غيرها، فلا ثبات لتفوّقه و لا اعتبار. و في توسيط ضمير الفصل تأكيد زيادة فضل كلمة اللّه في العلوّ، و أنّها المختصّة به دون سائر الكلم.

وَ اللَّهُ عَزِيزٌ حَكِيمٌ في أمره و تدبيره.

[سورة التوبة (9): الآيات 41 الى 42]

انْفِرُوا خِفافاً وَ ثِقالاً وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (41) لَوْ كانَ عَرَضاً قَرِيباً وَ سَفَراً قاصِداً لاتَّبَعُوكَ وَ لكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ وَ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَوِ اسْتَطَعْنا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (42)

ثمّ بيّن تأكّد وجوب الجهاد على العباد فقال: انْفِرُوا خِفافاً لنشاطكم له وَ ثِقالًا عنه لمشقّته عليكم، أو لقلّة عيالكم و لكثرتها، أو ركبانا و مشاة، أو خفافا و ثقالا من السلاح، أو صحاحا و مراضا، أو شبّانا و شيوخا، و لذلك لمّا

قال ابن أمّ مكتوم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أعليّ أن أنفر؟ قال: نعم، حتّى نزل قوله: لَيْسَ عَلَى

زبدة التفاسير،

ج 3، ص: 116

الْأَعْمى حَرَجٌ «1».

الآية. و عن ابن عبّاس نسخت بقوله: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى الْمَرْضى «2».

وَ جاهِدُوا بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بما أمكن لكم منهما كليهما أو أحدهما على حسب الحال. و هذا يدلّ على أنّ الجهاد بالنفس و المال واجب على من استطاع بهما أو بأحدهما ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ من تركه إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الخير، أو علمتم أنّه خير، إذ إخبار اللّه به صدق فبادروا إليه.

لَوْ كانَ ما دعوا إليه عَرَضاً نفعا دنيويّا قَرِيباً سهل المأخذ وَ سَفَراً قاصِداً وسطا لَاتَّبَعُوكَ لوافقوك طمعا في المال وَ لكِنْ بَعُدَتْ عَلَيْهِمُ الشُّقَّةُ المسافة الّتي تقطع بمشقّة.

وَ سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ أي: المتخلّفون يحلفون باللّه إذا رجعت من تبوك معتذرين لَوِ اسْتَطَعْنا يقولون: لو كان لنا استطاعة العدّة أو البدن، فإنّهم تمارضوا لَخَرَجْنا مَعَكُمْ هو سادّ مسدّ جوابي القسم و الشرط. و هذا من المعجزات، لأنّه إخبار عمّا وقع قبل وقوعه. يُهْلِكُونَ أَنْفُسَهُمْ بإيقاعها في العذاب للأيمان الكاذبة، فإنّ الحلف الكاذب إيقاع للنفس في الهلاك، أو لما أسرّوا به من الشرك. و هو بدل من «سيحلفون» أو حال من فاعله. وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في ذلك، لأنّهم كانوا مستطيعين الخروج.

[سورة التوبة (9): آية 43]

عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ تَعْلَمَ الْكاذِبِينَ (43)

______________________________

(1) النور: 61.

(2) التوبة: 91.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 117

ثمّ خاطب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بما فيه شوب العتاب في إذنه لمّا استأذنوه في التأخّر عن الخروج معه إلى تبوك، فقال: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ هو من لطيف المعاتبة فيما غيره منه أولى، لا سيّما للأنبياء. و قد أخطأ جار اللّه «1» في أن «عَفَا اللَّهُ عَنْكَ»

كناية عن الجناية و الخطأ، و معناه: أخطأت و بئس ما فعلت جانيا. و حاشا سيّد الأنبياء و خير المرسلين أن ينسب إليه جناية و خطأ و سوء فعل، لثبوت عصمته بالأدلّة العقليّة المانعة عن الجناية و الخطأ. و قيل: معناه: أدام اللّه لك العفو.

لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ بيان لما كنّي عنه بالعفو من ترك الأولى. و المعنى: لأيّ شي ء أذنت لهم في القعود و التخلّف عنك حين استأذنوك و اعتلّوا بأكاذيب؟! و هلّا توقّفت! حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَكَ الَّذِينَ صَدَقُوا في الاعتذار وَ تَعْلَمَ الْكاذِبِينَ فيه، فإنّه أولى من إذنك في التخلّف.

قيل: إنّما فعل رسول اللّه شيئين و الحال أنّ تركهما أولى و أحسن: أخذه الفداء، و إذنه للمنافقين، فعاتبه تعالى عليهما ليلتزم بما هو أولى في الأمور.

[سورة التوبة (9): الآيات 44 الى 45]

لا يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ (44) إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ ارْتابَتْ قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ يَتَرَدَّدُونَ (45)

ثمّ بيّن سبحانه حال المؤمنين و المنافقين في الاستئذان، فقال: لا يَسْتَأْذِنُكَ لا يطلب منك الإذن في العقود عن الجهاد معك بالمعاذير الفاسدة الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ أي: ليس من

______________________________

(1) الكشّاف 2: 274.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 118

عادة المؤمنين أن يستأذنوك في أن يجاهدوا، فإنّ الخلّص منهم يبادرون إليه و لا يوقفونه على الإذن فيه، فضلا أن يستأذنوك في التخلّف عنه، أو أن يستأذنوك في التخلّف كراهة أن يجاهدوا وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالْمُتَّقِينَ شهادة لهم بالانتظام في زمرة أهل التقوى، وعدة لهم بأجزل الثواب.

إِنَّما يَسْتَأْذِنُكَ في التخلّف الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ تخصيص الإيمان باللّه

و اليوم الآخر في الموضعين، للإشعار بأنّ الباعث على الجهاد و المانع عنه الإيمان و عدم الإيمان بهما وَ ارْتابَتْ و اضطربت و شكّت قُلُوبُهُمْ فَهُمْ فِي رَيْبِهِمْ في شكّهم يَتَرَدَّدُونَ يتحيّرون، فإنّ التردّد صفة المتحيّر، كما أنّ الثبات صفة المستبصر. و المراد منهم المنافقون.

[سورة التوبة (9): آية 46]

وَ لَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ لَأَعَدُّوا لَهُ عُدَّةً وَ لكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ فَثَبَّطَهُمْ وَ قِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ (46)

ثمّ أخبر سبحانه عن هؤلاء المنافقين، فقال: وَ لَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ إلى الجهاد لَأَعَدُّوا لَهُ للخروج عُدَّةً أهبة وَ لكِنْ كَرِهَ اللَّهُ انْبِعاثَهُمْ نهوضهم للخروج إلى الغزو، لعلمه تعالى بأنّهم لو خرجوا لكانوا يمشون بالنميمة بين المسلمين فَثَبَّطَهُمْ فحبسهم بالجبن و الكسل و خذلهم، لما علم منهم من الفساد.

و إنّما وقع الاستدراك ب «لكن» لأنّ قوله: «وَ لَوْ أَرادُوا الْخُرُوجَ» يعطي معنى النفي، و كأنّه قيل: ما خرجوا و لكن تثبّطوا عن الخروج، لأنّ اللّه كره انبعاثهم، فضعفت رغبتهم في الانبعاث.

وَ قِيلَ اقْعُدُوا مَعَ الْقاعِدِينَ النساء و الصبيان و الزمنى. هذا ذمّ لهم و تعجيز، و هو إذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لهم في القعود، أو حكاية قول بعضهم لبعض، أو وسوسة الشيطان بالأمر بالقعود، أو تمثيل لإلقاء اللّه تعالى كراهة الخروج في قلوبهم.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 119

و في هذه الآية دلالة على أنّ إذنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لهم غير قبيح، و إن كان الأولى أن لا يأذن، ليظهر للناس نفاقهم.

[سورة التوبة (9): الآيات 47 الى 52]

لَوْ خَرَجُوا فِيكُمْ ما زادُوكُمْ إِلاَّ خَبالاً وَ لَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ وَ فِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (47) لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ مِنْ قَبْلُ وَ قَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ حَتَّى جاءَ الْحَقُّ وَ ظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ وَ هُمْ كارِهُونَ (48) وَ مِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي وَ لا تَفْتِنِّي أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (49) إِنْ تُصِبْكَ حَسَنَةٌ تَسُؤْهُمْ وَ إِنْ تُصِبْكَ مُصِيبَةٌ يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا مِنْ قَبْلُ وَ يَتَوَلَّوْا وَ

هُمْ فَرِحُونَ (50) قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلاَّ ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا هُوَ مَوْلانا وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (51)

قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا إِلاَّ إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ وَ نَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ أَوْ بِأَيْدِينا فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ (52)

ثمّ بيّن سبحانه وجه الحكمة في تثبيطهم عن الخروج، فقال: لَوْ خَرَجُوا لو خرج هؤلاء المنافقون إلى الجهاد فِيكُمْ ما زادُوكُمْ بخروجهم شيئا إِلَّا خَبالًا فسادا و شرّا. و لا يستلزم ذلك أن يكون لهم خبال حتّى لو خرجوا زادوه، لأنّ الزيادة باعتبار أعمّ العامّ الّذي وقع منه الاستثناء. و لأجل هذا التوهّم جعل

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 120

الاستثناء منقطعا. و ليس كذلك، لأنّ الاستثناء المنقطع هو أن يكون المستثنى من غير جنس المستثنى منه، كقولك: ما زادوكم خيرا إلّا خبالا، و المستثنى منه في هذا الكلام غير مذكور، و إذا لم يذكر وقع الاستثناء من أعمّ العامّ الّذي هو الشي ء، فكان استثناء متّصلا، لأنّ الخبال بعض أعمّ العامّ.

وَ لَأَوْضَعُوا خِلالَكُمْ و لأسرعوا ركائبهم بينكم بالنميمة و التضريب و التفريق، أو الهزيمة و التخذيل، من: وضع البعير وضعا إذا أسرع، و أوضعته أنا.

و المراد السرعة بالفساد، لأنّ الراكب أسرع من الماشي. يَبْغُونَكُمُ الْفِتْنَةَ يريدون أن يفتنوكم بإيقاع الخلاف فيما بينكم، و يفسدوا نيّاتكم في غزواتكم، أو الرعب في قلوبكم. و الجملة حال من الضمير في «أوضعوا». وَ فِيكُمْ سَمَّاعُونَ لَهُمْ ضعفة من المسلمين يسمعون قولهم و يطيعونهم، أو نمّامون يسمعون حديثكم فينقلونه إليهم وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ بالمصرّين على الفساد، فيعلم ضمائرهم و ما يتأتّى منهم.

لَقَدِ ابْتَغَوُا الْفِتْنَةَ هي اسم يقع على كلّ شرّ و فساد، أي: نصبوا لك الغوائل، و سعوا في تشتيت

شملك و تفريق أصحابك. مِنْ قَبْلُ يعني: يوم أحد، فإنّ ابن أبيّ و أصحابه كما تخلّفوا عن تبوك بعد ما خرجوا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى ذي جدة أسفل من ثنيّة الوداع، انصرفوا يوم أحد. و عن سعيد بن جبير: وقفوا في غزوة تبوك على الثنيّة ليلة العقبة ليفتكّوا به، و هم اثنا عشر رجلا.

وَ قَلَّبُوا لَكَ الْأُمُورَ و دبّروا لك المكائد و الحيل، و احتالوا في إبطال أمرك حَتَّى جاءَ الْحَقُ أي: النصر و التأييد الإلهي وَ ظَهَرَ أَمْرُ اللَّهِ علا و غلب دينه و أهله وَ هُمْ كارِهُونَ أي: على رغم منهم. و هو في موضع الحال. و الآيتان لتسلية الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على تخلّفهم، و بيان ما ثبّطهم اللّه لأجله و كره انبعاثهم له، و هتك استارهم و كشف اسرارهم، و إزاحة اعتذارهم، تداركا لإذن رسوله تخلّفهم، فعوتب عليه لترك الأولى.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 121

وَ مِنْهُمْ و من هؤلاء المنافقين مَنْ يَقُولُ ائْذَنْ لِي في القعود عن الجهاد وَ لا تَفْتِنِّي و لا توقعني في الفتنة. و هي الإثم الّذي يلزم العصيان و المخالفة، بأن لا تأذن لي، فإنّي إن تخلّفت بعد أمرك بالجهاد أثمت. و فيه إشعار بأنّه لا محالة متخلّف، أذن له أو لم يأذن. أو في الفتنة. بسبب ضياع المال و العيال، إذ لا كافل لهم بعدي. أو في الفتنة بنساء الروم، لما

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا استنفر الناس إلى تبوك فقال: انفروا لعلّكم تغنمون بنات الأصفر، يعني: نساء الروم، فقال جدّ بن قيس أخو بني سلمة من بني الخزرج: يا

رسول اللّه ائذن لي و لا تفتنّي ببنات الأصفر، و لكنّي أعينك بمالي، فاتركني فإنّي أخاف أن أفتن بهنّ، لأنّي مستهتر بالنساء. فقال: أذنت لك.

أَلا فِي الْفِتْنَةِ سَقَطُوا أي: الفتنة هي الّتي سقطوا فيها، و هي فتنة التخلّف أو ظهور النفاق، لا ما احترزوا عنه وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ جامعة لهم يوم القيامة أو الآن، لأنّ إحاطة أسبابها بهم كوجودها، فكأنّهم في وسطها.

إِنْ تُصِبْكَ في بعض غزواتك حَسَنَةٌ ظفر و غنيمة تَسُؤْهُمْ لفرط حسدهم وَ إِنْ تُصِبْكَ في بعضها مُصِيبَةٌ كسر و شدّة و بليّة، كما أصاب يوم أحد يَقُولُوا قَدْ أَخَذْنا أَمْرَنا الّذي نحن متّسمون به، من الحذر و العمل بالحزم و التيقّظ مِنْ قَبْلُ من قبل ما وقع، أي: تبجّحوا «1» بانصرافهم، و استحمدوا رأيهم في التخلّف وَ يَتَوَلَّوْا عن مقام التحدّث بذلك و الاجتماع له إلى أهاليهم، أو عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ هُمْ فَرِحُونَ مسرورون.

قُلْ لَنْ يُصِيبَنا إِلَّا ما كَتَبَ اللَّهُ لَنا إلّا ما اختصّنا بإثباته و إيجابه، من النصرة أو الشهادة، أو ما كتب لأجلنا في اللوح المحفوظ، لا يتغيّر بموافقتكم و لا بمخالفتكم. هُوَ مَوْلانا متولّي أمورنا و ناصرنا وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ

______________________________

(1) تبجّح و تباجح أي: افتخر و تعظّم و تباهي.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 122

لأنّ حقّهم أن لا يتوكّلوا على غيره تعالى، فليفعلوا ما هو حقّهم.

قُلْ هَلْ تَرَبَّصُونَ بِنا تنتظرون بنا إِلَّا إِحْدَى الْحُسْنَيَيْنِ إحدى العاقبتين اللّتين كلّ منهما حسنى العواقب: النصرة و الشهادة وَ نَحْنُ نَتَرَبَّصُ بِكُمْ أيضا إحدى السوأيين أَنْ يُصِيبَكُمُ اللَّهُ بِعَذابٍ مِنْ عِنْدِهِ بقارعة من السماء، كما نزلت على عاد و ثمود أَوْ بِأَيْدِينا أو بعذاب

بأيدينا، و هو القتل على الكفر فَتَرَبَّصُوا ما هو عاقبتنا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ ما هو عاقبتكم، فإنّه لا بدّ أن يلقى كلّنا ما يتربّصه و لا يتجاوزه. و المراد بالأمر التهديد، كقوله: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ «1».

[سورة التوبة (9): الآيات 53 الى 57]

قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ (53) وَ ما مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلاَّ أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ بِرَسُولِهِ وَ لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلاَّ وَ هُمْ كُسالى وَ لا يُنْفِقُونَ إِلاَّ وَ هُمْ كارِهُونَ (54) فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ (55) وَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ وَ ما هُمْ مِنْكُمْ وَ لكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ (56) لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً أَوْ مَغاراتٍ أَوْ مُدَّخَلاً لَوَلَّوْا إِلَيْهِ وَ هُمْ يَجْمَحُونَ (57)

ثمّ بيّن سبحانه أنّ هؤلاء المنافقين لا ينتفعون بما ينفقونه مع إقامتهم على

______________________________

(1) فصّلت: 40.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 123

الكفر، فقال: قُلْ أَنْفِقُوا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً طائعين أو مكرهين لَنْ يُتَقَبَّلَ مِنْكُمْ نفقاتكم. و الأمر في معنى الخبر، كقوله: مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ «1». و معناه: لن يتقبّل منكم، أنفقتم طوعا أو كرها. و نحوه قوله: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ «2» أي: لن يغفر اللّه لهم، استغفرت لهم أم لم تستغفر لهم. و في تساوي الإنفاقين مبالغة في عدم القبول. و هذا جواب قول جدّ بن قيس: و أعينك بمالي. و نفي التقبّل يحتمل أمرين: أن لا يؤخذ منهم، و أن لا يثابوا عليه.

و قوله: إِنَّكُمْ كُنْتُمْ قَوْماً فاسِقِينَ تعليل له على سبيل الاستئناف، و ما بعده بيان و تقرير له، أعني: قوله: وَ ما

مَنَعَهُمْ أَنْ تُقْبَلَ مِنْهُمْ نَفَقاتُهُمْ إِلَّا أَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ بِرَسُولِهِ و قرأ حمزة و الكسائي: أن يقبل بالياء، لأنّ تأنيث النفقات غير حقيقيّ وَ لا يَأْتُونَ الصَّلاةَ إِلَّا وَ هُمْ كُسالى متثاقلين وَ لا يُنْفِقُونَ إِلَّا وَ هُمْ كارِهُونَ لأنّهم لا يرجون بهما ثوابا، و لا يخافون على تركهما عقابا.

فَلا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ الإعجاب بالشي ء أن يسرّ به سرور راض به متعجّب من حسنه. و الخطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و المراد جميع المؤمنين. و المعنى: فلا تستحسنوا ما أوتوا به من زينة الدنيا، فإنّ ذلك استدراج و وبال لهم، كما قال: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الْحَياةِ الدُّنْيا بسبب ما يكابدون لجمعها و حفظها من المتاعب، و ما يرون فيها من الشدائد و المصائب وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ فيموتوا كافرين مشتغلين بالتمتّع عن النظر في العاقبة، فيكون ذلك استدراجا لهم.

و أصل الزهوق الخروج بصعوبة.

وَ يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ أي: لمن جملة المسلمين وَ ما هُمْ مِنْكُمْ لكفر قلوبهم وَ لكِنَّهُمْ قَوْمٌ يَفْرَقُونَ يخافون منكم أن تفعلوا بهم ما تفعلون

______________________________

(1) مريم: 75.

(2) التوبة: 80.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 124

بالمشركين، فيظهرون الإسلام تقيّة.

لَوْ يَجِدُونَ مَلْجَأً حصنا يلجؤون إليه، متحصّنين به من راس جبل أو قلعة أَوْ مَغاراتٍ غيرانا «1»، من: أغار الرجل و غار إذا دخل الغور. و قيل: هو تعدية غار الشي ء و أغرته أنا، يعني: أمكنة يغيرون فيها أشخاصهم. أَوْ مُدَّخَلًا مفتعل من الدخول. و أصله: مدتخلا، أبدل التاء بعد الدال دالا، أي: نفقا ينجحرون «2» فيه.

و قرأ يعقوب: مدخلا، من: دخل، أي: موضع دخول يأوون إليه. لَوَلَّوْا إِلَيْهِ لأقبلوا نحوه وَ هُمْ يَجْمَحُونَ

يسرعون إسراعا لا يردّهم شي ء، كالفرس الجموح.

[سورة التوبة (9): الآيات 58 الى 59]

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا وَ إِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ (58) وَ لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ رَسُولُهُ إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ (59)

روى الثعلبي في تفسيره: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يقسّم غنائم حنين، فاستعطف قلوب أهل مكّة بتوفير الغنائم عليه. فقال ابن ذي الخويصرة رأس الخوارج: اعدل يا رسول اللّه. فقال: ويلك إن لم أعدل فمن يعدل؟ فقال عمر: يا رسول اللّه ائذن لي فأضرب عنقه. فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: دعه، فإنّ له أصحابا يحتقر أحدكم صلاته مع صلاتهم، و صيامه مع صيامهم، يمرقون من الدين كما يمرق السهم من الرمية. ثمّ قال: رأسهم رجل أسود في إحدى ثدييه أو إحدى يديه مثل

______________________________

(1) جمع الغار.

(2) انجحر أي: دخل الجحر. زبدة التفاسير، ج 3، ص: 125

ثدي المرأة، أو مثل البضعة «1» تدردر «2»، يخرجون على فترة من الناس. و في حديث آخر: فإذا خرجوا فاقتلوهم، ثمّ إذا خرجوا فاقتلوهم، ثمّ إذا خرجوا فاقتلوهم.

قال أبو سعيد الخدري: أشهد أنّي سمعت هذا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أشهد أنّ عليّا عليه السّلام حين قتلهم و أنا معه جي ء بالرجل على النعت الّذي نعته رسول اللّه.

و في ابن أبي خويصرة نزلت: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَلْمِزُكَ يعيبك و يطعن عليك.

و قرأ يعقوب: يلمزك بالضمّ، و ابن كثير: يلامزك. فِي الصَّدَقاتِ في قسمتها.

ثمّ وصفهم بأنّ رضاهم و سخطهم لأنفسهم لا للدين، فقال: فَإِنْ أُعْطُوا مِنْها رَضُوا

و طابت نفوسهم و أقرّوا باللّه وَ إِنْ لَمْ يُعْطَوْا مِنْها إِذا هُمْ يَسْخَطُونَ «إذا» للمفاجأة نائب مناب الفاء الجزائيّة.

و قيل: إنّها نزلت في أبي الجواظ المنافق، قال: الا ترون إلى صاحبكم إنّما يقسّم صدقاتكم في رعاة الغنم و يزعم أنّه يعدل. و قال ابن زيد: قال المنافقون: ما يعطيها محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلّا من أحبّ، و لا يؤثر بها إلّا من هواه، فنزلت.

وَ لَوْ أَنَّهُمْ رَضُوا ما آتاهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ بما أعطاهم الرسول من الغنيمة أو الصدقة. و ذكر اللّه للتعظيم، و للتنبيه على أنّ ما فعله الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان بأمره تعالى وَ قالُوا حَسْبُنَا اللَّهُ كفانا فضله سَيُؤْتِينَا اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ صدقة أو غنيمة اخرى وَ رَسُولُهُ فيؤتينا أكثر ممّا آتانا اليوم إِنَّا إِلَى اللَّهِ راغِبُونَ في أن يغنينا من فضله. و الآية بأسرها في حيّز الشرط، و الجواب محذوف، تقديره: لكان خيرا لهم.

______________________________

(1) البضعة: القطعة من اللحم.

(2) أي: ترجرج و تجي ء و تذهب. راجع لسان العرب 4: 283.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 126

[سورة التوبة (9): آية 60]

إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ وَ فِي الرِّقابِ وَ الْغارِمِينَ وَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (60)

ثمّ بيّن مصارف الصدقات تصويبا و تحقيقا لما فعله الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و دلالة على أنّ أهل النفاق ليسوا من مستحقّيها، و أنّهم بعداء عن مصارفها، فما لهم التكلّم فيها و لمن قاسمها، فقال: إِنَّمَا الصَّدَقاتُ لِلْفُقَراءِ وَ الْمَساكِينِ أي: الزكوات لهؤلاء الأصناف الثمانية مختصّة بهم، و لا يجوز صرفها في غيرهم، و

نحوه: إنّما السخاء لحاتم، أي: ليس لغيره، و يحتمل أن يصرف إلى بعضها. و عن حذيفة و ابن عبّاس و غيرهما من الصحابة أنّهم قالوا: في أيّ صنف منها وضعتها أجزأك. و هو مذهبنا.

فأتى ب «إنّما» الّتي للحصر للدلالة على أنّه لا يستحقّها سوى هؤلاء المذكورين.

و اختلف في اللام في الفقراء هل للتمليك أو لبيان المصرف؟ فقال الشافعي:

بالأوّل، فيجب البسط على الأصناف، و يعطى من كلّ صنف ثلاثة لا أقلّ. و قال مالك و أبو حنيفة بالثاني، فلا يجب البسط، بل لو أعطى زكاته واحدا من أيّ صنف كان جاز، لكن أبو حنيفة لا يعطي ما يؤدّي إلى الغنيّ، فلو خالف فعل مكروها، و ملكه المعطى، و برئت الذمّة. و مالك يجوّز ذلك إذا أمّل إغناءه.

و قال أصحابنا: يجوز أيّ صنف كان و لو واحدا منهم، لكنّ البسط أفضل، و بذلك قال ابن عبّاس و حذيفة و غيرهما من الصحابة، لأنّ كون اللام للتمليك لا وجه له، فإنّ المستحقّ لا يملك قبل الأخذ، و لأنّ حملها على بيان المصرف موافق لقول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الّذي عابه المنافقون، فيكون أولى.

و الفقير من لا مال له و لا كسب يقع موقعا من حاجته، من الفقار، كأنّه أصيب

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 127

فقاره. و المسكين من له مال أو كسب لا يكفيه، من السكون، كأنّ العجز أسكنه.

و يدلّ عليه قوله: أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ «1». و أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يسأل المسكنة و يتعوّذ من الفقر. و قيل: بالعكس، لقوله تعالى: أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ «2». أو الفقير الزمن المحتاج، و المسكين الصحيح المحتاج. أو

الفقير هو المتعفّف الّذي

لا يسأل، و المسكين الّذي يسأل. و روي ذلك عن أبي جعفر عليه السّلام،

و منقول عن ابن عبّاس و الحسن و الزهري و مجاهد. و قيل: بالعكس. و قيل: إنّهما قسم واحد، و الثاني تأكيد الأوّل، كعطشان نطشان «3». و التحقيق: أنّهما يشتركان في معنى عدمي، و هو عدم ملك مؤونة السنة له و لعياله الواجبي النفقة لو كان غنيّا.

وَ الْعامِلِينَ عَلَيْها الساعين في تحصيلها و جمعها وَ الْمُؤَلَّفَةِ قُلُوبُهُمْ قوم أسلموا و نيّتهم ضعيفة فيه، فيستألف قلوبهم. أو أشراف من العرب يترقّب بإعطائهم و مراعاتهم إسلام نظرائهم. و قد أعطى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عيينة بن حصن و الأقرع بن حابس و العبّاس بن مرداس لذلك. و قيل: أشراف يستألفون على أن يسلموا، فإنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يعطيهم. و قيل: كان سهم المؤلّفة لتكثير سواد الإسلام و الاستعانة بهم، فلمّا أعزّه اللّه و أكثر أهله سقط.

وَ فِي الرِّقابِ و للصرف في فكّ الرقاب. و هم المكاتبون يعانون بشي ء من الزكاة على أداء النجوم ليفكّوا رقابهم من الرقّ. و العبيد إذا كانوا في شدّة يشترون منها و يعتقون، و يكون ولاؤهم لأرباب الزكاة. و عندنا يجوز ابتياع العبيد مطلقا من الزكاة مع عدم المستحقّ، أمّا مع وجوده فلا. و العدول عن اللام إلى «في» في الأربعة الأخيرة للدلالة على أنّهم أحقّ بأن توضع فيهم الصدقات ممّن سبق ذكره، لأنّ «في» للوعاء، و على أنّ المستحقّين قسمان: قسم يقبض لنفسه، و هم الفقراء

______________________________

(1) الكهف: 79.

(2) البلد: 16.

(3) النطش: شدّة جبلة الخلق. و عطشان نطشان: إتباع. راجع لسان العرب 6: 354- 355.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 128

و المساكين

و العاملون و المؤلّفة. فهؤلاء يصرفونه في أيّ جهة شاؤا، فهم مختصّون به، فناسب ذلك اللام. و قسم يقبض لأجل جهة معيّنة يصرفه فيها، و لا يجوز صرفه في غيرها. و هم الرقاب و الغارمون و ابن السبيل، فناسب ذلك «في».

وَ الْغارِمِينَ هم الّذين ركبتهم الديون في غير معصية، إذا لم يكن لهم وفاء وَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ و للصرف في الجهاد بالإنفاق على ابتياع الكراع «1» و السلاح إجماعا. و قيل: يدخل فيه بناء القناطر و المصانع و سائر مصالح المسلمين.

وَ ابْنِ السَّبِيلِ المسافر المنقطع عن ماله في الغربة، و إن كان غنيّا في بلده.

و إنّما سمّي ابن السبيل للزومه الطريق، فنسب إليه. و يشترط في استحقاقه كون سفره مباحا. و الضيف إن كان منقطعا به في غير بلده فهو داخل في ابن السبيل.

و إنّما كرّر «في» الأخيرين، و لم يعطف على الرقاب كما عطف الغارمين عليه، لفضل ترجيح لهما.

فَرِيضَةً مِنَ اللَّهِ مصدر لما دلّ عليه الآية، أي: فرض لهم الصدقات فريضة. أو حال من الضمير المستكن في «للفقراء». وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ يضع الأشياء في مواضعها.

[سورة التوبة (9): آية 61]

وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَ يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ رَحْمَةٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (61)

روي أنّ جماعة من المنافقين منهم الجلاس بن سويد و شاس بن قيس

______________________________

(1) الكراع: اسم يطلق على الخيل و البغال و الحمير.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 129

و مخشى بن حمير و رفاعة بن عبد المنذر و غيرهم قالوا ما لا ينبغي للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ذمّوه. فقال رجل منهم: لا تفعلوا

فإنّا نخاف أن يبلغ محمّدا ما تقولون فيوقع بنا.

فقال الجلاس بن سويد: بل نقول ما شئنا ثمّ نأتيه فيصدّقنا بما نقول، فإنّ محمّدا أذن سامعة، فنزلت: وَ مِنْهُمُ الَّذِينَ يُؤْذُونَ النَّبِيَّ وَ يَقُولُونَ هُوَ أُذُنٌ الاذن الرجل الّذي يصدّق كلّ ما يسمع، و يقبل قول كلّ أحد. و المعنى: هو يسمع كلّ ما يقال له و يصدّقه. سمّي بالجارحة للمبالغة، كأنّه من فرط استماعه صار جملته آلة السماع، كما سمّي الجاسوس عينا لذلك. أو اشتقّ له فعل من: أذن اذنا إذا استمع، كأنف و شلل.

قُلْ أُذُنُ خَيْرٍ لَكُمْ تصديق لهم بأنّه أذن و لكن لا على الوجه الّذي ذمّوا به، بل من حيث إنّه يسمع الخير و يقبله.

ثمّ فسّر ذلك بقوله: «يُؤْمِنُ بِاللَّهِ» يصدّق به، لما قام عنده من الأدلّة وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ و يصدّقهم، لما علم من خلوصهم. و اللام مزيدة للتفرقة بين إيمان التصديق، فإنّه بمعنى التسليم، و إيمان الأمان، كما في قوله: وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا «1».

وَ رَحْمَةٌ أي: هو رحمة لِلَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ لمن اظهر الايمان، حيث يقبله و لا يكشف سرّه و لا يفضحه، فلا يفعل به ما يفعل بالمشركين، مراعاة لما رأى اللّه من المصلحة في الإبقاء عليه. و فيه تنبيه على أنّه ليس يقبل قولكم جهلا بحالكم، بل رفقا بكم و ترحّما عليكم.

و قرأ حمزة: و رحمة بالجرّ، عطفا على «خير» أي: هو أذن خير و رحمة، و لا يسمع غيرهما. و قرأ نافع: أذن بالتخفيف فيهما.

وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ رَسُولَ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بإيذائه. و قيل: نزلت هذه الآية

______________________________

(1) يوسف: 17.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 130

في رجل من المنافقين يقال له: نبتل بن الحارث، و كان رجلا

أدلم «1» أحمر العينين أسفع «2» الخدّين مشوّه الخلقة، و كان ينمّ حديث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى المنافقين. فقيل له:

لا تفعل. فقال: إنّما محمد أذن، من حدّثه شيئا صدّقه، نقول ما شئنا ثمّ نأتيه و نحلف له فيصدّقنا. و هو الّذي

قال فيه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من أراد أن ينظر إلى الشيطان فلينظر إلى نبتل بن الحارث.

[سورة التوبة (9): آية 62]

يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ لِيُرْضُوكُمْ وَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ (62)

و قيل: إنّ جلاس بن سويد و غيره من المنافقين قالوا: لئن كان ما يقول محمّد حقّا فنحن شرّ من الحمير. و كان عندهم غلام من الأنصار يقال له: عامر بن قيس، فقال: و اللّه ما يقول محمد حقّ، و أنتم شرّ من الحمير. ثمّ أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أخبره، فدعاهم فسألهم، فحلفوا أنّ عامرا كذب. فنزلت: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ على معاذيرهم فيما قالوا لِيُرْضُوكُمْ لترضوا عنهم، و الخطاب للمؤمنين وَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَحَقُّ أَنْ يُرْضُوهُ أحقّ بالإرضاء بالطاعة و الوفاق. و توحيد الضمير لتلازم الرضاءين. أو لأنّ الكلام في إيذاء الرسول و إرضائه. أو لأنّ التقدير: و اللّه أحقّ أن يرضوه، و الرسول كذلك. إِنْ كانُوا مُؤْمِنِينَ باطنا و ظاهرا، مذعنين بنبوّة محمد مقرّين به.

و قيل: إنّها نزلت في رهط من المنافقين تخلّفوا عن غزوة تبوك، فلمّا رجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من تبوك أتوا المؤمنين يعتذرون إليهم من تخلّفهم و يحلفون.

______________________________

(1) الأدلم: الذي اشتدّ سواده في ملوسة.

(2) الأسفع: أسود اللون إلى حمرة.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 131

[سورة التوبة (9): الآيات 63 الى 64]

أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ (63) يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ قُلِ اسْتَهْزِؤُا إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ ما تَحْذَرُونَ (64)

ثمّ قال سبحانه على وجه التقريع و التوبيخ لهؤلاء المنافقين: أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّهُ أنّ الشأن مَنْ يُحادِدِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يشاققهما، مفاعلة من الحدّ فَأَنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِداً فِيها على حذف الخبر، أي:

فحقّ أنّ له، أو على تكرير «أنّ» للتأكيد.

و يجوز أن يكون معطوفا على «أنّه»، و يكون الجواب محذوفا، تقديره: من يحادد اللّه و رسوله يهلك فأنّ له نار جهنّم خالدا فيها ذلِكَ الْخِزْيُ الْعَظِيمُ يعني: الهلاك الدائم.

روي: أنّ المنافقين كانوا يستهزؤن بالإسلام، فكانوا يحذرون أن يفضحهم اللّه بالوحي، فنزلت في شأنهم: يَحْذَرُ الْمُنافِقُونَ أَنْ تُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ أي: على المؤمنين سُورَةٌ تُنَبِّئُهُمْ بِما فِي قُلُوبِهِمْ و تهتك عليهم أستارهم. و يجوز أن تكون الضمائر للمنافقين، فإنّ النازل فيهم كالنازل عليهم، من حيث إنّه مقروء و محتجّ به عليهم.

و قيل: اللفظ لفظ الخبر و معناه الأمر، أي: ليحذر المنافقون أن تنزّل عليهم سورة تخبرهم بما في قلوبهم من النفاق. و هذا حسن، لأنّ موضع الكلام على التهديد، لقوله: قُلِ اسْتَهْزِؤُا أي: اطلبوا الهزء، هو وعيد بلفظ الأمر إِنَّ اللَّهَ مُخْرِجٌ مبرز أو مظهر ما تَحْذَرُونَ ما تحذرونه من إنزال السورة فيكم، أو ما تحذرون إظهاره من مساويكم.

و قيل: هذا الحذر أظهروه على وجه الاستهزاء لا على سبيل التصديق، لأنّهم

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 132

حين رأوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ينطق في كلّ شي ء عن الوحي، قال بعضهم لبعض:

احذروا ألّا ينزل وحي فيكم، يتناجون بذلك و يضحكون به.

[سورة التوبة (9): الآيات 65 الى 69]

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَ نَلْعَبُ قُلْ أَ بِاللَّهِ وَ آياتِهِ وَ رَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ (65) لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (66) الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ وَ يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ نَسُوا اللَّهَ فَنَسِيَهُمْ إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ (67) وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ

الْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها هِيَ حَسْبُهُمْ وَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ وَ لَهُمْ عَذابٌ مُقِيمٌ (68) كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَ أَكْثَرَ أَمْوالاً وَ أَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ وَ خُضْتُمْ كَالَّذِي خاضُوا أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (69)

روي عن ابن كيسان: أنّ اثني عشر رجلا من المنافقين وقفوا على العقبة ليفتكّوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عند رجوعه من تبوك، فأخبر جبرئيل عليه السّلام رسول اللّه

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 133

بذلك، و أمره أن يرسل إليهم أحدا و يضرب وجوه رواحلهم. و عمّار كان يقود دابّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و حذيفة يسوقها. فقال لحذيفة: اضرب وجوه رواحلهم.

فضربها حتّى نحّاهم. فلمّا نزل قال لحذيفة: من عرفت من القوم؟ قال: لم أعرف منهم أحدا. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّه فلان و فلان، حتّى عدّهم كلّهم. فقال حذيفة: ألّا تبعث إليهم فتقتلهم؟ فقال: أكره أن تقول العرب: لمّا ظفر بأصحابه أقبل يقتلهم.

و

روي عن أبي جعفر عليه السّلام مثله، إلّا أنّه قال: ائتمروا بينهم ليقتلوه، و قال بعضهم لبعض: إن فطن نقول: إنّما كنّا نخوض و نلعب، و إن لم يفطن نقتله. فنزلت:

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ لَيَقُولُنَّ إِنَّما كُنَّا نَخُوضُ وَ نَلْعَبُ

قيل: نزلت في ركب المنافقين مرّوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في غزوة تبوك، فقالوا: انظروا إلى هذا الرجل يريد أن يفتح قصور الشام و حصونه، هيهات هيهات. فأخبر اللّه تعالى به نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فدعاهم، فقال:

قلتم كذا و كذا؟ فقالوا: لا و اللّه ما كنّا في شي ء من أمرك و أمر أصحابك، و لكن كنّا في شي ء ممّا يخوض فيه الركب ليقصّر بعضنا على بعض السفر، أي:

مشقّته.

قُلْ أَ بِاللَّهِ وَ آياتِهِ وَ رَسُولِهِ كُنْتُمْ تَسْتَهْزِؤُنَ توبيخا على استهزائهم بمن لا يصحّ الاستهزاء به، و إلزاما للحجّة عليهم، و إشعارا بعدم الاعتداد باعتذارهم الكاذب.

ثمّ أمر اللّه تعالى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يقول لهؤلاء المنافقين: لا تَعْتَذِرُوا لا تشتغلوا باعتذاراتكم، فإنّها معلومة الكذب قَدْ كَفَرْتُمْ قد أظهرتم الكفر بإيذاء الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و الطعن فيه بَعْدَ إِيمانِكُمْ بعد إظهاركم الايمان إِنْ نَعْفُ عَنْ طائِفَةٍ مِنْكُمْ لتوبتهم و إخلاصهم، أو لتجنّبهم عن الإيذاء و الاستهزاء نُعَذِّبْ طائِفَةً بِأَنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ مصرّين على النفاق، أو مقدمين على الإيذاء و الاستهزاء. و قرأ

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 134

عاصم بالنون فيهما «1» و نصب طائفة.

ثمّ بيّن أحوال المنافقين منهم بقوله: الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ أي: متشابهة في النفاق و البعد عن الإيمان، كأبعاض الشي ء الواحد. و هو تكذيب لهم فيما حلفوا بِاللَّهِ إِنَّهُمْ لَمِنْكُمْ «2» و تقرير لقوله: وَ ما هُمْ مِنْكُمْ «3»، و ما بعده كالدليل عليه، فإنّه يدلّ على مضادّة حالهم لحال المؤمنين، و هو قوله:

يَأْمُرُونَ بِالْمُنْكَرِ بالكفر و المعاصي وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمَعْرُوفِ عن الإيمان و الطاعات وَ يَقْبِضُونَ أَيْدِيَهُمْ عن المبرّات. و قبض اليد كناية عن الشحّ، أي:

شحّوا بالخيرات أو الصدقات و الإنفاق في سبيل اللّه نَسُوا اللَّهَ أغفلوا ذكر اللّه و تركوا طاعته فَنَسِيَهُمْ فتركهم من لطفه و فضله إِنَّ الْمُنافِقِينَ هُمُ الْفاسِقُونَ الكاملون في التمرّد و الانسلاخ عن دائرة

الخير.

وَعَدَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْكُفَّارَ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أي: مقدّرين الخلود فيها هِيَ حَسْبُهُمْ عقابا و جزاء. و فيه دليل على عظم عذابها، و أنّه لا شي ء أبلغ منه، نعوذ باللّه منها وَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ أبعدهم من رحمته و أهانهم وَ لَهُمْ عَذابٌ و لهم نوع من العذاب سوى الصلي بالنار مُقِيمٌ دائم لا ينقطع في الآخرة عنهم، و هو عذاب النار. أو عذاب مقيم معهم في العاجل لا ينفكّون عنه، و هو ما يقاسونه من تعب النفاق، و ما يخافونه من الفضيحة.

كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ محلّ الكاف رفع، تقديره: أنتم مثل الّذين من قبلكم. أو نصب، تقديره: فعلتم مثل فعل الّذين من قبلكم.

ثمّ بيّن تشبيههم بهم، و مثّل حالهم بحالهم، فقال: كانُوا أَشَدَّ مِنْكُمْ قُوَّةً وَ أَكْثَرَ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً فَاسْتَمْتَعُوا بِخَلاقِهِمْ نصيبهم من ملاذ الدنيا. و اشتقاقه من الخلق

______________________________

(1) أي: قراءة «نعف» و «نعذّب» بالنون. و قرئ بالياء و بناء الفاعل فيهما.

(2) التوبة: 56.

(3) التوبة: 56.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 135

بمعنى التقدير، فإنّه ما قدّر لصاحبه و نصب، أي: أثبت. فَاسْتَمْتَعْتُمْ بِخَلاقِكُمْ كَمَا اسْتَمْتَعَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ بِخَلاقِهِمْ ذمّ الأوّلين بحظوظهم الناقصة من الشهوات الفانية، و التهائهم بها عن النظر في العاقبة، و السعي في تحصيل اللذائذ الحقيقيّة، تمهيدا لذمّ المخاطبين بمشابهتهم و اقتفاء أثرهم.

وَ خُضْتُمْ دخلتم في الباطل كَالَّذِي خاضُوا كالّذين خاضوا. و إفراده باعتبار الفوج أو الخوض، أي: كالفوج الذي خاضوا، أو كالخوض الّذي خاضوا.

أُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ لم يستحقّوا عليها ثوابا في الدارين وَ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ الّذين خسروا أنفسهم في الدنيا و الآخرة.

عن ابن عبّاس أنّه قال في هذه الآية: ما أشبه الليلة بالبارحة،

«كَالَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ» هؤلاء بنو إسرائيل شبّهنا بهم، لا أعلم إلّا

أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «و الذي نفسي بيده لتتبعنّهم، حتّى لو دخل الرجل منهم جحر ضبّ لدخلتموه».

و

روي مثل ذلك عن أبي هريرة، عن أبي سعيد الخدري، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «لتأخذنّ كما أخذت الأمم من قبلكم، ذراعا بذراع و شبرا بشبر و باعا «1» بباع، حتّى لو أنّ أحدا من أولئك دخل جحر الضبّ لدخلتموه. قالوا يا رسول اللّه: كما صنعت فارس و الروم و أهل الكتاب؟ قال: فهل الناس إلّا هم؟!».

و قال عبد اللّه بن مسعود: أنتم أشبه الأمم ببني إسرائيل سمتا و هديا، تتّبعون عملهم حذو القذّة «2» بالقذّة، غير أنّي لا أدري أ تعبدون العجل أم لا؟

و قال حذيفة: المنافقون الّذين فيكم اليوم شرّ من المنافقين الّذين كانوا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. قلنا: و كيف؟ قال: أولئك كانوا يخفون نفاقهم، و هؤلاء أعلنوه. أورد جميعها الثعلبي في تفسيره.

______________________________

(1) الباع: قدر مدّ اليدين، و جمعه أبواع.

(2) القذّة: ريش السهم. و حذو القذّة بالقذّة يضرب مثلا للشيئين يستويان و لا يتفاوتان، كما أن كلّ واحدة من القذّة تقدّر على قدر صاحبتها.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 136

[سورة التوبة (9): آية 70]

أَ لَمْ يَأْتِهِمْ نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ وَ قَوْمِ إِبْراهِيمَ وَ أَصْحابِ مَدْيَنَ وَ الْمُؤْتَفِكاتِ أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (70)

ثمّ قال سبحانه تهديدا للمنافقين: أَ لَمْ يَأْتِهِمْ ألم يأت هؤلاء المنافقين نَبَأُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَوْمِ نُوحٍ أغرقوا بالطوفان وَ عادٍ و قوم عاد أهلكوا بالريح الصرصر

«1» وَ ثَمُودَ و قوم صالح أهلكوا بالرجفة وَ قَوْمِ إِبْراهِيمَ نمرود و أصحابه، فإنّهم أهلكوا بالبعوض وَ أَصْحابِ مَدْيَنَ و أهل مدين، و هم قوم شعيب، أهلكوا بالنار يوم الظلّة وَ الْمُؤْتَفِكاتِ ثلاث قريات قوم لوط، ائتفكت بهم، أي: انقلبت بهم فصار عاليها سافلها، و أمطروا حجارة من سجّيل. و قيل:

قريات المكذّبين المتمرّدين. و ائتفاكهنّ انقلاب أحوالهنّ من الخير إلى الشرّ.

أَتَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالبراهين و الحجج و المعجزات فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ أي: لم يكن من عادة اللّه ما شابه ظلم الناس، كالعقوبة بلا جرم، لأنّه حكيم لا يجوز أن يفعل القبيح وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث عرّضوها للعقاب بالكفر و التكذيب و سائر أنواع المعاصي، و استحقّوا العقاب.

______________________________

(1) الريح الصرصر: الشديدة الهبوب أو البرد.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 137

[سورة التوبة (9): الآيات 71 الى 72]

وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ يُطِيعُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (71) وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (72)

و لمّا ذكر اللّه سبحانه المنافقين و وصفهم بقبيح خصالهم، اقتضت الحكمة أن يذكر المؤمنين و يصفهم بضدّ أوصافهم، ليتّصل الكلام بما قبله اتّصال النقيض بالنقيض، فقال: وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ في مقابلة قوله:

«الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ بَعْضُهُمْ مِنْ بَعْضٍ» أي: يلزم كلّ واحد منهم موالاة بعض و نصرته، فهم يد واحدة على سواهم يَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ يَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ يُطِيعُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ في سائر

الأمور.

أُولئِكَ سَيَرْحَمُهُمُ اللَّهُ لا محالة، فإنّ السين مؤكّدة للوقوع، مفيدة لوجود الرحمة لا محالة. و نحوه: سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا «1» سَوْفَ يُؤْتِيهِمْ أُجُورَهُمْ «2» وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى «3» إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب على كلّ شي ء، لا يمتنع عليه ما يريده، فهو يقدر على الثواب و العقاب حَكِيمٌ يضع الأشياء مواضعها على حسب الاستحقاق.

وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً تستطيبها النفس، أو يطيب فيها العيش. و في الحديث: أنّها قصور

______________________________

(1) مريم: 96.

(2) النساء: 152.

(3) الضحى: 5.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 138

بناها اللّه من اللؤلؤ و الياقوت الأحمر و الزبرجد الأخضر فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ إقامة و خلود.

و في الكشّاف: «هو علم، لما

روى أبو الدرداء عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: عدن دار اللّه تعالى الّتي لم ترها عين، و لم تخطر على قلب بشر، لا يسكنها غير ثلاثة: النبيّون، و الصدّيقون، و الشهداء، يقول اللّه تعالى: طوبى لمن دخلك. و قيل: مدينة في الجنّة.

و قيل: نهر جنّاته على حافّاته» «1».

و في الأنوار: «مرجع العطف فيها يحتمل أن يكون إلى تعدّد الموعود لكلّ واحد، أو للجميع على سبيل التوزيع. أو إلى تغاير وصفه، فكأنّه وصفه أوّلا بأنّه من جنس ما هو أبهى الأماكن الّتي يعرفونها، لتميل إليه طبائعهم أوّل ما يقرع أسماعهم. ثمّ وصفه بأنّه محفوف بطيب العيش، معرّى عن شوائب الكدورات الّتي لا تخلو عن شي ء منها أماكن الدنيا، و فيها ما تشتهي الأنفس و تلذّ الأعين. ثمّ وصفه بأنّه دار إقامة و ثبات في جوار علّيين، لا يعتريهم فيها فناء و لا تغيّر. ثمّ وعدهم بما هو أكبر من ذلك فقال: وَ

رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ و شي ء من رضوان اللّه أكبر من ذلك كلّه، لأنّ رضاه مبدأ لكلّ سعادة، و سبب لكلّ فوز و كرامة» «2».

و

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنّ اللّه تعالى يقول لأهل الجنّة: هل رضيتم؟

فيقولون: و ما لنا لا نرضى و قد أعطيتنا ما لم تعط أحدا من خلقك. فيقول: أنا أعطيكم أفضل من ذلك. قالوا: و أيّ شي ء أفضل من ذلك؟ قال: أحلّ عليكم رضواني، فلا أسخط عليكم أبدا».

ذلِكَ أي: الرضوان، أو جميع ما تقدّم هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الّذي تستحقر دونه الدنيا و ما فيها.

______________________________

(1) الكشّاف 2: 289- 290.

(2) أنوار التنزيل 3: 74.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 139

[سورة التوبة (9): آية 73]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (73)

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالجهاد الّذي هو من أعظم الأسباب الموصلة إلى النعم المذكورة، فقال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ بالسيف وَ الْمُنافِقِينَ بإلزام الحجّة و إقامة الحدود وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ في الجهادين جميعا، و لا ترقّ بهم وَ مَأْواهُمْ و مأوى الفريقين جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ.

[سورة التوبة (9): آية 74]

يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَ لَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا وَ ما نَقَمُوا إِلاَّ أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ خَيْراً لَهُمْ وَ إِنْ يَتَوَلَّوْا يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ ما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (74)

و

روي عن ابن عبّاس: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان جالسا في ظلّ حجرته، فقال: إنّه سيأتيكم إنسان فينظر إليكم نظر الشيطان. فلم يلبثوا أن طلع رجل أزرق، فدعاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: علام تشتمني أنت و أصحابك؟ فانطلق الرجل فجاء بأصحابه، فحلفوا باللّه ما قالوا، فنزلت: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا

ما حكى عنهم وَ لَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ و أظهروا الكفر بعد إظهار الإسلام.

روي: أنّه عليه الصلاة و السلام أقام في غزوة تبوك شهرين ينزل عليه القرآن و يعيب المتخلّفين. فقال الجلاس بن سويد: لئن كان ما يقول محمّد لإخواننا حقّا

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 140

لنحن شرّ من الحمير، كما مرّ «1» آنفا. فبلغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاستحضره، فحلف باللّه

ما قاله، فنزلت هذه الآية. فتاب الجلاس، و حسنت توبته.

و

روي أن اثني عشر أو خمسة عشر منافقا توافقوا عند مرجعه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من تبوك، أن يدفعوه عن راحلته إلى الوادي إذا تسنّم العقبة بالليل، على نحو ما مرّ.

فأخذ عمّار بن ياسر بخطام «2» راحلته يقودها، و حذيفة خلفها يسوقها، كما سبق.

فبينما هما كذلك إذ سمع حذيفة بوقع أخفاف الإبل و قعقعة «3» السلاح، فالتفت فإذا قوم متلثّمون، فقال: إليكم إليكم يا أعداء اللّه، فهربوا.

و

عن الباقر عليه السّلام: ثمانية منهم من قريش، و أربعة من العرب.

فنزلت فيهم: وَ هَمُّوا بِما لَمْ يَنالُوا من قتل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و قيل: نزلت عند إرادتهم إخراجه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إخراج المؤمنين من المدينة، أو عند إرادتهم أن يتوجّوا عبد اللّه بن أبيّ، أي: يجعلوه أميرا و إن لم يرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

وَ ما نَقَمُوا و ما أنكروا و عابوا، أو ما وجدوا ما يورث نقمتهم إِلَّا أَنْ أَغْناهُمُ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ مِنْ فَضْلِهِ فإنّ أكثر أهل المدينة كانوا محاويج في ضنك من العيش، فلمّا قدمهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صاروا ذوي ثروة و غناء بالغنائم. و قتل مولى للجلاس، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بديته اثني عشر ألف درهم، فاستغنى. و الاستثناء مفرّغ من أعمّ المفاعيل أو العلل. و المعنى: أنّهم جعلوا موضع شكر النعمة كفرانها، و كان الواجب عليهم أن يقابلوها بالشكر.

فَإِنْ يَتُوبُوا يَكُ أي: التوب خَيْراً لَهُمْ هو الّذي حمل الجلاس على التوبة وَ إِنْ يَتَوَلَّوْا

بالإصرار على النفاق يُعَذِّبْهُمُ اللَّهُ عَذاباً أَلِيماً فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ

______________________________

(1) في ص: 130.

(2) الخطام: حبل يجعل في عنق البعير و يثنى في خطمه، و هو مقدم أنف الدابة و فمها.

(3) قعقع السلاح: صوت.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 141

بالقتل و النار وَ ما لَهُمْ فِي الْأَرْضِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ فينجيهم من العذاب.

[سورة التوبة (9): الآيات 75 الى 78]

وَ مِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَّ وَ لَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ (75) فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ وَ تَوَلَّوْا وَ هُمْ مُعْرِضُونَ (76) فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ وَ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ (77) أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ وَ نَجْواهُمْ وَ أَنَّ اللَّهَ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (78)

روي أنّ ثعلبة بن حاطب قال: «يا رسول اللّه ادع اللّه أن يرزقني مالا. فقال:

قليل تؤدّي شكره خير من كثير لا تطيقه. فراجعه، فقال: و الّذي بعثك بالحقّ لئن رزقني اللّه مالا لأعطينّ كلّ ذي حقّ حقّه. فدعا له، فاتّخذ غنما فنمت كما ينمي الدود حتّى ضاقت بها المدينة، فنزل واديا و انقطع عن الجماعة و الجمعة. فسأل عنه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقيل: كثر ماله حتى لا يسعه واد، فقال: يا ويح ثعلبة. فبعث رسول اللّه مصدّقين لأخذ الصدقات، فاستقبلهما الناس بصدقاتهم، و مرّا بثعلبة فسألاه و اقرءاه كتاب رسول اللّه الّذي فيه الفرائض، فقال: ما هذه إلّا جزية، ما هذه إلّا أخت الجزية، و قال: ارجعا حتّى أرى رأيي. فلمّا رجعا قال لهما رسول اللّه قبل أن يكلّماه: يا ويح ثعلبة مرّتين. فنزلت: وَ مِنْهُمْ مَنْ عاهَدَ اللَّهَ لَئِنْ آتانا مِنْ فَضْلِهِ لَنَصَّدَّقَنَ

على الفقراء حقوقهم وَ

لَنَكُونَنَّ مِنَ الصَّالِحِينَ بإنفاقه في طاعة اللّه.

فَلَمَّا آتاهُمْ مِنْ فَضْلِهِ بَخِلُوا بِهِ منعوا حقّ اللّه تعالى منه وَ تَوَلَّوْا عن

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 142

طاعة اللّه وَ هُمْ مُعْرِضُونَ و هم قوم عادتهم الإعراض عنها. و بعد نزول هذه الآية جاء ثعلبة بالصدقة،

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ اللّه منعني أن أقبل منك».

فجعل يحثوا التراب على رأسه. فقال: هذا عملك، قد أمرتك فلم تطعني. فقبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فجاء بها إلى أبي بكر فلم يقبلها، ثمّ جاء بها إلى عمر في خلافته فلم يقبلها، و هلك في زمان عثمان.

فَأَعْقَبَهُمْ نِفاقاً فِي قُلُوبِهِمْ أي: فجعل اللّه تعالى عاقبة فعلهم ذلك نفاقا و سوء اعتقاد في قلوبهم، و تخلية و خذلانا، يعني: خذلهم حتّى نافقوا فتمكّن النفاق في قلوبهم، لا ينفكّ عنها إلى أن يموتوا. و عن الحسن و قتادة: أن الضمير للبخل.

و المعنى: فأورثهم البخل نفاقا متمكّنا في قلوبهم إِلى يَوْمِ يَلْقَوْنَهُ يلقون عملهم، أي: جزاءه، و هو يوم القيامة بِما أَخْلَفُوا اللَّهَ ما وَعَدُوهُ بسبب إخلافهم ما وعدوه من التصدّق و الصلاح وَ بِما كانُوا يَكْذِبُونَ و بكونهم كاذبين فيه، فإنّ خلف الوعد متضمّن للكذب مستقبح، و منه جعل خلف «1» الوعد ثلث النفاق. أو في المقال مطلقا.

أَ لَمْ يَعْلَمُوا أي: المنافقون، أو من عاهد اللّه تعالى أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ سِرَّهُمْ ما أسرّوه في أنفسهم من النفاق، أو العزم على الإخلاف وَ نَجْواهُمْ و ما يتناجون به فيما بينهم من المطاعن في الدين، أو تسمية الزكاة جزية وَ أَنَّ اللَّهَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ فلا يخفى عليه ذلك.

[سورة التوبة (9): آية 79]

الَّذِينَ يَلْمِزُونَ الْمُطَّوِّعِينَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَ الَّذِينَ لا

يَجِدُونَ إِلاَّ جُهْدَهُمْ فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (79)

______________________________

(1) في هامش النسخة الخطّية: «لأن المنافق هو الذي إذا وعد أخلف، و إذا ائتمن خان، و إذا حدّث كذب».

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 143

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حثّ على الصدقة فجاء عبد الرحمن بن عوف بأربعين أوقية من ذهب، و قيل: بأربعة آلاف درهم، و قال: كان لي ثمانية آلاف، فأقرضت ربّي أربعة، و أمسكت لعيالي أربعة. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: بارك اللّه لك فيما أعطيت و فيما أمسكت. فبارك اللّه له حتّى صولحت إحدى امرأتيه عن نصف الثمن على ثمانين ألف درهم.

و تصدّق عاصم بن عدي بمائة وسق من تمر. و جاء أبو عقيل الأنصاري بصاع من تمر فقال: بتّ ليلتي أجرّ بالجرير «1» على صاعين، فتركت صاعا لعيالي، و جئت بصاع. فأمره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن ينثره على الصدقات.

فلمزهم المنافقون و قالوا: ما أعطى عبد الرحمن و عاصم إلّا رياء، و لقد كان اللّه و رسوله لغنيّين عن صاع أبي عقيل، و لكنّه أحبّ أن يذكّر بنفسه ليعطى من الصدقات. فنزلت: الَّذِينَ يَلْمِزُونَ ذمّ مرفوع أو منصوب، أو بدل من الضمير في «سرّهم»، أي: الّذين يعيبون و يطعنون الْمُطَّوِّعِينَ المتطوّعين المتبرّعين مِنَ الْمُؤْمِنِينَ فِي الصَّدَقاتِ وَ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ إِلَّا جُهْدَهُمْ إلّا طاقتهم، فيتصدّقون بالقليل فَيَسْخَرُونَ مِنْهُمْ يستهزؤن بهم سَخِرَ اللَّهُ مِنْهُمْ جازاهم على سخريّتهم، كقوله تعالى: اللَّهُ يَسْتَهْزِئُ بِهِمْ «2» وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ على كفرهم.

[سورة التوبة (9): آية 80]

اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ

كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (80)

روي أنّ عبد اللّه بن عبد اللّه بن أبيّ- و كان من المخلصين- سأل رسول

______________________________

(1) في هامش النسخة الخطّية: «الجرير: الحبل الذي يجرّ به البعير. و معناه: استقى للناس على أجر صاعين. منه».

(2) البقرة: 15. زبدة التفاسير، ج 3، ص: 144

اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مرض أبيه- لعنه اللّه- أن يستغفر له، فنزلت: اسْتَغْفِرْ لَهُمْ أَوْ لا تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ

الأمر و النهي في معنى الخبر. و المعنى: لن يغفر اللّه لهم استغفرت أم لم تستغفر لهم. و فيه معنى الشرط و الجزاء. و المراد به المبالغة في اليأس من المغفرة بأنّه لو طلبها طلب المأمور بها و تركها ترك المنهيّ عنها لكان ذلك سواء في أنّ اللّه تعالى لا يفعلها، فيريد التساوي بين الأمرين في عدم الإفادة لهم، كما نصّ عليه بقوله: إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ و قد شاع في كلامهم استعمال السبعة و السبعين و السبعمائة و نحوها في التكثير دون التحديد.

و ما قيل: من أنّه قال: لأزيدنّ على السبعين، فنزلت سواء عليهم استغفرت لهم أم لم تستغفر لن يغفر اللّه لهم. و ذلك لأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فهم من السبعين العدد المخصوص، لأنّه الأصل، فجوّز أن يكون ذلك حدّا يخالفه حكم ما وراءه، فبيّن له أنّ المراد به التكثير دون التحديد.

ضعيف «1»، لأنّه خبر واحد لا يعوّل عليه، لأنّه يتضمّن أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يستغفر للكفّار، و ذلك غير جائز بالإجماع. و كذا

أورد في الآحاد أنّه قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لو

علمت أنّه لو زدت على السبعين مرّة غفر لهم لفعلت.

و يحتمل أن يكون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يرجو أن يكون لهم لطف يصلحون به، فعزم على الاستغفار لهم قبل أن يعلم بكفرهم و نفاقهم. و يمكن أن يكون قد استغفر لهم قبل أن يخبر بأنّ الكافر لا يغفر له، أو قبل أن يمنع منه. و يجوز أن يكون استغفاره لهم واقعا بشرط التوبة من الكفر، فمنعه اللّه منه، و أخبره بأنّهم لا يؤمنون أبدا، فلا فائدة في الاستغفار لهم.

و اللّه أعلم.

ذلِكَ أي: اليأس من المغفرة و عدم جواز استغفارك ليس لبخل منّا، و لا قصور فيك، بل بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ بسبب الكفر الصارف عنها

______________________________

(1) خبر ل «ما قيل» قبل أسطر.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 145

وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ المتمرّدين في كفرهم. و هو كالدليل على الحكم السابق، فإنّ مغفرة الكافر بالإقلاع عن الكفر و الإرشاد إلى الحقّ، و المنهمك في كفره المطبوع عليه لا ينقلع و لا يهتدي. و يجوز أن يكون ذلك تنبيها على عذر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في استغفاره، و هو عدم يأسه عن إيمانهم ما لم يعلم أنّهم مطبوعون على الضلالة، و الممنوع هو الاستغفار بعد العلم، لقوله: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ «1».

[سورة التوبة (9): الآيات 81 الى 83]

فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ وَ كَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ قالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ قُلْ نارُ جَهَنَّمَ أَشَدُّ حَرًّا لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ (81) فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلاً وَ لْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا

يَكْسِبُونَ (82) فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ (83)

ثمّ أخبر سبحانه عن المنافقين المخلّفين عن تبوك و ابتهاجهم بذلك، فقال:

فَرِحَ الْمُخَلَّفُونَ أي: الّذين خلّفهم النبيّ و لم يخرجهم معه إلى تبوك، لأنّهم استأذنوه في التأخّر فأذن لهم، ففرحوا بِمَقْعَدِهِمْ خِلافَ رَسُولِ اللَّهِ بقعودهم عن

______________________________

(1) التوبة: 113.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 146

الغزو خلفه. يقال: أقام خلاف الحيّ، أي بعدهم. و يجوز أن يكون بمعنى المخالفة، لأنّهم خالفوه حيث قعدوا، فيكون انتصابه على العلّة أو الحال، أي: قعدوا عن تبوك لمخالفة رسول اللّه، أو مخالفين.

وَ كَرِهُوا أَنْ يُجاهِدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ إيثارا للدعة و الراحة على طاعة اللّه. و فيه تعريض بالمؤمنين الّذين آثروا عليها تحصيل رضاه ببذل الأموال و المهج وَ قالُوا لا تَنْفِرُوا فِي الْحَرِّ أي: قال بعضهم لبعض، أو قالوه للمؤمنين تثبيطا و إقعادا عن الجهاد. قُلْ نارُ جَهَنَّمَ الّتي وجبت لهم بالتخلّف عن أمر اللّه أَشَدُّ حَرًّا من هذا الحرّ بمراتب غير متناهية، و قد آثرتموها بهذه المخالفة لَوْ كانُوا يَفْقَهُونَ أن مآبهم إليها، أو أنّها كيف اختاروها بإيثار الدعة على الطاعة.

ثمّ أخبر عمّا يئول إليه حالهم في الدنيا و الآخرة: فَلْيَضْحَكُوا قَلِيلًا وَ لْيَبْكُوا كَثِيراً جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ أخرجه على صيغة الأمر للدلالة على أنّه حتم واجب. و يجوز أن يكون الضحك و البكاء كنايتين عن السرور و الغمّ. و المراد من القلّة العدم.

فَإِنْ رَجَعَكَ اللَّهُ إِلى طائِفَةٍ مِنْهُمْ فإن ردّك إلى المدينة و فيها طائفة من المتخلّفين، يعني: منافقيهم، فإنّ كلّهم لم يكونوا منافقين، أو من بقي

منهم، و كان المتخلّفون اثني عشر رجلا أو ثمانية عشر فَاسْتَأْذَنُوكَ لِلْخُرُوجِ إلى غزوة اخرى بعد تبوك فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا إخبار في معنى النهي للمبالغة إِنَّكُمْ رَضِيتُمْ بِالْقُعُودِ أَوَّلَ مَرَّةٍ تعليل له. و كان إسقاطهم عن ديوان الغزاة عقوبة لهم على تخلّفهم. و أوّل مرّة هي الخرجة إلى غزوة تبوك فَاقْعُدُوا مَعَ الْخالِفِينَ أي: المتخلّفين، لعدم لياقتكم للجهاد، كالنساء و الصبيان.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 147

[سورة التوبة (9): الآيات 84 الى 85]

وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ ماتُوا وَ هُمْ فاسِقُونَ (84) وَ لا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ (85)

روي أنّ ابن أبيّ المنافق دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في مرضه، فلمّا دخل عليه سأله أن يستغفر له، و يكفّنه في شعاره الّذي يلي جسده و يصلّي عليه، فلمّا مات أرسل قميصه ليكفّن فيه، و ذهب ليصلّي عليه، فأخذ جبرئيل بثوبه و تلا عليه: وَ لا تُصَلِّ عَلى أَحَدٍ مِنْهُمْ ماتَ أَبَداً

يعني: الموت على الكفر و النفاق.

و اعلم أنّ «مات» وقع صفة للنكرة و هو «أحد». و أتى بصيغة الماضي، و إن كان متعلّق النهي مستقبلا، نظرا إلى وقت إيقاع الصلاة، فإنّه بعد الموت، فيكون الموت ماضيا بالنسبة إليه.

و إنّما قال: «أبدا» و إن كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليس بأبديّ، لأنّ المراد: لا تصلّ أنت و لا أمّتك أبدا، أو يكون المراد أنّهم لا يستحقّون الصلاة أبدا لكفرهم. و الأولى أنّه قيّده بالثانية قطعا لأطماعهم في ذلك،

أو قطعا لتجويز النسخ. و

في بعض الروايات أنّه صلّى عليه، فقال له عمر: أ تصلّي على عدوّ اللّه؟ فقال له: «و ما يدريك ما قلت؟ فإنّي قلت: اللّهمّ احش قبره نارا، و سلّط عليه الحيّات و العقارب».

و إنّما لم ينه عن التكفين في قميصه و نهي عن الصلاة عليه، لأنّ الضنّة بالقميص كان مخلّا بالكرم، و لأنّه كان مكافأة لإلباسه العباس قميصه حين أسر ببدر.

روي أنّه قيل له: لم وجّهت إليه بقميصك و هو كافر؟ فقال: إنّ قميصي لن يغني عنه من اللّه شيئا، و إنّي أؤمّل من اللّه تعالى أن يدخل في الإسلام كثير بهذا السبب. فيروى أنّه أسلم ألف من الخزرج.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 148

وَ لا تَقُمْ عَلى قَبْرِهِ و لا تقف عند قبره للدفن، أو للزيارة و الدعاء.

روي: أنّه عليه السّلام كان إذا صلّى على ميّت وقف على قبره ساعة يدعو له، فنهي عن الأمرين في المنافقين بسبب كفرهم باللّه و موتهم على النفاق،

كما قال عزّ و جلّ إِنَّهُمْ كَفَرُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ ماتُوا وَ هُمْ فاسِقُونَ تعليل للنهي. و الفسق هنا الكفر، لأنّه أعمّ منه، و يجوز إطلاق العامّ على الخاصّ.

وَ لا تُعْجِبْكَ أَمْوالُهُمْ وَ أَوْلادُهُمْ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ أَنْ يُعَذِّبَهُمْ بِها فِي الدُّنْيا وَ تَزْهَقَ أَنْفُسُهُمْ وَ هُمْ كافِرُونَ كرّر للتأكيد. و الأمر حقيق به، فإنّ الأبصار طامحة إلى الأموال و الأولاد، و النفوس مغتبطة عليها. و يجوز أن تكون هذه في فريق غير الأوّل.

[سورة التوبة (9): الآيات 86 الى 89]

وَ إِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ وَ جاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ وَ قالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ (86) رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَ طُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ

(87) لكِنِ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ وَ أُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (88) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (89)

ثمّ بيّن سبحانه تمام أخبار المنافقين، فقال: وَ إِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ من القرآن. و يجوز أن يراد بها بعضها، كما يقع القرآن و الكتاب على كلّه و على بعضه.

أَنْ آمِنُوا بِاللَّهِ بأن آمنوا. و يجوز أن تكون «أن» المفسّرة. وَ جاهِدُوا مَعَ رَسُولِهِ

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 149

اسْتَأْذَنَكَ أُولُوا الطَّوْلِ مِنْهُمْ ذووا الفضل و السعة، من: طال عليه طولا وَ قالُوا ذَرْنا نَكُنْ مَعَ الْقاعِدِينَ الّذين قعدوا عن الحرب.

رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ مع النساء. جمع خالفة. و قد يقال: الخالفة للّذي لا خير فيه. وَ طُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ خذلانا و تخلية فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ ما في الجهاد و موافقة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من السعادة، و ما في التخلّف عنه من الشقاوة.

لكِنِ الرَّسُولُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ أي: إن تخلّف هؤلاء و لم يجاهدوا فقد جاهد من هو خير منهم وَ أُولئِكَ لَهُمُ الْخَيْراتُ منافع الدارين: النصر و الغنيمة في الدنيا، و الجنّة و الكرامة في الآخرة. و قيل: الحور، لقوله تعالى: فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ «1». و هي جمع خيرة تخفيف خيّرة. وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالمطالب.

ثمّ بيّن ما لهم من الخيرات الأخرويّة بقوله: أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ

[سورة التوبة (9): آية 90]

وَ جاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ وَ قَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (90)

روي أنّ أسدا و

غطفان استأذنوا في التخلّف، معتذرين بالجهد و كثرة العيال، فنزلت فيهم: وَ جاءَ الْمُعَذِّرُونَ مِنَ الْأَعْرابِ لِيُؤْذَنَ لَهُمْ في التخلّف. و قيل: هم رهط عامر بن الطفيل قالوا: إن غزونا معك أغارت طيّ على أهالينا و مواشينا.

و المعذّر إمّا من: عذّر في الأمر إذا قصّر فيه موهما أنّ له عذرا و لا عذر له، أو من: اعتذر إذا مهّد العذر، بإدغام التاء في الذال و نقل حركتها إلى العين. و قرأ

______________________________

(1) الرحمن: 70.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 150

زبدة التفاسير ج 3 199

يعقوب: المعذرون.

وَ قَعَدَ الَّذِينَ كَذَبُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ نزل في غيرهم، و هم منافقوا الأعراب كذبوا اللّه و رسوله في ادّعاء الايمان. و إن كانوا هم الأوّلين فكذبهم بالاعتذار.

سَيُصِيبُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ من الأعراب أو من المعذّرين، فإنّ منهم من اعتذر لكسله لا لكفره عَذابٌ أَلِيمٌ بالقتل و النار.

[سورة التوبة (9): الآيات 91 الى 93]

لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ وَ لا عَلَى الْمَرْضى وَ لا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ حَرَجٌ إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (91) وَ لا عَلَى الَّذِينَ إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ تَوَلَّوْا وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ حَزَناً أَلاَّ يَجِدُوا ما يُنْفِقُونَ (92) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَ هُمْ أَغْنِياءُ رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ وَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (93)

قيل: إنّ عبد اللّه بن أمّ مكتوم- و كان ضرير البصر- جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا نبيّ اللّه إنّي شيخ ضرير خفيف الحال خفيف الجسم و ليس لي قائد، فهل لي رخصة في التخلّف عن الجهاد؟ فسكت النبيّ صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم، فنزلت: لَيْسَ عَلَى الضُّعَفاءِ

هم الّذين قوّتهم ناقصة بالزمانة و العجز، كالهرمى «1» وَ لا عَلَى الْمَرْضى هم أصحاب العلل المانعة من الخروج وَ لا عَلَى الَّذِينَ لا يَجِدُونَ ما يُنْفِقُونَ

______________________________

(1) جمع الهرم، و هو الضعيف البالغ أقصى الكبر.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 151

لفقرهم، كجهينة و مزينة و بني عذرة حَرَجٌ إثم في التأخّر إِذا نَصَحُوا لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ خلصوا للّه و لرسوله بالإيمان و الطاعة في السرّ و العلانية، كما يفعل الموالي الناصح، أو بما قدروا عليه فعلا أو قولا يعود على الإسلام و المسلمين بالصلاح.

ما عَلَى الْمُحْسِنِينَ مِنْ سَبِيلٍ أي: ليس عليهم جناح، و لا إلى معاتبتهم سبيل المؤاخذة. و إنّما وضع المحسنين موضع الضمير للدلالة على أنّهم منخرطون في سلك المحسنين، غير معاتبين لذلك. وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ لهم أو للمسي ء، فكيف المحسن؟!

روي أنّ سبعة من الأنصار: معقل بن يسار، و صخر بن خنساء، و عبد اللّه بن كعب، و سالم بن عمير، و ثعلبة بن غنمة، و عبد اللّه بن مغفل، و علية بن زيد، أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قالوا: نذرنا الخروج فاحملنا على الخفاف المرفوعة و النعال المخصوفة نغز معك. فقال: لا أجد. فتولّوا و هم يبكون.

فنزلت فيهم:

وَ لا عَلَى الَّذِينَ عطف على الضعفاء، أو على المحسنين إِذا ما أَتَوْكَ لِتَحْمِلَهُمْ أي: جاؤا يسألونك مركبا يركبونه فيخرجون معك إلى الجهاد، إذ ليس معهم من الأموال و الظهر ما يمكنهم للخروج في سبيل اللّه قُلْتَ لا أَجِدُ ما أَحْمِلُكُمْ عَلَيْهِ حال من الكاف في أتوك بإضمار «قد» تَوَلَّوْا جواب «إذا» أي: رجعوا عنك وَ أَعْيُنُهُمْ تَفِيضُ مِنَ الدَّمْعِ أي:

من دمعها، فإنّ «من» للبيان، و هي مع المجرور في محلّ النصب على التمييز. و هذا ابلغ من: يفيض دمعها، لأنّه يدلّ على أنّ العين جعلت كأنّ كلّها دمعا فيّاضا حَزَناً نصب على العلّة أو الحال أو المصدر لفعل دلّ عليه ما قبله أَلَّا يَجِدُوا متعلّق ب «حزنا» أو ب «تفيض» على تقدير اللام، أي: لئلّا يجدوا ما يُنْفِقُونَ في مغزاهم.

عن الواقدي: أنّهم لمّا بكوا كثيرا حمل عثمان منهم رجلين، و العبّاس بن

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 152

عبد المطّلب رجلين، و يامين بن كعب النضري ثلاثة.

إِنَّمَا السَّبِيلُ بالمعاتبة عَلَى الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ وَ هُمْ أَغْنِياءُ واجدون الأهبة رَضُوا بِأَنْ يَكُونُوا مَعَ الْخَوالِفِ استئناف لبيان ما هو السبب لاستئذانهم من غير عذر، كأنّه قيل: ما بالهم استأذنوا و هم أغنياء؟ فقيل: رضوا بالدناءة و الانتظام في سلك الخوالف إيثارا للدعة وَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ خذلانا و تخلية حتّى غفلوا عن وخامة العاقبة فَهُمْ لا يَعْلَمُونَ عاقبته في التخلّف.

[سورة التوبة (9): الآيات 94 الى 96]

يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ قُلْ لا تَعْتَذِرُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ مِنْ أَخْبارِكُمْ وَ سَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (94) سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إِنَّهُمْ رِجْسٌ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (95) يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ (96)

قيل: إنّ ثمانين رجلا من المنافقين، منهم جدّ بن قيس و معتب بن قشير، اعتذروا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في تخلّفهم لمّا قدم راجعا من تبوك، فقال: لا تجالسوهم و لا تكلّموهم، فنزلت: يَعْتَذِرُونَ إِلَيْكُمْ

في التخلّف بالأباطيل إِذا رَجَعْتُمْ إِلَيْهِمْ من هذا السفر قُلْ لا تَعْتَذِرُوا بالمعاذير الكاذبة، لأنّه لَنْ نُؤْمِنَ لَكُمْ لن نصدّقكم، لأنّه قَدْ نَبَّأَنَا اللَّهُ أعلمنا بالوحي مِنْ أَخْبارِكُمْ بعض أخباركم، و هو

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 153

ما في ضمائركم من الشرّ و الفساد وَ سَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ أ تتوبون عن الكفر أم تثبتون عليه؟ فكأنّه استتابة و إمهال للتوبة ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ أي: إليه، فوضع الوصف موضع الضمير، للدلالة على أنّه مطّلع على سرّهم و علنهم، لا يفوت عن علمه شي ء من ضمائرهم و أعمالهم فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بالتوبيخ و العقاب عليه.

سَيَحْلِفُونَ بِاللَّهِ لَكُمْ إِذَا انْقَلَبْتُمْ إِلَيْهِمْ لِتُعْرِضُوا عَنْهُمْ لتصفحوا عن جرمهم، فلا تعاتبوهم و لا تعنّفوهم فَأَعْرِضُوا عَنْهُمْ إعراض ردّ و إنكار و تكذيب، فلا توبّخوهم إِنَّهُمْ رِجْسٌ نجس كالشي ء الخبيث الّذي يجب الاجتناب عنه، فاجتنبوهم كما تجتنب الأنجاس، فإنّه لا ينفع فيهم التوبيخ و التعيير، فإن المقصود منه التطهير بالحمل على الإنابة، و هؤلاء أرجاس لا تقبل التطهير، فهو علّة الإعراض و ترك المعاتبة وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ من تمام التعليل، و كأنّه قال: إنّهم أرجاس من أهل النار لا ينفع فيهم التوبيخ و العتاب في الدنيا و الآخرة. أو تعليل ثان، و المعنى: أنّ النار كفتهم عتابا، فلا تتكلّفوا عتابهم جَزاءً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ يجوز أن يكون مصدرا، و أن يكون علّة.

يَحْلِفُونَ لَكُمْ لِتَرْضَوْا عَنْهُمْ بحلفهم، فتستديموا عليهم ما كنتم تفعلون بهم فَإِنْ تَرْضَوْا عَنْهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَرْضى عَنِ الْقَوْمِ الْفاسِقِينَ أي: فإنّ رضاكم لا يستلزم رضا اللّه، و رضاكم وحدكم لا ينفعهم إذا كانوا في سخط اللّه تعالى و عقابه. أو إن أمكنهم أن يلبسوا

عليكم، لا يمكنهم أن يلبسوا على اللّه تعالى، فلا يهتك سترهم، و لا ينزل الهوان بهم. و المقصود من الآية النهي عن الرضا عنهم و الاغترار بمعاذيرهم، بعد الأمر بالإعراض و عدم الالتفات نحوهم.

و في هذه الآية دلالة على أنّ من طلب بفعله رضا الناس و لم يطلب رضا اللّه تعالى، فإنّ اللّه يسخط الناس عليه، كما

جاء في الحديث عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال:

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 154

«من التمس رضا اللّه بسخط الناس رضي اللّه عنه و أرضى عنه الناس، و من التمس رضا الناس بسخط اللّه سخط اللّه عليه و أسخط عليه الناس».

[سورة التوبة (9): الآيات 97 الى 99]

الْأَعْرابُ أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً وَ أَجْدَرُ أَلاَّ يَعْلَمُوا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (97) وَ مِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ مَغْرَماً وَ يَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (98) وَ مِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ عِنْدَ اللَّهِ وَ صَلَواتِ الرَّسُولِ أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (99)

و لمّا تقدّم ذكر المنافقين بيّن سبحانه أنّ الأعراب منهم أشدّ في ذلك و أكثر جهلا، فقال: الْأَعْرابُ أهل البدو أَشَدُّ كُفْراً وَ نِفاقاً من أهل الحضر، لتوحّشهم و قساوتهم، و عدم مخالطتهم لأهل العلم، و قلّة استماعهم للكتاب و السنّة وَ أَجْدَرُ أَلَّا يَعْلَمُوا و أحقّ و أحرى بأن لا يعلموا حُدُودَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ من الشرائع، فرائضها و سننها وَ اللَّهُ عَلِيمٌ يعلم حال كلّ أحد من أهل الوبر و المدر حَكِيمٌ فيما يصيب به مسيئهم و محسنهم عقابا و

ثوابا.

وَ مِنَ الْأَعْرابِ و من منافقي الأعراب مَنْ يَتَّخِذُ يعدّ ما يُنْفِقُ يصرفه في سبيل اللّه و يتصدّق به مَغْرَماً غرامة و خسرانا، و لا يحتسبه عند اللّه تعالى، و لا يرجو عليه ثوابا، و إنّما ينفق رياء أو تقيّة من أهل الإسلام، لا

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 155

لوجه اللّه وَ يَتَرَبَّصُ بِكُمُ الدَّوائِرَ دوائر الزمان و حوادث الأيّام و عواقب الأمور من نوب الشدائد، لينقلب الأمر عليكم، و تذهب غلبتكم عليه، فيتخلّص من الإنفاق.

عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ اعتراض بالدعاء عليهم بنحو ما يتربّصون، من قبيل:

وَ قالَتِ الْيَهُودُ يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ غُلَّتْ أَيْدِيهِمْ وَ لُعِنُوا «1». أو بالإخبار عن وقوع ما يتربّصون عليهم. و الدائرة في الأصل مصدر، أو اسم فاعل من: دار يدور. و سمّي به عقبة الزمان. و السّوء بالفتح مصدر أضيف إليه للمبالغة، كقولك: رجل صدق. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو: السّوء، هنا و في الفتح «2» بضمّ السين، و هو العذاب.

وَ اللَّهُ سَمِيعٌ لما يقولون عند الإنفاق عَلِيمٌ بما يضمرون. قيل: هم أعراب أسد و غطفان و تميم.

ثمّ بيّن سبحانه من الأعراب المؤمنين المخلصين، فقال: وَ مِنَ الْأَعْرابِ مَنْ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ يَتَّخِذُ ما يُنْفِقُ قُرُباتٍ سبب قربات. و هي ثاني مفعولي «يتّخذ» عِنْدَ اللَّهِ صفتها، أو ظرف ل «يتّخذ» وَ صَلَواتِ الرَّسُولِ و سبب صلواته، لأنّه كان يدعو للمتصدّقين بالخير و البركة و يستغفر لهم،

كقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اللّهمّ صلّ على آل أبي أوفى، لمّا أتاه أبو أوفى بصدقته.

أَلا إِنَّها قُرْبَةٌ لَهُمْ تقرّبهم إلى ثواب اللّه. و هذا شهادة من اللّه تعالى بصحّة معتقدهم، و تصديق لرجائهم على الاستئناف، مع حرف التنبيه، و

«إنّ» المحقّقة للنسبة، و الضمير لنفقتهم. و قرأ ورش: قربة بضمّ الراء. سَيُدْخِلُهُمُ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ وعد لهم بإحاطة الرحمة عليهم. و السين لتحقيقه. و قوله: إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لتقريره. و هذه الآية في عبد اللّه ذي البجادين و رهطه.

______________________________

(1) المائدة: 64.

(2) الفتح: 6.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 156

[سورة التوبة (9): آية 100]

وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ مِنَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (100)

و لمّا تقدّم ذكر الأعراب بقسميهم، عقّبه بذكر السابقين إلى الايمان، فقال:

وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ أي: السابقون إلى الايمان و إلى الطاعات. و إنّما مدحهم بالسبق لأنّ السابق إلى شي ء يتبعه غيره، فيكون متبوعا و غير تابع له، فهو إمام فيه و داع إلى الخير بسبقه إليه، و كذلك من سبق إلى الشرّ يكون أسوأ حالا لهذه العلّة.

مِنَ الْمُهاجِرِينَ من الّذين هاجروا من مكّة إلى المدينة و إلى الحبشة.

و هؤلاء السابقون هم الّذين صلّوا إلى القبلتين. و قيل: الّذين شهدوا بدرا، أو الّذين أسلموا قبل الهجرة.

وَ الْأَنْصارِ الّذين سبقوا نظراءهم من أهل المدينة إلى الإسلام. و هم أهل بيعة العقبة الأولى، و كانوا سبعة أو اثني عشر رجلا، و أهل العقبة الثانية، و كانوا سبعين. و الّذين آمنوا حين قدم عليهم مصعب بن عمير، فعلّمهم القرآن.

وَ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُمْ بِإِحْسانٍ لحقوا بالسابقين من القبيلتين، أو من اتّبعوهم بالإيمان و الطاعة إلى يوم القيامة.

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بقبول طاعتهم و ارتضاء أعمالهم وَ رَضُوا عَنْهُ بما نالوا من نعمه الدينيّة و الدنيويّة وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي تَحْتَهَا الْأَنْهارُ. و قرأ ابن كثير: من تحتها، كما هو في سائر المواضع.

خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ الّذي يصغر في جنبه كلّ نعيم.

قال في المجمع: «و في هذه الآية دلالة على فضل السابقين و مزيّتهم على

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 157

غيرهم، لما لحقهم من أنواع المشقّة في نصرة الدين، فمنها مفارقة العشائر و الأقربين، و منها مباينة المألوف من الدين، و منها نصرة الإسلام مع قلّة العدد و كثرة العدوّ، و منها السبق إلى الايمان و الدعاء إليه.

و اختلف في أوّل من أسلم من المهاجرين. قيل: أوّل من آمن خديجة بنت خويلد، ثمّ عليّ بن أبي طالب. و هو قول ابن عبّاس، و جابر بن عبد اللّه، و أنس، و زيد بن أرقم، و مجاهد، و قتادة، و ابن إسحاق، و غيرهم.

و

قال أنس: بعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم الاثنين، و أسلم عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و صلّى خلف رسول اللّه يوم الثلاثاء.

و

قال مجاهد و ابن إسحاق: إنّه أسلم و هو ابن عشر سنين، و كان مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أخذه من أبي طالب و ضمّه إلى نفسه يربّيه في حجره، و كان معه حتّى بعث نبيّا.

و قال الكلبي: إنّه أسلم و له تسع سنين. و قيل: اثنتا عشرة سنة، عن أبي الأسود. قال السيّد أبو طالب الهروي: و هو الصحيح.

و

في تفسير الثعلبي روى إسماعيل بن أياس بن عفيف، عن أبيه، عن جدّه عفيف، قال: كنت امرءا تاجرا فقدمت مكّة أيّام الحجّ، فنزلت على العبّاس بن عبد المطّلب، و كان العبّاس لي صديقا، و كان يختلف إلى اليمن يشتري العطر فيبيعه أيّام الموسم. فبينما أنا و العبّاس بمنى إذ جاء رجل شابّ حين حلّقت

«1» الشمس في السماء فرمى ببصره إلى السماء، ثمّ استقبل الكعبة فقام مستقبلها، فلم يلبث حتى جاء غلام فقام عن يمينه، فلم يلبث أن جاءت امرأة فقامت خلفهما، فركع الشابّ فركع الغلام و المرأة، فخرّ الشابّ ساجدا فسجدا معه، فرفع الشابّ فرفع الغلام و المرأة.

______________________________

(1) أي: ارتفعت. زبدة التفاسير، ج 3، ص: 158

فقلت: يا عبّاس أمر عظيم.

فقال: أمر عظيم.

فقلت: ويحك ما هذا؟

فقال: هذا ابن أخي محمّد بن عبد اللّه بن عبد المطّلب يزعم أنّ اللّه بعثه رسولا، و أنّ كنوز كسرى و قيصر ستفتح عليه، و هذا الغلام عليّ بن أبي طالب، و هذه المرأة خديجة بنت خويلد زوجة محمّد، تابعاه على دينه، و أيم اللّه ما على ظهر الأرض كلّها أحد على هذا الدين غير هؤلاء.

فقال عفيف الكندي بعد ما أسلم و رسخ الإسلام في قلبه: يا ليتني كنت رابعا.

و

روي أنّ أبا طالب قال لعليّ عليه السّلام: أي: بنيّ ما هذا الدين الّذي أنت عليه؟

قال: يا أبة آمنت باللّه و رسوله، و صدّقته فيما جاء به، و صلّيت معه للّه. فقال له: ألا إنّ محمّدا لا يدعو إلّا إلى خير فالزمه.

و

روى عبيد اللّه بن موسى، عن العلاء بن صالح، عن المنهال بن عمرو، عن عباد بن عبد اللّه، قال: سمعت عليّا عليه السّلام يقول: «أنا عبد اللّه و أخو رسوله، و أنا الصدّيق الأكبر، لا يقولها بعدي إلّا كذّاب مفتر، صلّيت قبل الناس سبع سنين».

و

في مسند السيّد أبي طالب الهروي مرفوعا إلى أبي أيّوب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «صلّت الملائكة عليّ و على عليّ سبع سنين، و ذلك أنّه لم يصلّ فيها أحد غيري و غيره».

و قيل: إنّ أوّل

من أسلم بعد خديجة أبو بكر. عن إبراهيم النخعي. و قيل: أوّل من أسلم بعدها زيد بن حارثة. عن الزهري و سليمان بن يسار و عروة بن أبي الزبير.

و

روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني «1» بإسناده مرفوعا إلى عبد الرحمن بن

______________________________

(1) شواهد التنزيل 1: 333 ح 342. زبدة التفاسير، ج 3، ص: 159

عوف في قوله تعالى: «وَ السَّابِقُونَ الْأَوَّلُونَ» قال: «هم عشرة من قريش، أوّلهم إسلاما عليّ بن أبي طالب عليه السّلام» «1».

[سورة التوبة (9): آية 101]

وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ مِنَ الْأَعْرابِ مُنافِقُونَ وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ لا تَعْلَمُهُمْ نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ (101)

ثمّ عاد الكلام إلى ذكر المنافقين، فقال: وَ مِمَّنْ حَوْلَكُمْ من جملة من حول بلدتكم، يعني: المدينة مِنَ الْأَعْرابِ الّذين يسكنون البدو مُنافِقُونَ و هم جهينة و مزينة و أسلم و أشجع و غفار، كانوا نازلين حولها وَ مِنْ أَهْلِ الْمَدِينَةِ عطف على خبر المبتدأ الّذي هو «ممّن حولكم». و يجوز أن يكون جملة معطوفة على المبتدأ و الخبر إذا قدّرت: و من أهل المدينة قوم. مَرَدُوا عَلَى النِّفاقِ أي تمرّنوا على النفاق، من قولهم: مرن فلان على عمله و مرد عليه، إذا درب به حتّى لان عليه و مهر فيه. فعلى الوجه الأخير «مردوا» صفة موصوف محذوف. و نظيره في حذف الموصوف و إقامة الصفة مقامه، قوله: أنا ابن جلا و طلّاع الثنايا، أي: أنا ابن رجل جلا و وضح أمره. و على الأوّل صفة للمنافقين فصّل بينها و بينه بالمعطوف على الخبر، أو كلام مبتدأ لبيان تمرّنهم و تمهّرهم في النفاق.

و دلّ على مهارتهم في النفاق قوله: لا تَعْلَمُهُمْ لا تعرفهم بأعيانهم، أي:

مهارتهم فيه و تنوّقهم في

تحامي مواقع التهم إلى حدّ أخفى عليك حالهم، مع كمال فطنتك و صدق فراستك.

______________________________

(1) مجمع البيان 5: 64- 65.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 160

ثمّ قال: نَحْنُ نَعْلَمُهُمْ لا يعلمهم إلّا اللّه المطّلع على البواطن، لأنّهم يبطنون الكفر في ضمائرهم، و يظهرون لك الايمان و ظاهر الإخلاص الّذي لا تشكّ في أمرهم، فهم و إن لبسوا عليك لكن لم يقدروا أن يلبسوا علينا.

سَنُعَذِّبُهُمْ مَرَّتَيْنِ بالفضيحة و القتل على أيدي الملائكة، أو بأحدهما و عذاب القبر، أو بأخذ الزكاة و نهك الأبدان.

عن ابن عبّاس أنّهم اختلفوا في هاتين المرّتين فقال: قام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خطيبا يوم الجمعة، فقال: اخرج يا فلان فإنّك منافق، اخرج يا فلان فإنّك منافق، و أخرج ناسا و فضحهم، فهذا العذاب الأوّل، و الثاني عذاب القبر.

ثُمَّ يُرَدُّونَ إِلى عَذابٍ عَظِيمٍ هو عذاب النار.

[سورة التوبة (9): آية 102]

وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ خَلَطُوا عَمَلاً صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (102)

روي أنّ ثلاثة من المتخلّفين و هم: أبو لبابة مروان بن عبد المنذر و أوس بن ثعلبة و وديعة بن حزام، أو عشرة، و قيل: سبعة منهم هؤلاء الثلاثة، لمّا سمعوا ما نزل في المتخلّفين عن تبوك أيقنوا بالهلاك، و أوثقوا أنفسهم على سواري المسجد توبة و ندما على فعلهم، و كان سبب تأخّرهم اشتغالهم بإصلاح أموالهم. فقدم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فدخل المسجد فصلّى ركعتين، و كانت عادته كلّما قدم من سفر فرآهم موثقين فسأل عنهم، فذكر له أنّهم أقسموا أن لا يحلّوا أنفسهم حتّى يكون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هو الّذي يحلّهم. فقال: و

أنا أقسم أن لا أحلّهم حتّى اومر فيهم، فنزلت:

وَ آخَرُونَ اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ

و لم يعتذروا من تخلّفهم بالمعاذير الكاذبة خَلَطُوا عَمَلًا صالِحاً وَ آخَرَ سَيِّئاً أي: خلطوا العمل الصالح الّذي هو إظهار الندم و الاعتراف بالذنب، بآخر سيّ ء هو التخلّف و موافقة أهل النفاق. و الواو إما بمعنى الباء، كما في قولهم: بعت الشاء شاة و درهما، أي: بدرهم، أو واقعة بمعناه الأصلي

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 161

للدلالة على أنّ كلّ واحد منهما مخلوط بالآخر، كما تقول: خلطت الماء و اللبن، تريد خلطت كلّ واحد منهما بصاحبه، و فيه ما ليس في قولك: خلطت الماء باللبن، لأنّك جعلت الماء مخلوطا و اللبن مخلوطا به، و إذا قلته بالواو جعلت الماء و اللبن مخلوطين و مخلوطا بهما، كأنّك قلت: خلطت الماء باللبن و اللبن بالماء.

و فيه دلالة على بطلان القول بالإحباط، لأنّه لو كان أحد العملين محبطا لم يكن لقوله: «خلطوا» معنى، لأنّ الخلط يستعمل في الجمع مع امتزاج، كخلط الماء و اللبن، و بغير امتزاج، كخلط الدنانير و الدراهم.

عَسَى اللَّهُ أَنْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ أن يقبل توبتهم. و هي مدلول عليها بقوله:

«اعْتَرَفُوا بِذُنُوبِهِمْ». إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يتجاوز عن التائب و يتفضّل عليه.

[سورة التوبة (9): الآيات 103 الى 105]

خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ وَ تُزَكِّيهِمْ بِها وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (103) أَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (104) وَ قُلِ اعْمَلُوا فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ سَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (105)

روي أنّه لمّا نزلت هذه الآية أطلقهم رسول صلّى اللّه عليه و

آله و سلّم بنفسه النفيسة، و لمّا أطلقوا قالوا: يا رسول اللّه هذه أموالنا الّتي خلّفتنا فتصدّق بها و طهّرنا. فقال: ما أمرت أن آخذ من أموالكم شيئا، فنزلت: خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ صَدَقَةً تُطَهِّرُهُمْ

من الذنوب، أو حبّ المال المؤدّي بهم إلى مثله. و الفعل صفة للصدقة، أي: صدقة مطهّرة. و يجوز

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 162

أن يكون التاء للخطاب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أي: تطهّرهم أنت.

وَ تُزَكِّيهِمْ بِها و تنمي بها حسناتهم، و ترفعهم إلى منازل المخلصين. و قيل:

التزكية بمعنى التطهير تأكيدا. و لا شبهة أنّ التأسيس أولى. و إنّما لم يجزم الفعلين ليكون جوابا للأمر، لأنّ في جعلهما صفتين فائدة زائدة، و هي أنّ المأمور أخذ صدقة مطهّرة، و هي الّتي تكون عن طيب نفس و انشراح صدر بنيّة خالصة، لا مطلق الصدقة، و مع الجزم لا يفيد إلّا مطلق الصدقة. فعلى هذا تكون التاء للخطاب.

وَ صَلِّ عَلَيْهِمْ و ترحّم عليهم بالدعاء لهم بقبول صدقاتهم و الاستغفار لهم إِنَّ صَلاتَكَ سَكَنٌ لَهُمْ هو ما يسكن إليه. و المراد أنّهم تسكن إليها نفوسهم، و تطمئنّ بها قلوبهم، و تطيب بقبول صدقتهم. و جمعها لتعدّد المدعوّ لهم. و قرأ حمزة و الكسائي و حفص بالتوحيد. وَ اللَّهُ سَمِيعٌ باعترافهم بذنوبهم عَلِيمٌ بما في ضمائرهم من الندم و الغمّ لما فرط منهم.

و الأمر للوجوب عند أكثر أصحابنا، و عند آخرين للندب. و هذه مسألة أصوليّة، من أراد تحقيقها فليرجع إلى الكتب الأصوليّة. و هذا الحكم ثابت في أئمّتنا عليهم السّلام القائمين مقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، بل في الفقير و الساعي، للتاسّي، و لجريان علّة الصلاة فيهم،

و هي تطييب النفوس و طمأنينة القلوب.

قال الزهري بعد ذكر ما تقدّم: قال أبو لبابة: يا رسول اللّه إنّ من توبتي أن أهجر دار قومي الّتي أصبت فيها الذنب، و أنا انخلع من مالي كلّه. قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

يجزيك يا أبا لبابة الثلث. فأخذ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثلث أموالهم و ترك الثلثين،

لأنّ اللّه تعالى قال: «خُذْ مِنْ أَمْوالِهِمْ» و لم يقل: خذ أموالهم.

و عن الحسن: المراد بها الأمر بأن يأخذ الصدقة من أموال هؤلاء التائبين تشديدا للتكليف، و ليست بالصدقة المفروضة، بل هي على سبيل الكفّارة للذنوب الّتي أصابوها.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 163

و عن الجبّائي و أكثر المفسّرين أنّ المراد بهذه الصدقة الصدقة المفروضة، أعني: الزكاة. و هو الظاهر، لأنّ حمله على الخصوص بغير دليل لا وجه له، فيكون أمرا بأن يأخذ من المالكين للنصاب الزكاة من الورق إذا بلغ مائتي درهم، و من الذهب إذا بلغ عشرين مثقالا، و من الإبل إذا بلغ خمسا، و من البقر إذا بلغت ثلاثين، و من الغنم إذا بلغت أربعين، و من الغلّات الأربع إذا بلغت خمسة أوسق.

أَ لَمْ يَعْلَمُوا الضمير إمّا للمتوب عليهم، و الهمزة للتقرير و التنبيه على وجوب علمهم بأنّ اللّه تعالى هو يقبل التوبة، و هو الّذي يأخذ الصدقة. و المعنى: ألم يعلموا قبول توبتهم- قبل أن يتوب عليهم و تقبل صدقاتهم- و الاعتداد بصدقاتهم.

أو الضمير لغيرهم، و المراد به التحضيض عليهما.

أَنَّ اللَّهَ هُوَ يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ إذا صحّت. و تعديته ب «عن» لتضمّنه معنى التجاوز. وَ يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ يقبلها إذا صدرت عن خلوص النيّة، قبول من يأخذ شيئا ليؤدّي بدله وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ

التَّوَّابُ الرَّحِيمُ و أنّ من شأنه قبول توبة التائبين و التفضّل عليهم.

و يجوز أن تكون الهمزة للإنكار لعدم علمهم، و ذلك أنّهم لمّا سألوا الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يأخذ أموالهم و يقبل توبتهم كما تقدّم ذكره، و لم يعلموا أنّه لا يقبل التوبة غير اللّه و لا يأخذ الصدقة إلّا هو، أنكر ذلك عليهم. و فائدة لفظ «هو» للحصر، أي: لا يقبل إلّا هو.

و في الآية من المبالغة في وجوب العلم بقبول التوبة و أخذ الصدقة، و أنّه كثير القبول للتوبة و رحيم بعباده، ما يظهر لمن تدبّر تركيبها بإيراد الاستفهام بالمعنيين المذكورين، و إردافه بالعلم، ثمّ الإتيان بالجملة المؤكّدة ب «أنّ» و أداة الحصر، و ذلك غاية رأفته بعباده و رحمته لهم.

وَ قُلِ اعْمَلُوا ما شئتم فَسَيَرَى اللَّهُ عَمَلَكُمْ فإنّه لا يخفى عليه، خيرا كان

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 164

أو شرّا وَ رَسُولُهُ وَ الْمُؤْمِنُونَ فإنّه تعالى لا يخفى عنهم كما رأيتم و تبيّن لكم.

و إنّما أدخل السين لأنّ ما لم يحدث لا تتعلّق به الرؤية، فكأنّه قال: كلّ ما تعملونه يراه اللّه تعالى. و قيل: أراد بالمؤمنين الشهداء. و قيل: الملائكة الّذين هم الحفظة الّذين يكتبون الأعمال. و

روى أصحابنا أنّ أعمال الأمّة تعرض على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في كلّ اثنين و خميس فيعرفها، و كذلك تعرض على أئمّة الهدى عليهم السّلام القائمين مقامه فيعرفونها،

و هم المعنيّون بقوله: «و المؤمنون». وَ سَتُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ بالموت فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بالمجازاة عليه.

[سورة التوبة (9): آية 106]

وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ لِأَمْرِ اللَّهِ إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ وَ إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (106)

روي أنّ كعب بن مالك

و هلال بن أميّة و مرارة بن الربيع- و هم من الأوس و الخزرج- لمّا انصرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إليهم من تبوك، أتوا عنده و قالوا: يا رسول اللّه ما لنا من عذر، و لم نعتذر إليك بالكذب، و إنّما تخلّفنا توانيا عن الاستعداد حتّى فاتنا المسير. فقال: صدقتم قوموا حتّى يقضي اللّه حكمه. فنهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن مكالمتهم، و أمر نساءهم باعتزالهم، حتّى ضاقت عليهم الأرض بما رحبت. فأقاموا على ذلك خمسين ليلة، و بنى كعب خيمة على سلع «1» يكون فيها وحده.

فنزلت فيهم:

وَ آخَرُونَ من المتخلّفين مُرْجَوْنَ مؤخّرون، أي: موقوف أمرهم، من: أرجأته إذا أخّرته. و قرأ نافع و حمزة و الكسائي و حفص: مرجون بالواو. و هما لغتان «2». لِأَمْرِ اللَّهِ في شأنهم إِمَّا يُعَذِّبُهُمْ إن بقوا على الإصرار على النفاق

______________________________

(1) السلع: جبل بالمدينة.

(2) أي: قراءة مرجئون بالهمز و مرجون.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 165

و لم يتوبوا وَ إِمَّا يَتُوبُ عَلَيْهِمْ إن تابوا. و الترديد للعباد. وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بأحوالهم حَكِيمٌ فيما يفعل بهم. و لمّا أخلصوا نيّاتهم و فوّضوا أمرهم إلى اللّه تعالى رحمهم و قبل توبتهم. و تصدّق كعب بثلث ماله شكرا للّه على توبته.

و في هذه الآية دلالة على صحّة مذهبنا في جواز العفو عن العصاة، لأنّه سبحانه بيّن أن قوما من العصاة يكون أمرهم إلى اللّه، إن شاء عذّبهم و إن شاء قبل توبتهم، فعفا عنهم. و يدلّ أيضا على أنّ قبول التوبة تفضّل من اللّه سبحانه، لأنّه لو كان واجبا لما جاز تعليقه بالمشيئة.

[سورة التوبة (9): الآيات 107 الى 110]

وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً ضِراراً وَ كُفْراً وَ تَفْرِيقاً بَيْنَ

الْمُؤْمِنِينَ وَ إِرْصاداً لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَيَحْلِفُنَّ إِنْ أَرَدْنا إِلاَّ الْحُسْنى وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (107) لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ (108) أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوانٍ خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (109) لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ إِلاَّ أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (110)

قال المفسّرون: إنّ بني عمرو بن عوف اتّخذوا مسجد قبا، و بعثوا إلى رسول

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 166

اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يأتيهم، فأتاهم و صلّى فيه. فحسدهم إخوتهم المتخلّفون، و هم بنو غنم بن عوف، و كانوا من المنافقين، فقالوا: نبني مسجدا فيصلّي فيه أبو عامر الراهب إذا قدم من الشام، ليثبت لهم الفضل و الزيادة على إخوتهم، و هو الّذي

سمّاه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الفاسق.

و قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم أحد: لا أجد قوما يقاتلونك إلّا قاتلتك معهم، فلم يزل يقاتله إلى يوم حنين، فلمّا انهزمت هوازن خرج هاربا إلى الشام، و أرسل إلى المنافقين أن استعدّوا بما استطعتم من قوّة و سلاح، فإنّي ذاهب إلى قيصر و آت بجنود، و مخرج محمّدا و أصحابه من المدينة.

و كانوا اثني عشر رجلا. و قيل: خمسة عشر رجلا، منهم ثعلبة بن حاطب، و معتب بن قشير، و نبتل بن الحارث.

فبنوا مسجدا إلى جنب مسجد

قبا، فلمّا فرغوا منه أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو يتجهّز إلى تبوك، فقالوا: يا رسول اللّه إنّا قد بنينا مسجدا لذي العلّة و الحاجة و الليلة المطيرة و الليلة الشاتية، و إنّا نحبّ أن تأتينا فتصلّي لنا فيه و تدعو لنا بالخير و البركة. فقال: إنّي على جناح سفر، و لو قدمنا أتيناكم إن شاء اللّه فصلّينا لكم فيه.

فلمّا انصرف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من تبوك نزلت:

وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مَسْجِداً عطف على «وَ آخَرُونَ مُرْجَوْنَ». أو مبتدأ خبره محذوف، أي: و ممّن وصفنا الّذين اتّخذوا. أو منصوب على الاختصاص. و قرأ نافع و ابن عامر بغير واو. ضِراراً مضارّة للمؤمنين وَ كُفْراً و تقوية للكفر الّذي يضمرونه وَ تَفْرِيقاً بَيْنَ الْمُؤْمِنِينَ يريد الّذين كانوا يجتمعون للصلاة في مسجد قبا وَ إِرْصاداً ترقّبا لِمَنْ حارَبَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يعني: الراهب مِنْ قَبْلُ متعلّق ب «حارب» أي: لأجل من حارب اللّه و رسوله من قبل أن يتّخذوا المسجد، أو ب «اتّخذوا» أي: اتّخذوا مسجدا من قبل أن ينافق هؤلاء بالتخلّف.

قيل: أبو عامر كان قد ترهّب في الجاهليّة و لبس المسوح «1»، فلمّا قدم

______________________________

(1) المسوح جمع المسح، و هو ما يلبس من نسيج الشعر على البدن زهدا و تقشّفا.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 167

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المدينة حسده، و جمع الجيوش عليه يوم الأحزاب، فلمّا انهزموا خرج إلى الشام و لحق إلى الروم فتنصّر، و مات بقنّسرين وحيدا.

وَ لَيَحْلِفُنَ يعني: هؤلاء المنافقين إِنْ أَرَدْنا إِلَّا الْحُسْنى ما أردنا ببنائه إلّا الخصلة الحسنى، أو لإرادة الحسنى، و هي الصلاة و الذكر و

التوسعة على المصلّين وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في حلفهم.

لا تَقُمْ فِيهِ أَبَداً للصّلاة لَمَسْجِدٌ أُسِّسَ عَلَى التَّقْوى يعني: مسجد قبا أسّسه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و صلّى فيه أيّام مقامه بقبا من الاثنين إلى الجمعة. و قبا اسم قرية من قرى المدينة. و هذا أوفق للقصّة. و قيل: إنّه مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،

لقول أبي سعيد: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عنه فقال: هو مسجدكم هذا مسجد المدينة.

مِنْ أَوَّلِ يَوْمٍ من أيّام وجوده. و «من» يعمّ الزمان و المكان. أَحَقُّ أَنْ تَقُومَ فِيهِ أولى بأن تصلّي فيه فِيهِ رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا من المعاصي و الخصال المذمومة طلبا لمرضاة اللّه. و قيل: من الجنابة، فلا ينامون عليها. وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ يرضى عنهم و يدنيهم من جنابه إدناء المحبّ حبيبه.

و

بعد نزول الآية عند قدوم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من تبوك دعا بمالك بن الدخشم و معن بن عدي و عامر بن السكن و وحشي فقال لهم: انطلقوا إلى هذا المسجد الظالم أهله فاهدموه و أحرقوه، ففعل و اتّخذ مكانه كناسة.

قيل: لمّا نزلت مشى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و معه المهاجرون حتّى وقف على باب مسجد قبا، فإذا الأنصار جلوس، فقال: أ مؤمنون أنتم؟ فسكتوا، فأعادها.

فقال عمر: إنّهم مؤمنون و أنا معهم.

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أ ترضون بالقضاء؟

قالوا: نعم.

قال: أ تصبرون على البلاء؟

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 168

قالوا: نعم.

قال: أ تشكرون في الرخاء؟

قالوا: نعم.

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: مؤمنون و ربّ الكعبة. فجلس ثمّ

قال: يا معشر الأنصار إنّ اللّه عزّ و جلّ قد أثنى عليكم فما الّذي تصنعون عند الوضوء و عند الغائط؟

فقالوا: يا رسول اللّه نتبع الغائط الأحجار الثلاث، ثم نتبع الأحجار الماء.

فتلا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «رِجالٌ يُحِبُّونَ أَنْ يَتَطَهَّرُوا وَ اللَّهُ يُحِبُّ الْمُطَّهِّرِينَ».

أَ فَمَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ بنيان دينه عَلى تَقْوى مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوانٍ على قاعدة محكمة، هي التقوى من اللّه تعالى و طلب مرضاته بالطاعة خَيْرٌ أَمْ مَنْ أَسَّسَ بُنْيانَهُ عَلى شَفا جُرُفٍ هارٍ على قاعدة هي أضعف القواعد و أرخاها و أقلّها بقاء، و هو الباطل. و الشفا: الشفير. و جرف الوادي: جانبه الّذي يتحفّر أصله بالماء و تجرفه السيول، فيبقى واهيا. و الهار: الهائر الّذي أشفى على السقوط و التهدّم. و وزنه فعل، قصر عن هائر، كخلف من خالف. و نظيره: شاك و صات في شائك و صائت. و ألفه ليس بألف فاعل. و أصله: هور و شوك و صوت.

و لمّا جعل الجرف مجازا عن الباطل قال: فَانْهارَ بِهِ فِي نارِ جَهَنَّمَ يوقعه ذلك البناء و يؤدّي به- لخوره «1» و قلّة استمساكه- إلى السقوط في النار. و إنّما وضع شفا الجرف- و هو ما جرفه الوادي الهائر- في مقابلة التقوى، تمثيلا لما بنوا عليه أمر دينهم في البطلان و سرعة الانطماس، ثمّ رشّحه بانهياره به في النار، فكأنّ المبطل أسّس بنيانا على شفير جهنّم فطاح به في قعرها. و وضعه في مقابلة الرضوان، تنبيها على أنّ تأسيس ذلك على أمر يحفظه من النار، و يوصله إلى رضوانه تعالى و مقتضياته الّتي الجنّة أدناها، و تأسيس هذا على ما هم بسببه على

______________________________

(1) خار خورا: فتر و ضعف و

انكسر.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 169

صدد الوقوع في النار ساعة فساعة، ثمّ إنّ مصيرهم إلى النار لا محالة.

و قرأ نافع و ابن عامر: اسّس على البناء للمفعول. و قرأ ابن عامر و حمزة و أبو بكر: جرف بالتخفيف.

و ملخّص معنى الآية: أنّ اللّه تعالى شبّه بنيانهم على نار جهنّم بالبناء على جانب نهر هذا صفته، فكما أنّ من بنى على جانب هذا النهر فإنّه ينهار بناؤه في الماء و لا يثبت، فكذلك بناء هؤلاء ينهار و يسقط في نار جهنّم. يعني: أنّه لا يستوي عمل المتّقي و عمل المنافق، فإنّ عمل المؤمن المتّقي ثابت مستقيم مبنيّ على أصل صحيح ثابت، و عمل المنافق ليس بثابت، بل واه ساقط.

وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ إلى ما فيه صلاح و نجاة. روي عن جابر بن عبد اللّه أنّه قال: رأيت المسجد الّذي بنى ضرارا يخرج منه الدخان.

لا يَزالُ بُنْيانُهُمُ الَّذِي بَنَوْا أي: بناؤهم الّذي بنوه. مصدر أريد به المفعول.

و ليس بجمع، و لذلك قد تدخله التاء، و وصف بالمفرد، و أخبر عنه بقوله: رِيبَةً فِي قُلُوبِهِمْ أي: شكّا و نفاقا. و المعنى: أنّ بناءهم هذا لا يزال سبب شكّهم و تزايد نفاقهم، فإنّه حملهم على ذلك، ثمّ لمّا هدمه الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رسخ ذلك في قلوبهم و ازداد، بحيث لا يزول وسمه «1» عن قلوبهم. إِلَّا أَنْ تَقَطَّعَ قُلُوبُهُمْ قطعا، و تفرّق أجزاء بحيث لا يبقى لها قابليّة الإدراك و الإضمار، و حينئذ يسلون عنه. و هذا في غاية المبالغة. و الاستثناء من أعمّ الأزمنة.

و قيل: المراد بالتقطّع ما هو كائن بالقتل، أو في القبر، أو في النار. و قيل:

التقطّع بالتوبة ندما و

أسفا.

و

قرأ يعقوب: إلى، بحرف الانتهاء- و روي ذلك عن الصادق عليه السّلام-

و «تقطّع» بمعنى: تتقطّع. و هو قراءة ابن عامر و حمزة و حفص.

______________________________

(1) أى: علامته.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 170

وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بنيّاتهم حَكِيمٌ فيما أمر بهدم بنيانهم.

[سورة التوبة (9): الآيات 111 الى 112]

إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ وَ الْقُرْآنِ وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (111) التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ الْحامِدُونَ السَّائِحُونَ الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَ النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (112)

و لمّا تقدّم ذكر المؤمنين و المنافقين عقّب سبحانه بالترغيب في الجهاد، فقال:

إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ أَنْفُسَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ بِأَنَّ لَهُمُ الْجَنَّةَ عبّر سبحانه عن إثابتهم بالجنّة على بذلهم أنفسهم و أموالهم في سبيله بالاشتراء، و جعل الثواب ثمنا، و أعمالهم الحسنة مثمنا، تمثيلا لإثابته إيّاهم الجنّة على بذل أنفسهم و أموالهم في سبيله. عن الصادق عليه السّلام: «ليس لأبدانكم ثمن إلّا الجنّة، فلا تبيعوها إلّا بها».

يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَيَقْتُلُونَ وَ يُقْتَلُونَ استئناف ببيان ما لأجله الشراء.

و قيل: «يقاتلون» في معنى الأمر. و قرأ حمزة و الكسائي بتقديم المبنيّ للمفعول.

و قد عرفت أنّ الواو لا توجب الترتيب، و أنّ فعل البعض قد يسند إلى الكلّ.

وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا مصدر مؤكّد لما دلّ عليه الشراء، فإنّه في معنى الوعد، يعني: أنّ الوعد الّذي وعده للمجاهدين في سبيله وعد ثابت فِي التَّوْراةِ وَ الْإِنْجِيلِ

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 171

وَ الْقُرْآنِ أي: وعدا مذكورا فيهما كما أثبت في القرآن وَ مَنْ أَوْفى بِعَهْدِهِ مِنَ اللَّهِ مبالغة

في الإنجاز، و تقرير لكونه حقّا، أي: لا أحد أوفى بعهده من اللّه، لأنّ الخلف قبيح لا يقدم عليه كريم، فكيف بالكريم الغنيّ الّذي لا يجوز عليه فعل القبيح؟! فَاسْتَبْشِرُوا بِبَيْعِكُمُ الَّذِي بايَعْتُمْ بِهِ فافرحوا به غاية الفرح، فإنّه أوجب لكم عظائم المطالب، كما قال: وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ و لا ترغيب في الجهاد أحسن و أبلغ منه.

ثمّ وصف اللّه تعالى المؤمنين الّذين اشترى منهم الأنفس و الأموال بأوصاف جليلة و نعوت جميلة، فقال: التَّائِبُونَ رفع على المدح، أي: هم التائبون الراجعون إلى طاعة اللّه، و المنقطعون إليه، النادمون على ما فعلوه من القبائح.

و المراد بهم المؤمنون المذكورون. و يجوز أن يكون مبتدأ خبره محذوف، تقديره:

التائبون من أهل الجنّة و إن لم يجاهدوا، لقوله: وَ كُلًّا وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى «1». أو خبره «العابدون» أي: التائبون عن الكفر على الحقيقة هم الجامعون لهذه الخصال.

الْعابِدُونَ الّذين عبدوا اللّه مخلصين له الدين الْحامِدُونَ لنعمائه، أو لكلّ ما أصابهم من السرّاء و الضرّاء السَّائِحُونَ الصائمون،

لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «سياحة أمّتي الصوم».

شبّهوا بذوي السياحة في الأرض من حيث إنّ الصوم يعوق عن الشهوات كالسياحة، أو لأنّه رياضة نفسانيّة يتوصّل بها إلى الاطّلاع على خفايا الملك و الملكوت، أو السائحون للجهاد أو لطلب العلم، أو الّذين يسيحون في الأرض فيعتبرون بعجائب اللّه. الرَّاكِعُونَ السَّاجِدُونَ في الصلاة.

الْآمِرُونَ بِالْمَعْرُوفِ بالإيمان و الطاعة وَ النَّاهُونَ عَنِ الْمُنْكَرِ عن الشرك و المعاصي. و العاطف فيه للدلالة على أنّه بما عطف عليه في حكم خصلة واحدة، كأنّه قال: الجامعون بين الوصفين. و أمّا العاطف في قوله تعالى:

______________________________

(1) الحديد: 10.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 172

وَ الْحافِظُونَ لِحُدُودِ اللَّهِ أي: فيما بيّنه و عيّنه

من الحقائق و الشرائع، فللتنبيه على أنّ ما قبله مفصّل الفضائل و هذا مجملها. و قيل: للإيذان بأنّ التعداد قد تمّ بالسابع، من حيث إنّ السبعة هو العدد التامّ عندهم، و الثامن ابتداء تعداد آخر معطوف عليه، و لذلك سمّي و او الثامنة.

وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ يعني به هؤلاء الموصوفين بتلك الفضائل. و وضع المؤمنين موضع ضميرهم للتنبيه على أنّ إيمانهم دعاهم إلى ذلك، و أنّ المؤمن الكامل من كان كذلك. و حذف المبشّر به للتعظيم، كأنّه قيل: و بشّرهم بما يجلّ عن إحاطة الأفهام و تعبير الكلام.

روى أصحابنا أنّ هذه صفات الأئمّة المعصومين عليهم السّلام، لأنّه لا يكاد يجمع هذه الأوصاف على تمامها و كمالها غيرهم.

و

لقي الزهري عليّ بن الحسين عليهما السّلام في طريق الحجّ فقال له: تركت الجهاد و صعوبته و أقبلت على الحجّ، و اللّه سبحانه يقول: «إِنَّ اللَّهَ اشْتَرى مِنَ الْمُؤْمِنِينَ» الآية. فقال عليه السّلام: «أتمّ الآية الاخرى: التَّائِبُونَ الْعابِدُونَ ... إلى آخرها، ثمّ قال:

إذا رأينا هؤلاء الّذين هذه صفتهم فالجهاد معهم أفضل من الحجّ».

[سورة التوبة (9): الآيات 113 الى 114]

ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ وَ لَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (113) وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلاَّ عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ (114)

روي أنّ المسلمين قالوا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ألا تستغفر لآبائنا الّذين ماتوا في

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 173

الجاهليّة؟ فأنزل اللّه سبحانه: ما كانَ لِلنَّبِيِّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ يَسْتَغْفِرُوا لِلْمُشْرِكِينَ

أي: لا ينبغي لنبيّ و لا لمؤمن أن يطلب المغفرة و يدعو للكافر، و لا يصحّ

ذلك في حكم اللّه سبحانه. و هذا القول أبلغ من أن يقال: لا ينبغي للنبيّ، لأنّه يدلّ على قبحه و أنّ الحكمة تمنع منه، فلو قال: لا ينبغي، لم يدلّ على أنّ الحكمة تمنع منه، و إنّما كان يدلّ على أنّه لا ينبغي أن يختاره. فمعناه: لم يجعل اللّه في دينه و لا في حكمه أن يستغفروا للمشركين.

وَ لَوْ كانُوا أُولِي قُرْبى أقرب الناس إليهم في النسب، و دعتهم رقّة القرابة و شفقة الرحم إلى الاستغفار لهم مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُمْ أَصْحابُ الْجَحِيمِ أي:

من بعد أن يعلموا أنّهم ماتوا على الشرك، فهم مستحقّون للخلود في النار، و يظهر أنّ لهم عذابا عظيما.

ثمّ بيّن سبحانه الوجه في استغفار إبراهيم لأبيه مع كونه كافرا، سواء كان أباه الّذي ولده كما قالت العامّة، أو جدّه لأمّه أو عمّه على ما رواه أصحابنا، فقال:

وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها أي: لم يكن استغفاره له إلّا صادرا عن موعدة وعدها إبراهيم إِيَّاهُ و هو قوله: لأستغفرنّ لك. و معناه:

لأطلبنّ لك التوفيق للإيمان الّذي هو سبب الإيمان الّذي يجبّ ما قبله. و يدلّ عليه قراءة الحسن: وعدها أباه. و قيل: صاحب الموعدة أبوه، فإنّه وعد إبراهيم أنّه يؤمن إن استغفر له، فاستغفر له لذلك.

فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ أي: أنّه مات مشركا، أو أوحي إليه بأنّه لا يفي بما وعد و لن يؤمن تَبَرَّأَ مِنْهُ و ترك الدعاء له. و القول الأوّل مرويّ عن ابن عبّاس، و منقول عن أبي جعفر عليه السّلام.

و الثاني مرويّ عن مجاهد و قتادة. إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ يكثر التأوّه. و هو كناية عن فرط ترحّمه و رقّة قلبه. حَلِيمٌ

صبور على الأذى. و الجملة لبيان ما حمله على الاستغفار له مع سوء خلقه معه، و استماع قوله:

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 174

«لأرجمنّك» منه.

و

عن ابن عبّاس: الأوّاه بمعنى الدّعاء الكثير الدعاء و البكاء. و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و عن كعب: أنّ الأوّاه هو الّذي إذا ذكر النار قال: أوّه. و

روى عبد اللّه بن شدّاد عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: الأوّاه هو الخاشع المتضرّع.

[سورة التوبة (9): آية 115]

وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (115)

روي: أنّ قوما من المسلمين ماتوا على الإسلام قبل أن تنزل الفرائض، فقال المسلمون: يا رسول اللّه إخواننا الّذين ماتوا قبل الفرائض ما منزلتهم؟

فنزلت: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِلَّ قَوْماً

أي: ليسمّيهم ضلّالا، و يؤاخذهم مؤاخذة الكفّار بَعْدَ إِذْ هَداهُمْ للإسلام حَتَّى يُبَيِّنَ لَهُمْ ما يَتَّقُونَ حتّى يبيّن لهم حظر ما يجب اتّقاؤه، فقبل بيان ذلك لا سبيل عليهم، كما لا يؤاخذون ببيع الصاع بالصاعين قبل التحريم. و هذا دليل على أنّ الغافل غير مكلّف. و لا يخفى أنّ المراد بما يتّقون ما يجب اتّقاؤه للنهي، فأمّا ما يعلم بالعقل، كالصدق في الخبر وردّ الوديعة، فغير موقوف على النقل. إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ فيعلم أمرهم في الحالين.

[سورة التوبة (9): آية 116]

إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (116)

و لمّا منعهم عن الاستغفار للمشركين و إن كانوا أولي قربى، و تضمّن ذلك وجوب التبرّؤ عنهم رأسا، قال بعد ذلك: إِنَّ اللَّهَ لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يُحْيِي

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 175

وَ يُمِيتُ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ ليبيّن لهم أنّ اللّه مالك كلّ موجود، و متولّي أمره و الغالب عليه، و لا يتأتّى لهم ولاية و لا نصرة إلّا منه، ليتوجّهوا بشراشرهم إليه، و يتبرّءوا عمّا عداه، حتّى لا يبقى لهم مقصود فيما يأتون و يذرون سواه.

[سورة التوبة (9): الآيات 117 الى 118]

لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِّ وَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (117) وَ عَلَى الثَّلاثَةِ الَّذِينَ خُلِّفُوا حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ وَ ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ وَ ظَنُّوا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ إِلاَّ إِلَيْهِ ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ لِيَتُوبُوا إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ الرَّحِيمُ (118)

و لمّا ذكر سبحانه أنّ له ملك السموات و الأرض و ما بينهما، و لا متولّي و معطي نعمة و لا ناصر لأحد دونه، بيّن عقيبه رحمته بالمؤمنين و رأفته بهم في قبول توبتهم، فقال: لَقَدْ تابَ اللَّهُ عَلَى النَّبِيِ في ترك الأولى من إذن المنافقين في التخلّف قبل النهي عنه، كقوله تعالى: عَفَا اللَّهُ عَنْكَ لِمَ أَذِنْتَ لَهُمْ «1» وَ الْمُهاجِرِينَ وَ الْأَنْصارِ و تاب عليهما في المأثم.

و قيل: هو بعث على التوبة. و المعنى: ما من أحد إلّا و هو محتاج إلى

التوبة، حتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المهاجرين و الأنصار، لقوله تعالى: وَ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً «2»

______________________________

(1) التوبة: 43.

(2) النور: 31.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 176

إذ ما من أحد إلّا و له مقام يستنقص دونه ما هو فيه، و الترقّي إليه توبة من تلك النقيصة، و إظهار لفضلها بأنّها مقام الأنبياء و الصالحين من عباده.

و قال في المجمع «1» و الجامع «2»: «إنّما ذكر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم استفتاحا باسمه، و لأنّه سبب توبتهم، و إلّا فمن المعلوم أنّه لم يكن منه ما يوجب التوبة. و يؤيّده

أنّ الرضا عليه السّلام قرأ: لقد تاب اللّه بالنبيّ على المهاجرين و الأنصار.

الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ فِي ساعَةِ الْعُسْرَةِ في وقتها. و قد تستعمل الساعة في معنى الزمان المطلق، كما تستعمل الغداة و العشيّة في اليوم. و المراد بالعسرة حالهم في غزوة تبوك، فإنّهم كانوا في عسرة المركب، حتّى يعتقب العشرة على بعير واحد.

و في عسرة الزاد، فإنّ زادهم الشعير المسوّس «3» و التمر المدوّد. و بلغت الشدّة بهم حتّى قيل: إنّ الرجلين كانا يقتسمان التمرة، ربّما مصّها جماعة ليشربوا عليها الماء.

و في عسرة من الماء في حمارّة «4» القيظ و الضيق الشديد من القحط، حتّى شربوا الفظّ، و هو ماء الكرش «5».

مِنْ بَعْدِ ما كادَ يَزِيغُ قُلُوبُ فَرِيقٍ مِنْهُمْ عن الثبات على الجهاد و اتّباع الرسول في تلك الغزوة. و لم يرد بالزيغ هاهنا الزيغ عن الإيمان. و في «كاد» ضمير الشأن أو ضمير القوم. و العائد إليه الضمير في «منهم». و قرأ حمزة و حفص: يزيغ بالياء، لأنّ تأنيث القلوب غير حقيقيّ. قيل: إنّ قوما منهم همّوا بالانصراف عن غزاتهم

بغير استئذان، فعصمهم اللّه تعالى حتّى مضوا.

______________________________

(1) مجمع البيان 5: 80.

(2) جوامع الجامع 1: 635.

(3) المسوّس أي: الذي وقع فيه السوس. و هو دود يقع في الثياب و الشعير و الخشب و نحوها.

(4) الحمارّة: شدّة الحرّ.

(5) الكرش: هي لذي الخفّ و كلّ حيوان مجترّ بمنزلة المعدة للإنسان.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 177

ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ تكرير للتأكيد، و تنبيه على أنّه تاب عليهم من أجل ما كابدوا من العسرة إِنَّهُ بِهِمْ رَؤُفٌ رَحِيمٌ تداركهم برأفته و رحمته.

وَ عَلَى الثَّلاثَةِ و تاب اللّه على الثلاثة. و هم: كعب بن مالك، و هلال بن أميّة، و مرارة بن الربيع. الَّذِينَ خُلِّفُوا تخلّفوا عن الغزو، أو خلّف أمرهم، فإنّهم المرجون حَتَّى إِذا ضاقَتْ عَلَيْهِمُ الْأَرْضُ بِما رَحُبَتْ أي: برحبها، لإعراض الناس عنهم بالكلّيّة. و هو مثل لشدّة الحيرة، كأنّهم لا يجدون في الأرض موضع قرار وَ ضاقَتْ عَلَيْهِمْ أَنْفُسُهُمْ قلوبهم من فرط الوحشة و الغمّ بحيث لا يسعها أنس و سرور وَ ظَنُّوا و علموا أَنْ لا مَلْجَأَ مِنَ اللَّهِ من سخطه إِلَّا إِلَيْهِ إلّا إلى استغفاره.

ثُمَّ تابَ عَلَيْهِمْ رجع عليهم بالقبول و الرحمة كرّة بعد اخرى لِيَتُوبُوا ليستقيموا على توبتهم و يثبتوا، أو ليتوبوا أيضا في المستقبل إن فرطت منهم خطيئة.

أو المعنى: رجع عليهم بالتوفيق للتوبة ليتوبوا، أو أنزل قبول توبتهم، أو سهّل اللّه عليهم التوبة ليتوبوا. إِنَّ اللَّهَ هُوَ التَّوَّابُ لمن تاب و لو عاد في اليوم مائة مرّة الرَّحِيمُ المتفضّل عليهم بالنعم.

[سورة التوبة (9): آية 119]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ (119)

ثمّ خاطب سبحانه المؤمنين المصدّقين باللّه المقرّين بنبوّة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ فيما لا يرضاه

وَ كُونُوا مَعَ الصَّادِقِينَ في إيمانهم و عهودهم، أو في دين اللّه نيّة و قولا و عملا، أي: في توبتهم و إنابتهم، فيكون المراد به هؤلاء الثلاثة و أضرابهم.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 178

[سورة التوبة (9): الآيات 120 الى 121]

ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ وَ لا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ وَ لا نَصَبٌ وَ لا مَخْمَصَةٌ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لا يَطَؤُنَ مَوْطِئاً يَغِيظُ الْكُفَّارَ وَ لا يَنالُونَ مِنْ عَدُوٍّ نَيْلاً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (120) وَ لا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً وَ لا يَقْطَعُونَ وادِياً إِلاَّ كُتِبَ لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (121)

و لمّا قصّ اللّه سبحانه قصّة الّذين تأخّروا عن الخروج مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى تبوك، ثمّ اعتذارهم عن ذلك و توبتهم منه، و أنّه قبل توبة من ندم على ما كان منه، لرأفته بهم و رحمته عليهم، ذكر عقيب ذلك على وجه التوبيخ لهم و الإزراء على ما كانوا فعلوه، فقال: ما كانَ لِأَهْلِ الْمَدِينَةِ وَ مَنْ حَوْلَهُمْ مِنَ الْأَعْرابِ أَنْ يَتَخَلَّفُوا عَنْ رَسُولِ اللَّهِ عن حكمه. نهي عبّر عنه بصيغة النفي للمبالغة. وَ لا يَرْغَبُوا بِأَنْفُسِهِمْ عَنْ نَفْسِهِ لا يصونوا أنفسهم عمّا لم يصن رسول اللّه نفسه عنه، و يكابدوا ما يكابده من الأهوال.

روي أنّه كان أبو خيثمة عبد اللّه بن خيثمة تخلّف إلى أن مضى من مسير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عشرة أيّام، ثمّ دخل يوما على امرأتين له في يوم حارّ في عريشين لهما، قد رشّتاهما و برّدتا

الماء، و هيّأتا له الطعام. فقام على العريشين، و قد بلغ بستانه، فيأكل منه الرطب و يشرب الماء البارد، فنظر فقال: ظلّ ظليل، و رطب يانع، و ماء بارد، و رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- مع أنّه قد غفر اللّه له ما

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 179

تقدّم من ذنبه و ما تأخّر- في الضحّ «1» و الريح و الحرّ و الغزو، يحمل سلاحه على عاتقه، و أبو خيثمة في ظلال بارد و طعام مهيّأ و امرأتين حسناوين، ما هذا بالنصف. ثمّ قال: و اللّه لا أكلّم واحدة منكما كلمة، و لا أدخل عريشا حتّى ألحق بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فأناخ ناضحه و اشتدّ عليه و تزوّد و ارتحل، و امرأتاه تكلّمانه و لا يكلّمهما. ثم سار حتّى إذا دنا من تبوك، قال الناس: هذا راكب على الطريق.

فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كن أبا خيثمة. فلمّا دنا قال الناس: هذا أبو خيثمة يا رسول اللّه.

فأناخ راحلته و سلّم على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أولى لك. فحدّثه الحديث، فقال له خيرا و استغفر له.

ذلِكَ إشارة إلى ما دلّ عليه قوله: «ما كان» من النهي عن التخلّف أو وجوب المشايعة بِأَنَّهُمْ بسبب أنّهم لا يُصِيبُهُمْ ظَمَأٌ عطش وَ لا نَصَبٌ تعب وَ لا مَخْمَصَةٌ مجاعة فِي سَبِيلِ اللَّهِ في الجهاد تقرّبا إلى اللّه وَ لا يَطَؤُنَ و لا يدوسون بحوافر خيولهم و أخفاف رواحلهم مَوْطِئاً وطأ، أو مكان وطء يَغِيظُ الْكُفَّارَ يغضبهم وطؤهم، و لا يتصرّفون في أرضهم تصرّفا يضيق صدورهم وَ لا يَنالُونَ

مِنْ عَدُوٍّ نَيْلًا كالقتل و الأسر و النهب إِلَّا كُتِبَ لَهُمْ بِهِ عَمَلٌ صالِحٌ إلّا استوجبوا به الثواب، و ذلك ممّا يوجب المشايعة إِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ على إحسانهم. و هو تعليل ل «كتب»، و تنبيه على أنّ الجهاد إحسان. أمّا في حقّ الكفّار، فلأنّه سعي في تكميلهم بأقصى ما يمكن، كضرب المداوي للمجنون. و أمّا في حقّ المؤمنين، فلأنّه صيانة لهم عن سطوة الكفّار و استيلائهم.

وَ لا يُنْفِقُونَ نَفَقَةً صَغِيرَةً و لو تمرة وَ لا كَبِيرَةً وَ لا يَقْطَعُونَ وادِياً في

______________________________

(1) في هامش النسخة الخطّية: «الضحّ: ضوء الشمس إذا استمكن في الأرض. منه».

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 180

مسيرهم. و هو كلّ منفرج بين جبال و آكام يكون منفذا للسيل. و هو في الأصل اسم فاعل من: ودى إذا سال، فشاع بمعنى الأرض، أي: و لا يسيرون أرضا في ذهابهم و مجيئهم إِلَّا كُتِبَ أثبت ذلك لَهُمْ لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ متعلّق ب «كتب» أي:

أثبت في صحائفهم لأجل الجزاء بذلك أَحْسَنَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ أحسن جزاء أعمالهم.

[سورة التوبة (9): آية 122]

وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ (122)

و لمّا تقدّم الترغيب في الجهاد بأبلغ أسباب الترغيب، و تأنيب من تخلّف عنه بأبلغ أسباب التأنيب، بيّن موضع الرخصة في تأخّر من تأخّر عنه، فقال: وَ ما كانَ الْمُؤْمِنُونَ لِيَنْفِرُوا كَافَّةً اللام لتأكيد النفي، أي: و ما استقام لهم أن ينفروا جميعا لنحو غزو أو طلب علم، كما لا يستقيم أن يتثبّطوا جميعا، فإنّه يخلّ بأمر المعاش و انتظام العالم غالبا. و لو صحّ و أمكن خروج الجميع و لم يؤدّ إلى

مفسدة لوجب على الكافّة، لأنّ طلب العلم فريضة على كلّ مسلم.

فَلَوْ لا نَفَرَ مِنْ كُلِّ فِرْقَةٍ مِنْهُمْ طائِفَةٌ فهلّا نفر من كلّ جماعة كثيرة- كقبيلة أو أهل بلدة- جماعة قليلة لِيَتَفَقَّهُوا فِي الدِّينِ ليتكلّفوا الفقاهة فيه، و يتحمّلوا مشاقّ تحصيلها وَ لِيُنْذِرُوا قَوْمَهُمْ إِذا رَجَعُوا إِلَيْهِمْ و ليجعلوا غاية سعيهم و معظم غرضهم من الفقاهة إرشاد القوم و إنذارهم. و تخصيصه بالذكر لأنّه أهمّ. و فيه دليل على أنّ التفقّه و التذكير من فروض الكفاية، و أنّه ينبغي أن يكون غرض المتعلّم فيه أن يستقيم و يقيم، لا الترفّع على الناس، و التبسّط في البلاد، و الترأّس فيهم، و التشبّه بالظلمة في ملابسهم و مراكبهم. لَعَلَّهُمْ يَحْذَرُونَ إرادة أن يحذروا عمّا ينذرون منه.

و استدلّ به على أنّ أخبار الآحاد حجّة، لأنّ عموم كلّ فرقة يقتضي أن ينفر

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 181

من كلّ ثلاثة تفرّدوا بقرية طائفة إلى التفقّه، لتنذر فرقتها كي يتذكّروا و يحذروا، فلو لم يعتبر الإخبار ما لم يتواتر لم يفد ذلك.

قال في الكشّاف «1»: و للآية معنى آخر، و هو أنّه لمّا نزل في المتخلّفين ما نزل استبق المؤمنون إلى النفير، و انقطعوا جميعا عن التفقّه و استماع الوحي، فأمروا أن ينفر من كلّ فرقة طائفة إلى الجهاد، و يبقى أعقابهم يتفقّهون حتّى لا ينقطعوا عن التفقّه الّذي هو الجهاد الأكبر، لأنّ الجدال بالحجّة هو الأصل و المقصود من البعثة.

و يكون الضمير في «ليتفقّهوا» و «لينذروا» لبواقي الفرق بعد الطوائف النافرة للغزو، و في «رجعوا» للطوائف، أي: و لينذر البواقي قومهم النافرين إذا رجعوا إليهم بما حصّلوا في أيّام غيبتهم من العلوم. و على الأوّل الضمير للطائفة النافرة إلى المدينة للتفقّه.

[سورة التوبة (9): الآيات 123 الى 125]

يا

أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ (123) وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ مَنْ يَقُولُ أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ إِيماناً فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (124) وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ وَ ماتُوا وَ هُمْ كافِرُونَ (125)

ثمّ بيّن سبحانه ما يجب تقديمه في القتال و القتل، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ يقربون منكم مِنَ الْكُفَّارِ فإنّ القتال و إن كان واجبا مع

______________________________

(1) الكشّاف 2: 323.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 182

جميع الكفّار لكن الأقرب منهم فالأقرب، كما أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أوّلا بإنذار عشيرته ثمّ غيرهم من العرب، فحارب قومه ثمّ غيرهم من عرب الحجاز، ثمّ غزا الشام، و ذلك لأنّ الأقرب أحقّ بالشفقة و الاستصلاح. و هكذا المفروض على أهل كلّ ناحية أن يقاتلوا من وليهم ما لم يضطرّ إليهم أهل ناحية أخرى.

و قيل: هم يهود حوالي المدينة، كقريظة و النضير و خيبر. و قيل: الروم، فإنّهم كانوا يسكنون الشام، و هو قريب من المدينة.

و الأوّل أصحّ، لأنّ السورة نزلت في سنة تسع، و قد فرغ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من أولئك. و كان الحسن إذا سئل عن قتال الروم و الترك و الديلم تلا هذه الآية.

وَ لْيَجِدُوا فِيكُمْ غِلْظَةً شدّة و شجاعة و صبرا على القتال. و نحوه: وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ «1». وَ اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ مَعَ الْمُتَّقِينَ بالحراسة و الإعانة.

وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ فَمِنْهُمْ فمن المنافقين مَنْ يَقُولُ بعضهم لبعض إنكارا و استهزاء باعتقاد المؤمنين أَيُّكُمْ زادَتْهُ هذِهِ السورة إِيماناً

أي: تصديقا و يقينا فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا فَزادَتْهُمْ إِيماناً بزيادة العلم الحاصل من تدبّر السورة، و انضمام الايمان بها و بما فيها إلى إيمانهم وَ هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ بنزولها، أي:

يسرّون، و يبشّر بعضهم بعضا، قد تهلّلت وجودهم و فرحوا بنزولها، لأنّه سبب لزيادة كمالهم و ارتفاع درجاتهم.

وَ أَمَّا الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ كفر و نفاق فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ كفرا بها مضموما إلى الكفر بغيرها، فإنّهم بتجديد الوحي جدّدوا كفرا و نفاقا فازداد كفرهم عنده و استحكم وَ ماتُوا وَ هُمْ كافِرُونَ و استحكم و تضاعف ذلك منهم حتّى ماتوا عليه.

______________________________

(1) التوبة: 73.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 183

[سورة التوبة (9): الآيات 126 الى 127]

أَ وَ لا يَرَوْنَ أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ وَ لا هُمْ يَذَّكَّرُونَ (126) وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ ثُمَّ انْصَرَفُوا صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (127)

ثمّ نبّه سبحانه على إعراض المنافقين عن النظر و التدبّر لما ينبغي أن ينظروا و يتدبّروا فيه، فقال: أَ وَ لا يَرَوْنَ يعني: المنافقين. و قرأ حمزة بالتاء أَنَّهُمْ يُفْتَنُونَ يبتلون بأصناف البليّات، كالمرض و القحط، أو بالجهاد مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و يعاينون أمره و ما ينزل عليه من النصرة و التأييد، أو يفتنهم الشيطان فينقضون عهودهم مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فيقتلهم و ينكل بهم فِي كُلِّ عامٍ مَرَّةً أَوْ مَرَّتَيْنِ ثُمَّ لا يَتُوبُونَ لا يتنبّهون و لا يتوبون من نفاقهم وَ لا هُمْ يَذَّكَّرُونَ و لا يعتبرون.

وَ إِذا ما أُنْزِلَتْ سُورَةٌ نَظَرَ بَعْضُهُمْ من المسلمين إِلى بَعْضٍ أي:

تغامزوا بعيونهم إنكارا للوحي و سخريّة،

أو غيظا لما فيها من عيوبهم، قائلين: هَلْ يَراكُمْ مِنْ أَحَدٍ من المسلمين لننصرف، فإنّا لا نصبر على استماعه، و يغلبنا الضحك، فنخاف الافتضاح بينهم. أو ترامقوا يتشاورون في تدبير الخروج و الانسلال لواذا «1»، فإن لم يرهم أحد قاموا، و إن يرهم أحد أقاموا. ثُمَّ انْصَرَفُوا عن حضرته مخافة الفضيحة صَرَفَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ عن الايمان خذلانا و تخلية. و هو يحتمل الإخبار و الدعاء. بِأَنَّهُمْ بسبب أنّهم قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ لا يتدبّرون حتّى يفقهوا و يعلموا.

______________________________

(1) أي: مستترين.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 184

[سورة التوبة (9): الآيات 128 الى 129]

لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ عَزِيزٌ عَلَيْهِ ما عَنِتُّمْ حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (128) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (129)

ثمّ خاطب اللّه جميع الخلق، و أكّد خطابه بالقسم، فقال: لَقَدْ جاءَكُمْ رَسُولٌ مِنْ أَنْفُسِكُمْ من جنسكم من البشر، ثمّ من العرب، ثمّ من بني إسماعيل. و قيل:

الخطاب للعرب، و ليس في العرب قبيلة إلّا و قد ولدت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و له فيهم نسب.

عَزِيزٌ عَلَيْهِ شديد شاقّ ما عَنِتُّمْ عنتكم و مشقّتكم و لقاؤكم المكروه، فهو يخاف عليكم سوء العاقبة و الوقوع في العذاب بترك الإيمان حَرِيصٌ عَلَيْكُمْ على إيمانكم و صلاح شأنكم، حتّى لا يخرج أحد منكم من الاستسعاد به و بدينه الّذي جاء به بِالْمُؤْمِنِينَ منكم و من غيركم رَؤُفٌ رَحِيمٌ قدّم الأبلغ منهما و هو الرؤوف، لأنّ الرّأفة شدّة الرحمة، محافظة على الفواصل.

قال بعض السلف: لم يجمع اللّه سبحانه لأحد من الأنبياء بين اسمين من أسمائه إلّا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإنّه قال: «بِالْمُؤْمِنِينَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ»، و قال:

إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ «1».

فَإِنْ تَوَلَّوْا عن الإيمان بك فَقُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ فاستعن باللّه و فوّض إليه أمرك، فإنّه يكفيك معرّتهم «2»، و يعينك عليهم لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كالدليل عليه عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فلا أرجو و لا أخاف إلّا منه وَ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ الملك العظيم، أو الجسم العظيم الّذي تنزل منه الأحكام و المقادير.

قيل: إنّ هذه الآية آخر آية نزلت من السماء. و آخر سورة كاملة نزلت سورة براءة.

______________________________

(1) البقرة: 143.

(2) المعرّة: الأذى و المساءة و الإثم.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 185

(10) سورة يونس

اشارة

مكّيّة، و هي مائة و تسع آيات.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: من قرأها أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بيونس و كذّب به، و بعدد من غرق مع فرعون.

و

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة يونس في كلّ شهرين أو ثلاثة لم يخف عليه أن يكون من الجاهلين، و كان يوم القيامة من المقرّبين».

[سورة يونس (10): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (1) أَ كانَ لِلنَّاسِ عَجَباً أَنْ أَوْحَيْنا إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنَّ لَهُمْ قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ هذا لَساحِرٌ مُبِينٌ (2)

لمّا ختم اللّه سورة براءة بذكر الرسول، افتتح هذه السورة بذكره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ما أنزل عليه من القرآن، فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تعديد للحروف على طريق التحدّي. و قيل: معناه: أنا اللّه ارى. و بواقي وجوه التفسير فيه مذكورة في

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 186

صدر سورة البقرة. فخّمها ابن كثير و نافع برواية قالون و حفص. و قرأ ورش بين بين. و أمالها الباقون، إجراء لألف الراء مجرى المنقلبة من الياء.

تِلْكَ إشارة إلى ما تضمّنته السورة أو القرآن من الآي آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ المراد بالكتاب السورة، أو القرآن كلّه، أو اللوح المحفوظ، فإنّ القرآن منزل منه. و وصفه بالحكيم لاشتماله على الحكم، أو لأنّه كلام حكيم، أو محكم آياته لم ينسخ شي ء منها.

أَ كانَ لِلنَّاسِ عَجَباً استفهام إنكار للتعجّب. و «عجبا» خبر «كان»، و اسمه أَنْ أَوْحَيْنا. و ذكر اللام للدلالة على أنّهم جعلوه أعجوبة لهم يوجّهون نحوه إنكارهم و استهزاءهم

إِلى رَجُلٍ مِنْهُمْ من جنس رجالهم، دون أن يكون عظيما من عظمائهم.

قيل: كانوا يقولون: العجب أنّ اللّه تعالى لم يجد رسولا يرسله إلى الناس إلّا يتيم أبي طالب. و هو من فرط حماقتهم، و قصور نظرهم على الأمور العاجلة، و جهلهم بحقيقة الوحي و النبوّة. هذا و إنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يكن يقصر عن عظمائهم فيما يعتبرونه إلّا في المال، و خفّة الحال أعون شي ء في هذا الباب، و لذلك كان أكثر الأنبياء قبله كذلك.

و قيل: تعجّبوا من أنّه عزّ و جلّ بعث بشرا رسولا، كما سبق «1» في سورة الأنعام.

أَنْ أَنْذِرِ النَّاسَ «أن» هي المفسّرة ل «أن أوحينا» فيه معنى القول، أو المخفّفة من الثقيلة، فتكون في موضع مفعول «أوحينا». و أصله: أوحينا أنّ الشأن قولنا: أنذر الناس.

وَ بَشِّرِ الَّذِينَ آمَنُوا عمّم الإنذار، إذ قلمّا من أحد ليس فيه ما ينبغي أن

______________________________

(1) راجع ج 2 ص 427 ذيل الآية 91 من سورة الأنعام.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 187

ينذر منه. و خصّص البشارة بالمؤمنين، إذ ليس للكفّار ما يصحّ أن يبشّروا به أَنَّ لَهُمْ بأنّ لهم قَدَمَ صِدْقٍ عِنْدَ رَبِّهِمْ سابقة و منزلة رفيعة. سمّيت قدما لأنّ السبق و السعي بها، كما سمّيت النعمة يدا، لأنّها تعطى باليد. و إضافتها إلى الصدق لتحقّقها، و التنبيه على أنّهم إنّما ينالونها بصدق القول و النيّة.

و

عن أبي سعيد الخدري: أنّ معنى قدم صدق شفاعة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم القيامة. و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و لمّا قال: «أَ كانَ لِلنَّاسِ عَجَباً» قالوا: و كيف لا نعجب و لا علم لنا بالمرسل؟! فقال: قالَ الْكافِرُونَ إِنَّ

هذا يعنون الكتاب و ما جاء به الرسول لَساحِرٌ مُبِينٌ و قرأ ابن كثير و الكوفيّون: لساحر، على أنّ الإشارة إلى الرسول. و فيه اعتراف بأنّهم صادفوا من الرسول أمورا خارقة للعادة، معجزة إيّاهم عن المعارضة، و إن كانوا كاذبين في تسميته سحرا.

[سورة يونس (10): الآيات 3 الى 6]

إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ ما مِنْ شَفِيعٍ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (3) إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (4) هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً وَ قَدَّرَهُ مَنازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (5) إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ (6)

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 188

ثمّ بيّن صفاته الكماليّة المنضمّة لاستحقاقه العبوديّة لا غير، المقتضية للحكم و المصالح و التدابير الّتي من جملتها إعطاء النبوّة لمن يليق بحاله، فقال: إِنَّ رَبَّكُمُ اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ الّتي هي اصول الممكنات فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ مع قدرته على إنشائهما دفعة واحدة. و الوجه في ذلك دلالة صريحة على أنّه قادر مختار لا موجب، و تعليما لعباده التأنّي في الأمور. و في الحديث: «التأنّي من الرحمن، و العجلة من الشيطان».

ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ مرّ تفسيره مرارا «1» يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يقدّر أمر الكائنات على ما اقتضته حكمته و سبقت به كلمته، و يهيّ ء بتحريكه أسبابها و ينزلها منه.

و التدبير النظر في أدبار الأمور لتجي ء محمودة العاقبة. ما مِنْ شَفِيعٍ إِلَّا مِنْ بَعْدِ إِذْنِهِ تقرير لعظمته و عزّ جلاله، و ردّ على من زعم أنّ آلهتهم تشفع لهم عند اللّه.

و فيه إثبات الشفاعة لمن أذن له.

ذلِكُمُ أي: الموصوف بتلك الصفات المقتضية للألوهيّة و الربوبيّة اللَّهُ رَبُّكُمْ لا غير، إذ لا يشاركه أحد في شي ء من ذلك فَاعْبُدُوهُ وحّدوه بالعبادة، و لا تشركوا به بعض خلقه من ملك أو إنسان، فضلا عن جماد لا يضرّ و لا ينفع أَ فَلا تَذَكَّرُونَ تتفكّرون أدنى تفكّر، فينبّهكم على أنّه المستحقّ للربوبيّة و العبادة لا ما تعبدونه.

إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً في العاقبة بالموت أو النشور، لا إلى غيره، فاستعدّوا للقائه وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكّد لنفسه، لأنّ قوله: «إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ» وعد من اللّه تعالى حَقًّا مصدر آخر مؤكّد لغيره، و هو ما دلّ عليه وعد اللّه عزّ و جلّ.

إِنَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد بدئه و إهلاكه لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ بِالْقِسْطِ

______________________________

(1) راجع ج 2/ 531.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 189

أي: بعدله. أو بعدالتهم و قيامهم على العدل في أمورهم. أو بإيمانهم، لأنّه العدل القويم، كما أنّ الشرك ظلم عظيم. و هو الأوجه، لمقابلة قوله:

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَ عَذابٌ أَلِيمٌ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ فإنّ معناه:

ليجزي الّذين كفروا بشراب من حميم و عذاب أليم بسبب كفرهم. لكنّه غيّر النظم للمبالغة في استحقاقهم للعقاب، و التنبيه على أنّ المقصود بالذات من الإبداء و الإعادة هو الإثابة، و العقاب واقع بالعرض، و أنّه تعالى يتولّى إثابة المؤمنين بما يليق بلطفه و كرمه، و لذلك لم يعيّنه. و أمّا عقاب الكفرة فكأنّه داء ساقه إليهم سوء اعتقادهم و

شؤم أفعالهم.

و الآية كالتعليل لقوله تعالى: «إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعاً» فإنّه لمّا كان المقصود من الإبداء و الإعادة مجازاة اللّه المكلّفين على أعمالهم، كان مرجع الجميع إليه لا محالة.

ثمّ زاد سبحانه في الاحتجاج للتوحيد، فقال: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً أي: ذات ضياء. و هو مصدر كقيام، أو جمع ضوء، كسياط و سوط. و الياء فيه منقلبة عن الواو، لكسرة ما قبلها. و عن ابن كثير برواية قنبل: ضئاء بهمزتين، في كلّ القرآن، على القلب بتقديم اللام على العين. وَ الْقَمَرَ نُوراً أي: ذا نور.

و سمّي نورا للمبالغة. و هو أعمّ من الضوء. و قيل: ما بالذات ضوء، و ما بالعرض نور. و نبّه سبحانه بذلك على أنّه خلق الشمس نيّرة في ذاتها، و القمر نيّرا بعرض مقابلة الشمس و الاكتساب منها.

وَ قَدَّرَهُ مَنازِلَ الضمير لكلّ واحد، أي: قدّر مسير كلّ واحد منهما منازل، كقوله: وَ الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ «1». أو قدّره ذا منازل. أو الضمير للقمر. و تخصيصه بالذكر لسرعة سيره، و معاينة منازله، و إناطة أحكام الشرع به، و لذلك علّله بقوله:

______________________________

(1) يس: 39.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 190

لِتَعْلَمُوا به و بمنازله عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ أي: حساب الأوقات من الأشهر و الأيّام في معاملاتكم و تصرّفاتكم.

ما خَلَقَ اللَّهُ ذلِكَ أي: المذكور إِلَّا ملتبسا بِالْحَقِ الّذي هو الحكمة البالغة، و لم يخلقه عبثا يُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فإنّهم المنتفعون بالتأمّل فيها.

و قرأ ابن كثير و البصريّان و حفص: يفصّل بالياء.

إِنَّ فِي اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ما خَلَقَ اللَّهُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ من أنواع الكائنات فيهما لَآياتٍ على وجود الصانع و وحدته، و كمال علمه و قدرته لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ العواقب. و خصّهم لأنّهم يحذرون

العاقبة، فيدعوهم ذلك إلى النظر و التأمّل.

[سورة يونس (10): الآيات 7 الى 8]

إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا وَ رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَ اطْمَأَنُّوا بِها وَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ (7) أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (8)

ثمّ إنّه سبحانه أوعد الغافلين عن الأدلّة المتقدّمة المكذّبين بالمعاد، فقال:

إِنَّ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا لا يتوقّعون جزاءنا، لإنكارهم البعث، و ذهولهم بالمحسوسات عمّا وراءها وَ رَضُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا من الآخرة، لغفلتهم عنها، و اختاروا القليل الفاني على الكثير الباقي وَ اطْمَأَنُّوا بِها و سكنوا إليها، مقصّرين هممهم على لذائذها و زخارفها. أو سكنوا فيها سكون من لا يزعج عنها. وَ الَّذِينَ هُمْ عَنْ آياتِنا غافِلُونَ لا يتفكّرون فيها، لانهماكهم فيما يضادّها.

و العطف إمّا لتغاير الوصفين، و التنبيه على أنّ الوعيد على الجمع بين الذهول عن الآيات و الانهماك في الشهوات، بحيث لا تخطر الآخرة ببالهم أصلا. و إمّا لتغاير الفريقين، فإنّ المراد بالأوّلين من أنكر البعث و لم ير إلّا الحياة الدنيا، و بالآخرين من ألهاه حبّ العاجل عن التأمّل في الآجل و الإعداد له.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 191

أُولئِكَ مَأْواهُمُ النَّارُ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ بما واظبوا عليه، و تمرّنوا به من المعاصي.

[سورة يونس (10): الآيات 9 الى 10]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (9) دَعْواهُمْ فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَّ وَ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ وَ آخِرُ دَعْواهُمْ أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (10)

ثمّ وعد سبحانه المؤمنين بعد ما أوعد الكافرين، فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ يَهْدِيهِمْ رَبُّهُمْ بِإِيمانِهِمْ بسبب إيمانهم إلى سلوك سبيل يؤدّي إلى الجنّة. أو لإدراك الحقائق، كما

قال: صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من عمل بما علم ورّثه اللّه علم ما لم يعلم».

أو لما يريدونه في الجنّة. و مفهوم الترتيب

و إن دلّ على أنّ سبب الهداية هو الإيمان و العمل الصالح، لكن دلّ منطوق قوله: «بإيمانهم» على استقلال الإيمان بالسببيّة، و أنّ العمل الصالح كالتتمّة و الرديف له.

و قوله: تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ استئناف، أو خبر ثان، أو حال من الضمير المنصوب على المعنى الأخير.

و قوله: فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ خبر، أو حال اخرى منه أو من الأنهار، أو متعلّق ب «تجري» أو ب «يهدي».

دَعْواهُمْ أي: دعاؤهم فِيها سُبْحانَكَ اللَّهُمَ اللّهمّ إنّا نسبّحك تسبيحا.

و ذلك لا على وجه العبادة، فإنّه لا تكليف في الجنّة، بل على طريق التلذّذ من غير كلفة. وَ تَحِيَّتُهُمْ ما يحيّي به بعضهم بعضا، أو تحيّة الملائكة إيّاهم فِيها سَلامٌ قيل: هي تحيّة اللّه لهم. و المعنى: سلمتم من الآفات و المكاره الّتي ابتلي بها

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 192

أهل النار.

وَ آخِرُ دَعْواهُمْ و آخر دعائهم أَنِ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي: أن يقولوا ذلك. و قيل: إنّهم إذا دخلوا الجنّة و عاينوا عظمة اللّه و كبرياءه مجّدوه و نعتوه بنعوت الجلال، ثمّ حيّاهم الملائكة بالسلامة عن الآفات و الفوز بأصناف الكرامات، أو اللّه تعالى «1»، فحمدوه و أثنوا عليه بصفات الإكرام. و «أن» هي المخفّفة من الثقيلة.

و أصله: أنّه الحمد، على أنّ الضمير للشأن.

[سورة يونس (10): آية 11]

وَ لَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (11)

ثمّ عاد الكلام إلى ذكر المائلين إلى الدنيا، المطمئنّين إليها، الغافلين عن الآخرة، فقال: وَ لَوْ يُعَجِّلُ اللَّهُ لِلنَّاسِ الشَّرَّ و لو يسرعه إليهم إذا دعوا به على أنفسهم أو على أهاليهم عند الغيظ و الضجر، مثل قول الإنسان: رفعني اللّه من بينكم، و قوله لولده: اللّهمّ العنه

و لا تبارك فيه اسْتِعْجالَهُمْ بِالْخَيْرِ أي: كما يعجّل لهم إجابة الدعوة بالخير إذا استعجلوها. فوضع موضع تعجيله لهم بالخير إشعارا بسرعة إجابته لهم في الخير، حتّى كأنّ استعجالهم به تعجيل لهم، أو بأنّ المراد شرّ استعجلوه، كقولهم: فأمطر علينا حجارة من السماء. و تقدير الكلام: لو يعجّل اللّه للناس الشرّ تعجيله للخير حين استعجلوه استعجالا كاستعجالهم بالخير، فحذف منه ما حذف لدلالة الباقي عليه.

و المعنى: لو عجّلنا لهم الشرّ الّذي دعوا به كما نعجّل لهم الخيرات و نجيبهم إليه لَقُضِيَ إِلَيْهِمْ أَجَلُهُمْ لأميتوا و أهلكوا. و قرأ ابن عامر و يعقوب: لقضى على

______________________________

(1) أي: حيّاهم اللّه تعالى.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 193

البناء للفاعل، و هو اللّه تعالى.

فَنَذَرُ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ عطف على فعل محذوف دلّت عليه الشرطيّة. كأنّه قيل: و لكن لا نعجّل و لا نقضي، فنذرهم إمهالا لهم و استدراجا، لإلزام الحجّة عليهم.

[سورة يونس (10): آية 12]

وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ دَعانا لِجَنْبِهِ أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُ ضُرَّهُ مَرَّ كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا إِلى ضُرٍّ مَسَّهُ كَذلِكَ زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (12)

ثمّ أخبر سبحانه عن قلّة صبر الإنسان على الضرّ و الشدائد، فقال: وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ الضُّرُّ المشقّة و البلاء دَعانا لإزالته مخلصا فيه لِجَنْبِهِ ملقيا بجنبه، أي: مضطجعا أَوْ قاعِداً أَوْ قائِماً و فائدة الترديد تعميم الدعاء لجميع الأحوال. و المعنى: أنّه لا يزال داعيا لا يفتر عن الدعاء حتّى يزول عنه الضرر، فهو يدعو في حالاته كلّها يستدفع البلاء. و اللام في الإنسان للجنس.

فَلَمَّا كَشَفْنا أزلنا عَنْهُ ضُرَّهُ و وهبنا له العافية مَرَّ مضى على طريقته الاولى، أي: استمرّ على كفره كما كان قبل أن يمسّه

الضرّ. أو مرّ عن موقف الدعاء و التضرّع لا يرجع إليه. كَأَنْ لَمْ يَدْعُنا أي: كأنّه لم يدعنا، فخفّف و حذف ضمير الشأن، كقوله:

و نحر مشرق اللون كأن ثدياه حقّان

إِلى ضُرٍّ إلى كشف ضرّ مَسَّهُ كَذلِكَ مثل ذلك التزيين زُيِّنَ لِلْمُسْرِفِينَ أي: زيّن الشيطان بوسوسته لهم ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الانهماك في

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 194

الشهوات و الأماني الباطلة، و الإعراض عن العبادات عند الرخاء.

[سورة يونس (10): الآيات 13 الى 14]

وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَ ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (13) ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ (14)

ثمّ أخبر سبحانه عمّا نزل بالأمم الماضية من المثلات، و حذّر هذه الأمّة عن مثل مصارعهم، فقال: وَ لَقَدْ أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ مِنْ قَبْلِكُمْ يا أهل مكّة بأنواع العذاب لَمَّا ظَلَمُوا حين ظلموا بالتكذيب و فرط العصيان، و استعمال القوى و الجوارح لا على ما ينبغي. و هو ظرف ل «أهلكنا». وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالحجج الدالّة على صدقهم. و هو حال من الواو بإضمار «قد»، أو عطف على «ظلموا». وَ ما كانُوا لِيُؤْمِنُوا اللام لتأكيد النفي، أي: و ما كانوا يؤمنون حقّا. و المعنى: أنّ السبب في هلاكهم تكذيبهم الرسل، و علم اللّه إصرارهم على الكفر، و أنّه لا فائدة في إمهالهم بعد أن لزمهم الحجّة بإرسال الرسل.

كَذلِكَ مثل ذلك الجزاء، و هو إهلاكهم بسبب تكذيبهم للرسل و إصرارهم عليه، بحيث تحقّق أنّه لا فائدة في إمهالهم نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ نجزي كلّ مجرم، أو نجزيكم. فوضع المظهر موضع المضمر للدلالة على كمال جرمهم و أنّهم أعلام فيه. و هو وعيد لأهل مكّة.

ثُمَّ جَعَلْناكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ مِنْ بَعْدِهِمْ

استخلفناكم في الأرض من بعد القرون الّتي أهلكناها استخلاف من يختبر لِنَنْظُرَ كَيْفَ تَعْمَلُونَ أي: أ تعملون خيرا أم شرّا؟ فنعاملكم على حسب أعمالكم. و «كيف» في محلّ النصب حالا

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 195

ب «تعملون»، فإنّ معنى الاستفهام فيه يحجب أن يعمل فيه ما قبله. و النظر هنا مستعار، بمعنى العلم المحقّق الّذي هو العلم بالشي ء موجودا، شبّه بنظر الناظر و عيان المعاين في تحقّقه.

[سورة يونس (10): الآيات 15 الى 17]

وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ قُلْ ما يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (15) قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ ما تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَ لا أَدْراكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُراً مِنْ قَبْلِهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (16) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ (17)

روي أنّ خمسة نفر من المشركين، و هم: عبد اللّه بن أميّة المخزومي، و الوليد ابن المغيرة، و مكرز بن حفص، و عمرو بن عبد اللّه بن أبي قيس العامري، و العاص ابن عامر بن هاشم، قالوا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ائت بقرآن ليس فيه ترك عبادة اللات و العزّى و مناة و هبل، و ليس فيه عيبها، و لا ما نستبعده من الآخرة و أحوالها، أو بدّله فتكلّم به عن تلقاء نفسك. فنزلت: وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ

واضحات الدلالات في الحلال و الحرام و سائر الشرائع قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لِقاءَنَا لا يؤمنون بالبعث و النشور و ما يتعلّق به، يعني: المشركين ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا بكتاب

آخر نقرؤه، و ليس فيه ما نكرهه من معايب آلهتنا، و ما نستبعده من البعث و الثواب و العقاب بعد

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 196

الموت أَوْ بَدِّلْهُ بأن تجعل مكان الآية المشتملة على ذلك آية اخرى. و لعلّهم سألوا ذلك لكي يسعفهم إليه فيلزموه.

قُلْ ما يَكُونُ لِي ما يصحّ لي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقاءِ نَفْسِي من قبل نفسي.

و هو مصدر استعمل ظرفا. و إنّما اكتفى بالجواب عن التبديل لأنّ هذا داخل تحت مقدور الإنسان، بأن يضع مكان آية عذاب آية رحمة ممّا أنزل، و أن يسقط ذكر الآلهة، فأمّا الإتيان بقرآن آخر فغير مقدور عليه للإنسان.

إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ تعليل لقوله: «ما يَكُونُ لِي»، فإنّ المتّبع لغيره في أمر لا يستبدّ بالتصرّف فيه بوجه. و جواب للنقض بنسخ بعض الآيات ببعض، أي:

إن نسخت آية تبعت النسخ، و إن بدّلت آية مكان آية تبعت التبديل، و ليس إليّ نسخ و لا تبديل. و ردّ لما عرضوا له بهذا السؤال من أنّ القرآن كلامه و اختراعه، و لذلك قيّد التبديل في الجواب و سمّاه عصيانا فقال: إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي أي:

بالتبديل من عند نفسي عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ و فيه إيماء بأنّهم استوجبوا العذاب بهذا الاقتراح.

قُلْ لَوْ شاءَ اللَّهُ غير ذلك ما تَلَوْتُهُ ما قرأت هذا القرآن عَلَيْكُمْ وَ لا أَدْراكُمْ بِهِ و لا أعلمكم اللّه به على لساني بأن لا ينزله عليّ، فلا أقرأ عليكم فلا تعلمونه. و عن ابن كثير برواية قنبل و البزّي مع خلاف: و لأدراكم بلام التأكيد، أي:

لو شاء اللّه ما تلوته عليكم و لأعلمكم اللّه به على لسان غيري، و لكنّه خصّني بهذه الكرامة، يعني: أنّه الحقّ الّذي لا محيص

عنه، لو لم أرسل به لأرسل به غيري.

و ملخّص المعنى: أنّ تلاوته ليست إلّا بمشيئة اللّه، لا بمشيئتي حتى أجعله على نحو ما تشتهونه.

ثمّ قرّر ذلك بقوله: فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ فقد أقمت فيما بينكم عُمُراً مقدار عمر أربعين سنة مِنْ قَبْلِهِ من قبل القرآن لا أتلوه و لا أعلمه. فهذا دلالة على أنّ القرآن معجز خارق للعادة، فإن من عاش بين أظهركم أربعين سنة لم يمارس فيها

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 197

علما، و لم يشاهد عالما، و لم ينشئ شعرا و لا خطبة، ثمّ قرأ عليهم كتابا بذّت «1» فصاحته فصاحة كلّ منطيق فصيح، و علا عن كلّ منثور و منظوم، و احتوى على قواعد علمي الأصول و الفروع، و أعرب عن أقاصيص الأوّلين و أحاديث الآخرين على ما هي عليه، علم أنّه معلّم به من اللّه تعالى. أَ فَلا تَعْقِلُونَ أي: أ فلا تستعملون عقولكم بالتدبّر و التفكّر فيه لتعلموا أنّه ليس إلّا من اللّه تعالى؟! فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أي: لا أحد أظلم ممّن اخترع على اللّه كذبا. و هذا تفاد ممّا أضافوه إليه كناية، أو تظليم للمشركين بافترائهم على اللّه في قولهم: إنّه لذو شريك و ذو ولد. أَوْ كَذَّبَ بِآياتِهِ فكفر بها إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْمُجْرِمُونَ أي: المشركون المتوغّلون في الطغيان و العصيان.

[سورة يونس (10): الآيات 18 الى 21]

وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ وَ يَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (18) وَ ما كانَ النَّاسُ إِلاَّ أُمَّةً واحِدَةً فَاخْتَلَفُوا وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ

(19) وَ يَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (20) وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ (21)

______________________________

(1) بذّ يبذّ: غلب وفاق.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 198

روي: أنّ أهل الطائف كانوا يعبدون اللّات، و أهل مكّة العزّى و مناة و هبل و أسافا و نائلة، و كانوا يقولون: هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه، فنزلت فيهم:

وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُمْ وَ لا يَنْفَعُهُمْ

لأنّه جماد لا يقدر على نفع و لا ضرّ، و المعبود ينبغي أن يكون مثيبا و معاقبا حتى تعود عبادته بجلب نفع أو دفع ضرّ وَ يَقُولُونَ هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ تشفع لنا فيما يهمّنا من أمور الدنيا أو الآخرة إن يكن بعث. و هذا من فرط جهالتهم، حيث تركوا عبادة الموجد الضارّ النافع إلى عبادة ما يعلم قطعا أنّه لا يضرّ و لا ينفع، على توهّم أنّه ربما يشفع لهم عنده.

قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اللَّهَ أ تخبرونه بِما لا يَعْلَمُ و هو أنّ له شريكا. و فيه تقريع و تهكّم بهم. أو هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه. و ما لا يعلمه العالم بالذات المحيط بجميع المعلومات لا يكون له تحقّق. فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ حال من العائد المحذوف في «لا يعلم» أي: لا يعلمه، مؤكّدة للنفي، منبّهة على أنّ ما يعبدون من دون اللّه إما سماويّ أو أرضيّ، و لا شي ء من الموجودات فيهما إلّا و هو حادث مقهور مثلهم لا يليق أن يشرك به سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ «ما» مصدريّة، أي: عن إشراكهم.

أو موصولة، أي: عن الشركاء الّذين يشركونهم به. و قرأ حمزة و الكسائي هنا و في الموضعين في أوّل النحل «1» و الروم «2» بالتاء.

وَ ما كانَ النَّاسُ إِلَّا أُمَّةً واحِدَةً متّفقين على ملّة واحدة، موحّدين كلّهم على الفطرة. و ذلك في عهد آدم عليه السّلام إلى أن قتل قابيل هابيل، أو بعد الطوفان حين لم يذر اللّه من الكافرين ديّارا. أو مجتمعين على الضلال في فترة من الرسل. فَاخْتَلَفُوا باتّباع الهوى و الأباطيل، أو ببعثة الرسل، فتبعتهم طائفة و أصرّت اخرى.

______________________________

(1) النحل: 1.

(2) الروم: 40.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 199

وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ بتأخير الحكم بينهم أو العذاب الفاصل بينهم إلى يوم القيامة، فإنّه يوم الفصل و الجزاء لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ عاجلا فِيما فِيهِ يَخْتَلِفُونَ بإهلاك المبطل و إبقاء المحقّ، و لكنّ الحكمة أوجبت أن تكون هذه الدار للتكليف، و تلك للثواب و العقاب.

ثمّ حكى سبحانه عن هؤلاء الكفّار فقال: وَ يَقُولُونَ لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ أي: من الآيات التي اقترحوها. و كانوا لا يعتدّون بما أنزل عليه من الآيات العظيمة المتكاثرة التي لم ينزل على أحد من الأنبياء مثلها، لفرط عنادهم و تماديهم في التمرّد، و انهماكهم في الغيّ. فَقُلْ إِنَّمَا الْغَيْبُ لِلَّهِ هو المختصّ بعلمه، فلعلّه يعلم في إنزال الآيات المقترحة من مفاسد تصرف عن إنزالها فَانْتَظِرُوا لنزول ما اقترحتموه إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ لما يفعل اللّه بكم بجحودكم ما نزل عليّ من الآيات العظام، و اقتراحكم غيره.

ثمّ أخبر سبحانه عن ذميم فعالهم فقال: وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ يريد بالناس الكفّار رَحْمَةً صحّة وسعة مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُمْ كمرض و قحط إِذا لَهُمْ مَكْرٌ فِي آياتِنا احتيال في

دفعها و الطعن فيها.

قيل: قحط أهل مكّة سبع سنين حتّى كادوا يهلكون، ثمّ رحمهم اللّه بغزارة المطر، فصاروا يطعنون في آيات اللّه، و يكيدون رسوله و يعادونه.

قُلِ اللَّهُ أَسْرَعُ مَكْراً منكم، قد دبّر عقابكم قبل أن تدبّروا كيدكم في إطفاء نور الإسلام. و إنّما دلّ على سرعتهم المفضّل عليها كلمة «إذا» المفاجأة الواقعة جوابا ل «إذا» الشرطيّة. و المكر إخفاء الكيد. و هو من اللّه تعالى إمّا الاستدراج، أو الجزاء على المكر. إِنَّ رُسُلَنا يَكْتُبُونَ ما تَمْكُرُونَ هذا إعلام للانتقام، و تنبيه على أنّ ما دبّروا في إخفائه لم يخف على الحفظة، فضلا أن يخفى على اللّه تعالى. و عن يعقوب: يمكرون بالياء، ليوافق ما قبله.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 200

زبدة التفاسير ج 3 249

[سورة يونس (10): الآيات 22 الى 23]

هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ وَ فَرِحُوا بِها جاءَتْها رِيحٌ عاصِفٌ وَ جاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لَئِنْ أَنْجَيْتَنا مِنْ هذِهِ لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ (22) فَلَمَّا أَنْجاهُمْ إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (23)

ثمّ امتنّ اللّه سبحانه على خلقه، بأن عدّد نعمه الّتي يعطيهم في كلّ حال، فقال: هُوَ الَّذِي يُسَيِّرُكُمْ يحملكم على السير، و يمكّنكم منه بما هيّأ لكم من أسباب السير. و قرأ ابن عامر: ينشركم، بالنون و الشين من النشر. فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ حَتَّى إِذا كُنْتُمْ فِي الْفُلْكِ في السفن وَ جَرَيْنَ بِهِمْ بمن فيها. عدل عن الخطاب إلى الغيبة للمبالغة، كأنّه تذكرة لغيرهم ليتعجّب من

حالهم و ينكر عليهم. بِرِيحٍ طَيِّبَةٍ ليّنة الهبوب يستطيبونها وَ فَرِحُوا بِها سرّوا بتلك الريح، لأنّها تبلغهم مقصودهم جاءَتْها جواب «إذا». و الضمير للفلك أو الريح الطيّبة. بمعنى: تلقّتها. رِيحٌ عاصِفٌ ذات عصف، شديدة الهبوب، هائلة.

وَ جاءَهُمُ الْمَوْجُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ من أمكنة الموج. يعني: الموج من الجوانب الأربع. وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ أُحِيطَ بِهِمْ و أيقنوا أنّهم دنوا من الهلاك. و هو مثل في الهلاك، أي: أنّهم أهلكوا، و سدّت عليهم مسالك الخلاص، كمن أحاطت به أعداؤه.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 201

دَعَوُا اللَّهَ عند نزول هذه الشدائد مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ من غير إشراك، لتراجع الفطرة، و زوال المعارض من شدّة الخوف. و هو بدل من «ظنّوا» بدل الاشتمال، لأنّ دعاءهم من لوازم ظنّهم الهلاك، فهو ملتبس به. و الجملة الشرطيّة بعد «حتّى» بما في حيّزها غاية للتسيير، فكأنّه قال: هو الّذي يسيّركم حتّى وقعت هذه الحادثة، و كان كيت و كيت، من مجي ء الريح العاصف، و تراكم الأمواج، و الظنّ بالهلاك، و الدعاء بالإنجاء خالصا و مخلصا.

لَئِنْ أَنْجَيْتَنا يا ربّ مِنْ هذِهِ الشدّة لَنَكُونَنَّ مِنَ الشَّاكِرِينَ أي: من جملة من يشكرك، على إرادة القول، أو مفعول «دعوا» لأنّه من جملة القول.

فَلَمَّا أَنْجاهُمْ أخلصهم اللّه تعالى من تلك المحن إجابة لدعائهم إِذا هُمْ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ فاجئوا الفساد فيها، و سارعوا إلى ما كانوا عليه بِغَيْرِ الْحَقِ مبطلين فيه. و هو احتراز عن تخريب المسلمين ديار الكفرة و إحراق زروعهم و قلع أشجارهم، فإنّها إفساد بحقّ.

يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ فإنّ و باله عليكم، و إنّما بغيكم على أمثالكم و أبناء جنسكم مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا منفعة الحياة الدّنيا لا تبقى، و يبقى عقابها. و رفعه

على أنّه خبر «بغيكم» و «على أنفسكم» صلته، أو خبر مبتدأ محذوف، تقديره: ذلك متاع الحياة الدنيا، و «على أنفسكم» خبر «بغيكم» و نصبه حفص على أنّه مصدر مؤكّد، أي: تمتّعون متاع الحياة الدنيا. أو مفعول البغي، لأنّه بمعنى الطلب، فيكون الجارّ من صلته و الخبر محذوف، تقديره: بغيكم متاع الحياة الدّنيا محذور أو ضلال. أو مفعول فعل دلّ عليه البغي، و «على أنفسكم» خبر.

ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُكُمْ في الآخرة فَنُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بالجزاء عليه.

و

روي عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ثنتان يعجّلهما اللّه في الدنيا: البغي، و عقوق الوالدين».

و عن ابن عبّاس: لو بغى جبل على جبل لدكّ الباغي.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 202

[سورة يونس (10): آية 24]

إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَ الْأَنْعامُ حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَ ازَّيَّنَتْ وَ ظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها أَتاها أَمْرُنا لَيْلاً أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها حَصِيداً كَأَنْ لَمْ تَغْنَ بِالْأَمْسِ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (24)

و لمّا تقدّم ما يوجب الترغيب في الآخرة و التزهيد في الدنيا، عقّبه سبحانه بذكر صفة الدارين، فقال: إِنَّما مَثَلُ الْحَياةِ الدُّنْيا حالها العجيبة في سرعة تقضّيها، و ذهاب نعيمها بعد إقبالها، و اغترار الناس بها كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فاشتبك بسببه حتّى خالط بعضه بعضا مِمَّا يَأْكُلُ النَّاسُ وَ الْأَنْعامُ من الزروع و البقول و الحشيش.

حَتَّى إِذا أَخَذَتِ الْأَرْضُ زُخْرُفَها وَ ازَّيَّنَتْ تزيّنت بأصناف النبات و أشكالها و ألوانها المختلفة، كعروس أخذت ألوان الثياب و الزينة و تزيّنت بها. و أصل «ازّيّنت» تزيّنت، فأدغم ثمّ أدخل عليه الهمزة المكسورة، لتعذّر الابتداء بالساكن.

وَ ظَنَّ أَهْلُها أَنَّهُمْ قادِرُونَ عَلَيْها متمكّنون

من حصدها و رفع غلّتها أَتاها أَمْرُنا هو ضرب زرعها ببعض العاهات و الآفات بعد أمنهم و إيقانهم أن قد سلم لَيْلًا أَوْ نَهاراً فَجَعَلْناها فجعلنا زرعها حَصِيداً شبيها بما حصد من أصله و استؤصل كَأَنْ لَمْ تَغْنَ زرعها، أي: لم ينبت. و المضاف محذوف في الموضعين للمبالغة.

بِالْأَمْسِ فيما قبيله. و هو مثل في الوقت القريب، كأنّه قيل: كأن لم تغن آنفا.

و اعلم أنّ الممثّل به مضمون الحكاية، و هو زوال خضرة النبات فجأة، و ذهابه حطاما، بعد ما كان غضّا و التفّ و زيّن الأرض حتى طمع فيه أهله، و ظنّوا

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 203

أنّه قد سلم من الجوائح «1»، لا الماء و إن وليه حرف التشبيه، لأنّه من التشبيه المركّب.

كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فإنّهم المنتفعون به.

[سورة يونس (10): الآيات 25 الى 27]

وَ اللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (25) لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَ زِيادَةٌ وَ لا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ قَتَرٌ وَ لا ذِلَّةٌ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (26) وَ الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها وَ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (27)

و لمّا بيّن سبحانه أنّ الدنيا تنقطع و تفنى بالموت كما يفنى هذا النبات بفنون الآفات، و نبّه على التوقّع لزوالها و التحرّز عن الاغترار بأحوالها، رغّب عقيبه في الآخرة، فقال: وَ اللَّهُ يَدْعُوا إِلى دارِ السَّلامِ دار السلامة من التقضّي و الآفة، أو دار اللّه. و تخصيص هذا الاسم أيضا للتنبيه على ذلك. أو دار يسلّم اللّه و الملائكة فيها على من يدخلها. و المراد الجنّة. وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ بالتوفيق. و

هو الّذي علم أنّ اللطف يجدي عليه، فإنّ مشيئته تابعة لحكمته. إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ هو طريقها الّذي هو الإسلام و التدرّع بلباس التقوى.

______________________________

(1) الجوائح جمع الجائحة، و هي البليّة و التهلكة.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 204

و المعنى: يدعو العباد كلّهم إلى دار السلام، و لا يدخلها إلّا الّذي استرشد فوفّق بالاهتداء، فإنّ الحكمة الإلهيّة مقتضية أن يوفّق طالب الحقّ و يهديه، و يخذل المعاند المكابر و يمنع لطفه و توفيقه عنه.

ثمّ بيّن حال أهل دار السلام فقال: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا المثوبة الْحُسْنى وَ زِيادَةٌ و ما يزيد على المثوبة تفضّلا، لقوله: وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ «1». و

عن عليّ عليه السّلام «الزيادة: غرفة من لؤلؤة واحدة، لها أربعة أبواب».

و عن ابن عبّاس:

الحسنى مثل حسناتها، و الزيادة عشر أمثالها. و عن الحسن: عشرة أمثالها إلى سبعمائة ضعف و أكثر. و عن مجاهد: الزيادة مغفرة من اللّه و رضوان. و عن يزيد بن شجرة: الزيادة أن تمرّ السحابة بأهل الجنّة فتقول: ما تريدون أن أمطركم؟ فلا يريدون شيئا إلّا أمطرتهم. و

عن أبي جعفر عليه السّلام: «الزيادة هي ما أعطاهم اللّه تعالى من النعم في الدنيا، لا يحاسبهم به في الآخرة».

وَ لا يَرْهَقُ وُجُوهَهُمْ لا يغشاها قَتَرٌ غبرة فيها سواد وَ لا ذِلَّةٌ هوان و أثر كآبة. و المعنى: لا يرهقهم ما يرهق أهل النار، كقوله: تَرْهَقُها قَتَرَةٌ «2» و تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ «3».

روى الفضيل بن يسار عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما من عين ترقرقت «4» بمائها إلّا حرّم اللّه ذلك الجسد على النار، فإن فاضت من خشية اللّه لم يرهق ذلك الوجه قتر و لا ذلّة».

أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ

فِيها خالِدُونَ دائمون لا زوال فيها، و لا انقراض

______________________________

(1) النساء: 173.

(2) عبس: 41.

(3) القلم: 43.

(4) ترقرقت العين: دمعت.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 205

لنعيمها، بخلاف الدنيا و زخارفها.

وَ الَّذِينَ كَسَبُوا السَّيِّئاتِ جَزاءُ سَيِّئَةٍ بِمِثْلِها عطف على قوله: «لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى على مذهب من يجوّز: في الدار زيد و الحجرة عمرو. أو «الّذين» مبتدأ، و الخبر «جزاء سيّئة» على تقدير: و جزاء الّذين كسبوا السيّئات جزاء سيّئة بمثلها. و المعنى: جزاؤهم أن تجازى سيّئة بسيّئة مثلها لا يزاد عليها. أو «الّذين» مبتدأ، و الخبر «كأنّما أغشيت» أو «أولئك أصحاب النار»، و ما بينهما اعتراض.

ف «جزاء سيّئة» مبتدأ خبره محذوف، أي: فجزاء سيّئة بمثلها واقع، أو بمثلها، على زيادة الباء أو تقدير مقدّر: بمثلها.

و في هذا دليل على أنّ المراد بالزيادة الفضل، لأنّه دلّ بترك الزيادة على السيّئة على عدله، و دلّ ثمّة بإثبات الزيادة على المثوبة على فضله.

وَ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ ما من أحد يعصمهم من سخط اللّه، أو من جهة اللّه تعالى و من عنده، كما يكون للمؤمنين كَأَنَّما أُغْشِيَتْ وُجُوهُهُمْ قِطَعاً مِنَ اللَّيْلِ مُظْلِماً لفرط سوادها و ظلمتها. و «مظلما» حال من الليل، و العامل فيه «أغشيت»، لأنّه العامل في «قطعا»، و هو موصوف بالجارّ و المجرور، و العامل في الموصوف عامل في الصفة. أو العامل معنى الفعل في «من الليل».

و قرأ ابن كثير و الكسائي و يعقوب: قطعا بسكون الطاء. و على هذا يصحّ أن يكون «مظلما» صفة له أو حالا منه.

أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ و هذه الآية في المشركين، فلا تكون ممّا يحتجّ به الوعيديّة.

[سورة يونس (10): الآيات 28 الى 30]

وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ أَنْتُمْ وَ

شُرَكاؤُكُمْ فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ وَ قالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ (28) فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ (29) هُنالِكَ تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ وَ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِّ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (30)

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 206

و لمّا تقدّم ذكر الجزاء بيّن سبحانه وقت الجزاء، فقال: وَ يَوْمَ نَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً نجمع الخلائق أجمعين من كلّ أوب إلى الموقف ثُمَّ نَقُولُ لِلَّذِينَ أَشْرَكُوا مَكانَكُمْ الزموا مكانكم حتّى تنظروا ما يفعل بكم أَنْتُمْ تأكيد للضمير المنتقل إليه من عامله، لأنّه سدّ مسدّ: الزموا وَ شُرَكاؤُكُمْ عطف عليه فَزَيَّلْنا بَيْنَهُمْ ففرّقنا بينهم، و قطّعنا الوصل الّتي كانت بينهم وَ قالَ شُرَكاؤُهُمْ ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ مجاز عن براءة ما عبدوه من عبادتهم، فإنّهم عبدوا في الحقيقة أهواءهم، لأنّها الآمرة بالإشراك لا ما أشركوا به.

و قيل: ينطق اللّه الأصنام فتشافههم بذلك مكان الشفاعة الّتي توقّعوا منها.

و قيل: المراد بالشركاء الملائكة و المسيح. و قيل: الشياطين.

فَكَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمْ فإنّه العالم بكنه الحال إِنْ كُنَّا عَنْ عِبادَتِكُمْ لَغافِلِينَ «إن» هي المخفّفة من الثقيلة، و اللام هي الفارقة.

هُنالِكَ في ذلك المقام تَبْلُوا كُلُّ نَفْسٍ ما أَسْلَفَتْ تختبر ما قدّمت من عمل، فتعاين نفعه و ضرّه، مقبوله و مردوده، و منه يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ «1». و قرأ حمزة و الكسائي: تتلو، من التلاوة، أي: تقرأ ذكر ما قدّمت، أو من التلو، أي: تتبع عملها فيقودها إلى الجنّة أو إلى النّار. وَ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ إلى جزائه إيّاهم بما اسلفوا مَوْلاهُمُ الْحَقِ ربّهم الثابتة ربوبيّته، و متولّي أمورهم على الحقيقة، لا ما اتّخذوه مولى. أو الّذي يتولّى حسابهم، العدل الّذي لا يجوز.

وَ ضَلَّ عَنْهُمْ و ضاع عنهم

______________________________

(1) الطارق: 9.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 207

ما كانُوا يَفْتَرُونَ من أنّ آلهتهم تشفع لهم، أو ما كانوا يدّعون أنّها آلهة.

[سورة يونس (10): الآيات 31 الى 33]

قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ مَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَ مَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ فَقُلْ أَ فَلا تَتَّقُونَ (31) فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُّ فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلاَّ الضَّلالُ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (32) كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (33)

ثمّ قرّر سبحانه أدلّة التوحيد و البعث عليهم، فقال: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أي: منهما جميعا، فإنّ الأرزاق تحصل بأسباب سماويّة و موادّ أرضيّة، أو من كلّ واحد منهما توسعة عليكم. و قيل: «من» لبيان «من» على حذف المضاف، أي: من أهل السماء و الأرض.

أَمَّنْ يَمْلِكُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ أم من يستطيع خلقهما و تسويتهما؟ أو من يحفظهما من الآفات مع كثرتها و سرعة انفعالهما من أدنى شي ء؟

وَ مَنْ يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ أي: و من يحيي و يميت؟ و من ينشئ الحيوان من النطفة، و النطفة منه؟ وَ مَنْ يُدَبِّرُ الْأَمْرَ و من يلي تدبير أمر العالم. و هو تعميم بعد تخصيص.

فَسَيَقُولُونَ اللَّهُ إذ لا يقدرون على المكابرة و العناد في ذلك، لفرط وضوحه فَقُلْ أَ فَلا تَتَّقُونَ أنفسكم عقابه بإشراككم إيّاه ما لا يشاركه في شي ء من ذلك.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 208

فَذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمُ الْحَقُ أي: المتولّي لهذه الأمور المستحقّ للعبادة هو ربّكم الثابت ربوبيّته، لأنّه الّذي أنشأكم و أحياكم و رزقكم و دبّر أموركم فَما ذا بَعْدَ الْحَقِّ إِلَّا الضَّلالُ استفهام

إنكار، أي: ليس بعد الحقّ إلّا الضلال، فمن تخطّى الحقّ- الّذي هو عبادة اللّه- وقع في الضلال فَأَنَّى تُصْرَفُونَ عن الحقّ إلى الضلال.

كَذلِكَ أي: كما حقّت الربوبيّة للّه تعالى، أو أنّ الحقّ بعده الضلال، أو أنّهم مصروفون عن الحقّ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ أي: ثبت حكمه بالعذاب عَلَى الَّذِينَ فَسَقُوا تمرّدوا في كفرهم، و خرجوا عن حدّ الاستصلاح أَنَّهُمْ لا يُؤْمِنُونَ بدل من الكلمة، أي: حقّ عليهم انتفاء الإيمان. أو تعليل لحقّيتها، أي: حقّ عذاب اللّه على الّذين فسقوا، لعدم إيمانهم.

[سورة يونس (10): الآيات 34 الى 36]

قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ قُلِ اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (34) قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِّ أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي إِلاَّ أَنْ يُهْدى فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (35) وَ ما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ إِلاَّ ظَنًّا إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (36)

ثمّ احتجّ سبحانه عليهم في التوحيد باحتجاج آخر، فقال: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ من هذه الأصنام التي جعلتموها شركاء للّه تعالى مَنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ جعل إعادة الخلق كالإبداء في الإلزام بها، لظهور برهانها، و مكابرة دافعها، و عدم مساعدته عليها، و لذلك أمر الرسول بأن ينوب عنهم في الجواب، فقال: قُلِ

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 209

اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لأن لجاجهم و مكابرتهم لا يدعهم أن يعترفوا بها فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ تصرفون عن قصد السبيل.

ثمّ استأنف الحجاج بنوع آخر، فقال: قُلْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِ إلى الرشد و ما فيه من الصلاح و النجاة، بنصب الحجج و إرسال الرسل، و التوفيق للنظر و

التدبّر. و «هدى» كما يعدّى ب «إلى» لتضمّنه معنى الانتهاء، يعدّى باللام، للدلالة على أنّ المنتهى غاية الهداية، و أنّها لم تتوجّه نحوه على سبيل الاتّفاق، و لذلك عدّي بها ما أسند إلى اللّه تعالى، و قال: قُلِ اللَّهُ يَهْدِي لِلْحَقِ بما ركّب في المكلّفين من العقول، و مكّنهم من النظر في الأدلّة، و وقفهم على الشرائع.

أَ فَمَنْ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ أَحَقُّ أَنْ يُتَّبَعَ أَمَّنْ لا يَهِدِّي لا يهتدي إِلَّا أَنْ يُهْدى من قولهم: هدى بنفسه إذا اهتدى. أو لا يهدي غيره إلّا أن يهديه اللّه. و هذا حال أشراف شركائهم، كالملائكة و المسيح و عزير.

و قرأ ابن كثير و ورش عن نافع و ابن عامر: لا يهدّي، بفتح الهاء و تشديد الدال. و يعقوب و حفص بالكسر و التشديد. و الأصل: يهتدي، فأدغم، و فتحت الهاء بحركة التاء، أو كسرت لالتقاء الساكنين. و روى أبو بكر: يهدّي باتّباع الهاء. و قرأ أبو عمرو بالإدغام المجرّد عن الفتحة أو الكسرة، و لم يكن يبال بالتقاء الساكنين، لأنّ المدغم في حكم المتحرّك. و عن نافع برواية قالون مثله.

فَما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ بما يقتضي صريح العقل بطلانه، كقولهم: إنّ هذه الأصنام آلهة، و أنّها شفعاء عند اللّه. و الاستفهام للتعجيب.

وَ ما يَتَّبِعُ أَكْثَرُهُمْ فيما يعتقدونه إِلَّا ظَنًّا مستندا إلى خيالات فارغة و أقيسة فاسدة، كقياس الغائب على الشاهد، و الخالق على المخلوق، بأدنى مشاركة موهومة. و المراد بالأكثر الجميع، أو من ينتمي إلى تمييز و نظر، و لا يرضى بالتقليد الصرف.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 210

إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِ من العلم و الاعتقاد الحقّ الثابت شَيْئاً من الإغناء. و يجوز أن يكون مفعولا به، و «من

الحقّ» حالا منه. و فيه دليل على أنّ تحصيل العلم في الأصول واجب، و الاكتفاء بالتقليد و الظنّ غير جائز. إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ وعيد على اتّباعهم للظنّ، و إعراضهم عن البرهان.

[سورة يونس (10): الآيات 37 الى 39]

وَ ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (37) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) بَلْ كَذَّبُوا بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ وَ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ كَذلِكَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (39)

ثمّ ردّ اللّه سبحانه على الكفّار قولهم: «ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ»، و قولهم:

إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم افترى هذا القرآن، فقال: وَ ما كانَ هذَا الْقُرْآنُ أَنْ يُفْتَرى مِنْ دُونِ اللَّهِ و ما صحّ و ما استقام و كان محالا أن يكون مثله في علوّ أمره و إعجازه مفترى من الخلق وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ مطابقا لما تقدّمه من الكتب الإلهيّة المشهود على صدقها، و لا يكون كذبا، كيف و هو- لكونه معجزا دونها- عيار عليها، شاهد على صحّتها. و نصبه بأنّه خبر ل «كان» مقدّرا، أو علّة لفعل محذوف، تقديره: لكن أنزله اللّه تصديق الّذي بين يديه.

وَ تَفْصِيلَ الْكِتابِ و تفصيل ما حقّق و أثبت من العقائد و فرض الأحكام، و بيان سائر الشرائع لا رَيْبَ فِيهِ منتفيا عنه الشكّ. و هو خبر ثالث داخل في

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 211

حكم الاستدراك. و يجوز أن يكون حالا من «الكتاب»، فإنّه مفعول في المعنى، و أن يكون استئنافا.

مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ

خبر آخر، تقديره: كائنا من ربّ العالمين. أو متعلّق ب «تصديق» أو ب «تفصيل»، و «لا رَيْبَ فِيهِ» اعتراض. أو بالفعل المعلّل بالتصديق و التفصيل، أي: أنزله اللّه كائنا من ربّ العالمين. و يجوز أن يكون حالا من الكتاب، أو من الضمير في «فيه». و مساق الآية بعد المنع من اتّباع الظنّ لبيان ما يجب اتّباعه و البرهان عليه.

أَمْ يَقُولُونَ بل أ يقولون افْتَراهُ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟ و معنى الهمزة فيه للإنكار. قُلْ إن افتريته كما زعمتم فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِثْلِهِ في البلاغة و حسن النظم و قوّة المعنى على وجه الافتراء، فإنّكم مثلي في العربيّة و الفصاحة، و أشدّ تمرّنا في النظم و العبارة وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ و مع ذلك فاستعينوا بمن أمكنكم أن تستعينوا به مِنْ دُونِ اللَّهِ سوى اللّه تعالى، فإنّه وحده قادر على أن يأتي بمثله، و لا يقدر على ذلك أحد غيره إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنّ محمدا اختلقه.

بَلْ كَذَّبُوا بل سارعوا إلى التكذيب بِما لَمْ يُحِيطُوا بِعِلْمِهِ بالقرآن الّذي لم يعلموه من جميع وجوهه أوّل ما سمعوه، قبل أن يتدبّروا آياته، و يحيطوا بالعلم بشأنه و كنه أمره، من كيفيّة نظمه و صحّة معانيه. أو بما جهلوه و لم يحيطوا به علما، من ذكر البعث و سائر ما يخالف دينهم.

وَ لَمَّا يَأْتِهِمْ تَأْوِيلُهُ و لم يقفوا بعد على حقيقته، و لم تبلغ أذهانهم معانيه، لنفورهم عمّا يخالف ما ألفوه من آبائهم. أولم يأتهم بعد عاقبة ما فيه من الإخبار بالغيوب حتّى يتبيّن لهم أنّه صدق أو كذب. و المعنى: أنّ القرآن معجز من جهة اللفظ و المعنى. ثمّ إنّهم فاجئوا تكذيبه قبل أن يتدبّروا نظمه

و يتفحّصوا معناه.

و معنى التوقّع في «لمّا» أنّه قد ظهر لهم بالأخرة إعجازه لمّا كرّر عليهم التحدّي، فجرّبوا قواهم في معارضته فضعفت دونها، أو لمّا شاهدوا وقوع ما أخبر

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 212

به طبقا لإخباره مرارا، فلم يقلعوا عن التكذيب تمرّدا و عنادا.

كَذلِكَ أي: مثل ذلك التكذيب كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أنبياءهم فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ فيه وعيد لهم بمثل ما عوقب به من قبلهم.

[سورة يونس (10): الآيات 40 الى 47]

وَ مِنْهُمْ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ (40) وَ إِنْ كَذَّبُوكَ فَقُلْ لِي عَمَلِي وَ لَكُمْ عَمَلُكُمْ أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَ أَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (41) وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ وَ لَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ (42) وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ أَ فَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ وَ لَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ (43) إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً وَ لكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (44)

وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنَ النَّهارِ يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ (45) وَ إِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ (46) وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ رَسُولٌ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (47)

ثمّ أخبر سبحانه أنّ من جملة هؤلاء الكفّار الّذين كذّبوا بالقرآن و نسبوه إلى الافتراء من سيؤمن به في المستقبل، و يصدّق بأنّه من عند اللّه، و منهم من يموت

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 213

على كفره، فقال: وَ مِنْهُمْ و من المكذّبين مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ من سيؤمن و يتوب عن كفره، أو يصدّق به في نفسه و يعلم أنّه

حقّ و لكن يعاند وَ مِنْهُمْ مَنْ لا يُؤْمِنُ بِهِ فيما يستقبل، بأن يموت على الكفر، أو لا يؤمن به في نفسه، لقلّة تدبّره فيه وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِالْمُفْسِدِينَ بالمعاندين أو بالمصرّين.

ثمّ خاطب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقوله: وَ إِنْ كَذَّبُوكَ و إن اصرّوا على تكذيبك بعد إلزام الحجّة فَقُلْ لِي عَمَلِي وَ لَكُمْ عَمَلُكُمْ لي جزاء عملي و لكم جزاء عملكم، حقّا كان أو باطلا أَنْتُمْ بَرِيئُونَ مِمَّا أَعْمَلُ وَ أَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ لا تؤاخذون بعملي، و لا أؤاخذ بعملكم. و مثله: فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ «1». و قوله:

قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ إلى آخر السورة.

و ملخّص المعنى: إن عاندوا و أصرّوا على تكذيبك فتبرّأ منهم و خلّهم، فقد أعذرت في التبليغ إليهم. و هذا وعيد لهم من اللّه تعالى، كقوله تعالى: اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ «2». و لا تنافي بين هذه الآية و آية القتال، لأنّه براءة و وعيد، و ذلك لا ينافي الجهاد، فلا تكون منسوخة بإنزال آية «3» السيف كما توهّم بعضهم.

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ إذا قرأت القرآن و علمت الشرائع، و لكن لا يقبلون و لا يعون، كالأصمّ الّذي لا يسمع أصلا أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَ أ تقدر على إسماعهم وَ لَوْ كانُوا لا يَعْقِلُونَ و لو انضمّ إلى صممهم عدم تعقّلهم، لأنّ الأصمّ العاقل ربما تفرّس و استدلّ و علم إذا وقع في صماخه دويّ الصوت، فإذا اجتمع سلب العقل و السمع جميعا فقد تمّ الأمر.

و فيه تنبيه على أنّ حقيقة استماع الكلام فهم المعنى المقصود منه، و لذلك لا

______________________________

(1) الشعراء: 216.

(2) الأنعام: 135.

(3) التوبة: 5 و 29.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 214

توصف

به البهائم، و هو لا يتأتّى إلّا باستعمال العقل السليم في تدبّره، و عقولهم لمّا كانت مؤفة بمعارضة الوهم و مشايعة الإلف و التقليد تعذّر إفهامهم الحكم و المعاني الدقيقة، فلم ينتفعوا بسرد الألفاظ عليهم غير ما ينتفع به البهائم من كلام الناعق، و هو مجرّد استماع الصوت.

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْظُرُ إِلَيْكَ يعاينون دلائل نبوّتك و لكن لا يصدّقونك أَ فَأَنْتَ تَهْدِي الْعُمْيَ أ تقدر على هدايتهم وَ لَوْ كانُوا لا يُبْصِرُونَ و إن انضمّ إلى عدم البصر عدم البصيرة، فإنّ المقصود من الإبصار هو الاعتبار و الاستبصار، و العمدة في ذلك البصيرة، و لذلك يحدس الأعمى المستبصر و يتفطّن لما لا يدركه البصير الأحمق. يعني: أنّهم في اليأس من قبولهم و تصديقهم الحقّ كالصمّ و العمي الّذين لا عقول لهم و لا بصائر. و الآية كالتعليل للأمر بالتبرّي و الإعراض عنهم. و الاستفهام في الآيتين للإنكار.

إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً بسلب حواسّهم و عقولهم وَ لكِنَّ النَّاسَ أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بإفسادها و تفويت منافعها عليهم. أو لا يظلمهم في تعذيبهم يوم القيامة، بل العذاب لا حق بهم على سبيل العدل و الاستحقاق. و قرأ حمزة و الكسائي بتخفيف «لكن» و رفع الناس.

ثمّ بيّن حالهم يوم الجمع بقوله: وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنَ النَّهارِ يعني: يستقصرون مدّة لبثهم في الدنيا أو في القبور، لهول ما يرون.

و الجملة التشبيهيّة في موضع الحال، أي: يحشرهم مشبّهين بمن لم يلبث إلّا ساعة.

أو صفة ل «يوم»، و العائد محذوف تقديره: كأن لم يلبثوا قبله، أو لمصدر محذوف، أي: حشرا كأن لم يلبثوا قبله.

يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ يعرف بعضهم بعضا كأنّهم لم يتفارقوا إلّا قليلا، و ذلك عند

خروجهم عن القبور، ثمّ ينقطع التعارف بينهم، لشدّة العذاب عليهم. و هي حال

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 215

أخرى مقدّرة، نحو: خرجت مع البازي صائدا، و الصيد لا يكون حين الخروج بل بعده. أو بيان لقوله: «كَأَنْ لَمْ يَلْبَثُوا». أو متعلّق الظرف، و التقدير: يتعارفون يوم يحشرهم.

قَدْ خَسِرَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ اللَّهِ على إرادة القول. و المعنى: يتعارفون بينهم قائلين ذلك. أو هي شهادة من اللّه على خسرانهم. و المعنى: قد خسروا في تجارتهم و بيعهم الإيمان بالكفر. وَ ما كانُوا مُهْتَدِينَ لطرق استعمال ما منحوا من القوى في تحصيل المعارف، فاستكسبوا بها جهالات أدّت بهم إلى الردى و العذاب الدائم، فما كانوا عارفين بالتجارة المربحة، و المثمرة للسعادة الأبديّة.

وَ إِمَّا نُرِيَنَّكَ نبصّرنّك بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ من العذاب في حياتك، كما أراه يوم بدر أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل أن نريك فَإِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فنريكه في الآخرة.

و هو جواب «نتوفّينّك». و جواب «نرينّك» محذوف، مثل: فذاك. ثُمَّ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما يَفْعَلُونَ أي: مجاز عليه. ذكر الشهادة و أراد نتيجتها و مقتضاها، فكأنّه قال: ثمّ اللّه معاقب على ما يفعلون، و لذا رتّبها على الرجوع ب «ثمّ». أو معناه: مؤدّ شهادته على أفعالهم يوم القيامة.

وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ من الأمم الماضية رَسُولٌ يبعث إليهم ليدعوهم إلى الحقّ فَإِذا جاءَ رَسُولُهُمْ بالبيّنات فكذّبوه قُضِيَ بَيْنَهُمْ بين الرسول و مكذّبيه بِالْقِسْطِ بالعدل، فأنجي الرسول و أهلك المكذّبون وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ

و قيل: معناه لكلّ أمّة يوم القيامة رسول تنسب إليه، فإذا جاء رسولهم الموقف ليشهد عليهم بالكفر و الإيمان قضى بينهم بإنجاء المؤمن و عقاب الكافر، كقوله: وَ جِي ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَداءِ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ «1».

______________________________

(1) الزمر: 69.

زبدة التفاسير، ج 3، ص:

216

[سورة يونس (10): الآيات 48 الى 56]

وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا وَ لا نَفْعاً إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ (49) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ عَذابُهُ بَياتاً أَوْ نَهاراً ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ (50) أَ ثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ آلْآنَ وَ قَدْ كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (51) ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (52)

وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ أَ حَقٌّ هُوَ قُلْ إِي وَ رَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌّ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (53) وَ لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ ما فِي الْأَرْضِ لافْتَدَتْ بِهِ وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (54) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (55) هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (56)

و لمّا وعد سبحانه المكذّبين بيّن عقيبه أنّهم استعجلوا ذلك على سبيل التكذيب و الردّ، فقال: وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ استبعادا له و استهزاء به إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ خطاب منهم للنبيّ و المؤمنين.

قُلْ لا أَمْلِكُ لِنَفْسِي ضَرًّا من فقر أو مرض وَ لا نَفْعاً من غنى أو صحّة، فكيف أملك لكم فأستعجل في جلب العذاب إليكم؟! إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ أن أملكه، أو و لكن ما شاء اللّه من ذلك كائن لِكُلِّ أُمَّةٍ أَجَلٌ مضروب محدود من الزمان

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 217

لهلاكهم إِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَلا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ لا يتأخّرون و لا يتقدّمون، فلا تستعجلوا فسيحين «1» وقتكم و ينجز وعدكم.

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَتاكُمْ

عَذابُهُ الّذي تستعجلون به بَياتاً وقت بيات و اشتغال بالنوم. و هو بمعنى التبييت، كالسلام بمعنى التسليم. أَوْ نَهاراً حين كنتم مشتغلين بطلب معاشكم ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ أيّ شي ء من العذاب يستعجلونه، و ليس شي ء منه يوجب الاستعجال، فإنّ كلّه مكروه، فلا يلائم الاستعجال؟! و هو متعلّق ب «أرأيتم» لأنّه بمعنى: أخبروني. و المجرمون وضع موضع الضمير، للدلالة على أنّهم لجرمهم ينبغي أن يفزعوا من مجي ء الوعيد، لا أن يستعجلوه. و يجوز ان يكون معناه التعجّب، كأنّه قال: أي هول شديد يستعجلون منه؟

و قيل: الضمير في «منه» للّه تعالى، و تعلّق الاستفهام ب «أرأيتم». و المعنى:

أخبروني ماذا يستعجل منه المجرمون؟ و جواب الشرط محذوف، و هو: تندموا على الاستعجال، أو تعرفوا الخطأ فيه.

و يجوز أن يكون «ما ذا يَسْتَعْجِلُ مِنْهُ الْمُجْرِمُونَ» جوابا للشرط، كقولك: إن أتيتك ماذا تطعمني؟ ثمّ تتعلّق الجملة ب «أرأيتم» أو بقوله: أَ ثُمَّ إِذا ما وَقَعَ آمَنْتُمْ بِهِ بمعنى: إن أتاكم عذابه آمنتم به بعد وقوعه حين لا ينفعكم الإيمان. و «ماذا يستعجل» اعتراض. و دخول حرف الاستفهام على «ثمّ» لإنكار التأخير.

آلْآنَ تؤمنون و قد اضطررتم لحلوله. و هو على إرادة القول، أي: قيل لهم إذا آمنوا بعد وقوع العذاب: الآن آمنتم به. و عن نافع: الآن بحذف الهمزة و إلقاء حركتها على اللام. وَ قَدْ كُنْتُمْ بِهِ أي: بالعذاب تَسْتَعْجِلُونَ تكذيبا و استهزاء.

ثُمَّ قِيلَ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عطف على «قيل» المقدّر ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ

______________________________

(1) أي: سيأتي و يقرب وقتكم، من: حان يحين أي: قرب.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 218

المؤلم على الدوام هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا بِما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ من الكفر و المعاصي.

وَ يَسْتَنْبِئُونَكَ و يستخبرونك أَ حَقٌّ هُوَ أحقّ ما تقول

من الوعد أو ادّعاء النبوّة، تقوله بجدّ أم باطل تهزل به. قاله حييّ بن أخطب لمّا قدم مكّة. و الأظهر أنّ الاستفهام فيه على أصله، لقوله: «و يستنبؤنك». و قيل: إنّه للإنكار. و «أحقّ» مبتدأ، و الضمير مرتفع به سادّ مسدّ الخبر، أو خبر مقدّم، و الجملة في موقع النصب ب «يستنبؤنك».

قُلْ إِي وَ رَبِّي إِنَّهُ لَحَقٌ إنّ العذاب لكائن لا شكّ فيه، أو ما ادّعيته لثابت.

و قيل: كلا الضميرين للقرآن. و «إي» بمعنى «نعم» و هو من لوازم القسم، كما كان «هل» بمعنى «قد» في الاستفهام خاصّة، و لذلك يوصل بواوه في التصديق فيقال:

إي و اللّه، و لا يقال: إي وحده. وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فائتين العذاب، و هو لاحق بكم لا محالة.

وَ لَوْ أَنَّ لِكُلِّ نَفْسٍ ظَلَمَتْ صفة نفس، أي: لكلّ نفس ظالمة بالشرك أو التعدّي على الغير ما فِي الْأَرْضِ من خزائنها و أموالها على كثرتها لَافْتَدَتْ بِهِ لجعلته فدية لها من العذاب، من قولهم: افتداه بمعنى: فداه وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ لأنّهم بهتوا بما عاينوا ممّا لم يحتسبوه من فظاعة الأمر و هوله، و رأوا من تفاقم الأمر ما سلبهم قواهم، فلم يطيقوا عنده بكاء و لا صراخا، و لم يقدروا أن ينطقوا سوى إسرار الندامة في القلوب.

و قيل: أسرّ الرؤساء منهم الندامة من أتباعهم، حياء منهم و خوفا من توبيخهم.

و قيل: أسرّوا الندامة أخلصوها، لأنّ إخفاءها إخلاصها، أو لأنّه يقال: سرّ الشي ء لخالصته، من حيث إنّها تخفى و يضنّ بها.

و قيل: معناه: أظهروها، من قولهم: أسرّ الشي ء و أشرّه إذا أظهره. فهو من

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 219

لغات الأضداد.

و يؤيّد المعنى الأوّل ما

روي عن أبي عبد اللّه عليه

السّلام أنّه قال: «إنّما اسرّوا الندامة و هم في النار كراهية لشماتة الأعداء».

وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْقِسْطِ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ ليس فيه تكرار، لأنّ الأوّل قضاء بين الأنبياء و مكذّبيهم، و الثاني مجازاة المشركين على الشرك، أو الحكومة بين الظالمين و المظلومين. و الضمير إنّما يتناولهم و الحال أنّهم لم يذكروا لدلالة الظلم عليهم.

أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ تقرير لقدرته تعالى على الإثابة و العقاب أَلا إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ من الثواب و العقاب حَقٌ ثابت كائن لا خلف فيه وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ لعدم تدبّرهم و تفكّرهم في العقبى، و قصر همّتهم إلى متاع الحياة الدنيا.

هُوَ يُحيِي وَ يُمِيتُ في الدنيا، فهو يقدر عليهما في العقبى، لأنّ القادر لذاته لا يزول قدرته، و المادّة القابلة للحياة و الموت قابلة لهما أبدا وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ بالموت أو النشور.

[سورة يونس (10): الآيات 57 الى 58]

يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ مِنْ رَبِّكُمْ وَ شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (57) قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (58)

و لمّا تقدّم ذكر القرآن و ما فيه من الوعد و الوعيد، عقّبه سبحانه بذكر جلالة موقع القرآن و عظم محلّه في باب الأدّلة، فقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَتْكُمْ مَوْعِظَةٌ

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 220

مِنْ رَبِّكُمْ وَ شِفاءٌ لِما فِي الصُّدُورِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ أي: قد جاءكم كتاب جامع للحكمة العمليّة الكاشفة عن محاسن الأعمال و مقابحها، و المرغّبة في المحاسن، و الزاجرة عن القبائح، و الحكمة النظريّة الّتي هي شفاء لما في الصدور من الشكوك و سوء الاعتقاد، و هدى إلى الحقّ و اليقين، و رحمة للمؤمنين، حيث أنزل عليهم فنجوا

بها من ظلمات الضلال إلى نور الإيمان، و تبدّلت مقاعدهم من دركات النيران بمصاعد من درجات الجنان. و التنكير في الجميع للتعظيم. و خصّ المؤمنين بالذكر، و إن كان القرآن عظة و رحمة لجميع الخلق، لأنّهم الّذين انتفعوا به.

قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ بإنزال القرآن. و الباء متعلّقة بفعل يفسّره قوله:

فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا أصل الكلام: بفضل اللّه و رحمته فليفرحوا فبذلك فليفرحوا.

و التكرير لتأكيد التقرير، و للبيان بعد الإجمال، و إيجاب اختصاص الفضل و الرحمة بالفرح دون ما عداهما من فوائد الدنيا. فأحد الفعلين حذف لدلالة الآخر عليه.

و دخلت الفاء لمعنى الشرط، كأنّه قيل: إن فرحوا بشي ء فليخصّوهما بالفرح، فإنّه لا مفروح به أحقّ منهما. و عن يعقوب: فلتفرحوا بالتاء على الأصل المرفوض.

و عن أبي سعيد الخدري و الحسن: فضل اللّه هو القرآن، و رحمته هو الإسلام. و عن مجاهد و قتادة و غيرهما: فضل اللّه الإسلام، و رحمته القرآن.

و

روى أنس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «من هداه اللّه للإسلام، و علّمه القرآن، ثمّ شكا الفاقة كتب اللّه عزّ و جلّ الفقر بين عينيه إلى يوم القيامة، ثمّ تلا: «قُلْ بِفَضْلِ اللَّهِ وَ بِرَحْمَتِهِ فَبِذلِكَ فَلْيَفْرَحُوا» إلى آخر الآية».

و

روى الكلبي عن أبي صالح، عن ابن عبّاس: فضل اللّه رسول اللّه، و رحمته عليّ بن أبي طالب عليه السّلام. و هو أيضا مرويّ عن الباقر عليه السّلام.

هُوَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من حطام الدنيا، فإنّها منتهية إلى الزوال. و ضمير «هو» راجع إلى ذلك. و قرأ ابن عامر: تجمعون، على معنى: فبذلك فليفرح

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 221

المؤمنون، فهو خير ممّا تجمعونه أيّها المخاطبون.

[سورة يونس (10): الآيات 59 الى 60]

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ

رِزْقٍ فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَ حَلالاً قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ (59) وَ ما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (60)

ثمّ أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يخاطب كفّار مكّة، فقال: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ لَكُمْ مِنْ رِزْقٍ جعل الرزق منزلا لأنّه مقدّر في السماء، محصّل بأسباب منها. و «ما» في موضع النصب ب «أنزل» أو ب «أرأيتم»، فإنّه بمعنى: أخبروني. و «لكم» دلّ على أنّ الرزق لا يكون إلّا حلالا، و لذا وبّخ على التبعيض فقال: فَجَعَلْتُمْ مِنْهُ حَراماً وَ حَلالًا مثل: هذِهِ أَنْعامٌ وَ حَرْثٌ حِجْرٌ «1» ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا وَ مُحَرَّمٌ عَلى أَزْواجِنا « «2»» و كالسائبة و البحيرة و الوصيلة و الحام و نحوها.

قُلْ آللَّهُ أَذِنَ لَكُمْ في التحريم و التحليل، فتقولون ذلك بحكمه أَمْ عَلَى اللَّهِ تَفْتَرُونَ في نسبة ذلك إليه؟! و يجوز أن تكون المنفصلة متّصلة ب «أرأيتم»، و «قل» تكرير للتأكيد، و أن يكون الاستفهام للإنكار و «أم» منقطعة. و معنى الهمزة فيها تقرير لافترائهم على اللّه تعالى.

و كفى بهذه الآية زاجرة زجرا بليغا عن التجوّز فيما يسأل عنه من الأحكام، و باعثة على وجوب الاحتياط فيه، و أن لا يقول أحد في شي ء جائز أو غير جائز

______________________________

(1، 2) الأنعام: 138- 139.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 222

إلّا بعد إيقان و إتقان، و من لم يوقن فليتّق اللّه و ليصمت، و إلّا فهو مفتر على اللّه.

وَ ما ظَنُّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ أيّ شي ء ظنّهم يَوْمَ الْقِيامَةِ أي:

أ يحسبون أنّهم لا يجازون عليه

يوم الجزاء؟ و هو منصوب بالظنّ. و في إبهام الوعيد تهديد عظيم.

إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ حيث أنعم عليهم بالعقل، و هداهم بإرسال الرسل و إنزال الكتب وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ هذه النعم الجليلة.

[سورة يونس (10): آية 61]

وَ ما تَكُونُ فِي شَأْنٍ وَ ما تَتْلُوا مِنْهُ مِنْ قُرْآنٍ وَ لا تَعْمَلُونَ مِنْ عَمَلٍ إِلاَّ كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ وَ ما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ وَ لا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرَ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (61)

ثمّ بيّن سبحانه أنّ إمهاله إيّاهم ليس لجهل بحالهم، فقال: وَ ما تَكُونُ فِي شَأْنٍ أي: لا تكون يا محمّد في أمر من أمور الدين و حال من أحواله، من تبليغ الرسالة و تعليم الشريعة و غير ذلك. و أصله الهمزة، من: شأنت شأنه إذا قصدت قصده. و الضمير في قوله: وَ ما تَتْلُوا مِنْهُ للشأن، لأنّ تلاوة القرآن معظم شأن الرسول، أو لأنّ القرآن يكون لشأن، فيكون التقدير: من أجله. و مفعول «تتلو»:

مِنْ قُرْآنٍ على أنّ «من» تبعيضيّة، أو مزيدة لتأكيد النفي. أو للقرآن، و إضماره قبل الذكر ثمّ بيانه تفخيم له. أو للّه تعالى.

وَ لا تَعْمَلُونَ أنتم جميعا مِنْ عَمَلٍ تعميم للخطاب بعد تخصيصه بمن هو رأسهم، و لذلك ذكر حيث خصّ ما فيه فخامة، و ذكر حيث عمّ ما يتناول الجليل

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 223

و الحقير إِلَّا كُنَّا عَلَيْكُمْ شُهُوداً شاهدين مطّلعين عليه إِذْ تُفِيضُونَ فِيهِ تخوضون فيه و تندفعون، من: أفاض في العمل إذا اندفع فيه.

وَ ما يَعْزُبُ عَنْ رَبِّكَ و لا يبعد عنه، و لا يغيب عن علمه. و قرأ الكسائي بكسر الزاي هنا

و في سبأ «1». مِنْ مِثْقالِ ذَرَّةٍ في موضع الرفع، و «من» زائدة.

و الذرّة ما يوازن نملة صغيرة أو هباء. فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ أي: في الوجود و الإمكان، فإنّ العامّة لا تعرف ممكنا غيرهما ليس فيهما و لا متعلّقا بهما. و تقديم الأرض لأنّ الكلام في شؤون أهلها و أحوالهم و أعمالهم. و المقصود منه هو البرهان على إحاطة علمه بها. وَ لا أَصْغَرَ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرَ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ كلام برأسه مقرّر لما قبله. و «لا» نافية، و «أصغر» اسمها، و «في كتاب» خبرها.

و قرأ حمزة و يعقوب بالرفع على الابتداء و الخبر. و من عطف على لفظ «مثقال ذرّة» و جعل الفتح بدل الكسر، لامتناع الصرف، أو على محلّه مع الجارّ، جعل الاستثناء منقطعا. و المراد بالكتاب اللوح المحفوظ.

[سورة يونس (10): الآيات 62 الى 65]

أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (62) الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ (63) لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (64) وَ لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (65)

و لمّا ذكر أنّه يحصي أعمال خلقه بشّر من تولّاه و ذكر ما أعدّ لهم، فقال:

______________________________

(1) سبأ: 3.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 224

أَلا إِنَّ أَوْلِياءَ اللَّهِ الّذين يتولّونه بالطاعة، و يتولّاهم بالكرامة.

و عن ابن عبّاس و سعيد بن جبير: هم قوم ذكر هم اللّه بما هم عليه من سيماء الخير و الإخبات. و قيل: هم المتحابّون في اللّه. ذكر ذلك في خبر مرفوع.

و

عن عليّ بن الحسين عليه السّلام: أنّهم الّذين أدّوا فرائض اللّه، و أخذوا بسنن رسول اللّه، و تورّعوا عن محارم اللّه،

و زهدوا في عاجل هذه الدنيا، و رغبوا فيما عند اللّه، و اكتسبوا الطيّب من رزق اللّه لمعايشهم، لا يريدون به التفاخر و التكاثر، ثمّ أنفقوه فيما يلزمهم من حقوق واجبة، فأولئك الّذين يبارك اللّه لهم فيما اكتسبوا، و يثابون على ما قدّموا لآخرتهم.

لا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من لحوق مكروه وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ لفوات مأمول.

و عن ابن زيد: أولياء اللّه هم الّذين قال اللّه تعالى في شأنهم: الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ فالآية الأولى مجملة، و هذه مفسّرة لها.

لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا و هو ما بشّر به المتّقين في كتابه و على لسان نبيّه، و ما يريهم من الرؤيا الصالحة، و ما يسنح لهم من المكاشفات، و بشرى الملائكة لهم عند النزع بأن لا تخافوا و لا تحزنوا وَ فِي الْآخِرَةِ بتلقّي الملائكة إيّاهم مسلمين مبشّرين بالفوز و الكرامة. و قيل: «الَّذِينَ آمَنُوا» بيان لتولّيهم لربّهم، و هذه الآية بيان لتولّيه لهم.

و

روى عقبة بن خالد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «يا عقبة لا يقبل اللّه من العباد يوم القيامة إلّا هذا الدين الّذي أنتم عليه، و ما بين أحدكم و بين أن يرى ما تقرّ به عينه إلّا أن يبلغ نفسه إلى هذه، و أومأ بيده إلى الوريد، ثمّ قال: إنّ هذا في كتاب اللّه، و قرأ: الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ لَهُمُ الْبُشْرى فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ».

و محلّ «الّذين آمنوا» النصب أو الرفع على المدح، أو على وصف الأولياء، أو على الابتداء، و خبره «لهم البشرى».

لا تَبْدِيلَ لِكَلِماتِ اللَّهِ لا تغيير لأقواله، و لا إخلاف لمواعيده ذلِكَ إشارة

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 225

إلى كونهم مبشّرين في الدارين هُوَ الْفَوْزُ

الْعَظِيمُ هذه الجملة و الّتي قبلها اعتراض لتحقيق المبشّر به و تعظيم شأنه، و ليس من شرطه أن يقع بعده كلام يتّصل بما قبله.

وَ لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إشراكهم و تكذيبهم و تهديدهم و تدبيرهم في إبطال أمرك، و سائر ما يتكلّمون في شأنك. و قرأ نافع: يحزنك، من: أحزنه. و كلاهما بمعنى. إِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً استئناف بمعنى التعليل، كأنّه قيل: لا تحزن بقولهم و لا تبال بهم، لأنّ الغلبة و القهر جميعا للّه و في ملكه، لا يملك غيره شيئا منها، فهو يقهرهم و ينصرك عليهم هُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم الْعَلِيمُ بعزماتهم، فيكافئهم عليها.

[سورة يونس (10): آية 66]

أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَ ما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (66)

و لمّا سلّى اللّه سبحانه نبيّه بقوله: «وَ لا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ» فإنّهم لا يفوتونني، بيّن بعد ذلك ما يدلّ على صحّته، فقال: أَلا إِنَّ لِلَّهِ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ يعني: العقلاء و الثقلين. و إذا كان العقلاء عبيده و في مملكته، و لا يصلح أحد منهم للإلهيّة، فما وراءهم ممّا لا يعقل و لا يميّز أحقّ أن لا يكون له ندّا و لا شريكا، فمن اتّخذ غيره ربّا من ملك أو إنسيّ أو جنّيّ فضلا عن صنم أو غير ذلك، فهو مبطل تابع لما أدّى إليه التقليد و ترك النظر.

وَ ما يَتَّبِعُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ شُرَكاءَ أي شركاء على الحقيقة، و إن كانوا يسمّونها شركاء. و يجوز أن يكون «شركاء» مفعول «يدعون»، و مفعول «يتّبع» محذوف دلّ عليه إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ أي: ما يتّبعون يقينا، و إنّما

يتّبعون ظنّهم أنّها شركاء. و يجوز أن تكون «ما» استفهاميّة منصوبة ب «يتّبع»، أي: أيّ شي ء

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 226

يتّبعون، و موصولة معطوفة على «من»، أي: ألا أنّ للّه الّذي يتّبعون من الأصنام.

وَ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ يكذبون فيما ينسبون إلى اللّه تعالى، أو يحزرون و يقدّرون أنّها شركاء تقديرا باطلا.

[سورة يونس (10): آية 67]

هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ النَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (67)

ثمّ نبّه على عظيم نعمه و كمال قدرته المتوحّد هو بهما، ليدلّهم على تفرّده باستحقاق العبادة، فقال: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ ممّا تقاسون في نهاركم من تعب التردّد في المعاش وَ النَّهارَ مُبْصِراً أي: مضيئا تبصرون فيه مطالب أرزاقكم و مكاسبكم، و تهتدون بها. و إنّما قال: «مبصرا» و لم يقل: لتبصروا فيه، تفرقة بين الظرف المجرّد عن السبب و الظرف الّذي هو سبب. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع تدبّر و اعتبار.

[سورة يونس (10): الآيات 68 الى 70]

قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً سُبْحانَهُ هُوَ الْغَنِيُّ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (68) قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (69) مَتاعٌ فِي الدُّنْيا ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ (70)

ثمّ حكى اللّه سبحانه عن صنف من الكفّار بأنّهم أضافوا إليه اتّخاذ الولد، و هم طائفتان: إحداهما: كفّار قريش و العرب، فإنّهم قالوا: الملائكة بنات اللّه،

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 227

و الأخرى: النصارى الّذين قالوا: المسيح ابن اللّه، فقال: قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً أي:

تبنّاه سُبْحانَهُ تنزيه له عن التبنّي، فإنّه لا يصحّ إلّا ممّن يتصوّر له الولد، و تعجّب من كلمتهم الحمقاء.

ثمّ علّل لتنزيهه عن الولد بقوله: هُوَ الْغَنِيُ فإنّ اتّخاذ الولد مسبّب عن الحاجة الّتي تنزّه اللّه سبحانه عنها، لأنّه الغنيّ بالذات مستغن عن جميع الممكنات لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ تقرير لغناه إِنْ عِنْدَكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بِهذا ما عندكم من حجّة بهذا القول. و الباء متعلّق ب

«سلطان»، أو بقوله: «إن عندكم» على أن يجعل القول مكانا للسلطان، كقولك: ما عندكم بأرضكم موز، كأنّه قيل: إن عندكم فيما تقولون سلطان. و هذا نفي لمعارض ما أقامه من البرهان، مبالغة في تجهيلهم، و تحقيقا لبطلان قولهم.

ثمّ وبّخ و قرّع على اختلافهم و جهلهم، فقال: أَ تَقُولُونَ عَلَى اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ و فيه دليل على أنّ كلّ قول لا دليل عليه فهو جهالة، و أنّ العقائد لا بدّ لها من دليل قاطع، و أنّ التقليد فيها غير جائز.

قُلْ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ باتّخاذ الولد و إضافة الشريك إليه لا يُفْلِحُونَ لا ينجون من النار، و لا يفوزون بالجنّة.

مَتاعٌ فِي الدُّنْيا خبر مبتدأ محذوف، أي: افتراؤهم متاع في الدنيا يقيمون به رئاستهم في الكفر، أو حياتهم أو تقلّبهم عن الحقّ متاع. أو مبتدأ خبره محذوف، أي: لهم تمتّع في الدنيا. ثُمَّ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ بالموت فيلقون الشقاء المؤبّد بعده ثُمَّ نُذِيقُهُمُ الْعَذابَ الشَّدِيدَ بِما كانُوا يَكْفُرُونَ بسبب كفرهم.

[سورة يونس (10): الآيات 71 الى 74]

وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ مَقامِي وَ تَذْكِيرِي بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ وَ شُرَكاءَكُمْ ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ عَلَيْكُمْ غُمَّةً ثُمَّ اقْضُوا إِلَيَّ وَ لا تُنْظِرُونِ (71) فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (72) فَكَذَّبُوهُ فَنَجَّيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ وَ جَعَلْناهُمْ خَلائِفَ وَ أَغْرَقْنَا الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ كَذلِكَ نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ (74)

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 228

ثمّ

أمر اللّه سبحانه نبيّه أن يقرأ عليهم أخبار نوح و قومه ليعتبروا من حالهم و يدعوا الشرك، فقال: وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ نُوحٍ خبره مع قومه إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ إِنْ كانَ كَبُرَ عَلَيْكُمْ عظم و شقّ عليكم مَقامِي أي: نفسي، تسمية للشي ء باسم لازمه، فإنّ المقام لازم للنفس و لا ينفكّ منه، كقولهم: فعلت كذا لمكان فلان، أي: لنفسه. أو يكون مصدرا ميميّا، و معناه: كوني و إقامتي بينكم مدّة مديدة، أو قيامي على القدمين بالدعوة، فإنّهم كانوا إذا وعظوا قاموا على أرجلهم ليكون كلامهم مسموعا. وَ تَذْكِيرِي إيّاكم بِآياتِ اللَّهِ فَعَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْتُ وثقت به و اعتمدت.

فَأَجْمِعُوا أَمْرَكُمْ فاعزموا عليه، من: أجمع الأمر و أزمعه إذا نواه و عزم عليه وَ شُرَكاءَكُمْ أي: مع شركائكم، أي: احتشدوا كلّكم فيما تريدون من إهلاكي، و ابذلوا وسعكم فيه. و هذا على وجه التهكّم، كقوله: قُلِ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 229

ثُمَّ كِيدُونِ «1». و قيل: إنّه معطوف على «أمركم» بحذف المضاف، أي: و أمر شركائكم. و قيل: إنّه منصوب بفعل محذوف، تقديره: و ادعوا شركاءكم. و عن نافع:

فاجمعوا من الجمع. و المعنى: أمرهم بالعزم أو الاجتماع على قصده، و السعي في إهلاكه على أيّ وجه يمكنهم.

ثُمَّ لا يَكُنْ أَمْرُكُمْ قصدكم إلى إهلاكي عَلَيْكُمْ غُمَّةً مستورا، و اجعلوه ظاهرا مكشوفا، من: غمّه إذا ستره. و في الحديث: «لا غمّة في الفرائض». و إنّما قال ذلك إظهارا لقلّة مبالاته، و ثقته بما وعده ربّه من كلاءته و عصمته إيّاه، و أنّهم لن يجدوا إليه سبيلا. أو المعنى: ثمّ لا يكن حالكم عليكم غمّا و همّا إذا أهلكتموني، و تخلّصتم من ثقل مقامي و تذكيري. ثُمَّ

اقْضُوا أدّوا إِلَيَ ذلك الأمر الّذي تريدون بي وَ لا تُنْظِرُونِ و لا تمهلوني.

فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم عن تذكيري و نصيحتي، و عن اتّباع الحقّ فَما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ يوجب تولّيكم لثقله عليكم، و اتّهامكم إيّاي لأجله إِنْ أَجْرِيَ ما ثوابي في الآخرة على الدعوة و التذكير إِلَّا عَلَى اللَّهِ لا تعلّق له بكم، يثيبني به آمنتم أو تولّيتم. و المعنى: ما نصحتكم إلّا لوجه اللّه لا لغرض من أغراض الدنيا.

وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ المستسلمين المنقادين لحكمه، لا أخالف أمره و لا أرجو غيره.

فَكَذَّبُوهُ فأصرّوا على تكذيبه بعد ما ألزمهم الحجّة، و بيّن أنّ تولّيهم ليس إلّا لعنادهم و تمرّدهم، لا جرم حقّت عليهم كلمة العذاب فَنَجَّيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ من الغرق فِي الْفُلْكِ في السفينة، و كانوا ثمانين وَ جَعَلْناهُمْ و جعلنا الّذين نجوا مع نوح خَلائِفَ خلفا لمن هلك بالغرق وَ أَغْرَقْنَا بالطوفان الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَانْظُرْ أيّها السامع كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ هذا تعظيم لما جرى

______________________________

(1) الأعراف: 195.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 230

عليهم، و تحذير لمن كذّب الرسول، و تسلية له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

ثُمَّ بَعَثْنا أرسلنا مِنْ بَعْدِهِ من بعد نوح رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ يعني: هودا و صالحا و إبراهيم و لوطا و شعيبا، كلّ رسول إلى قومه فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الواضحة، و الحجج المبيّنة، المثبتة لدعواهم فَما كانُوا لِيُؤْمِنُوا فما استقام لهم أن يؤمنوا، لشدّة شكيمتهم في الكفر، و تصميمهم على العناد و المكابرة، كما قال: بِما كَذَّبُوا بِهِ مِنْ قَبْلُ أي: بسبب تعوّدهم تكذيب الحقّ، و تمرّنهم عليه قبل بعثة الرسل إليهم. يعني: لم يكن بين حالتيهم فرق قبل البعثة و بعدها.

كَذلِكَ أي: مثل ذلك

الطبع و الخذلان و التخلية نَطْبَعُ عَلى قُلُوبِ الْمُعْتَدِينَ أي نخذلهم و نسدّ عليهم أبواب التوفيق و أسباب اللطف، لانهماكهم في الضلال، و توغّلهم في اتّباع الغيّ و العناد و اللجاج. أو نجعل على قلوبهم سمة و علامة على كفرهم ليعرفهم بها الملائكة فيلعنوهم. و باقي وجوه المعاني في الطبع قد مرّ «1» في أوائل سورة البقرة.

[سورة يونس (10): الآيات 75 الى 86]

ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ مُوسى وَ هارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِ بِآياتِنا فَاسْتَكْبَرُوا وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ (75) فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا إِنَّ هذا لَسِحْرٌ مُبِينٌ (76) قالَ مُوسى أَ تَقُولُونَ لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَكُمْ أَ سِحْرٌ هذا وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ (77) قالُوا أَ جِئْتَنا لِتَلْفِتَنا عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا وَ تَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ وَ ما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ (78) وَ قالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ عَلِيمٍ (79)

فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (80) فَلَمَّا أَلْقَوْا قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ (81) وَ يُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ (82) فَما آمَنَ لِمُوسى إِلاَّ ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِمْ أَنْ يَفْتِنَهُمْ وَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ (83) وَ قالَ مُوسى يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ (84)

فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (85) وَ نَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ (86)

______________________________

(1) راجع ج 1: 54.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 231

ثُمَّ بَعَثْنا مِنْ بَعْدِهِمْ من بعد هؤلاء الرسل مُوسى وَ هارُونَ إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ رؤساء قومه و أهل مجلسه بِآياتِنا بالآيات التسع

فَاسْتَكْبَرُوا عن اتّباعهما بعد تبيّنها لهم وَ كانُوا قَوْماً مُجْرِمِينَ معتادين الإجرام، فلذلك تهاونوا برسالة ربّهم، و اجترءوا على ردّها.

فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا و عرفوه بتظاهر الآيات الواضحة، و تتابع المعجزات القاهرة المزيحة للريب و الشكّ قالُوا من فرط تمرّدهم إِنَّ هذا

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 232

لَسِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر أنّه سحر، أو فائق فيه، واضح فيما بين إخوانه.

قالَ مُوسى أَ تَقُولُونَ لِلْحَقِ للمعجز الثابت لَمَّا جاءَكُمْ إنّه لسحر، فحذف المحكيّ المقول لدلالة ما قبله عليه. و لا يجوز أن يكون أَ سِحْرٌ هذا، لأنّهم جزموا القول، بل هو استئناف بإنكار ما قالوه من عيبه و الطعن عليه. اللّهمّ إلّا أن يكون الاستفهام فيه للتقرير و المحكيّ مفهوم قولهم. و يجوز أن يكون معنى «أ تقولون»: أ تعيبونه و تطعنون فيه؟ من قولهم: فلان يخاف القالة، أي: العيب، كقوله تعالى: سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ «1»، فيستغنى عن المفعول.

وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ من تمام كلام موسى عليه السّلام، للدلالة على أنّه ليس بسحر، فإنّه لو كان سحرا لاضمحلّ و لم يبطل سحر السحرة، و لأنّ العالم بأنّه لا يفلح الساحر لا يسحر. و يجوز أن يكون قوله: «أَ سِحْرٌ هذا وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُونَ» حكاية من تمام قولهم، كأنّهم قالوا: أ جئتما بالسحر تطلبان به الفلاح و لا يفلح الساحرون، كما قال موسى للسحرة: «ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ».

قالُوا أَ جِئْتَنا لِتَلْفِتَنا لتصرفنا. و اللّفت و الفتل أخوان، و مطاوعهما الالتفات و الانفتال. عَمَّا وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا من عبادة الأصنام وَ تَكُونَ لَكُمَا الْكِبْرِياءُ فِي الْأَرْضِ أي: الملك فيها. سمّي بها لأنّ الملوك موصوفون بالكبر أو التكبّر على الناس فيها باستتباعهم. وَ ما نَحْنُ لَكُما بِمُؤْمِنِينَ

بمصدّقين فيما جئتما به.

وَ قالَ فِرْعَوْنُ ائْتُونِي بِكُلِّ ساحِرٍ و قرأ حمزة و الكسائي: بكلّ سحّار عَلِيمٍ حاذق فيه.

فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ فَلَمَّا أَلْقَوْا حبالهم

______________________________

(1) الأنبياء: 60.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 233

و عصيّهم المجوّفة المملوءة بالزئبق، كما وقع في سورة طه «1» قالَ مُوسى ما جِئْتُمْ بِهِ السِّحْرُ أي: الّذي جئتم به هو السحر، لا الّذي سمّيتموه سحرا من المعجزات الباهرة.

و قرأ أبو عمرو: السحر، على أنّ «ما» استفهاميّة مرفوعة بالابتداء، و «جئتم به» خبرها، و «السحر» بدل منه. أو خبر مبتدأ محذوف، تقديره: أهو السحر؟ أو مبتدأ خبره محذوف، أي: السحر هو؟ و يجوز أن ينتصب «ما» بفعل يفسّره ما بعده، تقديره: أيّ شي ء جئتم به أهو السحر؟

إِنَّ اللَّهَ سَيُبْطِلُهُ سيمحقه و يدمّر عليه، أو سيظهر بطلانه إِنَّ اللَّهَ لا يُصْلِحُ عَمَلَ الْمُفْسِدِينَ لا يثبته و لا يقوّيه. و فيه دليل على أنّ السحر إفساد و تمويه لا حقيقة له.

وَ يُحِقُّ اللَّهُ الْحَقَ و يثبته بِكَلِماتِهِ بأوامره و قضاياه، و مواعيده بالنصر وَ لَوْ كَرِهَ الْمُجْرِمُونَ ذلك.

فَما آمَنَ لِمُوسى فما صدّقه في مبدأ أمره إِلَّا ذُرِّيَّةٌ مِنْ قَوْمِهِ إلّا طائفة من ذراري بني إسرائيل، و ذلك أنّ موسى عليه السّلام دعا الآباء فلم يجيبوه إلّا طائفة من شبّانهم. و قيل: الضمير لفرعون، و الذرّية: مؤمن آل فرعون، و امرأته آسية، و خازنه، و زوجة خازنه، و ماشطته.

عَلى خَوْفٍ مِنْ فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِمْ أي: مع خوف منهم. و الضمير لفرعون.

و جمعه على ما هو المعتاد في ضمير العظماء، أو المراد بفرعون آله، كما يقال:

ربيعة و مضر. أو للذريّة أو للقوم، أي: على خوف من فرعون و خوف من أشراف

بني إسرائيل، لأنّهم كانوا يمنعونهم خوفا من فرعون عليهم و على أنفسهم. أَنْ يَفْتِنَهُمْ أي: يعذّبهم فرعون. و هو بدل منه، أو مفعول «خوف». و إفراده بالضمير

______________________________

(1) طه: 66.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 234

للدلالة على أنّ الخوف من الملأ كان بسببه.

وَ إِنَّ فِرْعَوْنَ لَعالٍ فِي الْأَرْضِ لغالب فيها وَ إِنَّهُ لَمِنَ الْمُسْرِفِينَ في الكبر و العتوّ و الظلم و الفساد، حتّى ادّعى الربوبيّة و استرقّ أسباط الأنبياء.

وَ قالَ مُوسى لمّا رأى تخوّف المؤمنين به يا قَوْمِ إِنْ كُنْتُمْ آمَنْتُمْ بِاللَّهِ صدّقتم به و بآياته فَعَلَيْهِ تَوَكَّلُوا اسندوا أمركم في العصمة من فرعون و اعتمدوا عليه إِنْ كُنْتُمْ مُسْلِمِينَ مستسلمين منقادين لقضاء اللّه تعالى، مخلصين له العبادة، بحيث لا حظّ للشيطان فيها أصلا و رأسا. و ليس هذا من تعليق الحكم بشرطين، فإنّ المعلّق بالايمان وجوب التوكّل، فإنّه المقتضي له، و المشروط بالإسلام حصول التوكّل، فإنّه لا يوجد مع التخليط. و نظيره: إن دعاك زيد فأجبه إن قدرت، و إن ضربك زيد فاضربه إن كانت بك قوّة.

فَقالُوا عَلَى اللَّهِ تَوَكَّلْنا لأنّهم كانوا مؤمنين مخلصين، و لذلك أجيبت دعوتهم، فنجّاهم من فرعون و قومه، و جعلهم خلفاء في أرضه. فمن أراد أن يصلح للتوكّل على ربّه و التفويض إليه، فعليه برفض التخليط إلى الإخلاص.

رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً موضع فتنة لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ أي: لا تسلّطهم علينا تخلية فيفتنونا عن ديننا أو يعذّبونا.

وَ نَجِّنا بِرَحْمَتِكَ مِنَ الْقَوْمِ الْكافِرِينَ من كيد فرعون و قومه، و من شؤم مشاهدتهم و استعبادهم إيّانا. و في تقديم التوكّل على الدعاء تنبيه على أنّ الداعي ينبغي أن يتوكّل أوّلا لتجاب دعوته.

[سورة يونس (10): الآيات 87 الى 89]

وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَ أَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً وَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ

قِبْلَةً وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (87) وَ قالَ مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَ مَلَأَهُ زِينَةً وَ أَمْوالاً فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ وَ اشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (88) قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما فَاسْتَقِيما وَ لا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (89)

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 235

وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى وَ أَخِيهِ أَنْ تَبَوَّءا أي: اتّخذا مباءة و مرجعا، كقولك:

توطّنه، إذا اتّخذه وطنا لِقَوْمِكُما بِمِصْرَ بُيُوتاً تسكنون فيها، أو ترجعون إليها للعبادة وَ اجْعَلُوا أنتما و قومكما بُيُوتَكُمْ تلك البيوت قِبْلَةً مصلّى. و قيل:

مساجد متوجّهة نحو القبلة، لما روي أنّه دخل موسى مصر بعد ما أهلك اللّه فرعون، أمروا باتّخاذ مساجد يذكر فيها اسم اللّه تعالى، و أن يجعلوا مساجدهم نحو القبلة، يعني: الكعبة، و كان موسى و من معه يصلّون إلى الكعبة. و قيل: معناه. اجعلوا بيوتكم يقابل بعضها بعضا. وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ فيها، و داوموا على فعلها في البيوت.

و عن ابن عبّاس: إنّ فرعون أمر بتخريب مساجد بني إسرائيل و منعهم من الصلاة، فأمروا أن يتّخذوا مساجد في بيوتهم يصلّون فيها خوفا من فرعون، و ذلك قوله: «وَ اجْعَلُوا بُيُوتَكُمْ قِبْلَةً» أي: صلّوا في بيوتكم لتأمنوا من الخوف. و هذا القول أنسب لسوق كلام ما قبله و ما بعده.

وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بالنصرة في الدنيا و الجنّة في العقبى. ثنّى الضمير أوّلا لأنّ التبوّء للقوم و اتّخاذ المعابد ممّا يتعاطاه رؤوس القوم بتشاور. ثم جمع لأنّ جعل البيوت مساجد و الصلاة فيها ممّا ينبغي أن يفعله كلّ أحد. ثمّ وحّد لأنّ

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 236

البشارة في الأصل وظيفة صاحب الشريعة.

وَ قالَ

مُوسى رَبَّنا إِنَّكَ آتَيْتَ فِرْعَوْنَ وَ مَلَأَهُ زِينَةً ما يتزيّن به من اللباس و المراكب و نحوهما وَ أَمْوالًا و أنواعا من المال فِي الْحَياةِ الدُّنْيا رَبَّنا لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِكَ دعاء عليهم بلفظ الأمر حين لم يبق له طمع في إيمانهم، فاشتدّ غضبه عليهم لمّا علم من ممارسة أحوالهم أنّه لا يكون غير الضلال، فدعا عليهم بما علم أنّه لا يكون غيره، ليشهد عليهم أنّهم لا يستحقّون إلّا الخذلان، و أن يخلّي بينهم و بين ضلالهم.

و قيل: اللام للعاقبة، و هي متعلّقة ب «آتيت». و قيل: للتعليل، على أنّهم جعلوا نعمة اللّه سببا في الضلال، فكأنّهم أعطوها ليضلّوا.

و يؤيّد الأوّل قوله: رَبَّنَا اطْمِسْ عَلى أَمْوالِهِمْ أهلكها. و الطمس: المحق.

قيل: المراد بالطمس على الأموال تغييرها عن جهتها إلى جهة لا ينتفع بها. قال مجاهد و قتادة و عامّة أهل التفسير: صارت جميع أموالهم بعد ذلك الدعاء حجارة، حتّى السكّر و الفانيذ «1».

وَ اشْدُدْ عَلى قُلُوبِهِمْ أي: و اقسها و اطبع عليها على وجه الخذلان حتّى لا تنشرح للايمان فَلا يُؤْمِنُوا حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ جواب للدعاء، أو دعاء عليهم بلفظ النهي، أو عطف على «ليضلّوا» و ما بينهما دعاء معترض. و قرأ الكوفيّون: ليضلّوا من الضلال. و فائدة هذا الدعاء إظهار التبرّي منهم.

قالَ قَدْ أُجِيبَتْ دَعْوَتُكُما يعني: موسى و هارون، لأنّه كان يؤمّن فسمّاهما داعيين فَاسْتَقِيما فاثبتا على ما أنتما عليه من الدعوة و الزيادة في إلزام الحجّة، فقد لبث نوح في قومه ألف عام إلّا قليلا، و لا تستعجلا، فإنّ ما طلبتماه كائن و لكن في وقته.

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنّه مكث فرعون فيهم بعد

______________________________

(1) الفانيذ: ضرب من الحلواء، فارسيّ معرّب. زبدة

التفاسير، ج 3، ص: 237

الدعاء أربعين سنة».

وَ لا تَتَّبِعانِّ سَبِيلَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ طريق الجهلة في الاستعجال، فإنّ العجلة ليست بمصلحة. و هذا كما قال لنوح: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ «1» أو في عدم الوثوق و الاطمئنان بوعد اللّه تعالى.

و عن ابن عامر برواية ابن ذكوان: و لا تتّبعان بالنون الخفيفة و كسرها، لالتقاء الساكنين، تشبيها بنون التثنية. و لا تتبعانّ من: تبع. و لا تتبعان أيضا.

[سورة يونس (10): الآيات 90 الى 92]

وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ وَ جُنُودُهُ بَغْياً وَ عَدْواً حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ (90) آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (91) فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ بِبَدَنِكَ لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ (92)

وَ جاوَزْنا بِبَنِي إِسْرائِيلَ الْبَحْرَ أي: جوّزناهم في البحر، بأن يبّسنا لهم البحر، و فرقنا لهم اثني عشر فرقة حتّى بلغوا الشطّ حافظين لهم فَأَتْبَعَهُمْ فأدركهم. يقال: تبعته حتّى أتبعته. فِرْعَوْنُ وَ جُنُودُهُ بَغْياً وَ عَدْواً باغين و عادين، أو للبغي و العدو.

روي أنّ اللّه سبحانه لمّا أجاب دعاء موسى أمره بإخراج بني إسرائيل من

______________________________

(1) هود: 46. زبدة التفاسير، ج 3، ص: 238

مصر ليلا، فخرج معهم، و تبعهم فرعون و جنوده مشرقين حتّى انتهوا إلى البحر، و أمر اللّه سبحانه موسى عليه السّلام فضرب البحر بعصاه فانفلق اثني عشر فرقا، و صار لكلّ سبط طريق يابس، و ارتفع الماء بين كلّ طريقين كالجبل، و صار في الماء شبه الخروق، فجعل بعضهم ينظر إلى بعض. فلمّا وصل فرعون بجنوده إلى البحر فرأوا البحر بتلك الهيئة فهابوا دخول البحر، و كان فرعون

على حصان أدهم «1»، فجاء جبرئيل على فرس وديق «2»، و خاض البحر و ميكائيل يسوقهم، فلمّا شمّ أدهم فرعون ريح فرس جبرئيل انسلّ «3» خلفه في الماء، و اقتحمت الخيول خلفه، فلمّا دخل آخرهم البحر و همّ أوّلهم أن يخرج انطبق الماء عليهم.

حَتَّى إِذا أَدْرَكَهُ لحقه الْغَرَقُ قالَ آمَنْتُ أَنَّهُ أي: بأنّه لا إِلهَ إِلَّا الَّذِي آمَنَتْ بِهِ بَنُوا إِسْرائِيلَ وَ أَنَا مِنَ الْمُسْلِمِينَ و قرأ حمزة و الكسائي: إنّه بالكسر، على إضمار القول، أو الاستئناف بدلا و تفسيرا ل «آمنت».

و المعنى: نكث فرعون عن الإيمان أوان القبول، و بالغ فيه حين لا يقبل، بأن كرّر المعنى الواحد ثلاث مرّات في ثلاث عبارات حرصا على القبول، فلم يقبل منه حيث أخطأ وقته، و قاله حين لم يبق له اختيار قطّ، و كانت المرّة الواحدة كافية في حال الاختيار و عند بقاء التكليف. و يحكى أنّه حين قال: آمنت باللّه وحده، أخذ جبرئيل من رمل البحر فدسّه في فيه، و قال: آلْآنَ أ تؤمن الآن و قد أيست من نفسك، و لم يبق لك اختيار؟! وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ قبل ذلك مدّة عمرك وَ كُنْتَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ الضالّين المضلّين عن الإيمان.

روي أنّ جبرئيل أتاه على صورة مستفت حال جلوسه على سرير السلطنة،

______________________________

(1) أي: يضرب لونه إلى السواد. و الدهمة: السواد.

(2) ودقت ذات الحافر: أرادت الفحل، فهي وديق.

(3) أي: خرج. زبدة التفاسير، ج 3، ص: 239

و قال: ما قول الأمير في عبد لرجل نشأ في ماله و نعمته فكفر نعمته في حقّه و ادّعى السيادة دونه؟ فكتب فرعون فيه: يقول أبو العبّاس الوليد بن مصعب: جزاء العبد الخارج على سيّده الكافر نعماءه أن يغرّق في البحر. فلمّا

ألجمه «1» الغرق ناوله جبرئيل خطّه فعرفه ثمّ غرق.

و

روى عليّ بن إبراهيم بن هاشم بإسناده عن الصادق عليه السّلام قال: ما أتى جبرئيل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلّا كئيبا حزينا، و لم يزل كذلك منذ أهلك اللّه فرعون، فلمّا أمره اللّه سبحانه بنزول هذه الآية نزل و هو ضاحك مستبشر، فقال: حبيبي جبرئيل ما أتيتني إلّا و تبيّنت الحزن في وجهك حتّى الساعة. قال: نعم يا محمّد لمّا أغرق اللّه فرعون قال: آمنت أنّه لا إله إلّا الّذي آمنت به بنو إسرائيل، فأخذت حمأة فوضعتها في فيه، فقلت: الآن و قد عصيت قبل و كنت من المفسدين، ثمّ خفت أن تلحقه الرحمة من عند اللّه و يعذّبني على ما فعلت، فلمّا كان الآن و أمرني أن أودّي إليك ما قلته أنا لفرعون أمنت و علمت أنّ ذلك كان للّه رضا.

فَالْيَوْمَ نُنَجِّيكَ ننقذك ممّا وقع فيه قومك من قعر البحر و نجعلك طافيا، أو نلقيك على نجوة من الأرض- و هي المكان المرتفع- ليراك بنو إسرائيل. و قرأ يعقوب: ننجيك، من: أنجى. بِبَدَنِكَ في موضع الحال، أي: في الحال الّتي لا روح فيك، يعني: عاريا عن الروح، و إنّما أنت بدن فقط. أو كاملا سويّا، لم ننقص منه شيئا و لم يتغيّر. أو عريانا من غير لباس. أو بدرعك، و كانت له درع من ذهب يعرف بها.

لِتَكُونَ لِمَنْ خَلْفَكَ آيَةً لمن وراءك علامة. و هم بنو إسرائيل، إذ كان في أنفسهم أنّ فرعون أجلّ شأنا من أن يغرق، حتّى كذّبوا موسى عليه السّلام حين أخبرهم بغرقه، فألقاه اللّه على الساحل حتّى عاينوه مطروحا على ممرّهم من الساحل. أو

______________________________

(1) ألجم الماء فلانا:

بلغ فاه.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 240

لمن يأتي بعدك من القرون إذا سمعوا مآل أمرك، عبرة و نكالا عن الطغيان، فلا يجترأ على نحو ما اجترأت عليه. أو حجّة تدلّهم على أنّ الإنسان على ما كان عليه من عظم الشأن و كبرياء الملك مملوك مقهور بعيد عن مظانّ الربوبيّة، فما الظنّ بغيره؟! وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ عَنْ آياتِنا لَغافِلُونَ لا يتفكّرون فيها، و لا يعتبرون بها.

[سورة يونس (10): آية 93]

وَ لَقَدْ بَوَّأْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ فَمَا اخْتَلَفُوا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (93)

ثمّ بيّن سبحانه حال بني إسرائيل بعد إهلاك فرعون، فقال: وَ لَقَدْ بَوَّأْنا أنزلنا بَنِي إِسْرائِيلَ مُبَوَّأَ صِدْقٍ منزلا صالحا مرضيّا. و هو الشام و مصر.

وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ من اللذائذ فَمَا اخْتَلَفُوا في أمر دينهم، و ما تشعّبوا فيه شعبا حَتَّى جاءَهُمُ الْعِلْمُ إلّا من بعد ما قرءوا التوراة و علموا أحكامها. أو في أمر محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلّا من بعد ما علموا صدقه بنعوته و تظاهر معجزاته. إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ فيميز المحقّ من المبطل بالإنجاء و الإهلاك.

[سورة يونس (10): الآيات 94 الى 97]

فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ (94) وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ (95) إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ لا يُؤْمِنُونَ (96) وَ لَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (97)

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 241

ثمّ بيّن سبحانه صحّة نبوّة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ من القصص. و هذا على سبيل الفرض و التقدير، كما تقول لعبدك: إن كنت عبدي فأطعني، و لأبيك: إن كنت والدي فتعطّف عليّ، و لولدك: إن كنت ابني فبرّ بي، و يريد بذلك المبالغة. فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ فاسأل علماء أهل الكتاب، كعبد اللّه بن سلام و كعب الأحبار و تميم الداري و غيرهم، فإنّه محقّق عندهم، ثابت

في كتبهم على نحو ما ألقينا إليك. و المراد تحقيق ذلك، و الاستشهاد بما في الكتب المتقدّمة، و أنّ القرآن مصدّق لما فيها، أو وصف أهل الكتاب بالرسوخ في العلم بصحّة ما أنزل إليه، أو تهييج الرسول و زيادة تثبيته، كما ازداد إبراهيم بمعاينة إحياء الموتى، لا إمكان وقوع الشكّ له، و لذلك

قال عليه السّلام: «لا أشكّ و لا أسأل».

و

عن الصادق عليه السّلام: «لم يشكّ عليه السلام و لم يسأل».

و قيل: الخطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و المراد أمّته أو كلّ من يسمع، أي: إن كنت أيّها السامع في شكّ ممّا أنزلنا على لسان نبيّنا إليك. و فيه تنبيه على أنّ من خالجته شبهة في الدين ينبغي أن يسارع إلى حلّها بالرجوع إلى أهل العلم.

و على المعنى المذكور أيضا قوله: لَقَدْ جاءَكَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ أي: ثبت عندك بالآيات القاطعة و البراهين الساطعة أنّ ما أتاك هو الحقّ الواضح الّذي لا مدخل للمرية فيه فَلا تَكُونَنَّ مِنَ المُمْتَرِينَ بالتزلزل عمّا أنت عليه من الحزم و اليقين.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 242

وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ فَتَكُونَ مِنَ الْخاسِرِينَ هذا أيضا من باب التهييج و التثبيت و قطع أطماع الكفّار عنه، كقوله: فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ «1».

إِنَّ الَّذِينَ حَقَّتْ ثبتت عَلَيْهِمْ كَلِمَتُ رَبِّكَ قول اللّه الّذي كتبه في اللوح و أخبر به الملائكة من أنّهم يموتون على الكفر و يخلدون في العذاب لا يُؤْمِنُونَ إذ لا يكذّب كلامه.

وَ لَوْ جاءَتْهُمْ كُلُّ آيَةٍ كلّ معجزة و دلالة واضحة ممّا يقترحونها حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ فيصيروا ملجئين إلى الإيمان، و حينئذ لا ينفعهم كما لم ينفع فرعون.

[سورة يونس (10): آية 98]

فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ

آمَنَتْ فَنَفَعَها إِيمانُها إِلاَّ قَوْمَ يُونُسَ لَمَّا آمَنُوا كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (98)

و لمّا ذكر سبحانه أنّ إيمان فرعون لم يقبل عند معاينة العذاب، وصل ذلك بذكر إيمان قوم يونس عليه السّلام قبيل نزول العذاب، فقال: فَلَوْ لا كانَتْ قَرْيَةٌ فهلّا كانت قرية- أي: أهل قرية- من القرى الّتي أهلكناها آمَنَتْ وقت بقاء التكليف قبل معاينة العذاب، و لم يؤخّروا التوبة إليها كما أخّر فرعون فَنَفَعَها إِيمانُها بأن يقبله اللّه تعالى منها و يكشف العذاب عنها إِلَّا قَوْمَ يُونُسَ لكن قوم يونس لَمَّا آمَنُوا أوّل ما رأوا أمارة العذاب و لم يؤخّروه إلى حلوله كَشَفْنا عَنْهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا.

و يجوز أن تكون الجملة في معنى النفي، لتضمّن حرف التحضيض معناه،

______________________________

(1) القصص: 86.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 243

فيكون الاستثناء متّصلا، لأنّ المراد من القرى أهاليها، كأنّه قال: ما من أهل قرية من القرى العاصية الهالكة أهلها حين مشاهدة العذاب فنفعهم إيمانهم إلّا قوم يونس لمّا آمنوا رفعنا عنهم العذاب وَ مَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ إلى آجالهم.

روي أنّ يونس عليه السّلام بعث إلى أهل نينوى من أرض الموصل، فكذّبوه و أصرّوا عليه، فوعدهم بالعذاب إلى ثلاث، و قيل: إلى أربعين، فذهب عنهم مغاضبا، فقالوا:

إن رأينا أسباب الهلاك آمنّا بك. فلمّا مضى اثنان أو مضت خمس و ثلاثون أغامت السماء غيما أسود هائلا يدخن دخانا شديدا، ثمّ يهبط حتّى يغشى مدينتهم، و يسوّد سطوحهم، فهابوا و طلبوا يونس فلم يجدوه، فأيقنوا صدقه، فلبسوا المسوح، و برزوا إلى الصعيد بأنفسهم و نسائهم و صبيانهم و دوابّهم، و فرّقوا بين النساء و الصبيان، و بين الدوابّ و أولادها، فحنّ بعضها إلى بعض، و

علت الأصوات و العجيج، و أظهروا الإيمان و التوبة و تضرّعوا، فرحمهم اللّه و كشف عنهم، و كان يوم عاشوراء يوم الجمعة.

و عن ابن مسعود: بلغ من توبتهم أن ترادّوا المظالم، حتّى إنّ الرجل كان ليأتي الحجر قد وضع عليه أساس بنيانه فيقتلعه فيردّه.

و قيل: خرجوا إلى شيخ من بقيّة علمائهم، فقالوا: قد نزل بنا العذاب فما ترى؟ فقال لهم: قولوا: يا حيّ حين لا حيّ، و يا حيّ محيي الموتى، و يا حيّ لا إله إلّا أنت. فقالوها فكشف عنهم العذاب.

و عن الفضيل بن عياض: قالوا: إنّ ذنوبنا قد عظمت و جلّت، و أنت أعظم منها و أجلّ، افعل بنا ما أنت أهله، و لا تفعل بنا ما نحن أهله.

و

روى عليّ بن إبراهيم عن أبيه، عن ابن أبي عمير، عن جميل، قال: «قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: كان فيهم رجلان، اسم أحدهما مليخا عابد، و الآخر اسمه روبيل عالم، و كان العابد يشير على يونس بالدعاء عليهم، و كان العالم ينهاه و يقول له: لا تدع عليهم، فإنّ اللّه يستجيب لك، و لا يحبّ هلاك عباده. فقبل يونس قول العابد،

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 244

فدعا عليهم، فأوحى اللّه تعالى إليهم أنّه يأتيهم العذاب في شهر كذا في يوم كذا.

فلمّا قرب الوقت خرج يونس من بينهم مع العابد، و بقي العالم فيهم. فلمّا كان اليوم الّذي نزل بهم العذاب قال لهم العالم: افزعوا إلى اللّه لعلّه يرحمكم و يردّ العذاب عنكم، و اخرجوا إلى المفازة، و فرّقوا بين النساء و الأولاد و بين سائر الحيوانات و أولادها، ثمّ ابكوا و ادعوا. ففعلوا فصرف عنهم العذاب، و كان قد نزل و قرب منهم.

و مرّ يونس على

وجهه مغاضبا كما حكى اللّه تعالى عنه حتّى انتهى إلى ساحل البحر، فإذا سفينة قد شحنت «1» و أرادوا أن يدفعوها، فسألهم يونس أن يحملوه فحملوه، فلمّا توسّط البحر بعث اللّه عليهم حوتا عظيما فحبس عليهم السفينة، فتساهموا فوقع سهم يونس، و أخرجوه فألقوه في البحر، فالتقمه الحوت و مرّ به في الماء» «2».

و قيل: إنّ الملّاحين قالوا: نقرع فمن أصابته القرعة ألقيناه في الماء، فإنّ ها هنا عبدا عاصيا آبقا، فوقعت القرعة سبع مرّات على يونس. فقام و قال عليه السّلام: أنا العبد الآبق، و ألقى نفسه في الماء و ابتلعه الحوت، فأوحى اللّه إلى ذلك الحوت: لا تؤذ شعرة منه، فإنّي جعلت بطنك سجنه و لم أجعله طعامك، فلبث في بطنه ثلاثة أيّام، و قيل: سبعة أيّام، و قيل: أربعين يوما.

و

قد سأل بعض اليهود أمير المؤمنين عليه السّلام عن سجن طاف أقطار الأرض بصاحبه. فقال: يا يهوديّ هو الحوت الّذي حبس يونس في بطنه، فدخل في بحر قلزم، ثمّ خرج إلى مصر، ثمّ سار منها إلى بحر طبرستان، ثمّ خرج من الدجلة.

قال عبد اللّه بن مسعود: ابتلع الحوت حوت آخر، فأهوى به إلى قرار الأرض، فكان في بطنه أربعين ليلة، فنادى في الظلمات أن لا إله إلّا أنت سبحانك إنّي كنت من الظّالمين. فاستجاب اللّه له، فأمر الحوت فنبذه على ساحل البحر،

______________________________

(1) أي: ملئت.

(2) تفسير عليّ بن إبراهيم 1: 317.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 245

و هو كالفرخ المتمعّط «1»، فأنبت اللّه عليه شجرة من يقطين، فجعل يستظلّ تحتها، و وكلّ اللّه به وعلا «2» يشرب من لبنها. فيبست الشجرة، فبكى عليها، فأوحى اللّه تعالى إليه: تبكي على شجرة يبست، و لا تبكي على مائة

ألف أو يزيدون أردت أن أهلكهم. فخرج يونس فإذا هو بغلام يرعى، فقال: من أنت؟ قال: من قوم يونس.

قال: إذا رجعت إليهم فأخبرهم أنّك لقيت يونس. فأخبرهم الغلام، وردّ اللّه عليه بدنه، و رجع إلى قومه و آمنوا به. و قيل: إنّه عليه السّلام أرسل إلى قوم غير قومه الأوّلين.

[سورة يونس (10): الآيات 99 الى 100]

وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (99) وَ ما كانَ لِنَفْسٍ أَنْ تُؤْمِنَ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ يَجْعَلُ الرِّجْسَ عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ (100)

و لمّا تقدّم أنّ إيمان الملجأ غير نافع، بيّن سبحانه أنّ ذلك لو كان ينفع لأكره أهل الأرض عليه، فقال: وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ مشيئة إلجاء و قسر لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ بحيث لا يشذّ منهم أحد جَمِيعاً مجتمعين على الإيمان لا يختلفون فيه، كما قال: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ «3». و لكنّ الإلجاء مناف للتكليف الاختياري الّذي هو مناط الأعمال و مدارها. و لو كان المراد بالمشيئة مشيئة أزليّة- كما قال الأشاعرة- لم يصحّ تعليقها بالشرط، ألا ترى أنّه لا يصحّ أن يقال: لو علم سبحانه و لو قدر، كما صحّ: لو شاء و لو أراد.

______________________________

(1) أي: الساقط شعره، من: تمعّط الشعر، أي: سقط.

(2) الوعل: تيس الجبل، له قرنان.

(3) الشعراء: 4.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 246

أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ يعني: إنّما يقدر على إكراههم و اضطرارهم إلى الإيمان هو سبحانه لا أنت. و إيلاء حرف الاستفهام للإعلام بأنّ الإكراه ممكن مقدور عليه، و إنّما المكره هو وحده لا يشارك فيه، لأنّه هو القادر على أن يفعل في قلوبهم ما يضطرّون

عنده إلى الإيمان، و ذلك غير مستطاع للبشر.

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان حريصا على إيمان قومه، شديد الاهتمام به، فنزلت هذه الآية.

وَ ما كانَ لِنَفْسٍ من النفوس الّتي علم اللّه أنّها تؤمن أَنْ تُؤْمِنَ باللّه إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي: بتسهيله و منح الطافه و توفيقه و تمكينه منه، و دعائه إليه بما خلق فيه من العقل الموجب لذلك وَ يَجْعَلُ الرِّجْسَ العذاب أو الخذلان، فإنّه سببه عَلَى الَّذِينَ لا يَعْقِلُونَ لا يستعملون عقولهم بالنظر في الحجج و الآيات عنادا و لجاجا.

قابل الإذن بالرّجس و هو الخذلان، و النفس المعلوم إيمانها بالّذين لا يعقلون، و هم المصرّون على الكفر، كقوله: صُمٌّ بُكْمٌ عُمْيٌ فَهُمْ لا يَعْقِلُونَ «1».

[سورة يونس (10): الآيات 101 الى 103]

قُلِ انْظُرُوا ما ذا فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما تُغْنِي الْآياتُ وَ النُّذُرُ عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (101) فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلاَّ مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ (102) ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ (103)

ثمّ بيّن سبحانه ما يزيد في تنبيه القوم و إرشادهم، فقال: قُلِ انْظُرُوا

______________________________

(1) البقرة: 171.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 247

تفكّروا ما ذا فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ من عجائب صنعه، كاختلاف الليل و النهار، و مجاري النجوم و الأفلاك، و ما خلق من الجبال و البحار، و أنبت من الأشجار و الثمار، و أخرج من أنواع الحيوانات و غيرها، لتدلّكم على وحدته و كمال قدرته، فإنّ النظر في افرادها و جملتها يدعو إلى الإيمان إلى معرفة الصانع و وحدانيّته و علمه و حكمته و قدرته. و «ماذا» إن جعلت استفهاميّة علّقت «انظروا» عن العمل.

وَ ما تُغْنِي الْآياتُ وَ النُّذُرُ الرسل

المنذرون أو الإنذارات عَنْ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ أي: لا يتوقّع إيمانهم، لعنادهم و لجاجهم و مكابرتهم. و «ما» نافية، أو استفهاميّة في موضع النصب.

فَهَلْ يَنْتَظِرُونَ إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِهِمْ مثل وقائعهم و نزول بأس اللّه تعالى بهم، إذ لا يستحقّون غيره، من قولهم: أيّام العرب لوقائعها قُلْ فَانْتَظِرُوا إِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُنْتَظِرِينَ لذلك. أو فانتظروا هلاكي، إنّي معكم من المنتظرين هلاككم.

ثُمَّ نُنَجِّي رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا عطف على محذوف دلّ عليه «إِلَّا مِثْلَ أَيَّامِ الَّذِينَ خَلَوْا». كأنّه قيل: نهلك الأمم ثمّ ننجّي رسلنا و من آمن بهم، على حكاية الحال الماضية. كَذلِكَ حَقًّا عَلَيْنا نُنْجِ الْمُؤْمِنِينَ أي: كذلك الإنجاء، أو إنجاء كذلك ننجّي محمدا و صحبه حين نهلك المشركين. و «حقّا علينا» اعتراض، و نصبه بفعله المقدّر، أي: حقّ ذلك علينا حقّا. و قيل: بدل من «كذلك». و قرأ حفص و الكسائي: ننجي مخفّفا.

[سورة يونس (10): الآيات 104 الى 106]

قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (104) وَ أَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (105) وَ لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ وَ لا يَضُرُّكَ فَإِنْ فَعَلْتَ فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ (106)

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 248

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالبراءة عن كلّ معبود سواه، فقال: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ خطاب لأهل مكّة إِنْ كُنْتُمْ فِي شَكٍّ مِنْ دِينِي أي: من صحّته فَلا أَعْبُدُ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ لكِنْ أَعْبُدُ اللَّهَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ فهذا خلاصة ديني اعتقادا و عملا، فأعرضوها على

العقل الصرف، و انظروا فيها بعين الإنصاف لتعلموا صحّتها، و هو أنّي لا أعبد ما تخلقونه- كالأصنام المنحوتة من الحجارة و الخشب- و تعبدونه، و لكن أعبد خالقكم الّذي هو يوجدكم و يتوفّاكم. و إنّما خصّ التوفّي بالذكر للتهديد. وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ المصدّقين بالتوحيد الّذي دلّ عليه العقل، و نطق به الوحي. و حذف الجارّ من «أن» و «أنّ» مطّرد، و مع غيرهما غير مطّرد، كقوله: أمرتك الخير، أي: بالخير.

وَ أَنْ أَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ عطف على «أن أكون» غير أنّ صلة «أن» محكيّة بصيغة الأمر، و لا فرق بينهما في الغرض، لأنّ المقصود وصلها بما يتضمّن معنى المصدر لتدلّ معه عليه، و صيغ الأفعال كلّها كذلك، سواء الخبر منها و الطلب.

و المعنى: و أمرت بالاستقامة في الدين و الاستبداد فيه، و بإقبالي عليه، قائما بأعباء الرسالة و تحمّل أمر الشريعة، من أداء الفرائض و الانتهاء عن القبائح غير عوج عنه، أو في الصلاة باستقبال القبلة حَنِيفاً حال من الدين أو الوجه، أي: مستقيما في الدين وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 249

وَ لا تَدْعُ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكَ إن أطعته وَ لا يَضُرُّكَ إن عصيته و تركته فَإِنْ فَعَلْتَ فإن دعوته فَإِنَّكَ إِذاً مِنَ الظَّالِمِينَ جزاء للشرط، و جواب لسؤال مقدّر عن تبعة الدعاء، كأنّ سائلا سأل عن تبعة عبادة غير اللّه. و جعل من الظالمين، لأنّه لا ظلم أعظم من الشرك، إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «1». و الخطاب و إن كان متوجّها إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الظاهر لكنّ المراد به أمّته.

[سورة يونس (10): آية 107]

وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ فَلا كاشِفَ لَهُ إِلاَّ

هُوَ وَ إِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ فَلا رَادَّ لِفَضْلِهِ يُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (107)

ثمّ عقّب النهي عن عبادة ما لا ينفع و لا يضرّ، بأنّ اللّه هو الضارّ و النافع الّذي إن أصابك بضرّ لم يقدر على كشفه إلّا هو، و إن أرادك بخير لم يردّه أحد، فقال: وَ إِنْ يَمْسَسْكَ اللَّهُ بِضُرٍّ و إن يصبك بضرر، كالمرض و الفقر فَلا كاشِفَ لَهُ برفعه إِلَّا هُوَ إلّا اللّه وَ إِنْ يُرِدْكَ بِخَيْرٍ كالصحّة و الغنى فَلا رَادَّ فلا دافع لِفَضْلِهِ الّذي أرادك به، فهو الحقيق بأن يعبد دون الأوثان.

و لعلّه ذكر الإرادة مع الخير و المسّ مع الضرّ مع تلازم الأمرين، للتنبيه على أنّ الخير مراد بالذات، و أنّ الضرّ إنّما مسّهم لا بالقصد الأوّل. و وضع الفضل موضع الضمير للدلالة على أنّه متفضّل بما يريد بهم من الخير، لا استحقاق لهم عليه.

يُصِيبُ بِهِ بالخير مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ هُوَ الْغَفُورُ لذنوب عباده الرَّحِيمُ بهم. فتعرّضوا لرحمته بالطاعة، و لا تيأسوا من غفرانه بالمعصية.

و المراد بالمشيئة مشيئة المصلحة.

______________________________

(1) لقمان: 13.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 250

[سورة يونس (10): الآيات 108 الى 109]

زبدة التفاسير ج 3 299

قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ (108) وَ اتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ وَ اصْبِرْ حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (109)

ثمّ ختم اللّه سبحانه السورة بالموعظة الحسنة، تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الوعد للمؤمنين و الوعيد للمشركين، فقال: قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ قَدْ جاءَكُمُ الْحَقُ أي:

الرسول أو القرآن مِنْ رَبِّكُمْ فلم يبق لكم عذر، و لا

لكم على اللّه حجّة فَمَنِ اهْتَدى بالإيمان و المتابعة فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ لأنّ نفعه لها وَ مَنْ ضَلَ بالكفر بهما فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها لأنّ وبال الضلال عليها. و اللام و «على» دليلان على معنى النفع و الضرّ. وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِوَكِيلٍ بحفيظ موكول إلى أمركم لأحملكم على ما أريد، و إنّما أنا بشير و نذير، فليس عليّ إلّا البلاغ، و لا يلزمني أن أجعلكم مهتدين، و أن أنجيكم من النار، كما يجب على من وكّل على متاع أن يحفظه من الضرر.

وَ اتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ بالامتثال و التبليغ وَ اصْبِرْ على دعوتهم و تحمّل أذيّتهم حَتَّى يَحْكُمَ اللَّهُ بالأمر بالقتال وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ لا يحكم إلّا بالحقّ و العدل، إذ لا يمكن الخطأ في حكمه، لاطّلاعه على السرائر اطّلاعه على الظواهر.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 251

(11) سورة هود

اشارة

مكّيّة، و هي مائة و ثلاث و عشرون آية.

أبيّ بن كعب عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأها أعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بنوح و كذّب به، و بهود و صالح و شعيب و لوط و إبراهيم و موسى، و كان يوم القيامة من السعداء».

و

روى الثعلبي بإسناده عن أبي إسحاق عن أبي جحيفة قال: «قيل: يا رسول اللّه قد أسرع إليك الشيب، قال: شيّبتني سورة هود و أخواتها».

و

في رواية اخرى عن أنس بن مالك، عن أبي بكر قال: «قلت: يا رسول اللّه عجّل إليك الشيب. قال: شيّبتني سورة هود و أخواتها: الحاقّة، و الواقعة، و عمّ يتساءلون، و هل أتيك حديث الغاشية».

و

روى العيّاشي عن الحسن بن عليّ بن الوشّاء، عن ابن سنان، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من

قرأ سورة هود في كلّ جمعة بعثه اللّه يوم القيامة في زمرة النبيّين، و حوسب حسابا يسيرا، و لم يعرف له خطيئة عملها يوم القيامة» «1».

______________________________

(1) تفسير العيّاشى 2: 139 ح 1.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 252

[سورة هود (11): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر كِتابٌ أُحْكِمَتْ آياتُهُ ثُمَّ فُصِّلَتْ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ خَبِيرٍ (1) أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ وَ بَشِيرٌ (2) وَ أَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَ يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ وَ إِنْ تَوَلَّوْا فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ (3) إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (4)

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة يونس بذكر الوحي في قوله: «وَ اتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ» افتتح هذه السّورة ببيان ذلك الوحي، فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر كِتابٌ مبتدأ و خبر، أو «كتاب» خبر محذوف أُحْكِمَتْ آياتُهُ نظمت نظما محكما لا يعرضه نقض، و لا يعتريه خلل من جهة اللفظ و المعنى، كالبناء المحكم. أو منعت من الفساد و النسخ. من: أحكم الدابّة وضع عليها الحكمة «1» لتمنعها من الجماح، أو جعلت حكيمة، منقول من: حكم بالضمّ إذا صار حكيما، لأنّها مشتملة على أمّهات الحكم النظريّة و العمليّة.

ثُمَّ فُصِّلَتْ بالفوائد، من دلائل التوحيد و الأحكام و المواعظ و القصص. أو بجعلها سورة سورة و آية آية. أو بالإنزال نجما نجما. أو فصّل فيها و لخّص ما يحتاج إليه العباد. و «ثمّ» للتفاوت في الحال، كما تقول: هي

______________________________

(1) الحكمة: ما أحاط بحنكي الفرس من لجامه يمنعه من مخالفة راكبه.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 253

محكمة أحسن الإحكام ثمّ مفصّلة أحسن التفصيل، و فلان كريم الأصل ثمّ

كريم الفعل.

مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ أحكمها خَبِيرٍ فصّلها و بيّنها. هذه صفة اخرى ل «كتاب»، أو خبر بعد خبر، أو صلة ل «أحكمت» أو «فصّلت». و هو تقرير لإحكامها و تفصيلها على أكمل ما ينبغي، باعتبار ما ظهر أمره و ما خفي.

أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ مفعول له، أي: لأن لا تعبدوا. و قيل: «أن» مفسّرة، لأنّ في تفصيل الآيات معنى القول، كأنّه قيل: قال لا تعبدوا إلّا اللّه، أو أمركم أن لا تعبدوا إلّا اللّه، أي: أمركم بالتوحيد. و يجوز أن يكون كلاما مبتدأ للإغراء على التوحيد، أو الأمر بالتبرّي من عبادة الغير، كأنّه قيل: ترك عبادة غير اللّه، بمعنى:

الزموه. إِنَّنِي لَكُمْ مِنْهُ من اللّه نَذِيرٌ بالعقاب على الشرك وَ بَشِيرٌ بالثواب على التوحيد.

وَ أَنِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ عطف على «أَلَّا تَعْبُدُوا» ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ثمّ توصّلوا إلى مطلوبكم بالتوبة، فإن المعرض عن طريق الحقّ لا بدّ له من الرجوع.

و المعنى: استغفروا من الشرك ثمّ توبوا إلى اللّه تعالى بالطاعة. أو استغفروا، و الاستغفار توبة، ثمّ أخلصوا التوبة- الّتي هي الاستغفار- و استقيموا عليها. فإيراد «ثمّ» لتفاوت ما بين الأمرين.

يُمَتِّعْكُمْ مَتاعاً حَسَناً يعيّشكم في الدنيا بالنعم السابغة، و المنافع المتتابعة الدينيّة و الماليّة إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو آخر أعماركم المقدّرة، كقوله:

فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً «1». أو لا يهلككم بعذاب الاستئصال. و الأرزاق و الآجال و إن كانت متعلّقة بالأعمار، كما ورد في الحديث أنّ الصدقة تزيد

______________________________

(1) النحل: 97.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 254

في العمر و تلاوة القرآن تزيد في الرزق، لكنّها مسمّاة بالإضافة إلى كلّ واحد فلا تتغيّر.

وَ يُؤْتِ كُلَّ ذِي فَضْلٍ فَضْلَهُ و يعط كلّ ذي فضل في دينه و عمله جزاء فضله في الدنيا و الآخرة لا

يبخس منه، أو فضله في الثواب و الدرجات تتفاضل في الجنّة على قدر تفاضل الطاعات. و هو وعد للموحّد التائب بخير الدارين.

وَ إِنْ تَوَلَّوْا و إن تتولّوا عمّا أمرتم به فَإِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ كَبِيرٍ أي: كبير شأنه. و هو يوم القيامة. و قيل: يوم الشدائد. و قد ابتلوا بالقحط حتّى أكلوا الجيفة.

إِلَى اللَّهِ مَرْجِعُكُمْ رجوعكم في ذلك اليوم. و قياس المصدر الميمي أن يكون على وزن مفعل بالفتح، نحو مدخل، فالمرجع شاذّ عن القياس.

وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فيقدر على تعذيبكم أشدّ عذاب، و كأنّه تقرير لكبر اليوم.

[سورة هود (11): آية 5]

أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (5)

روي أنّ طائفة من المشركين قالوا: إذا أرخينا ستورنا و استغشينا ثيابنا و طوينا صدورنا على عداوة محمّد كيف يعلم؟ و هذا من شدّة جهلهم باللّه، فظنّوا أنّهم إذا ثنوا صدورهم على سبيل الإخفاء لم يعلم اللّه تعالى أسرارهم، فنزلت: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ يطوونها و يعطفونها على الكفر و عداوة النبيّ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ من اللّه بسرّهم، فلا يطلع رسوله و المؤمنين عليه.

و قيل: إنّ الأخنس بن شريق كان حلو الكلام، يلقى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بما

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 255

يحبّ و ينطوي بقلبه على ما يكره، و يضمر خلاف ما يظهر، فنزلت هذه الآية.

و قيل: نزلت في المنافقين. و فيه نظر، إذ الآية مكّيّة و النفاق حدث بالمدينة.

و يؤيّد الأوّل ما

روى العيّاشي بإسناده عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «أخبرني جابر بن عبد اللّه أنّ المشركين إذا مرّوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم طأطأ

أحدهم رأسه و ولّى ظهره و غطّى رأسه بثوبه حتّى لا يراه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فأنزل اللّه هذه الآية».

أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ أي: حين يتغطّون بثيابهم يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ في قلوبهم وَ ما يُعْلِنُونَ بأفواههم. يعني: يستوي في علمه سرّهم و علنهم، فكيف يخفى عليه ما عسى يظهرونه؟! إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بأسرار ذات الصدور، أو بالقلوب و أحوالها.

[سورة هود (11): آية 6]

وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ رِزْقُها وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها وَ مُسْتَوْدَعَها كُلٌّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (6)

ثمّ بيّن أنّه عالم بجميع المعلومات كلّها، تقريرا لعلمه بأسرار العباد و إعلانهم، فقال: وَ ما مِنْ دَابَّةٍ فِي الْأَرْضِ إِلَّا عَلَى اللَّهِ رِزْقُها غذاؤها و معاشها، لتكفّله إيّاه تفضّلا و رحمة. و لمّا ضمن سبحانه أن يتفضّل بالرزق عليهم و تكفّل به صار التفضّل واجبا، فلذلك جاء بلفظ الوجوب، كالنذور الواجبة على العباد.

وَ يَعْلَمُ مُسْتَقَرَّها مواضع قرارها و مسكنها من الأرض وَ مُسْتَوْدَعَها حيث كانت مودعة. قيل: الاستقرار في أصلاب الآباء و أرحام الأمّهات. أو المراد منهما أماكنهما في الحياة و الممات. كُلٌ كلّ واحد من الدوّاب و أحوالها فِي كِتابٍ مُبِينٍ مذكور في اللوح المحفوظ.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 256

[سورة هود (11): الآيات 7 الى 8]

وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَ لَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (7) وَ لَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ لَيَقُولُنَّ ما يَحْبِسُهُ أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (8)

ثمّ بين كونه قادرا على الممكنات بأسرها تقريرا للتوحيد، فقال: وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ أي: خلقهما و ما فيهما مقدار ستّة أيّام، لأنّها لم تكن هناك بعد، فإنّ اليوم عبارة عمّا بين طلوع الشمس و غروبها. أو ما في جهتي العلوّ و السفل. و جمع السموات دون الأرض، لاختلاف العلويّات بالذات دون السفليّات.

وَ كانَ عَرْشُهُ عَلَى الْماءِ قبل خلقهما، لم يكن حائل بينهما، لا أنّه كان موضوعا على متن

الماء. و استدلّ به على إمكان الخلا، و أنّ الماء أوّل حادث بعد العرش من أجرام هذا العالم، و أنّ العرش و الماء كانا مخلوقين قبل السماوات و الأرض، و أنّ الماء قائم بقدرة اللّه تعالى على غير موضع قرار، بل كان اللّه يمسكه بكمال قدرته. و قيل: كان الماء على متن الريح. و كيف كان، فاللّه ممسك كلّ ذلك بقدرته.

لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا متعلّق ب «خلق» أي: خلق ذلك ليعاملكم معاملة المبتلي لأحوالكم كيف تعملون؟ فإنّ جملة ذلك أسباب و موادّ لوجودكم و معاشكم و ما تحتاج إليه أعمالكم، و دلائل و أمارات تستدلّون بها و تستنبطون منها.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 257

و إنّما جاء تعليق فعل البلوى ب «خلق» لما فيه من معنى العلم، من حيث إنّه طريق إليه، كالنظر و الاستماع، كما في قولك: أنظر أيّهم أحسن وجها و اسمع أيّهم أحسن صوتا. و إنّما ذكر صيغة التفضيل و الاختبار شامل لفرق المكلّفين باعتبار الحسن و القبح، للتحريض على أحاسن المحاسن، و التحضيض على الترقّي دائما في مراتب العلم و العمل، فإنّ المراد بالعمل ما يعمّ عمل القلب و الجوارح، و لذلك

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أيّكم أحسن عقلا، و أورع عن محارم اللّه، و أسرع في طاعة اللّه تعالى؟».

و المعنى: أيّكم أكمل علما و عملا؟

وَ لَئِنْ قُلْتَ إِنَّكُمْ مَبْعُوثُونَ مِنْ بَعْدِ الْمَوْتِ فتوقّعوه لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هذا أي: ما البعث، أو القول به. أو القرآن المتضمّن لذكره إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ إلّا كالسحر في الخديعة أو البطلان. و قرأ حمزة و الكسائي: إلّا ساحر، على أنّ الإشارة إلى قائل هذا القول، و هو الرسول صلّى اللّه عليه و

آله و سلّم.

وَ لَئِنْ أَخَّرْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ الموعود إِلى أُمَّةٍ مَعْدُودَةٍ إلى جماعة متعاقبة من الأوقات قليلة.

روي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام: «أنّ الأمّة المعدودة هم أصحاب المهدي في آخر الزمان، ثلاثمائة و بضعة عشر رجلا، كعدّة أهل بدر، يجتمعون في ساعة واحدة كما يجتمع قزع «1» الخريف».

لَيَقُولُنَ استهزاء ما يَحْبِسُهُ أيّ شي ء يمنعه من الوقوع استعجالا أَلا يَوْمَ يَأْتِيهِمْ كيوم بدر لَيْسَ مَصْرُوفاً عَنْهُمْ ليس العذاب مدفوعا عنهم. و «يوم» منصوب بخبر «ليس» مقدّم عليه. و هو دليل على جواز تقديم خبرها عليها، و ذلك لأنّه إذا جاز تقديم معمول خبرها عليها كان ذلك دليلا على جواز تقديم خبرها، إذ المعمول تابع للعامل، فلا يقع إلّا حيث يقع العامل.

______________________________

(1) القزع: قطع من السحاب صغار متفرّقة.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 258

وَ حاقَ بِهِمْ و أحاط بهم. و إنّما وضع الماضي موضع المستقبل تحقيقا و مبالغة في التهديد. ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي: العذاب الّذي كانوا به يستعجلون. فوضع «يستهزءون» موضع: يستعجلون، لأنّ استعجالهم كان استهزاء.

[سورة هود (11): الآيات 9 الى 11]

وَ لَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ إِنَّهُ لَيَؤُسٌ كَفُورٌ (9) وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي إِنَّهُ لَفَرِحٌ فَخُورٌ (10) إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ (11)

ثمّ بيّن سبحانه حال الإنسان فيما قابل به نعمه من الكفران، فقال: وَ لَئِنْ أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً و لئن أعطيناه نعمة بحيث يجد لذّتها ثُمَّ نَزَعْناها مِنْهُ ثمّ سلبنا تلك النعمة منه إِنَّهُ لَيَؤُسٌ قطوع رجاءه من فضل اللّه تعالى أن يعود إليه تلك النعمة المنزوعة، لقلّة صبره و عدم ثقته به كَفُورٌ مبالغ في كفران

ما سلف له من النعمة.

وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ نَعْماءَ بَعْدَ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ كصحّة بعد سقم، و غنى بعد فقر. و في إسناد إذاقة النعماء إليه تعالى في قوله: «أذقناه» دون الضرّاء في قوله «مسّته» إيماء إلى أنّ النعمة من جانبه تعالى مقصود أصليّ له، و الضرّاء كداء ساقه إليهم سوء أفعالهم.

لَيَقُولَنَّ ذَهَبَ السَّيِّئاتُ عَنِّي أي: المصائب الّتي ساءتني إِنَّهُ لَفَرِحٌ بطر بالنعم مغترّ بها فَخُورٌ على الناس بما أنعم اللّه عليه، مشغول عن الشكر و القيام بحقّها. و في لفظ الإذاقة و المسّ تنبيه على أن ما يجده الإنسان في الدنيا من النعم و المحن كالأنموذج لما يجده في الآخرة، و أنّه يقع في الكفران و البطر بأدنى شي ء،

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 259

لأنّ الذوق إدراك أوّل الطعم، و المسّ مبدأ الوصول.

إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا على الضرّاء، إيمانا بقدره و استسلاما لقضائه وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ شكرا لآلائه السابقة و اللاحقة أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ أقلّه الجنّة. و الاستثناء من الإنسان، لأنّ المراد به الجنس، فإذا كان محلّى باللام أفاد الاستغراق. و من حمله على الكافر، لسبق ذكرهم، جعل الاستثناء منقطعا.

[سورة هود (11): الآيات 12 الى 14]

فَلَعَلَّكَ تارِكٌ بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ وَ ضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ (12) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ مِثْلِهِ مُفْتَرَياتٍ وَ ادْعُوا مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (13) فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ فَاعْلَمُوا أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ وَ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (14)

روي عن ابن عبّاس: أنّ رؤساء مكّة من قريش أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

و سلّم فقالوا:

يا محمّد إن كنت رسولا فحوّل لنا جبال مكّة ذهبا أو ائتنا بملائكة يشهدون لك بالنبوّة، فنزلت: فَلَعَلَّكَ تارِكٌ

أي: تترك بَعْضَ ما يُوحى إِلَيْكَ و هو ما يخالف رأي المشركين، مخافة ردّهم و استهزائهم به. و لا يلزم من توقّع الشي ء- لوجود ما يدعو إليه- وقوعه، لجواز أن يكون ما يصرف عنه- و هو عصمة الرسل من الخيانة في الوحي، و الثقة في التبليغ- مانعا.

وَ ضائِقٌ بِهِ صَدْرُكَ أي: عارض لك أحيانا ضيّق صدرك، بأن تتلوه

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 260

عليهم مخافة- فللدلالة على أنّه ضيق عارض غير ثابت عدل عن ضيّق إلى ضائق- أَنْ يَقُولُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ كَنْزٌ ينفقه في الاستتباع كالملوك أَوْ جاءَ مَعَهُ مَلَكٌ يصدّقه. و قيل: الضمير في «به» مبهم يفسّره «أن يقولوا». إِنَّما أَنْتَ نَذِيرٌ ليس عليك إلّا الإنذار بما أوحي إليك، و لا عليك ردّوا أو اقترحوا، فما بالك يضيق به صدرك؟! وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ فتوكّل عليه، فإنّه عالم بحالهم، و فاعل بهم جزاء أقوالهم و أفعالهم.

روى العيّاشي بإسناده إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لعليّ بن أبي طالب عليه السّلام: إنّي سألت ربّي أن يؤاخي بيني و بينك ففعل، و سألت ربّي أن يجعلك وصيّي ففعل. فقال بعض القوم: و اللّه لصاع من تمر في شنّ «1» بال أحبّ إلينا ممّا سال محمّد ربّه، فهلّا سأله ملكا يعضده على عدوّه أو كنزا يستغني به على فاقته، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية».

ثمّ قال: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ «أم» منقطعة، و الهاء ل «ما يوحى» قُلْ فَأْتُوا بِعَشْرِ سُوَرٍ كلّ واحدة منها

مِثْلِهِ في البيان و حسن النظم. تحدّاهم أوّلا بعشر سور، ثمّ لمّا عجزوا عنها سهّل الأمر عليهم و تحدّاهم بسورة. و توحيد المثل مقام الأمثال باعتبار كلّ واحدة، لأنّه أراد مماثلة كلّ واحدة منها له. مُفْتَرَياتٍ مختلقات من عند أنفسكم، إن صحّ أنّي اختلقته من عند نفسي كما زعمتم، فإنّكم عرب فصحاء مثلي تقدرون على مثل ما أقدر عليه، بل أنتم أقدر، لتعلّمكم القصص و الأشعار، و تعوّدكم نسق النظم و إنشاء الكلام المنثور الّذي كاللآلي وَ ادْعُوا في المعاونة على المعارضة مَنِ اسْتَطَعْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ أنّه مفترى.

فَإِلَّمْ يَسْتَجِيبُوا لَكُمْ بإتيان ما دعوتم إليه. و جمع الضمير لأنّ المؤمنين أيضا كانوا يتحدّونهم، و كان أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم متناولا لهم، من حيث إنّه يجب

______________________________

(1) الشّنّ: القربة الخلق الصغيرة.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 261

اتّباعه عليهم في كلّ أمر إلّا ما خصّه الدليل، و للتنبيه على أنّ التحدّي ممّا يوجب رسوخ إيمانهم و قوّة يقينهم، فلا يغفلون عنه. و يجوز أن يكون الجمع لتعظيم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و يؤيّد الأوّل قوله بعد ذلك: فَاعْلَمُوا أيّها المؤمنون أَنَّما أُنْزِلَ بِعِلْمِ اللَّهِ ملتبسا بما لا يعلمه إلّا اللّه، و لا يقدر عليه سواه، من نظم معجز لجميع الخلق، و إخبار بغيوب لا سبيل لهم إليه وَ أَنْ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ و اعلموا أن لا إله إلّا اللّه وحده، لأنّه العالم القادر بما لا يعلم، و لا يقدر عليه غيره، و لظهور عجز آلهتهم، و لتنصيص هذا الكلام الثابت صدقه بإعجازه عليه. و فيه تهديد و إقناط من أن يجيرهم من بأس اللّه آلهتهم. فَهَلْ

أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ ثابتون على الإسلام، راسخون مخلصون فيه، إذا تحقّق عندكم إعجازه مطلقا.

و يجوز أن يكون الخطاب للكفّار، و الضمير في «لم يستجيبوا» ل «من استطعتم»، فيكون المعنى: فإن لم يستجب لكم من تدعونهم إلى المظاهرة على المعارضة لعجزهم، و قد عرفتم من أنفسكم القصور عن المعارضة، فاعلموا أنّه نظم لا يعلمه إلّا اللّه، و أنّه منزل من عنده، و أنّ ما دعاكم إليه من التوحيد حقّ، فهل أنتم مسلمون داخلون في الإسلام، معتقدون للتوحيد، بعد قيام الحجّة القاطعة؟! و في مثل هذا الاستفهام إيجاب بليغ، لما فيه من معنى الطلب، و التنبيه على قيام الموجب و زوال العذر.

[سورة هود (11): الآيات 15 الى 16]

مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ زِينَتَها نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها وَ هُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ النَّارُ وَ حَبِطَ ما صَنَعُوا فِيها وَ باطِلٌ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (16)

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 262

مَنْ كانَ يُرِيدُ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ زِينَتَها و حسن بهجتها، بإحسانه تعالى و برّه نُوَفِّ إِلَيْهِمْ أَعْمالَهُمْ فِيها نوفّر عليهم أجور أعمالهم في الدنيا و ما يرزقون فيها، من الصحّة و سعة الرزق و الرئاسة و كثرة الأولاد وَ هُمْ فِيها لا يُبْخَسُونَ لا ينقصون شيئا من أجورهم. قيل: هذه الآية في أهل الرياء. و قيل: في المنافقين.

و قيل: في الكفرة و برّهم.

أُولئِكَ الَّذِينَ لَيْسَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ إِلَّا النَّارُ مطلقا في مقابلة ما عملوا، لأنّهم استوفوا ما تقتضيه صور أعمالهم الحسنة، و بقيت لهم أوزار العزائم السيّئة وَ حَبِطَ ما صَنَعُوا ما صنعوه، أي: لم يكن لصنيعهم ثواب فِيها في الآخرة، لأنّهم لم يريدوا به وجه اللّه، و العمدة في اقتضاء ثوابها هو الإخلاص. و يجوز

تعليق الظرف ب «صنعوا» على أنّ الضمير للدّنيا. وَ باطِلٌ في نفسه ما كانُوا يَعْمَلُونَ لأنّه لم يعمل على الوجه الصحيح الّذي هو ابتغاء وجه اللّه، و العمل الباطل لا ثواب له.

و كأنّ كلّ واحدة من الجملتين علّة لما قبلها.

[سورة هود (11): آية 17]

أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ وَ يَتْلُوهُ شاهِدٌ مِنْهُ وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَ رَحْمَةً أُولئِكَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (17)

أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ على برهان و حجّة من اللّه يدلّه على أنّ دين الإسلام هو الحقّ و الصواب فيما يأتيه و يذره. و هو دليل العقل. و الهمزة لإنكار أن يتّبع من هذا شأنه هؤلاء المقصّرين هممهم و أفكارهم على الدنيا، و أن يقارب بينهم في المنزلة. يريد أنّ بين الفريقين تفاوتا بعيدا و تباينا بيّنا، و هو الّذي

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 263

أغنى عن ذكر الخبر، و تقديره: أ فمن كان على بيّنة كمن كان يريد الحياة الدنيا؟! و هو حكم يعم كلّ مؤمن مخلص. و قيل: المراد به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قيل: مؤمنوا أهل الكتاب.

وَ يَتْلُوهُ و يتبع ذلك البرهان الّذي هو دليل العقل شاهِدٌ مِنْهُ شاهد من اللّه يشهد بصحّته، و هو القرآن وَ مِنْ قَبْلِهِ و من قبل القرآن كِتابُ مُوسى يعني: التوراة، فإنّها أيضا تتلوه في التصديق. أو البيّنة هو القرآن، و «يتلوه» من التلاوة، و الشاهد جبرئيل، أو لسان الرسول. و هذا منقول عن الحسين بن عليّ عليه السّلام و محمد بن الحنفيّة. أو

من التلو، و الشاهد ملك يحفظه.

و قيل:

الشاهد عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، يشهد للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و هو منه.

و هذا مرويّ عن أبي جعفر و عليّ بن موسى الرضا عليهما السّلام. و رواه الطبري «1» بإسناده عن جابر بن عبد اللّه عن عليّ عليه السّلام.

و الضمير في «يتلوه» إمّا ل «من» أو للبيّنة باعتبار المعنى، و هو البرهان.

و يجوز أن يكون «وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى جملة مبتدأة.

إِماماً كتابا مؤتمّا به في الدين وَ رَحْمَةً و نعمة عظيمة على المنزل عليهم، لأنّه الوسيلة إلى الفوز بخير الدارين.

أُولئِكَ إشارة إلى من كان على بيّنة يُؤْمِنُونَ بِهِ بالقرآن وَ مَنْ يَكْفُرْ بِهِ مِنَ الْأَحْزابِ من أهل مكّة و من ضامّهم من المتحزّبين على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَالنَّارُ مَوْعِدُهُ يردها لا محالة فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ من الموعد، أو القرآن إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ و الخطاب للنبيّ، و المراد أمّته، أو المراد كلّ سامع وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ صحّته و صدقه عنادا و جحودا و لجاجا.

______________________________

(1) تفسير الطبري 12: 11.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 264

[سورة هود (11): الآيات 18 الى 22]

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ وَ يَقُولُ الْأَشْهادُ هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ (18) الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (19) أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ ما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ وَ ما كانُوا يُبْصِرُونَ (20) أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (21) لا

جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (22)

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً كأن أسند إليه ما لم ينزله أو نفى عنه ما أنزله، أي: لا أحد أظلم منه. و إخراجه مخرج الاستفهام ليكون أبلغ.

أُولئِكَ يُعْرَضُونَ عَلى رَبِّهِمْ في الموقف، بأن يحبسوا و يعرضوا و يوقفوا موقفا يراهم الخلائق للمطالبة بما عملوا، أو تعرض أعمالهم وَ يَقُولُ الْأَشْهادُ من الملائكة و الحفظة و النبيّين، أو شهد كل إمام عصر من أئمّة المؤمنين، أو من جوارحهم. و هو جمع شاهد كأصحاب، أو شهيد كأشراف. هؤُلاءِ الَّذِينَ كَذَبُوا عَلى رَبِّهِمْ و قوله: أَلا لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ ابتداء كلام، أو تتمّة كلام الأشهاد. و فيه تهويل عظيم ممّا يحيق بهم حينئذ، لظلمهم بالكذب على اللّه تعالى.

الَّذِينَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن دينه الإسلام وَ يَبْغُونَها عِوَجاً و يصفونها بالاعوجاج عن الحقّ و الصواب و هي مستقيمة. أو يبغون أهلها أن يعوّجوا عن الحقّ بالردّة، و هم الثابتة عليه. وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ و الحال

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 265

أنّهم كافرون بالآخرة. و تكرير «هم» لتأكيد كفرهم و اختصاصهم به.

أُولئِكَ لَمْ يَكُونُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ أي: ما كانوا معجزين اللّه تعالى في الدنيا أن يعاقبهم، بأن يفوتوا منه هربا إذا أراد إهلاكهم، كما يهرب الهارب من عدوّ و قد جدّ في طلبه. و إنّما خصّ الأرض بالذكر و إن كانوا لا يفوتون اللّه و لا يخرجون عن قبضته على كلّ حال، لأنّ معاقل الأرض هي الّتي يهرب إليها البشر، فكأنّه سبحانه نفى أن يكون لهؤلاء الكفّار عاصم عنه و مانع من عذابه.

وَ ما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ بأن يتولّوهم فينصروهم و يمنعوهم من

العذاب، و لكنّه سبحانه أخّر عقابهم إلى هذا اليوم ليكون أشدّ و أدوم.

يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ استئناف. و قرأ ابن كثير و يعقوب و ابن عامر: يضعّف بالتشديد. و معناه: أنّه لا يقتصر بهم على عذاب الكفر، بل يعاقبون عليه و على سائر المعاصي، كما قال في موضع آخر: زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ «1». أو كلّما مضى ضرب من العذاب يعقبه ضرب آخر منه مثله أو فوقه، كذلك دائما مؤبّدا، و كلّ ذلك على قدر الاستحقاق.

ما كانُوا يَسْتَطِيعُونَ السَّمْعَ لفرط تصامّهم عن استماع الحقّ و بغضهم له، كأنّهم لا يستطيعون السمع وَ ما كانُوا يُبْصِرُونَ لفرط تعاميهم عن آيات اللّه، و كأنّه العلّة لمضاعفة العذاب. و قيل: هو بيان ما نفاه من ولاية الآلهة بقوله: «وَ ما كانَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ» فإنّ ما لا يسمع و لا يبصر لا يصلح للولاية. و قوله:

«يُضاعَفُ لَهُمُ الْعَذابُ» اعتراض.

أُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ باشتراء عبادة الآلهة بعبادة اللّه تعالى وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ من الآلهة و شفاعتها، أو خسروا بما بدّلوا، و ضاع عنهم ما حصّلوا، فلم يبق معهم سوى الندامة و الحسرة.

______________________________

(1) النحل: 88.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 266

لا جَرَمَ قال الزجّاج: «لا» نفي لما ظنّوا أنّه ينفعهم، فكأنّ المعنى: لا ينفعهم ذلك. و «جرم» بمعنى: حقّ و ثبت. أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ بحيث لا أحد أبين و أكثر خسرانا منهم. و قال غير الزجّاج: معناه: لا بدّ و لا محالة أنّهم.

و قيل: معناه: حقّا. و يستعمل في أمر يقطع عليه و لا يرتاب فيه، أي: لا شكّ أنّ هؤلاء الكفّار هم أخسر الناس في الآخرة.

[سورة هود (11): الآيات 23 الى 24]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا

الصَّالِحاتِ وَ أَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (23) مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ كَالْأَعْمى وَ الْأَصَمِّ وَ الْبَصِيرِ وَ السَّمِيعِ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (24)

و لمّا تقدّم ذكر الكفّار و ما أعدّ لهم من العذاب، عقّبه سبحانه بذكر المؤمنين، إجراء على عادته تعالى أنّه يذكر الوعد مع الوعيد و بالعكس، فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ أَخْبَتُوا إِلى رَبِّهِمْ اطمأنّوا إليه، و خشعوا له و انقطعوا إلى عبادته، من الخبت، و هي الأرض المطمئنّة أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمْ فِيها خالِدُونَ دائمون.

ثمّ ضرب مثلا للكافر و المؤمن بقوله: مَثَلُ الْفَرِيقَيْنِ الكافر و المؤمن كَالْأَعْمى وَ الْأَصَمِّ وَ الْبَصِيرِ وَ السَّمِيعِ فشبّه فريق الكفّار بالأعمى و الأصمّ، و فريق المؤمنين بالبصير و السميع. و هو من اللفّ و الطباق. و فيه وجهان: أحدهما:

تشبيه الكافر بالأعمى، لتعاميه عن آيات اللّه تعالى، و بالأصمّ لتصامّه عن استماع كلام اللّه تعالى، و تأبيّه عن تدبّر معانيه، و تشبيه المؤمن بالبصير و السميع، لأنّ أمره بالضدّ. فيكون كلّ منهما مشبّهين باثنين باعتبار وصفين. و ثانيهما: أن يشبّه الكافر بالجامع بين العمى و الصمم، و المؤمن بين ضدّيهما.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 267

هَلْ يَسْتَوِيانِ هل يستوي الفريقان عند العقلاء مَثَلًا تمثيلا، أو صفة أو حالا أَ فَلا تَذَكَّرُونَ بضرب الأمثال و التأمّل فيها، فتعلموا صحّة ما ذكرنا.

[سورة هود (11): الآيات 25 الى 28]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (25) أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ (26) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلاَّ بَشَراً مِثْلَنا وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلاَّ الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا بادِيَ الرَّأْيِ وَ ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ

بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ (27) قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ أَ نُلْزِمُكُمُوها وَ أَنْتُمْ لَها كارِهُونَ (28)

و لمّا تقدّم ذكر الوعد و الوعيد و الترغيب و الترهيب، عقّب ذلك سبحانه بذكر أخبار الأنبياء، تأكيدا لذلك، و تخويفا للخلق، و تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و بدأ بقصّة نوح عليه السّلام، لأنّه شيخ الأنبياء و أبوهم بعد الطوفان و أسبقهم، فقال: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ إِنِّي لَكُمْ بأنّي لكم، أي: ملتبسا بهذا الكلام. و قرأ نافع و عاصم و ابن عامر و حمزة بالكسر على إرادة القول نَذِيرٌ مُبِينٌ أبيّن لكم موجبات العذاب و وجه الخلاص.

أَنْ لا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ بدل من «إنّي لكم»، أو مفعول «مبين». و يجوز أن تكون «أن» مفسّرة متعلّقة ب «أرسلنا» أو ب «نذير». إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ أَلِيمٍ مؤلم. و هو في الحقيقة صفة المعذّب، لكن يوصف به العذاب و زمانه على طريقة: جدّ جدّه، و نهارك صائم و ليلك قائم، للمبالغة.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 268

فَقالَ الْمَلَأُ أي: الأشراف، لأنّهم يملؤن القلوب هيبة و هيئة الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما نَراكَ إِلَّا بَشَراً مِثْلَنا لا مزيّة لك علينا تخصّك بالنبوّة و وجوب الإطاعة، و ذلك لظنّهم أنّ الرسول ينبغي أن يكون من غير جنس المرسل إليه وَ ما نَراكَ اتَّبَعَكَ إِلَّا الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا أخسّاؤنا. جمع أرذل، فإنّه بالغلبة صار مثل الاسم، كالأكبر. أو أرذل جمع رذل. بادِيَ الرَّأْيِ ظاهر الفكر من غير تعمّق، من البدوّ بمعنى الظهور، أو أوّل الرأي من البدء. و الباء مبدلة من الهمزة، لانكسار ما قبلها.

و

قرأ أبو عمرو بالهمزة. و انتصابه بالظرف، على حذف المضاف، أي: وقت حدوث بادي الرأي. و العامل فيه «اتّبعك».

و إنّما استرذلوهم لذلك أو لفقرهم، فإنّهم لمّا لم يعلموا إلّا ظاهرا من الحياة الدنيا، كان الأحظّ بها أشرف عندهم، و المحروم منها أرذل، كما ترى أكثر المتّسمين بالإسلام يعتقدون ذلك، و يبنون عليه إكرامهم و إهانتهم. و لقد زلّ عنهم أنّ التقدّم في الدنيا لا يقرّب أحدا من اللّه، و إنّما يبعّده، و لا يرفعه بل يضعه، فضلا عن أن يجعله سببا في الاختيار للنبوّة و التأهيل لها، على أنّ الأنبياء بعثوا مرغّبين في طلب الآخرة و رفض الدنيا، مزهّدين فيها، مصغّرين لشأنها و شأن من أخلد إليها.

وَ ما نَرى لَكُمْ لك و لمن اتّبعك عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ يؤهّلكم للنبوّة و استحقاق المتابعة بَلْ نَظُنُّكُمْ كاذِبِينَ إيّاك في دعوى النبوّة، و إيّاهم في دعوى العلم بصدقك، فغلّب المخاطب على الغائبين.

قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ حجّة شاهدة بصحّة دعواي مِنْ رَبِّي وَ آتانِي رَحْمَةً مِنْ عِنْدِهِ بإيتاء المعجزة البيّنة، أو النبوّة فَعُمِّيَتْ عَلَيْكُمْ فخفيت عليكم، فلم تهدكم. و توحيد الضمير لأنّ البيّنة في نفسها هي الرحمة. أو لأنّ خفاءها يوجب خفاء النبوّة. أو على تقدير: فعميت بعد البيّنة، و حذفها للاختصار، أو لأنّه لكلّ واحدة منهما. و قرأ حمزة و الكسائي و حفص:

فعميت، أي: أخفيت.

أَ نُلْزِمُكُمُوها أ نلزمكم قبولها، و نجبركم على الاهتداء بها وَ أَنْتُمْ لَها

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 269

كارِهُونَ تكرهونها و لا تختارونها، و لا تتأمّلون فيها. و حيث اجتمع ضميران، و ليس أحدهما مرفوعا، و قدّم الأعرف منهما، جاز في الثاني الفصل و الوصل.

[سورة هود (11): الآيات 29 الى 31]

وَ يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ

عَلَيْهِ مالاً إِنْ أَجرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَ ما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (29) وَ يا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ طَرَدْتُهُمْ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (30) وَ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ وَ لا أَعْلَمُ الْغَيْبَ وَ لا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ وَ لا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ (31)

ثمّ أنكر نوح على قومه استثقالهم التكليف، و العاقل إنّما يستثقل الأمر إذا لزمته مؤونة ثقله، فقطع عليه السّلام هذا العذر بقوله: وَ يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ على التبليغ. و هو و إن لم يذكر إلّا أنّه معلوم ممّا ذكر. مالًا جعلا إِنْ أَجرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ فإنّه المأمول منه.

قيل: إنّهم كانوا يسألونه طرد المؤمنين ليؤمنوا به، أنفة من أن يكونوا معهم على سواء. فقال نوح في جوابهم: وَ ما أَنَا بِطارِدِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّهُمْ مُلاقُوا رَبِّهِمْ فيخاصمون طاردهم عنده تعالى. أو إنّهم يلاقونه و يفوزون بقربه، فكيف أطردهم؟! وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ بلقاء ربّكم، أو بأقدارهم و أنّهم خير منكم، أو في التماس طردهم، أو تتسفّهون عليهم، بأن تدعوهم أراذل.

وَ يا قَوْمِ مَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ من يمنعني من انتقام اللّه و عذابه إِنْ طَرَدْتُهُمْ و هم بتلك الصفة و المثابة أَ فَلا تَذَكَّرُونَ لتعرفوا أنّ التماس الطرد و توقيف الايمان عليه ليس بصواب، بل محض خطأ.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 270

وَ لا أَقُولُ لَكُمْ عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ خزائن رزقه و أمواله، فأدّعي فضلا عليكم كما تقولون في الدنيا، حتّى تجحدوا فضلي بقولكم: «وَ ما نَرى لَكُمْ عَلَيْنا مِنْ فَضْلٍ» وَ لا أَعْلَمُ

الْغَيْبَ عطف على «عِنْدِي خَزائِنُ اللَّهِ» أي: و لا أقول أنا أعلم الغيب حتّى تكذّبوني استبعادا. أو حتّى أطّلع على ما في نفوس أتباعي و ضمائر قلوبهم، و أعلم أنّ هؤلاء اتّبعوني بادي الرأي من غير بصيرة و عقد قلب. و على الثاني يجوز عطفه على «أقول».

وَ لا أَقُولُ إِنِّي مَلَكٌ حتّى تقولوا: «ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا» وَ لا أَقُولُ لِلَّذِينَ تَزْدَرِي أَعْيُنُكُمْ أي: لا أحكم في شأن من استرذلتموهم و تعيب أعينكم لفقرهم لَنْ يُؤْتِيَهُمُ اللَّهُ خَيْراً فإنّ ما أعدّه اللّه لهم في الآخرة خير ممّا آتاكم في الدنيا.

و الازدراء افتعال، من: زرى عليه إذا عابه، قلبت تاؤه دالا لتجانس الراء في الجهر.

و الإسناد إلى الأعين للمبالغة، و للتنبيه على أنّهم استرذلوهم من غير رؤية، بما عاينوا من رثاثة حالهم و قلّة منالهم، دون تأمّل في كمالاتهم و معانيهم. اللَّهُ أَعْلَمُ بِما فِي أَنْفُسِهِمْ بما في قلوبهم من الإخلاص و غيره إِنِّي إِذاً لَمِنَ الظَّالِمِينَ إن قلت شيئا من ذلك المذكور.

[سورة هود (11): الآيات 32 الى 35]

قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (32) قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ إِنْ شاءَ وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ (33) وَ لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ هُوَ رَبُّكُمْ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (34) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَعَلَيَّ إِجْرامِي وَ أَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ (35)

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 271

ثمّ حكى سبحانه جواب قوم نوح عمّا قاله لهم، فقال: قالُوا يا نُوحُ قَدْ جادَلْتَنا خاصمتنا فَأَكْثَرْتَ جِدالَنا فأطلته، أو أتيت بأنواعه فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من العذاب، فإنّا لا نؤمن بك إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في الدعوى

و الوعيد، فإنّ مناظرتك لا تؤثّر فينا.

قالَ إِنَّما يَأْتِيكُمْ بِهِ اللَّهُ أي: ليس الإتيان بالعذاب إليّ، بل إنّما هو إلى من كفرتم به و عصيتموه إِنْ شاءَ إن اقتضت حكمته عاجلا و آجلا وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ بدفع العذاب، أو الهرب منه.

وَ لا يَنْفَعُكُمْ نُصْحِي إِنْ أَرَدْتُ أَنْ أَنْصَحَ لَكُمْ شرط، و جزاؤه محذوف دلّ عليه ما قبله. و الجملة جواب قوله: إِنْ كانَ اللَّهُ يُرِيدُ أَنْ يُغْوِيَكُمْ و تقدير الكلام:

إن كان اللّه يريد أن يغويكم فإن أردت أن أنصح لكم لا ينفعكم نصحي. و معنى الإغواء: أنّه إذا عرف اللّه من الكافر الإصرار و العناد فخلّاه و شأنه و لم يلجئه سمّي ذلك إغواء و إضلالا، كما أنّه إذا عرف منه أنّه يتوب و يرعوي فلطف به سمّي إرشادا و هداية. و قيل: «أن يغويكم» أن يهلككم، من: غوى الفصيل غوى إذا بشم «1» من كثرة شرب اللبن فهلك. و معناه: أنّكم إذا كنتم من التصميم على الكفر بالمنزلة الّتي لا تنفعكم نصائح اللّه و مواعظه و سائر ألطافه، كيف ينفعكم نصحي؟! و هذا جواب لما أوهموا من أنّ جداله كلام باطل.

هُوَ رَبُّكُمْ خالقكم و المتصرّف فيكم وفق حكمته وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ فيجازيكم على أعمالكم.

أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ إن صحّ و ثبت أنّي افتريته فَعَلَيَّ إِجْرامِي عقوبة إجرامي و افترائي وَ أَنَا بَرِي ءٌ مِمَّا تُجْرِمُونَ من إجرامكم في إسناد الافتراء إليّ، فلا وجه لإعراضكم عنّي.

______________________________

(1) في هامش النسخة الخطّية: «البشم- محرّكة- مرض يقال له التخمة. منه».

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 272

[سورة هود (11): الآيات 36 الى 43]

وَ أُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلاَّ مَنْ قَدْ آمَنَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَفْعَلُونَ (36) وَ اصْنَعِ الْفُلْكَ

بِأَعْيُنِنا وَ وَحْيِنا وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (37) وَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ وَ كُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ كَما تَسْخَرُونَ (38) فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (39) حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ التَّنُّورُ قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ وَ مَنْ آمَنَ وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلاَّ قَلِيلٌ (40)

وَ قالَ ارْكَبُوا فِيها بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَ مُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (41) وَ هِيَ تَجْرِي بِهِمْ فِي مَوْجٍ كَالْجِبالِ وَ نادى نُوحٌ ابْنَهُ وَ كانَ فِي مَعْزِلٍ يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا وَ لا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ (42) قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِلاَّ مَنْ رَحِمَ وَ حالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ (43)

وَ أُوحِيَ إِلى نُوحٍ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ إلّا من قد وجد منه ما كان يتوقّع من إيمانه. و «قد» للتوقّع. فَلا تَبْتَئِسْ فلا تحزن حزن بائس مستكين بِما كانُوا يَفْعَلُونَ بما فعلوه من تكذيبك و إيذائك و معاداتك، فقد حان وقت

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 273

الانتقام لك منهم. فأقنطه اللّه من إيمانهم، و أعلمه أنّ إيمانهم كالمحال الّذي لا يتعلّق به التوقّع، و نهاه أن يغتمّ بما فعلوه من التكذيب و الإيذاء.

وَ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا ملتبسا بمرأى منّا، أي: بحفظنا إيّاك من أن تزيغ في صنعتك عن الصواب، و أن يحول بينك و بين عملك أحد من أعدائك، حفظ الرائي لغيره إذا كان يدفع الضرر عنه. و ذكر الأعين لتأكيد

الحفظ. فعبّر بكثرة آلة الحسّ- الّذي يحفظ به الشي ء و يراعى عن الاختلال و الزيغ- عن المبالغة في الحفظ و الرعاية، على طريق التمثيل. وَ وَحْيِنا إليك، و إلهامنا لك كيف تصنعها، فأوحى إليه أن يصنعها مثل جؤجؤ الطائر.

وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا و لا تراجعني فيهم، و لا تدعني باستدفاع العذاب عنهم إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ محكوم عليهم بالإغراق، فلا سبيل إلى كفّه.

وَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ حكاية حال ماضية وَ كُلَّما مَرَّ عَلَيْهِ مَلَأٌ مِنْ قَوْمِهِ سَخِرُوا مِنْهُ استهزؤا به لعمله السفينة، فإنّه كان يعملها في برّية بعيدة من الماء جدّا أوان عزّته، فكانوا يضحكون منه و يقولون له: صرت نجّارا بعد ما كنت نبيّا قالَ إِنْ تَسْخَرُوا مِنَّا الآن فَإِنَّا نَسْخَرُ مِنْكُمْ في المستقبل إذا أخذكم الغرق في الدنيا و الحرق في الآخرة كَما تَسْخَرُونَ منّا الساعة. و قيل: المراد بالسخريّة الاستجهال.

فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ في محلّ النصب ب «تعلمون» أي: تعلمون الّذي يأتيه عَذابٌ يُخْزِيهِ يعني به إيّاهم، و بالعذاب الغرق وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ و ينزل أو يحلّ عليه حلول الدين الّذي لا انفكاك عنه عَذابٌ مُقِيمٌ دائم، و هو عذاب النار.

و يجوز أن تكون «من» استفهاميّة، و تكون تعليقا.

قال الحسن: كان طول السفينة ألف ذراع و مائتي ذراع، و عرضها ستّمائة ذراع.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 274

و قال قتادة: كان طولها ثلاثمائة ذراع، و عرضها خمسين ذراعا، و ارتفاعها ثلاثين ذراعا، و بابها في عرضها.

و قال ابن عبّاس: كانت ثلاث طبقات: طبقة للناس، و طبقة للأنعام، و طبقة للهوامّ و الوحش. و جعل أسفلها للوحوش و السباع و الهوامّ، و أوسطها للدوابّ و الأنعام، و ركب هو و من معه في الأعلى مع ما

يحتاج إليه من الزاد. و كانت من خشب الساج.

و

روت عائشة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «مكث نوح في قومه ألف سنة إلّا خمسين عاما يدعوهم إلى اللّه تعالى، حتّى إذا كان آخر زمانهم غرس شجرة فعظمت و ذهبت كلّ مذهب فقطعها، و جعل يعمل على سفينته، و قومه يمرّون عليه فيسألونه فيقول: أعمل سفينة. فيسخرون منه و يقولون: تعمل سفينة على البرّ فكيف تجري؟ فيقول: سوف تعلمون. فلمّا فرغ منها و فار التنّور و كثر الماء في السكك خشيت أمّ صبيّ عليه، فكانت تحبّه حبّا شديدا، فخرجت إلى الجبل حتّى بلغت ثلثه، فلمّا بلغها الماء خرجت به حتّى استوت على الجبل، فلمّا بلغ الماء رقبتها رفعت بيديها حتّى ذهب بها الماء، فلو رحم اللّه منهم أحدا لرحم أمّ الصبيّ».

و

روى عليّ بن إبراهيم عن أبيه، عن صفوان، عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لمّا أراد اللّه هلاك قوم نوح عقّم أرحام النساء أربعين سنة، فلم يلد لهم مولود. فلمّا فرغ نوح من اتّخاذ السفينة أمره اللّه تعالى أن ينادي بالسريانيّة أن يجمع إليه جميع الحيوان، فلم يبق حيوان إلّا و قد حضر، و أدخل من كلّ جنس من أجناس الحيوان زوجين ما خلا الفار و السنّور. و لمّا شكا أهل السفينة إليه سرقين الدوابّ و القذر، دعا بالخنزير فمسح جبينه فعطس فسقط من أنفه زوج فارة فتناسل، فلمّا كثروا و شكوا إليه منهم دعا بالأسد فمسح جبينه فعطس فسقط من

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 275

أنفه زوج سنّور، و كان الّذين آمنوا به من جميع الدنيا ثمانين رجلا «1».

و

في حديث آخر: أنّهم شكوا إليه العذرة، فأمر اللّه

الفيل فعطس فسقط الخنزير.

و

روى الشيخ أبو جعفر في كتاب النبوّة، بإسناده عن حنان بن سدير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «آمن مع نوح ثمانية نفر».

قيل: إن الحواريّين قالوا لعيسى عليه السّلام: لو بعثت لنا رجلا شهد السفينة يحدّثنا عنها. فانطلق بهم حتّى انتهى إلى كثيب من تراب، فأخذ كفّا من ذلك التراب فقال:

أ تدرون من هذا؟

قالوا: اللّه و رسوله أعلم.

قال: هذا كعب بن حام.

قال: فضرب الكثيب بعصاه فقال: قم بإذن اللّه، فإذا هو قائم ينفض التراب عن رأسه و قد شاب.

فقال له عيسى: أ هكذا هلكت؟

قال: لا، متّ و أنا شابّ، و لكنّي ظننت أنّها الساعة فمن ثمّ شبت.

قال: حدّثنا عن سفينة نوح.

قال: كان طولها ألف ذراع و مائتي ذراع، و عرضها ستّمائة ذراع، و كانت ثلاث طبقات: طبقة للدوابّ و الوحوش، و طبقة للإنس، و طبقة للطير.

ثمّ قال عليه السّلام: عد بإذن اللّه كما كنت، فعاد ترابا.

و قوله عزّ اسمه: حَتَّى إِذا جاءَ أَمْرُنا غاية لقوله: «وَ يَصْنَعُ الْفُلْكَ» و ما بينهما حال من الضمير فيه. أو «حتّى» هي الّتي يبتدأ بعدها الكلام، دخلت على الجملة من الشرط و الجزاء. وَ فارَ التَّنُّورُ نبع الماء منه و ارتفع بشدّة اندفاع،

______________________________

(1) تفسير القمّي 1: 326- 327.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 276

كالقدر تفور. و

التنّور تنّور الخبز، و هو تنّور كان لآدم ابتدأ منه النبوع على خرق العادة، و كان في الكوفة في موضع مسجدها. و هو مرويّ عن ائمّتنا عليهم السّلام.

أو في الهند، أو بعين وردة من أرض الجزيرة في دار نوح. و قيل: التنّور وجه الأرض، أو أشرف موضع فيها.

و

روى المفضّل بن عمر عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث طويل قال: «كان

التنّور في بيت عجوز مؤمنة في دبر قبلة ميمنة مسجد الكوفة.

قال: قلت: و كيف كان بدء خروج الماء من ذلك التنّور؟

قال: نعم إنّ اللّه أحبّ أن يري قوم نوح آية، ثم إنّ اللّه سبحانه أرسل عليهم المطر يفيض فيضا، و فاض الفرات فيضا، و فاضت العيون كلّها فيضا فغرقهم، و أنجى نوحا و من معه في السفينة.

فقلت: فكم لبث نوح في السفينة حتّى نضب الماء فخرجوا منها؟

فقال: لبث فيها سبعة أيّام بلياليها.

فقلت له: إنّ مسجد الكوفة لقديم؟

قال: نعم، و هو مصلّى الأنبياء، و لقد صلّى فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين أسري به إلى السماء. قال له جبرئيل: يا محمّد هذا مسجد أبيك آدم، و مصلّى الأنبياء، فانزل فصلّ فيه. ثمّ إنّ جبرئيل عرج به إلى السماء».

و

في رواية: أنّ السفينة استقلّت بما فيها، فجرت على ظهر الماء مائة و خمسين يوما بلياليها.

و

روى أبو عبيدة الحذّاء عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «مسجد كوفان وسطه روضة من رياض الجنّة، الصلاة فيه بسبعين صلاة، صلّى فيه ألف نبيّ و سبعون نبيّا، و فيه فار التنّور و جرت السفينة، و هو سرّة بابل و مجمع الأنبياء عليهم السّلام».

و

قيل: معنى «فارَ التَّنُّورُ» طلع الفجر و ظهرت أمارات دخول النهار و تقضّي

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 277

الليل، من قولهم: نوّر الصبح تنويرا. روي ذلك عن عليّ عليه السّلام.

و قيل: معناه: اشتدّ غضب اللّه عليهم، و وقعت نقمته بهم.

قُلْنَا احْمِلْ فِيها في السفينة مِنْ كُلٍ من كلّ نوع من الحيوانات المنتفع بها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ ذكرا و أنثى. هذا على قراءة حفص، و الباقون أضافوا «1»، على معنى: احمل اثنين من كلّ زوجين، أي: من كلّ صنف

ذكر و صنف أنثى. و على القراءة الأولى «اثنين» مفعول «احمل». و على الثانية صفة «زوجين».

وَ أَهْلَكَ عطف على «زوجين» على القراءة الاولى، و «اثنين» على الثانية.

و المراد امرأته و بنوه و نساؤهم. إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ بأنه من المغرقين. يريد ابنه كنعان و أمّه واعلة، فإنّهما كانا كافرين. وَ مَنْ آمَنَ و المؤمنين من غيرهم وَ ما آمَنَ مَعَهُ إِلَّا قَلِيلٌ قيل: كانوا تسعة و سبعين، زوجته المسلمة، و بنوه الثلاثة:

سام و حام و يافث، و نساؤهم، و اثنان و سبعون رجلا و امرأة من غيرهم.

وَ قالَ ارْكَبُوا فِيها أي: صيروا فيها. جعل ذلك ركوبا، لأنّها في الماء كالمركوب في الأرض. بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَ مُرْساها متّصل ب «اركبوا» حال من الواو، أي: اركبوا فيها مسمّين اللّه، أو قائلين بسم اللّه، وقت إجرائها و إرسائها أو مكانهما، على أنّ المجرى و المرسى للوقت أو المكان أو المصدر، و المضاف محذوف، كقولهم: آتيك خفوق النجم. و انتصابهما بما قدّرناه حالا. و يجوز رفعهما ب «بسم اللّه»، على أنّ المراد بهما المصدر. أو جملة من مبتدأ و خبر، أي: إجراؤها بسم اللّه، على أنّ بسم اللّه خبر، أو صلة و الخبر محذوف. و هي إمّا جملة مرتجلة لا تعلّق لها بما قبلها، أو حال مقدّرة من الواو أو الهاء.

روي أنّه كان إذا أراد أن تجري قال: بسم اللّه فجرت، و إذا أراد أن ترسو قال: بسم اللّه فرست. و يجوز أن يكون

______________________________

(1) أي: قرءوا «كلّ زوجين» مضافا. زبدة التفاسير، ج 3، ص: 278

الاسم مقحما، كقوله «1»: ثمّ اسم السلام عليكما.

و قرأ حمزة و الكسائي و عاصم: مجراها بالفتح، من: جرى. و اتّفقوا على ضمّ الميم

في «مرساها» إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ أي: لولا مغفرته لذنوبكم و رحمته إيّاكم لما نجّاكم.

وَ هِيَ تَجْرِي بِهِمْ متّصل بمحذوف دلّ عليه «اركبوا»، أي: فركبوا مسمّين و هي تجري و هم فيها فِي مَوْجٍ من الطوفان. و هو ما يرتفع من الماء عند اضطرابه. كَالْجِبالِ أي: موجة منها كجبل في تراكمها و ارتفاعها و عظمها. روي عن الحسن: أنّ الماء ارتفع فوق كلّ شي ء و فوق كلّ جبل ثلاثين ذراعا. و قيل:

خمسة عشر ذراعا.

و قيل: إنّ سفينة نوح سارت لعشر مضين من رجب، فسارت ستّة أشهر حتّى طافت الأرض كلّها لا يستقرّ في موضع، حتّى أتت الحرم فطافت بموضع الكعبة أسبوعا، و كان اللّه تعالى رفع البيت إلى السماء، ثمّ سارت بهم حتّى انتهت إلى الجوديّ، و هو جبل بأرض الموصل، و استقرّت عليه اليوم العاشر من المحرّم.

و

روى أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أن نوحا عليه السّلام ركب السفينة في أوّل يوم من رجب، فصام و أمر من معه أن يصوموا ذلك اليوم. و قال: من صام ذلك اليوم تباعد عنه النار مسيرة سنة. فصارت سنّة».

وَ نادى نُوحٌ ابْنَهُ كنعان وَ كانَ فِي مَعْزِلٍ عزل فيه نفسه عن أبيه أو عن دينه. و مفعل للمكان، من: عزله عنه إذا أبعده. يا بُنَيَّ ارْكَبْ مَعَنا اركب معنا في السفينة بشرط الإيمان لتسلم من الغرق. قيل: هو منافق و أبوه لم يعلم نفاقه.

و الجمهور كسروا الياء ليدلّ على ياء الإضافة المحذوفة في جميع القرآن،

______________________________

(1) للبيد بن ربيعة العامري، و تمامه: إلى الحول ثم اسم السلام عليكماو من يبك حولا كاملا فقد اعتذر زبدة التفاسير، ج 3، ص: 279

غير ابن كثير، فإنّه وقف عليها في لقمان، في

الموضع «1» الأوّل باتّفاق الرواة، و في الثالث « «2»» في رواية قنبل، و غير عاصم، فإنّه فتح ها هنا اقتصارا على الفتح من الألف المبدلة من ياء الإضافة، و اختلفت الرواية عنه في سائر المواضع.

و قد أدغم «3» الباء في الميم أبو عمرو و الكسائي و حفص، لتقاربهما.

وَ لا تَكُنْ مَعَ الْكافِرِينَ في الدين و الانعزال.

قالَ سَآوِي إِلى جَبَلٍ يَعْصِمُنِي مِنَ الْماءِ أن يغرقني قالَ لا عاصِمَ الْيَوْمَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ أي: من الطوفان الّذي هو بأمره إِلَّا مَنْ رَحِمَ إلّا الراحم، و هو اللّه تعالى.

أو إلّا مكان من رحمهم اللّه، و هم المؤمنون، أي: لا يعصمك اليوم معتصم قطّ من جبل و نحوه سوى معتصم واحد، و هو مكان من رحمهم و نجّاهم، يعني: السفينة.

فردّ بذلك أن يكون اليوم معتصم من جبل و نحوه يعصم العائذ به إلّا معتصم المؤمنين، و هو السفينة. و قيل: «لا عاصم» بمعنى: لا ذا عصمة، كقوله: في عيشة راضية. و قيل: الاستثناء منقطع، أي: لكن من رحمه فهو معصوم.

وَ حالَ بَيْنَهُمَا الْمَوْجُ بين نوح و ابنه، أو ابنه و الجبل فَكانَ مِنَ الْمُغْرَقِينَ فصار من المهلكين بالماء.

[سورة هود (11): آية 44]

وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي وَ غِيضَ الْماءُ وَ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ اسْتَوَتْ عَلَى الْجُودِيِّ وَ قِيلَ بُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (44)

ثمّ بيّن سبحانه الحال بعد انتهاء الطوفان، فقال: وَ قِيلَ يا أَرْضُ ابْلَعِي ماءَكِ انشفي ماءك الّذي نبعت به العيون، و اشربيه حتّى لا يبقى على وجهك شي ء منه،

______________________________

(1، 2) لقمان: 13 و 17.

(3) أي: باء «اركب» في ميم «معنا».

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 280

من البلع بمعنى النشف وَ يا سَماءُ أَقْلِعِي أمسكي عن المطر، من

الإقلاع بمعنى الإمساك. نوديا بما ينادى به أولوا العلم، و أمرا بما يؤمرون، تمثيلا لكمال قدرته و انقيادهما لما يشاء تكوينه فيهما، بالآمر المطاع الّذي يأمر المنقاد لحكمه المبادر امتثال أمره، مهابة من عظمته، و خشية من أليم عقابه.

و في الكشّاف: «أمرهما بما يؤمر به أهل التمييز و العقل من الدلالة على الاقتدار العظيم، و أنّ الأجرام العظام منقادة لتكوينه فيها ما يشاء، غير ممتنعة عليه، كأنّها عقلاء مميّزون، قد عرفوا عظمته و جلالته و ثوابه و عقابه و قدرته على كلّ مقدور، و تبيّنوا تحتّم طاعته عليهم و انقيادهم له. و هم يهابونه و يفزعون من التوقّف دون الامتثال له، و النزول على مشيئته على الفور من غير ريث» «1».

وَ غِيضَ الْماءُ نقص، من: غاضه إذا نقصه وَ قُضِيَ الْأَمْرُ و أنجز ما وعد من إهلاك الكافرين و إنجاء المؤمنين وَ اسْتَوَتْ استوت السفينة عَلَى الْجُودِيِ جبل بالموصل. و قيل: بالشام. و قيل: بآمد. وَ قِيلَ بُعْداً هلاكا لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يقال: بعد بعدا إذا بعّده بعدا بعيدا بحيث لا يرجى عوده، ثمّ استعير للهلاك، و خصّ بدعاء السوء.

و في الأنوار: «هذه الآية في غاية الفصاحة، لفخامة لفظها، و حسن نظمها، و الدلالة على كنه الحال، مع الإيجاز الخالي عن الإخلال. و في إيراد الأخبار على البناء للمفعول دلالة على تعظيم الفاعل، و أنّه متعيّن في نفسه، مستغن عن ذكره، إذ لا يذهب الوهم إلى غيره، للعلم بأنّ مثل هذه الأفعال لا يقدر عليها سوى الواحد القهّار» «2».

و قال في المجمع: «و في الآية من بدائع الفصاحة و عجائب البلاغة ما لا

______________________________

(1) الكشّاف 2: 397.

(2) أنوار التنزيل 3: 110.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 281

يقاربه كلام البشر

و لا يدانيه. منها: أنّه خرج مخرج الأمر، و إن كانت الأرض و السماء من الجماد، ليكون أدلّ على الاقتدار. و منها: حسن تقابل المعنى و ائتلاف الألفاظ. و منها: حسن البيان في تصوير الحال. و منها: الإيجاز من غير إخلال، إلى غير ذلك ممّا يعلمه من تدبّره، و له معرفة بكلام العرب و محاوراتهم. و يروى أنّ كفّار قريش أرادوا أن يتعاطوا معارضة القرآن فعكفوا على لباب البرّ و لحوم الضأن و سلاف الخمر أربعين يوما لتصفوا أذهانهم، فلمّا أخذوا فيما أرادوا سمعوا هذه الآية، فقال بعضهم لبعض: هذا الكلام لا يشبه كلام المخلوقين، و تركوا ما أخذوا فيه و افترقوا» «1».

[سورة هود (11): الآيات 45 الى 47]

وَ نادى نُوحٌ رَبَّهُ فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي وَ إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُّ وَ أَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ (45) قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ (46) قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَ إِلاَّ تَغْفِرْ لِي وَ تَرْحَمْنِي أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ (47)

ثمّ حكى اللّه سبحانه تمام قصّة نوح، فقال: وَ نادى نُوحٌ رَبَّهُ أي: أراد نداءه، بدليل عطف قوله: فَقالَ رَبِّ إِنَّ ابْنِي مِنْ أَهْلِي فإنّه النداء وَ إِنَّ وَعْدَكَ الْحَقُ و إن كلّ وعد تعده حقّ لا يتطرّق إليه الخلف، و قد وعدت أن تنجي أهلي،

______________________________

(1) مجمع البيان 5: 165.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 282

فما حاله أو فماله لم ينج؟ و يجوز أن يكون هذا النداء قبل غرقه وَ أَنْتَ أَحْكَمُ الْحاكِمِينَ لأنّك أعلمهم و أعدلهم. أو لأنّك أكثر حكمة من ذوي الحكم، على أنّ الحاكم من الحكمة،

كالدارع من الدرع.

قالَ يا نُوحُ إِنَّهُ لَيْسَ مِنْ أَهْلِكَ لقطع الولاية بين الكافر و المؤمن. و أشار إليه بقوله: إِنَّهُ عَمَلٌ غَيْرُ صالِحٍ فإنّه تعليل لنفي كونه من أهله. و أصله: إنّه ذو عمل فاسد، فجعل ذاته ذات العمل الفاسد للمبالغة. ثمّ بدّل الفاسد بغير الصالح، تصريحا بالمناقضة بين وصفي الأهليّة و غير الصلاح، و انتفاء ما أوجب النجاة- من صالح العمل- لمن نجا من أهله عنه. و قرأ الكسائي و يعقوب: إنّه عمل، أي: عمل عملا غير صالح.

و فيه إيذان بأنّ قرابة الدين غامرة لقرابة النسب. و

في الحديث القدسي: «خلقت الجنّة لمن أطاعني و لو كان عبدا حبشيّا، و خلقت النار لمن عصاني و لو كان سيّدا قرشيّا».

فَلا تَسْئَلْنِ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فلا تلتمس منّي التماسا لا تعلم أصواب هو أم غير صواب؟ حتّى تقف على كنهه. و إنّما سمّى نداءه سؤالا لتضمّن ذكر الوعد بنجاة أهله استنجازه في شأن ولده، أو استفسار المانع للإنجاز في حقّه. و إنّما سمّاه جهلا و زجر عنه بقوله: إِنِّي أَعِظُكَ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْجاهِلِينَ لأنّ استثناء من سبق عليه القول من أهله قد دلّه على الحال، و أغناه عن السؤال، لكن أشغله عنه حبّ الولد حتّى اشتبه الأمر عليه.

و قرأ ابن كثير بفتح اللام و النون المشدّدة. و كذا نافع و ابن عامر، غير أنّهما كسرا النون، على أنّ أصله: تسألنّني، فحذفت نون الوقاية، لاجتماع النونات، و كسرت الشديدة للياء، ثمّ حذفت اكتفاء بالكسرة. و عن نافع إثباتها في الوصل.

و الوعظ: الدعاء إلى الحسن، و الزجر عن القبيح، على وجه الترغيب

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 283

و الترهيب. و معنى الكلام: إنّي أدعوك إلى الحسن، و

أزجرك عن القبائح، كراهة أن تكون، أو لئلّا تكون من الجاهلين الّذين يسألون شيئا قبل أن يتأمّلوا فيه تأمّلا تامّا، ليعلموا صحّة سؤالهم عن فسادهم. و لا شكّ أنّ وعظه سبحانه يصرف عن الجهل و ينزّه عن القبيح.

قالَ رَبِّ إِنِّي أَعُوذُ بِكَ أَنْ أَسْئَلَكَ أن أطلب منك فيما يستقبل ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ ما لا علم لي بصحّته، تأدّبا بأدبك و اتّعاظا بموعظتك وَ إِلَّا تَغْفِرْ لِي و إن لم تغفر لي ما فرط منّي في السؤال الّذي يكون تركه أولى. و المراد بالغفران هنا لازمه، و هو إعطاء الثواب على فعل الأولى، و عدم حرمانه منه لتركه.

وَ تَرْحَمْنِي بالتوبة عن ترك الندب أَكُنْ مِنَ الْخاسِرِينَ أعمالا، لتفويتي الثواب الّذي يترتّب على فعل الأولى. و قيل: قاله على سبيل الخضوع للّه عزّ اسمه و التذلّل له و الاستكانة، و إن لم يسبق منه ذنب لعصمته.

[سورة هود (11): الآيات 48 الى 49]

قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا وَ بَرَكاتٍ عَلَيْكَ وَ عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (48) تِلْكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيها إِلَيْكَ ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا فَاصْبِرْ إِنَّ الْعاقِبَةَ لِلْمُتَّقِينَ (49)

ثمّ حكى اللّه سبحانه ما أمر به نوحا حين استقرّت سفينته على الجبل بعد خراب الدنيا بالطوفان، فقال: قِيلَ يا نُوحُ اهْبِطْ بِسَلامٍ مِنَّا انزل من السفينة مسلما محفوظا من المكاره من جهتنا، أو مسلّما عليك مكرّما وَ بَرَكاتٍ عَلَيْكَ و مباركا عليك حالا بعد حال. و البركات: الخيرات الناميات. أو زيادات في نسلك

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 284

حتّى تصير آدما ثانيا. وَ عَلى أُمَمٍ مِمَّنْ مَعَكَ و على أمم هم الّذين معك. سمّوا أمما لتحزّبهم،

أو لأنّ الأمم تتشعّب منهم. ف «من» للبيان. و الأوجه أن تكون للابتداء.

و المعنى: و على أمم ناشئة ممّن معك إلى آخر الدهر. و المراد بهم المؤمنون، لقوله:

وَ أُمَمٌ سَنُمَتِّعُهُمْ أي: و ممّن معك أمم سنمتّعهم في الدنيا ثُمَّ يَمَسُّهُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة. و المراد بهم الكفّار من ذرّيّة من معه. و قيل: هم قوم هود و صالح و لوط و شعيب صلوات اللّه عليهم، و العذاب ما نزل بهم.

تِلْكَ إشارة إلى قصّة نوح. و محلّها الرفع بالابتداء، و خبرها مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ أي: بعضها نُوحِيها إِلَيْكَ خبر ثان. و الضمير للقصّة، أي: موحاة إليك.

أو حال من الأنباء. أو هو الخبر و «من أنباء» متعلّق به. أو حال من الهاء في «نوحيها». ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا خبر آخر، أي: مجهولة عندك و عند قومك من قبل إيحائنا إليك. أو حال من الهاء في «نوحيها» أو الكاف في «إليك» أي: جاهلا أنت و قومك بها. و في ذكر القوم تنبيه على أنّه لم يتعلّمها، إذ لم يخالط غيرهم، و أنّهم مع كثرتهم لمّا لم يسمعوها فكيف بواحد منهم؟ فَاصْبِرْ على مشاقّ الرسالة و أذيّة القوم كما صبر نوح عليه السّلام إِنَّ الْعاقِبَةَ في الدنيا بالظفر و النصرة، و في الآخرة بالفوز لِلْمُتَّقِينَ عن الشرك و المعاصي.

[سورة هود (11): الآيات 50 الى 60]

وَ إِلى عادٍ أَخاهُمْ هُوداً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُفْتَرُونَ (50) يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي أَ فَلا تَعْقِلُونَ (51) وَ يا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً وَ يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى

قُوَّتِكُمْ وَ لا تَتَوَلَّوْا مُجْرِمِينَ (52) قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ وَ ما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا عَنْ قَوْلِكَ وَ ما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ (53) إِنْ نَقُولُ إِلاَّ اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ قالَ إِنِّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَ اشْهَدُوا أَنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ (54)

مِنْ دُونِهِ فَكِيدُونِي جَمِيعاً ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ (55) إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَ رَبِّكُمْ ما مِنْ دَابَّةٍ إِلاَّ هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (56) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقَدْ أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ وَ يَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ وَ لا تَضُرُّونَهُ شَيْئاً إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ (57) وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا هُوداً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ نَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (58) وَ تِلْكَ عادٌ جَحَدُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ عَصَوْا رُسُلَهُ وَ اتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (59)

وَ أُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِعادٍ قَوْمِ هُودٍ (60)

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 285

ثمّ عطف سبحانه قصّة هود عليه السّلام على قصّة نوح، فقال: وَ إِلى عادٍ أَخاهُمْ في النسب هُوداً عطف على قوله: «نُوحاً إِلى قَوْمِهِ». و «هودا» عطف بيان.

قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وحّدوه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا مُفْتَرُونَ على اللّه تعالى كذبا، باتّخاذكم الأوثان له شركاء، و جعلها شفعاء.

يا قَوْمِ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى الَّذِي فَطَرَنِي خاطب كلّ رسول به قومه إزاحة للتهمة و تمحيضا للنصيحة، فإنّها لا تنجع ما دامت مشوبة

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 286

بالمطامع أَ فَلا تَعْقِلُونَ أ فلا تستعملون عقولكم، فتعرفوا المحقّ من المبطل، و الصواب من الخطأ.

وَ يا قَوْمِ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ اطلبوا مغفرة

اللّه بالإيمان ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ ثمّ توسّلوا إليها بالتوبة، فإنّ التبرّي عن الغير إنّما يكون بعد الإيمان باللّه و الرغبة فيما عنده يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً كثير الدرور، كالمغزار وَ يَزِدْكُمْ قُوَّةً إِلى قُوَّتِكُمْ و يضاعف قوّتكم. و إنّما رغّبهم بكثرة المطر و زيادة القوّة، لأنّهم كانوا أصحاب زروع و بساتين و عمارات، حرّاصا عليها أشدّ الحرص، فكانوا أحوج إلى الماء و القوّة في صنع العمارات.

و قيل: حبس اللّه عنهم القطر و أعقم أرحام نسائهم ثلاث سنين، فوعدهم هود عليه السّلام على الإيمان و التوبة كثرة الأمطار و تضاعف القوّة على النكاح بالتناسل.

وَ لا تَتَوَلَّوْا لا تعرضوا عمّا أدعوكم إليه مُجْرِمِينَ مصرّين على إجرامكم.

و

في الكشّاف عن الحسن بن عليّ عليه السّلام: «أنّه وفد على معاوية فلمّا خرج تبعه بعض حجّابه فقال: إنّي رجل ذو مال و لا يولد لي، فعلّمني شيئا لعلّ اللّه يرزقني ولدا. فقال: عليك بالاستغفار. فكان يكثر الاستغفار حتّى ربما استغفر في يوم واحد سبعمائة مرّة، فولد له عشرة بنين. فبلغ ذلك معاوية فقال: هلّا سألته ممّ قال ذلك؟، فوفد وفدة أخرى، فسأله الرجل فقال: ألم تسمع قول هود عليه السّلام: «و يزدكم قوّة إلى قوّتكم» و قول نوح عليه السّلام: وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ «1»» «2».

قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ بحجّة تدلّ على صحّة دعواك. و هو لفرط عنادهم و عدم اعتدادهم بما جاءهم من المعجزات، كما قالت قريش لرسول

______________________________

(1) نوح: 12.

(2) الكشّاف 2: 402.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 287

اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لولا أنزل عليه آية من ربّه، مع كثرة آياته من ربّه و معجزاته. وَ ما نَحْنُ بِتارِكِي آلِهَتِنا بتاركي عبادتهم عَنْ قَوْلِكَ

صادرين عن قولك. حال من الضمير في «تاركي». وَ ما نَحْنُ لَكَ بِمُؤْمِنِينَ إقناط له من الإجابة و التصديق.

و في المجمع: «إنّما حملهم على دفع البيّنة مع ظهورها أشياء، منها: تقليد الآباء و الرؤساء. و منها: اتّهامهم لمن جاء بها، حيث لم ينظروا فيها نظر تأمّل.

و منها: أنّه دخلت عليهم الشبهة في صحّتها. و منها: اعتقادهم لأصول فاسدة دعتهم إلى جحدها. و إنّما حملهم على عبادة الأوثان أشياء، منها: اعتقادهم أن عبادتها تقرّبهم إلى اللّه زلفى. و منها: أن الشيطان ربما ألقى إليهم أنّ عبادتها تحظيهم في الدنيا. و منها: أنّهم ربما اعتقدوا مذهب المشبّهة، فاتّخذوا الأوثان على صورته عندهم فعبدوها» «1».

إِنْ نَقُولُ إِلَّا اعْتَراكَ ما نقول إلّا قولنا: اعتراك، أي: أصابك، من: عراه يعروه إذا أصابه بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ بجنون، لسبّك إيّاها و صدّك عن عبادتها، و من ذلك تهذي و تتكلّم بالخرافات. و الجملة مقول القول، و إلّا لغو، لأنّ الاستثناء مفرّغ، أي: ما نقول شيئا إلّا قولنا: اعتراك بعض آلهتنا بسوء.

قالَ إِنِّي أي: أجاب عن مقالتهم الحمقاء بأنّي أُشْهِدُ اللَّهَ وَ اشْهَدُوا أَنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِهِ أي: أشهد اللّه على براءتي من آلهتكم و فراغي عن إضراركم، تأكيدا لذلك و تثبيتا له. و أمرهم بأن يشهدوا عليه استهانة بدينهم، و قلّة مبالاة بهم.

قال فَكِيدُونِي جَمِيعاً أي: اجتمعوا على الكيد في إهلاكي ثُمَّ لا تُنْظِرُونِ لا تمهلوني، فإنّي لا ابالي بكم و بكيدكم. و إنّما قال: «و اشهدوا» و لم يقل: و أشهدكم على طبق «أشهد اللّه»، لأنّ إشهاد اللّه على البراءة من الشرك إشهاد

______________________________

(1) مجمع البيان 5: 170.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 288

صحيح ثابت في معنى تثبيت التوحيد و شدّ معاقده،

و أمّا إشهادهم فما هو إلّا تهاون بدينهم، دلالة على قلّة المبالاة بهم فحسب، فعدل به عن لفظ الأوّل لاختلاف ما بينهما، و جي ء به على لفظ الأمر بالشهادة، كما يقول الرجل لمن لا يحبّه: اشهد على أنّي لا أحبّك، تهكّما به و استهانة بحاله.

و الّذي بعثه على هذا القول أنّهم إذا اجتهدوا في إهلاكه، و رأوا أنّهم عجزوا من أوّلهم إلى آخرهم- و هم الأقوياء الأشدّاء- أن يضرّوه، لم يبق لهم شبهة أنّ آلهتهم الّتي هي جماد لا يضرّ و لا ينفع لا تتمكّن من إضراره انتقاما منه، فلزمت الحجّة عليهم. و هذا من جملة معجزاته، فإنّ مواجهة الواحد الجمّ الغفير من الجبابرة الفتّاك العطاش إلى إراقة دمه بهذا الكلام ليس إلّا لثقته باللّه تعالى، و تثبّطهم عن إضراره ليس إلّا بعصمته إيّاه، و لذلك عقّبه بقوله: إِنِّي تَوَكَّلْتُ عَلَى اللَّهِ رَبِّي وَ رَبِّكُمْ تقريرا له.

و المعنى: أنّكم و إن بذلتم غاية وسعكم لن تضرّوني، فإنّي متوكّل على اللّه تعالى، واثق بحفظه، و هو مالكي و مالككم، فلا يحيق بي ما أردتم، و لا تقدرون على إهلاكي، لأنّه يصرف كيدكم عنّي.

ما مِنْ دَابَّةٍ إِلَّا هُوَ آخِذٌ بِناصِيَتِها أي: إلّا و هو مالك لها قادر عليها، فهي ذليلة مقهورة له. و الأخذ بالنواصي تمثيل لذلك، فإنّ من أخذ بناصية غيره فقد قهره و أذلّه.

و لمّا ذكر توكّله على اللّه و ثقته بحفظه و كلاءته من كيدهم، وصفه بما يوجب التوكّل عليه من قهره و سلطانه، فقال: إِنَّ رَبِّي عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ أي: إنّه على الحقّ و العدل، لا يضيع عنده معتصم، و لا يفوته ظالم.

فَإِنْ تَوَلَّوْا فإن تتولّوا لم أعاتب على التفريط في الإبلاغ فَقَدْ

أَبْلَغْتُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ إِلَيْكُمْ فقد أدّيت ما عليّ من الإبلاغ و إلزام الحجّة، فأبيتم إلّا تكذيب

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 289

الرسالة، فلا تفريط منّي و لا عذر لكم وَ يَسْتَخْلِفُ رَبِّي قَوْماً غَيْرَكُمْ استئناف بالوعيد لهم، بأنّ اللّه يهلكهم و يستخلف قوما آخرين في ديارهم و أموالهم، يوحّدونه و يعبدونه وَ لا تَضُرُّونَهُ بتولّيكم و إعراضكم شَيْئاً من الضرر، أي:

لا ضرر عليه في إهلاككم، لأنّه لم يخلقكم لحاجة منه إليكم إِنَّ رَبِّي عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ رقيب، فلا تخفى عليه أعمالكم، و لا يغفل عن مجازاتكم. أو حافظ مستول عليه، فلا يمكن أن يضرّه شي ء.

وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا عذابنا، أو أمرنا بالعذاب نَجَّيْنا هُوداً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا و كانوا أربعة آلاف وَ نَجَّيْناهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ تكرير لبيان ما نجّاهم منه. و هو السموم، كانت تدخل أنوف الكفرة و تخرج من أدبارهم، فتتقطّع أعضاؤهم. و قيل: أراد بالتنجية الثانية إنجاءهم من عذاب الآخرة، تعريضا بأنّ المهلكين كما عذّبوا في الدنيا بالسموم، فهم معذّبون في الآخرة بالعذاب الغليظ.

وَ تِلْكَ عادٌ أنّث اسم الإشارة باعتبار القبيلة، أو لأنّ الإشارة إلى قبورهم جَحَدُوا كفروا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ عَصَوْا رُسُلَهُ لأنّهم عصوا رسولهم، و من عصى رسولا فكأنّما عصى الكلّ، لأنّهم أمروا بطاعة كلّ رسول وَ اتَّبَعُوا أَمْرَ كُلِّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ يعني: كبراءهم الطاغين. و «عنيد» من: عند يعند عنودا إذا طغى. و المعنى:

عصوا من دعاهم إلى الإيمان و ما ينجيهم، و أطاعوا من دعاهم الى الكفر و ما يرديهم.

وَ أُتْبِعُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي: جعلت اللعنة تابعة لهم في الدارين، يكبّهم في العذاب أَلا إِنَّ عاداً كَفَرُوا رَبَّهُمْ جحدوه، أو

كفروا نعمه، أو كفروا به، فحذف الجارّ أَلا بُعْداً لِعادٍ دعاء عليهم بالهلاك. و المراد به الدلالة على أنّهم كانوا مستوجبين لما نزل عليهم بسبب ما صدر عنهم من الآثام العظام. و كرّر «ألا»، و أعاد ذكر عاد، و لم يكتف بالضمير، تفظيعا لأمرهم، و حثّا على الاعتبار بحالهم قَوْمِ هُودٍ عطف بيان لعاد. و فائدته تمييزهم عن عاد الثانية عاد إرم و الإيماء إلى أنّ استحقاقهم للبعد بما جرى بينهم و بين هود.

[سورة هود (11): الآيات 61 الى 68]

وَ إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ اسْتَعْمَرَكُمْ فِيها فَاسْتَغْفِرُوهُ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ مُجِيبٌ (61) قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا أَ تَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا وَ إِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (62) قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ آتانِي مِنْهُ رَحْمَةً فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ إِنْ عَصَيْتُهُ فَما تَزِيدُونَنِي غَيْرَ تَخْسِيرٍ (63) وَ يا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً فَذَرُوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ (64) فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ (65)

فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (66) وَ أَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (67) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ أَلا بُعْداً لِثَمُودَ (68)

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 291

ثمّ عطف على ذلك قصّة صالح و قومه فقال: وَ إِلى ثَمُودَ منع صرفه باعتبار التعريف و التأنيث، فإنّه بمعنى

القبيلة أَخاهُمْ صالِحاً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ هُوَ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ هو كوّنكم منها لا غيره، فإنّه خلق آدم و موادّ النطف الّتي خلق نسله منها من التراب وَ اسْتَعْمَرَكُمْ فِيها عمّركم فيها و استبقاكم، من العمر. و عن الضحّاك: كانت أعمارهم من ألف سنة إلى ثلاثمائة سنة. أو أقدركم على عمارتها و أمركم بها. و قيل: هو من العمري، بمعنى أعمركم فيها دياركم، و يرثها منكم بعد انصرام أعماركم. أو جعلكم معمرين دياركم، بأن تسكنوها مدّة عمركم ثمّ تتركونها لغيركم، فإنّ الرجل إذا ورّث داره من بعده فكأنّما أعمره إيّاها، لأنّه يسكنها عمره ثمّ يتركها لغيره.

فَاسْتَغْفِرُوهُ من الشرك ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ أي: دوموا على التوبة إِنَّ رَبِّي قَرِيبٌ قريب الرحمة مُجِيبٌ لداعيه.

قالُوا يا صالِحُ قَدْ كُنْتَ فِينا مَرْجُوًّا قَبْلَ هذا لما نرى فيك من مخائل رشدك و السداد، أن تكون لنا سيّدا و مستشارا في الأمور، و أن توافقنا في الدين، فلمّا سمعنا هذا القول منك انقطع رجاؤنا عنك أَ تَنْهانا أَنْ نَعْبُدَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا على حكاية الحال الماضية وَ إِنَّنا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ من التوحيد و التبرّؤ عن الأوثان مُرِيبٍ موقع في الريبة، من: ارابه إذا أوقعه، أو ذي ريبة على الإسناد المجازي، من: أراب في الأمر إذا كان ذا ريبة.

قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ بيان و بصيرة مِنْ رَبِّي حرف الشكّ باعتبار المخاطبين وَ آتانِي مِنْهُ رَحْمَةً نبوّة فَمَنْ يَنْصُرُنِي مِنَ اللَّهِ فمن يمنعني من عذابه إِنْ عَصَيْتُهُ في تبليغ رسالته و المنع عن الإشراك به فَما تَزِيدُونَنِي حينئذ باستتباعكم إيّاي غَيْرَ تَخْسِيرٍ غير أن تخسروني بإبطال ما منحني

اللّه به

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 292

و التعرّض لعذابه. أو فما تزيدونني بما تقولون لي غير أن أنسبكم إلى الخسران.

و يؤيّده ما روي عن ابن عبّاس أنّ معناه: ما تزيدونني إلّا بصيرة في خسارتكم.

وَ يا قَوْمِ هذِهِ ناقَةُ اللَّهِ لَكُمْ آيَةً أشار الى ناقته الّتي جعلها معجزته، لأنّه سبحانه أخرجها لهم من جوف صخرة يشاهدونها على تلك الصفة، و خرجت كما طلبوه و هي حامل، و كانت تشرب يوما جميع الماء فتنفرد به و لا ترد الماء معها دابّة، فإذا كان يوم لا ترد فيه وردت الواردة كلّها الماء، و هذا أعظم آية و معجزة.

و أضافها إلى اللّه تشريفا لها، كما يقال: بيت اللّه. و نصب «آية» على الحال، و عاملها معنى الإشارة. و «لكم» حال منها، تقدّمت عليها لتنكيرها.

فَذَرُوها فاتركوها تَأْكُلْ فِي أَرْضِ اللَّهِ ترع نباتها، و تشرب ماءها وَ لا تَمَسُّوها و لا تصيبوها بِسُوءٍ قتل أو جرح أو غيره فَيَأْخُذَكُمْ عَذابٌ قَرِيبٌ عاجل لا يتراخى عن مسّكم لها بالسوء إلّا يسيرا، و هو ثلاثة أيّام.

فَعَقَرُوها فَقالَ تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ عيشوا في منازلكم. سمّي المنزل و البلد دارا لأنّه يدار فيه بالتصرّف. أو في داركم الدنيا. ثَلاثَةَ أَيَّامٍ الأربعاء و الخميس و الجمعة، ثمّ تهلكون. قيل: عقروها يوم الأربعاء، و هلكوا يوم السبت.

روي أنّهم لمّا عقروا الناقة صعد فصيلها الجبل و رغا ثلاث مرّات، فقال صالح: لكلّ رغوة أجل يوم. فاصفرّت ألوانهم أوّل يوم، ثمّ احمرّت من الغد، ثم اسودّت اليوم الثالث، فهو قوله: ذلِكَ وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ أي: غير مكذوب فيه، فاتّسع فيه بإجرائه مجرى المفعول به، كقولك: يوم مشهود. أو غير مكذوب على المجاز، و كأنّ الواعد قال له: أفي بك،

فإن وفى به صدّقه، و إلّا كذّبه. أو وعد غير كذب، على أنّه مصدر، كالمجلود بمعنى الجلد، و المعقول بمعنى الإدراك، و المصدوقة بمعنى الصدق.

روى جابر بن عبد اللّه الأنصاري: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا نزل الحجر في غزوة

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 293

تبوك قام فخطب الناس، و قال: أيّها الناس لا تسألوا نبيّكم الآيات، هؤلاء قوم صالح سألوا نبيّهم أن يبعث لهم الناقة، و كانت ترد من الفجّ فتشرب ماءهم يوم وردها، و يحلبون من لبنها مثل الّذي كانوا يشربون من مائها يوم غبّها، فعتوا عن أمر ربّهم، فقال: «تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ» و كان وعدا من اللّه غير مكذوب. ثمّ جاءتهم الصيحة فأهلك اللّه من كان في مشارق الأرض و مغاربها منهم إلّا رجلا كان في حرم اللّه، فمنعه حرم اللّه من عذاب اللّه، يقال له: أبو رغال. قيل: يا رسول اللّه من أبو رغال؟ قال: أبو ثقيف.

فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا صالِحاً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ مِنْ خِزْيِ يَوْمِئِذٍ أي: و نجّيناهم من خزي يومئذ، و هو هلاكهم بالصيحة، أو ذلّهم و فضيحتهم يوم القيامة، و لا خزي أعظم من خزي من كان هلاكه بغضب اللّه و باسمه. و قرأ نافع:

يومئذ بالفتح، على اكتساب المضاف البناء من المضاف إليه. إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْقَوِيُ القادر على كلّ شي ء الْعَزِيزُ الغالب عليه.

وَ أَخَذَ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ أمر اللّه سبحانه جبرئيل فصاح بهم صيحة ماتوا عندها فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ في منازلهم ميّتين واقعين على وجوههم. و قيل: قاعدين على ركبهم.

كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها كأن لم يكونوا في منازلهم قطّ، لانقطاع آثارهم بالهلاك، من: غنى بالمكان أي: أقام،

و غنى أي: عاش أَلا إِنَّ ثَمُودَ كَفَرُوا رَبَّهُمْ نوّنه أبو بكر ها هنا و في النجم «1» و الكسائي في جميع القرآن، و ابن كثير و نافع و أبو عمرو في قوله «2»: أَلا بُعْداً لِثَمُودَ ذهابا إلى الحيّ، فإنّه مذكّر، أو الأب «3» الأكبر.

______________________________

(1) النجم: 51.

(2) أي: قرءوا: لثمود.

(3) أي: على هذين التقديرين يكون «ثمود» منصرفا، لأنّه مذكّر. و أمّا إذا فسّر بالقبيلة، يكون

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 294

[سورة هود (11): الآيات 69 الى 76]

وَ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ (69) فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ لا تَصِلُ إِلَيْهِ نَكِرَهُمْ وَ أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ (70) وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ فَضَحِكَتْ فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ (71) قالَتْ يا وَيْلَتى أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ وَ هذا بَعْلِي شَيْخاً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عَجِيبٌ (72) قالُوا أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ إِنَّهُ حَمِيدٌ مَجِيدٌ (73)

فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ وَ جاءَتْهُ الْبُشْرى يُجادِلُنا فِي قَوْمِ لُوطٍ (74) إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ (75) يا إِبْراهِيمُ أَعْرِضْ عَنْ هذا إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ (76)

ثمّ ذكر سبحانه قصّة إبراهيم و لوط، فقال: وَ لَقَدْ جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ يعني: الملائكة. قيل:

كانوا أربعة رابعهم اسمه كروبيل. و هذا منقول عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و قيل: تسعة. و قيل: أحد عشر. بِالْبُشْرى ببشارة الولد قالُوا سَلاماً سلّمنا عليك سلاما. و يجوز نصبه ب «قالوا» على معنى: ذكروا سلاما، لتضمّن الذكر القول. قالَ سَلامٌ أي: أمركم أو جوابي سلام، أو و عليكم سلام.

رفعه إجابة

بأحسن من تحيّتهم. و قرأ حمزة و الكسائي: سلم. و كذلك في

______________________________

غير منصرف بالتأنيث و العلميّة، فلا يدخله التنوين.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 295

الذاريات «1». و هما لغتان، كحرم و حرام. و المراد به الصلح.

فَما لَبِثَ أَنْ جاءَ بِعِجْلٍ حَنِيذٍ فما ابطأ مجيئه به، أو فما أبطأ في المجي ء به، أو فما تأخّر عنه. و الجارّ في «أن» مقدّر. و الحنيذ المشويّ بالرضف، و هو الحجارة المحماة في أخدود من الأرض. و قيل: الّذي يقطر دسمه، من: حنذت الفرس إذا عرّقته بالجلّ «2»، لقوله: بعجل سمين.

فَلَمَّا رَأى أَيْدِيَهُمْ فلمّا راى إبراهيم أيدي الملائكة لا تَصِلُ إِلَيْهِ لا يمدّون إلى العجل الحنيذ أيديهم نَكِرَهُمْ أنكر ذلك، فإنّ نكر و أنكر و استنكر بمعنى وَ أَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً و خاف أن يريدوا به مكروها، و ذلك أنّ أهل ذلك الزمان إذا أكل بعضهم طعام بعض أمنه صاحب الطعام على نفسه. و قيل: إنّه ظنّهم لصوصا يريدون به سوء. و الإيجاس الإدراك. و قيل: الإضمار.

قالُوا له لمّا أحسّوا منه أثر الخوف لا تَخَفْ إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمِ لُوطٍ إنّا ملائكة مرسلة إليهم بالعذاب، و إنّما لم نمدّ إليه أيدينا لأنّا لا نأكل. قيل: إنّهم دعوا اللّه فأحيا العجل الّذي كان ذبحه إبراهيم و شواه فرغا، فعلم حينئذ أنّهم رسل اللّه.

وَ امْرَأَتُهُ قائِمَةٌ وراء الستر تسمع محاورتهم، أو على رؤوسهم للخدمة فَضَحِكَتْ سرورا بزوال الخيفة، أو بهلاك أهل الخبائث، أو بإصابة رأيها، فإنّها كانت تقول لإبراهيم: اضمم إليك لوطا، فإنّي أعلم أنّ العذاب ينزل بهؤلاء القوم.

و قيل: «فضحكت» من الضحك بفتح الضاد بمعنى: حاضت. يقال: ضحكت الأرنب إذا حاضت. و منه: ضحكت السمرة إذا سال صمغها. و هي: سارة

بنت هارون بن يا حور بن ساروع بن فالع. و هي كانت ابنة عمّ إبراهيم.

فَبَشَّرْناها بِإِسْحاقَ وَ مِنْ وَراءِ إِسْحاقَ يَعْقُوبَ نصب «يعقوب» ابن عامر و حمزة و حفص بفعل يفسّره ما دلّ عليه الكلام. و تقديره: و وهبنا من وراء إسحاق

______________________________

(1) الذاريات: 25.

(2) أي: ألقيت عليه الجلّ و أجريته حتى عرق.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 296

يعقوب. و قيل: إنّه معطوف على موضع «بإسحاق»، فإنّه مفعول بواسطة الجرّ، أو على لفظ «إسحاق»، و فتحته للجرّ، فإنّه غير منصرف. و ردّ للفصل بينه و بين ما عطف عليه بالظرف. و قرأ الباقون بالرفع، على أنّه مبتدأ خبره الظرف، أي:

و يعقوب مولود من بعده.

و عن ابن عبّاس: الوراء ولد الولد. و لعلّه سمّي به لأنّه بعد الولد. و على هذا تكون إضافته إلى إسحاق ليس من حيث إنّ يعقوب وراءه، بل من حيث إنّه وراء إبراهيم من جهة إسحاق. و عن الشعبي: أنّه قيل له: هذا ابنك؟ قال: نعم من الوراء، و كان ولد ولده. و توجيه البشارة إليها للدلالة على أنّ الولد المبشّر به يكون منها، و لأنّها كانت عقيمة حريصة على الولد.

قالَتْ يا وَيْلَتى يا عجبا. و أصله في الشرّ، فأطلق على كلّ أمر فظيع.

و الألف فيه مبدلة عن ياء الإضافة. و كذلك: يا لهفا و يا عجبا. أَ أَلِدُ وَ أَنَا عَجُوزٌ ابنة تسعين، أو تسعة و تسعين وَ هذا بَعْلِي زوجي. و أصله القائم بالأمر.

شَيْخاً ابن مائة و عشرين. و نصبه على الحال، و العامل فيها معنى اسم الاشارة.

إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عَجِيبٌ يعني: الولد من الهرمين.

و هو استعجاب من حيث العادة الّتي أجراها اللّه، دون القدرة، و لذلك قالُوا قالت الملائكة منكرين عليها:

أَ تَعْجَبِينَ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ رَحْمَتُ اللَّهِ وَ بَرَكاتُهُ بكثرة خيراته النامية الباقية عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ أي: إنّ هذه و أمثالها ممّا يكرمكم اللّه به أهل بيت النبوّة، فليست بمكان عجب، فإنّ خوارق العادات باعتبار أهل بيت النبوّة و مهبط المعجزات، و تخصيصهم بمزيد النعم و الكرامات، ليس ببدع و عجيب، و لا حقيق بأن يستغربه عاقل، فضلا عمّن نشأت و شابت في ملاحظة الآيات.

قال في الكشّاف: «قوله: رَحْمَتُ اللَّهِ وَ بَرَكاتُهُ عَلَيْكُمْ أَهْلَ الْبَيْتِ مستأنف علّل به إنكار التعجّب، كأنّه قيل: إيّاك و التعجّب، فإنّ أمثال هذه الرحمة و البركة متكاثرة من اللّه عليكم. و قيل: الرحمة النبوّة، و البركات الأسباط من بني إسرائيل،

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 297

لأنّ الأنبياء منهم، و كلّهم من ولد إبراهيم» «1».

و نصب «أهل البيت» على المدح، أو النداء لقصد التخصيص، كقولهم: اللّهم اغفر لنا أيّتها العصابة.

روي: «أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام مرّ بقوم فسلّم عليهم، فقالوا: و عليك السلام و رحمة اللّه و بركاته و مغفرته و رضوانه. فقال عليه السّلام: لا تجاوزوا بنا ما قالت الملائكة لأبينا إبراهيم: و رحمة اللّه و بركاته أهل البيت».

إِنَّهُ حَمِيدٌ فاعل ما يستوجب به الحمد مَجِيدٌ كثير الخير و الإحسان.

فَلَمَّا ذَهَبَ عَنْ إِبْراهِيمَ الرَّوْعُ ما أوجس من الخيفة، و اطمأنّ قلبه بعرفانهم أنّهم الملائكة وَ جاءَتْهُ الْبُشْرى بدل الروع يُجادِلُنا يجادل رسلنا فِي قَوْمِ لُوطٍ في شأنهم. و كانت مجادلته إيّاهم قوله لهم: إن كان فيها خمسون من المؤمنين أ تهلكونهم؟ قالوا: لا. قال: فأربعون؟ قالوا: لا. فما زال ينقص حتّى قال:

فواحد؟ قالوا: لا. فقال: إنّ فيها لوطا؟ قالوا: نحن أعلم بمن فيها، لننجّينّه و أهله.

و قيل: إنّه جادلهم و قال: بأيّ

شي ء استحقّوا عذاب الاستئصال؟ و هل ذلك واقع لا محالة، أم هو تخويف ليرجعوا إلى الطاعة؟ و بأيّ شي ء يهلكون؟ و كيف ينجي المؤمنين؟

و قوله: «يجادلنا» إمّا جواب «لمّا»، جي ء به مضارعا على حكاية الحال. أو لأنّه في سياق الجواب بمعنى الماضي، كجواب «لو». أو دليل جوابه المحذوف، مثل: اجترأ على خطاب رسلنا، أو شرع في جدالهم. أو متعلّق بالجواب أقيم مقامه، مثل: أخذ أو أقبل يجادل رسلنا.

إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ غير عجول على الانتقام من المسي ء إليه أَوَّاهٌ كثير التأوّه من الفرطات، و التاسّف على صدور ما هو تركه أولى مُنِيبٌ راجع إلى اللّه تعالى بما يحبّ و يرضى. و فيه بيان الحامل له على المجادلة، و هو رقّة قلبه و فرط

______________________________

(1) الكشّاف 2: 411.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 298

ترحّمه، رجاء أن يرفع العذاب عنهم.

يا إِبْراهِيمُ على إرادة القول، أي: قالت الملائكة: يا إبراهيم أَعْرِضْ عَنْ هذا عن الجدال، و إن كانت الرحمة ديدنك إِنَّهُ قَدْ جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ قضاؤه و حكمه الّذي لا يصدر إلّا عن حكمة، و العذاب نازل بهم لا محالة، و هو أعلم بحالهم وَ إِنَّهُمْ آتِيهِمْ عَذابٌ غَيْرُ مَرْدُودٍ غير مصروف بجدال و لا دعاء و لا غير ذلك.

[سورة هود (11): الآيات 77 الى 83]

وَ لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِي ءَ بِهِمْ وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَ قالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ (77) وَ جاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ وَ مِنْ قَبْلُ كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ لا تُخْزُونِ فِي ضَيْفِي أَ لَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ (78) قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍّ وَ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ (79) قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أَوْ آوِي

إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ (80) قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلاَّ امْرَأَتَكَ إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ أَ لَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ (81)

فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَ أَمْطَرْنا عَلَيْها حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ مَنْضُودٍ (82) مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ وَ ما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ (83)

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 299

وَ لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِي ءَ بِهِمْ ساءه مجيئهم، لأنّهم جاؤوه في صورة غلمان حسان الوجوه، فظنّ أنّهم أناس، فخاف عليهم خبث قومه و سوء سيرتهم، فيعجز عن مدافعتهم. و قرأ نافع و ابن عامر و الكسائي: سي ء و سيئت بإشمام السين الضمّ، و في العنكبوت «1» و الملك «2». و الباقون باختلاس حركة السين.

وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً و ضاق بمكانهم صدره. و هو كناية عن شدّة الانقباض، للعجز عن مدافعة المكروه و الاحتيال فيه. وَ قالَ هذا يَوْمٌ عَصِيبٌ شديد، من:

عصبه إذا شدّه.

قال الصادق عليه السّلام: «جاءت الملائكة لوطا و هو في زراعة قرب القرية فسلّموا عليه، و رأى هيئة حسنة عليهم ثياب بيض و عمائم بيض. فقال لهم: ائتوا المنزل، فتقدّمهم و مشوا خلفه. فقال في نفسه: أيّ شي ء صنعت؟! آتي بهم قومي و أنا أعرفهم، فالتفت إليهم فقال: لتأتون شرارا من خلق اللّه. و كان قد قال اللّه لجبرئيل:

لا تهلكهم حتّى يشهد لوط عليهم ثلاث مرّات. فقال جبرئيل: هذه واحدة. ثمّ مشى لوط ثم التفت إليهم فقال: إنّكم لتأتون شرارا من خلق اللّه. فقال جبرئيل: هذه ثنتان. ثمّ مشى و لمّا بلغ باب المدينة التفت إليهم فقال مثل ذلك. فقال جبرئيل عليه السّلام:

هذه الثالثة. ثمّ دخل و دخلوا معه

حتّى دخل منزله، و لمّا رأت امرأته هيئة حسنة صعدت فوق السطح فصفقت فلم يسمعوا، فدخنت، فلمّا رأوا الدخان أقبلوا يهرعون، فذلك قوله: وَ جاءَهُ قَوْمُهُ يُهْرَعُونَ إِلَيْهِ يسرعون إليه، كأنّهم يدفعون دفعا لشدّة طلب الفاحشة من أضيافه.

______________________________

(1) العنكبوت: 33.

(2) الملك: 27.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 300

زبدة التفاسير ج 3 349

وَ مِنْ قَبْلُ أي: و من قبل ذلك الوقت كانُوا يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ الفواحش مع الذكور، فتمرّنوها و لم يستحيوا منها، حتّى جاؤا يهرعون لها مجاهرين.

قالَ يا قَوْمِ هؤُلاءِ بَناتِي فتزوّجوهنّ. و كانوا يطلبونهنّ قبل فلا يجيبهم، لخبثهم و عدم كفاءتهم، لا لحرمة المسلمات على الكفّار كما قيل، فإنّه شرع مجدّد في الإسلام. و كذا كان أيضا في مبدأ الإسلام،

فإنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم زوّج ابنتيه من عتبة بن أبي لهب و أبي العاص بن الربيع قبل أن يسلما و هما كافران، ثمّ نسخ ذلك.

أو مبالغة في تناهي خبث ما يرومونه، حتّى إنّ ذلك أهون منه. أو إظهار لشدّة غيظه من ذلك كي يرقّوا له. و قيل: المراد بالبنات نساء قومه، فإنّ كلّ نبيّ أبو أمته من حيث الشفقة و التربية.

هُنَّ أَطْهَرُ لَكُمْ أنظف فعلا، و أحلّ عملا. و هذا مثل قولك: الميتة أطيب من المغصوب و أحلّ منه، و لا يلزم أن يكون في المغصوب طيب و حلّية. فالأطهر بمعنى كثير النزاهة و الطيب في نفسه.

فَاتَّقُوا اللَّهَ في مواقعة الذكران، أو بترك جميع الفواحش وَ لا تُخْزُونِ و لا تفضحوني، من الخزي. أو و لا تخجلوني، من الخزاية بمعنى الحياء. فِي ضَيْفِي في شأن أضيافي، فإنّ إخزاء ضيف الرجل إخزاؤه أَ لَيْسَ مِنْكُمْ رَجُلٌ رَشِيدٌ أي: في جملتكم رجل واحد

يهتدي إلى سبيل الرشد و فعل الجميل، و الكفّ عن القبيح.

قالُوا لَقَدْ عَلِمْتَ ما لَنا فِي بَناتِكَ مِنْ حَقٍ من حاجة، لأنّ نكاح الإناث أمر خارج من مذهبنا الّذي نحن عليه، فإنّا نرغب عن نكاح الإناث بنكاح الذكران وَ إِنَّكَ لَتَعْلَمُ ما نُرِيدُ و هو إتيان الذكران.

قالَ لَوْ أَنَّ لِي بِكُمْ قُوَّةً أي: لو قويت بنفسي على دفعكم أَوْ آوِي إِلى رُكْنٍ شَدِيدٍ إلى قويّ أتمنّع به عنكم. شبّهه بركن الجبل في شدّته و منعته. قال جبرئيل

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 301

في جوابه: إنّ ركنك لشديد. و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «رحم اللّه أخي لوطا كان يأوي إلى ركن شديد».

و جواب «لو» محذوف، تقديره: لدفعتكم.

روي أنّ لوطا أغلق بابه دون أضيافه، و أخذ يجادلهم من وراء الباب، فتسوّروا الجدار، فلمّا رأت الملائكة ما على لوط من الكرب قالُوا يا لُوطُ إِنَّا رُسُلُ رَبِّكَ لهلاكهم فلا تغتمّ لَنْ يَصِلُوا إِلَيْكَ إلى إضرارك، و لن يقدروا عليه بإضرارنا، فهوّن عليك، و دعنا و إيّاهم، فخلّاهم أن يدخلوا، ففتح الباب فدخلوا.

فاستأذن جبرئيل ربّه في عقوبتهم، فأذن له، فقام في الصورة الّتي يكون فيها فنشر جناحه- و له جناحان، و عليه و شاح من درّ منظوم، و هو براق الثنايا- فضرب جبرئيل بجناحه وجوههم، فطمس أعينهم فأعماهم، كما قال اللّه عزّ و جلّ: فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ «1».

و

عن الصادق عليه السّلام: «كابر قوم لوط معه حتّى دخلوا البيت، فصاح به جبرئيل أن يا لوط دعهم يدخلوا، فلمّا دخلوا أهوى جبرئيل بإصبعه نحوهم فذهبت أعينهم، فصاروا لا يعرفون الطريق، فخرجوا يقولون: النجاء النجاء «2»، فإنّ في بيت لوط سحرة».

فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بقطع الهمزة من الإسراء. و قرأ ابن كثير

و نافع بالوصل حيث وقع في القرآن «3» من السرى. بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ بطائفة منه. و عن ابن عبّاس: في ظلمة الليل. وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ و لا يتخلّف، أو لا ينظر إلى ورائه. و الأوّل قول ابن عبّاس، و الثاني قول مجاهد. و النهي في اللفظ ل «أحد» و في المعنى للوط.

و على هذا، كأنّهم تعبّدوا بذلك للنجاة بالطاعة في هذه العبادة. إِلَّا امْرَأَتَكَ استثناء

______________________________

(1) القمر: 37.

(2) أي: أسرعوا أسرعوا.

(3) الحجر: 65، طه: 77، الشعراء: 52، الدخان: 23.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 302

من قوله: «فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ».

قال في الأنوار: «و هذا إنّما يصحّ على تأويل الالتفات بالتخلّف، فإنّه إن فسّر بالنظر إلى الوراء في الذهاب ناقض ذلك قراءة ابن كثير و أبي عمرو بالرفع على البدل من «أحد». و لا يجوز حمل القراءتين على الروايتين في أنّ الملائكة أمروا لوطا أن يخلّفها في المدينة مع قومها أو يخرجها، فلمّا سمعت صوت العذاب التفتت و قالت: يا قوماه، فأدركها حجر فقتلها- كما قال صاحب الكشّاف «1»- لأنّ القواطع لا يصحّ حملها على المعاني المتناقضة. و الأولى جعل الاستثناء في القراءتين من قوله: «لا يلتفت» مثله في قوله: ما فَعَلُوهُ إِلَّا قَلِيلٌ «2».

و لا يبعد أن يكون أكثر القرّاء على غير الأفصح. و لا يلزم من ذلك أمرها بالالتفات، بل عدم نهيها عنه استصلاحا، و لذلك علّله على طريقة الاستئناف- لبيان هلاكها معهم- بقوله: إِنَّهُ مُصِيبُها ما أَصابَهُمْ و لا يحسن جعل الاستثناء منقطعا على قراءة الرفع «3».

إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ كأنّه علّة الأمر بالإسراء. روي: أنّه قال لوط:

متى موعد هلاكهم؟ قالوا: الصبح. فقال: أريد أسرع من ذلك، لضيق صدره بهم. فقالوا: أَ لَيْسَ الصُّبْحُ بِقَرِيبٍ فهذا جواب

لاستعجال لوط و استبطائه العذاب.

فَلَمَّا جاءَ أَمْرُنا عذابنا، أو أمرنا بالعذاب. و يؤيّده الأصل، و جعل التعذيب مسبّبا عنه بقوله: جَعَلْنا عالِيَها سافِلَها فإنّه جواب «لمّا». و كان حقّه:

جعلوا عاليها، أي: الملائكة المأمورون به، فأسند سبحانه إلى نفسه من حيث إنّه

______________________________

(1) الجملة المعترضة من كلام المؤلّف، و ليست من كلام البيضاوي، راجع الكشّاف 2: 416.

(2) النساء: 66.

(3) أنوار التنزيل 3: 116.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 303

المسبّب، تعظيما للأمر، فإنّه

روي أنّ جبرئيل عليه السّلام ادخل جناحه تحت مدائنهم الأربع و رفعها إلى السماء، حتّى سمع أهل السماء نباح الكلاب و صياح الديكة، ثمّ قلبها عليهم.

وَ أَمْطَرْنا عَلَيْها على المدن بعد التقليب، تغليظا للعقوبة. أو على شذاذها.

حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ من طين متحجّر، لقوله: حِجارَةً مِنْ طِينٍ «1». و هذا معرّب، و أصله: سنگ گل. و قيل: إنّه من: أسجله إذا أرسله، أو أدرّ عطيّته. و المعنى: من مثل الشي ء المرسل، أو من مثل العطيّة في الإدرار. أو من السجلّ، أي: ممّا كتب اللّه تعالى أن يعذّبهم به. و قيل: أصله من سجّين، أي: من جهنّم، فأبدلت نونه لاما.

مَنْضُودٍ نضد معدّا لعذابهم في السماء. أو نضد في الإرسال بتتابع بعضه بعضا، كقطار الأمطار. أو نضد بعضه على بعض، و ألصق به.

مُسَوَّمَةً معلمة للعذاب. و قيل: معلمة ببياض و حمرة، أو بسيماء تتميّز به عن حجارة الأرض، أو باسم من يرمى بها. عِنْدَ رَبِّكَ في خزائنه، أي: فيها علامات يدلّ على أنّها معدّة للعذاب وَ ما هِيَ مِنَ الظَّالِمِينَ بِبَعِيدٍ فإنّهم بظلمهم حقيق بأن تمطر عليهم. روي أنّ حجرا بقي معلّقا بين السماء و الأرض أربعين يوما، يتوقّع به رجل من قوم لوط كان في الحرم، حتّى خرج

منها فأصابه. قال قتادة: و كانوا أربعة ألف ألف.

و في خاتمة الآية وعيد لكلّ ظالم. و

عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه سأل جبرئيل عليه السّلام فقال:

«يعني ظالمي أمّتك، ما من ظالم منهم إلّا و هو بعرض حجر يسقط عليه من ساعة إلى ساعة».

و قيل: الضمير للقرى، أي: هي قريبة من ظالمي مكّة، يمرّون بها في

______________________________

(1) الذاريات: 33.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 304

أسفارهم إلى الشام. و تذكير البعيد على تأويل الحجر أو المكان.

[سورة هود (11): الآيات 84 الى 88]

وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَ لا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ وَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ (84) وَ يا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ بِالْقِسْطِ وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (85) بَقِيَّتُ اللَّهِ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ (86) قالُوا يا شُعَيْبُ أَ صَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ (87) قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّي وَ رَزَقَنِي مِنْهُ رِزْقاً حَسَناً وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ إِنْ أُرِيدُ إِلاَّ الْإِصْلاحَ مَا اسْتَطَعْتُ وَ ما تَوْفِيقِي إِلاَّ بِاللَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ (88)

ثمّ عطف سبحانه قصّة شعيب على ما تقدّمها من قصص الأنبياء عليهم السّلام، فقال:

وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً أراد أولاد مدين بن إبراهيم، أو أهل مدين. و هو بلد بناه، فسمّي باسمه. قالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ وَ لا تَنْقُصُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ أمرهم بالتوحيد أوّلا،

فإنّه أصل الأمر. ثمّ نهاهم عمّا اعتادوه من البخس المنافي للعدل، المخلّ بحكمة التعاوض. ثمّ علّل لهذا النهي بقوله: إِنِّي أَراكُمْ بِخَيْرٍ بسعة و ثروة من الأموال تغنيكم عن البخس و التطفيف. أو بنعمة حقّها

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 305

أن تتفضّلوا على الناس شكرا عليها، لا أن تنقصوا حقوقهم. أو بسعة من اللّه، فلا تزيلوها عنكم بما أنتم عليه من البخس.

وَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ مُحِيطٍ لا يشذّ منه أحد منكم. و قيل: عذاب مهلك، من قوله: وَ أُحِيطَ بِثَمَرِهِ «1». و المراد عذاب يوم القيامة، أو عذاب الاستئصال. و أصله من إحاطة العدوّ. و توصيف اليوم بالإحاطة- و هي صفة العذاب- لاشتماله عليه، فإنّ الزمان يشتمل على ما يحدث فيه.

ثمّ صرّح بالأمر بالإيفاء بعد النهي عن ضدّه مبالغة، فقال: وَ يا قَوْمِ أَوْفُوا الْمِكْيالَ وَ الْمِيزانَ أي: أوفوا حقوق الناس في المكيلات و الموزونات بِالْقِسْطِ بالعدل و السويّة من غير زيادة و نقصان، فإنّ الازدياد فوق أصل الإيفاء مندوب غير مأمور به. و فيه تنبيه على أنّه لا يكفيهم الكفّ عن تعمّد التطفيف، بل يلزم السعي في الإيفاء، و لو بزيادة لا يتأتّى الإيفاء بدونها، كغسل اليد من باب المقدّمة.

و قوله: وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ تعميم بعد تخصيص، فإنّه أعمّ من أن يكون في المقدار أو في غيره. و كذا قوله: وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ فإنّ العثوّ يعمّ تنقيص الحقوق و غيره من أنواع الفساد.

و قيل: المراد بالبخس مكس درهم مثلا، إذ كانوا يأخذون من كلّ شي ء يباع شيئا، كما تفعل السماسرة، أو كانوا ينقصون من أثمان ما يشترون من الأشياء، فنهوا عن ذلك. و العثوّ: السرقة و قطع الطريق و

الغارة. و فائدة الحال إخراج ما يقصد به الإصلاح، كما فعله الخضر عليه السّلام.

و قيل: معناه: و لا تعثوا في الأرض مفسدين أمر دينكم و مصالح آخرتكم.

بَقِيَّتُ اللَّهِ ما أبقاه لكم من الحلال بعد التنزّه عمّا حرّم عليكم خَيْرٌ لَكُمْ ممّا تجمعون بالتطفيف.

______________________________

(1) الكهف: 42.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 306

قال في الكشّاف: «إضافة البقيّة إلى اللّه من حيث إنّها رزقه الّذي يجوز أن يضاف إليه. و أمّا الحرام فلا يضاف إلى اللّه، و لا يسمّى رزقا على مذهبنا» «1».

إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ بشرط أن تؤمنوا، فإنّ خيريّتها باستتباع الثواب مع النجاة، و ذلك مشروط بالإيمان. أو إن كنتم مصدّقين لي في قولي لكم. و قيل: البقيّة الطاعة، فإنّه يبقى ثوابها أبدا و الدنيا تفنى. و يؤيّده قوله تعالى: وَ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ «2».

وَ ما أَنَا عَلَيْكُمْ بِحَفِيظٍ أحفظكم عن القبائح، أو أحفظ عليكم أعمالكم فأجازيكم عليها، و إنّما أنا ناصح مبلّغ، و قد أعذرت حين أنذرت. أو لست بحافظ عليكم نعم اللّه لو لم تتركوا سوء صنيعكم.

قالُوا إنما أجابوه بعد أمرهم بالتوحيد استهزاء و تهكّما بصلاته يا شُعَيْبُ أَ صَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا من الأصنام. أشعروا بذلك أنّ مثل قولك لا يدعو إليه داع عقليّ، و أنّ ما دعاك إليه وساوس من جنس ما تواظب عليه. و كان عليه السّلام كثير الصلاة، فلذلك جمعوا و خصّوا الصلاة بالذكر. و قرأ حمزة و الكسائي و حفص على الإفراد. و المعنى: أ صلوتك الّتي تداوم عليها ليلا و نهارا تأمرك بتكليف أن نترك، فحذف المضاف، لأنّ الرجل لا يؤمر بفعل غيره. و إسناد الأمر إلى الصلاة على طريق المجاز، كإسناد النهي إليها في قوله: إِنَّ الصَّلاةَ

تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ «3».

أَوْ أَنْ نَفْعَلَ فِي أَمْوالِنا ما نَشؤُا عطف على «ما»، أي: و أن نترك فعلنا ما نشاء في أموالنا. و هذا جواب النهي عن التطفيف و الأمر بالإيفاء. و قيل: كان شعيب

______________________________

(1) الكشّاف 2: 419.

(2) الكهف: 46.

(3) العنكبوت: 45.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 307

ينهاهم عن تقطيع الدراهم و الدنانير، فأرادوا به ذلك. ثمّ قالوا تهكّما به: إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ لأنّهم قصدوا بذلك وصفه بضدّ ذلك، و هو غاية السّفه و الغيّ، فعكسوا ليتهكّموا به، كما يقال للشحيح: لو أبصرك حاتم لسجد لك. أو علّلوا إنكار ما سمعوا منه و استبعاده بأنّه موسوم بالحلم و الرشد المانعين عن المبادرة إلى أمثال ذلك.

قالَ يا قَوْمِ أَ رَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ كُنْتُ عَلى بَيِّنَةٍ حجّة واضحة مِنْ رَبِّي إشارة إلى ما آتاه اللّه من العلم و النبوّة وَ رَزَقَنِي مِنْهُ من عنده و بإعانته، بلا كدّ منّي في التحصيل رِزْقاً حَسَناً إشارة إلى ما آتاه اللّه تعالى من المال الحلال الطيّب غير مشوب بالنجس. و جواب الشرط محذوف، تقديره: فهل يصحّ لي مع هذا الإنعام الجامع للسعادات الروحانيّة و الجسمانيّة أن أخون في وحيه، و أخالفه في أمره و نهيه؟ و هل يصحّ لي أن لا آمركم بترك عبادة الأوثان و الكفّ عن المعاصي، و الأنبياء لا يبعثون إلّا لذلك؟ و هو اعتذار عمّا أنكروا عليه من تغيير مألوفهم، و النهي عن دين آبائهم.

وَ ما أُرِيدُ أَنْ أُخالِفَكُمْ إِلى ما أَنْهاكُمْ عَنْهُ أي: ما أريد أن أسبقكم إلى شهواتكم الّتي نهيتكم عنها و أختارها لنفسي، فاستبدّ بها دونكم، فلو كانت صوابا لآثرتها و لم أعرض عنها، فضلا عن أن أنهى عنها. يقال: خالفت

زيدا إلى كذا إذا قصدته و هو مولّ عنه، و خالفته عنه إذا كان الأمر بالعكس.

إِنْ أُرِيدُ إِلَّا الْإِصْلاحَ ما أريد إلّا أن أصلحكم أموركم بأمري بالمعروف و نهيي عن المنكر مَا اسْتَطَعْتُ ما دمت أستطيع الإصلاح، أي: فلو وجدت الصلاح فيما أنتم عليه لما نهيتكم عنه. و «ما» مصدريّة واقعة موقع الظرف، اي: مدّة استطاعتي و تمكّني منه. و قيل: خبريّة بدل من لإصلاح، أي: المقدار الّذي استطعته، أو إصلاح ما استطعته، فحذف المضاف.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 308

و لهذه الأجوبة الثلاثة على هذا الترتيب شأن، و هو التنبيه على أنّ العاقل يجب أن يراعي في كلّ ما يفعله و يتركه أحد حقوق ثلاثة، أهمّها و أعلاها حقّ اللّه.

و ثانيها: حقّ النفس. و ثالثها: حقّ الناس. فقال شعيب: كلّ ذلك يقتضي أن آمركم بما أمرتكم به، و أنهاكم عمّا نهيتكم عنه.

وَ ما تَوْفِيقِي إِلَّا بِاللَّهِ و ما كوني موفّقا لإصابة الحقّ و الصواب إلّا بهدايته و معونته. و المعنى: أنّي أطلب التوفيق من ربّي في إمضاء الأمر على سننه، و أطلب منه التأييد و الإظهار على عدوّه. عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ و فوّضت الأمور إليه، فإنّه القادر المتمكّن من كلّ شي ء، و ما عداه عاجز في حدّ ذاته، بل معدوم ساقط عن درجة الاعتبار. و فيه إشارة إلى محض التوحيد الّذي هو أقصى مراتب العلم بالمبدأ.

وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ إشارة إلى معرفة المعاد. و هو يفيد الحصر بتقديم الصلة على «أنيب»، كتقديم الصلة على «توكّلت».

و في هذه الكلمات الثلاثة طلب التوفيق لإصابة الحقّ فيما يأتيه و يذره من اللّه عزّ و جلّ، و الاستعانة به في مجامع أمره، و الإقبال عليه بشراشره، و حسم أطماع الكفّار، و إظهار

الفراغ عنهم، و عدم المبالاة بمعاداتهم و تهديدهم، بالرجوع إلى اللّه تعالى للجزاء.

[سورة هود (11): الآيات 89 الى 95]

وَ يا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ أَوْ قَوْمَ هُودٍ أَوْ قَوْمَ صالِحٍ وَ ما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ (89) وَ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ وَدُودٌ (90) قالُوا يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ وَ إِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً وَ لَوْ لا رَهْطُكَ لَرَجَمْناكَ وَ ما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ (91) قالَ يا قَوْمِ أَ رَهْطِي أَعَزُّ عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ وَ اتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ (92) وَ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَ مَنْ هُوَ كاذِبٌ وَ ارْتَقِبُوا إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ (93)

وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا وَ أَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ (94) كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ (95)

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 309

وَ يا قَوْمِ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شِقاقِي لا يكسبنّكم خلافي و معاداتي أَنْ يُصِيبَكُمْ مِثْلُ ما أَصابَ قَوْمَ نُوحٍ من الغرق أَوْ قَوْمَ هُودٍ من الريح أَوْ قَوْمَ صالِحٍ من الرجفة. و «أن» بصلتها ثاني مفعولي «جرم» فإنّه يعدّى إلى واحد و إلى اثنين، ككسب. و عن ابن كثير: لا يجر منّكم بضمّ الياء. و هو منقول من المتعدّي إلى مفعول واحد، كما نقل أكسبه المال و كسب المال. و الأوّل أفصح، كما أنّ «كسبته مالا» أفصح من: أكسبته، فإن «أجرم و أكسب» أقلّ دورانا على ألسنة الفصحاء.

وَ ما قَوْمُ لُوطٍ مِنْكُمْ بِبَعِيدٍ زمانا أو مكانا، فإن لم تعتبروا بمن قبلهم فاعتبروا بهم. و

عن قتادة: أن دارهم قريبة من داركم. أو ليسوا ببعيد منكم في الكفر و المساوئ، فلا يبعد عنكم ما أصابهم. و إفراد البعيد لأنّ المراد: و ما إهلاكهم أو و ما هم بشي ء بعيد. و لا يبعد أن يسوّى في أمثاله- كقريب و كثير و قليل- بين المذكّر و المؤنّث، لأنّها على زنة المصادر، كالصهيل و هو صوت الفرس، و النهيق صوت الحمار.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 310

وَ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ ثُمَّ تُوبُوا إِلَيْهِ داوموا على الاستغفار و التوبة عمّا أنتم عليه إِنَّ رَبِّي رَحِيمٌ عظيم الرحمة للتائبين وَدُودٌ فاعل بهم ما يفعل البليغ المودّة لمن يودّه من اللطف و الإحسان. و هو وعد على التوبة بعد الوعيد على الإصرار.

قالُوا قال قوم شعيب له حين سمعوا منه الوعظ و التخويف يا شُعَيْبُ ما نَفْقَهُ ما نفهم كَثِيراً مِمَّا تَقُولُ كوجوب التوحيد و حرمة البخس، و ما ذكرت دليلا عليهما، و ذلك لقصور عقولهم و عدم تفكّرهم. و قيل: قالوا ذلك استهانة بكلامه، أو لأنّهم لم يلقوا إليه أذهانهم، لشدّة نفرتهم عنه.

وَ إِنَّا لَنَراكَ فِينا ضَعِيفاً لا قوّة لك فتمتنع منّا إن أردنا بك سوء، أو مهينا لا عزّ لك فيما بيننا. و قيل: أعمى بلغة حمير، كما يسمّى ضريرا، أي: ضرّ بذهاب بصره. و هو مع عدم مناسبته يردّه التقييد بالظرف و هو «فينا»، فإن من كان أعمى يكون كذلك كيف كان غير مختصّ ببعض مكان.

وَ لَوْ لا رَهْطُكَ قومك و عزّتهم عندنا، لكونهم على ملّتنا لا لخوف من شوكتهم، فإنّ الرهط من الثلاثة إلى العشرة، و قيل: إلى التسعة لَرَجَمْناكَ لقتلناك برمي الأحجار، أو بأصعب وجه. وَ ما أَنْتَ عَلَيْنا بِعَزِيزٍ أي: لا تعزّ علينا و

لا تكرم، فتمنعنا عزّتك عن الرجم. و هذا من عادة السفيه المحجوج اللجوج يقابل الحجج و الآيات بالسبّ و التهديد.

و قد دلّ إيلاء ضميره حرف النفي على أنّ الكلام واقع في الفاعل لا في الفعل، كأنّه قيل: و ما أنت علينا بعزيز، بل رهطك هم الأعزّة علينا، و لذلك قالَ في جوابهم يا قَوْمِ أَ رَهْطِي أَعَزُّ أعظم حرمة عَلَيْكُمْ مِنَ اللَّهِ و لو قيل: و ما عززت علينا، لم يصحّ هذا الجواب.

وَ اتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا و جعلتموه كالمنسيّ المنبوذ وراء الظهر، لا يعبأ به بإشراككم به و إهانتكم رسوله. و هو يحتمل الإنكار و التوبيخ، و الردّ

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 311

و التكذيب. و الظهريّ منسوب إلى الظهر، و الكسر من تغييرات النسب، كالأمس يقال له: امسيّ بالكسر.

إِنَّ رَبِّي بِما تَعْمَلُونَ مُحِيطٌ قد أحاط بأعمالكم علما، فلا يخفى عليه شي ء منها، فيجازي عليها.

ثمّ قال تهديدا لهم: وَ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ لا تخلو المكانة من أن تكون بمعنى المكان، يقال: مكان و مكانة و مقام و مقامة، أو يكون مصدرا من: مكن مكانة فهو مكين. و المعنى: اعملوا قارّين على جهتكم الّتي أنتم عليها من الشرك و الشنآن لي، أو اعملوا متمكّنين من عداوتي مطيعين لها.

إِنِّي عامِلٌ على حسب ما يؤتيني اللّه من النصرة و التأييد و يمكّنني سَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ يجوز أن تكون «من» استفهاميّة معلّقة لفعل العلم عن عمله فيها، كأنّه قيل: سوف تعلمون أيّنا يأتيه عذاب يخزيه و أيّنا هو كاذب. و أن تكون موصولة قد عمل فيها، كأنّه قيل: سوف تعلمون الشقيّ الّذي يأتيه عذاب يخزيه و الّذي هو كاذب. و ذكر الفاء في «فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ» في

سورة الأنعام «1» للتصريح بأنّ الإصرار و التمكّن فيما هم عليه سبب لذلك، و حذفها هاهنا لأنّه جواب سائل قال: فما ذا يكون بعد ذلك؟ فهو أبلغ في التهويل.

وَ مَنْ هُوَ كاذِبٌ عطف على «مَنْ يَأْتِيهِ» لا لأنّه قسيم له، كقولك: ستعلم الكاذب و الصادق، بل لأنّهم لمّا أوعدوه و كذّبوه قال: سوف تعلمون من المعذّب و الكاذب منّي و منكم. و قيل: كان قياسه: و من هو صادق، لينصرف الأوّل إليهم و الثاني إليه، لكنّهم لمّا كانوا يدعونه كاذبا قال: «وَ مَنْ هُوَ كاذِبٌ» على زعمهم.

وَ ارْتَقِبُوا و انتظروا ما أقول لكم إِنِّي مَعَكُمْ رَقِيبٌ منتظر. فعيل بمعنى الراقب كالصريم، أو المراقب كالعشير بمعنى المعاشر، أو المرتقب كالرفيع بمعنى

______________________________

(1) الأنعام: 135.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 312

المرتفع.

وَ لَمَّا جاءَ أَمْرُنا نَجَّيْنا شُعَيْباً وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ بِرَحْمَةٍ مِنَّا إنّما ذكره بالواو لا بالفاء كما في قصّة لوط و صالح، إذ لم يسبقه ذكر وعد يجري مجرى السبب له، بخلاف قصّتي صالح «1» و لوط « «2»»، فإنّه ذكر بعد الوعد، و ذلك قوله: وَعْدٌ غَيْرُ مَكْذُوبٍ «3» و قوله: إِنَّ مَوْعِدَهُمُ الصُّبْحُ « «4»»، فلذلك جاء بفاء السببيّة.

وَ أَخَذَتِ الَّذِينَ ظَلَمُوا الصَّيْحَةُ قيل: صاح بهم جبرئيل عليه السّلام فهلكوا فَأَصْبَحُوا فِي دِيارِهِمْ جاثِمِينَ ميّتين. و أصل الجثوم اللزوم في المكان.

كَأَنْ لَمْ يَغْنَوْا فِيها كأن لم يقيموا فيها أَلا بُعْداً لِمَدْيَنَ كَما بَعِدَتْ ثَمُودُ شبّههم بهم، لأنّ عذابهم كان أيضا بالصيحة، غير أنّ صيحتهم كانت من تحتهم، و صيحة مدين كانت من فوقهم. و «بعد» بالكسر مخصوص، بمعنى البعد الّذي يكون بسبب الهلاك. و البعد بالضمّ مصدر: بعد و بعد. و البعد بالفتح مصدر المكسور خاصّة.

يقال: بعد بعدا و بعدا، إذا بعد بعدا بعيدا بحيث لا يرجى عوده.

[سورة هود (11): الآيات 96 الى 99]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ (96) إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ (97) يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ وَ بِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ (98) وَ أُتْبِعُوا فِي هذِهِ لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ (99)

ثمّ عطف سبحانه قصّة موسى عليه السّلام على ما تقدّم من قصص الأنبياء، فقال:

______________________________

(1، 2) هود: 66 و 82.

(3، 4) هود: 65 و 81.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 313

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا بالتوراة أو المعجزات وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ هو المعجزة القاهرة المخلصة من التلبيس و التمويه على أتمّ وجه. و هي العصا.

و إفرادها بالذكر لأنّها أبهرها. و يجوز أن يراد بهما واحد، أي: و لقد أرسلناه بالجامع بين كونه آياتنا و سلطانا له على نبوّته، واضحا في نفسه، أو موضحا نبوّته، فإنّ «أبان» جاء لازما و متعدّيا. و الفرق بين الآيات و السلطان المبين: أنّ الآية تعمّ الأمارة و الدليل القاطع، و السلطان يخصّ بالقاطع، و المبين يخصّ بما فيه جلاء، كالعصا.

إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ فَاتَّبَعُوا أَمْرَ فِرْعَوْنَ فاتّبعوا أمره بالكفر بموسى عليه السّلام. أو فما اتّبعوا موسى الهادي إلى الحقّ المؤيّد بالمعجزات القاهرة الباهرة، و اتّبعوا- لفرط جهالتهم- طريقة فرعون المنهمك في الضلال و الطغيان، الداعي إلى مالا يخفى فساده على من له أدنى مسكة من العقل. و ذلك أنّه ادّعى الإلهيّة و هو بشر مثلهم، و جاهر بالعسف و الظلم و الشرّ الّذي لا يأتي إلّا من شيطان مارد، و مثله بمعزل عن الإلهيّة ذاتا و أفعالا.

وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ مرشد، أو ذي رشد، و

إنّما هو غيّ محض و ضلال صريح. و فيه تجهيل لمتّبعيه حيث شايعوه على أمره، و هو ضلال مبين.

يَقْدُمُ قَوْمَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ إلى النار، كما كان يقدمهم في الدنيا إلى الضلال.

يقال: قدم، بمعنى: تقدّم. و المعنى: أنّ فرعون يمشي بين يدي قومه يوم القيامة على قدميه حتّى يهجم بهم على النار، كما كان يقدمهم في الدنيا يدعوهم إلى طريق النار. فَأَوْرَدَهُمُ النَّارَ ذكره بلفظ الماضي مبالغة في تحقيقه. و نزّل النار لهم منزلة الماء، فسمّى إتيانها ورودا، تهكّما. وَ بِئْسَ الْوِرْدُ الْمَوْرُودُ أي: بئس المورد الّذي وردوه، فإنّ الورد إنّما يراد لتبريد الأكباد و تسكين العطش، و النار بالضدّ.

و الآية كالدليل على قوله: «وَ ما أَمْرُ فِرْعَوْنَ بِرَشِيدٍ»، فإنّ من كان هذه عاقبته

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 314

لم يكن في أمره رشد. أو تفسير له، على أنّ المراد بالرشيد ما يكون مأمون العاقبة حميدها.

وَ أُتْبِعُوا فِي هذِهِ أي: هذه الدنيا لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ أي: يلعنون في الدنيا و الآخرة بِئْسَ الرِّفْدُ الْمَرْفُودُ بئس العون المعان، أو العطاء المعطى. و أصل الرفد ما يضاف إلى غيره ليعمده، فإنّ رفد الدنيا عون و معين لعذاب الآخرة و مدد له، و رفد الآخرة معان لرفد الدنيا. و إنّما سمّاه رفدا، لأنّه في مقابلة ما يعطى أهل الجنّة من أنواع النعم. و المخصوص بالذمّ محذوف، أي: رفدهم، و هو اللعنة في الدارين.

[سورة هود (11): الآيات 100 الى 108]

ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْقُرى نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مِنْها قائِمٌ وَ حَصِيدٌ (100) وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ وَ ما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ (101) وَ كَذلِكَ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى

وَ هِيَ ظالِمَةٌ إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَ ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ (103) وَ ما نُؤَخِّرُهُ إِلاَّ لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ (104)

يَوْمَ يَأْتِ لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ إِلاَّ بِإِذْنِهِ فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ (105) فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ شَهِيقٌ (106) خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (107) وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلاَّ ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ (108)

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 315

ذلِكَ ذلك النّبأ مِنْ أَنْباءِ بعض الْقُرى أنباء بعض القرى المهلكة نَقُصُّهُ عَلَيْكَ مقصوص عليك مِنْها من تلك القرى قائِمٌ باق، كالزرع القائم على ساقه وَ حَصِيدٌ و منها عافي الأثر، كالزرع المحصود. و هذه الجملة مستأنفة لا محلّ لها. و قيل: حال من الهاء في «نقصّه». و ليس بصحيح، إذ لا واو و لا ضمير.

وَ ما ظَلَمْناهُمْ بإهلاكنا إيّاهم وَ لكِنْ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بأن عرّضوها للهلاك بارتكاب ما يوجبه فَما أَغْنَتْ عَنْهُمْ فما قدرت أن تدفع عنهم آلِهَتُهُمُ الَّتِي يَدْعُونَ يعبدونها مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ شيئا من بأس اللّه. هي حكاية حال ماضية. لَمَّا جاءَ أَمْرُ رَبِّكَ أي: عذابه. و «لمّا» منصوب ب «ما أغنت». وَ ما زادُوهُمْ غَيْرَ تَتْبِيبٍ هلاك و تخسير. يقال: تبّ إذا خسر، و تبّبه غيره إذا أوقعه في الخسران.

وَ كَذلِكَ مرفوع المحلّ، أي: مثل ذلك الأخذ أَخْذُ رَبِّكَ إِذا أَخَذَ الْقُرى أي: أهلها وَ هِيَ ظالِمَةٌ حال من القرى. و هي في الحقيقة لأهلها، لكنّها لمّا أقيمت مقامه أجريت عليها. و فائدة

هذه الحال الإشعار بأنّهم أخذوا لظلمهم، و إنذار كلّ ظالم ظلم نفسه أو غيره من وخامة العاقبة. إِنَّ أَخْذَهُ أَلِيمٌ شَدِيدٌ وجيع غير مرجوّ الخلاص منه. و هو مبالغة في التهديد و التحذير.

إِنَّ فِي ذلِكَ إشارة إلى ما قصّ اللّه من قصص الأمم الهالكة بذنوبها، أو إلى

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 316

ما نزل بالأمم الهالكة لَآيَةً لعبرة لِمَنْ خافَ عَذابَ الْآخِرَةِ يعتبر به عظمته، لعلمه بأنّ ما حاق بهم أنموذج ممّا أعدّ اللّه تعالى للمجرمين في الآخرة، أو ينزجر به عن موجباته، لعلمه بأنّها من إله مختار، يعذّب من يشاء و يرحم من يشاء، فإنّ من أنكر الآخرة و أحال فناء هذا العالم- كالفلاسفة- لم يقل بالفاعل المختار، و جعل تلك الوقائع لأسباب فلكيّة اتّفقت في تلك الأيّام، لا لذنوب المهلكين بها.

و نحو ذلك قوله تعالى: إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى «1».

ذلِكَ إشارة إلى يوم القيامة، و إن لم يذكر صريحا لكن دلّ عليه قوله:

«عَذابَ الْآخِرَةِ» و قوله: يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ و التغيير من الفعليّة إلى الاسميّة للدلالة على ثبات معنى الجمع لليوم، و أنّ الثبات من شأنه لا محالة، و أنّ الناس لا ينفكّون عن هذا اليوم. فهو أبلغ من قوله: يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ «2». و معنى الجمع له: الجمع لما فيه من المحاسبة و المجازاة.

وَ ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ أي: مشهود فيه أهل السماوات و الأرضين بحيث لا يغيب عنه غائب، فاتّسع فيه بإجراء الظرف مجرى المفعول به. و لو جعل اليوم مشهودا في نفسه لا مشهودا فيه، لبطل الغرض من تعظيم اليوم و تمييزه عن سائر الأيّام، فإنّ سائرها كذلك.

ثمّ أخبر سبحانه عن اليوم المشهود، و هو يوم القيامة، فقال:

وَ ما نُؤَخِّرُهُ أي: ذلك اليوم إِلَّا لِأَجَلٍ مَعْدُودٍ إلّا لانتهاء مدّة معدودة متناهية، على حذف المضاف و إرادة مدّة التأجيل كلّها بالأجل، من زمان حياتهم إلى المقدّر، لا منتهاها، فإنّه غير معدود.

______________________________

(1) النّازعات: 26.

(2) التغابن: 9.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 317

يَوْمَ يَأْتِ أي: اليوم، كقوله تعالى: أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ «1». و المراد بإتيانه إتيان هوله و شدائده، إذ لولا هذا التقدير لزم أن يكون الزمان ظرفا لنفسه. أو المراد: يأتي اللّه، أي: أمره تعالى، كقوله: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ «2».

و قرأ ابن كثير و عاصم و حمزة: يأت بحذف الياء، اجتزاء عنها بالكسرة.

و انتصب الظرف ب «أذكر» أو بقوله: لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ لا تتكلّم بما ينفع و ينجي، من جواب أو شفاعة إِلَّا بِإِذْنِهِ إلّا بإذن اللّه تعالى، كقوله: لا يَتَكَلَّمُونَ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ «3». و هذا في موقف. و قوله: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ «4» في موقف آخر، فإنّ ذلك اليوم يوم طويل له مواقف و مواطن، ففي بعضها يجادلون عن أنفسهم، و في بعضها يكفّون عن الكلام، فلا يؤذن لهم، و في بعضها يؤذن لهم فيتكلّمون، و في بعضها يختم على أفواههم، و تكلّم أيديهم و تشهد أرجلهم. أو المأذون فيه هي الجوابات الحقّة، و الممنوع عنه- في قوله: «وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ»- هي الأعذار الباطلة.

فَمِنْهُمْ الضمير لأهل الموقف. و لم يذكروا، لأنّ ذلك معلوم مدلول عليه بقوله: «لا تَكَلَّمُ نَفْسٌ». أو للناس في قوله: «مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ». شَقِيٌ وجبت له النار بإساءته وَ سَعِيدٌ وجبت له الجنّة بإحسانه.

فَأَمَّا الَّذِينَ شَقُوا فَفِي النَّارِ لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ و هو إخراج النفس وَ شَهِيقٌ و هو

ردّ النفس. و استعمالهما في أوّل النهيق و آخره. و المراد بهما الدلالة على شدّة كربهم و غمّهم، و تشبيه حالهم بمن استولت الحرارة على قلبه و انحبس فيه روحه،

______________________________

(1) يوسف: 107.

(2) البقرة: 210.

(3) النبأ: 38.

(4) المرسلات: 35- 36.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 318

أو تشبيه صراخهم بأصوات الحمير.

خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ ليس ذلك لارتباط دوامهم في النار بدوامهما، فإنّ النصوص القاطعة دالّة على تأبيد دوامهم و على انقطاع دوامهما.

فالمراد منه التعبير عن التأبيد و المبالغة بما كان العرب يعبّرون به عنه على سبيل التمثيل، كما قالوا: هو دائم و مؤبّد ما دام جبل قبيس باقيا، و ما أقام ثبير، و ما لاح كوكب، و غير ذلك من كلمات التأبيد عندهم، و معلوم أنّها فانية. و على تقدير الارتباط لم يلزم أيضا من زوال السماوات و الأرض زوال عذابهم، و لا من دوامه دوامهما، إلّا من قبيل مفهوم المخالف، و دلالة المفهوم ليست بحجّة على المذهب الصحيح. و على تقدير حجّيّته لا يقاوم المنطوق الصريح القاطع الدالّ على التأبيد المؤبّد، و عدم الانقطاع.

أو المراد سماوات الآخرة و أرضها، و يدلّ عليه قوله تعالى: يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ «1». و هما مخلوقتان للأبد. و أيضا لا بدّ لأهل الآخرة من مظلّ و مقلّ. و كلّ ما علاك و أظلّك سماء، و كلّ ما أقلّك أرض.

و هذا القول مرجوح، من حيث إنّه تشبيه بما لا يعرف أكثر الخلائق وجوده و دوامه، و من عرفه فإنّما يعرفه بما يدلّ على دوام الثواب و العقاب، فكيف يجوز له التشبيه، إذ لا بدّ من وجود الشبه فيه؟

إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ استثناء من الخلود في النار، لأنّ

بعضهم- و هم فسّاق الموحّدين- يخرجون منها، و ذلك كاف في صحّة الاستثناء، لأنّ زوال الحكم عن الكلّ يكفيه زواله عن البعض. و هم المراد بالاستثناء الثاني، فإنّهم مفارقون عن الجنّة أيّام عذابهم، فإنّ التأبيد من مبدأ معيّن ينتقض باعتبار الابتداء كما ينتقض باعتبار الانتهاء، و هؤلاء و إن شقوا بعصيانهم فقد سعدوا بإيمانهم.

______________________________

(1) إبراهيم: 48.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 319

و هذا مرويّ عن ابن عبّاس، و جابر بن عبد اللّه، و أبي سعيد الخدري، و قتادة، و السدّي، و الضحّاك، و جمع من المفسّرين.

إن قيل: فعلى هذا لم يكن قوله: «فَمِنْهُمْ شَقِيٌّ وَ سَعِيدٌ» تقسيما صحيحا، لأنّ شرط التقسيم أن تكون صفة كلّ قسم منتفية عن قسيمه.

قلنا: ذلك الشرط من حيث التقسيم، لانفصال حقيقي أو مانع من الجمع، و هاهنا المراد مانع الخلوّ، فإنّ المعنى المراد: أن أهل الموقف لا يخرجون عن القسمين، و حالهم لا يخلو عن السعادة و الشقاوة، و ذلك لا يمنع اجتماع الأمرين في شخص باعتبارين.

و قيل: الاستثناء من الخلود باعتبار أنّ أهل النار لا يخلّدون في عذاب النار وحده، بل يعذّبون بالزمهرير، و بأنواع أخر من العذاب سوى عذاب النار، و بما هو أغلظ منها كلّها، و هو سخط اللّه عليهم و خسئه لهم و إهانته إيّاهم، كما أنّ أهل الجنّة لهم سوى الجنّة ما هو أكبر منها و أجلّ موقعا منهم، و هو رضوان اللّه، كما قال:

وَعَدَ اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ وَ رِضْوانٌ مِنَ اللَّهِ أَكْبَرُ «1». فلهم ما يتفضّل اللّه به عليهم سوى ثواب الجنّة ممّا لا يعرف كنهه إلّا هو. فهو المراد من الاستثناء.

و الدليل عليه قوله: إِنَّ رَبَّكَ فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ أي: إنّه يفعل بأهل النار ما يريد من أنواع العذاب المخلّد، كما يعطي أهل الجنّة عطاءه الّذي لا انقطاع له.

وَ أَمَّا الَّذِينَ سُعِدُوا بطاعات اللّه، و انتهائهم عن المعاصي فَفِي الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ إِلَّا ما شاءَ رَبُّكَ عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ غير مقطوع. و هو تصريح بأنّ الثواب لا ينقطع.

و قيل: «إلّا» بمعنى: سوى، كقولك: عليّ ألف إلّا الألفين القديمين. و المعنى:

______________________________

(1) التوبة: 72.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 320

سوى ما شاء ربّك من الزيادة الّتي لا آخر لها على مدّة بقاء السماوات و الأرض.

و قرأ حمزة و حفص: سعدوا على البناء للمفعول، من: سعده اللّه تعالى، بمعنى: أسعده. و «عطاء» نصب على المصدر المؤكّد، أي: اعطوا عطاء، أو الحال من «الجنّة»، فإنّه مفعول بواسطة.

[سورة هود (11): آية 109]

فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ وَ إِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ غَيْرَ مَنْقُوصٍ (109)

و لمّا قصّ سبحانه قصص الكفّار، و ما أحلّ بهم من نقمه، و ما أعدّ لهم من عذابه، قال تسلية لرسوله، وعدة بالانتقام منهم، و وعيدا لهم: فَلا تَكُ فِي مِرْيَةٍ شكّ بعد ما أنزل إليك من مآل الناس، من الشقاوة و السعادة مِمَّا يَعْبُدُ هؤُلاءِ «ما» مصدريّة، أي: من عبادة هؤلاء المشركين، في أنّها ضلال مؤدّ إلى مثل ما حلّ بمن قبلهم ممّن قصصنا عليك سوء عاقبة عبادتهم. أو موصولة، أي: من حال ما يعبدونه في أنّه يضرّ و لا ينفع.

ما يَعْبُدُونَ إِلَّا كَما يَعْبُدُ آباؤُهُمْ مِنْ قَبْلُ استئناف، معناه: تعليل النهي عن المرية، أي: هم و آباؤهم سواء في الشّرك، ما يعبدون إلّا كعبادة آبائهم، على

تقدير المصدريّة. أو ما يعبدون شيئا إلّا مثل ما عبدوه من الأوثان، على تقدير الموصوليّة.

و قد بلغك ما لحق آباءهم من ذلك، فسيلحقهم مثله، لأنّ التماثل في الأسباب- و هي عبادة الأوثان هنا- يقتضي التماثل في المسبّبات، و هي العقوبات. و معنى «كما يعبد»: كما كان يعبد، فحذف لدلالة «من قبل» عليه.

وَ إِنَّا لَمُوَفُّوهُمْ نَصِيبَهُمْ حظّهم من العذاب كما وفّينا ءاباءهم. أو من الرزق، فيكون عذرا لتأخير العذاب عنهم مع قيام ما يوجبه. غَيْرَ مَنْقُوصٍ حال من النصيب، لإفادة معنى التوفية حقيقة، و رفع توهّم المعنى المجازي، فإنّك تقول:

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 321

وفّيته حقّه، و تريد به وفاء بعضه و لو مجازا.

[سورة هود (11): الآيات 110 الى 111]

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (110) وَ إِنَّ كُلاًّ لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (111)

ثمّ بيّن أنّ تكذيب هؤلاء الكفّار بالّذي آتيناك، كتكذيب أولئك بالكتاب الّذي آتيناه موسى، فقال: لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ فآمن به قوم و كفر به قوم، كما اختلف هؤلاء في القرآن.

وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ يعني: كلمة إنظار العذاب إلى يوم القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بين قوم موسى، أو بين قومك، بإنزال ما يستحقّه المبطل ليتميّز به عن المحقّ وَ إِنَّهُمْ و إن كفّار قومك لَفِي شَكٍّ مِنْهُ من القرآن مُرِيبٍ موقع في الريبة.

وَ إِنَّ كُلًّا التنوين عوض المضاف إليه، أي: و إن كلّ المختلفين فيه، المؤمنين منهم و الكافرين. و قرأ ابن كثير و نافع و أبو بكر بالتخفيف «1» مع الإعمال، اعتبارا للأصل. لَمَّا لَيُوَفِّيَنَّهُمْ ربّهم رَبُّكَ أَعْمالَهُمْ اللام في «لمّا» موطّئة للقسم، و

الثانية للتأكيد، أو بالعكس. و «ما» مزيدة بين اللامين للفصل. و المعنى:

و إنّ جميعهم و اللّه ليوفّينّهم ربّك جزاء أعمالهم، من حسن و قبح، و إيمان و كفر.

و قرأ ابن عامر و عاصم و حمزة: لمّا بالتشديد، على أنّ أصله: لمن ما، فقلبت النون ميما للإدغام، فاجتمعت ثلاث ميمات، فحذفت أولاهنّ. و المعنى: لمن الّذين

______________________________

(1) أي: بتخفيف «إنّ».

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 322

يوفّينّهم ربّك جزاء أعمالهم.

إِنَّهُ بِما يَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فلا يفوته شي ء منه و إن خفي.

[سورة هود (11): آية 112]

فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ مَنْ تابَ مَعَكَ وَ لا تَطْغَوْا إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (112)

و لمّا بيّن أمر المختلفين في التوحيد و النبوّة، و أطنب في شرح الوعد و الوعيد، أمر رسوله بالاستقامة مثل ما أمر بها، فقال: فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ أي:

فاستقم مثل الاستقامة الّتي أمرت بها، على جادّة الحقّ، غير عادل عنها.

و هذه الاستقامة شاملة للاستقامة في العقائد، كالتوسّط بين التشبيه و التعطيل، بحيث يبقى العقل مصونا من الطرفين، و في الأعمال، من تبليغ الوحي و بيان الشرائع كما أنزل، و القيام بوظائف العبادات، من غير إفراط و تفريط مفوّت للحقوق و نحوها. و هي في غاية العسر، و لذلك

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «شيّبتني سورة هود»،

كما نقل عن ابن عبّاس أنّه قال: ما نزلت آية كانت أشدّ و لا أشقّ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من هذه الآية. و لهذا

قال: «شيّبتني سورة هود و الواقعة و أخواتهما».

و

روي أنّ بعض أصحابه قال: «قد أسرع فيك الشيب. فقال: شيّبتني سورة هود. فقال: ما الّذي شيّبك منها، أ قصص الأنبياء و هلاك الأمم؟ قال: لا، و لكن قوله: «فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ».

و

عن

الصادق عليه السّلام: «فَاسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ» معناه: افتقر إلى اللّه بصحّة العزم» «1».

وَ مَنْ تابَ مَعَكَ عطف على المستكن في «استقم» و إن لم يؤكّد بمنفصل، لقيام الفاصل مقامه. و المعنى: فاستقم أنت ليستقم من تاب من الشرك

______________________________

(1) رواه في الكشّاف 2: 433.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 323

و الكفر و آمن معك.

وَ لا تَطْغَوْا و لا تخرجوا عمّا حدّ لكم من حدود اللّه إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فهو مجازيكم عليه. و هو في معنى التعليل للأمر و النهي.

و في الآية دليل على وجوب اتّباع النصوص من غير تصرّف و انحراف، بنحو قياس و استحسان.

[سورة هود (11): الآيات 113 الى 115]

وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (113) وَ أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ ذلِكَ ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ (114) وَ اصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (115)

ثمّ نهى اللّه سبحانه عن المداهنة في الدين و الميل إلى الظالمين، فقال: وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا و لا تميلوا إلى الّذين وجد منهم الظلم ادنى ميل، فإنّ الركون هو الميل اليسير، كالتزيّي بزيّهم، و تعظيم ذكرهم، و كذا الرضا بفعلهم، و مصاحبتهم و مداهنتهم، و مدّ العين إلى زهرتهم فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ بركونكم إليهم.

و إذا كان الركون إلى من وجد منه ما يسمّى ظلما كذلك، فما ظنّك بالركون إلى الظالمين- أي: الموسومين بالظلم- ثمّ بالميل إليهم كلّ الميل، ثمّ بالظلم نفسه، و الانهماك فيه؟! و قال سفيان: في جهنّم واد لا يسلكها إلّا القرّاء الزائرون للملوك. و عن الأوزاعي: ما من شي ء أبغض إلى اللّه من عالم يزور عاملا. و عن محمّد بن مسلمة:

الذباب

على العذرة أحسن من قارئ على باب هؤلاء.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 324

و

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من دعا لظالم بالبقاء فقد أحبّ أن يعصى اللّه في أرضه».

و قد سئل سفيان عن ظالم أشرف على الهلاك في برّيّة هل يسقى شربة ماء؟

قال: لا. فقيل: يموت؟ فقال: دعه يموت.

و الآية أبلغ ما يتصوّر في النهي عن الظلم و التهديد عليه. و خطاب الرسول و من معه من المؤمنين للتثبيت على الاستقامة الّتي هي العدل، فإنّ الزوال عن الاستقامة بالميل إلى أحد طرفي إفراط و تفريط.

وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ أَوْلِياءَ من أنصار يمنعون العذاب عنكم. و الواو للحال من قوله: «فَتَمَسَّكُمُ النَّارُ» أي: فتمسّكم النار و أنتم على هذه الحال. ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ أي: ثمّ لا ينصركم اللّه، إذ سبق في حكمه أن يعذّبكم و لا يبقي عليكم.

و «ثمّ» لاستبعاد نصره إيّاهم، و قد أوعدهم بالعذاب عليه و أوجبه لهم.

قال في المجمع: «الركون إلى الظالمين المنهيّ عنه هو الدخول معهم في ظلمهم، و إظهار الرضا بفعلهم، أو إظهار موالاتهم. فأمّا الدخول عليهم أو مخالطتهم و معاشرتهم دفعا لشرّهم فجائز. و قريب منه ما روي عن أئمّتنا عليهم السّلام» «1».

وَ أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ غدوة و عشيّة. و انتصابه على الظرف، لأنّه مضاف إلى النهار، كقولك: أقمت عنده جميع النهار، و أتيته نصف النهار و أوّله و آخره. وَ زُلَفاً مِنَ اللَّيْلِ و ساعات منه قريبة من النهار، فإنّه من: أزلفه إذا قربه.

و هو جمع زلفة.

و صلاة الغداة صلاة الصبح، لأنّها أقرب الصلوات من أوّل النهار. و صلاة العشيّة العصر. و قيل: المغرب. و قيل: الظهر و العصر، لأنّ ما بعد

الزوال عشيّ.

______________________________

(1) مجمع البيان 5: 200.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 325

و صلاة الزلف: العشاء الآخرة. و قيل: صلاة طرفي النهار: الغداة و الظهر و العصر. و صلاة زلف الليل: المغرب و العشاء الآخرة.

و

عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «المغرب و العشاء زلفتا الليل».

إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ يكفّرنها. قال أكثر المفسّرين: إن الصلوات الخمس تكفّر ما بينها من الذنوب، لأنّ الحسنات معرّفة باللام. و قد تقدّم ذكر الصلوات.

ذلِكَ إشارة إلى قوله: «فاستقم» و ما بعده. و قيل: إلى القرآن. ذِكْرى لِلذَّاكِرِينَ عظة للمتّعظين.

قيل: نزلت في أبي اليسر عمرو بن غزية الأنصاري، كان يبيع التمر، فأتته امرأة فأعجبته، فقال لها: إنّ في البيت أجود من هذا التمر. فذهبت إلى بيته، فضمّها إلى نفسه و قبّلها. فقالت له: اتّق اللّه. فتركها و ندم، فأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأخبره بما فعل. فقال: أنتظر أمر ربّي. فلمّا صلّى صلاة العصر نزلت هذه الآية. فقال: نعم، اذهب فإنّها كفّارة لما عملت.

و

روى الواحدي بإسناده عن حمّاد بن سلمة، عن عليّ بن زيد، عن أبي عثمان، قال: «كنت مع سلمان تحت شجرة، فأخذ غصنا يابسا منها فهزّه حتّى تحاتّ ورقه، ثمّ قال: يا أبا عثمان ألا تسألني لم أفعل هذا؟ قلت: و لم تفعله؟ قال:

إنّ المسلم إذا توضّأ فأحسن الوضوء ثمّ صلّى الصلوات الخمس تحاتّت خطاياه كما يتحاتّ هذا الورق، ثمّ قرأ هذه الآية: «وَ أَقِمِ الصَّلاةَ» إلى آخرها» «1».

و

بإسناده عن أبي أمامة قال: «بينما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في المسجد و نحن قعود معه إذ جاءه رجل فقال: يا رسول اللّه إنّي أصبت حدّا فأقمه. فقال: هل شهدت

______________________________

(1) الوسيط 2: 595- 596. زبدة التفاسير، ج 3، ص: 326

الصلاة معنا؟ قال: نعم، يا رسول اللّه. قال: فإنّ اللّه قد غفر لك حدّك، أو قال:

ذنبك» «1».

و

بإسناده عن الحارث، عن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام قال: «كنّا مع رسول اللّه في المسجد ننتظر الصلاة، فقام رجل فقال: يا رسول اللّه إنّي أصبت ذنبا. فأعرض عنه. فلمّا قضى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الصلاة قام الرجل فأعاد القول. فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أليس قد صلّيت معنا هذه الصلاة و أحسنت لها الطهور؟ قال: بلى. قال: فإنّها كفّارة ذنبك» «2».

و

رووا عن أبي حمزة الثمالي قال: «سمعت أحدهما عليهما السّلام يقول: إنّ عليّا عليه السّلام أقبل على الناس فقال: أيّ آية في كتاب اللّه أرجى عندكم؟

فقال بعضهم: إِنَّ اللَّهَ لا يَغْفِرُ أَنْ يُشْرَكَ بِهِ وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «3».

فقال: حسنة، و ليست إيّاها.

و قال بعضهم: وَ مَنْ يَعْمَلْ سُوءاً أَوْ يَظْلِمْ نَفْسَهُ «4».

قال: حسنة، و ليست إيّاها.

و قال بعضهم: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ «5» الآية.

فقال: حسنة، و ليست إيّاها.

و قال بعضهم: وَ الَّذِينَ إِذا فَعَلُوا فاحِشَةً أَوْ ظَلَمُوا «6» الآية.

قال: حسنة، و ليست إيّاها.

______________________________

(1) الوسيط 2: 594- 595.

(2) الوسيط 2: 595.

(3) النساء: 48 و 110.

(4) النساء: 48 و 110.

(5) الزمر: 53.

(6) آل عمران: 135. زبدة التفاسير، ج 3، ص: 327

قال: ثمّ أحجم «1» الناس. فقال: ما لكم يا معشر المسلمين؟

فقالوا: لا و اللّه ما عندنا شي ء.

قال: سمعت حبيبي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: أرجى آية في كتاب اللّه: وَ أَقِمِ الصَّلاةَ طَرَفَيِ النَّهارِ. و قرأ الآية كلّها. يا عليّ، و الذي

بعثني بالحقّ بشيرا و نذيرا إنّ أحدكم ليقوم من وضوئه فتساقط عن جوارحه الذنوب، فإذا استقبل اللّه بوجهه و قلبه، لم ينفتل «2» و عليه من ذنوبه شي ء كما ولدته أمّه، فإن أصاب شيئا بين الصلاتين كان له مثل ذلك، حتّى عدّ الصلوات الخمس.

ثمّ قال: يا عليّ إنّما منزلة الصلوات الخمس لأمّتي كنهر جار على باب أحدكم، فما يظنّ أحدكم لو كان في جسده درن «3»، ثمّ اغتسل في ذلك النهر خمس مرّات، أ كان يبقى في جسده درن؟! فكذلك و اللّه الصلوات الخمس لأمّتي».

و قيل: «إِنَّ الْحَسَناتِ يُذْهِبْنَ السَّيِّئاتِ» معناه: أنّ الدوام على فعل الحسنات يدعو إلى ترك السيّئات، فكأنّها تذهب بها.

و قيل: إنّ المراد بالحسنات التوبة، فإنّها تذهب السيّئات، بأن تسقط عقابها، لأنّه لا خلاف في أنّ العقاب يسقط عند التوبة.

وَ اصْبِرْ على الطاعات، و عن المعاصي فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ عدول عن المضمر ليكون كالبرهان على المقصود- و الّذي هو الأمر بالصبر- و دليلا على أنّ الصلاة و الصبر إحسان دائما.

و هذه الآيات اشتملت على الاستقامة، و إقامة الصلوات، و الانتهاء عن الطغيان، و عن الركون إلى الظلمة، و غير ذلك من الحسنات.

______________________________

(1) أي: كفّوا و امتنعوا.

(2) أي: لم ينصرف.

(3) الدرن: الوسخ.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 328

[سورة هود (11): الآيات 116 الى 117]

فَلَوْ لا كانَ مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ وَ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ وَ كانُوا مُجْرِمِينَ (116) وَ ما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها مُصْلِحُونَ (117)

و لمّا ذكر سبحانه إهلاك الأمم الماضية و القرون الخالية، عقّب ذلك بأنّهم أتوا في هلاكهم من قبل نفوسهم، و لو كان فيهم مؤمنون

يأمرون بالصلاح و ينهون عن الفساد لما استأصلناهم رحمة منّا، و لكنّهم لمّا عمّهم الكفر استحقّوا عذاب الاستئصال، فقال بيانا لذلك: فَلَوْ لا كانَ أي: فهلّا كان. و قد حكوا عن الخليل كلّ «لولا» في القرآن فمعناها: هلّا، إلّا الّتي في الصافّات «1»، لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ «2» وَ لَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ «3» وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ «4».

مِنَ الْقُرُونِ مِنْ قَبْلِكُمْ أُولُوا بَقِيَّةٍ من الرأي و العقل، أو أولوا فضل و خير.

و إنّما سمّي بقيّة لأنّ الرجل يستبقي أفضل ما يخرجه و أجوده، فصار مثلا في الفضل و الجودة، و منه يقال: فلان من بقيّة القوم، أي: من خيارهم. و يجوز أن يكون مصدرا بمعنى البقوى، كالتقيّة بمعنى التقوى، أي: ذوو بقاء على أنفسهم

______________________________

(1) الصافّات: 57.

(2) القلم: 49.

(3) الفتح: 25.

(4) الإسراء: 74.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 329

و صيانة لها من العذاب.

يَنْهَوْنَ عَنِ الْفَسادِ فِي الْأَرْضِ إِلَّا قَلِيلًا مِمَّنْ أَنْجَيْنا مِنْهُمْ لكن قليلا منهم أنجيناهم، لأنّهم كانوا كذلك. و لا يصحّ اتّصال «إلّا» إلّا إذا جعل استثناء من النفي اللازم للتحضيض.

وَ اتَّبَعَ عطف على مضمر دلّ عليه الكلام، إذ المعنى: فلم ينهوا عن الفساد و اتّبع الَّذِينَ ظَلَمُوا ما أُتْرِفُوا فِيهِ ما انعموا فيه من الشهوات، و اهتمّوا بتحصيل أسبابها، و أعرضوا عمّا وراء ذلك وَ كانُوا مُجْرِمِينَ عطف على «اتّبع» أو اعتراض. و معنى «مجرمين»: كافرين. كأنّه أراد أن يبيّن ما كان سببا لاستئصال الأمم السالفة، و هو فشوّ الظلم فيهم، و اتّباعهم للهوى، و ترك النهي عن المنكرات، مع الكفر.

وَ ما كانَ رَبُّكَ و ما صحّ و ما استقام لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ اللام لتأكيد

النفي. و الظلم بمعنى الشرك، أي: لا يصحّ في حكمته أن يهلك أهل القرى بسبب شركهم وَ أَهْلُها مُصْلِحُونَ يتعاطون الحقّ فيما بينهم، و لا يضمّون إلى شركهم فسادا و تباغيا، كما

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «و أهلها مصلحون»

أي:

أنصف بعضهم بعضا، و ذلك لفرط رحمته و مسامحته في حقوقه، و من ذلك قدّم الفقهاء عند تزاحم الحقوق حقّ العباد. و قيل: الملك يبقى مع الكفر، و لا يبقى مع الظلم.

و قيل: معناه: و ما كان ربّك ليهلك القرى بظلم منه، و لكن إنّما يهلكهم بظلمهم لأنفسهم، كما قال: إِنَّ اللَّهَ لا يَظْلِمُ النَّاسَ شَيْئاً «1».

و قيل: المعنى لا يؤاخذهم بظلم واحد مع أنّ أكثرهم مصلحون، و لكن إذا عمّ الفساد و ظلم الأكثرون عذّبهم.

______________________________

(1) يونس: 44.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 330

[سورة هود (11): الآيات 118 الى 123]

وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ (118) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ وَ لِذلِكَ خَلَقَهُمْ وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ (119) وَ كُلاًّ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ وَ جاءَكَ فِي هذِهِ الْحَقُّ وَ مَوْعِظَةٌ وَ ذِكْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (120) وَ قُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنَّا عامِلُونَ (121) وَ انْتَظِرُوا إِنَّا مُنْتَظِرُونَ (122)

وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فَاعْبُدْهُ وَ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (123)

ثمّ أخبر سبحانه عن كمال قدرته، فقال: وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَجَعَلَ النَّاسَ أُمَّةً واحِدَةً لاضطرّ الناس و قسرهم إلى أن يكونوا أهل أمّة واحدة، أي: ملّة واحدة، و هي ملّة الإسلام، كقوله: إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً

«1». و ذلك بأن يخلق في قلوبهم العلم بأنّهم لو راموا غير ذلك لمنعوا منه. و لكن ذلك ينافي التكليف، و يبطل الغرض بالتكليف، لأنّ الغرض استحقاق الثواب، و الإلجاء يمنع من استحقاق الثواب، فلذلك لم يشأ اللّه ذلك، بل مكّنهم من الاختيار الّذي هو أساس التكليف، ليستحقّوا الثواب، فاختار بعضهم الحقّ و بعضهم الباطل.

وَ لا يَزالُونَ مُخْتَلِفِينَ أي: في الأديان، يهوديّ و نصرانيّ و مجوسيّ و غير ذلك إِلَّا مَنْ رَحِمَ رَبُّكَ أي: إلّا ناسا من المؤمنين، فإنّه سبحانه هداهم و لطف بهم،

______________________________

(1) الأنبياء: 92.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 331

فاتّفقوا على ما هو أصول دين الحقّ، غير مختلفين فيه. و المعنى: و لا يزالون مختلفين بالباطل إلّا من رحم اللّه بفعل اللطف لهم، و هم الّذين يؤمنون بجميع أنبيائه و رسله و كتبه، فإنّ من هذه صورته ناج من الاختلاف بالباطل.

وَ لِذلِكَ إشارة إلى ما دلّ عليه الكلام الأوّل. يعني: و لذلك التمكين و الاختيار الّذي كان عنه الاختلاف خَلَقَهُمْ ليثيب الّذي يختار الحقّ بحسن اختياره، و يعاقب من يختار الباطل بسوء اختياره.

أو إشارة إلى الرحمة في قوله: «رحم ربّك». و عدم تأنيث اسم الاشارة باعتبار معناه، و هو الفضل و الإنعام و الإحسان، كقوله: إِنَّ رَحْمَتَ اللَّهِ قَرِيبٌ «1» بتذكير الخبر باعتبار معناه.

و قيل: إشارة إلى الاختلاف، و اللام للعاقبة. يريد: أنّ اللّه خلقهم و علم أنّ عاقبتهم تؤل إلى الاختلاف المذموم، كما قال: وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ « «2»».

أو إشارة إلى اجتماعهم على الإيمان، و كونهم فيه أمّة واحدة، لقوله: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «3».

وَ تَمَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ وعيده، أو قوله للملائكة: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ من

عصاتهما أَجْمَعِينَ لعلمه بكثرة من يختار الباطل. و معنى «تمّت»:

وقع مخبرها على ما اخبر به، أو وجب قول ربّك، أو مضى حكم ربّك.

وَ كُلًّا و كلّ نبأ نَقُصُّ عَلَيْكَ نخبرك به مِنْ أَنْباءِ الرُّسُلِ ما نُثَبِّتُ بِهِ فُؤادَكَ بيان ل «كلّا» أو بدل منه. و فائدته التنبيه على المقصود من الاقتصاص، و هو زيادة يقينه، و طمأنينة قلبه، و ثبات نفسه على أداء الرسالة، و احتمال أذى الكفّار، فإنّ تكاثر الأدلّة أثبت للقلب، و أرسخ للعلم. أو مفعول، و «كلّا» منصوب

______________________________

(1، 2) الأعراف: 56 و 179.

(3) الذاريات: 56.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 332

على المصدر، بمعنى: كلّ نوع من أنواع الاقتصاص نقصّ عليك ما نثبّت به فؤادك من أنباء الرسل.

وَ جاءَكَ فِي هذِهِ السورة، أو الأنباء المقتصّة عليك بالأساليب المختلفة الْحَقُ أي: ما هو حقّ و صدق وَ مَوْعِظَةٌ وَ ذِكْرى و تذكرة لِلْمُؤْمِنِينَ إشارة إلى سائر فوائده العامّة.

وَ قُلْ لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ من أهل مكّة و غيرهم اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ على حالكم الّتي أنتم عليها، مثل قوله: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ «1».

إِنَّا عامِلُونَ على حالنا ممّا أمرنا اللّه به.

وَ انْتَظِرُوا بنا الدوائر إِنَّا مُنْتَظِرُونَ أن ينزل بكم نحو ما قصّ اللّه من النقم النازلة على أمثالكم.

وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ خاصّة، لا يخفى عليه خافية ممّا فيهما، فلا يخفى عليه أعمالكم.

و ما نقل عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه، و رواه «2» عنه الخاصّ و العامّ من الإخبار بالغائبات في خطب الملاحم و غيرها، و كذا ما نقل عن أولاده المعصومين عليهم السّلام من الأمور الغيبيّة، فهو متلقّى عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ممّا اطّلعه اللّه عليه.

فلا معنى لنسبة من روى

عنهم هذه الأخبار المشهورة إلى أنّه يعتقد كونهم عالمين بالغيب، كما اعترض ذلك بعض المخالفين على الشيعة الإماميّة عنادا و تعصّبا و عداوة. و هل هذا إلّا سبب قبيح و تضليل لهم، بل تكفير لا يرتضيه من هو بالمذهب خبير؟ و اللّه يحكم بينه و بينهم و إليه المصير، كما قال: وَ إِلَيْهِ و إلى حكمه يُرْجَعُ الْأَمْرُ كُلُّهُ فيرجع لا محالة أمرهم و أمرك إليه، فينتقم لك منهم.

______________________________

(1) فصّلت: 40.

(2) انظر الأحاديث الغيبيّة 2: 129 و بعدها.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 333

و قرأ نافع و حفص: يرجع على البناء للمفعول.

فَاعْبُدْهُ وَ تَوَكَّلْ عَلَيْهِ فإنّه كافيك أمرهم و ناصرك عليهم. و في تقديم الأمر بالعبادة على التوكّل تنبيه على أنّ التوكّل إنّما ينفع العابد. وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ أنت و هم، فيجازي ما تستحقّه. و قرأ نافع و ابن عامر و حفص هنا و في آخر النمل بالياء.

روي عن كعب الأحبار أنّه قال: خاتمة التوراة خاتمة هود.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 335

(12) سورة يوسف

اشارة

آيها مائة و إحدى عشرة آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «علّموا أرقّاءكم سورة يوسف، فإنّه أيّما مسلم تلاها و علّمها أهله و ما ملكت يمينه هوّن اللّه تعالى عليه سكرات الموت، و أعطاه القوّة أن لا يحسد مسلما».

و

روى أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة يوسف في كلّ يوم أو في كلّ ليلة، بعثه اللّه يوم القيامة و جماله مثل جمال يوسف، و لا يصيبه فزع يوم القيامة، و كان من خيار عباد اللّه الصالحين. و قال: إنّها كانت في التوراة مكتوبة».

و

روى إسماعيل بن أبي زياد عن أبي عبد

اللّه عليه السّلام عن أبيه عن آبائه قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا تنزلوا نساءكم الغرف، و لا تعلّموهنّ الكتابة، و لا تعلّموهنّ سورة يوسف، و علّموهنّ المغزل و سورة النور».

[سورة يوسف (12): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (1) إِنَّا أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (2) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ بِما أَوْحَيْنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ وَ إِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ (3)

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 336

و لمّا ختم اللّه تعالى سورة هود بذكر قصص الرسل، افتتح هذه السورة بأنّ من تلك القصص قصّة يوسف و إخوته، و أنّها من أحسن القصص، فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ «تلك» إشارة إلى آيات السورة، و هي المراد بالكتاب، أي: تلك الآيات آيات السورة الظاهر أمرها في الإعجاز، أو الواضحة معانيها، أو المبيّنة لمن تدبّرها أنّها من عند اللّه، أو لليهود ما سألوا، إذ روي أنّ علماءهم قالوا لكبراء المشركين: اسألوا محمّدا لم انتقل آل يعقوب من الشام إلى مصر، و عن قصّة يوسف؟ فنزلت.

إِنَّا أَنْزَلْناهُ أي: الكتاب قُرْآناً عَرَبِيًّا بدل من الهاء، أو حال. و هو في نفسه إمّا توطئة للحال الّتي هي «عربيّا»، كما تقول: مررت بزيد رجلا صالحا، فإنّ «رجلا» توطئة للحال، و هو «صالحا». أو هو الحال، لأنّه مصدر بمعنى مفعول، أي: مقروءا، و «عربيّا» صفة له. أو حال من الضمير في القرآن. أو حال بعد حال.

و في كلّ ذلك خلاف.

و سمّى البعض قرآنا، لأنّه في الأصل اسم جنس يقع على الكلّ و البعض.

و صار علما للكلّ بغلبة الاسميّة، كالنجم للثريّا.

لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ علّة لإنزاله بهذه الصفة، أي: أنزلناه مجموعا أو

مقروءا بلغتكم كي تفهموه و تحيطوا بمعانيه، أو تستعملوا فيه عقولكم، فتعلموا أنّ اقتصاصه كذلك ممّن لم يتعلّم القصص معجز لا يتصوّر إلّا بالإيحاء.

نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ أَحْسَنَ الْقَصَصِ أحسن الاقتصاص، لأنّه اقتصّ على أبدع أسلوب و أعجب نظم. و هو مصدر، تقول: قصّ الحديث يقصّه قصصا، كقولهم: شلّه يشلّه شللا إذا طرده. أو «فعل» بمعنى مفعول، كالنقض و السّلب، و نحوه النّبأ و الخبر بمعنى: المنبأ و المخبر به، أي: أحسن ما يقصّ، لاشتماله على الحكم و الآيات، و العبر و النكت، و سائر العجائب الّتي ليست في غيرها. و اشتقاقه

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 337

من: قصّ أثره، إذا اتّبعه، لأنّ الّذي يقصّ الحديث يتّبع ما حفظ منه شيئا فشيئا، كما يقال: تلا القرآن إذا قرأه، لأنّه يتلو- أي: يتبع- ما حفظ منه آية بعد آية.

بِما أَوْحَيْنا مصدريّة، أي: بإيحائنا إِلَيْكَ هذَا الْقُرْآنَ يعني: السورة.

و يجوز أن يكون «هذا» مفعول «نقصّ» على أن «أحسن القصص» نصب على المصدر.

ثمّ علّل لكونه موحى، فقال: وَ إِنْ كُنْتَ و إنّ الشأن كنت مِنْ قَبْلِهِ قبل إيحائنا هذه القصّة إليك لَمِنَ الْغافِلِينَ عنها، و لم تخطر ببالك، و لم تقرع سمعك قطّ. و «إن» هي المخفّفة من الثقيلة، و اللام هي الفارقة.

[سورة يوسف (12): الآيات 4 الى 6]

إِذْ قالَ يُوسُفُ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ (4) قالَ يا بُنَيَّ لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ (5) وَ كَذلِكَ يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ وَ يُعَلِّمُكَ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ عَلى آلِ يَعْقُوبَ كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ مِنْ قَبْلُ إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (6)

ثمّ

ابتدأ بقصّة يوسف، فقال: إِذْ قالَ يُوسُفُ منصوب بتقدير: اذكر. أو بدل من «أحسن القصص»- إن جعل مفعولا- بدل الاشتمال، لأنّ الوقت يشتمل على ما يقصّ فيه. و يوسف عبريّ، و لو كان عربيّا لصرف.

لِأَبِيهِ يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السّلام. و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الكريم ابن الكريم ابن الكريم ابن الكريم، يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم».

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 338

يا أَبَتِ أصله: يا أبي، فعوّض عن الياء تاء التأنيث، لتناسبهما في الزيادة، و لذلك قلبها هاء في الوقف ابن كثير و أبو عمرو و يعقوب. و كسرها، لأنّها عوض حرف يناسب الكسرة، إلّا ابن عامر فإنّه فتحها في كلّ القرآن، لأنّها حركة أصلها، أو لأنّه كان: يا أبتا، فحذف الألف و بقي الفتحة. و إنّما جاز: يا أبتا، و لم يجز: يا أبتي، لأنّه جمع بين العوض و المعوّض. و إنّما لم تسكن التاء كأصلها، و هو: يا أبي، لأنّ التاء حرف صحيح نزّل منزلة الاسم، فيجب تحريكها، ككاف الخطاب.

إِنِّي رَأَيْتُ من الرؤيا لا من الرؤية، لقوله: «لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ»، و قوله:

«هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ». أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ.

روي عن جابر أنّ يهوديّا جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: «أخبرني يا محمّد عن النجوم الّتي رآهنّ يوسف. فسكت، فنزل جبرئيل فأخبره بذلك. فقال: إن أخبرتك فهل تسلم؟ قال: نعم. قال عليه السّلام: جريان، و الطارق، و الذيّال، و قابس، و عمودان، و الفليق، و المصبح، و الضروح، و الفرغ، و وثاب، و ذو الكتفين، رآها يوسف عليه السّلام، و الشمس و القمر نزلن من السماء و سجدن له.

فقال اليهوديّ: إي و اللّه إنّها لأسماؤها».

و عن ابن عبّاس: أنّ يوسف رأى في المنام ليلة الجمعة ليلة القدر أحد عشر كوكبا نزلن من السماء فسجدن له، و رأى الشمس و القمر نزلا من السماء فسجدا له، فالشمس و القمر أبواه، و الكواكب إخوته الأحد عشر.

و قيل: الشمس أبوه، و القمر خالته، و ذلك أنّ أمّه راحيل قد ماتت.

و يجوز أن يكون الواو في «و القمر و الشمس» بمعنى «مع» أي: رأيت الكواكب مع الشمس و القمر. و أخّر الشمس و القمر ليعطفهما على الكواكب على طريق الاختصاص، بيانا لفضلهما و استبدادهما بالمزيّة على غيرهما من الطوالع،

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 339

كما أخّر جبرئيل و ميكائيل عن الملائكة ثمّ عطفهما عليها لذلك.

و قوله: رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ كلام مستأنف لبيان حالهم الّتي رآهم عليها- على تقدير سؤال- وقع جوابا، كأنّه قال له يعقوب: كيف رأيتها؟ فقال: رأيتهم لي ساجدين، فلا تكرير. و إنّما أجريت مجرى العقلاء لوصفها بصفاتهم.

عن وهب: أنّ يوسف رأى و هو ابن سبع سنين أنّ إحدى عشرة عصا طوالا كانت مركوزة في الأرض كهيئة الدائرة، فإذا عصا صغيرة تثب عليها حتّى اقتلعتها و غلبتها. فوصف ذلك لأبيه، فقال: إيّاك أن تذكر هذا لإخوتك. ثمّ رأى و هو ابن ثنتي عشرة سنة الشمس و القمر و الكواكب تسجد له، فقصّها على أبيه. فقال له: لا تقصّها عليهم، فيبغوا لك الغوائل.

و قيل: كان بين رؤيا يوسف و مصير إخوته إليه أربعون سنة. و قيل: ثمانون.

و قال في الكشّاف «1» و الأنوار «2»: «إنّ يعقوب عليه السّلام عرف دلالة الرؤيا على أنّ يوسف يبلغه اللّه مبلغا من الحكمة، و يصطفيه للنبوّة، و يفوّقه على إخوته، و ينعم

عليه بشرف الدارين، كما فعل بآبائه، فخاف عليه حسد الإخوة و بغيهم».

قالَ يا بُنَيَ تصغير ابن، صغّره للشفقة أو لصغر السنّ، لأنّه كان ابن اثنتي عشرة سنة. و قرأ حفص هاهنا و في الصافّات «3» بفتح الياء. لا تَقْصُصْ رُؤْياكَ عَلى إِخْوَتِكَ فَيَكِيدُوا لَكَ كَيْداً فيحتالوا لإهلاكك حيلة.

قال في الأنوار: «الرؤيا كالرؤية، غير أنّها مختصّة بما يكون في النوم، ففرّق بينهما بحرفي التأنيث، كالقربة و القربى. و هي انطباع الصورة المنحدرة من أفق المتخيّلة إلى الحسّ المشترك. و الصادقة منها إنّما تكون باتّصال النفس بالملكوت،

______________________________

(1) الكشّاف 2: 444.

(2) أنوار التنزيل 3: 127.

(3) الصافّات: 102.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 340

و هي عالم المجرّدات، لما بينهما من التناسب، عند فراغها من تدبير البدن أدنى فراغ، فتتصوّر بما فيها ممّا يليق بها من المعاني الحاصلة هناك. ثمّ إنّ المتخيّلة تحاكيه بصورة تناسبه، فترسلها إلى الحسّ المشترك، فتصير مشاهدة. ثمّ إن كانت شديدة المناسبة لذلك المعنى، بحيث لا يكون التفاوت إلّا بالكلّية و الجزئيّة، استغنت الرؤيا عن التعبير، أي: وقع ما رآه بعينه، و إلّا احتاجت إليه» «1».

و إنّما عدّي «كاد» باللّام، و هو متعدّ بنفسه، لتضمّنه معنى فعل يتعدّى به، و هو: يحتالوا، ليفيد معنى الفعلين تأكيدا، و لذلك أكّد بالمصدر، و علّل بقوله: إِنَّ الشَّيْطانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر العداوة، لما فعل بآدم و حوّاء، فلا يألوا جهدا في تسويلهم، و إثارة الحسد فيهم، حتّى يحملهم على الكيد.

روى أبو حمزة الثمالي عن زين العابدين عليه السّلام: «أنّ يعقوب كان يذبح كلّ يوم كبشا فيتصدّق به، و يأكل هو و عياله منه، و أنّ سائلا مؤمنا صوّاما اعترّ «2» ببابه عشيّة جمعة عند أوان إفطاره، و كان مجتازا غريبا،

فهتف على بابه و استطعمهم و هم يسمعون، فلم يصدّقوا قوله. فلمّا يئس أن يطعموه و غشيه الليل استرجع و استعبر، و شكا جوعه إلى اللّه تعالى، و بات طاويا، و أصبح صائما حامدا للّه. و بات يعقوب و آل يعقوب بطانا، و أصبحوا و عندهم فضلة من طعامهم، فابتلاه اللّه سبحانه بيوسف عليه السّلام، و أوحى إليه أن استعدّ لبلائي، و ارض بقضائي، و اصبر للمصائب.

فرأى يوسف هذه الرؤيا في تلك الليلة».

وَ كَذلِكَ أي: و كما اجتباك لمثل هذه الرؤيا الدالّة على شرف و عزّ، و كمال نفس و كبرياء شأن يَجْتَبِيكَ رَبُّكَ للنبوّة و الملك، أو لأمور عظام. و الاجتباء من:

جبيت الشّي ء إذا حصّلته لنفسك.

______________________________

(1) أنوار التنزيل 3: 127.

(2) اعترّ به: أتاه للمعروف من غير أن يسأل. و المعترّ: الفقير.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 341

وَ يُعَلِّمُكَ كلام مبتدأ غير داخل في حكم التشبيه الّذي يفهم من «كذلك»، لأنّه يلزم أن يكون تعليم التعبير أيضا سابقا، فيلزم أن يعلم تعبير رؤياه قبل ذلك الوقت، و ليس كذلك، لأنّ هذا التعليم في مستقبل الزمان، لقوله: وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ «1». كأنّه قيل: و هو يعلّمك.

مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ من تعبير الرؤيا. سمّى التعبير تأويلا، لأنّه يؤول أمره إلى ما رأى في المنام. و سمّى الرؤيا أحاديث، لأنّها أحاديث تلك الرؤيا إن كانت صادقة، و أحاديث النّفس أو الشيطان إن كانت كاذبة. أو من تأويل غوامض كتب اللّه تعالى، و سنن الأنبياء، و كلمات الحكماء. و هو اسم جمع للحديث، كأباطيل اسم جمع للباطل.

روي: أنّ يوسف أعبر الناس للرؤيا، و أصحّهم عبارة لها.

وَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ معنى إتمام النعمة: أنّه وصل

لهم نعمة الدنيا بنعمة الآخرة، فجعلهم أنبياء و ملوكا، ثمّ نقلهم إلى نعيم الآخرة و الدرجات العلى من الجنّة وَ عَلى آلِ يَعْقُوبَ يريد أهله و نسله، بأن يثبّتهم على ملّة الإسلام، و يشرّفهم بمكانك، و يجعل فيهم النبوّة. و أصل آل: أهل، بدليل أن تصغيره اهيل، إلّا أنّه لا يستعمل إلّا فيمن له خطر، فيقال: آل النبيّ و آل الملك.

كَما أَتَمَّها عَلى أَبَوَيْكَ بالرسالة. و قيل: على إبراهيم عليه السّلام بالخلّة و الإنجاء من النار، و على إسحاق بإنقاذه من الذبح، و فدائه بذبح عظيم.

و قيل: بإخراج يعقوب و الأسباط من صلبه. و القول الأخير قول أكثر المفسّرين.

مِنْ قَبْلُ من قبلك، أو من قبل هذا الوقت إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ عطف بيان ل «أبويك» إِنَّ رَبَّكَ عَلِيمٌ بمن يستحقّ الاجتباء حَكِيمٌ يفعل الأشياء على ما ينبغي.

______________________________

(1) يوسف: 21.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 342

[سورة يوسف (12): آية 7]

لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ آياتٌ لِلسَّائِلِينَ (7)

ثمّ أنشأ سبحانه في ذكر قصّة يوسف، فقال: لَقَدْ كانَ فِي يُوسُفَ وَ إِخْوَتِهِ أي: في قصّتهم آياتٌ دلائل قدرة اللّه تعالى و حكمته، أو عبر و أعاجيب، أو علامات نبوّتك لِلسَّائِلِينَ لمن سأل عن قصّتهم فأخبرهم بالصحّة من غير سماع و لا قراءة كتاب.

و المراد بالإخوة بنو علّاته الأحد عشر. و العلّات إخوة من أمّهات شتّى.

و هم: يهوذا، و روبيل، و شمعون، و هو أكبرهم، و لاوي، و زبالون، و يشخر، و دينة.

و هذه السبعة كانوا من ليا بنت خالة يعقوب، تزوّجها أوّلا، فلمّا توفّيت تزوّج أختها راحيل، فولدت له بنيامين و يوسف. و قيل: جمع بينهما، و لم يكن الجمع محرّما حينئذ. و أربعة آخرون: جاد، و دان، و نفتالى، و آشر، من

سرّيتين: زلفة و بلهة.

[سورة يوسف (12): الآيات 8 الى 9]

إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ وَ أَخُوهُ أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (8) اقْتُلُوا يُوسُفَ أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ وَ تَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ (9)

ثم أخبر سبحانه عمّا قال إخوة يوسف حين سمعوا منام يوسف و تأويل يعقوب إيّاه، فقال: إِذْ قالُوا لَيُوسُفُ اللام للابتداء. و فيها تأكيد و تحقيق لمضمون الجملة. وَ أَخُوهُ بنيامين. و تخصيصه بالاضافة لاختصاصه بالأخوّة من الطرفين. أَحَبُّ إِلى أَبِينا مِنَّا وحّده لأنّ «أفعل من» لا يفرّق فيه بين الواحد و ما فوقه، و التذكير و التأنيث، بخلاف أخويه، فإنّ الفرق واجب في المحلّى باللام جائز في المضاف.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 343

وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ و الحال أنّا جماعة أقوياء، أحقّ بالمحبّة من صغيرين لا كفاية للمهمّات فيهما. و العصبة و العصابة العشرة فصاعدا. سمّوا بذلك لأنّ الأمور تعصب بهم، أي: تشتدّ. إِنَّ أَبانا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ عن طريق الحقّ و الصواب، لتفضيله المفضول، أو لترك التعديل في المحبّة.

روي أنّه كان أحبّ إليه، لما يرى فيه من الخصال الحسنة الرضيّة، و الخلال السنيّة المرضيّة، و كان إخوته يحسدونه، فلمّا رأى الرؤيا ضاعف له المحبّة بحيث لم يصبر عنه، فزاد حسدهم حتّى حملهم على التعرّض له.

اقْتُلُوا يُوسُفَ من جملة المحكيّ بعد قوله: «إِذْ قالُوا»، كأنّهم اتّفقوا على ذلك إلّا من قال: لا تقتلوا. و قيل: إنّما قاله شمعون. و قيل: دان و رضي به الآخرون.

أَوِ اطْرَحُوهُ أَرْضاً منكورة مجهولة بعيدة عن العمران. و هو معنى تنكيرها و إبهامها، و لذلك نصبت كالظروف المبهمة. يَخْلُ لَكُمْ وَجْهُ أَبِيكُمْ جواب الأمر.

و المعنى: يخلص لكم وجه أبيكم، فيقبل بكلّيته عليكم، و لا

يلتفت عنكم إلى غيركم، و لا ينازعكم في محبّته أحد. فذكر الوجه لتصوير معنى إقباله عليهم، لأنّ الرجل إذا أقبل على الشي ء أقبل بوجهه. و قيل: «يخل» يفرغ لكم من الشغل بيوسف.

وَ تَكُونُوا جزم بالعطف على «يخل»، أو نصب بإضمار أن مِنْ بَعْدِهِ بعد يوسف، أو الفراغ من أمره أو قتله أو طرحه قَوْماً صالِحِينَ تائبين إلى اللّه تعالى عمّا جنيتم. أو صالحين مع أبيكم، يصلح ما بينكم و بينه بعذر تمهّدونه. أو صالحين في أمر دنياكم، فإنّه ينتظم لكم بعد يوسف بخلوّ وجه أبيكم.

و اعلم أنّ أكثر المفسّرين على أنّ إخوة يوسف كانوا أنبياء. و قال بعضهم: لم يكونوا أنبياء، لأنّ الأنبياء لا تقع منهم القبائح. و هذا موافق لأصول مذهب الإماميّة.

و قال علم الهدى قدّس سرّه: «لم تقم لنا الحجّة بأنّ إخوة يوسف الّذين فعلوا به ما فعلوا كانوا أنبياء. و لا يمتنع أن يكون الأسباط الّذين كانوا أنبياء غير هؤلاء الإخوة

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 344

الّذين فعلوا بيوسف ما قصّه اللّه عنهم. و ليس في ظاهر الكتاب أنّ جميع إخوة يوسف و سائر الأسباط فعلوا بيوسف ما حكاه اللّه تعالى من الكيد. و يجوز أن يكون هؤلاء الإخوة في تلك الحال لم يكونوا بلغوا الحلم، و لا توجّه إليهم التكليف، و قد يقع ممّن قارب البلوغ من الغلمان مثل هذه الأفعال، و يعاتب على ذلك و يلام و يضرب» «1». و هذا الوجه قول البلخي و الجبائي. و يدلّ عليه قوله: «يَرْتَعْ وَ يَلْعَبْ».

و قوله: «وَ تَكُونُوا مِنْ بَعْدِهِ قَوْماً صالِحِينَ» لا ينافي ذلك، فإنّ المراهق يجوز أن يعلم ذلك خاصّة، خصوصا إذا كان مربّى في حجر الأنبياء و من أولادهم.

و

روى أبو جعفر

بن بابويه رحمه اللّه في كتاب النبوّة بإسناده عن محمّد بن إسماعيل بن بزيع، عن حنان بن سدير، قال: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام أ كان أولاد يعقوب أنبياء؟

فقال: لا، و لكنّهم كانوا أسباطا أولاد الأنبياء، و لم يفارقوا الدنيا إلّا سعداء، تابوا و تذكّروا ما صنعوا».

و قال الحسن: كانوا رجالا بالغين، و وقعت ذلك منهم صغيرة.

[سورة يوسف (12): آية 10]

قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ وَ أَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِّ يَلْتَقِطْهُ بَعْضُ السَّيَّارَةِ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (10)

ثمّ أخبر سبحانه عن واحد من جملتهم بقوله: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ أي: من إخوة يوسف، و هو يهوذا. و كان أحسنهم فيه رأيا، و هو الّذي قال: فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ «2» الآية. و قيل: روبيل، و هو ابن خالة يوسف. و قيل: لاوي. رواه عليّ بن إبراهيم «3» في تفسيره. لا تَقْتُلُوا يُوسُفَ فإنّ القتل أمر عظيم وَ أَلْقُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ في قعره. سمّي به لغيبوبته عن عين الناظر. و قرأ نافع غيابات في الموضعين

______________________________

(1) تنزيه الأنبياء: 43- 44.

(2) يوسف: 80.

(3) تفسير القمّي 1: 340.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 345

على الجمع، كأنّه لتلك الجبّ غيابات، أي: أسافل. و الجبّ البئر التي لم تطو، لأنّ الأرض تجبّ جبّا، أي: تقطع. يَلْتَقِطْهُ يأخذه بَعْضُ السَّيَّارَةِ بعض الذين يسيرون في الأرض إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ بمشورتي. أو إن كنتم على أن تفعلوا ما يحصل به غرضكم، و هو التفريق بينه و بين أبيه، فإنّ هذا رأيي.

و اختلف في ذلك الجبّ، فقال قتادة: هو بئر بيت القدس. و عن كعب: بئر بين مدين و مصر. و عن وهب: بئر بأرض الأردنّ. و قال مقاتل: بئر على رأس ثلاث فراسخ من منزل يعقوب.

[سورة يوسف (12): الآيات 11 الى 18]

قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ وَ إِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ (11) أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً يَرْتَعْ وَ يَلْعَبْ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (12) قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ وَ أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ وَ أَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ (13) قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ (14) فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَ أَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي

غَيابَتِ الْجُبِّ وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِ لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (15)

وَ جاؤُ أَباهُمْ عِشاءً يَبْكُونَ (16) قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ وَ تَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا وَ لَوْ كُنَّا صادِقِينَ (17) وَ جاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ (18)

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 346

ثمّ بيّن سبحانه أنّهم عند اتّفاق آرائهم فيما تآمروا فيه من أمر يوسف، كيف سألوا أباهم، فقال: قالُوا يا أَبانا ما لَكَ لا تَأْمَنَّا عَلى يُوسُفَ لم تخافنا عليه؟

وَ إِنَّا لَهُ لَناصِحُونَ مخلصون في إرادة الخير له و الشفقة عليه. و في هذا دلالة على أنّه عليه السّلام كان يأبى عليهم أن يرسله معهم، لظهور حسدهم ليوسف عليه، فأرادوا استنزاله عن رأيه و عادته في حفظه منهم، لما تنسّم «1» من حسدهم. و المشهور «تأمنّا» بالإدغام مع الإشمام. و عن نافع ترك الإشمام.

أَرْسِلْهُ مَعَنا غَداً إلى الصحراء يَرْتَعْ نتّسع في أكل الفواكه و نحوها، من الرتعة، و هي الخصب وَ يَلْعَبْ بالاستباق و الانتضال لقتال العدوّ، لا لمجرّد اللهو. و إنّما سمّوه لعبا لأنّه في صورته. و قرأ ابن كثير: نرتع بكسر العين، على أنّه من: ارتعى يرتعي. و نافع بالكسر و الياء فيه و في «نلعب». و قرأ الكوفيّون و يعقوب بالياء و سكون العين، على إسناد الفعل إلى يوسف. وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ أن يناله مكروه.

قالَ إِنِّي لَيَحْزُنُنِي أَنْ تَذْهَبُوا بِهِ لشدّة مفارقته عليّ، و قلّة صبري عنه وَ أَخافُ عليه إن ذهبتم به إلى الصحراء أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ لأنّ الأرض كانت مذأبة. و قيل: لأنّ يعقوب رأى

في منامه كأنّ يوسف قد شدّ عليه عشرة أذؤب ليقتلوه، و إذا ذئب يحمي عنه، و كأنّ الأرض انشقّت فدخل فيها يوسف، فلم يخرج منها إلّا بعد ثلاثة أيّام. و قد همزها على الأصل ابن كثير و نافع في رواية اليزيدي، و أبو عمرو درجا و وقفا، و عاصم و حمزة درجا. و اشتقاقه من: تذاءبت الريح إذا هبّت من كلّ جهة. وَ أَنْتُمْ عَنْهُ غافِلُونَ لاشتغالكم بالرتع و اللّعب، أو لقلّة اهتمامكم بحفظه.

قالُوا لَئِنْ أَكَلَهُ الذِّئْبُ وَ نَحْنُ عُصْبَةٌ اللام موطّئة للقسم، و جوابه:

______________________________

(1) تنسم فلان الخبر: تلطف في التماسه شيئا فشيئا.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 347

إِنَّا إِذاً لَخاسِرُونَ ضعفاء عجزة مغبونون، كالّذين تذهب عنهم رؤوس أموالهم. أو مستحقّون لأن يدعى عليهم بالخسارة و الدمار. و الواو في «و نحن» للحال.

فَلَمَّا ذَهَبُوا بِهِ وَ أَجْمَعُوا أَنْ يَجْعَلُوهُ فِي غَيابَتِ الْجُبِ و عزموا على إلقائه فيها. و جواب «لمّا» محذوف، مثل: فعلوا به ما فعلوا من الأذى.

فقد روي أنّهم لمّا برزوا به إلى البرّيّة أظهروا له العداوة، و أخذوا يؤذونه و يضربونه، و كلّما استغاث بواحد منهم لم يغثه إلّا بالإهانة و الضرب، حتّى كادوا يقتلونه، فجعل يصيح: يا أبتاه لو تعلم ما يصنع بابنك أولاد الإماء. فقال يهوذا: أما أعطيتموني موثقا ألّا تقتلوه؟

فلمّا أرادوا إلقاءه في الجبّ تعلّق بثيابهم، فنزعوها من يديه، فتعلّق بحائط البئر، فربطوا يديه و نزعوا قميصه. فقال: يا إخوتاه ردّوا عليّ قميصي أتوارى به. و إنّما نزعوه ليلطّخوه بالدم، و يحتالوا به على أبيهم. فقالوا له: ادع الشمس و القمر و الأحد عشر كوكبا يلبسوك و يؤنسوك. و دلوه في البئر، فلمّا بلغ نصفها ألقوه ليموت، و كان في البئر ماء

فسقط فيه، ثمّ آوى إلى صخرة، فقام عليها و هو يبكي. فنادوه، فظنّ أنّها رحمة أدركتهم فأجابهم، فأرادوا أن يرضخوه ليقتلوه، فمنعهم يهوذا، و كان يأتيه بالطعام.

و قيل: إنّ الجبّ أضاء له و عذب ماؤه حتّى أغناه عن الطعام و الشراب. و عن مقاتل: كان الماء كدرا فصفا و عذب، و وكّل اللّه به ملكا يحرسه و يطعمه.

و

يروى أنّ إبراهيم صلوات اللّه عليه حين القي في النار جرّد عن ثيابه، فأتاه جبرئيل بقميص من حرير الجنّة فألبسه إيّاه، فدفعه إلى إسحاق، و إسحاق إلى يعقوب، فجعله يعقوب في تميمة «1» علّقها في عنق يوسف، فجاءه جبرئيل فألبسه إيّاه، و هو القميص الّذي وجد يعقوب ريح يوسف فيه.

و أوحى إليه كما قال عزّ

______________________________

(1) التميمة: خرزة أو ما يشبهها كان الأعراب يضعونها على أولادهم للوقاية من العين و دفع الأرواح.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 348

اسمه: وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِ و كان ابن سبع عشرة سنة. و قيل: كان مراهقا أوحي إليه في صغره، كما اوحي إلى يحيى و عيسى عليهم السّلام لَتُنَبِّئَنَّهُمْ بِأَمْرِهِمْ هذا لتحدّثنّهم بما فعلوا بك بعد أن تتخلّص ممّا أنت فيه وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ أنّك يوسف، لعلوّ شأنك، و كبرياء سلطانك، و بعده عن أوهامهم، و طول العهد المغيّر للحلّي و الهيئات. و ذلك إشارة إلى ما قال لهم بمصر حين دخلوا عليه ممتارين- أي: يشترون الغلّة- فعرفهم و هم له منكرون. فبشّره جبرئيل عليه السّلام في البئر بما يئول إليه أمره إيناسا له و تطييبا لقلبه. و قيل: «و هم لا يشعرون» متّصل ب «أوحينا»، أي: آنسناه بالوحي و هم لا يشعرون ذلك.

و

في كتاب النبوّة عن الحسن بن محبوب، عن الحسن بن عمارة، عن

مسمع أبي سيّار، عن الصادق عليه السّلام قال: «لمّا ألقى إخوة يوسف إيّاه في الجبّ نزل عليه جبرئيل فقال له: يا غلام من طرحك؟

فقال: إخوتي، لمنزلتي من أبي حسدوني، و لذلك طرحوني.

فقال: أ تحبّ أن تخرج من هذا الجبّ؟

قال: ذلك إلى إله إبراهيم و إسحاق و يعقوب.

فقال له جبرئيل: فإنّ إله إبراهيم و إسحاق و يعقوب يقول لك قل: اللّهمّ إنّي أسألك بأنّ لك الحمد، لا إله إلّا أنت، بديع السموات و الأرض، يا ذا الجلال و الإكرام، أن تصلّي على محمّد و آل محمّد، و أن تجعل من أمري فرجا و مخرجا، و ترزقني من حيث أحتسب و من حيث لا أحتسب.

فقالها يوسف، فجعل اللّه له من الجبّ يومئذ فرجا، و من كيد المرأة مخرجا، و أتاه ملك مصر من حيث لم يحتسب».

و

روى عليّ بن إبراهيم: «أنّ يوسف عليه السّلام قال في الجبّ: يا إله إبراهيم

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 349

و إسحاق و يعقوب، ارحم ضعفي و قلّة حيلتي و صغري» «1».

وَ جاؤُ أَباهُمْ عِشاءً آخر النهار يَبْكُونَ متباكين ليوهموه أنّهم صادقون. و فيه دلالة على أنّ البكاء لا يوجب صدق دعوى الباكي في دعواه.

روي أنّه لمّا سمع بكاءهم فزع و قال: ما لكم يا بنيّ هل أصابكم في غنمكم؟ قالوا: لا قال: فما لكم و أين يوسف؟

قالُوا يا أَبانا إِنَّا ذَهَبْنا نَسْتَبِقُ نتسابق في العدو أو في الرمي. و قد يشترك الافتعال و التفاعل، كالانتضال و التناضل. وَ تَرَكْنا يُوسُفَ عِنْدَ مَتاعِنا فَأَكَلَهُ الذِّئْبُ وَ ما أَنْتَ بِمُؤْمِنٍ لَنا بمصدّق لنا، لسوء ظنّك بنا، و فرط محبّتك ليوسف وَ لَوْ كُنَّا صادِقِينَ من أهل الصدق و الثقة عندك.

وَ جاؤُ عَلى قَمِيصِهِ بِدَمٍ كَذِبٍ

أي: ذي كذب، بمعنى مكذوب فيه.

و يجوز أن يكون وصفا بالمصدر للمبالغة، كزيد عدل. و «على قميصه» في موضع النصب على الظرف، أي: فوق قميصه، أو على الحال من الدم إن جوّز تقديمها على المجرور.

روي أنّهم ذبحوا سخلة و لطخوا قميصه بدمها، و زلّ عنهم أن يمزّقوه، و لمّا سمع يعقوب بخبر يوسف صاح و سأل قميصه، فأخذه و ألقاه على وجهه و بكى حتّى خضب وجهه بدم القميص، و قال: تاللّه ما رأيت كاليوم ذئبا أحلم من هذا، أكل ابني و لم يمزّق عليه قميصه،

و لذلك قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً أي:

سهّلت لكم أنفسكم، و هوّنت في أعينكم أمرا عظيما، من السول، و هو الاسترخاء.

قيل: إنّه كان في قميص يوسف ثلاث آيات: حين قدّ من دبر، و حين ألقي على وجه أبيه فارتدّ بصيرا، و حين جاءوا عليه بدم كذب. فتنبّه يعقوب على أنّ الذئب لو أكله لخرق قميصه.

______________________________

(1) تفسير عليّ بن إبراهيم 1: 341.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 350

زبدة التفاسير ج 3 399

و قيل: لمّا قال لهم يعقوب ذلك قالوا: بل قتله اللصوص. فقال عليه السّلام: فكيف قتلوه و تركوا قميصه، و هم إلى قميصه أحوج منهم إلى قتله؟! فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أي: فأمري صبر جميل، أو فصبر جميل أجمل أو أحسن أو أمثل أو أولى. و

في الحديث: «الصبر الجميل الّذي لا شكوى فيه إلى الخلق».

وَ اللَّهُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما تَصِفُونَ أي: باللّه أستعين على دفع ما تصفونه، أو على احتمال ما تصفونه من هلاك يوسف.

[سورة يوسف (12): الآيات 19 الى 22]

وَ جاءَتْ سَيَّارَةٌ فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ فَأَدْلى دَلْوَهُ قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ وَ أَسَرُّوهُ بِضاعَةً وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ (19) وَ شَرَوْهُ بِثَمَنٍ بَخْسٍ دَراهِمَ مَعْدُودَةٍ

وَ كانُوا فِيهِ مِنَ الزَّاهِدِينَ (20) وَ قالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ لامْرَأَتِهِ أَكْرِمِي مَثْواهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ وَ اللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (21) وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (22)

ثمّ أخبر سبحانه عن حال يوسف بعد إلقائه في الجبّ، فقال: وَ جاءَتْ سَيَّارَةٌ رفقة يسيرون من مدين إلى مصر، فنزلوا قريبا من الجبّ، و كان ذلك بعد ثلاثة أيّام من إلقائه فيه، فأخطأوا الطريق فنزلوا قريبا منه، و كان الجبّ في قفره بعيدة من العمران، و إنّما هو للرعاة، و كان ماؤه ملحا فعذب فَأَرْسَلُوا وارِدَهُمْ

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 351

الّذي يرد الماء و يستقي لهم. و كان هو مالك بن ذعر الخزاعي. فَأَدْلى دَلْوَهُ فأرسلها في الجبّ ليملأها، فتدلّى يوسف بالحبل، فلمّا خرج إذا هو بغلام أحسن ما يكون من الغلمان قالَ يا بُشْرى هذا غُلامٌ نادى: البشرى، بشارة لنفسه أو لقومه، كأنّه قال للبشارة: تعالي فهذا أوانك. و قيل: هو اسم لصاحب له ناداه ليعينه على إخراجه. و قرأ غير الكوفيّين: يا بشراي بالإضافة.

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أعطي يوسف شطر الحسن، و النصف الآخر لسائر الناس».

و قال كعب الأحبار: كان يوسف حسن الوجه جدّا، جعد الشعر، ضخم العينين، مستوي الخلق، أبيض اللون، غليظ الساقين و العضدين، خميص البطن، صغير السرّة. و كان إذا تبسّم رأيت النور في ضواحكه، و إذا تكلّم رأيت في كلامه شعاع النور يلتهب عن ثناياه. و كان حسنه كضوء النهار عند الليل. كان يشبه خلق آدم عليه

السّلام يوم خلقه اللّه عزّ و جلّ و صوّره و نفخ فيه من روحه قبل أن يصيب المعصية.

و يقال: إنّه ورث ذلك الجمال من جدّته سارة، و كانت قد أعطيت سدس الحسن.

فلمّا رآه المدلي وَ أَسَرُّوهُ أي: الوارد و أصحابه من سائر الرفقة. و قيل:

أخفوا أمره، و قالوا لهم: دفعه إلينا أهل الماء لنبيعه لهم بمصر. و عن ابن عبّاس:

الضمير لإخوة يوسف، و ذلك أنّ يهوذا كان يأتيه كلّ يوم بالطعام، فأتاه يومئذ فلم يجده فيها، فأخبر إخوته فأتوا الرفقة و أسرّوه، أي: كتموا أنّه أخوهم، فقالوا: هذا غلامنا أبق منّا، فاشتروه من إخوته، و سكت يوسف مخافة أن يقتلوه.

بِضاعَةً نصب على الحال، أي: أخفوه متاعا للتجارة. و اشتقاقه من البضع، بمعنى القطع، فإنّه ما بضع من المال للتجارة. وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَعْمَلُونَ بما يصنعون، لم يخف عليه أسرارهم، أو صنيع إخوة يوسف بأبيهم و أخيهم.

وَ شَرَوْهُ أي: باعوه، أو اشتروه من إخوته. و في مرجع الضمير الوجهان.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 352

بِثَمَنٍ بَخْسٍ مبخوس، لزيفه أو نقصانه نقصانا ظاهرا دَراهِمَ بدل من الثمن مَعْدُودَةٍ قليلة، فإنّهم كانوا يزنون ما بلغ الاوقية، و يعدّون ما دونها. قيل: كان عشرين درهما. و قيل: اثنين و عشرين. و قيل: عشرة. فاقتسموها درهمين درهمين.

وَ كانُوا فِيهِ في يوسف مِنَ الزَّاهِدِينَ الراغبين عنه. و الضمير في «و كانوا» إن كان للإخوة فظاهر. و إن كان للرفقة و كانوا بائعين من العزيز، فزهدهم فيه لأنّهم التقطوه و الملتقط للشي ء متهاون به، خائف من انتزاعه، مستعجل في بيعه و إن كانوا مبتاعين من الإخوة، فلأنّهم اعتقدوا أنّه آبق. و «فيه» متعلّق بالزاهدين إن جعل اللام للتعريف. و إن جعل بمعنى «الّذي»

فهو متعلّق بمحذوف يبيّنه «الزاهدين»، لأنّ متعلّق الصلة لا يتقدّم على الموصول.

وَ قالَ الَّذِي اشْتَراهُ مِنْ مِصْرَ و هو العزيز الّذي كان على خزائن مصر.

و اسمه قطفير أو اطفير، و العزيز لقبه، و من كان بمكانه يسمّى بالعزيز، لعزّته عند الناس، و لهذا لمّا عبّر يوسف رؤيا الملك سمّي العزيز و جعل مكان العزيز. و كان الملك يومئذ ريّان بن الوليد العمليقي، و قد آمن بيوسف حين شاهد منه المعجزات، و مات في حياته.

و قيل: كان فرعون موسى، عاش أربعمائة سنة، و كان إلى زمن موسى، بدليل قوله تعالى: وَ لَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ «1».

و المشهور أنّ فرعون موسى من أولاد فرعون يوسف، و الآية من قبيل خطاب الأولاد بأحوال الآباء.

روي أنّه اشتراه العزيز و هو ابن سبع عشر سنة، و لبث في منزله ثلاث عشرة سنة، و استوزره الريّان و هو ابن ثلاثين سنة، و آتاه العلم و الحكمة و هو ابن ثلاث و ثلاثين سنة، و توفّى و هو ابن مائة و عشرين سنة.

______________________________

(1) غافر: 34.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 353

و اختلف فيما اشتراه به من جعل شراءه غير الأوّل، فقيل: عشرون دينارا، و زوجا نعل، و ثوبان أبيضان. و قيل: وزنه فضّة. و قيل: ذهبا. و قيل: أدخلوه السوق يعرضونه، فترافعوا في ثمنه، حتى بلغ ثمنه وزنه مسكا و ورقا و حريرا، فابتاعه قطفير بذلك المبلغ.

لِامْرَأَتِهِ راعيل، و لقبها زليخا. و هي المشهورة. أَكْرِمِي مَثْواهُ اجعلي مقامه عندنا كريما، أي: حسنا مرضيّا. و المعنى: أحسني تعهّده حتّى تكون نفسه طيّبة في صحبتنا، ساكنة في كنفنا. روي: أنّه سأله عن نفسه فأخبره بنسبه، فعرفه و أمر زوجته بإكرامها له. عَسى أَنْ يَنْفَعَنا

في ضياعنا و أموالنا، و نستظهر به في مصالحنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً نتبنّاه، و كان عقيما، لما تفرّس فيه من الرشد.

وَ كَذلِكَ أي: و كما مكّنّا محبّة يوسف في قلب العزيز، أو كما مكّنّاه في منزله، أو كما أنجيناه و عطفنا عليه العزيز مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ جعلناه ملكا يتصرّف فيها بأمره و نهيه وَ لِنُعَلِّمَهُ مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ عطف على مضمر، تقديره: ليتصرّف فيها بالعدل و لنعلّمه، أي: كان القصد في إنجائه و تمكينه إلى أن يقيم العدل، و يدبّر أمور الناس، و يعلّم كتاب اللّه و أحكامه فينفذها، أو يعبّر المنامات المنبّهة على الحوادث الكائنة ليستعدّ لها و يشتغل بتدبيرها قبل أن تحلّ، كما فعله لسنوات القحط.

وَ اللَّهُ غالِبٌ عَلى أَمْرِهِ لا يردّه شي ء، و لا ينازعه فيما يشاء. أو على أمر يوسف، يعني: إخوة يوسف أرادوا به شيئا، و أراد اللّه تعالى غيره، فلم يكن إلّا ما أراده و دبّره. وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أنّ الأمر كلّه بيده، أو لطائف صنعه و خفايا لطفه.

وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ منتهى اشتداد جسمه و قوّته، و هو سنّ الوقوف ما بين الثلاثين و الأربعين. و قيل: سنّ الشباب، و مبدؤه بلوغ الحلم. و قيل: الأشدّ ثماني

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 354

عشرة سنة، و عشرون، و ثلاث و ثلاثون، و أربعون. و قيل: أقصاه ثنتان و ستّون.

آتَيْناهُ حُكْماً حكمة، و هو العلم المؤيّد بالعمل. أو حكما بين الناس، أو النبوّة.

وَ عِلْماً يعني: علم تأويل الأحاديث، أو علم الشريعة وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ تنبيه على أنّه تعالى إنّما آتاه ذلك جزاء على إحسانه في عمله، و اتّقائه في عنفوان أمره. و عن الحسن: من أحسن

عبادة ربّه في شيبته، آتاه اللّه الحكمة في اكتهاله.

[سورة يوسف (12): الآيات 23 الى 25]

وَ راوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ وَ غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ وَ قالَتْ هَيْتَ لَكَ قالَ مَعاذَ اللَّهِ إِنَّهُ رَبِّي أَحْسَنَ مَثْوايَ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (23) وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ (24) وَ اسْتَبَقَا الْبابَ وَ قَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ وَ أَلْفَيا سَيِّدَها لَدَى الْبابِ قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلاَّ أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ (25)

ثمّ أخبر سبحانه عن امرأة العزيز و ما همّت به، فقال: وَ راوَدَتْهُ الَّتِي هُوَ فِي بَيْتِها عَنْ نَفْسِهِ طلبت منه و تمحّلت «1» أن يواقعها، من: راد يرود إذا جاء و ذهب لطلب شي ء، و منه: الرائد. كأنّ المعنى: خادعته عن نفسه، أي: فعلت ما يفعل المخادع لصاحبه عن الشي ء الّذي لا يريد أن يخرجه من يده، يحتال أن يغلبه عليه

______________________________

(1) تمحّل الشي ء: احتال في طلبه.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 355

و يأخذه منه، و هي ها هنا عبارة عن التمحّل لمواقعته إيّاها. و هذا الكلام أبلغ من:

راودته امرأة العزيز أو زليخا، لاستهجان ذكر المرأة في المراودة.

وَ غَلَّقَتِ الْأَبْوابَ قيل: كانت سبعة. و التشديد للتكثير، أو للمبالغة في إيثاقها. وَ قالَتْ هَيْتَ لَكَ أي: أقبل و بادر، أو تهيّأت. و «هيت» على الوجهين اسم فعل بني على الفتح، ك: أين. و اللام للتبيين، كالّتي في: سقيا لك، كأنّه قال يوسف:

لمن تهيّأت؟ فقالت: لك. و كذا في: سقيا.

و قرأ ابن كثير بضمّ التاء و فتح الهاء، تشبيها له ب «حيث». و نافع و ابن عامر برواية ابن ذكوان بفتح التاء

و كسر الهاء من غير همز، ك: عيط صوت يصاح به الغنم.

و هي لغة فيه. و هشام كذلك، إلّا أنّه يهمز. و قد روي عنه ضمّ التاء.

قالَ مَعاذَ اللَّهِ أعوذ باللّه معاذا إِنَّهُ إنّ الشّأن رَبِّي سيّدي قطفير أَحْسَنَ مَثْوايَ أحسن تعهّدي، إذ قال لك فيّ: أكرمي مثواه، فليس جزاؤه أن أخونه في أهله. و قيل: الضمير للّه تعالى، أي: أنّه خالقي و أحسن منزلتي، بأن عطف عليّ قلب قطفير، فلا أعصيه. إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ أي: المجازون الحسن بالسيّ ء. و قيل: الزناة.

و في هذه دلالة على أنّ يوسف لم يهمّ بالفاحشة و لم يردها بقبيح، لأنّ من همّ بالقبيح لا يقول مثل ذلك. فقوله: وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ معناه: قصدت مخالطته قصدا اختياريّا، فإنّ الهمّ بالشي ء قصده و العزم عليه، و منه الهمّام الّذي إذا همّ بشي ء أمضاه. وَ هَمَّ بِها و مال إلى مخالطتها ميلا طبيعيّا بشريّا غير اختياريّ، مع المنازعة إليها عن شهوة الشباب الّتي هي تحت القدرة و الاختيار.

فالمراد بهمّه إيّاها ميل الطبع البشري مع الامتناع عنه، لا القصد الاختياري و العزم على الفعل الّذي هو ممّا يدخل تحت التكليف. و الحقيق بالمدح الجميل و الأجر الجزيل من اللّه الجليل من يكفّ نفسه عن الفعل عند قيام هذا الهمّ، و لو لم

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 356

يكن ذلك الميل الشديد- المسمّى همّا لشدّته- لما كان صاحبه ممدوحا عند اللّه بالامتناع عنه، لأنّ استعظام الصبر على الابتلاء على حسب عظم الابتلاء و شدّته.

و لو كان همّه كهمّها عن عزيمة اختياريّة، لما مدحه اللّه بأنّه من عباده الصالحين.

أو المراد بهمّه مشارفة الهمّ، كقولك: قتلته لو لم أخف اللّه تعالى، تريد مشارفة القتل. أو

من قبيل: هممت بفلان، أي: بضربه و إيقاع المكروه به. و من حقّ القارئ أن يقف على «وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ» و يبتدئ قوله «وَ هَمَّ بِها»، لاختلاف معنى الهمّين.

و لا يخفى على من له أدنى مسكة لو وجدت من يوسف عليه السّلام أدنى زلّة لنعيت عليه، و ذكرت توبته و استغفاره، كما نعيت على آدم عليه السّلام زلّته، و هي ترك الأولى، و كذا على داود، و على نوح و على أيّوب و على ذي النون، و ذكرت توبتهم و استغفارهم. كيف و قد أثني عليه و سمّي مخلصا؟! فعلم بالقطع أنّه ثبت في هذا المقام الدّحض «1»، و هو أنّه جاهد نفسه مجاهدة أولي القوّة و العزم، ناظرا في دليل التحريم و وجه القبح، حتى استحقّ من اللّه الثناء فيما أنزل من كتب الأوّلين، ثمّ في القرآن الّذي هو حجّة على سائر كتبه و مصداق لها، و لم يقتصر إلّا على استيفاء قصّته و ضرب سورة كاملة عليها، ليجعل له لسان صدق في الآخرين، كما جعله لجدّه الخليل إبراهيم عليه السّلام، و ليقتدي به الصالحون إلى آخر الدهر في العفّة و طيب الإزار.

لَوْ لا أَنْ رَأى بُرْهانَ رَبِّهِ في قبح الزنا و سوء عاقبته لخالطها، لشبق «2» الغلمة و كثرة المبالغة منها. و لا يجوز أن يجعل «و همّ بها» جواب «لولا»، فإنّها في حكم أدوات الشرط، فلا يتقدّم عليها جوابها، بل الجواب محذوف يدلّ عليه قوله:

______________________________

(1) المكان الدحض: إذا كان مزلّة لا تثبت عليها الأقدام.

(2) أي: اشتداد الشهوة.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 357

«و همّ بها» كما عرفت.

كَذلِكَ الكاف في محلّ النصب، أي: مثل ذلك التثبيت ثبّتناه، أو في محلّ الرفع، أي: الأمر مثل

ذلك لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ خيانة السيّد وَ الْفَحْشاءَ الزنا إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ الّذين أخلصهم اللّه تعالى لطاعته. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و ابن عامر و يعقوب بالكسر في كلّ القرآن إذا كان محلّى باللام، أي: الّذين أخلصوا دينهم للّه تعالى.

فأخزى اللّه الحشويّة و الجبريّة حيث أوردوا هذه القصّة على وجه يؤدّي إلى أنّ يوسف صلوات اللّه عليه عزم على ارتكاب الزنا الّذي هو أقبح القبائح و أفحش الفواحش، فقالوا: إنّه حلّ تكّة سراويله، و جلس من زليخا مجلس المجامع، و قعد بين شعبها الأربع و هي مستلقية على قفاها. و فسّروا البرهان بأنّه سمع صوتا: إيّاك و إيّاها، فلم يكترث، فسمعه ثانيا فلم يعمل به، فسمع ثالثا: أعرض عنها، فلم ينجع فيه، حتّى مثّل له يعقوب عاضّا على أنملته، و ضرب بيده في صدره، فخرجت شهوته من أنامله.

و قالوا: كلّ ولد يعقوب له اثنا عشر ولدا إلّا يوسف، فإنّه ولد له أحد عشر ولدا، من أجل ما نقص من شهوته حين همّ.

و قالوا صيح بيوسف: لا تكن كالطائر كان له ريش فلمّا زنى قعد لا ريش له.

و قالوا: بدت كفّ فيما بينهما ليس لها عضد و لا معصم، مكتوب فيها: وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ كِراماً كاتِبِينَ «1» فلم ينصرف. ثمّ رأى فيها: وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلًا «2» فلم ينتبه. ثمّ رأى فيها:

______________________________

(1) الانفطار: 10- 11.

(2) الإسراء: 32.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 358

وَ اتَّقُوا يَوْماً تُرْجَعُونَ فِيهِ إِلَى اللَّهِ «1» فلم ينجع فيه. فقال اللّه لجبرئيل: أدرك عبدي قبل أن يصيب الخطيئة.

فانحطّ جبرئيل و هو يقول: يا يوسف أ تعمل عمل السفهاء و أنت مكتوب في ديوان

الأنبياء؟! و قالوا: رأى تمثال العزيز.

و غير ذلك من الأقاويل الباطلة و تقوّلاتهم الحشويّة. فيا له من مذهب ما أفحشه! و من ضلال ما أبينه! الّذي يتضمّن الجبر و القسر الّذي يرتفع معه الاختيار الّذي هو مناط التكليف، و يقتضي أن لا يستحقّ على الامتناع من القبيح مدحا و لا ثوابا. فلعنة اللّه عليهم، و على من يعتقد معتقدهم، حتى قال قائل من قبلهم: إنّ قوله: «وَ لَقَدْ هَمَّتْ بِهِ وَ هَمَّ بِها» خرجا مخرجا واحدا، فلم جعلتم همّها به متعلّقا بالقبيح، و همّه بها متعلّقا بغيره؟

قلنا: إنّ من الظاهر أنّ الظاهر لا يكون دليلا و حجّة إذا عارضه الدليل العقلي و النقلي. أمّا النقلي على أنّه ما همّ بالفاحشة فقوله: كَذلِكَ لِنَصْرِفَ عَنْهُ السُّوءَ وَ الْفَحْشاءَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُخْلَصِينَ و قوله: ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ «2»، و قوله: قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ «3». و لا شبهة في أن العزم على الفاحشة من السوء. و أمّا العقلي فلأنّه عليه السّلام نبيّ، و النبيّ لا بدّ أن يكون معصوما من جميع الصغائر و الكبائر، و القبائح و الفواحش، كما قرّر في الكتب الكلاميّة بأوضح وجه.

وَ اسْتَبَقَا الْبابَ أي: تسابقا إلى الباب. فحذف الجارّ، أو ضمّن الفعل معنى الابتدار، فلا يحتاج إلى تقدير صلة. و ذلك أنّ يوسف عليه السّلام فرّ منها ليخرج و يتخلّص

______________________________

(1) البقرة: 281.

(2) يوسف: 52.

(3) يوسف: 51.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 359

منها، و أسرعت وراءه لتمنعه الخروج. روي عن كعب أنّه لمّا هرب يوسف جعل فراش «1» القفل يتناثر و يسقط حتى خرج من الباب.

وَ قَدَّتْ قَمِيصَهُ مِنْ دُبُرٍ اجتذبته من ورائه فانقدّ قميصه. و القدّ

الشقّ طولا، و القطّ الشقّ عرضا. وَ أَلْفَيا سَيِّدَها و صادفا زوجها لَدَى الْبابِ عنده. و تسمية الزوج بالسيّد لأنّه مالك أمرها، أو لأنّ المرأة تقول لبعلها: سيّدي. و قيل: إنّما لم يقل سيّدهما لأنّ ملك يوسف لم يصحّ، فلم يكن سيّدا له على الحقيقة.

قالَتْ ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً إِلَّا أَنْ يُسْجَنَ أَوْ عَذابٌ أَلِيمٌ إيهاما بأنّها فرّت منه، تبرئة لساحتها عند زوجها، و تغييره على يوسف، و إغراءه به انتقاما منه.

و «ما» نافية أو استفهاميّة، بمعنى: أيّ شي ء جزاؤه إلّا السجن؟ كما تقول: من في الدار إلّا زيد؟ و قيل: العذاب الأليم الضرب بالسياط ضربا وجيعا.

[سورة يوسف (12): الآيات 26 الى 29]

قالَ هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَ هُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ (26) وَ إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَ هُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ (27) فَلَمَّا رَأى قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ قالَ إِنَّهُ مِنْ كَيْدِكُنَّ إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ (28) يُوسُفُ أَعْرِضْ عَنْ هذا وَ اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ (29)

و لمّا عرّضته له من السجن أو العذاب، و أغرته به، و وجب عليه دفع هذا

______________________________

(1) فراش القفل: ما ينشب و يدخل فيه، سمّي بذلك لرقّته.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 360

الضرر عن نفسه قالَ لدفعه هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي طالبتني بالمؤاتاة وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها قيل: ابن عمّها، و كان حكيما يرجع إليه الملك و يستشيره، و هو جالس مع زوجها عند الباب. و قيل: ابن خالها صبيّا في المهد. و هذا أصحّ.

و يؤيّده ما

روي عن النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «تكلّم أربعة صغارا: ابن ماشطة فرعون، و شاهد يوسف، و صاحب جريج،

و عيسى».

و إنّما ألقى اللّه الشهادة على لسان أهلها لتكون ألزم عليها حجّة، و أوثق دليلا، و أنفى للتهمة عنه.

إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ قُبُلٍ فَصَدَقَتْ وَ هُوَ مِنَ الْكاذِبِينَ لأنّه يدلّ على أنّها قدّت قميصه من قدّامه بالدفع عن نفسها، أو أنّه أسرع خلفها فتعثّر بذيله فانقدّ جيبه.

وَ إِنْ كانَ قَمِيصُهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ فَكَذَبَتْ وَ هُوَ مِنَ الصَّادِقِينَ لأنّه يدلّ على أنّها تبعته فاجتذبت ثوبه فقدّته. و الشرطيّة محكيّة على إرادة القول، أو على أنّ فعل الشهادة من القول، كأنّه قيل: و شهد شاهد فقال: إن كان قميصه. و تسميتها شهادة و إن لم يكن بلفظ الشهادة، و لم يكن مرئيّا، لأنّها أدّت مؤدّاها. و الشّرط و إن كان ماضيا و لكنّه في تأويل المضارع، و هو: إن يعلم أنّه كان. فجاز الجمع بين «إن» الّذي هو للاستقبال و بين «كان». و نظيره قولك: إن أحسنت إليّ فقد أحسنت إليك من قبل، أي: و إن تمنن عليّ بإحسانك امنن عليك بإحساني السابق.

فَلَمَّا رَأى قطفير قَمِيصَهُ قُدَّ مِنْ دُبُرٍ و به علم براءة يوسف و صدقه و كذبها قالَ إِنَّهُ إن قولك: «ما جَزاءُ مَنْ أَرادَ بِأَهْلِكَ سُوءاً»، أو إنّ السّوء، أو إنّ هذا الأمر مِنْ كَيْدِكُنَ من حيلتكنّ. و الخطاب لها و لأمثالها، أو لسائر النساء.

إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ استعظم كيد النساء و إن كان في الرجال، لأنّ كيدهنّ أعلق بالقلب، و ألطف به، و أشدّ تأثيرا في أنفس الرجال، فإنّ قليل حيل النساء أسبق إلى

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 361

قلوب الرجال من كثير حيل الرجال، و لأنهنّ يواجهن به الرجال، و الشيطان يوسوس به مسارقة، و منه قوله تعالى: وَ مِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ

فِي الْعُقَدِ «1». و عن بعض العلماء: أنا أخاف من النساء أكثر من أن أخاف من الشيطان، لأنّ اللّه تعالى يقول: إِنَّ كَيْدَ الشَّيْطانِ كانَ ضَعِيفاً «2»، و قال للنساء: «إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ».

يُوسُفُ حذف منه حرف النداء، لقربه و تفطّنه للحديث أَعْرِضْ عَنْ هذا اكتمه و لا تحدّث به وَ اسْتَغْفِرِي لِذَنْبِكِ يا راعيل إِنَّكِ كُنْتِ مِنَ الْخاطِئِينَ من القوم المتعمّدين الذنب. يقال: خطئ إذا أذنب متعمّدا. و التذكير للتغليب.

قيل: إنّ قطفيرا لم يكن غيورا، سلبه اللّه الغيرة لطفا منه بيوسف، حتّى كفى شرّه، و لذلك قال ليوسف: «أَعْرِضْ عَنْ هذا» و اقتصر على هذا القدر.

[سورة يوسف (12): الآيات 30 الى 35]

وَ قالَ نِسْوَةٌ فِي الْمَدِينَةِ امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ قَدْ شَغَفَها حُبًّا إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (30) فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَّ أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَّ وَ أَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً وَ آتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً وَ قالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ وَ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلاَّ مَلَكٌ كَرِيمٌ (31) قالَتْ فَذلِكُنَّ الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ وَ لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ لَيُسْجَنَنَّ وَ لَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ (32) قالَ رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ وَ إِلاَّ تَصْرِفْ عَنِّي كَيْدَهُنَّ أَصْبُ إِلَيْهِنَّ وَ أَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ (33) فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَّ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (34)

ثُمَّ بَدا لَهُمْ مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ (35)

______________________________

(1) الفلق: 4.

(2) النساء: 76.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 362

ثمّ ذكر سبحانه شياع هذه القصّة، فقال: وَ قالَ نِسْوَةٌ هي اسم لجمع امرأة لا جمع، من قبيل القوم و الرهط للرجال. و تأنيثه بهذا الاعتبار غير حقيقيّ، و

لذلك جرّد فعله عن التاء. فِي الْمَدِينَةِ ظرف ل «قال»، أي: أشعن الحكاية في مصر. أو صفة ل «نسوة» أي: نسوة كائنة في المدينة. و كنّ خمسا: زوجة الحاجب، و الساقي، و الخبّاز، و السجّان، و صاحب الدوابّ، أي: رائضها «1».

امْرَأَتُ الْعَزِيزِ تُراوِدُ فَتاها عَنْ نَفْسِهِ تطلب مواقعة غلامها إيّاها. يقال:

فتاي و فتاتي، أي: غلامي و جاريتي. و العزيز بلسان العرب الملك. و أصل فتى فتي، لقولهم: فتيان. و الفتوّة شاذّة. قَدْ شَغَفَها حُبًّا شقّ شغاف قلبها- و هو حجابه- حتّى وصل إلى فؤادها حبّا. و نصبه على التمييز، لصرف الفعل عن يوسف، و يعلم أنّ الحبّ شغفها، إذ التمييز في الأصل فاعل. إِنَّا لَنَراها فِي ضَلالٍ مُبِينٍ في ضلال عن الرشد، و بعد عن الصواب.

فَلَمَّا سَمِعَتْ بِمَكْرِهِنَ باغتيابهنّ، و هو قولهنّ: امرأة العزيز عشقت عبدها الكنعاني. و إنّما سمّاه مكرا لأنّهنّ أخفينه، كما يخفي الماكر مكره. أو قلن ذلك لتريهنّ يوسف. أو لأنّها استكتمتهنّ سرّها، فأفشينه عليها. أَرْسَلَتْ إِلَيْهِنَ

______________________________

(1) الرائض: الذي يعلّم الدوابّ السير و يذلّلها و يطوّعها.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 363

تدعوهنّ لاستضافتهنّ. قيل: دعت أربعين امرأة فيهنّ الخمس المذكورات.

وَ أَعْتَدَتْ لَهُنَّ مُتَّكَأً ما يتّكئن عليه من الوسائد وَ آتَتْ كُلَّ واحِدَةٍ مِنْهُنَّ سِكِّيناً حتّى يتّكئن و السكاكين بأيديهنّ، ليقطعن به الأترج «1» و غيره من الفواكه، كما هو العادة بين الناس.

و قيل: «متّكئا» يعني: طعاما أو مجلس طعام، لأنّهم كانوا يتّكئون للطعام و الشراب ترفا و استراحة، كعادة المترفين، و لذلك نهي أن يأكل الرجل متّكئا.

و قيل: المتّكأ طعام يحزّ حزّا، كأنّ القاطع يتّكئ عليه بالسّكين.

وَ قالَتِ اخْرُجْ عَلَيْهِنَّ فَلَمَّا رَأَيْنَهُ أَكْبَرْنَهُ عظّمنه، و هبن حسنه الفائق، و جماله الرائق. و

عن النبيّ

صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «رأيت يوسف في السماء الثانية ليلة المعراج كالقمر ليلة البدر».

و قيل: كان يرى تلألؤ وجهه على الجدران، كما يرى نور الشمس من الماء عليها. و قيل: ما كان أحد يستطيع وصف يوسف، فيبهتن و يشغلن عن نفوسهنّ، فتقع أيديهنّ على أيديهنّ، لزوال اقتدارهنّ، و ذهاب عقولهنّ.

و قيل: أكبرن بمعنى: حضن، من: أكبرت المرأة إذا حاضت، لأنّها بالحيض تخرج من حدّ الصغر إلى حدّ الكبر. و الهاء ضمير مصدر: أكبرن، أو ليوسف على حذف اللام، أي: حضن له من شدّة الشبق، كما قيل: المرأة إذا اشتدّت غلمتها حاضت، أي: كلّما رأين حسنه الفائق حضن لشدّة الشبق.

وَ قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ جرحنها بالسكاكين من فرط الدهشة وَ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ تنزيها له من صفات العجز، و تعجّبا من قدرته على خلق مثله. و أصله: حاشا، كما قرأه أبو عمرو في الدرج لا في الوقف، فحذفت ألفه الأخيرة تخفيفا. و هو حرف يفيد معنى التنزيه في باب الاستثناء، تقول: أساء القوم حاشا زيد، فوضع موضع التنزيه. و اللام للبيان، كما في قولك: سقيا لك. فمعنى حاشا للّه: براءة اللّه و تنزيهه

______________________________

(1) الأترج: واحدته الاترجّة، شجر من جنس الليمون.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 364

عن صفات العجز، و التعجّب من قدرته على خلق مثله في فرط الحسن و غاية الجمال.

و قيل: «حاشا» فعل من الحشا الّذي هو الناحية، و فاعله ضمير يوسف، أي:

صار في ناحية بعيدة للّه تعالى ممّا يتوهّم فيه من عجزه عن خلق جميل مثله. و أمّا قوله: حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ «1» فتعجّب من قدرته على خلق عفيف مثله.

ما هذا بَشَراً لأنّ هذا الجمال غير معهود للبشر. و هو

على لغة الحجاز في إعمال «ما» عمل «ليس»، لمشاركتهما في نفي الحال. إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ فإنّ الجمع بين الجمال الرائق و الكمال الفائق و العصمة البالغة من خواصّ الملائكة. أو لأنّ جماله فوق جمال البشر، و لا يفوقه فيه إلّا الملك، لما هو مركوز في الطباع أنّه لا أحسن من الملك، كما ركز فيها أن لا أقبح من الشيطان، و لذلك يشبّه كلّ متناه في الحسن و القبح بهما.

قالَتْ فَذلِكُنَ أي: فهو ذلك العبد الكنعاني الَّذِي لُمْتُنَّنِي فِيهِ في الافتتان به قبل أن تتصوّرنه حقّ تصوّره، و لو تصوّرتنّه بما عاينتنّ لعذرتنّني. أو فهذا هو الّذي لمتنّني فيه، فوضع «ذلك» موضع «هذا» رفعا لمنزلة المشار إليه.

وَ لَقَدْ راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ فَاسْتَعْصَمَ فامتنع أشدّ امتناع، و اجتهد في الاستزادة من العصمة طالبا لها. و نحوه: استمسك. أقرّت لهنّ حين عرفت أنّهنّ يعذرنها، كي يعاونّها على إلانة عريكته. و هذا برهان قويّ على أنّ يوسف بري ء ممّا أضاف إليه الحشويّة من همّ المعصية.

وَ لَئِنْ لَمْ يَفْعَلْ ما آمُرُهُ أي: ما آمر به، فحذف الجارّ. أو أمري إيّاه، بمعنى: موجب أمري، فيكون الضمير ليوسف عليه السّلام. لَيُسْجَنَنَ ليحبسنّ في

______________________________

(1) يوسف: 51.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 365

السجن وَ لَيَكُوناً مِنَ الصَّاغِرِينَ الأذلّاء. و هو من: صغر بالكسر يصغر صغرا و صغارا. و الصغير من: صغر بالضمّ صغرا.

فلمّا رأى يوسف إصرارها على ذلك و تهديدها له اختار السجن على المعصية قالَ رَبِّ السِّجْنُ قرأ يعقوب بفتح السين على المصدر أَحَبُّ إِلَيَّ مِمَّا يَدْعُونَنِي إِلَيْهِ أي: أخفّ عليّ و أسهل من مواتاتها زنا، نظرا إلى العاقبة، و إن كان هذا ممّا تشتهيه النفس، و ذلك ممّا تكرهه. و إسناد

الدعوة إليهنّ جميعا لأنّهن خوّفنه من مخالفتها، و زيّنّ له مطاوعتها، و قلن له: أطع مولاتك، فإنّها مظلومة و أنت تظلمها. أو دعونه إلى أنفسهنّ، لما روى أبو حمزة عن عليّ بن الحسين عليه السّلام:

«أنّ النسوة لمّا خرجن من عنده أرسلت كلّ واحدة منهنّ إلى يوسف- سرّا من صاحبته- تسأله الزيارة».

و قيل: إنّما ابتلي بالسجن لقوله: «رَبِّ السِّجْنُ أَحَبُّ إِلَيَّ»، و إنّما كان الأولى به أن يسأل اللّه تعالى العافية، و لذلك ردّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على من كان يسأل الصبر.

وَ إِلَّا تَصْرِفْ عَنِّي و إن لم تصرف عنّي كَيْدَهُنَ في تحبيب ذلك إليّ و تحسينه عندي بالتثبيت على العصمة. فزع منه إلى ألطاف اللّه و عصمته، كعادة الأنبياء و الصالحين فيما عزموا عليه و وطّنوا عليه أنفسهم، أَصْبُ إِلَيْهِنَ أمل إلى جانبهنّ، أو إلى أنفسهنّ، بطبعي و مقتضى شهوتي. و الصبوة الميل إلى الهوى. و منه الصبا، لأنّ النفوس تستطيبها و تميل إليها. وَ أَكُنْ مِنَ الْجاهِلِينَ من السفهاء بارتكاب ما يدعونني إليه، فإنّ الحكيم لا يفعل القبيح. أو من الّذين لا يعملون بما يعلمون، فإنّهم و الجهّال سواء.

فَاسْتَجابَ لَهُ رَبُّهُ فأجاب اللّه دعاءه الّذي تضمّنه قوله: «وَ إِلَّا تَصْرِفْ»، لأنّ فيه معنى طلب الصرف و الدعاء باللطف فَصَرَفَ عَنْهُ كَيْدَهُنَ فثبّته بالعصمة حتّى وطّن نفسه على مشقّة السجن، و آثرها على اللذّة المتضمّنة للعصيان إِنَّهُ هُوَ

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 366

السَّمِيعُ لدعاء الملتجئين إليه الْعَلِيمُ بأحوالهم و ما يصلحهم.

ثُمَّ بَدا لَهُمْ ثمّ ظهر للعزيز و أهله مِنْ بَعْدِ ما رَأَوُا الْآياتِ الشواهد الدالّة على براءة يوسف، كشهادة الصبيّ، و قدّ القميص، و قطع النساء أيديهنّ، و استعصامه عنهنّ.

و فاعل «بدا» مضمر، و هو: رأي، يفسّره قوله: لَيَسْجُنُنَّهُ حَتَّى حِينٍ و ذلك لأنّ راعيل خدعت زوجها، و حملته على سجنه زمانا حتّى تبصر ما ترصّدت منه، أو يحسب الناس أنّه المجرم، فلبث في السجن سبع سنين.

[سورة يوسف (12): الآيات 36 الى 42]

وَ دَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ قالَ أَحَدُهُما إِنِّي أَرانِي أَعْصِرُ خَمْراً وَ قالَ الْآخَرُ إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (36) قالَ لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلاَّ نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما ذلِكُما مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (37) وَ اتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ ما كانَ لَنا أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ ذلِكَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا وَ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (38) يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (39) ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلاَّ أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ أَمَرَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (40)

يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما فَيَسْقِي رَبَّهُ خَمْراً وَ أَمَّا الْآخَرُ فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ (41) وَ قالَ لِلَّذِي ظَنَّ أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فَلَبِثَ فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ (42)

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 367

ثمّ أخبر سبحانه عن حال يوسف في السجن، فقال: وَ دَخَلَ مَعَهُ السِّجْنَ فَتَيانِ أي: اتّفق أن أدخل مع يوسف السجن حينئذ آخران من عبيد الملك، فإنّ «مع» يدلّ على معنى الصحبة، فيجب أن يكون دخولهما

السجن مصاحبين له.

و هما شرابيّه و خبّازه، للاتّهام بأنّهما يريدان أن يسمّاه. قالَ أَحَدُهُما يعني:

الشرابي إِنِّي أَرانِي أي: في المنام. و هي حكاية حال ماضية. أَعْصِرُ خَمْراً أي: عنبا. و سمّاه بما يئول إليه، كما يقال: فلان يطبخ الدبس و الآجرّ، و إنّما يطبخ العصير و اللبن. وَ قالَ الْآخَرُ أي: الخبّاز إِنِّي أَرانِي أَحْمِلُ فَوْقَ رَأْسِي خُبْزاً تَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْهُ تنهش «1» منه.

عن الشعبي أنّهما تحالما له ليمتحناه، فقال الشرابي: إنّي أراني في المنام في بستان فإذا أنا بأصل حبلة «2» عليها ثلاثة عناقيد من عنب، فقطفتها و عصرتها في كاس الملك، و سقيته إيّاه. و قال الخبّاز: إنّي أراني في المنام فوق رأسي ثلاث سلال فيها أنواع الأطعمة، فإذا سباع الطير تنهش منها.

______________________________

(1) في هامش النسخة الخطّية: «النهش أول ما يأخذ الطير بمنقاره. منه».

(2) في هامش النسخة الخطّية: «الحبلة- بالتحريك- القضيب من الكرم. و ربما جاء بالتسكين. منه».

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 368

ثمّ قالا ليوسف: نَبِّئْنا بِتَأْوِيلِهِ بتعبير ما نقصّ عليك و ما يئول إليه أمره إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ من الّذين يحسنون تأويل الرؤيا. أو من العالمين، يقال:

أحسنه إذا علمه. و إنّما قالا ذلك لأنّهما رأياه في السجن يعظ الناس و يعبّر رؤياهم.

أو من المحسنين إلى أهل السجن، فأحسن إلينا بتأويل ما رأينا إن كنت تعرفه.

روي أنّه كان إذا مرض رجل منهم قام عليه، و إذا ضاق أوسع له، و إذا احتاج جمع له.

قيل: إنّ الفتيين قالا له: إنّا لنحبّك من حين رأيناك. فقال: أنشدكما باللّه أن لا تحبّاني، فو اللّه ما أحبّني أحد قطّ إلّا دخل عليّ من حبّه بلاء، لقد أحبّتني عمّتي فدخل عليّ من حبّها بلاء، ثمّ أحبّني أبي فقد

دخل عليّ من حبّه بلاء، ثمّ أحبّتني زوجة صاحبي فدخل علىّ بلاء، فلا تحبّاني بارك اللّه فيكما.

و لمّا استعبراه ابتدأ بوصف نفسه بما هو فوق علم العلماء، و هو الإخبار بالغيب، ليتيقّنا صدق تعبيره و وقوع ما يعبّره عليهما، و ليدعوهما إلى التوحيد، و يرشدهما إلى الطريق القويم، قبل أن يسعف إلى ما سألاه منه، كما هو طريقة الأنبياء و النازلين منازلهم من العلماء في الهداية و الإرشاد. فلهذا قالَ أولا: لا يَأْتِيكُما طَعامٌ تُرْزَقانِهِ إِلَّا نَبَّأْتُكُما بِتَأْوِيلِهِ بتأويل الطعام، يعني: ماهيّته و كيفيّته، فإنّه يشبه تفسير المشكل و الإعراب عن معناه قَبْلَ أَنْ يَأْتِيَكُما أي: لا يأتيكما طعام من منزلكما إلّا أخبرتكما بصفة ذلك الطعام و كيفيّته قبل أن يأتيكما ذلك الطعام. و هذا مثل قول عيسى عليه السّلام: وَ أُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَ ما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ «1».

و قيل: معناه: لا يأتيكما طعام ترزقانه في منامكما إلّا نبّأتكما بتأويله و بيان عاقبته في اليقظة قبل أن يأتيكما التأويل. و الأوّل أشهر و أصحّ.

______________________________

(1) آل عمران: 49.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 369

ذلِكُما أي: ذلك التأويل. مِمَّا عَلَّمَنِي رَبِّي بالإلهام و الوحي، و ليس من قبيل التكهّن أو التنجيم.

إِنِّي تَرَكْتُ مِلَّةَ قَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ تعليل لما قبله، أي: علّمني ذلك لأنّي تركت ملّة الّذين لا يؤمنون بالوحدانيّة و بيوم البعث و النشور.

أراد بهؤلاء القوم أهل مصر، و من كان الفتيان على دينهم.

وَ اتَّبَعْتُ مِلَّةَ آبائِي إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ أو كلام مبتدأ لتمهيد الدعوة و إظهار أنّه من أهل بيت النبوّة، لتقوى رغبتهما في الاستماع إليه و الوثوق عليه.

و لذلك جوّز للخامل أن يصف نفسه حتّى يعرف فيقتبس منه

و ينتفع به في الدين، و لم يكن ذلك من باب التزكية. و تكرير ضمير «هم» للدلالة على تأكيد كفرهم بالآخرة.

ما كانَ لَنا ما صحّ لنا معشر الأنبياء أَنْ نُشْرِكَ بِاللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ أيّ شي ء كان، من ملك أو جنّيّ أو إنسيّ، فضلا أن نشرك به صنما لا يسمع و لا يبصر.

ذلِكَ التوحيد مِنْ فَضْلِ اللَّهِ عَلَيْنا بالوحي وَ عَلَى النَّاسِ و على سائر الناس ببعثنا لإرشادهم، و تثبيتهم عليه وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ المبعوثون نحن إليهم لا يَشْكُرُونَ هذا الفضل، فيعرضون عنه و لا يتنبّهون.

و قيل: معناه: ذلك فضل اللّه علينا و عليهم بنصب الأدلّة و إنزال الآيات، و لكنّ أكثرهم لا ينظرون إليها، و لا يستدلّون بها، فيلغونها، كمن يكفر النعمة و لا يشكرها.

يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أي: يا ساكنيه، كقوله عزّ اسمه: أَصْحابُ النَّارِ وَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ «1». أو يا صاحبيّ فيه، فأضافهما إليه على الاتّساع، كقوله: يا سارق الليلة أهل الدار. فكما أنّ الليل مسروق فيها غير مسروقة، فكذلك السجن مصحوب فيه غير مصحوب، و إنّما المصحوب غيره، و هو يوسف عليه السّلام. أَ أَرْبابٌ مُتَفَرِّقُونَ

______________________________

(1) الحشر: 20.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 370

أ ملّاك شتّى متعدّدة متباينة، من حجر و خشب و غيرهما خَيْرٌ أَمِ اللَّهُ الْواحِدُ المتوحّد بالألوهيّة الْقَهَّارُ الغالب الّذي لا يعادله و لا يقاومه غيره؟! و الهمزة للإنكار. و هذا مثل ضربه لعبادة اللّه وحده و لعبادة الأصنام.

ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ خطاب لهما و لمن على دينهما من أهل مصر إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ من حجّة غالبة، أي: إلّا أشياء باعتبار أسامي أطلقتم عليها، من غير حجّة تدلّ على تحقّق مسمّياتها

فيها، فكأنّكم لا تعبدون إلّا الأسماء المجرّدة. و المعنى: أنّكم سمّيتم ما لم يدلّ على استحقاقه الألوهيّة عقل و لا نقل آلهة، ثمّ أخذتم تعبدونها باعتبار ما تطلقون عليها.

إِنِ الْحُكْمُ في أمر العبادة إِلَّا لِلَّهِ لأنّه المستحقّ لها بالذات، من حيث إنّه الواجب لذاته، و الموجد للكلّ، و المالك لأمره أَمَرَ على لسان أنبيائه أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا إِيَّاهُ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ الحقّ الثّابت بالدلائل، و أنتم لا تميّزون المعوجّ عن القويم.

و هذا من التدرّج في الدعوة و إلزام الحجّة، لأنّه بيّن لهم أوّلا رجحان التوحيد على اتّخاذ الآلهة على طريق الخطابة، ثمّ برهن على أنّ ما يسمّونها آلهة و يعبدونها لا تستحقّ الإلهيّة، فإنّ استحقاق العبادة إمّا بالذات و إمّا بالغير، و كلا القسمين منتف عنها، ثمّ نصّ على ما هو الحقّ القويم و الدين المستقيم الّذي لا يقتضي العقل غيره، و لا يرتضي العلم دونه.

وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لعدولهم عن النظر و الاستدلال، فيخبطون في جهالاتهم.

ثمّ عبّر رؤياهما فقال: يا صاحِبَيِ السِّجْنِ أَمَّا أَحَدُكُما يعني: الشرابي فَيَسْقِي رَبَّهُ أي: سيّده خَمْراً كما كان يسقيه قبل، و يعود إلى ما كان عليه وَ أَمَّا الْآخَرُ يريد به الخبّاز فَيُصْلَبُ فَتَأْكُلُ الطَّيْرُ مِنْ رَأْسِهِ

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 371

روي أنّه قال يوسف في تعبير الساقي: أمّا العناقيد الثلاثة فإنّها ثلاثة أيّام تبقى في السجن، ثمّ يخرجك الملك اليوم الرابع و تعود إلى ما كنت عليه. و قال للخبّاز: بئس ما رأيت، أمّا السلال الثلاث فإنّها ثلاثة أيّام تبقى في السجن، ثمّ يخرجك الملك فيصلبك فتأكل الطير من رأسك. فقال عند ذلك: ما رأيت شيئا و كنت ألعب.

فقال يوسف: قُضِيَ الْأَمْرُ الَّذِي فِيهِ تَسْتَفْتِيانِ أي:

قطع الأمر الّذي تستفتيان فيه، و هو ما يئول إليه أمركما، و لذلك وحّده، فإنّهما و إن استفتيا في أمرين، لكنّهما أرادا استبانة عاقبة ما نزل بهما.

وَ قالَ لِلَّذِي ظَنَ أي: علم بطريق الوحي أَنَّهُ ناجٍ مِنْهُمَا كما في قوله تعالى: إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ «1» أي: علمت. و قيل: المراد بالظانّ الناجي الّذي هو الشرابي لا يوسف، ف «ظنّ» باق على معناه الحقيقي. اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ اذكر حالي عند الملك الّذي يربّيك بأنّي محبوس ظلما كي يخلّصني فَأَنْساهُ الشَّيْطانُ ذِكْرَ رَبِّهِ فأنسى الشرابيّ أن يذكره لربّه. فأضاف إليه المصدر لملابسته له، فإنّ الربّ لا يكون فاعلا و لا مفعولا. أو على تقدير: ذكر أخبار ربّه. قيل:

أنسى الشيطان يوسف ذكر ربّه في تلك الحال حين و كل أمره إلى غيره و استغاث بمخلوق. و الأوّل أليق بمذهبنا. و الاستعانة بالعباد في كشف الشدائد و إن كانت محمودة في الجملة، لكنّها لا تليق بمنصب الأنبياء، و تركه أولى.

فَلَبِثَ لأجل ذلك فِي السِّجْنِ بِضْعَ سِنِينَ البضع ما بين الثلاث إلى التسع، من البضع و هو القطع، كأنّه يقطع من العشرة. و قيل: البضع ما بين الثلاث إلى الخمس. و قيل: إلى السبع. و قيل: لبث في السجن سبع سنين بعد أن كان خمسا.

و الأصحّ

أن مدّة مكثه في السجن سبع سنين، فإنّه منقول عن عليّ بن الحسين و أبي عبد اللّه عليهما السّلام،

و مأثور عن ابن عبّاس.

______________________________

(1) الحاقّة: 20.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 372

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «عجبت من أخي يوسف كيف استغاث بالمخلوق دون الخالق».

و

روي أنّه عليه السّلام قال: «لولا كلمته ما لبث».

يعني قوله: «اذْكُرْنِي عِنْدَ رَبِّكَ».

و

روي عن

أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «جاء جبرئيل إلى يوسف فقال: يا يوسف من جعلك أحسن الناس؟ قال: ربّي. قال: فمن حبّبك إلى أبيك دون إخوتك؟ قال:

ربّي. قال: فمن ساق إليك السيّارة؟ قال: ربّي. قال: فمن صرف عنك الحجارة؟

قال: ربّي. قال: فمن أنقذك من الجبّ؟ قال: ربّي. قال: فمن صرف عنك كيد النسوة؟ قال: ربّي. قال: فإنّ ربّك يقول: ما دعاك إلى أن تنزل حاجتك بمخلوق دوني؟! البث في السجن بما قلت بضع سنين».

و

عنه عليه السّلام في رواية اخرى قال: «فبكى يوسف عند ذلك حتّى بكى لبكائه الحيطان، فتأذّى ببكائه أهل السجن، فصالحهم على أن يبكي يوما و يسكت يوما، فكان في اليوم الّذي يسكت أسوء حالا».

و على تقدير صحّة هذه الروايات، فإنّما عوتب يوسف عليه السّلام في ترك عادته الجميلة في الصبر و التوكّل على اللّه سبحانه في كلّ أموره دون غيره، و إنّما يكون قبيحا لو ترك التوكّل على اللّه سبحانه و اقتصر على غيره. و في هذا ترغيب في الاعتصام باللّه تعالى، و الاستعانة به دون غيره عند نزول الشدائد، و إن جاز أيضا أن يستعان بغيره.

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «علّم جبرئيل عليه السّلام يوسف في محبسه فقال:

قل في دبر كلّ صلاة فريضة: اللّهمّ اجعل لي فرجا و مخرجا، و ارزقني من حيث أحتسب، و من حيث لا أحتسب».

و

روى شعيب العقرقوفي عنه عليه السّلام قال: «لمّا انقضت المدّة و أذن له في دعاء الفرج وضع خدّه على الأرض، ثمّ قال: اللّهمّ إن كانت ذنوبي قد أخلقت وجهي

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 373

عندك، فإنّي أتوجّه إليك بوجوه آبائي الصالحين إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب، ففرّج اللّه

عنه. قال: فقلت له: جعلت فداك أ ندعوا نحن بهذا الدعاء؟

فقال: ادعوا بمثله: اللّهمّ إن كانت ذنوبي قد أخلقت عندك وجهي، فإنّي أتوجّه إليك بوجه نبيّك نبيّ الرحمة و عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين و الأئمّة عليهم السّلام».

[سورة يوسف (12): الآيات 43 الى 49]

وَ قالَ الْمَلِكُ إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَ سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يابِساتٍ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ (43) قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ وَ ما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ (44) وَ قالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ (45) يُوسُفُ أَيُّهَا الصِّدِّيقُ أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَ سَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يابِساتٍ لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ (46) قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تَأْكُلُونَ (47)

ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَّ إِلاَّ قَلِيلاً مِمَّا تُحْصِنُونَ (48) ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ (49)

ثمّ أخبر سبحانه عن سبب نجاة يوسف وقت دنوّها، فقال: وَ قالَ الْمَلِكُ

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 374

الريّان بن الوليد إِنِّي أَرى سَبْعَ بَقَراتٍ سِمانٍ خرجن من نهر يابس، و سبع بقرات مهازيل يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ أي: ابتلعت المهازيل السمان وَ سَبْعَ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ و أرى في منامي سبع سنبلات قد انعقد حبّها وَ أُخَرَ يابِساتٍ و سبعا أخر يابسات قد أدركت، فالتوت اليابسات على الخضر حتّى غلبت عليها. و إنّما استغنى عن بيان حالها- و هي سبع يابسات كالخضر- بما قصّ من حال البقرات. و أجرى السمان على المميّز دون المميّز و هو «سبع»،

لأنّ التمييز بها. و وصف السبع الثاني بالعجاف، لتعذّر التمييز بها مجرّدا عن الموصوف، فإنّ التمييز لبيان الجنس. و قياس عجاف عجف، لأنّه جمع عجفاء، و أفعل فعلاء لا يجمع على فعال، لكنّه حمل على سمان، لأنّه نقيضه، و من دأبهم حمل النظير على النظير و النقيض على النقيض.

يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أشراف قومي. و قيل: هم السحرة و الكهنة. أَفْتُونِي فِي رُءْيايَ عبّروها إِنْ كُنْتُمْ لِلرُّءْيا تَعْبُرُونَ إن كنتم عالمين بعبارة «1» الرؤيا. و هي الانتقال من الصور الخياليّة إلى المعاني النفسانيّة الّتي هي مثالها، من العبور، و هو المجاوزة. و «عبرت الرؤيا عبارة» أثبت «2» من: عبّرتها تعبيرا، كما قال صاحب الكشّاف «3» من أنّه لم ينقل من الأثبات «4» التعبير و المعبّر، بل العبارة و العابر، لأنّه من العبور. و حقيقة «عبرت الرؤيا» ذكرت عاقبتها، كما يقال: عبرت النهر إذا قطعته حتّى تبلغ آخر عرضه. و اللام للبيان أو لتقوية العامل، فإنّ الفعل لمّا أخّر عن مفعوله ضعف فقوّي باللام، كاسم الفاعل إذا قيل: هو عابر للرؤيا، لانحطاطه عن الفعل في القوّة. أو لتضمّن «تعبرون» معنى فعل يعدّى باللام، كأنّه قيل: إن كنتم

______________________________

(1) مصدر: عبر يعبر عبرا و عبارة.

(2) في هامش النسخة الخطّية: «أي: أشدّ تثبّتا و حجّة. منه».

(3) الكشّاف 2: 474.

(4) الأثبات: ثقات القوم، جمع الثبت، و هو الثقة.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 375

تجيبون لعبارة الرؤيا.

قالُوا هي أَضْغاثُ أَحْلامٍ أي: تخاليطها. جمع ضغث. و أصله ما جمع من أخلاط النبات و حزم، فاستعير للرؤيا الكاذبة. و إنّما جمعوا الأحلام للمبالغة في وصف الحلم بالبطلان، كقولهم: فلان يركب الخيل، و إنّما يركب فردا منها. أو لتضمّن الحلم أشياء مختلفة. و الإضافة بمعنى «من»

أي: أضغاث من أحلام. وَ ما نَحْنُ بِتَأْوِيلِ الْأَحْلامِ بِعالِمِينَ يريدون بالأحلام المنامات الباطلة خاصّة، أي: ليس لها تأويل عندنا، و إنّما التأويل للمنامات الصادقة. فهو كأنّه مقدّمة ثانية للعذر في جهلهم بتأويله.

و عند ذلك تذكّر الساقي حديث يوسف، فجثا بين يدي الملك و قال:

أيّها الملك إنّي قصصت أنا و صاحب الطعام على رجل في السجن منامين، فخبّرنا بتأويلهما، و صدق في جميع ما وصف، فإن أذنت مضيت إليه و أتيتك من قبله بتفسير هذه الرؤيا. و ذلك قوله عزّ اسمه: وَ قالَ الَّذِي نَجا مِنْهُما من صاحبي السجن، و هو الشرابي وَ ادَّكَرَ بَعْدَ أُمَّةٍ و تذكّر يوسف عليه السّلام بعد جماعة من الزمان مجتمعة، أي: مدّة طويلة. و الجملة اعتراض، و مقول القول قوله: أَنَا أُنَبِّئُكُمْ بِتَأْوِيلِهِ فَأَرْسِلُونِ فابعثوني إلى من عنده علمه، أو إلى السجن.

فأرسل إلى يوسف فجاء، فقال له: يُوسُفُ أي: يا يوسف أَيُّهَا الصِّدِّيقُ البليغ في الصدق. و إنّما وصفه بصيغة المبالغة، لأنّه جرّب أحواله، و عرف صدقه في تأويل رؤياه و رؤيا صاحبه. أَفْتِنا فِي سَبْعِ بَقَراتٍ سِمانٍ يَأْكُلُهُنَّ سَبْعٌ عِجافٌ وَ سَبْعِ سُنْبُلاتٍ خُضْرٍ وَ أُخَرَ يابِساتٍ أي: في رؤيا ذلك لَعَلِّي أَرْجِعُ إِلَى النَّاسِ أعود إلى الملك و من عنده، أو إلى أهل البلد، إذ روي عن ابن عبّاس أنّ السجن لم يكن فيه لَعَلَّهُمْ يَعْلَمُونَ تأويلها، أو فضلك و مكانك، فيطلبوك

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 376

و يخلّصوك من محنتك. و إنّما لم يجزم الكلام فيهما، لأنّه لم يكن جازما بالرجوع، فربما اخترم دونه، و لا بعلمهم، فربما لم يعلموا.

قالَ تَزْرَعُونَ سَبْعَ سِنِينَ دَأَباً أي: على عادتكم المستمرّة. و انتصابه على الحال، بمعنى: دائبين. أو المصدر، بإضمار

فعله، أي: تدأبون دأبا، و تكون الجملة حالا. و قرأ حفص: دأبا بفتح الهمزة. و كلاهما مصدر: دأب في العمل إذا اعتاد فيه. و قيل: «تزرعون» خبر في معنى الأمر، أخرجه في صورة الخبر مبالغة في تحقّق الفعل، لقوله: فَما حَصَدْتُمْ فَذَرُوهُ فِي سُنْبُلِهِ كيلا يأكله السوس. و هو- على أنّه خبر لا أمر- نصيحة خارجة عن العبارة. إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تَأْكُلُونَ في تلك السنين.

ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ سَبْعٌ شِدادٌ يَأْكُلْنَ ما قَدَّمْتُمْ لَهُنَ أي: يأكل أهلهنّ ما ادّخرتم لأجلهنّ، و ذلك متعارف، كما يقال: ادّخرت الحبوب للسنين و إن كان في الحقيقة لأهلها. فأسند إليهنّ على المجاز تطبيقا بين المعبّر- و هو البقرات و السنبلات- و المعبّر به، و هو السنين. إِلَّا قَلِيلًا مِمَّا تُحْصِنُونَ تحرزون و تخبؤن لبذور الزراعة.

ثمّ بشّرهم بعد الفراغ من تأويل الرؤيا بأن العام الثاني يجي ء مباركا خصيبا، كثير الخير، غزير النعم، فقال: ثُمَّ يَأْتِي مِنْ بَعْدِ ذلِكَ عامٌ فِيهِ يُغاثُ النَّاسُ يمطرون، من الغيث. أو يغاثون من القحط، من الغوث. وَ فِيهِ يَعْصِرُونَ ما يعصر، كالعنب و الزيتون و السمسم، لكثرة الثمار. و قيل: يحلبون الضروع. و قرأ حمزة و الكسائي بالتاء على تغليب المستفتي. و هذه بشارة بشّرهم بها بعد أن أوّل البقرات السمان و السنبلات الخضر بسنين مخصبة، و العجاف و اليابسات بسنين مجدبة، و ابتلاع العجاف السمان بأكل ما جمع في السنين المخصبة في السنين المجدبة. و علم ذلك كلّه بالوحي. و يحتمل أن علم ذلك بأن انتهاء الجدب

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 377

بالخصب، أو بأن السنّة الإلهيّة على أن يوسّع على عباده بعد ما ضيّق عليهم.

و الأوّل موافق لمذهبنا.

[سورة يوسف (12): الآيات 50 الى 51]

وَ قالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ

فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللاَّتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَّ إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ (50) قالَ ما خَطْبُكُنَّ إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُّ أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (51)

و لمّا رجع الرسول إلى الملك، و قصّ عليه ما سمع من يوسف من التعبير، اشتاق لقاءه وَ قالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ فَلَمَّا جاءَهُ الرَّسُولُ ليخرجه من السجن قالَ ارْجِعْ إِلى رَبِّكَ سيّدك فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ اللَّاتِي قَطَّعْنَ أَيْدِيَهُنَ و إنّما تأنّى في الخروج، و قدّم سؤال النسوة و فحص حالهنّ، لتظهر براءة ساحته و طهارة ذيله، و يعلم أنّه سجن ظلما، فلا يقدر الحاسد أن يتوسّل به إلى تقبيح أمره. و فيه دليل على أنّه ينبغي أن يجتهد في نفي التهم، و يتّقي مواقعها. و إنّما قال: «فَسْئَلْهُ ما بالُ النِّسْوَةِ» و لم يقل: فاسأله أن يفتّش عن حالهنّ أو عن شأنهنّ، تهييجا له على البحث و تحقيق الحال. و إنّما لم يتعرّض لسيّدته مع ما صنعت به كرما و مراعاة للأدب، فإنّها سيّدته و زوجة خليفة الملك.

إِنَّ رَبِّي بِكَيْدِهِنَّ عَلِيمٌ حين قلن لي: أطع مولاتك. و فيه تعظيم كيدهنّ،

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 378

و الاستشهاد بعلم اللّه تعالى عليه، و على أنّه بري ء ممّا قذف به، و الوعيد لهنّ على كيدهنّ.

عن ابن عبّاس: لو خرج يوسف يومئذ قبل أن يعلم الملك بشأنه ما زالت في نفس العزيز منه حالة، يقول: هذا الّذي راود امرأتي.

و قيل: أشفق يوسف من أن يراه الملك بعين مشكوك في أمره متّهم بفاحشة، فأحبّ أن يراه بعد أن يزول عن

قلبه ما كان فيه.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «لقد عجبت من يوسف و كرمه و صبره- و اللّه يغفر له- حين سئل عن البقرات العجاف و السمان، و لو كنت مكانه ما أخبرتهم حتّى أشترط أن يخرجوني من السجن. و لقد عجبت من يوسف و صبره و كرمه- و اللّه يغفر له- حين أتاه الرسول فقال: ارجع إلى ربّك، و لو كنت مكانه و لبثت في السجن ما لبث لأسرعت الإجابة، و بادرتهم الباب، و ما ابتغيت العذر، إنّه كان لحليما ذا أناة».

قالَ ما خَطْبُكُنَ قال الملك لهنّ: ما شأنكنّ. و الخطب أمر يحقّ أن يخاطب فيه صاحبه. إِذْ راوَدْتُنَّ يُوسُفَ عَنْ نَفْسِهِ قُلْنَ حاشَ لِلَّهِ تنزيه له تعالى و تعجّب من قدرته على خلق عفيف مثله ما عَلِمْنا عَلَيْهِ مِنْ سُوءٍ من ذنب. قالَتِ امْرَأَةُ الْعَزِيزِ الْآنَ حَصْحَصَ الْحَقُ ثبت و استقرّ، من: حصحص البعير إذا ألقى مباركة ليناخ. أو ظهر، من حصّ شعره إذا استأصله بحيث ظهرت بشرة رأسه. أَنَا راوَدْتُهُ عَنْ نَفْسِهِ وَ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ في قوله: «هِيَ راوَدَتْنِي عَنْ نَفْسِي». و لا مزيد على شهادتهنّ له بالبراءة و النزاهة، و اعترافهنّ على أنفسهنّ بأنّه لم يتعلّق بشي ء ممّا قرفنه «1» به، لأنّهنّ خصومه، و إذا اعترف الخصم بأنّ صاحبه على الحقّ و هو على الباطل لم يبق لأحد مقال.

______________________________

(1) قرف فلانا بكذا: عابه أو اتّهمه به.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 379

[سورة يوسف (12): الآيات 52 الى 53]

ذلِكَ لِيَعْلَمَ أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ (52) وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي إِنَّ النَّفْسَ لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ إِلاَّ ما رَحِمَ رَبِّي إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (53)

ثمّ قال يوسف

لمّا عاد إليه الرسول و أخبره بكلامهنّ: ذلِكَ أي: ذلك الّذي فعلت من التأنّي في السجن، و عدم سرعة الإجابة إلى الخروج منه، و ردّ رسول الملك إليه في شأن النسوة لِيَعْلَمَ العزيز أَنِّي لَمْ أَخُنْهُ بِالْغَيْبِ بظهر الغيب. و هو حال من الفاعل أو المفعول، أي: لم أخنه و أنا غائب عنه، أو و هو غائب عنّي. أو ظرف، أي: بمكان الغيب، و هو الخفاء و الاستتار وراء الأستار و الأبواب المغلقة. وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي كَيْدَ الْخائِنِينَ لا ينفذه و لا يسدّده. أو لا يهدي الخائنين بكيدهم، فأوقع الفعل على الكيد مبالغة.

و فيه تعريض براعيل في خيانتها زوجها، و توكيد لأمانته، و أنّه لو كان خائنا لما هدى اللّه كيده و لا سدّده.

ثمّ أراد أن يتواضع للّه و يهضم نفسه، لئلّا يكون لها مزكّيا، و بحالها في الأمانة معجبا و مفتخرا، كما

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنا سيّد ولد آدم و لا فخر»،

و ليبيّن أنّ ما فيه من الأمانة ليس به وحده، و إنّما هو بتوفيق اللّه و لطفه و عصمته، فقال: وَ ما أُبَرِّئُ نَفْسِي و لا أنزّهها إِنَّ النَّفْسَ أراد جنس النفس لَأَمَّارَةٌ بِالسُّوءِ من حيث إنّها بالطبع مائلة إلى الشهوات، فتهمّ بها، و تستعمل القوى و الجوارح في أثرها كلّ الأوقات. و عن ابن كثير و نافع: بالسوّ، على قلب الهمزة واوا ثمّ الإدغام. إِلَّا ما رَحِمَ رَبِّي إلّا وقت رحمة ربّي، أو إلّا ما رحمه اللّه تعالى من النفوس، فعصمه من تلك التهم.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 380

و قيل: الاستثناء منقطع، أي: و لكن رحمة ربّي هي الّتي تصرف الإساءة.

و قيل: الآية حكاية قول

راعيل، و المستثنى نفس يوسف و أضرابه. و المعنى:

ذلك الّذي قلت من براءة ساحة يوسف، و إسناد المراودة إلى نفسي، ليعلم يوسف أنّي لم أكذب عليه في حال الغيبة، و صدقت فيما سئلت عنه، و ما أبرّئ نفسي من الخيانة، فإنّي خنته حين قذفته و قلت: «ما جزاء من أراد بأهلك سوء إلّا أن يسجن». ثمّ قالت اعتذارا ممّا كان منها: إنّ كلّ نفس لأمّارة بالسوء إلّا نفسا رحمها اللّه بالعصمة، كنفس يوسف.

إِنَّ رَبِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ يغفر همم النفوس، و يرحم من يشاء بالعصمة. و على القول الأخير: يغفر للمستغفر لذنبه، المعترف على نفسه، و يرحمه ما استرحمه ممّا ارتكبه. و القول الأوّل أشهر، و الثاني أجود.

[سورة يوسف (12): الآيات 54 الى 57]

وَ قالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ لِنَفْسِي فَلَمَّا كَلَّمَهُ قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ أَمِينٌ (54) قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ إِنِّي حَفِيظٌ عَلِيمٌ (55) وَ كَذلِكَ مَكَّنَّا لِيُوسُفَ فِي الْأَرْضِ يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا مَنْ نَشاءُ وَ لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (56) وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ (57)

وَ قالَ الْمَلِكُ ائْتُونِي بِهِ أَسْتَخْلِصْهُ أجعله خالصا لِنَفْسِي و أرجع إليه في تدبير مملكتي فَلَمَّا كَلَّمَهُ فلمّا أتوا به و كلّمه، و شاهد منه الرشد و ذكاء العقل و فطانة الفهم قالَ إِنَّكَ الْيَوْمَ لَدَيْنا مَكِينٌ ذو مكانة و منزلة أَمِينٌ

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 381

مؤتمن على كلّ شي ء.

روي أنّه لمّا خرج من السجن كتب على بابه: «هذا قبور الأحياء، و بيت الأحزان، و تجربة الأصدقاء، و شماتة الأعداء». ثمّ اغتسل و تنظّف و لبس ثيابا جددا، و هو يومئذ كان ابن ثلاثين سنة، فلمّا رآه الملك شابّا حدث السنّ قال: يا غلام

أنت مأوّل رؤياي؟ قال: نعم. فأقعده قدّامه، و قصّ عليه رؤياه.

و

روي: أنّه لمّا دخل على الملك قال: اللّهمّ إنّي أسألك بخيرك من خيره، و أعوذ بعزّتك و قدرتك من شرّه. ثمّ سلّم عليه و دعا له بالعبرانيّة.

فقال: ما هذا اللسان؟

قال: لسان آبائي. و كان الملك يعرف سبعين لسانا، فكلّمه بها، فأجابه بجميعها. فتعجّب منه، فقال: أحبّ أن أسمع رؤياي منك شفاها.

فقال يوسف: نعم، أيّها الملك رأيت سبع بقرات سمان شهب حسان، كشف لك عنهنّ النيل، فطلعن عليك من شاطئه، تشخب أخلافهنّ «1» لبنا.

فبينا تنظر إليهنّ و يعجبك حسنهنّ، إذ نضب «2» النيل فغار ماؤه و بدا يبسه، فخرج من حمئه و وحله سبع بقرات عجاف شعث غبر، مقلّصات «3» البطون، ليس لهنّ ضروع و أخلاف، و لهنّ أنياب و أضراس، و أكفّ كأكفّ الكلاب، و خراطيم كخراطيم السباع. فاختلطن بالسمان، فافترستهنّ افتراس السبع، فأكلن لحومهنّ، و مزّقن جلودهنّ، و حطّمن عظامهنّ، و تمشّشن «4» مخّهنّ.

فبينا أنت تنظر و تتعجّب إذا سبع سنابل خضر و أخر سود في منبت واحد،

______________________________

(1) الأخلاف جمع الخلف، و هو: حلمة ضرع الناقة، أي: مكان مصّ الحليب من الثدي.

(2) نضب الماء: غار في الأرض.

(3) أي: انكمشت بطونهنّ هزالا.

(4) تمشّش العظم: مصّه و استخرج منه المخّ. زبدة التفاسير، ج 3، ص: 382

عروقهنّ في الثرى و الماء.

فبينا أنت تقول في نفسك: أنّى هذا و هؤلاء خضر مثمرات، و هؤلاء سود يابسات، و المنبت واحد، و أصولهنّ في الماء؟ إذ هبّت ريح فذرّت الأوراق من اليابسات السود على الثمرات الخضر، فاشتعلت فيهنّ النار و أحرقتهنّ، و صرن سودا متغيّرات. فهذا آخر ما رأيت من الرؤيا، ثمّ انتبهت من نومك مذعورا.

فقال الملك: و اللّه ما شأن

هذه الرؤيا بأعجب ممّا سمعته منك، فما ترى في رؤياي أيّها الصديق؟

فقال يوسف: أرى أن تجمع الطعام، و تزرع زرعا كثيرا في هذه السنين المخصبة، فتجمع الحبوب بقصبها و سنبلها لتأمن من السوس، و يكون القصب و السنبل علفا للدوابّ. و يأتيك الخلق من النواحي، فيمتارون منك بحكمك، و يجتمع عندك من الكنوز ما لم يجتمع لأحد ذلك.

فقال الملك: و من لي بهذا؟ و من يجمعه و يبيعه، و يكفي الشغل فيه؟

فعند ذلك قالَ اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ ولّني أمر أرض مصر إِنِّي حَفِيظٌ لها ممّن لا يستحقّها عَلِيمٌ بوجوه التصرّف فيه. و إنّما قال ذلك لأنّه عليه السّلام لمّا رأى أنّه يستعمله لا محالة آثر ما تعمّ فوائده و تجلّ عوائده، فيتوصّل بذلك إلى إمضاء أحكام اللّه، و بسط العدل، و وضع الحقوق موضعها.

و فيه دليل على جواز طلب التولية، و إظهار أنّه مستعدّ لها، و التولّي من يد الكافر، إذا علم أنّه لا سبيل إلى إقامة الحقّ و سياسة الخلق إلّا بالاستظهار به.

روي: أنّ الملك أجلسه على السرير، و فوّض إليه أمره. و قيل: توفّي قطفير في تلك السنين فنصبه في منصبه، و زوّج منه راعيل، فوجدها عذراء، و ولدت له أفرائيم و ميشا.

و

روي: أنّ الملك كان يصدر عن رأيه، و لا يعترض عليه في كلّ ما رأى،

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 383

فكان في حكم التابع له و المطيع. و عن مجاهد: أنّ الملك أسلم على يده.

و

في تفسير عليّ بن إبراهيم بن هاشم قال: «لمّا مات العزيز و ذلك في سنيّ الجدبة افتقرت امرأة العزيز و احتاجت حتّى سألت الناس. فقالوا لها: ما يضرّك لو قعدت للعزيز؟ و كان يوسف يسمّى العزيز، و كلّ

ملك كان لهم سمّوه بهذا الاسم.

فقالت: استحي منه. فلمّا كثر اضطرارها و عجزها قعدت له. فأقبل يوسف في موكبه فقامت إليه زليخا، و قالت: سبحان من جعل الملوك بالمعصية عبيدا، و جعل العبيد بالطاعة ملوكا. فقال لها يوسف: أ أنت تيك؟ قالت: نعم. فقال لها: هل لك فيّ؟ قالت: دعني أ تهزأ بي؟ قال: لا. قالت: نعم. فأمر بها فحوّلت إلى منزله، و كانت هرمة. فقال لها يوسف: أ لست فعلت بي كذا و كذا؟ قالت: يا نبيّ اللّه لا تلمني، فإنّي بليت ببليّة لم يبتل بها أحد. قال: و ما هي؟ قالت: بليت بحبّك، و بليت بزوج عنّين. فقال لها يوسف: فما حاجتك؟ قالت: تسأل اللّه أن يردّ عليّ شبابي.

فسأل اللّه فردّ عليها، فتزوّجها و هي بكر شابّة» «1».

روي عن ابن عبّاس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «رحم اللّه أخي يوسف لو لم يقل: «اجْعَلْنِي عَلى خَزائِنِ الْأَرْضِ» لولّاه من ساعته، و لكنّه أخّر ذلك سنة».

قال ابن عبّاس: فأقام في بيت الملك سنة، فلمّا انصرمت السنة من يوم سأل الإمارة، دعاه الأمير فتوّجه و ختّمه بخاتمه و أعطاه سيفه، و أمر بأن يوضع له سرير من ذهب مكلّل بالدرّ و الياقوت، و يضرب عليه كلّة «2» من إستبرق، ثمّ أمره أن يخرج متوّجا، لونه كالثلج، و وجهه كالقمر، يرى الناظر وجهه في صفاء لون وجهه.

فانطلق حتّى جلس على السرير، و دانت له الملوك، فعدل بين الناس، و أحبّه الرجال و النساء. و ذلك قوله عزّ اسمه: وَ كَذلِكَ مثل ذلك الإنعام الّذي أنعمنا على

______________________________

(1) تفسير عليّ بن إبراهيم 1: 357.

(2) الكلّة: ستر رقيق يخاط كالبيت يتوقّى

به من البعوض.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 384

يوسف مَكَّنَّا لِيُوسُفَ أقدرناه ما يريد فِي الْأَرْضِ في أرض مصر يَتَبَوَّأُ مِنْها حَيْثُ يَشاءُ ينزل من بلادها في كلّ مكان يهوى، لاستيلائه على جميعها.

و قرأ ابن كثير: نشاء بالنون. نُصِيبُ بِرَحْمَتِنا بعطائنا مَنْ نَشاءُ في الدنيا و الآخرة وَ لا نُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ بل نوفي أجورهم عاجلا و آجلا.

وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ الشرك و الفواحش، لعظمه و دوامه.

روي: أنّه لمّا استوزره الملك أقام العدل، و اجتهد في تكثير الزراعات و ضبط الغلّات، حتّى دخلت السنون المجدبة، و عمّ القحط مصر و الشام و نواحيهما، و توجّه إليه الناس، فباعها.

و

في كتاب النبوّة بالإسناد عن أحمد بن محمد بن عيسى، عن الحسن بن عليّ بن بنت إلياس، قال: «سمعت الرضا عليه السّلام يقول: و أقبل يوسف على جمع الطعام، فجمع في السبع سنين المخصبة، فكبسه في الخزائن. فلمّا مضت تلك السنون و أقبلت المجدبة، أقبل يوسف على بيع الطعام، فباعهم في السنة الأولى بالدراهم و الدنانير، حتّى لم يبق بمصر و ما حولها دينار و لا درهم إلا صار في مملكته.

ثمّ باعهم في السنة الثانية بالحليّ و الجواهر، حتّى لم يبق بمصر و ما حولها حليّ و لا جواهر إلا صار في مملكته.

و باعهم في السنة الثالثة بالدوابّ و المواشي، حتّى لم يبق بمصر و ما حولها دابّة و لا ماشية إلا صارت في مملكته.

و باعهم في السنة الرابعة بالعبيد و الإماء، حتّى لم يبق بمصر عبد و لا أمة إلا صار في مملكته.

و باعهم في السنة الخامسة بالدور و العقار، حتّى لم يبق بمصر و ما حولها دار

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 385

و لا عقار

إلا صار في مملكته.

و باعهم في السنة السادسة بالمزارع و الأنهار، حتّى لم يبق بمصر و ما حولها نهر و لا مزرعة إلا صار في مملكته.

و باعهم في السنة السابعة برقابهم، حتّى لم يبق بمصر و ما حولها عبد و لا حرّ إلا صار عبد يوسف، فملك أحرارهم و عبيدهم. و قال الناس: ما رأينا و لا سمعنا بملك أعطاه اللّه من الملك ما أعطى هذا الملك حكما و علما و تدبيرا.

ثمّ قال يوسف للملك: أيّها الملك ما ترى فيما خوّلني ربّي من ملك مصر و أهلها، أشر علينا برأيك، فإنّي لم أصلحهم لأفسدهم، و لم أنجهم من البلاء لأكون بلاء عليهم، و لكنّ اللّه تعالى أنجاهم على يديّ.

قال له الملك: الرأي رأيك.

قال: أشهد اللّه و أشهدك أيّها الملك بأنّي قد أعتقت أهل مصر كلّهم، و رددت عليهم أموالهم و عبيدهم، و رددت عليك أيّها الملك خاتمك و سريرك و تاجك، على أن لا تسير إلّا بسيرتي، و لا تحكم إلا بحكمي.

قال له الملك: إنّ ذلك لزيني و فخري، فلا أسير إلا بسيرتك، و لا أحكم إلا بحكمك، و لولاك ما قويت عليه و لا اهتديت له، و لقد جعلت سلطاني عزيزا لا يرام، و إنّي أشهد أن لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له، و أنّك رسوله، فأقم على ما ولّيتك، فإنّك لدينا مكين أمين».

و قيل إن يوسف عليه السّلام كان لا يمتلي شبعا من الطعام في تلك الأيّام المجدبة، فقيل له: تجوع و بيدك خزائن الأرض؟ فقال: إنّي أخاف أن أشبع فأنسى الجياع.

[سورة يوسف (12): الآيات 58 الى 67]

وَ جاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَ هُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (58) وَ لَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ

لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ أَ لا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ وَ أَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (59) فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ عِنْدِي وَ لا تَقْرَبُونِ (60) قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ وَ إِنَّا لَفاعِلُونَ (61) وَ قالَ لِفِتْيانِهِ اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمْ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (62)

فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا نَكْتَلْ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ (63) قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ إِلاَّ كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (64) وَ لَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا وَ نَمِيرُ أَهْلَنا وَ نَحْفَظُ أَخانا وَ نَزْدادُ كَيْلَ بَعِيرٍ ذلِكَ كَيْلٌ يَسِيرٌ (65) قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ لَتَأْتُنَّنِي بِهِ إِلاَّ أَنْ يُحاطَ بِكُمْ فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (66) وَ قالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَ ادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ وَ ما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ إِنِ الْحُكْمُ إِلاَّ لِلَّهِ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ عَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (67)

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 386

و كان في السنين المجدبة قد أصاب كنعان ما أصاب سائر البلاد، فجمع يعقوب بنيه غير بنيامين، و قال: بلغني أنّه يباع الطعام بمصر و أنّ صاحبه رجل

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 387

صالح، فاذهبوا إليه. فتجهّزوا و ساروا حتّى وردوا مصر للميرة «1»، كما قال عزّ و جلّ:

وَ جاءَ إِخْوَةُ يُوسُفَ ليمتاروا من مصر كما امتار غيرهم. و كان لا يبيع أحدا من الممتارين أكثر من حمل بعير، تقسيطا بين الناس. فَدَخَلُوا عَلَيْهِ فَعَرَفَهُمْ وَ هُمْ

لَهُ مُنْكِرُونَ أي: عرفهم يوسف و لم يعرفوه، لطول العهد و مفارقتهم إيّاه في سنّ الحداثة، و نسيانهم إيّاه، و توهّمهم أنّه هلك، و بعد حاله الّتي رأوه عليها من حاله حين فارقوه، و قلّة تأمّلهم في حاله، و لأنّ الملك ممّا يبدّل الزيّ و يلبس صاحبه من المهابة و الاستعظام ما ينكر له المعروف.

و قيل: رأوه على زيّ فرعون عليه ثياب الحرير، جالسا على سرير، في عنقه طوق من ذهب، و على رأسه تاج، فما خطر ببالهم أنّه هو.

و قيل: ما رأوه إلا من بعيد بينهم و بينه مسافة و حجاب، و ما وقفوا إلا حيث يقف طلّاب الحوائج. و إنّما عرفهم لأنّه فارقهم و هم رجال، و رأى زيّهم قريبا من زيّهم إذ ذاك، و لأنّ همّته كانت معقودة بهم و بمعرفتهم، فكان يتأمّل و يتفطّن.

وَ لَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ و الجهاز ما يعدّ من الأمتعة للنقلة، كعدد السفر، و ما يحمل من بلدة إلى اخرى، و ما تزفّ به المرأة إلى زوجها. و المعنى: و لمّا أصلحهم بعدّتهم، و أوقر ركائبهم بما جاؤا لأجله قالَ ائْتُونِي بِأَخٍ لَكُمْ مِنْ أَبِيكُمْ يعني: بنيامين.

و الباعث على صدور هذا القول منه- على ما

قال عليّ بن إبراهيم في تفسيره «2»، و الزمخشري في الكشّاف «3»- أنّهم لمّا دخلوا عليه قال: من أنتم و ما

______________________________

(1) في هامش النسخة الخطّية: «الميرة: الامتيار. و هو ابتياع الغلّات. و الميرة: الغلّة التي تطلب. منه».

(2) لم نجده في تفسيره.

(3) الكشّاف 2: 484. زبدة التفاسير، ج 3، ص: 388

أمركم، فإنّي أنكركم؟

قالوا: نحن قوم من أهل الشام رعاة، أصابنا الجهد فجئنا نمتار.

فقال: لعلّكم جئتم عيونا تنظرون عورة بلادي؟

قالوا: معاذ اللّه نحن بنو أب واحد، و

هو شيخ صدّيق، نبيّ من الأنبياء اسمه يعقوب.

قال: كم أنتم؟

قالوا كنّا اثني عشر، فذهب أحدنا إلى البرّيّة فهلك.

قال: فكم أنتم هنا؟

قالوا: عشرة.

قال: فأين الحادي عشر؟

قالوا: عند أبينا يتسلّى به عن الهالك.

قال: فمن يشهد لكم؟

قالوا: لا يعرفنا ها هنا من يشهد لنا.

قال: فدعوا بعضكم عندي رهينة، و ائتوني بأخيكم من أبيكم حتّى أصدّقكم. فاقترعوا فأصابت شمعون.

و قيل: كان يوسف يعطي لكلّ نفس حملا، فسألوا حملا زائدا لأخ لهم من أبيهم، فأعطاهم و شرط عليهم أن يأتوه به ليعلم صدقهم. ثمّ رغّبهم في أن يأتوا بأخيهم، فقال: أَ لا تَرَوْنَ أَنِّي أُوفِي الْكَيْلَ أتمّه وَ أَنَا خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ للضيف و المضيفين لهم. و كان عليه السّلام أحسن إنزالهم و ضيافتهم.

ثمّ رهّبهم من حرمانهم عن الكيل إن لم يأتوا به، فقال: فَإِنْ لَمْ تَأْتُونِي بِهِ فَلا كَيْلَ لَكُمْ فليس لكم عِنْدِي طعام أكيله عليكم وَ لا تَقْرَبُونِ أي: لا تقربوني، و لا تدخلوا دياري. و هو إمّا نهي، أو نفي مجزوم معطوف على الجزاء،

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 389

و هو قوله: «فَلا كَيْلَ لَكُمْ». كأنّه قال: فإن لم تأتوني تحرموا و لا تقربوا.

قالُوا سَنُراوِدُ عَنْهُ أَباهُ سنجتهد في طلبه من أبيه وَ إِنَّا لَفاعِلُونَ ذلك لا نتوانى فيه.

وَ قالَ لِفِتْيانِهِ لغلمانه الكيّالين. جمع فتى «1». و قرأ حمزة و الكسائي و حفص: لفتيانه على جمع الكثرة، ليوافق الرحال في قوله: اجْعَلُوا بِضاعَتَهُمْ فِي رِحالِهِمْ فإنّه و كلّ بكلّ رحل واحدا يعبّئ فيه بضاعتهم الّتي شروا بها الطعام، أي:

يجعل في رحالهم خفية كيلا يفهموا. واحدها: رحل. يقال للوعاء رحل، و للمسكن رحل. و أصله: الشي ء المعدّ للرحيل. و كانت البضاعة نعالا و أدما. و إنّما ردّ عليهم البضاعة توسيعا و

تفضّلا عليهم، و ترفّعا من أن يأخذ ثمن الطعام منهم، و خوفا من أن لا يكون عند أبيهم ما يعيشون به.

لَعَلَّهُمْ يَعْرِفُونَها لعلّهم يعرفون حقّ ردّها، أو لكي يعرفوها إِذَا انْقَلَبُوا انصرفوا و رجعوا إِلى أَهْلِهِمْ و فتحوا أوعيتهم لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ لعلّ معرفتهم ذلك الإحسان التامّ تدعوهم إلى الرجوع إلينا لطلب الميرة ثانيا.

قيل: معناه: أنّ ديانتهم تحملهم على ردّ البضاعة الّتي لا يستحلّون إمساكها، فيرجعون لأجلها. و لم يعرّف يوسف نفسه، مع علمه بشدّة حزن أبيه و قلقه و احتراقه على ألم فراقه، لأنّه لم يؤذن له في التعريف، استتماما للمحنة عليه و على يعقوب، و لما علم اللّه من الحكمة و الصلاح في تشديد البليّة، تعريضا للمنزلة السنيّة.

فَلَمَّا رَجَعُوا إِلى أَبِيهِمْ قالُوا يا أَبانا مُنِعَ مِنَّا الْكَيْلُ حكم بمنعه بعد هذا إن لم نذهب بنيامين فَأَرْسِلْ مَعَنا أَخانا بنيامين نَكْتَلْ أي: نأخذ ما نحتاج إليه من الطعام بالكيل، و نرفع المانع منه. و قرأ حمزة و الكسائي بالياء، على إسناده إلى

______________________________

(1) أي: على قراءة: لفتيته.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 390

الأخ، أي: يكتل لنفسه، فينضمّ اكتياله إلى اكتيالنا. وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ من أن يناله مكروه.

قالَ هَلْ آمَنُكُمْ عَلَيْهِ على بنيامين إِلَّا كَما أَمِنْتُكُمْ عَلى أَخِيهِ مِنْ قَبْلُ و قد قلتم في يوسف: وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ ثمّ لم تفوا بضمانكم فَاللَّهُ خَيْرٌ حافِظاً فأتوكّل عليه، و أفوّض أمري إليه. و انتصابه على التمييز. و قرأ حمزة و الكسائي و حفص: حافظا. و هو يحتمل التمييز و الحال، كقولهم: للّه درّه فارسا. وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فأرجو أن يرحم ضعفي و كبر سنّي، فيحفظه و يردّه عليّ، و لا يجمع عليّ مصيبتين.

وَ لَمَّا فَتَحُوا مَتاعَهُمْ

وَجَدُوا بِضاعَتَهُمْ رُدَّتْ إِلَيْهِمْ قالُوا يا أَبانا ما نَبْغِي استفهاميّة، أي: ماذا نطلب؟ هل من مزيد على ذلك، أكرمنا، و أحسن مثوانا، و باع منّا، و ردّ علينا متاعنا؟! أو نافية، أي: لا نطلب وراء ذلك إحسانا. أو لا نبغي في القول، و لا نزيد فيما حكينا لك من إحسانه.

ثمّ استأنفوا كلاما موضحا لقولهم: «ما نبغي»، فقالوا: هذِهِ بِضاعَتُنا رُدَّتْ إِلَيْنا فلا ينبغي أن تخاف على أخينا ممّن قد أحسن إلينا هذا الإحسان وَ نَمِيرُ أَهْلَنا و نجلب إليهم الطعام. و هو معطوف على محذوف، أي: ردّت إلينا، فنستظهر بها، و نمير أهلنا بالرجوع إلى الملك. وَ نَحْفَظُ أَخانا عن المخاوف في ذهابنا و إيابنا وَ نَزْدادُ باستصحاب أخينا كَيْلَ بَعِيرٍ وسق بعير زائدا على أوساق أباعرنا، فأيّ شي ء نطلب وراء هذه المباغي الّتي نستصلح بها أحوالنا؟! ذلِكَ الّذي جئناك به كَيْلٌ يَسِيرٌ أي: مكيل قليل لا يكفينا. استقلّوا ما كيل لهم، فأرادوا أن يضاعفوه بالرجوع إلى الملك، و يزدادوا إليه ما يكال لأخيهم. أو «ذلك» إشارة إلى «كيل بعير»، أي: ذلك شي ء قليل لا يضايقنا فيه الملك و لا يتعاظمه، بل يستقلّه. و يجوز أن يكون «كيل يسير» من كلام يعقوب عليه السّلام. و معناه: أنّ حمل بعير

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 391

شي ء يسير لا يخاطر لمثله بالولد.

قالَ لَنْ أُرْسِلَهُ مَعَكُمْ إذ رأيت منكم ما رأيت في يوسف حَتَّى تُؤْتُونِ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ حتّى تعطوني ما أتوثّق به من عند اللّه، أي: عهدا مؤكّدا بذكر اللّه تعالى لَتَأْتُنَّنِي بِهِ جواب القسم، إذ المعنى: حتّى تحلفوا باللّه لتأتنّني به، أي:

لتردّونه إليّ. روي عن ابن عبّاس: يعني: حتّى تحلفوا لي بحقّ محمّد خاتم النبيّين و سيّد المرسلين

ألّا تعذروا بأخيكم. إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ إلا أن تغلبوا فلم تقدروا على الإتيان به، أو إلا أن تهلكوا جميعا. و هو استثناء مفرّغ من أعمّ الأحوال.

و التقدير: لتأتنّني به على كلّ حال من الأحوال إلا حال الإحاطة بكم. أو من أعمّ العلل، على أنّ قوله: «لَتَأْتُنَّنِي بِهِ» في تأويل النفي، أي: لا تمتنعون من الإتيان به لعلّة من العلل إلا لعلّة الإحاطة بكم، كقولهم: أقسمت باللّه إلا فعلت، أي: ما أطلب إلا فعلك.

فَلَمَّا آتَوْهُ مَوْثِقَهُمْ ما يوثق به من العهود و الأيمان قالَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ من طلب الموثق و إتيانه وَكِيلٌ رقيب مطّلع، إن أخلفتم بعد ما أحلفتم.

وَ لمّا تجهّزوا للمسير إلى مصر قالَ يا بَنِيَّ لا تَدْخُلُوا مِنْ بابٍ واحِدٍ وَ ادْخُلُوا مِنْ أَبْوابٍ مُتَفَرِّقَةٍ لأنّهم كانوا ذوي جمال و أبّهة، مشتهرين في مصر بالقربة و الكرامة عند الملك، فخاف عليهم أن يدخلوا كوكبة واحدة فيعانوا. و إنّما لم يوصّهم بذلك في الكرّة الأولى، لأنّهم كانوا مجهولين حينئذ، أو كان الداعي إليها خوفه على بنيامين.

و اعلم أنّه خلاف بين العلماء في تأثير العين، و جوّزه كثير من المحقّقين.

و

روي فيه الخبر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنّ العين حقّ، و العين تستنزل الحالق».

و الحالق: المكان المرتفع من الجبل و غيره. فجعل صلّى اللّه عليه و آله و سلّم العين كأنّها تحطّ ذروة الجبل، من قوّة أخذها و شدّة بطشها.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 392

و

روي في الخبر: أنّه كان يعوّذ الحسن و الحسين عليهما السّلام، بأن يقول: أعيذكما بكلمات اللّه التامّة، من كلّ شيطان و هامّة، و من كلّ عين لامّة.

و

روي أنّ إبراهيم عليه السّلام عوّذ ابنيه، و أنّ موسى

عليه السّلام عوّذ ابني هارون بهذه العوذة.

و

روي أنّ بني جعفر بن أبي طالب كانوا غلمانا بيضا، فقالت أسماء بنت عميس: يا رسول اللّه إنّ العين إليهم سريعة، أ فأسترقي لهم من العين؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

نعم.

و

روي أنّ جبرئيل عليه السّلام رقى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و علّمه الرقية. و هي: بسم اللّه أرقيك من كلّ عين حاسد، اللّه يشفيك.

و

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «لو كان شي ء يسبق القدر لسبقته العين».

ثمّ اختلفوا في وجه الإصابة بالعين، فروي عن عمرو بن بحر الجاحظ أنّه قال: لا ينكر أن ينفصل من العين الصائبة إلى الشي ء المستحسن أجزاء لطيفة، فتتّصل به و تؤثّر فيه، و يكون هذا المعنى خاصّية في بعض الأعين، كالخواصّ في الأشياء. و ليس ببعيد أن يحدث اللّه تعالى عند النظر إلى الشي ء و الإعجاب به نقصانا فيه و خللا من بعض الوجوه، و يكون ذلك ابتلاء من اللّه و امتحانا لعباده. و اللّه أعلم بحقائق الأمور.

وَ ما أُغْنِي و ما أدفع عَنْكُمْ بما أشرت به إليكم من التفرّق مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ ممّا قضى عليكم من المصيبة، فإنّ الحذر لا يمنع القدر إِنِ الْحُكْمُ إِلَّا لِلَّهِ يصيبكم لا محالة إن قضى عليكم سوءا، و لا ينفعكم ذلك عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ فوّضت إليه أمري وَ عَلَيْهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ جمع بين الواو و الفاء في عطف الجملة على الجملة، لتقدّم الصلة، لاختصاص التوكّل به، فكأنّ الواو للعطف، و الفاء لإفادة التسبّب، فإنّ فعل الأنبياء صلّى اللّه عليهم سبب لأن يقتدى بهم.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 393

[سورة يوسف (12): الآيات 68 الى 76]

وَ لَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ

ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاَّ حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (68) وَ لَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (69) فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ فِي رَحْلِ أَخِيهِ ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ (70) قالُوا وَ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ ما ذا تَفْقِدُونَ (71) قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ (72)

قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ وَ ما كُنَّا سارِقِينَ (73) قالُوا فَما جَزاؤُهُ إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ (74) قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (75) فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ ثُمَّ اسْتَخْرَجَها مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ كَذلِكَ كِدْنا لِيُوسُفَ ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ (76)

وَ لَمَّا دَخَلُوا مِنْ حَيْثُ أَمَرَهُمْ أَبُوهُمْ أي: من أبواب متفرّقة في البلد ما كانَ يُغْنِي عَنْهُمْ رأي يعقوب و اتّباعهم له في دخولهم متفرّقين مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 394

ممّا قضاه عليهم، فسرّقوا «1» و افتضحوا بذلك، و أخذ بنيامين بوجدان الصواع في رحله، و تضاعفت المصيبة على يعقوب إِلَّا حاجَةً فِي نَفْسِ يَعْقُوبَ قَضاها أظهرها و وصّى بها. و الاستثناء منقطع، أي: و لكن حاجة في نفسه، يعني: إظهار شفقته عليهم، و دغدغته من أن يعانوا.

وَ إِنَّهُ لَذُو عِلْمٍ لِما عَلَّمْناهُ أي: حصل له العلم بتعليمنا إيّاه بطريق الوحي و نصب الحجج، و لذلك قال: «وَ ما أُغْنِي عَنْكُمْ مِنَ اللَّهِ

مِنْ شَيْ ءٍ»، و لم يغترّ بتدبيره وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ سرّ القدر، و أنّه لا يغني عنه الحذر. أو لا يعلمون مرتبة يعقوب في العلم، أو ما ألهم اللّه أولياءه.

وَ لَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَخاهُ ضمّ إليه بنيامين على الطعام، أو في المنزل.

روي أنّهم قالوا له: هذا أخونا قد جئناك به. فقال لهم: أحسنتم و أصبتم، و ستجدون أجره عندي. فأنزلهم و أكرمهم، ثمّ أضافهم فأجلسهم مثنى مثنى على مائدة. و لمّا أجلس كلّ اثنين على مائدة و بقي بنيامين وحيدا بكى و قال: لو كان أخي يوسف حيّا لجلس معي، فأجلسه معه على مائدته، و جعل يؤاكله. ثمّ قال:

لينزل كلّ اثنين منكم بيتا، و هذا لا ثاني له فيكون معي، فبات عنده. و قال له:

أ تحبّ أن أكون أخاك بدل أخيك الهالك؟ قال: من يجد أخا مثلك؟! و لكن لم يلدك يعقوب و لا راحيل. فبكى يوسف و قام إليه و عانقه.

قالَ إِنِّي أَنَا أَخُوكَ فَلا تَبْتَئِسْ فلا تحزن. افتعال من البؤس، و هو الحزن. بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يعمل إخوتنا في حقّنا، فإنّ اللّه قد أحسن إلينا و جمعنا.

فَلَمَّا جَهَّزَهُمْ بِجَهازِهِمْ جَعَلَ السِّقايَةَ المشربة فِي رَحْلِ أَخِيهِ أي: أمر حتّى جعلها في متاع أخيه. و إنّما أضاف اللّه تعالى ذلك إليه لوقوعه بأمره. روي أنّها

______________________________

(1) في هامش النسخة الخطّية: «التسريق إسناد السرقة إلى الغير. منه».

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 395

مشربة جعلت صاعا في السنين الشداد القحاط يكال بها، فهي الصواع. و قيل: كان يسقى بها الملك، ثمّ جعلت صاعا يكال به. و قيل: كانت الدوابّ تسقى بها، و يكال بها. روي أنّها كانت إناء مستطيلا يشبه المكّوك «1». و قيل: هي

المكّوك الفارسي الّذي يلتقي طرفاه، تشرب به الأعاجم، و كانت من فضّة مموّهة بالذهب. و قيل:

كانت من ذهب مرصّعة بالجواهر. و

روي أنّهم ارتحلوا و أمهلهم يوسف حتّى انطلقوا، ثمّ أمر بردّهم فأدركوا و حبسوا.

ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ نادى مناد. يقال: أذنه إذا أعلمه، و أذّن: إذا أكثر الإعلام، و منه: المؤذّن، لكثرة ذلك منه. أَيَّتُهَا الْعِيرُ إِنَّكُمْ لَسارِقُونَ و العير القافلة. و هو اسم الإبل الّتي عليها الأحمال، لأنّها تعير، أي: تذهب و تجي ء، فقيل لأصحاب العير،

كقوله عليه السّلام: يا خيل اللّه اركبي،

بمعنى: يا صاحب الخيل. و قيل: جمع عير.

و أصله: فعل، كسقف و سقف، فعل به ما فعل ببيض. يطلق على قافلة الحمير، ثمّ استعير لكلّ قافلة.

قيل: إنّما قال ذلك بعض من فقد الصاع من قوم يوسف من غير أمره، و لم يعلم بما أمر به يوسف من جعل الصاع في رحالهم.

و قيل: إنّ يوسف أمر المنادي بأن ينادي به، و لم يرد به سرقة الصاع، و إنّما عنى به أنّكم سرقتم يوسف عن أبيه و ألقيتموه في الجبّ.

و قيل: إنّ الكلام يجوز أن يكون خارجا مخرج الاستفهام، كأنّه قال: أ إنّكم لسارقون، فأسقط همزة الاستفهام.

و يؤيّده ما

روي عن هشام بن الحكم، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «ما سرقوا و لا كذب».

______________________________

(1) المكّوك: مكيال يسع صاعا و نصف صاع، أو نحو ذلك، أو طاس يشرب فيه. و جمعه مكاكيك.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 396

و قيل: كان تعبئة السقاية و النداء على السرقة برضا بنيامين.

و كانت عبارة الكشّاف هكذا: «و

روي أنّه قال له: أنا لا أفارقك. قال: قد علمت اغتمام والدي بي، فإذا حبستك ازداد غمّه، و لا سبيل إلى ذلك إلّا أن أنسبك

إلى ما لا يجمل. قال: لا أبالي فافعل ما بدا لك. قال: فإنّي أدسّ صاعي في رحلك، ثمّ أنادي عليك بأنّك قد سرقته، ليتهيّأ لي ردّك بعد تسريحك معهم. قال: افعل» «1».

انتهى كلامه.

أقول: ظاهر هذه الرواية غير مطابق لأصول الكلام كما لا يخفى.

و قال في المجمع: «و يجوز أن يكون ذلك بأمر اللّه تعالى. و روي أنّه أعلم أخاه بذلك ليجعله طريقا إلى التمسّك به» «2».

قالُوا قال أصحاب العير وَ أَقْبَلُوا عَلَيْهِمْ حال كونهم مقبلين على أصحاب يوسف ما ذا تَفْقِدُونَ أيّ شي ء ضاع عنكم؟ و الفقد غيبة الشي ء عن البصر بحيث لا يعرف مكانه.

قالُوا نَفْقِدُ صُواعَ الْمَلِكِ وَ لِمَنْ جاءَ بِهِ حِمْلُ بَعِيرٍ من الطعام، جعلا له وَ أَنَا بِهِ زَعِيمٌ كفيل أؤدّيه إلى من ردّه. و فيه دليل على جواز الجعالة و ضمان الجعل قبل تمام العمل.

قالُوا تَاللَّهِ قسم فيه معنى التعجّب. و التاء بدل من الباء، مختصّة باللّه سبحانه. لَقَدْ عَلِمْتُمْ ما جِئْنا لِنُفْسِدَ فِي الْأَرْضِ استشهدوا بعلمهم على براءة أنفسهم، لما عرفوا منهم في كرّتي مجيئهم و مداخلتهم للملك ممّا يدلّ على فرط أمانتهم، كردّ البضاعة الّتي جعلت في رحالهم، و كعم «3» أفواه الدوابّ لئلّا تتناول

______________________________

(1) الكشّاف 2: 489.

(2) مجمع البيان 5: 252.

(3) كعم البعير كعما: شدّ فمه لئلّا يعضّ أو يأكل.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 397

زرعا أو طعاما لأحد من أهل الأسواق. وَ ما كُنَّا سارِقِينَ و ما كنّا نوصف قطّ بالسرقة، فالسرقة منافية لحالنا.

قالُوا فَما جَزاؤُهُ فما جزاء السارق أو السرق أو الصواع، على حذف المضاف، أي: جزاء سرقة الصواع إِنْ كُنْتُمْ كاذِبِينَ في ادّعاء البراءة.

قالُوا جَزاؤُهُ مَنْ وُجِدَ فِي رَحْلِهِ فَهُوَ جَزاؤُهُ أي: جزاء سرقته أخذ من

وجد في رحله، و استرقاقه سنة. هكذا كان شرع يعقوب عليه السّلام. و قوله: «فهو جزاؤه» تقرير للحكم و إلزام له، أو خبر «من» و الفاء لتضمّنها معنى الشرط، أو جواب لكلمة «من» على أنّها شرطيّة. و الجملة كما هي خبر «جزاؤه» على إقامة الظاهر فيها مقام الضمير، كأنّه قيل: جزاؤه من وجد في رحله فهو هو. كَذلِكَ مثل ما ذكرناه من الجزاء نَجْزِي الظَّالِمِينَ بالسرقة، يعني: إذا سرقوا استرقّوا.

فَبَدَأَ بِأَوْعِيَتِهِمْ فبدأ المؤذّن. و قيل: بدأ يوسف بأوعيتهم، لأنّهم ردّوا إلى مصر. قَبْلَ وِعاءِ أَخِيهِ بنيامين نفيا للتهمة ثُمَّ اسْتَخْرَجَها أي: السقاية أو الصواع، لأنّه يذكّر و يؤنّث مِنْ وِعاءِ أَخِيهِ

كَذلِكَ مثل ذلك الأمر الخفيّ الّذي هو في صورة الكيد و البهتان لا حقيقة، كما مرّ «1» في تفسير قوله: «ثُمَّ أَذَّنَ مُؤَذِّنٌ ... إلخ» كِدْنا لِيُوسُفَ بأن علّمناه إيّاه و أوحينا به إليه ليتوصّل بما يتهيّأ له أن يحبس أخاه، ليكون ذلك سببا لوصول خبره إلى أبيه ما كانَ لِيَأْخُذَ أَخاهُ فِي دِينِ الْمَلِكِ ملك مصر، لأنّ دينه الضرب و تغريم ضعف ما أخذ، دون الاسترقاق. و هو بيان للكيد إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إلّا بمشيئة اللّه و إذنه أن يجعل ذلك الحكم حكم الملك. فالاستثناء من أعمّ الأحوال. و يجوز أن يكون منقطعا، أي: لكن أخذه بمشيئة اللّه تعالى و إذنه.

نَرْفَعُ دَرَجاتٍ مَنْ نَشاءُ بالعلم، كما رفعنا درجة يوسف وَ فَوْقَ كُلِّ ذِي عِلْمٍ عَلِيمٌ

______________________________

(1) راجع ص: 395.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 398

أرفع درجة منه في علمه، حتّى ينتهي إلى اللّه تعالى العالم لذاته، فلا يختصّ بمعلوم دون معلوم، فيقف عليه و لا يتعدّاه.

[سورة يوسف (12): الآيات 77 الى 79]

قالُوا إِنْ يَسْرِقْ فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ مِنْ

قَبْلُ فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ وَ لَمْ يُبْدِها لَهُمْ قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ (77) قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (78) قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ إِلاَّ مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ (79)

روي: أنّهم لمّا استخرجوا الصاع من رحل بنيامين نكس إخوته رؤوسهم حياء، و أقبلوا عليه و قالوا له: ما الّذي صنعت؟ فضحتنا و سوّدت وجوهنا، يا بني راحيل ما يزال لنا منكم بلاء، متى أخذت هذا الصاع؟

ثمّ قالُوا إِنْ يَسْرِقْ بنيامين فَقَدْ سَرَقَ أَخٌ لَهُ يعنون يوسف مِنْ قَبْلُ فليست سرقته بأمر بديع، فإنّه اقتدى بأخيه يوسف.

قيل: ورثت عمّته من أبيها منطقة «1» إبراهيم، و كانت تحضن يوسف و تحبّه حبّا شديدا، فلمّا ترعرع أراد يعقوب انتزاعه منها، فشدّت المنطقة على وسطه ثمّ أظهرت ضياعها، فتفحّص عنها فوجدت محزومة عليه، فصارت أحقّ به في شريعتهم.

______________________________

(1) المنطقة: ما ينتطق به، اي: يشدّ على الوسط.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 399

و قيل: كان لأبي أمّه صنم، فسرقه و كسره و ألقاه في الجيف. و قيل: كان في البيت عناق أو دجاجة فأعطاها السائل.

و القول الأوّل أشهر و أكثر، و مرويّ عن أئمّتنا عليهم السّلام و ابن عبّاس و الضحّاك و الجبائي.

فَأَسَرَّها يُوسُفُ فِي نَفْسِهِ فأخفى يوسف تلك الكلمة الّتي قالوها، أو تلك الإجابة، أو نسبة السرقة إليه وَ لَمْ يُبْدِها لَهُمْ و لم يظهرها لهم. و قيل: الضمير كناية بشريطة التفسير، و تفسيرها قوله: قالَ أَنْتُمْ شَرٌّ مَكاناً فإنّه بدل من «أسرّها». و المعنى: قال في نفسه: أنتم شرّ مكانا، أي: منزلة في السرقة، لسرقتكم أخاكم، أو في سوء الصنيع

ممّا كنتم عليه من ظلمكم على أخيكم و عقوق أبيكم.

و تأنيث هذا القول باعتبار الكلمة أو الجملة. و فيه نظر، إذ المفسّر بالجملة لا يكون إلّا ضمير الشأن. وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَصِفُونَ و هو يعلم أنّه ليس الأمر كما تصفون، و لم يصحّ لي و لأخي سرقة.

ثمّ رقّقوا في القول و استعطفوه بذكر أبيهم قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ إِنَّ لَهُ أَباً شَيْخاً كَبِيراً في القدر أو السنّ فَخُذْ أَحَدَنا مَكانَهُ بدله على وجه الاسترهان أو الاستعباد، فإنّ أباه ثكلان على أخيه الهالك، مستأنس به إِنَّا نَراكَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ إمّا متعدّ، و معناه: من المحسنين إلينا، فأتمم إحسانك. أو لازم، و معناه: من الّذين عادتهم الإحسان، فلا تغيّر عادتك.

قالَ مَعاذَ اللَّهِ أَنْ نَأْخُذَ نعوذ باللّه معاذا من أن نأخذ، فأضيف المصدر إلى المفعول به، و حذف «من» إِلَّا مَنْ وَجَدْنا مَتاعَنا عِنْدَهُ هذا كلام موجّه بوجهين، ظاهره: أنّ أخذ غيره ظلم على فتواكم، فلو أخذنا أحدكم مكانه إِنَّا إِذاً لَظالِمُونَ في مذهبكم هذا، فلا تطلبوا منّي ما تعرفون أنّه ظلم. و باطنه: أنّ اللّه تعالى أذن في أخذ من وجدنا الصاع في رحله، لمصلحته و رضاه عليه، فلو أخذت غيره كنت ظالما عاملا بخلاف ما أمرت به.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 400

[سورة يوسف (12): الآيات 80 الى 82]

زبدة التفاسير ج 3 449

فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ خَلَصُوا نَجِيًّا قالَ كَبِيرُهُمْ أَ لَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ وَ مِنْ قَبْلُ ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ (80) ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ وَ ما شَهِدْنا إِلاَّ بِما عَلِمْنا وَ ما كُنَّا لِلْغَيْبِ

حافِظِينَ (81) وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها وَ الْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها وَ إِنَّا لَصادِقُونَ (82)

فَلَمَّا اسْتَيْأَسُوا مِنْهُ يئسوا من يوسف و إجابته إيّاهم. و زيادة السين و التاء للمبالغة، مثل: استعصم. و عن البزّي: استأيس، بالألف و فتح الياء من الهمزة. و إذا وقف حمزة ألقى حركة الهمزة على الياء على أصله. خَلَصُوا انفردوا عن الناس و اعتزلوا بحيث لا يخالطهم سواهم نَجِيًّا متناجين. و إنّما وحّده لأنّه مصدر أو بزنته، كما قيل: هم صديق. و جمعه أنجية، ك: نديّ و أندية. أو كان التقدير: ذوي نجوى، أو فوجا نجيّا، أي: متناجيا. و كان تناجيهم في تدبير أمرهم، أ يرجعون أم يقيمون؟ و إذا رجعوا فما ذا يقولون لأبيهم في شأن أخيهم؟

قالَ كَبِيرُهُمْ في السنّ، و هو روبيل ابن خالة يوسف، و هو الّذي نهى إخوته عن قتله. أو في الرأي و العلم، و هو شمعون، و كان رئيسهم. و قيل: في الشجاعة، و هو يهوذا. و عن محمّد بن إسحاق و عليّ بن إبراهيم بن هاشم «1» أنّه

______________________________

(1) تفسير عليّ بن إبراهيم 1: 349.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 401

لاوي. أَ لَمْ تَعْلَمُوا أَنَّ أَباكُمْ قَدْ أَخَذَ عَلَيْكُمْ مَوْثِقاً مِنَ اللَّهِ عهدا وثيقا. و إنّما جعل حلفهم باللّه موثقا منه، لأنّه بإذن منه و تأكيد من جهته. وَ مِنْ قَبْلُ و من قبل هذا ما فَرَّطْتُمْ فِي يُوسُفَ قصّرتم في شأنه.

و «ما» مزيدة. و يجوز أن تكون مصدرا، على أنّ محلّ المصدر الرفع على الابتداء، و خبره الظرف، و هو «من قبل». و معناه: و وقع من قبل تفريطكم في يوسف. أو النصب عطفا على مفعول «ألم تعلموا»، و هو «أنّ أباكم». و

لا بأس بالفصل بين العاطف و المعطوف بالظرف. كأنّه قيل: ألم تعلموا أخذ أبيكم عليكم موثقا و تفريطكم من قبل في يوسف. و أن تكون موصولة، بمعنى: و من قبل هذا ما قدّمتموه في حقّه من الخيانة العظيمة. و محلّه ما تقدّم.

فَلَنْ أَبْرَحَ الْأَرْضَ فلن أفارق أرض مصر حَتَّى يَأْذَنَ لِي أَبِي في الانصراف إليه أَوْ يَحْكُمَ اللَّهُ لِي أو يقضي لي بالخروج منها، أو بخلاص أخي منهم، أو بالمقاتلة معهم لتخليصه وَ هُوَ خَيْرُ الْحاكِمِينَ لأنّ حكمه لا يكون إلّا بالحقّ.

ارْجِعُوا إِلى أَبِيكُمْ فَقُولُوا يا أَبانا إِنَّ ابْنَكَ سَرَقَ على ما شاهدناه من ظاهر الأمر وَ ما شَهِدْنا إِلَّا بِما عَلِمْنا بأن رأينا أنّ الصواع استخرج من وعائه وَ ما كُنَّا لِلْغَيْبِ للأمر الخفيّ حافِظِينَ فلا ندري أنّه سرق، أو سرق و دسّ الصواع في رحله. أو و ما كنّا للعواقب عالمين، فلم ندر حين أعطيناك الموثق أنّه سيسرق، أو أنّك تصاب به كما أصبت بيوسف.

وَ سْئَلِ الْقَرْيَةَ الَّتِي كُنَّا فِيها يعنون مصر. و العرب تسمّي الأمصار و المدائن قرى. أو قرية بقربها لحقهم المنادي فيها لطلب السقاية. و المعنى: أرسل إلى أهلها و اسألهم عن القصّة. وَ الْعِيرَ الَّتِي أَقْبَلْنا فِيها و أصحاب العير الّتي توجّهنا فيهم و كنّا معهم. و هم كانوا قوما من كنعان من جيران يعقوب. و قيل: من

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 402

أهل صنعاء. و إنّما قالوا ذلك لأنّهم كانوا أهل تهمة عند يعقوب. وَ إِنَّا لَصادِقُونَ تأكيد في محلّ القسم.

[سورة يوسف (12): الآيات 83 الى 84]

قالَ بَلْ سَوَّلَتْ لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً فَصَبْرٌ جَمِيلٌ عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (83) وَ تَوَلَّى عَنْهُمْ وَ قالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ

وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ مِنَ الْحُزْنِ فَهُوَ كَظِيمٌ (84)

فلمّا رجعوا إلى أبيهم و قالوا له ما قال أخوهم قالَ ما عندي أنّ الأمر على ما تقولونه بَلْ سَوَّلَتْ أي: زيّنت و سهّلت لَكُمْ أَنْفُسُكُمْ أَمْراً أردتموه فقدّرتموه، و إلّا فما أدرى الملك أنّ السارق يؤخذ بسرقته لولا تعليمكم فَصَبْرٌ جَمِيلٌ أي: فأمري صبر جميل، أو فصبر جميل أجمل عَسَى اللَّهُ أَنْ يَأْتِيَنِي بِهِمْ جَمِيعاً بيوسف و بنيامين و أخيهما الّذي توقّف بمصر إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بحالي في الحزن و الأسف، و بحالهم الْحَكِيمُ في تدبيره، لم يبتلني إلّا بحكمة و مصلحة.

وَ تَوَلَّى عَنْهُمْ و أعرض عنهم كراهة لما صادف منهم وَ قالَ يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ أي: يا أسفا، تعال فهذا أوانك. و الأسف أشدّ الحزن و الحسرة. و الألف بدل من ياء المتكلّم. و إنّما تأسّف على يوسف دون أخويه و الأمر الحادث هو مصيبتهما، لأنّ مصيبة يوسف و إن كانت قديمة، لكن كانت قاعدة المصيبات الّتي ترتّبت عليها الرزايا في ولده. أو لأنّ الرزء فيه مع تقادم عهده كان غضّا طريّا عنده، آخذا بمجامع قلبه. و لأنّه كان واثقا بحياتهما دون حياته.

عن ابن عبّاس أنّه قال: لم تعط أمّة من الأمم «إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ» عند

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 403

المصيبة إلّا أمّة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ألا ترى إلى يعقوب حين أصابه ما أصابه لم يسترجع و قال: «يا أَسَفى عَلى يُوسُفَ».

وَ ابْيَضَّتْ عَيْناهُ لكثرة بكائه مِنَ الْحُزْنِ و الغمّ الشديد، فكأنّ العبرة محقت سواد العين، و قلبته إلى بياض كدر. و قيل: ضعف بصره، و كان لا يرى إلا رؤية ضعيفة. و قيل: إنّه عمي ستّ سنين.

و

روي: ما جفّت عينا يعقوب من وقت فراق يوسف إلى حين لقائه ثمانين عاما، و ما على الأرض أكرم على اللّه من يعقوب.

قيل اشترى يعقوب يوما جارية مع ولدها فباع ولدها فبكت حتّى عميت، و لأجل ذلك ابيضّت عيناه من كثرة البكاء في فراق يوسف.

و فيه دليل على جواز التأسّف و البكاء عند التفجّع. و لعلّ أمثال ذلك لا تدخل تحت التكليف، فإنّه قلّ من يملك نفسه عند الشدائد، و

لقد بكى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على ولده إبراهيم و قال: القلب يجزع، و العين تدمع، و لا نقول ما يسخط الربّ، و إنّا عليك يا إبراهيم لمحزونون.

فَهُوَ كَظِيمٌ مملوء من الغيظ على أولاده، ممسك له في قلبه، و لا يظهره.

فعيل بمعنى مفعول، كقوله تعالى: وَ هُوَ مَكْظُومٌ «1». من: كظم السقاء إذا شدّه على ملئه. أو بمعنى فاعل، كقوله: وَ الْكاظِمِينَ الْغَيْظَ «2». من: كظم الغيظ إذا اجترعه.

و أصله: كظم البعير جرّته «3» إذا ردّها في جوفه.

و

عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «أنّه سأل جبرئيل ما بلغ من وجد يعقوب على يوسف؟ قال: وجد سبعين ثكلى. قال: فما كان له من الأجر؟ قال: أجر مائة شهيد، و ما ساء ظنّه باللّه ساعة قطّ».

______________________________

(1) القلم: 48.

(2) آل عمران: 134.

(3) الجرّة: ما يخرجه البعير من بطنه ليمضغه ثم يبلعه.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 404

[سورة يوسف (12): الآيات 85 الى 87]

قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا تَذْكُرُ يُوسُفَ حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ (85) قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي وَ حُزْنِي إِلَى اللَّهِ وَ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (86) يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِنَّهُ لا

يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلاَّ الْقَوْمُ الْكافِرُونَ (87)

قالُوا تَاللَّهِ تَفْتَؤُا أي: لا تفتأ و لا تزال تَذْكُرُ يُوسُفَ تفجّعا عليه.

فحذف «لا»، كما في قول امرئ القيس «1»- حين ذهب ذات ليلة إلى قصر بنت قيصر ملك الروم، فقالت: حضرت الرقباء، و لم يتيسّر الوصال-:

فقلت يمين اللّه أبرح قاعداو لو قطّعوا رأسي لديك و أوصالي

لأنّه لا يلتبس بالإثبات، فإنّ القسم إذا لم تكن معه علامة الإثبات كان على النفي، و لو كان إثباتا لم يكن بدّ من اللام و النون.

حَتَّى تَكُونَ حَرَضاً مريضا مشرفا على الهلاك. و قيل: الحرض الّذي أذابه همّ أو مرض. و هو في الأصل مصدر، و لذلك لا يؤنّث و لا يجمع. و النعت بالكسر، كدنف و دنف. و هو المرض الّذي لا يرجى زواله. أَوْ تَكُونَ مِنَ الْهالِكِينَ من الميّتين.

قيل: دخل على يعقوب جار له فقال: يا يعقوب قد تهشّمت و فنيت، و بلغت من السنّ ما بلغ أبوك. فقال: هشمني و أفناني ما ابتلاني اللّه به من همّ يوسف.

فأوحى اللّه إليه: يا يعقوب، أ تشكوني إلى خلقي؟ قال: يا ربّ خطيئة أخطأتها فاغفر لي. فكان بعد ذلك إذا سئل قالَ إِنَّما أَشْكُوا بَثِّي همّي الّذي لا أقدر الصبر

______________________________

(1) ديوان امرئ القيس: 141.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 405

عليه، من البثّ بمعنى النشر وَ حُزْنِي و شدّة غمّي إِلَى اللَّهِ لا إلى أحد منكم و من غيركم، فخلّوني و شكايتي وَ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ من صنعه و رحمته، و أنّه لا يخيب داعيه، و لا يدع الملتجئ إليه. أو و أعلم من اللّه بنوع من الإلهام. ما لا تَعْلَمُونَ من حياة يوسف.

و قيل: إنّه أوحي إلى يعقوب: إنّما وجدت عليكم لأنّكم ذبحتم

شاة فقام ببابكم مسكين فلم تطعموه، و إن أحبّ خلقي إليّ الأنبياء ثم المساكين، فاصنع طعاما و ادع عليه المساكين لأرجع إليك يوسف، فصنع ذلك. و لهذا قال: «وَ أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ».

و قيل: رأى ملك الموت في المنام فسأله عن يوسف، فقال: هو حيّ.

و

في كتاب النبوّة بالإسناد عن سدير الصيرفي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: إنّ يعقوب دعا اللّه سبحانه في أن يهبط عليه ملك الموت، فأجابه. فقال: ما حاجتك؟

قال: أخبرني هل مرّ بك روح يوسف في الأرواح؟ فقال: لا. فعلم أنّه حيّ.

و قيل: علم من رؤيا يوسف أنّه لا يموت حتّى يخرّ له إخوته سجّدا، و لذلك قال: يا بَنِيَّ اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا أي: فتجسّسوا و تفحّصوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ فتعرّفوا منهما. و التحسّس تطلّب الإحساس، و هو المعرفة. و كذا بالجيم. وَ لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ و لا تقنطوا من فرجه و تنفيسه. و قيل: من رحمته. إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ باللّه تعالى و صفاته، فإنّ المؤمن لا يقنط من رحمته في شي ء من الأحوال عند البلاء.

قال الجبائي: العلّة في خفاء أخبار يوسف على يعقوب في المدّة الطويلة مع قرب المسافة، و عدم إخبار يوسف حاله له، أنّه حمل إلى مصر فبيع من عزيز فألزمه داره، ثمّ لبث في السجن بضع سنين، فانقطعت أخبار الناس عنه، فلمّا تمكّن احتال في إيصال خبره بأبيه على الوجه الّذي أمكنه، و كان لا يأمن لو بعث

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 406

رسولا إليه أن لا يمكّنه إخوته من الوصول إليه.

و قال المرتضى قدّس سرّه: «يجوز أن يكون ذلك ليوسف ممكنا، و كان عليه قادرا، لكن اللّه سبحانه

أوحى إليه بأن يعدل عن اطّلاعه على خبره تشديدا للمحنة عليه، و للّه سبحانه أن يصعب التكليف و أن يسهّله» «1».

[سورة يوسف (12): آية 88]

فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ وَ جِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ فَأَوْفِ لَنَا الْكَيْلَ وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنا إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ (88)

و لمّا قال يعقوب لبنيه: «اذْهَبُوا فَتَحَسَّسُوا مِنْ يُوسُفَ وَ أَخِيهِ» رجعوا إلى مصر رجعة ثانية فَلَمَّا دَخَلُوا عَلَيْهِ على يوسف قالُوا يا أَيُّهَا الْعَزِيزُ مَسَّنا وَ أَهْلَنَا الضُّرُّ الهزال من شدّة الجوع. شكوا إلى يوسف ما نالهم من القحط و هلاك المواشي. وَ جِئْنا بِبِضاعَةٍ مُزْجاةٍ رديئة أو قليلة، تردّ و تدفع رغبة عنها، من:

أزجيته إذا دفعته، و منه تزجية الزمان. قيل: كانت دراهم زيوفا «2» لا تنفق في ثمن الطعام. و قيل: صوفا و سمنا. و قيل: الصنوبر و الحبّة الخضراء. و قيل: الأقط «3» و سويق المقل.

فَأَوْفِ فأتمم لَنَا الْكَيْلَ وَ تَصَدَّقْ عَلَيْنا بالمسامحة و قبول المزجاة، و الإغماض عن رداءته، أو بالزيادة على ما يساويها. و قيل: بردّ أخينا. إِنَّ اللَّهَ يَجْزِي الْمُتَصَدِّقِينَ أحسن الجزاء. و التصدّق التفضّل مطلقا. و منه

قوله عليه السّلام في القصر «4»: «هذه صدقة تصدّق اللّه بها عليكم، فاقبلوا صدقته».

لكنّه اختصّ عرفا

______________________________

(1) تنزيه الأنبياء: 57.

(2) الزيوف جمع الزائف، و هو: الدرهم الردي ء المردود الذي دخله غشّ.

(3) الأقط: الجبن.

(4) أي: في قصر الصلاة في السفر.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 407

بعطيّة يبتغى بها ثواب من اللّه. و تسميتهم ما هو فضل و زيادة صدقة، لا يلزمها صدقة حقيقة، لأنّ الصدقات محظورة على الأنبياء. و قيل: كانت تحلّ لغير نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[سورة يوسف (12): الآيات 89 الى 92]

قالَ هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ وَ أَخِيهِ إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ (89) قالُوا أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ قالَ أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا إِنَّهُ

مَنْ يَتَّقِ وَ يَصْبِرْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ (90) قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا وَ إِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ (91) قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (92)

و لمّا رأى يوسف من عجزهم و تمسكنهم لم يتمالك إلّا أن عرّفهم نفسه و قالَ لهم استفهاما عن وجه القبح هَلْ عَلِمْتُمْ ما فَعَلْتُمْ بِيُوسُفَ من إذلاله و إبعاده عن أبيه، و إلقائه في البئر، و الاجتماع على قتله، و بيعه بثمن بخس وَ أَخِيهِ من إفراده عن يوسف، و التفريق بينهما، حتّى صار ذليلا فيما بينكم، لا يستطيع أن يكلّمكم إلا بعجز و ذلّة إِذْ أَنْتُمْ جاهِلُونَ قبحه، فلذلك أقدمتم عليه، أو عاقبته. و إنّما قال ذلك تنصيحا لهم، و تحريضا على التوبة، و شفقة عليهم، لا معاتبة و تثريبا. و إنّما جهّلهم لأنّ فعلهم كان فعل الجهّال، أو لأنّهم كانوا حينئذ صبيانا مشرفين الحلم طيّاشين «1».

______________________________

(1) الطيّاش: من لا يقصد وجها واحدا لخفّة عقله.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 408

و قيل: أعطوه كتاب يعقوب مضمونه: من يعقوب إسرائيل اللّه بن إسحاق ذبيح اللّه بن إبراهيم خليل اللّه، إلى عزيز مصر. أمّا بعد، فإنّا أهل بيت موكّل بنا البلاء. أمّا جدّي، فشدّت يداه و رجلاه و رمي به في النار ليحرق، فنجّاه اللّه، و جعلت النار عليه بردا و سلاما. و أمّا أبي، فوضع السكّين على قفاه ليقتل، ففداه اللّه. فأمّا أنا، فكان لي ابن و كان أحبّ أولادي إليّ و قرّة عيني و ثمرة فؤادي، فذهب به إخوته إلى البرّيّة، ثمّ أتوني بقميصه ملطّخا بالدم، و قالوا: قد أكله الذئب، فذهبت عيناي من بكائي عليه. ثمّ كان لي ابن، و

كان أخاه من أمّه، و كنت أتسلّى به، فذهبوا به ثمّ رجعوا و قالوا: إنّه سرق، و إنّك حبسته عنّي و فجعتني به. و قد اشتدّ لفراقه حزني، حتّى تقوّس لذلك ظهري. و إنّا أهل بيت لا نسرق و لا نلد سارقا، فإن رددته عليّ و إلا دعوت عليك دعوة تدرك السابع من ولدك، و السلام.

فلمّا قرأ يوسف الكتاب لم يتمالك و زال صبره، و وضعه على عينيه، و انتحب حتّى بلّت دموعه القميص الذي عليه. ثمّ أقبل عليهم فقال لهم: هل علمتم ما فعلتم بيوسف و أخيه إذ أنتم جاهلون؟

قالُوا أَ إِنَّكَ لَأَنْتَ يُوسُفُ استفهام تقرير، و لذلك حقّق ب «إنّ» و دخول اللام عليه. و قرأ ابن كثير على الإيجاب «1». قيل: عرفوه بزيّه و شمائله حين كلّمهم به و قيل: تبسّم فعرفوه بثناياه، فإنّها كانت كاللؤلؤ المنظوم. و قيل: رفع التاج عن رأسه، فرأوا علامة بناصيته تشبه الشامة «2» البيضاء، و كانت لسارة و يعقوب مثلها.

قالَ أَنَا يُوسُفُ وَ هذا أَخِي من أبي و أمّي. ذكره تعريفا لنفسه به، و تفخيما لشأنه، و إدخالا له في قوله: قَدْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بالسلامة و الكرامة، و الاجتماع بعد طول الفرقة إِنَّهُ مَنْ يَتَّقِ يخف اللّه وَ يَصْبِرْ على البليّات، أو على الطاعات

______________________________

(1) أي: إنّك، بدون همزة الاستفهام.

(2) الشامة: الخال، أي: بثرة سوداء في البدن حولها شعر.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 409

و عن المعاصي فَإِنَّ اللَّهَ لا يُضِيعُ أَجْرَ الْمُحْسِنِينَ وضع «المحسنين» موضع الضمير للتنبيه على أنّ المحسن من جمع بين التقوى و الصبر.

قالُوا تَاللَّهِ لَقَدْ آثَرَكَ اللَّهُ عَلَيْنا اختارك و فضّلك علينا بالحلم و العقل و العلم و الملك، و حسن الصورة و

كمال السيرة وَ إِنْ كُنَّا لَخاطِئِينَ و الحال إنّ شأننا أنّا كنّا مذنبين عمدا بما فعلنا معك، فلا جرم أنّ اللّه أعزّك و أذلّنا.

قالَ لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ لا تعيير عليكم. تفعيل من الثرب، و هو الشحم الّذي يغشي الكرش. و معناه: إزالة الثرب، فاستعير للتقريع الّذي يمزّق العرض و يذهب ماء الوجه. الْيَوْمَ متعلّق بالتثريب، أو بالمقدّر للجارّ الواقع خبرا ل «لا تثريب».

و المعنى: لا أثرّبكم اليوم الّذي هو مظنّة التثريب، فما ظنّكم بسائر الأيّام؟! أو بقوله: يَغْفِرُ اللَّهُ لَكُمْ لأنّه صفح عن جريمتهم حين اعترفوا بها.

روي: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخذ بعضادتي باب الكعبة يوم الفتح، فقال لقريش: ما ترونني فاعلا بكم؟ قالوا: نظنّ خيرا، أخ كريم و ابن أخ كريم، و قد قدرت. فقال: أقول ما قال أخي يوسف: «لا تَثْرِيبَ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ».

وَ هُوَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ فإنّه يغفر الصغائر و الكبائر، و يتفضّل على التائب.

و من جملة كرم يوسف أنّهم لمّا عرفوه أرسلوا إليه و قالوا: إنّك تدعونا بالبكرة و العشيّ إلى الطعام، و نحن نستحي منك لما فرط منّا فيك. فقال: إنّ أهل مصر كانوا ينظرون إليّ بالعين الأولى، و يقولون: سبحان من بلّغ عبدا بيع بعشرين درهما ما بلّغ، و لقد شرّفت بكم و عظّمت في عيونهم حيث علموا أنّكم إخوتي، و أنّي من حفدة إبراهيم عليه السّلام.

[سورة يوسف (12): الآيات 93 الى 98]

اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً وَ أْتُونِي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ (93) وَ لَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ قالَ أَبُوهُمْ إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ (94) قالُوا تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ (95) فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً قالَ أَ

لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ (96) قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ (97)

قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (98)

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 410

و

روي أنّه عليه السّلام لمّا عرّفهم نفسه سألهم عن أبيه، فقال: ما فعل أبي بعدي؟

قالوا: ذهبت عيناه. فقال: اذْهَبُوا بِقَمِيصِي هذا و هو القميص الّذي كان عليه.

قيل: القميص المتوارث من إبراهيم الّذي كان في التعويذ. و هو الأصحّ. و هذا كان معجزا منه، إذ لا يعرف أنه يعود بصيرا بإلقاء القميص على وجهه إلّا بالوحي، كما قال مجاهد: إنّ جبرئيل أمره أن أرسل إليه قميصك، فإنّ فيه ريح الجنّة، لا يقع على مبتلى و لا سقيم إلّا صحّ و عوفي.

فَأَلْقُوهُ عَلى وَجْهِ أَبِي يَأْتِ بَصِيراً يرجع ذا بصر، أو يأت أبي و هو بصير وَ أْتُونِي أنتم و أبي بِأَهْلِكُمْ أَجْمَعِينَ بنسائكم و ذراريكم و مواليكم.

قيل: يهودا هو حامل القميص، قال: أنا أحزنته بحمل القميص ملطّخا بالدم إليه، فأفرّحه كما أحزنته.

و قيل: حمله و هو حاف حاسر من مصر إلى كنعان، و بينهما مسيرة ثمانين فرسخا، و كان معه سبعة أرغفة، فلم يستوف الأرغفة في الطريق.

وَ لَمَّا فَصَلَتِ الْعِيرُ من مصر، و خرجت من عمرانها. يقال: فصل من البلد فصولا، إذا انفصل منه و جاوز حيطانه. قالَ أَبُوهُمْ لمن حضره من حفده إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «وجد يعقوب ريح يوسف حين

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 411

فصلت العير من مصر و هو بفلسطين، من مسيرة عشرة ليال».

و عن ابن عبّاس:

مسيرة ثمان ليال. و عنه أيضا أنّ ريحا هاجت فحملت ريح يوسف من قميصه.

و ذكر أنّ

الصبا استأذنت ربّها أن تأتي يعقوب بريح يوسف قبل أن يأتيه البشير بالقميص، فأذن لها، فأتته بها، و لذلك يتروّح كلّ محزون بريح الصبا.

فلمّا وصلت الريح إلى يعقوب قال: إنّي لأجد ريح يوسف لَوْ لا أَنْ تُفَنِّدُونِ لو لا أن تنسبوني إلى الفند. و هو نقصان عقل يحدث من هرم، و لذلك لا يقال: عجوز مفنّدة، لأنّ نقصان عقلها ذاتيّ. و جواب «لولا» محذوف، تقديره:

لصدّقتموني، أو لقلت: إنّه قريب.

قالُوا أي: الحاضرون تَاللَّهِ إِنَّكَ لَفِي ضَلالِكَ الْقَدِيمِ لفي ذهابك عن الصواب قدما، بإفراط محبّتك ليوسف، و إكثار ذكره، و توقّعك للقائه، و كان عندهم أنّه قد مات.

فَلَمَّا أَنْ جاءَ الْبَشِيرُ يهوذا أَلْقاهُ عَلى وَجْهِهِ فَارْتَدَّ بَصِيراً عاد بصيرا لما انتعش فيه من القوّة قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ إِنِّي أَعْلَمُ مِنَ اللَّهِ ما لا تَعْلَمُونَ من حياة يوسف و إنزال الفرج. و قيل: «إني أعلم» كلام مبتدأ، و المقول «لا تَيْأَسُوا مِنْ رَوْحِ اللَّهِ»، أو «إِنِّي لَأَجِدُ رِيحَ يُوسُفَ».

روي: أنّه سأل البشير كيف يوسف؟ قال: هو ملك مصر. قال: ما أصنع بالملك؟! على أيّ دين تركته؟ قال: على دين الإسلام. قال: الآن تمّت النعمة.

و لمّا اجتمع الإخوة عند أبيهم قالُوا يا أَبانَا اسْتَغْفِرْ لَنا ذُنُوبَنا إِنَّا كُنَّا خاطِئِينَ و من حقّ المعترف بذنبه أن يصفح عنه و يسأل له المغفرة.

قالَ سَوْفَ أَسْتَغْفِرُ لَكُمْ رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ أخّره إلى السحر، أو إلى صلاة الليل، أو إلى ليلة الجمعة، تحرّيا لوقت الإجابة، أو ليتعرّف حالهم في صدق التوبة و إخلاصها، أو إلى أن يستحلّ لهم يوسف، أو يعلم أنّه عفا عنهم، فإنّ

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 412

عفو المظلوم شرط المغفرة.

و قيل: قام إلى الصلاة في وقت

السحر، فلمّا فرغ رفع يديه فقال: اللّهمّ اغفر لي جزعي على يوسف، و قلّة صبري عنه، و اغفر لولدي ما أتوا إلى أخيهم. فأوحي إليه: أنّ اللّه قد غفر لك و لهم أجمعين.

و

روي: أنّهم قالوا ليعقوب و قد علتهم الكآبة: إن لم يوح إليك بالعفو عنّا فلا قرّت لنا عين أبدا. فاستقبل القبلة قائما يدعو، و قام يوسف خلفه يؤمّن، و قام إخوته خلفهما، أذلّة خاشعين عشرين سنة، حتّى بلغ جهدهم، و ظنّوا أنّ الهلكة وقعت عليهم. فنزل جبرئيل عليه السّلام: قد أجاب دعوتك في ولدك.

و

روي: أنّ يوسف وجّه إلى أبيه جهازا و مائتي راحلة ليتجهّز إليه بمن معه، و خرج يوسف و الملك في أربعة آلاف من الجند، و العظماء و أهل مصر بأجمعهم، فلقوا يعقوب و هو يمشي يتوكّأ على يهوذا، فنظر إلى الخيل و الناس، فقال يا يهوذا:

أ هذا فرعون مصر؟ قال: لا هذا ولدك.

[سورة يوسف (12): الآيات 99 الى 100]

فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ وَ قالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ (99) وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً وَ قالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا وَ قَدْ أَحْسَنَ بِي إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ وَ جاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (100)

فَلَمَّا دَخَلُوا عَلى يُوسُفَ فلمّا لقيه يعقوب و أهله في موضع خارج من

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 413

مصر أو في بيت هناك، قال يعقوب: السلام عليك يا مذهب الأحزان.

و

في كتاب النبوّة بالإسناد عن محمد بن أبي عمير، عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال:

«لما أقبل يعقوب إلى مصر خرج يوسف ليستقبله، فلمّا رآه همّ أن يترجّل له، ثمّ نظر إلى ما هو فيه من الملك فلم يفعل. فلمّا سلّم على يعقوب نزل عليه جبرئيل، فقال له: يا يوسف إنّ اللّه جلّ و علا يقول: منعك أن تنزل إلى عبدي الصالح ما أنت فيه، أبسط يدك، فبسطها فخرج من بين أصابعه نور، فقال:

ما هذا يا جبرئيل؟ قال: هذا إنّه لا يخرج من صلبك نبيّ أبدا، عقوبة بما صنعت بيعقوب، إذ لم تنزل إليه».

و على تقدير صحّة هذه الرواية فالعتاب على يوسف لأجل ترك ندب و أدب صدر منه، لا ترك واجب، لمكان العصمة فيه.

قيل: إنّ يوسف قال له لمّا التقيا: يا أبت بكيت عليّ حتّى ذهب بصرك، ألم تعلم أنّ القيامة تجمعنا؟ فقال: بلى، و لكن خشيت أن يسلب دينك، فيحال بيني و بينك.

و قيل: إنّ يعقوب و ولده و سائر أهله دخلوا مصر، و هم اثنان و سبعون رجلا و امرأة، و كانوا حين خرجوا مع موسى ستّمائة ألف و خمسمائة و بضعة و ستّين رجلا، سوى الذرّيّة و الهرمى، و كانت الذرّيّة ألف ألف و مائتي ألف.

و حين دخلوا على يوسف آوى إِلَيْهِ أَبَوَيْهِ ضمّ إليه أباه و خالته و اعتنقهما. نزّلها اللّه تعالى منزلة الأمّ تنزيل العمّ منزلة الأب في قوله: وَ إِلهَ آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ «1». أو لأنّ يعقوب تزوّجها بعد أمّه، و الرابة تدعى أمّا.

وَ قالَ ادْخُلُوا مِصْرَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ من القحط و أصناف المكاره. و حذف الجزاء لدلالة الكلام عليه. و المشيئة متعلّقة بالدخول المكيّف بالأمن.

______________________________

(1) البقرة: 133.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 414

و لمّا دخلوا مصر عظّمهم و كرّمهم

وَ رَفَعَ أَبَوَيْهِ عَلَى الْعَرْشِ وَ خَرُّوا لَهُ سُجَّداً تحيّة و تكرمة له، فإنّ السجود كان عندهم يجري مجراها. و قيل: معناه:

خرّوا لأجله سجّدا للّه شكرا. و قيل:

الضمير للّه تعالى، و الواو لأبويه و إخوته. و هذا مرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و

قال عليّ بن إبراهيم: «حدّثني محمد بن عيسى بن عبيد بن يقطين أنّ يحيى بن أكثم سأل موسى بن محمّد بن عليّ بن موسى مسائل، فعرضها على أبي الحسن عليّ بن محمّد عليه السّلام، فكان إحداها أن قال: أخبرني أسجد يعقوب و ولده ليوسف؟

فأجاب أبو الحسن عليه السّلام: أمّا سجود يعقوب و ولده فإنّه لم يكن ليوسف، و إنّما كان ذلك منهم طاعة للّه و تحيّة ليوسف، كما أنّ السجود من الملائكة لآدم كان منهم طاعة للّه و تحيّة لآدم، فسجد يعقوب و ولده و يوسف معهم شكرا للّه لاجتماع شملهم» «1».

وَ قالَ يا أَبَتِ هذا تَأْوِيلُ رُءْيايَ مِنْ قَبْلُ رأيتها أيّام الصبا قَدْ جَعَلَها رَبِّي حَقًّا صدقا وَ قَدْ أَحْسَنَ بِي يقال: أحسن بي و إليّ، و أساء بي و إليّ إِذْ أَخْرَجَنِي مِنَ السِّجْنِ و لم يذكر الجبّ لئلّا يكون تثريبا عليهم وَ جاءَ بِكُمْ مِنَ الْبَدْوِ من البادية، لأنّهم كانوا أصحاب المواشي و أهل البدو مِنْ بَعْدِ أَنْ نَزَغَ الشَّيْطانُ بَيْنِي وَ بَيْنَ إِخْوَتِي أفسد بيننا و حرش، من: نزغ الرائض «2» الدابّة، إذا نخسها و حملها على الجري.

إِنَّ رَبِّي لَطِيفٌ لِما يَشاءُ لطيف في تدبير عباده، إذ ما من صعب إلّا و تنفذ فيه مشيئته و يتسهّل دونها إِنَّهُ هُوَ الْعَلِيمُ بوجوه المصالح في تدابير العباد الْحَكِيمُ الّذي يفعل كلّ شي ء في وقته، و على وجه تقتضي الحكمة.

روي:

أنّ يوسف عليه السّلام أخذ بيد يعقوب فطاف به في خزائنه، فأدخله خزائن

______________________________

(1) تفسير عليّ بن إبراهيم 1: 356.

(2) الرائض: الذي يعلّم الدوابّ السير و يذلّلها و يطوّعها. زبدة التفاسير، ج 3، ص: 415

الورق و الذهب و خزائن الحليّ و خزائن الثياب و خزائن السلاح، و غير ذلك. فلمّا أدخله خزانة القراطيس قال: يا بنيّ ما أعقك! عندك هذه القراطيس و ما كتبت إليّ على ثمان مراحل؟ قال: أمرني جبرئيل. قال: أو ما تسأله؟ قال: أنت أبسط منّي إليه فاسأله. فقال جبرئيل: اللّه أمرني بذلك، لقولك: «وَ أَخافُ أَنْ يَأْكُلَهُ الذِّئْبُ».

قال: فهلّا خفتني.

و

في كتاب النبوّة بالإسناد عن محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام، قال: «قلت له: كم عاش يعقوب مع يوسف بمصر؟ قال: عاش حولين. قلت: فمن كان الحجّة للّه في الأرض، يعقوب أم يوسف؟ قال: كان يعقوب الحجّة، و كان الملك ليوسف، فلمّا مات يعقوب حمله يوسف في تابوت إلى أرض الشام فدفنه في بيت المقدس، و كان يوسف بعد يعقوب الحجّة. قلت: و كان يوسف رسولا نبيّا؟ قال:

نعم، أما تسمع قوله عزّ و جلّ: وَ لَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ ».

و

في رواية اخرى: أنّ يعقوب أقام معه أربعا و عشرين سنة ثمّ مات، و أوصى أن يدفنه في الشام إلى جنب أبيه إسحاق. فمضى بنفسه و دفنه، ثمّ عاد إلى مصر، و عاش بعد أبيه ثلاثا و عشرين سنة.

و

بالإسناد عن أبي خالد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «دخل يوسف السجن و هو ابن اثنتي عشرة سنة، و مكث فيها ثماني عشرة سنة، و بقي بعد خروجه ثمانين سنة، فذلك مائة و عشر سنين».

[سورة يوسف (12): آية 101]

رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ

وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَنْتَ وَلِيِّي فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ تَوَفَّنِي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (101)

و لمّا جمع اللّه سبحانه له شمله، و أقرّ له عينه، و أتمّ له رؤياه، و وسّع عليه في

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 416

ملك الدنيا و نعيمها، علم أنّ ذلك لا يبقى له و لا يدوم، فطلب من اللّه سبحانه نعيما لا يفنى، و تاقت نفسه إلى الجنّة، فتمنّى الموت و دعا به، و لم يتمنّ ذلك من قبله و لا بعده أحد من الأنبياء، فقال: رَبِّ قَدْ آتَيْتَنِي مِنَ الْمُلْكِ بعض ملك الدنيا، و هو ملك مصر وَ عَلَّمْتَنِي مِنْ تَأْوِيلِ الْأَحادِيثِ الكتب أو الرؤيا. و «من» أيضا للتبعيض، لأنّه لم يؤت كلّ التأويل.

فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مبدعهما. و انتصابه على أنّه صفة المنادى، أو منادى برأسه. أَنْتَ وَلِيِّي ناصري، أو متولّي أمري فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ أو الّذي يتولّاني بالنعمة فيهما تَوَفَّنِي اقبضني عند انقضاء أجلي مُسْلِماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ من آبائي، أو بعامّة الصالحين في الرتبة و الكرامة.

روي أنّ يوسف لمّا توفّاه اللّه طيّبا طاهرا تخاصم أهل مصر في مدفنه حتّى همّوا بالقتال، فرأوا أن يجعلوه في صندوق من مرمر و يدفنوه في النيل بحيث يمرّ عليه الماء، ثمّ يصل إلى مصر، ليكونوا شرعا فيه. ثمّ نقله موسى عليه السّلام إلى مدفن آبائه. و قد ولد له من راعيل ميشا و أفرائيم. و هو جدّ يوشع بن نون و رحمة امرأة أيّوب عليه السّلام.

[سورة يوسف (12): آية 102]

ذلِكَ مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَ هُمْ يَمْكُرُونَ (102)

ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من نبأ يوسف. و الخطاب للرسول صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم. و هو مبتدأ، و قوله: مِنْ أَنْباءِ الْغَيْبِ نُوحِيهِ إِلَيْكَ خبران له. و قوله: وَ ما كُنْتَ لَدَيْهِمْ لدى إخوة يوسف إِذْ أَجْمَعُوا أَمْرَهُمْ وَ هُمْ يَمْكُرُونَ كالدليل على هذين الخبرين.

و المعنى: أنّ هذا النبأ غيب لم تعرفه إلّا بوحي، لأنّك لم تحضر إخوة يوسف حين عزموا على ما همّوا به من أن يجعلوه في غيابة الجبّ، و هم يمكرون به و بأبيه

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 417

ليرسله معهم، و من المعلوم الّذي لا يخفى على مكذّبيك أنّك ما لقيت أحدا سمع ذلك فتعلّمته منه. و إنّما حذف هذا الشقّ استغناء بذكره في غير هذه القصّة، كقوله:

ما كُنْتَ تَعْلَمُها أَنْتَ وَ لا قَوْمُكَ مِنْ قَبْلِ هذا «1». و هذا تهكّم بقريش و بمن كذّبوه.

[سورة يوسف (12): الآيات 103 الى 107]

وَ ما أَكْثَرُ النَّاسِ وَ لَوْ حَرَصْتَ بِمُؤْمِنِينَ (103) وَ ما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (104) وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَمُرُّونَ عَلَيْها وَ هُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ (105) وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ إِلاَّ وَ هُمْ مُشْرِكُونَ (106) أَ فَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (107)

و لمّا تقدّم ذكر الآيات و المعجزات الّتي لو تفكّروا فيها عرفوا الحقّ من جهتها فلم يتفكّروا، بيّن عقيبها أنّ التقصير من جهتهم حيث رضوا بالجهل، و ليس من جهته سبحانه، لأنّه نصب الأدلّة و البيّنات، و لا من جهتك، لأنّك دعوتهم، فقال:

وَ ما أَكْثَرُ النَّاسِ يريد العموم. و عن ابن عبّاس: أراد أهل مكّة. وَ لَوْ حَرَصْتَ على إيمانهم، و بالغت في إظهار الآيات عليهم بِمُؤْمِنِينَ لعنادهم، و تصميمهم على الكفر. و

الشرطيّة معترضة.

وَ ما تَسْئَلُهُمْ عَلَيْهِ على الأنباء، أو القرآن مِنْ أَجْرٍ جعل، كما يعطى حملة الأخبار، فيصدّهم ذلك عن الإيمان، فأعذارهم منقطعة إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ عظة

______________________________

(1) هود: 49.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 418

من اللّه لِلْعالَمِينَ عامّة.

وَ كَأَيِّنْ مِنْ آيَةٍ و كم من علامة و دلالة من الدلائل على وجود الصانع و حكمته، و كمال قدرته و توحيده فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ من الشمس و القمر، و السحاب و النجوم و الجبال، و الشجر و ألوان النبات، و أحوال المتقدّمين، و آثار الأمم السالفة في الأرض يَمُرُّونَ عَلَيْها على الآيات و يشاهدونها وَ هُمْ عَنْها مُعْرِضُونَ لا يتفكّرون فيها، و لا يعتبرون بها.

وَ ما يُؤْمِنُ أَكْثَرُهُمْ بِاللَّهِ في إقرارهم بوجوده و خالقيّته إِلَّا وَ هُمْ مُشْرِكُونَ بعبادة غيره، أو باتّخاذ الأحبار أربابا، أو نسبة التبنّي إليه، أو القول بالنور و الظلمة، أو النظر إلى الأسباب كأهل التنجيم، أو الّذين يشبّهون اللّه بخلقه.

و قيل: هم مشركو مكّة. و قيل: المنافقون. و قيل: أهل الكتاب.

و

عن الباقر عليه السّلام: «أنّه شرك الطاعة لا شرك العبادة، أطاعوا الشيطان في ارتكاب المعاصي».

و

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «في شأن رجل يقول: لو لا فلان لهلكت، و لو لا فلان لضاع عيالي، جعل للّه شريكا في ملكه تعالى، يرزقه و يدفع عنه».

و

روى محمد بن الفضيل عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام أنّه قال: «إنّه شرك لا يبلغ به الكفر».

أَ فَأَمِنُوا أَنْ تَأْتِيَهُمْ غاشِيَةٌ مِنْ عَذابِ اللَّهِ عقوبة تغشاهم و تشملهم أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً فجأة من غير سابقة علامة وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بإتيانها، غير مستعدّين لها.

[سورة يوسف (12): الآيات 108 الى 109]

قُلْ هذِهِ سَبِيلِي أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ عَلى بَصِيرَةٍ أَنَا وَ مَنِ اتَّبَعَنِي وَ سُبْحانَ

اللَّهِ وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (108) وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ مِنْ أَهْلِ الْقُرى أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا أَ فَلا تَعْقِلُونَ (109)

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 419

قُلْ هذِهِ يعني: الدعوة إلى التوحيد و الإعداد للمعاد سَبِيلِي ثم فسّر السبيل بقوله: أَدْعُوا إِلَى اللَّهِ إلى توحيده و عدله. قيل: هو حال من الياء. عَلى بَصِيرَةٍ بيان و حجّة واضحة غير عمياء أَنَا تأكيد للمستتر في «أدعو» أو «على بصيرة». أو مبتدأ خبره «على بصيرة». وَ مَنِ اتَّبَعَنِي عطف عليه وَ سُبْحانَ اللَّهِ و أنزّه اللّه من الشركاء وَ ما أَنَا مِنَ الْمُشْرِكِينَ و أنزّهه تنزيها من الشركاء.

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا ردّ لقولهم: لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً «1».

و قيل: معناه نفي استنباء النساء. نُوحِي إِلَيْهِمْ كما يوحى إليك، و يميّزون بذلك عن غيرهم. و قرأ حفص: نوحي، في كلّ القرآن. و وافقه حمزة و الكسائي في سورة الأنبياء «2». مِنْ أَهْلِ الْقُرى لأنّ أهلها أعلم و أحلم من البدو، و أهل البوادي من أهل الجفاء و القسوة.

أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ من المكذّبين بالرسل و الآيات، فيحذروا تكذيبك. أو من المشغوفين بالدنيا المتهالكين عليها، فيقلعوا عن حبّها وَ لَدارُ الْآخِرَةِ و لدار الحال، أو الساعة، أو الحياة الآخرة خَيْرٌ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك و المعاصي أَ فَلا تَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم ليعرفوا أنّها خير.

______________________________

(1) فصّلت: 14.

(2) الأنبياء: 7.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 420

روى أبو سعيد الخدري عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «شي ء يسير من الجنّة

خير من الدنيا و ما فيها».

و قرأ نافع و ابن عامر و عاصم و يعقوب بالتاء، حملا على قوله: «قُلْ هذِهِ سَبِيلِي»، أي: قل لهم: أ فلا تعقلون.

[سورة يوسف (12): الآيات 110 الى 111]

حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ وَ لا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ (110) لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ عِبْرَةٌ لِأُولِي الْأَلْبابِ ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (111)

ثمّ أخبر سبحانه عن حال الرسل مع أممهم تسلية للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال:

حَتَّى إِذَا اسْتَيْأَسَ الرُّسُلُ غاية محذوف دلّ عليه الكلام، أي: لا يغررهم تمادي أيّامهم، فإنّ من قبلهم أمهلوا حتّى أيس الرسل عن النصر عليهم في الدنيا، أو عن إيمانهم، لانهماكهم في الكفر، مترفّهين متمادين فيه من غير مانع. أو التقدير: و ما أرسلنا قبلك إلّا رجالا قد تأخّر نصرنا إيّاهم، كما أخّرناه عن هذه الأمّة، حتّى إذا استيأس الرسل.

وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ قَدْ كُذِبُوا أي: كذّبتهم أنفسهم حين حدّثتهم بأنّهم ينصرون. أو كذّبهم القوم بوعد الإيمان. و قيل: الضمير للمرسل إليهم، أي: و ظنّ المرسل إليهم أنّ الرسل قد كذّبوهم بالدعوة و الوعيد. و قيل: الأوّل للمرسل إليهم، و الثّاني للمرسل، أي: و ظنّوا أن الرسل قد كذبوا و أخلفوا فيما وعد لهم من النصر، و خلط الأمر عليهم.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 421

و ما روي عن ابن عبّاس: أنّ الرسل ظنّوا أنّهم أخلفوا ما وعدهم اللّه من النصر، إن صحّ فقد أراد بالظنّ ما يخطر بالبال و يهجس في القلب من شبه الوسوسة و حديث النفس على ما عليه البشريّة، و أما

الظنّ الّذي هو ترجيح أحد الجائزين على الآخر، فغير جائز على رجل من المسلمين، فما بال رسل اللّه الّذين هم أعرف الناس بربّهم، و أنّه متعال عن خلف الميعاد، منزّه عن كلّ قبيح؟! و قرأ غير الكوفيّين بالتشديد، أي: و ظنّ الرسل أنّ القوم قد كذّبوهم فيما أوعدوهم.

جاءَهُمْ نَصْرُنا فَنُجِّيَ مَنْ نَشاءُ النبيّ و المؤمنين. و إنّما لم يعيّنهم للدلالة على أنّهم الّذين يستأهلون أن يشاء نجاتهم، لا يشاركهم فيه غيرهم. و قرأ ابن عامر و عاصم و يعقوب: فنجّي «1»، على لفظ الماضي المبنيّ للمفعول. وَ لا يُرَدُّ بَأْسُنا عَنِ الْقَوْمِ الْمُجْرِمِينَ إذا نزل بهم.

لَقَدْ كانَ فِي قَصَصِهِمْ في قصص الأنبياء و أممهم، أو في قصّة يوسف و إخوته عِبْرَةٌ و بصيرة و موعظة لِأُولِي الْأَلْبابِ لذوي العقول المبرّأة عن الشوائب، و الركون إلى الحسّ و سائر الأغراض، فإنّ من تفكّر بالعقل الخالص أنّ نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم يقرأ كتابا، و لا سمع حديثا، و لا خالط أهله، ثمّ حدّثهم به في حسن نظمه و معانيه بحيث لم يقدر أحد من إتيان مثل ذلك، لعلم أنّه أوضح برهان على صحّة نبوّته.

ما كانَ حَدِيثاً يُفْتَرى ما كان القرآن حديثا مفترى وَ لكِنْ تَصْدِيقَ الَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ من الكتب الإلهيّة وَ تَفْصِيلَ كُلِّ شَيْ ءٍ يحتاج إليه في الدين، إذ ما من أمر دينيّ إلا و له سند من القرآن، فإنّه القانون الّذي يستند إليه السنّة و الإجماع و القياس المنصوص العلّة وَ هُدىً من الضلال وَ رَحْمَةً ينال بها خير الدارين لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ يصدّقونه. إنّما خصّهم بذلك لأنّهم المنتفعون به دون غيرهم.

______________________________

(1) و في قراءة اخرى: فننجّي، على لفظ المضارع.

زبدة التفاسير،

ج 3، ص: 423

(13) سورة الرعد

اشارة

مكّيّة، و هي ثلاث و أربعون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ سورة الرعد اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد كلّ سحاب مضى و كلّ سحاب يكون إلى يوم القيامة، و كان يوم القيامة من الموفين بعهد اللّه تعالى».

و

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «من أكثر قراءة الرعد لم يصبه اللّه بصاعقة أبدا، و إن كان مؤمنا أدخل الجنّة بغير حساب، و شفع في جميع من يعرف من أهل بيته و إخوانه».

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة يوسف عليه السّلام بذكر قصص الأنبياء عليهم السّلام، افتتح هذه السورة بأنّ جميع ذلك آيات الكتاب، و أنّ الّذي أنزله هو الحقّ، فقال:

[سورة الرعد (13): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

المر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (1)

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ المر قد فسّرناه في أوّل سورة البقرة، و بيّنّا ما

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 424

قيل فيه. روي أن معناه: أنا اللّه أعلم و أرى. تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ يعني بالكتاب السورة. و «تلك» إشارة إلى آياتها، أي: تلك الآيات آيات السورة الكاملة، أو القرآن.

وَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ و هو القرآن. و محلّه الجرّ بالعطف على الكتاب، عطف العامّ على الخاصّ، أو عطف إحدى الصفتين على الأخرى. أو الرفع بالابتداء، و خبره الْحَقُ و الجملة كالحجّة على الجملة الأولى. و على الأوّل خبر مبتدأ محذوف، أي: الآيات الجامعة للوصفين هي الحقّ. و تعريف الخبر و إن دلّ على اختصاص المنزل بكونه حقّا، فهو أعمّ من المنزل صريحا أو ضمنا، كالمثبت بالقياس المنصوص العلّة و الإجماع، و غير ذلك ممّا نطق المنزل بحسن

اتّباعه. وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ لإخلالهم بالتأمّل و النظر فيه.

[سورة الرعد (13): الآيات 2 الى 4]

اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى يُدَبِّرُ الْأَمْرَ يُفَصِّلُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ (2) وَ هُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ وَ أَنْهاراً وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (3) وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَ جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ صِنْوانٌ وَ غَيْرُ صِنْوانٍ يُسْقى بِماءٍ واحِدٍ وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (4)

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 425

و لمّا ذكر سبحانه أنّهم لا يؤمنون، بيّن الدليل الّذي يوجب التصديق بالخالق، فقال: اللَّهُ الَّذِي رَفَعَ السَّماواتِ مبتدأ و خبر. و يجوز أن يكون الموصول صفة، و الخبر «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ». بِغَيْرِ عَمَدٍ أساطين «1». جمع عماد، كإهاب و أهب. أو جمع عمود، كأديم و أدم. تَرَوْنَها صفة ل «عمد». أو استئناف للاستشهاد برؤيتهم السماوات كذلك.

و هو دليل على وجود الصانع الحكيم، فإنّ ارتفاعها على سائر الأجسام المساوية لها في حقيقة الجرميّة، و اختصاصها بما يقتضي ذلك، لا بدّ و أن يكون بمخصّص ليس بجسم و لا جسماني، يرجّح بعض الممكنات على بعض بإرادته.

و على هذا المنهاج سائر ما ذكر من الآيات الآتية.

ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ بالحفظ و التدبير. و قد مضى «2» تفسير استوائه على العرش غير مرّة.

وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ ذلّلهما لما أراد منهما، كالحركة المستمرّة على حدّ معيّن من السرعة تنفع في حدوث الكائنات و بقائها كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى لمدّة معيّنة يتمّ فيها

أدواره. أو لغاية مضروبة ينقطع دونها سيره، و هي: إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ وَ إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ «3».

يُدَبِّرُ الْأَمْرَ أمر ملكوته و أمور خلقه، من الإيجاد و الإعدام و الإحياء و الإماتة، و غير ذلك، على الوجه الّذي توجبه الحكمة يُفَصِّلُ الْآياتِ يبيّنها مفصّلة في كتبه المنزلة، أو يحدث الدلائل واحدا بعد واحد لَعَلَّكُمْ بِلِقاءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ لكي تتفكّروا فيها، و تتحقّقوا كمال قدرته، فتعلموا أنّ من قدر على خلق

______________________________

(1) في هامش النسخة الخطّية: «أساطين جمع أسطون، معرّب ستون. منه».

(2) راجع ج 2 ص 531.

(3) التكوير: 1- 2.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 426

هذه الأشياء و تدبيرها قدر على الإعادة و الجزاء، و أنّ هذا المدبّر و المفصّل لا بدّ لكم من الرجوع إليه.

وَ هُوَ الَّذِي مَدَّ الْأَرْضَ بسطها طولا و عرضا لتثبت عليها الأقدام، و يتقلّب عليها الحيوان وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ جبالا ثوابت، من: رسا الشي ء إذا ثبت، جمع راسية. و التاء للتأنيث، على أنّها صفة أجبل، أو للمبالغة. وَ أَنْهاراً ضمّها إلى الجبال، لأنّ الجبال أسباب لتولّدها.

وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ متعلّق بقوله: جَعَلَ فِيها زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ أي: و جعل فيها من جميع أنواع الثمرات صنفين اثنين، كالحلو و الحامض، و الأسود و الأبيض، و الرطب و اليابس، و الصغير و الكبير، و ما أشبه ذلك من الأصناف المختلفة. و ذكر «اثنين» للتأكيد.

يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ يلبس ظلمة الليل ضياء النهار، فيصير الجوّ مظلما بعد ما كان مضيئا. و قرأ حمزة و الكسائي و أبو بكر: يغشّي بالتشديد. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فيها، فإنّ تكوّنها و تخصّصها بوجه دون وجه دليل على وجود الصانع الحكيم الّذي دبّر أمرها و هيّأ أسبابها.

وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ

مُتَجاوِراتٌ بقاع مختلفة مع كونها متجاورة متقاربة، بعضها طيّبة، و بعضها سبخة، و بعضها رخوة، و بعضها صلبة، و بعضها يصلح للزرع دون الشجر، و بعضها بالعكس، و لو لا تخصيص قادر موقع لأفعاله على وجه دون وجه لم تكن كذلك، لاشتراك تلك القطع في الطبيعة الأرضيّة، و ما يلزمها و يعرض لها بتوسّط ما يعرض من الأسباب السماويّة، من حيث إنّها متضامّة متشاركة في النسب و الأوضاع.

وَ جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ وَ زَرْعٌ وَ نَخِيلٌ أي: و بساتين فيها أنواع الأشجار و الزروع. و توحيد الزرع لأنّه مصدر في أصله. صِنْوانٌ نخلات أصلها واحد،

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 427

فإنّها جمع صنو «1»، و هي النخلة الّتي لها رأسان و أصلهما واحد وَ غَيْرُ صِنْوانٍ و متفرّقات مختلفات الأصول. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و يعقوب و حفص: زرع و نخيل و صنوان و غير صنوان بالرفع عطفا على «جنّات». و قرأ حفص: صنوان بالضمّ. و هو لغة تميم، كقنوان «2» جمع قنو.

يُسْقى ما ذكر من الأعناب و الزروع و النخيل المختلفة بِماءٍ واحِدٍ وَ نُفَضِّلُ بَعْضَها عَلى بَعْضٍ فِي الْأُكُلِ في الثمر شكلا و قدرا و رائحة و طعما. و ذلك أيضا من أوضح الدلالات على الصانع الحكيم، فإنّ اختلافها مع اتّحاد الأصول و الأسباب لا يكون إلّا بتخصيص قادر مختار. و قرأ ابن عامر و عاصم و يعقوب:

يسقى بالتذكير، على تأويل: ما ذكر. و قرأ حمزة و الكسائي: يفضّل بالياء، ليطابق قوله: «يُدَبِّرُ الْأَمْرَ».

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ دلالات لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم بالتفكّر فيها، و يستدلّون بها.

روي عن جابر قال: «سمعت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول لعليّ عليه السّلام:

الناس من شجر شتّى، و أنا و أنت من شجرة واحدة. و قرأ: وَ فِي الْأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجاوِراتٌ وَ جَنَّاتٌ مِنْ أَعْنابٍ الآية».

[سورة الرعد (13): الآيات 5 الى 7]

وَ إِنْ تَعْجَبْ فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أَ إِذا كُنَّا تُراباً أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (5) وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ وَ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ (6) وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ (7)

______________________________

(1) الصنو: إذا خرجت نخلتان أو أكثر من أصل واحد فكلّ واحدة منها صنو، و جمعها:

صنوان.

(2) القنو: العذق، و هو من النخل كالعنقود من العنب، و جمعه: قنوان.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 428

و لمّا تقدّم ذكر الأدلّة على أنّه سبحانه قادر على الإنشاء و الإعادة، عقّبه بالتعجّب من تكذيبهم بالبعث و النشور، فقال: وَ إِنْ تَعْجَبْ يا محمّد من قول هؤلاء الكفّار في إنكارهم البعث مع إقرارهم بابتداء الخلق فَعَجَبٌ قَوْلُهُمْ أي:

حقيق بأن يتعجّب منه، فإنّ من قدر على إنشاء ما قصّ عليك من الصنائع العجيبة و الفطرة البديعة، و لم يعي بخلقهنّ، كانت الإعادة أهون شي ء عليه و أيسره. و الآيات المعدودة كما هي دالّة على وجود المبدأ، فهي دالّة على إمكان الإعادة، من حيث إنّها تدلّ على كمال علمه و قدرته، و قبول الموادّ لأنواع تصرّفاته.

و قوله: أَ إِذا كُنَّا تُراباً أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بدل من «قولهم»، أو مفعول له.

و الفاعل في «إذا» محذوف دلّ عليه «أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ». و معناه: أنبعث و

نعاد بعد ما صرنا ترابا؟! هذا ممّا لا يمكن. و هذا القول منهم نهاية في الأعجوبة، فإنّ الماء إذا حصل في الرحم استحال علقة ثمّ مضغة ثمّ لحما، فإذا مات و دفن استحال ترابا، فإذا جاز أن يتعلّق الإنشاء بالاستحالة الأولى، فلم لا يجوز تعلّقه بالاستحالة الثانية؟! أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أولئك المتمادون في كفرهم الكاملون فيه، لأنّهم كفروا بقدرته على البعث مع وجود هذه الدلالات الواضحة على صحّته

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 429

وَ أُولئِكَ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ مقيّدون بالضلال تخلية و خذلانا، لا يرجى خلاصهم. أو يغلّون يوم القيامة. وَ أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ لا ينفكّون عنها. و توسيط الفصل لتخصيص الخلود بالكفّار.

وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ بالعقوبة قبل العافية، و ذلك أنّهم استعجلوا ما هدّدوا به من عذاب الدنيا استهزاء وَ قَدْ خَلَتْ مضت مِنْ قَبْلِهِمُ الْمَثُلاتُ العقوبات لأمثالهم من المكذّبين، فما لهم لم يعتبروا بها، و لم يجوّزوا حلول مثلها عليهم؟! و المثلة- بفتح الثاء و ضمّها، كالصدقة و الصدقة-: العقوبة، لما بين العقاب و المعاقب عليه من المماثلة وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «1». و منه المثال للقصاص. يقال: أمثلت الرجل من صاحبه، إذا اقتصصته منه.

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لِلنَّاسِ عَلى ظُلْمِهِمْ أي: ظلمهم أنفسهم بالذنوب.

و محلّه النصب على الحال، بمعنى: ظالمين لأنفسهم. و العامل فيه المغفرة. و التقييد به دليل على جواز العفو قبل التوبة، فإنّ التائب ليس على ظلمه، كما قال المرتضى قدّس سرّه: في هذا دلالة على جواز المغفرة للمذنبين من أهل القبلة، لأنّه سبحانه دلّنا على أنّه يغفر لهم مع كونهم ظالمين، لأنّ قوله: «على ظلمهم» إشارة إلى الحال الّتي يكونون فيها ظالمين. و

من منع ذلك خصّ الظلم بالصغائر المكفّرة لمجتنب الكبائر، أو أوّل المغفرة بالستر و الإمهال.

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَشَدِيدُ الْعِقابِ للكفّار، أو لمن يشاء قبل التوبة.

و

عن سعيد بن المسيّب: لمّا نزلت هذه الآية قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لو لا عفو اللّه و تجاوزه لما هنأ أحد العيش، و لو لا وعيده و عقابه لاتّكل كلّ أحد».

و تلا مطرف يوما هذه الآية فقال: لو يعلم الناس قدر رحمة اللّه و مغفرة اللّه و عفو اللّه و تجاوز اللّه لقرّت أعينهم، و لو يعلم الناس قدر عذاب اللّه و بأس اللّه و نكال

______________________________

(1) الشورى: 40.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 430

اللّه و نقمة اللّه ما رقأ «1» لهم دمع، و لا قرّت أعينهم بشي ء.

وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ لعدم اعتدادهم بالآيات المنزلة عليه، و اقتراحهم لنحو ما أوتي موسى و عيسى عليهما السّلام، من نحو تفجير العيون، و إحياء الموتى، و جعل الصفا ذهبا، و غير ذلك.

و لا يخفى على من له أدنى مسكة أنّ الآيات متساوية في حصول صحّة الدعوى بها، فلذا خاطبه اللّه سبحانه بقوله: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرٌ مرسل للإنذار من سوء العاقبة كغيرك من الرسل، و ما عليك إلا الإتيان بما يصحّ به أنّك رسول منذر، من جنس المعجزات، لا بما يقترح عليك.

وَ لِكُلِّ قَوْمٍ هادٍ عطف على «منذر» أي: إنّما أنت لكلّ قوم هاد، لأنّك مبعوث إلى الناس جميعا إلى يوم القيامة. أو يكون «هاد» مبتدأ و «لكلّ قوم» خبره.

و معناه: لكلّ أمّة من الأمم نبيّ مخصوص بمعجزات من جنس ما هو الغالب عليهم، يهديهم إلى الحقّ، و يدعوهم إلى الصواب، و لم

يجعل اللّه الأنبياء شرعا سواء في الآيات و المعجزات. أو قادر على هدايتهم، و هو اللّه.

و قرأ ابن كثير: هاد، و وال «2»، و واق « «3»»، وَ ما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ «4» بالتنوين في الوصل، و إذا وقف وقف بالياء في هذه الأربعة الأحرف حيث وقعت لا غير.

و الباقون يصلون بالتنوين، و يقفون بغير ياء.

عن ابن عبّاس قال: لمّا نزلت هذه الآية قال رسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنا المنذر، و عليّ الهادي من بعدي، يا عليّ بك يهتدي المهتدون».

و

روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني في كتاب شواهد التنزيل بالإسناد عن

______________________________

(1) رقأ الدمع: جفّ و انقطع.

(2، 3) الرعد: 11 و 34.

(4) النحل: 96. زبدة التفاسير، ج 3، ص: 431

أبي إبراهيم بن الحكم بن ظهير، عن أبيه، عن حكيم بن جبير، عن أبي بردة الأسلمي، قال: «دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالطهور و عنده عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بيد عليّ بن أبي طالب عليه السّلام بعد ما تطهّر فألزقها بصدره، ثمّ قال: إنّما أنت منذر. ثمّ ردّها إلى صدر عليّ، ثم قال: لكلّ قوم هاد. ثمّ قال: إنّك منارة الأنام، و غاية الهدى، و أمير القرّاء، و أشهد على ذلك أنّك كذلك يا عليّ» «1».

[سورة الرعد (13): الآيات 8 الى 11]

اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَ ما تَزْدادُ وَ كُلُّ شَيْ ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ (8) عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ الْكَبِيرُ الْمُتَعالِ (9) سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ وَ مَنْ جَهَرَ بِهِ وَ مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ وَ سارِبٌ بِالنَّهارِ (10) لَهُ مُعَقِّباتٌ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ

خَلْفِهِ يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ وَ إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ وَ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ (11)

ثمّ أردف اللّه سبحانه ذلك بما يدلّ على كمال علمه و قدرته، و شمول قضائه و قدره، تنبيها على أنّه قادر على إنزال ما اقترحوه، و إنّما لم ينزل لعلمه بأنّ اقتراحهم للعناد دون الاسترشاد، و أنّه قادر على هدايتهم جبرا و قسرا، و إنّما لم يهدهم لعلمه بمنافاة الجبر للتكليف الّذي مناطه الاختيار، فقال: اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَحْمِلُ كُلُّ أُنْثى «ما» مصدريّة أو موصولة، أي: يعلم حملها، أو ما تحمله على أيّ حال،

______________________________

(1) شواهد التنزيل 1: 301 ح 414.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 432

ذكورة و أنوثة، و تماما و خداجا «1»، و حسنا و قبحا، و طولا و قصرا، و غير ذلك من الأحوال الحاضرة و المترقّبة.

وَ ما تَغِيضُ الْأَرْحامُ وَ ما تَزْدادُ نقصها و ازديادها. أو ما تنقصه و ما تزداده في الجنّة، و المدّة، و أقصى مدّة الحمل و أقلّها، و عدد الولد، فإنّ الرحم يشتمل على واحد و اثنين و ثلاثة و أكثر. و قال الشافعي: أخبرني شيخ باليمن أنّ امرأته ولدت بطونا، في كلّ بطن خمسة. و قيل: المراد نقصان دم الحيض و ازدياده.

و «غاض» جاء متعدّيا و لازما. يقال: غاض الماء و غضته أنا. و منه:

وَ غِيضَ الْماءُ «2». و كذا: ازداد. يقال: زدته فزاد بنفسه، و ازداد، و ازددت منه كذا.

و منه: قوله تعالى: وَ ازْدَادُوا تِسْعاً «3». فإن جعلتهما لازمين تعيّن أن تكون «ما» مصدريّة. و إسنادهما إلى الأرحام على المجاز، من قبيل تسمية الشي ء بما يجاوره،

أو تسمية المحاط بما يحيط به.

وَ كُلُّ شَيْ ءٍ عِنْدَهُ بِمِقْدارٍ بقدر لا يجاوزه و لا ينقص عنه، كقوله تعالى:

إِنَّا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ «4»، فإنّه تعالى خصّ كلّ حادث بوقت و حال معيّنين، و هيّأ له أسبابا مسوقة إليه، تقتضي ذلك على ما توجبه الحكمة.

عالِمُ الْغَيْبِ الغائب عن الحسّ وَ الشَّهادَةِ الحاضر له الْكَبِيرُ العظيم الشأن، الّذي لا يخرج عن علمه شي ء الْمُتَعالِ المستعلي على كلّ شي ء بقدرته. أو الّذي كبر عن نعت المخلوقين و تعالى عنه.

______________________________

(1) خدجت الدابّة: ألقت ولدها ناقص الخلق أو قبل تمام الأيّام. فهي خادج، و ولدها خدوج، و جمعه خداج.

(2) هود: 44.

(3) الكهف: 25.

(4) القمر: 49.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 433

ثمّ قرّر كمال علمه و شموله بقوله: سَواءٌ مِنْكُمْ مَنْ أَسَرَّ الْقَوْلَ في نفسه وَ مَنْ جَهَرَ بِهِ لغيره وَ مَنْ هُوَ مُسْتَخْفٍ بِاللَّيْلِ طالب للخفاء في مختبأ بالليل و مظلمة وَ سارِبٌ و ذاهب في سربه بالفتح، أي: في طريقه. يقال: سرب في الأرض سروبا، إذا برز في ذهابه، أي: بارز في الذهاب بِالنَّهارِ بحيث يراه كلّ أحد. فهو عطف على «من» أو «مستخف»، على أنّ «من» في معنى الاثنين، كأنّه قال: سواء منكم اثنان مستخف بالليل و سارب بالنهار.

لَهُ لمن أسرّ أو جهر أو استخفى أو سرب مُعَقِّباتٌ ملائكة تعتقب في حفظه. جمع معقّبة، من: عقّبه مبالغة: عقبه، إذا جاء على عقبه، كأنّ بعضهم يعقّب بعضا، أو لأنّهم يعقّبون أقواله و أفعاله، فيكتبونها و يحفظونها. أو من: اعتقب، فأدغمت التاء في القاف. و التاء للمبالغة، أو لأنّ المراد بالمعقّبات جماعات.

مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ من جوانبه، أو من الأعمال ما قدّم و أخّر يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ من

بأسه و نقمته متى أذنب باستمهالهم، أي: مسألتهم ربّهم أن يمهله رجاء أن يتوب و ينيب. أو استغفارهم له. أو يحفظونه من المضارّ. قال كعب: لو لا أنّ اللّه و كلّ بكم ملائكة يذبّون عنكم في مطعمكم و مشربكم و عوراتكم، لتخطّفتكم الجنّ. أو يراقبون أحواله من أجل أمر اللّه تعالى.

و عن الحسن:

هم أربعة أملاك يجتمعون عند صلاة الفجر. و هو معنى قوله تعالى: إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً «1». و قد روي ذلك أيضا عن أئمّتنا عليهم السّلام.

و عن ابن جبير و قتادة و مجاهد: أنّها الملائكة يتعاقبون، تعقّب ملائكة الليل ملائكة النهار، و ملائكة النهار ملائكة الليل، و هم الحفظة، يحفظون على العبد عمله.

و قيل: إنّهم الأمراء و الملوك في الدنيا، الّذين يمنعون الناس عن المظالم،

______________________________

(1) الإسراء: 78.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 434

و يكون لهم الأحراس و الشرط يحفظونهم. و هذا مرويّ عن عكرمة، و مرويّ عن ابن عبّاس أيضا. و تقديره: و من هو سارب بالنهار، له أحراس و أعوان يحرسونه.

و قيل: «من» بمعنى الباء. و قيل: «من أمر اللّه» صفة ثانية ل «معقّبات».

إِنَّ اللَّهَ لا يُغَيِّرُ ما بِقَوْمٍ من العافية و النعمة حَتَّى يُغَيِّرُوا ما بِأَنْفُسِهِمْ من الأحوال الجميلة إلى الأحوال القبيحة.

عن ابن عبّاس: إذا أنعم اللّه على قوم فشكروها زادهم، و إذا كفروا سلبهم.

و إلى هذا المعنى

أشار أمير المؤمنين عليه السّلام بقوله: «إذا أقبلت عليكم أطراف النعم فلا تنفروا أقصاها بقلّة الشكر».

وَ إِذا أَرادَ اللَّهُ بِقَوْمٍ سُوْءاً فَلا مَرَدَّ لَهُ فلا رادّ له. و العامل في «إذا» ما دلّ عليه الجواب. وَ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ والٍ ممّن يلي أمرهم، فيدفع عنهم السوء.

[سورة الرعد (13): الآيات 12 الى 15]

هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ

طَمَعاً وَ يُنْشِئُ السَّحابَ الثِّقالَ (12) وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ بِحَمْدِهِ وَ الْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ وَ يُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ وَ هُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ وَ هُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ (13) لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِّ وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ ءٍ إِلاَّ كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ لِيَبْلُغَ فاهُ وَ ما هُوَ بِبالِغِهِ وَ ما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (14) وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً وَ ظِلالُهُمْ بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ (15)

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 435

ثمّ أخبره سبحانه و تعالى عن كمال قدرته، فقال: هُوَ الَّذِي يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً من أذاه وَ طَمَعاً في الغيث. و انتصابهما على العلّة بتقدير المضاف، أي:

إرادة خوف و طمع، أو بتأويلهما بالإخافة و الإطماع. أو على الحال من البرق، كأنّه في نفسه خوف و طمع، أو المخاطبين على إضمار «ذو». أو إطلاق المصدر بمعنى المفعول أو الفاعل للمبالغة. و قيل: يخاف المطر من يضرّه، و يطمع فيه من ينفعه.

وَ يُنْشِئُ السَّحابَ الغيم المنسحب في الهواء الثِّقالَ بالماء. و هو جمع ثقيلة. يقال: سحابة ثقيلة و سحاب ثقال، كما يقال: امرأة كريمة و نساء كرام. و إنّما وصف به السحاب، لأنّه اسم جنس في معنى الجمع.

وَ يُسَبِّحُ الرَّعْدُ و يسبّح سامعوه بِحَمْدِهِ ملتبسين به، فيضجّون ب «سبحان اللّه و الحمد للّه». و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه كان يقول: «سبحان من يسبّح الرّعد بحمده».

و

عن علي عليه السّلام أنّه كان يقول: «سبحان من سبّحت له إذا اشتدّ الرعد».

أو يدلّ الرعد بنفسه على وحدانيّته تعالى و كمال قدرته، ملتبسا بالدلالة على فضله و نزول رحمته.

و

عن ابن عبّاس: أنّ اليهود سألت النبيّ

صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن الرعد ما هو؟ فقال: «ملك موكّل بالسحاب، معه مخاريق من نار يسوق بها السحاب».

و المخاريق: جمع مخراق، و هو الخشب، أو الخرقة الملفوفة الّتي يلعب بها الصبيان. و المراد هنا آلة يزجر بها الملائكة ليسوقه.

و قالت المتصوّفة: الرعد صعقات الملائكة، و البرق زفرات أفئدتهم، و المطر بكاؤهم.

وَ الْمَلائِكَةُ مِنْ خِيفَتِهِ من خوف اللّه تعالى و إجلاله. و قيل: الضمير للرعد.

وَ يُرْسِلُ الصَّواعِقَ فَيُصِيبُ بِها مَنْ يَشاءُ فيهلكه وَ هُمْ يُجادِلُونَ فِي اللَّهِ حيث يكذّبون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيما يصفه به من كمال العلم و القدرة، و التفرّد

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 436

بالألوهيّة، و إعادة الناس و مجازاتهم.

و الجدال التشدّد في الخصومة، من الجدل «1»، و هو الفتل. و الواو إمّا لعطف الجملة على الجملة، أو للحال، فإنّه

روي: «أنّ عامر بن الطفيل و أربد بن ربيعة أخا لبيد و فدا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قاصدين لقتله، فأخذه عامر بالمجادلة، و دار أربد من خلفه ليضربه بالسيف، فتنبّه له الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: اللّهمّ اكفنيهما بما شئت.

فأرسل اللّه تعالى على أربد صاعقة فقتلته، و رمى عامرا بغدّة فمات في بيت سلوليّة. و كان يقول: غدّة كغدّة البعير، و موت في بيت سلوليّة. فنزلت هذه الآية».

و الغدّة طاعون الإبل، قلّما سلم منه. و سلوليّة امرأة من قبيلة بني سلول، و هم موصوفون بالذلّ.

وَ هُوَ شَدِيدُ الْمِحالِ شديد المماحلة و المماكرة و المكائدة لأعدائه، من:

محل بفلان، إذا كايده و عرّضه للهلاك. و منه: تمحّل إذا تكلّف استعمال الحيلة.

و لعلّ أصله المحل، بمعنى القحط. و

المعنى: أنّه شديد المكر بأعدائه، يأتيهم بالهلاك من حيث لا يحتسبون.

و قيل: فعال من المحل بمعنى القوّة.

و قيل: مفعل من الحول أو الحيلة، أعلّ على غير قياس.

و يجوز أن يكون بمعنى شديد الفقار، فيكون مثلا في القوّة و القدرة، كقولهم:

فساعد اللّه أشدّ، و موساه «2» أحدّ.

و ما

روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام معناه: شديد الأخذ،

و عن قتادة: شديد القوّة، يقوّي القولين الأخيرين.

لَهُ دَعْوَةُ الْحَقِ الدعاء الحقّ، فإنّه الّذي يحقّ أن يعبد، أو يدعى إلى

______________________________

(1) جدل الحبل: فتله، أي: لواه.

(2) الموسى: آلة من فولاذ يحلق بها.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 437

عبادته دون غيره. أوله الدعوة المجابة، فإنّ من دعاه أجابه. و يؤيّده ما بعده.

و الحقّ على الوجهين ما يناقض الباطل. و إضافة الدعوة إليه لكونها مختصّة به، و بينهما ملابسة، و هو بمعزل عن الباطل. أو على تأويل دعوة المدعوّ الحقّ الّذي يسمع و يجيب.

و عن الحسن: الحقّ هو اللّه، و كلّ دعاء إليه دعوة الحقّ. و عن ابن عبّاس: أنّ دعوة الحقّ هي كلمة التوحيد.

و المراد بالجملتين إن كانت الآية عامّة، وعيد الكفرة على مجادلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بحلول محاله بهم، و تهديدهم بإجابة دعاء الرسول عليهم. أو المراد بيان ضلالهم و فساد رأيهم. و إن كانت في عامر و أربد، فالمراد أنّ إهلاكهما من حيث لم يشعرا به محال من اللّه، و إجابة لدعوة رسوله.

وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ أي: يدعوهم المشركون، فحذف الراجع. أو و المشركون الّذين يدعون الأصنام، فحذف المفعول، لدلالة «من دونه» عليه. لا يَسْتَجِيبُونَ لَهُمْ بِشَيْ ءٍ من الطلبات إِلَّا كَباسِطِ كَفَّيْهِ إِلَى الْماءِ أي: إلّا استجابة كاستجابة الماء من بسط كفّيه إليه لِيَبْلُغَ فاهُ

يطلب منه أن يبلغه وَ ما هُوَ بِبالِغِهِ لأنّه جماد لا يشعر بدعائه، و لا ببسط كفّيه، و لا بعطشه و حاجته إليه، و لا يقدر على إجابته و الإتيان بغير ما جبل عليه. و كذلك ما يدعونه من جماد، فإنّه جماد لا يحسّ بدعائهم، و لا يستطيع إجابتهم، و لا يقدر على نفعهم.

و قيل: شبّهوا في قلّة جدوى دعائهم لآلهتهم بمن أراد أن يغرف الماء بيديه ليشربه، فبسط كفّيه ليشربه ناشرا أصابعه، فلم تلق كفّاه منه شيئا، و لم يبلغ طلبته من شربه.

وَ ما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ إلّا في ضياع و خسار و باطل.

وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ طَوْعاً وَ كَرْهاً طائعين و كارهين، أو

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 438

لطوعهم و لكراهتهم. و يحتمل أن يكون السجود على حقيقته، فإنّه يسجد له الملائكة و المؤمنون من الثقلين طوعا حالتي الشدّة و الرخاء، و الكفرة كرها حال الشدّة و الضرورة، فإنّهم لا يمكنهم أن يمتنعوا من الخضوع للّه تعالى، لما يحلّ بهم من الآلام و الأسقام.

وَ ظِلالُهُمْ و يسجد له ظلال من فيهما بالعرض. و أن يراد بالسجود انقيادهم لإحداث ما أراده منهم من أفعاله، شاؤا أو كرهوا، و انقياد ظلالهم لتصريفه إيّاها بالمدّ و التقليص على وفق مشيئته.

و قوله: بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ ظرف ل «يسجد». و المراد بهما الدوام. أو حال من الظلال. و تخصيص الوقتين لأنّ الامتداد و التقلّص أظهر فيهما. و الغدوّ جمع غداة، كقنيّ جمع قناة. و الآصال جمع اصيل. و هو ما بين العصر و المغرب. و قيل: الغدوّ مصدر.

[سورة الرعد (13): آية 16]

قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ قُلْ أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ لا يَمْلِكُونَ

لِأَنْفُسِهِمْ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَ النُّورُ أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (16)

لمّا بيّن سبحانه في الآية الأولى أنّه المستحقّ للعبادة، و أنّ له من في السماوات و الأرض، عقّبه بما يجري مجرى الحجّة على ذلك، فقال: قُلْ يا محمّد لهؤلاء الكفّار مَنْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ خالقهما و مدبّرهما و متولّي

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 439

أمرهما، فإذا استعجم «1» عليهم الجواب، و لم يمكنهم أن يقولوا: الأصنام قُلِ اللَّهُ أجب عنهم بأنّ ربّهما اللّه، إذ لا جواب لهم سواه، و لأنّه البيّن الّذي لا مراء فيه. أو لقّنهم الجواب به.

قُلْ أَ فَاتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ أي: ألزمهم بأن اتّخاذهم منكر بعيد عن مقتضى العقل، فإنّهم لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ لا يقدرون أن يجلبوا إليها نَفْعاً وَ لا ضَرًّا و لا يدفعوا عنها ضرّا، فكيف يستطيعون إنفاع الغير و دفع الضرّ عنه، و قد آثرتموهم على الخالق الرازق المثيب المعاقب؟ فما أبين ضلالتكم! و هو دليل ثان على ضلالهم و فساد رأيهم في اتّخاذهم أولياء رجاء أن يشفعوا لهم.

ثمّ ضرب سبحانه لهم مثلا بعد إلزام الحجّة، فقال: قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الْأَعْمى أي: المشرك الجاهل بحقيقة العبادة و الموجب لها. و قيل: المعبود الغافل عنكم.

وَ الْبَصِيرُ و الموحّد العالم بذلك، أو المعبود المطّلع على أحوالكم.

ثمّ زاد في الإيضاح بقوله: أَمْ هَلْ تَسْتَوِي الظُّلُماتُ وَ النُّورُ الشرك و التوحيد. و قرأ حمزة و الكسائي و أبو بكر بالياء.

أَمْ جَعَلُوا الهمزة للإنكار، أي: بل أ جعلوا لِلَّهِ شُرَكاءَ؟ و قوله: خَلَقُوا كَخَلْقِهِ صفة ل «شركاء» داخلة

في حكم الإنكار فَتَشابَهَ الْخَلْقُ عَلَيْهِمْ خلق اللّه و خلقهم.

و المعنى: أنّهم ما اتّخذوا للّه شركاء خالقين مثله حتّى يتشابه عليهم الخلق، فيقولوا: هؤلاء خلقوا كما خلق اللّه، حتّى يقولوا: قدر هؤلاء على الخلق كما قدر اللّه عليه، فاستحقّوا العبادة كما استحقّها. و لكنّهم اتّخذوا شركاء عاجزين لا يقدرون على ما يقدر عليه الخلق، فضلا عمّا يقدر عليه الخالق.

قُلِ اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ لا خالق غيره فيشاركه في العبادة. جعل الخلق

______________________________

(1) أي: صعب و استبهم، أو عجزوا عن الجواب.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 440

موجب العبادة و لازم استحقاقها، ثم نفاه عمّن سواه، ليدلّ على قوله: وَ هُوَ الْواحِدُ المتوحّد بالألوهيّة و الربوبيّة الْقَهَّارُ الغالب على كلّ شي ء، و ما عداه مربوب مقهور.

استدلّت المجبّرة بقوله: «اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ» على أنّ أفعال العباد مخلوقة للّه، لأنّ ظاهر العموم يقتضي دخول أفعال العباد فيه. و بقوله: «أَمْ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ خَلَقُوا كَخَلْقِهِ». قالوا: لأنّه أنكر أن يكون خالق خلق كخلقه.

و أجيبوا عن ذلك: بأنّ الآية وردت حجّة على الكفّار، و لو كان المراد ما قالوا لكان فيها حجّة لهم على اللّه، لا له عليهم، لأنّه إذا كان الخالق لعبادتهم الأصنام هو اللّه، فلا يتوجّه التوبيخ إلى الكفّار، و لا يلحقهم اللوم بذلك، بل يكون لهم أن يقولوا: إنّك خلقت فينا ذلك، فلم توبّخنا على فعل فعلته فينا؟ فيبطل حينئذ فائدة الآية. و أيضا عند الأكثر معنى الخلق الاختراع، و لا يقدر العباد عليه، و ما أسند إلى العباد هو الفعل و الإحداث.

[سورة الرعد (13): الآيات 17 الى 18]

أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ بِقَدَرِها فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رابِياً وَ مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ أَوْ مَتاعٍ زَبَدٌ مِثْلُهُ كَذلِكَ يَضْرِبُ

اللَّهُ الْحَقَّ وَ الْباطِلَ فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً وَ أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ (17) لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى وَ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ (18)

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 441

ثمّ ضرب سبحانه مثلين للحقّ و أهله و الباطل و أهله، فقال: أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ من السحاب، أو من جانب السماء، أو من السماء نفسها، فإنّ المبادئ منها ماءً مطرا فَسالَتْ أَوْدِيَةٌ أنهار. جمع واد. و هو الموضع الّذي يسيل الماء فيه بكثرة، فاتّسع فيه و استعمل للماء الجاري فيه. و تنكيرها لأنّ المطر يأتي على تناوب بين البقاع، فيسيل بعض الأودية دون بعض.

بِقَدَرِها بمقدارها الّذي علم اللّه تعالى أنّه نافع غير ضارّ. أو بمقدارها في الصغر و الكبر، أي: الصغير على قدره و الكبير على قدره، فسال كلّ نهر بقدره فَاحْتَمَلَ السَّيْلُ زَبَداً رفعه. و الزبد و ضر «1» الغليان رابِياً أي: منتفخا مرتفعا.

فشبّه سبحانه الحقّ و الإسلام بالماء الصافي النافع، و الباطل بالزبد الذاهب غير النافع.

ثمّ ذكر المثل الآخر بقوله: وَ مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ عبارة جامعة لأنواع الفلزّات، كالذهب و الفضّة و الحديد و النحاس، مع إظهار الكبرياء في ذكره على وجه التهاون به، كما هو هجّير «2» الملوك ابْتِغاءَ حِلْيَةٍ طلب حليّ أَوْ مَتاعٍ كالأواني و آلات الحرب و الحرث. و المقصود من ذلك بيان منافعها زَبَدٌ مِثْلُهُ أي: و ممّا يوقدون عليه زبد مثل زبد الماء، و هو خبثه. و «من» للابتداء أو للتبعيض. و قرأ حمزة و الكسائي و حفص بالياء، على

أنّ الضمير للناس.

و إضماره للعلم به.

كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْحَقَّ وَ الْباطِلَ مثّل الحقّ و الباطل، فإنّه مثّل الحقّ في إفادته و ثباته بالماء الّذي ينزل من السماء، فتسيل به الأودية على قدر الحاجة و المصلحة، فينتفع به أنواع المنافع، و يمكث في الأرض، بأن يثبت بعضه في

______________________________

(1) الوضر: خبث الغليان، و وسخ الدسم.

(2) الهجّير: العادة و الدأب.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 442

مناقعه «1»، و يسلك بعضه في عروق الأرض إلى العيون و القنيّ و الآبار. و بالفلزّ الّذي ينتفع به في صوغ الحليّ، و اتّخاذ الأمتعة المختلفة، و يدوم ذلك مدّة متطاولة. و مثّل الباطل في قلّة نفعه و سرعة زواله بزبدهما.

و بيّن ذلك بقوله: فَأَمَّا الزَّبَدُ فَيَذْهَبُ جُفاءً يجفأ به، أي: يرمي به السيل أو الفلزّ المذاب. و انتصابه على الحال. وَ أَمَّا ما يَنْفَعُ النَّاسَ كالماء الصافي و خلاصة الفلزّ فَيَمْكُثُ فِي الْأَرْضِ ينتفع به أهلها كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لإيضاح المشتبهات.

لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا للمؤمنين الّذين استجابوا لِرَبِّهِمُ الْحُسْنى أي:

الاستجابة الحسنى وَ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُ و هم الكفرة. و اللام متعلّقة ب «يضرب»، على أنّه جعل ضرب المثل لشأن الفريقين ضرب المثل لهما.

قال قتادة: هذه ثلاثة أمثال ضربها اللّه تعالى في مثل واحد. شبّه نزول القرآن بالماء الّذي ينزل من السماء، و شبّه القلوب بالأودية و الأنهار. فمن استقصى في تدبّره و تفكّر في معانيه أخذ حظّا عظيما منه، كالنهر الكبير الّذي يأخذ الماء الكثير.

و من رضي بما أدّاه إلى التصديق بالحقّ على الجملة، كان أقلّ حظّا منه، كالنهر الصغير. فهذا مثل واحد.

ثمّ شبّه الخطرات و وساوس الشيطان بالزبد يعلو على الماء، و ذلك من خبث التربة لا عين الماء. و كذلك ما

يقع في النفس من الشكوك فمن ذاتها لا من ذات الحقّ. فكما يذهب الزبد باطلا و يبقى صفوة الماء، كذلك يذهب مخائل الشكّ هباء باطلا و يبقى الحقّ. فهذا مثل ثان.

و المثل الثالث قوله: «وَ مِمَّا يُوقِدُونَ عَلَيْهِ فِي النَّارِ» إلى آخره. فالكفر مثل هذا الخبث الّذي لا ينتفع به، و الإيمان مثل الماء الصافي الّذي ينتفع به.

______________________________

(1) المناقع جمع المنقع، و هو الموضع يستنقع- أي: يجتمع- فيه الماء.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 443

و تمّ الكلام عند قوله: «يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ»، ثمّ استأنف بقوله: «لِلَّذِينَ اسْتَجابُوا».

و قيل: «وَ الَّذِينَ لَمْ يَسْتَجِيبُوا» مبتدأ خبره لَوْ أَنَّ لَهُمْ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لَافْتَدَوْا بِهِ و هو على الأوّل كلام مبتدأ لبيان مآل غير المستجيبين.

أُولئِكَ لَهُمْ سُوءُ الْحِسابِ و هو المناقشة فيه، بأن يحاسب الرجل بذنبه، لا يغفر منه شي ء، كما

في الحديث: «من نوقش في الحساب عذّب».

و عن النخعي أيضا: أنّ سوء الحساب هو أن يحاسب الرجل بذنبه كلّه، لا يغفر منه شي ء. و

عن الصادق عليه السّلام: «سوء الحساب أن لا يقبل لهم حسنة، و لا يغفر لهم سيّئة»

لسوء عقيدة صاحبه.

وَ مَأْواهُمْ و مرجعهم جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمِهادُ المستقرّ. و المخصوص بالذمّ محذوف. و أصل المهاد الفراش الّذي يوطّأ لصاحبه.

[سورة الرعد (13): الآيات 19 الى 24]

أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُّ كَمَنْ هُوَ أَعْمى إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (19) الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ وَ لا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ (20) وَ الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ (21) وَ الَّذِينَ صَبَرُوا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى

الدَّارِ (22) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ (23)

سَلامٌ عَلَيْكُمْ بِما صَبَرْتُمْ فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ (24)

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 444

ثمّ بيّن سبحانه الفرق بين المؤمن و الكافر بقوله: أَ فَمَنْ يَعْلَمُ أَنَّما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ الْحَقُ فيستجيب كَمَنْ هُوَ أَعْمى عمى القلب، لا يستبصر فيستجيب.

و الهمزة لإنكار أن تقع شبهة في تشابههما بعد ما ضرب من المثل. يعني: لا شبهة في أنّ حال من علم أنّ ما أنزل إليك من ربّك فاستجاب، بمعزل من حال الجاهل الّذي لم يستبصر فيستجيب، كبعد ما بين الزبد و الماء، و الخبث غير النافع و خلاصة الفلزّة الّتي ينتفع بها.

إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ ذوو العقول المبرّأة عن مشايعة الأهواء و معارضة الأوهام، فإنّ أرباب العقول الصافية يتفكّرون و يستبصرون، فيعلمون قضايا عقولهم.

الَّذِينَ يُوفُونَ بِعَهْدِ اللَّهِ ما عقدوه على أنفسهم من الاعتراف بربوبيّته حين قالوا «بلى». أو ما عهد اللّه عليهم في كتبه. وَ لا يَنْقُضُونَ الْمِيثاقَ ما وثقوه من المواثيق بينهم و بين اللّه تعالى و بين العباد. و هو تعميم بعد تخصيص.

وَ الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ من الرحم، و موالاة المؤمنين، و الإيمان بجميع الأنبياء. و منه وصل قرابة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و هم أهل بيته المعصومون عليهم السّلام و ذرّيّتهم، و الإحسان إليهم، و الذبّ عنهم، و نصرتهم، و النصيحة لهم، و عيادة مرضاهم، و حضور جنائزهم.

روى محمد بن الفضيل عن موسى بن جعفر الكاظم عليه السّلام في هذه الآية قال: هي صلة آل محمّد معلّقة بالعرش تقول: اللهمّ صل من وصلني، و

اقطع من قطعني».

و يندرج فيه أيضا مراعاة صلة الرحم و جميع حقوق الناس.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 445

روى أصحابنا أنّ أبا عبد اللّه عليه السّلام لمّا حضرته الوفاة قال: «أعطوا الحسن بن الحسين بن علي بن الحسين- و هو الأفطس- سبعين دينارا. فقالت له أمّ ولد له:

تعطي رجلا حمل عليك بالشفرة! فقال: ويحك أما تقرئين قول اللّه تعالى: «وَ الَّذِينَ يَصِلُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ»؟!».

وَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وعيده كلّه عموما وَ يَخافُونَ سُوءَ الْحِسابِ خصوصا.

فيحاسبون أنفسهم قبل أن يحاسبوا.

وَ الَّذِينَ صَبَرُوا على ما تكرهه النفس و يخالفه الهوى، من أوامر اللّه و سائر مشاقّ التكليف، و المصائب في النفوس و الأموال، و عن المعاصي ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِمْ طلبا لرضاه، لا لغرض آخر من الأغراض الدنيويّة، كسمعة و طمع عوض و غيرهما.

وَ أَقامُوا الصَّلاةَ المفروضة وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ بعضه الّذي وجب عليهم إنفاقه من الحلال، لأنّ الحرام لا يكون رزقا سِرًّا لمن لم يعرف بالمال وَ عَلانِيَةً لمن عرف به، دفعا للتهمة.

وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ و يدفعونها بها، فيجازون الإساءة بالإحسان.

عن ابن عبّاس: يدفعون بالحسن من الكلام ما يرد عليهم من سّي ء غيرهم. و عن الحسن إذا حرموا أعطوا، و إذا ظلموا عفوا، و إذا قطعوا و صلوا. أو يتبعون السيّئة الحسنة، فتمحوها، كما

في الحديث: «أتبع السيّئة الحسنة تمحقها».

و أيضا

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمعاذ بن جبل: «إذا عملت سيّئة فاعمل بجنبها حسنة تمحها».

أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ عاقبة الدار و ما ينبغي أن يكون مآل أهلها، و هي الجنّة، لأنّها الّتي أراد اللّه أن تكون عاقبة الدنيا و مرجع أهلها. الجملة خبر الموصولات إن رفعت بالابتداء. و إن جعلت صفات ل

«أُولُوا الْأَلْبابِ» فاستئناف بذكر ما استوجبوا بتلك الصفات.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 446

جَنَّاتُ عَدْنٍ بدل من «عُقْبَى الدَّارِ». أو مبتدأ خبره يَدْخُلُونَها. و العدن الإقامة، أي: جنّات يقيمون فيها. و قيل: هو بطنان الجنّة، أي: وسطها. و عن ابن عبّاس: هي الدرجة العليا، و سكّانها الشهداء و الصدّيقون. و قيل: قصر من ذهب، لا يدخله إلّا نبيّ أو صدّيق أو شهيد أو حاكم عدل.

وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ عطف على المرفوع في «يدخلون». و إنّما ساغ للفصل بالضمير الآخر. أو مفعول معه. و الآباء جمع أبوي كلّ واحد منهم، فكأنّه قال: من آبائهم و أمّهاتهم. و المعنى: أنّه يلحق بهم من صلح من أهلهم و إن لم يبلغ مبلغ فضلهم، تبعا لهم و تعظيما لشأنهم، كما قال: أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ «1». و هو دليل على أنّ الدرجة تعلو بالشفاعة. أو أنّ الموصوفين بتلك الصفات يقرن بعضهم ببعض- لما بينهم من القرابة و الوصلة- في دخول الجنّة زيادة في أنسهم. و في التقييد بالصلاح دلالة على أنّ مجرّد الأنساب لا تنفع.

وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ من أبواب المنازل، أو من أبواب الفتوح و التحف، قائلين: سَلامٌ عَلَيْكُمْ بشارة بدوام السلامة بِما صَبَرْتُمْ على الطاعة، و عن المعاصي. و هو متعلّق ب «عليكم»، أو بمحذوف، أي: هذا بما صبرتم لا بسلام، فإنّ الخبر فاصل. و الباء للسببيّة، أو للبدليّة.

فَنِعْمَ عُقْبَى الدَّارِ الأصل: نعم، فسكّن العين بنقل كسرتها إلى الفاء بعد حذف الفتحة.

[سورة الرعد (13): الآيات 25 الى 29]

وَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (25) اللَّهُ يَبْسُطُ

الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ وَ فَرِحُوا بِالْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ إِلاَّ مَتاعٌ (26) وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ (27) الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ (28) الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ طُوبى لَهُمْ وَ حُسْنُ مَآبٍ (29)

______________________________

(1) الطور: 21.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 447

و لمّا ذكر سبحانه الّذين يوفون بعهد اللّه، و وصفهم بالصفات الّتي يستحقّون بها الجنّة، عقّبه بذكر الّذين حالهم على خلاف حالهم، فقال: وَ الَّذِينَ يَنْقُضُونَ عَهْدَ اللَّهِ يعني: مقابلي الأوّلين مِنْ بَعْدِ مِيثاقِهِ من بعد ما أوثقوه به من الإقرار و القبول وَ يَقْطَعُونَ ما أَمَرَ اللَّهُ بِهِ أَنْ يُوصَلَ وَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ بظلم العباد، و تهييج الفتن بينهم، و إضلالهم عن الحقّ أُولئِكَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ عذاب جهنّم، أو سوء عاقبة الدنيا.

اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ يوسّعه و يضيّقه وفق المصلحة، دون غيره وَ فَرِحُوا أهل مكّة بِالْحَياةِ الدُّنْيا بما بسط لهم في الدنيا وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا فِي الْآخِرَةِ في جنب الآخرة إِلَّا مَتاعٌ متعة لا تدوم، كعجالة «1» الراكب و زاد الراعي. و المعنى: أنّهم أشروا «2» بما نالوا من الدنيا، و لم يصرفوه فيما يستوجبون به نعيم الآخرة، و اغترّوا بما هو في جنب نعيم الآخرة حقير قليل النفع

______________________________

(1) عجالة الراكب: ما يتعجّله من طعام أو شراب.

(2) أي: فرحوا فرح بطر و أشر و تكبّر.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 448

سريع الزوال.

وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آيَةٌ اقترحناها مِنْ رَبِّهِ لمّا جحدوا

آياته الكثيرة الّتي لم يؤتها نبيّ قبله، و من أعظمها القرآن الّذي يعجزون عن الإتيان بمثله مع أنّهم أبلغ بلغاء زمانهم، و لم يعتدّوا بها عنادا و إنكارا و لجاجا، فجعلوها كأنّها لم تنزل عليه قطّ، و قالوا ذلك تعجّبا و استنكارا.

قُلْ إِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ خذلانا و تخلية، باقتراح الآيات بعد ظهور المعجزات وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ أَنابَ أقبل إلى الحقّ و رجع عن العناد. و هذا جواب يجري مجرى التعجّب من قولهم، كأنّه قال: قل لهم ما أعظم عنادكم! إنّ اللّه يضلّ من يشاء ممّن كان على صفتكم، فلا سبيل إلى اهتدائكم و إن أنزلت كلّ آية، و يهدي إليه من أناب بما جئت به من الآيات.

الَّذِينَ آمَنُوا بدل من «من»، أو خبر مبتدأ محذوف، أي: هم الّذين آمنوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ أنسا به، و اعتمادا عليه، و رجاء منه. أو بذكر رحمته بعد القلق من خشيته، كقوله: ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ «1». أو بذكر دلائله الدالّة على وجوده و وحدانيّته. أو بكلامه، يعني: القرآن الّذي هو أقوى المعجزات أَلا بِذِكْرِ اللَّهِ تَطْمَئِنُّ الْقُلُوبُ تسكن إليه.

و هذا حثّ للعباد على تسكين القلب إلى ما وعد اللّه به من النعيم و الثواب، و الطمأنينة إليه، فإنّ وعده سبحانه صادق، و لا شي ء تطمئنّ النفس إليه أبلغ من الوعد الصادق.

الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ بدل من «الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَطْمَئِنُّ قُلُوبُهُمْ بِذِكْرِ اللَّهِ». أو مبتدأ خبره طُوبى لَهُمْ هو فعلى من الطيب، قلبت ياؤه واوا، لضمّة ما قبلها. مصدر ل «طاب»، كبشرى و زلفى. و معنى «طوبى لك»: أصبت خيرا و طيبا.

______________________________

(1) الزمر: 23.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 449

و

اللام للبيان، مثلها في: سقيا لك. و معناه: لهم عيش طيّب و قرّة عين. و يجوز فيه النصب.

و قيل: إنّ طوبى شجرة في الجنّة، أصلها في دار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و في دار كلّ مؤمن منها غصن. و هو قول عبيد بن عمير، و وهب، و أبي هريرة، و شهر بن حوشب. و رواه أبو سعيد الخدري. و

هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام. قال: لو كان راكب مجدّ سار في ظلّها مائة عام ما خرج منها. و لو أنّ غرابا طار من أصلها ما بلغ أعلاها حتّى يبيضّ هرما. ألا في هذا فارغبوا، إنّ المؤمن نفسه منه في شغل و الناس منه في راحة.

و

روى عليّ بن إبراهيم عن أبيه، عن الحسن بن محبوب، عن عليّ بن رئاب، عن أبي عبيدة الحذّاء، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يكثر تقبيل فاطمة عليهما السّلام، فأنكرت عليه بعض نسائه ذلك. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّه لمّا أسري بي إلى السماء دخلت الجنّة، فأدناني جبرئيل عليه السّلام من شجرة طوبى، و ناولني منها تفّاحة، فأكلتها، فحوّل اللّه ذلك في ظهري ماء، فهبطت الى الأرض و واقعت خديجة، فحملت بفاطمة عليها السّلام، فكلّما اشتقت إلى الجنّة قبّلتها، و ما قبّلتها إلّا وجدت رائحة شجرة طوبى منها، فهي حوراء إنسيّة».

و

روى الثعلبي بإسناده عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس، قال: طوبى شجرة أصلها في دار عليّ عليه السّلام في الجنّة، و في دار كلّ مؤمن منها غصن.

و رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام.

و

روى الحاكم أبو

القاسم الحسكاني بالإسناد عن موسى بن جعفر عليه السّلام، عن أبيه، عن آبائه، قال: «سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن طوبى. قال: شجرة أصلها في داري، و فرعها على أهل الجنّة. ثمّ سئل عنها مرّة اخرى. فقال: هي في دار

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 450

زبدة التفاسير ج 3 499

عليّ عليه السّلام. فقيل له في ذلك. فقال: إنّ داري و دار عليّ عليه السّلام في الجنّة بمكان واحد» «1».

وَ حُسْنُ مَآبٍ و لهم حسن مرجع.

[سورة الرعد (13): آية 30]

كَذلِكَ أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أُمَمٌ لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ هُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ قُلْ هُوَ رَبِّي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ مَتابِ (30)

و لمّا ذكر سبحانه النعمة على من تقدّم ذكره بالثواب و حسن المآب، عقّبه بذكر النعمة على من أرسل إليه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: كَذلِكَ مثل إرسال الرسل قبلك أَرْسَلْناكَ فِي أُمَّةٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِها أي: في أمّة قد تقدّمتها أُمَمٌ كثيرة أرسلوا إليهم، فليس ببدع إرسالك إليها، و هي آخر الأمم، و أنت خاتم الأنبياء عليهم السّلام لِتَتْلُوَا عَلَيْهِمُ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لتقرأ عليهم الكتاب العظيم الّذي أوحيناه إليك وَ هُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ و حال هؤلاء أنّهم يكفرون باللّه الواسع الرحمة البليغ الإحسان، الّذي أحاطت بهم نعمته، و وسعت كلّ شي ء رحمته، فلم يشكروا نعمه، و خصوصا ما أنعم عليهم بإرسالك إليهم، و إنزال القرآن المعجز الّذي هو مناط المنافع الدينيّة و الدنيويّة عليهم.

قيل: نزلت في مشركي أهل مكّة حين قيل لهم: اسجدوا للرحمن، فقالوا:

و ما الرحمن؟

قُلْ هُوَ رَبِّي أي: الرحمن خالقي و متولّي أمري لا إِلهَ إِلَّا هُوَ

لا مستحقّ للعبادة سواه، متعاليا عن الشركاء و الأنداد عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في نصرتي

______________________________

(1) شواهد التنزيل 1: 396 ح 417.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 451

عليكم وَ إِلَيْهِ مَتابِ مرجعي و مرجعكم، فيثيبني على مصابرتكم و مجاهدتكم.

[سورة الرعد (13): آية 31]

وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً أَ فَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا قارِعَةٌ أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ (31)

و لمّا تقدّم كفرهم بالرحمن عظّم شأن القرآن، و بالغ في رسوخهم في الكفر، و توغّلهم في العناد، و تصميمهم على الإنكار، مع وضوح حقيقة القرآن، فقال:

وَ لَوْ أَنَّ قُرْآناً سُيِّرَتْ بِهِ الْجِبالُ شرط حذف جوابه، أي: و لو أنّ كتابا زلزلت و زعزعت به الجبال عن مقارّها.

أَوْ قُطِّعَتْ بِهِ الْأَرْضُ تصدّعت من خشية اللّه تعالى عند قراءته. أو شقّقت فجعلت أنهارا و عيونا.

أَوْ كُلِّمَ بِهِ الْمَوْتى فتقرؤه به، أو فتسمع، و تجيب عند قراءته، لكان هذا القرآن، لأنّه الغاية في الإعجاز، و النهاية في التذكير و الإنذار، كما قال: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ «1». أو لما آمنوا به، كقوله: وَ لَوْ أَنَّنا نَزَّلْنا إِلَيْهِمُ الْمَلائِكَةَ «2» الآية. و تذكير «كلّم» خاصّة لاشتمال الموتى على المذكّر الحقيقي.

و قيل: إنّ أبا جهل و طائفة من قريش قالوا: يا محمّد: إن سرّك أن نتّبعك فسيّر بقرآنك الجبال عن مكّة، حتّى تتّسع لنا فنتّخذ فيها بساتين و قطائع، أو سخّر

______________________________

(1) الحشر: 21.

(2) الأنعام: 111.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 452

لنا به الريح لنركبها

و نتّجر إلى الشام، أو ابعث لنا به قصيّ بن كلاب و غيره من آبائنا ليكلّمونا في صدقك، فنزلت. و على هذا فتقطيع الأرض قطعها بالسير.

و قيل: الجواب مقدّم، و هو قوله: «وَ هُمْ يَكْفُرُونَ بِالرَّحْمنِ»، و ما بينهما اعتراض.

ثمّ أضرب عمّا تضمّنته «لو» من معنى النفي، فقال: بَلْ لِلَّهِ الْأَمْرُ جَمِيعاً بل للّه القدرة على كلّ شي ء، فإنّه قادر على الإتيان بما اقترحوه من الآيات، لكنّ الإرادة لم تتعلّق بذلك، لعلمه بأنّه لا تلين له شكيمتهم، و لا يزول رسوخ عنادهم و شدّة كفرهم. أو قادر على أن يلجئهم إلى الايمان، و لكن بناء أمر التكليف على الاختيار، فلم يلجئهم. و لذلك قال: أَ فَلَمْ يَيْأَسِ الَّذِينَ آمَنُوا أ فلم يقنطوا عن إيمانهم مع ما رأوا من أحوالهم.

و ذهب أكثرهم إلى أنّ معناه: أ فلم يعلم؟ لما

روي أنّ عليّا عليه السّلام و ابن عبّاس و جماعة من الصحابة و التابعين قرءوا: أ فلم يتبيّن.

و هو تفسيره و إنّما استعمل اليأس بمعنى العلم، لأنّه مسبّب عن العلم، فإنّ اليائس عن الشي ء عالم بأنّه لا يكون، كما استعمل الرجاء بمعنى الخوف لذلك.

و على هذا قوله: أَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَهَدَى النَّاسَ جَمِيعاً متعلّق ب «ييأس»، أي: أ فلم يعلم المؤمنون أن لو يشاء اللّه مشيئة جبر و قسر لهداهم؟ و على الأوّل متعلّق بمحذوف تقديره: أ فلم ييأس الّذين آمنوا عن إيمانهم، علما منهم أن لو يشاء اللّه مشيئة جبر لهداهم جميعا. و يجوز أن يكون المعنى: لو أراد أن يهدي الخلق كلّهم إلى جنّته لهداهم، لكنّه كلّفهم لينالوا الثواب بطاعاتهم على وجه الاستحقاق.

وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا تُصِيبُهُمْ بِما صَنَعُوا من الكفر و سوء الأعمال

قارِعَةٌ داهية تقرعهم و تقلقلهم، من صنوف المصائب في نفوسهم و أموالهم أَوْ تَحُلُّ قَرِيباً مِنْ دارِهِمْ فيفزعون منها، و يتطاير إليهم شررها.

و قيل: الآية في كفّار مكّة، فإنّهم لا يزالون مصابين بما صنعوا برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإنّه كان لا يزال يبعث السرايا فينزلون حواليهم، و يختطفون مواشيهم.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 453

و على هذا يجوز أن يكون «تحلّ» خطابا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإنّه حلّ بجيشه قريبا من دارهم عام الحديبية.

حَتَّى يَأْتِيَ وَعْدُ اللَّهِ الموت، أو القيامة، أو فتح مكّة إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ لامتناع الكذب في كلامه.

[سورة الرعد (13): آية 32]

وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (32)

ثمّ قال تسلية لرسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و توعّدا للمشركين المقترحين عليه: وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَأَمْلَيْتُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا الإملاء أن يترك شي ء ملاوة- أي:

مقدارا- من الزمان في دعة و أمن، كالبهيمة تملى في المرعى ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ أي: عقابي إيّاهم.

[سورة الرعد (13): الآيات 33 الى 34]

أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ قُلْ سَمُّوهُمْ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بِما لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ وَ صُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33) لَهُمْ عَذابٌ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُّ وَ ما لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (34)

ثمّ احتجّ على المشركين في إشراكهم باللّه، فقال: أَ فَمَنْ هُوَ قائِمٌ أي:

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 454

رقيب عَلى كُلِّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ من خير أو شرّ، بحيث لا يخفى عليه شي ء من أعمالهم، و لا يفوت عنده شي ء من جزائهم. و الخبر محذوف تقديره: كمن ليس كذلك. وَ جَعَلُوا لِلَّهِ شُرَكاءَ استئناف، أو عطف على «كسبت» إن جعلت «ما» مصدريّة. أو تقدير الخبر: لم يوحّدوه، «و جعلوا» عطف عليه. و يكون الظاهر فيه موضع المضمر للتنبيه على أنّه المستحقّ للعبادة.

ثمّ نبّه على أنّ هؤلاء الشركاء لا يستحقّون العبادة، فقال: قُلْ سَمُّوهُمْ بالأسماء الّتي هي صفاتهم، أي: صفوهم فانظروا هل لهم ما يستحقّون به العبادة و يستأهلون الشركة؟ أَمْ تُنَبِّئُونَهُ بل أ تنبّئونه بِما بشركاء له يستحقّون العبادة، أو بصفات لهم يستحقّونها لأجلها لا يَعْلَمُ فِي الْأَرْضِ لا يعلمهم فيها، و هو العالم

بكلّ شي ء، فإذا لم يعلمهم فإنّهم ليسوا بشي ء يتعلّق بهم العلم. و المراد نفي أن يكون له شركاء. و نحوه: قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ «1».

أَمْ بِظاهِرٍ مِنَ الْقَوْلِ أم تسمّونهم شركاء بظاهر من القول من غير حقيقة و اعتبار معنى، كتسمية الزنجي كافورا، كقوله: ذلِكَ قَوْلُهُمْ بِأَفْواهِهِمْ «2» ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِهِ إِلَّا أَسْماءً سَمَّيْتُمُوها «3».

و هذا احتجاج بليغ على أسلوب عجيب، ينادي بلسان فصيح أنه ليس من كلام البشر، بل محض الإعجاز.

بَلْ زُيِّنَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مَكْرُهُمْ تمويههم، فتخيّلوا أباطيل ثمّ خالوها حقّا، أو كيدهم للإسلام بشركهم وَ صُدُّوا عَنِ السَّبِيلِ سبيل الحقّ. و قرأ نافع و أبو عمرو

______________________________

(1) يونس: 18.

(2) التوبة: 30.

(3) يوسف: 40.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 455

و ابن عامر: و صدّوا بالفتح، أي: و صدّوا الناس عن الإيمان.

وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ يخذله في الضلالة و يخلّه فيها، لفرط عناده و رسوخ كفره فَما لَهُ مِنْ هادٍ يوفّقه للهدى، أو يقدر على هدايته.

لَهُمْ عَذابٌ بالقتل و الأسر و سائر ما يصيبهم من المصائب فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَقُ أغلظ و أبلغ، لشدّته و دوامه وَ ما لَهُمْ مِنَ عذاب اللَّهِ مِنْ واقٍ حافظ يدفع عنهم عذابه.

[سورة الرعد (13): آية 35]

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أُكُلُها دائِمٌ وَ ظِلُّها تِلْكَ عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ عُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ (35)

و لمّا ذكر ما أعدّ للكفّار عقّبه بذكر ما أعدّ للمؤمنين، فقال: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ أي: صفتها الّتي هي مثل في الغرابة. و هو مبتدأ خبره محذوف عند سيبويه، أي: فيما قصصنا عليكم مثل الجنّة. و عند غيره خبره تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ على

طريقة قولك: صفة زيد أسمر. و عن الزجّاج الموصوف محذوف، أي: مثل الجنّة جنّة تجري من تحتها الأنهار. أو على زيادة المثل. و هو على قول سيبويه حال من العائد المحذوف، أو من الصلة.

أُكُلُها دائِمٌ لا ينقطع ثمرها، كقوله: لا مَقْطُوعَةٍ وَ لا مَمْنُوعَةٍ «1» وَ ظِلُّها أي: و ظلّها كذلك، لا ينسخ كما ينسخ في الدنيا بالشمس.

تِلْكَ أي: الجنّة الموصوفة عُقْبَى الَّذِينَ اتَّقَوْا مآلهم و منتهى أمرهم وَ عُقْبَى الْكافِرِينَ النَّارُ لا غير. و في ترتيب النظمين إطماع للمتّقين و إقناط للكافرين.

______________________________

(1) الواقعة: 33.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 456

[سورة الرعد (13): الآيات 36 الى 37]

وَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ وَ مِنَ الْأَحْزابِ مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ قُلْ إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَ لا أُشْرِكَ بِهِ إِلَيْهِ أَدْعُوا وَ إِلَيْهِ مَآبِ (36) وَ كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ حُكْماً عَرَبِيًّا وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا واقٍ (37)

و لمّا تقدّم ذكر الوعد و الوعيد أخبر سبحانه عن حال المتّقين و الكافرين في الدنيا، فقال: وَ الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يَفْرَحُونَ بِما أُنْزِلَ إِلَيْكَ يعني: المسلمين من أهل الكتاب، كابن سلام و أصحابه، و من آمن من النصارى، و هم ثمانون رجلا:

أربعون بنجران، و ثمانية باليمن، و اثنان و ثلاثون بالحبشة. أو عامّتهم، فإنّهم كانوا يفرحون بما يوافق كتبهم.

وَ مِنَ الْأَحْزابِ يعني: كفرتهم الّذين تحزّبوا على عداوة رسول اللّه، ككعب بن الأشرف و أصحابه و السيّد و العاقب و أشياعهما مَنْ يُنْكِرُ بَعْضَهُ و هو ما يخالف شرائعهم، أو ما يوافق لما حرّفوه منها، فإنّ الأقاصيص و الأحكام الّتي هي ثابتة في كتبهم لا ينكرونها.

قُلْ في جواب المنكرين إِنَّما أُمِرْتُ فيما أنزل

إليّ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ وَ لا أُشْرِكَ بِهِ بأن أعبد اللّه و أوحّده. و هو العمدة في الدين، و لا سبيل لكم إلى إنكاره.

و أمّا ما تنكرونه لما يخالف شرائعكم، فليس ببدع مخالفة الشرائع و الكتب الإلهيّة في جزئيّات الأحكام.

إِلَيْهِ أَدْعُوا لا إلى غيره وَ إِلَيْهِ مَآبِ و إليه مرجعي للجزاء، لا إلى غيره.

و هذا هو القدر المتّفق عليه بين الأنبياء، و أما ما عدا ذلك من التفاريع فممّا يختلف

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 457

بالأعصار و الأمم، فلا معنى لإنكاركم المخالفة فيه.

وَ كَذلِكَ و مثل ذلك الإنزال المشتمل على أصول الديانات المجمع عليها، أو كما أنزل الكتب إلى من تقدّم من الأنبياء بلسانهم أَنْزَلْناهُ حُكْماً يحكم في القضايا و الوقائع بما تقتضيه الحكمة عَرَبِيًّا مترجما بلسان العرب، ليسهل لهم فهمه و حفظه. و انتصابه على الحال.

وَ لَئِنِ اتَّبَعْتَ أَهْواءَهُمْ الّتي يدعونك إليها، كتقرير دينهم، و الصلاة إلى قبلتهم حين حوّلت عنها بَعْدَ ما جاءَكَ مِنَ الْعِلْمِ بنسخ ذلك ما لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا واقٍ ينصرك و يمنع العقاب عنك. و هو حسم لأطماعهم، و تهييج للمؤمنين على التصلّب في دينهم، و التثبّت فيه من الزلّة عند الشبهة بعد الاستمساك بالحجّة، و إلّا فكان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من شدّة الشكيمة بمكان عظيم.

[سورة الرعد (13): الآيات 38 الى 40]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ وَ جَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَ ذُرِّيَّةً وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ (38) يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ وَ يُثْبِتُ وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ (39) وَ إِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ وَ عَلَيْنَا الْحِسابُ (40)

روي أنّهم كانوا

يعيبون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بكثرة تزوّج النساء،

كما كانوا يقولون: ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ «1». و كانوا يقترحون عليه الآيات، و ينكرون النسخ. فقال اللّه سبحانه ردّا عليهم: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ بشرا مثلك وَ جَعَلْنا لَهُمْ أَزْواجاً وَ ذُرِّيَّةً نساء و أولادا، كما هي لك.

______________________________

(1) الفرقان: 7.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 458

وَ ما كانَ لِرَسُولٍ و ما صحّ له و لم يكن في وسعه أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ تقترح عليه، و بحكم يلتمس منه إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ فإنّه المقتدر لا غيره.

ثمّ ردّ إنكار النسخ بقوله: لِكُلِّ أَجَلٍ كِتابٌ لكلّ وقت و أمد حكم يكتب على العباد، على ما يقتضيه استصلاحهم.

يَمْحُوا اللَّهُ ما يَشاءُ ينسخ ما يستصوب نسخه وَ يُثْبِتُ ما تقتضيه حكمته.

و قيل: يمحو سيّئات التائب، و يثبت الحسنات مكانها، كقوله: إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ «1».

و قيل: يمحو من كتاب الحفظة ما لا يتعلّق به جزاء، و يترك غيره مثبتا، فإنّهم مأمورون بكتبة كلّ قول و فعل.

أو يمحو ما يشاء من ذنوب المؤمنين فضلا، فيسقط عقابها، و يثبت ذنوب من يريد عقابه عدلا.

عن ابن مسعود: أنّه عامّ في كلّ شي ء، فيمحو من الرزق و يزيد فيه، و يمحو من الأجل و يثبت، و يمحو السعادة و الشقاوة و يثبتهما. أو يثبت ما رآه وحده في صميم قلبه.

و قيل: يمحو ما يشاء من القرون، و يثبت ما يشاء منها، كقوله: ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ «2».

و قيل: يمحو الفاسدات، و يثبت الكائنات.

و قرأ نافع و ابن عامر و الكسائي: و يثبّت بالتشديد.

وَ عِنْدَهُ أُمُّ الْكِتابِ أصل الكتب، و

هو اللوح المحفوظ، إذ ما من كائن إلّا و هو مكتوب فيه.

______________________________

(1) الفرقان: 70.

(2) المؤمنون: 31.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 459

روى أبو قلابة عن ابن مسعود أنّه كان يقول: اللّهمّ إن كنت كتبتني في الأشقياء، فامحني من الأشقياء، و اثبتني في السعداء، فإنّك تمحو ما تشاء و تثبت، و عندك أمّ الكتاب. و روي مثل ذلك عن أئمّتنا عليهم السّلام في دعواتهم المأثورة.

و

روى عكرمة عن ابن عبّاس قال: للّه كتابان: كتاب سوى أمّ الكتاب، يمحو اللّه منه ما يشاء و يثبت، و أمّ الكتاب لا يغيّر منه شي ء. و رواه عمران بن حصين عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و

روى محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «سألته عن ليلة القدر. فقال:

ينزل اللّه فيها الملائكة و الكتبة إلى السماء الدنيا، فيكتبون ما يكون من أمر السنة، و ما يصيب العباد، و أمر ما عنده موقوف له فيه المشيئة، فيقدّم منه ما يشاء و يؤخّر ما يشاء، و يمحو و يثبت، و عنده أمّ الكتاب».

و

روى الفضيل قال: «سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: العلم علمان: علم علّمه ملائكته و رسله و أنبياءه، و علم عنده محزون لم يطّلع عليه أحد، يحدث فيه ما يشاء».

و

روى زرارة عن حمران، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «هما أمران: موقوف و محتوم، فما كان من محتوم أمضاه، و ما كان من موقوف فله فيه المشيئة، يقضي فيه ما يشاء».

و قيل: المراد من الآية أنّ اللّه يغيّر الأرزاق و المحن و المصائب، و يثبته في الكتاب، ثمّ يزيله بالدعاء و الصدقة. ففيه حثّ على الانقطاع إليه سبحانه.

وَ إِنْ ما نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ و كيفما

دارت الحال أريناك بعض ما أوعدناهم، أو توفّيناك قبله فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ لا غير وَ عَلَيْنَا الْحِسابُ للمجازاة لا عليك، فلا تحزن- أي: بإعراضهم- و لا تستعجل بعذابهم، فإنّا فاعلون له إمّا عاجلا و إمّا آجلا.

و في هذه دلالة على أنّ الإسلام سيظهر على سائر الأديان، و يبطل الشرك

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 460

في أيّامه و بعد وفاته، و قد وقع المخبر به على وفق الخبر.

[سورة الرعد (13): آية 41]

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها وَ اللَّهُ يَحْكُمُ لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ وَ هُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ (41)

ثمّ ذكر سبحانه ما يكون للكفّار كالبيّنة على الاعتبار، فقال: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ أرض الكفّار نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أي: ننقص دار الحرب، و نزيد في دار الإسلام بما نفتحه على المسلمين منها. و المعنى: عليك البلاغ، و لا يهمّنّك ما وراء ذلك، فنحن نكفيكه، و نتمّ ما وعدناك من الظفر و إعلاء كلمة الإسلام، فلا يضجرك تأخّره، فإنّ ذلك لما نعلم من المصالح الّتي لا تعلمها.

وَ اللَّهُ يَحْكُمُ يفصّل الأمر لا مُعَقِّبَ لِحُكْمِهِ لا ناقض لحكمه، و لا رادّ لقضائه. و حقيقته الّذي يعقّب الشي ء و يكرّ عليه ليبطله، و منه قيل لصاحب الحقّ:

معقّب، لأنّه يقفو غريمه بالاقتضاء. و المعنى: أنه حكم للإسلام بالإقبال، و على الكفر بالإدبار، و ذلك كائن لا يمكن تغييره. و محلّ «لا» مع المنفيّ النصب على الحال، أي: يحكم نافذا حكمه.

وَ هُوَ سَرِيعُ الْحِسابِ فيحاسبهم عمّا قليل في الآخرة، بعد ما عذّبهم بالقتل و الإجلاء في الدنيا.

[سورة الرعد (13): الآيات 42 الى 43]

وَ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ وَ سَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ (42) وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلاً قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ (43)

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 461

ثمّ بيّن سبحانه أنّ مكرهم يضمحلّ عند نزول العذاب بهم، فقال: وَ قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بأنبيائهم و المؤمنين منهم فَلِلَّهِ الْمَكْرُ جَمِيعاً إذ لا يؤبه بمكرهم دون مكره، فإنّه يردّ مكرهم و يعذّبهم من حيث لا يشعرون.

يَعْلَمُ ما تَكْسِبُ كُلُّ نَفْسٍ فلا يخفى عليه

ما يكتسبه الإنسان من خير و شرّ، لأنّه عالم بجميع المعلومات، فيعدّ جزاءها.

و قيل: يعلم ما يمكرونه في أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فيبطل أمرهم، و يظهر أمره و دينه.

وَ سَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ من الحزبين حيثما يأتيهم من العذاب المعدّ لهم، و هم في غفلة منه. و هذا كالتفسير لمكر اللّه تعالى بهم، لأنّ من علم ما تكسب كلّ نفس و أعدّ لها جزاءها فهو المكر كلّه، لأنّه يأتيهم من حيث لا يشعرون ممّا يراد بهم. و اللام تدلّ على أنّ المراد بالعقبى العاقبة المحمودة، مع ما في الإضافة إلى الدار كما عرفت.

و قرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو: الكافر على إرادة الجنس.

و في الآية تهديد لهم بأنّهم سوف يعلمون من تكون عاقبته الجنّة، حين يدخل المؤمنون الجنّة و الكافرون النار.

و قيل: معناه: سيعلمون لمن العاقبة المحمودة، لكم أم لهم، إذا اظهر اللّه دينه.

وَ يَقُولُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَسْتَ مُرْسَلًا قيل: المراد بهم رؤساء اليهود قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ فإنّه أظهر من الدلالات على رسالتي ما يغني عن شاهد يشهد عليها وَ مَنْ عِنْدَهُ عِلْمُ الْكِتابِ علم القرآن و ما ألف عليه من النظم المعجز.

أو علم التوراة، و هو ابن سلام و أضرابه. أو علم اللوح المحفوظ، و هو اللّه تعالى.

و المعنى: كفى بالّذي يستحقّ العبادة، و بالّذي لا يعلم ما في اللوح المحوظ إلّا هو، شهيدا بيني و بينكم، فيخزى الكاذب منّا. و ارتفاع علم الكتاب بالظرف، فإنّه معتمد

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 462

على الموصول.

و

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنّ المراد بمن عنده علم الكتاب عليّ بن أبي طالب و أئمّة الهدى

عليهم السّلام».

روى بريد بن معاوية عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «إيّانا عنى، و علي أوّلنا، و أفضلنا، و خيرنا بعد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

و

روى عنه عبد اللّه بن كثير: «أنّه وضع يده على صدره ثمّ قال: عندنا و اللّه علم الكتاب كملا».

و يؤيّد ذلك ما

روي عن الشعبي أنّه قال: ما أحد أعلم بكتاب اللّه بعد النبيّ من عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.

و

روى عاصم بن أبي النجود عن أبي عبد الرحمن السلمي قال: ما رأيت أحدا أقرأ من عليّ بن أبي طالب للقرآن.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 463

(14) سورة إبراهيم

اشارة

مكّية، و هي اثنتان و خمسون آية.

أبيّ بن كعب قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأ سورة إبراهيم عليه السّلام أعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد من عبد الأصنام، و بعدد من لم يعبدها».

و

روى عيينة بن مصعب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة إبراهيم في ركعتين جميعا في كلّ جمعة، لم يصبه فقر و لا جنون و لا بلوى».

[سورة إبراهيم (14): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (1) اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ وَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ (2) الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ يَبْغُونَها عِوَجاً أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (3)

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 464

و لمّا ختم اللّه سورة الرعد بإثبات الرسالة و إنزال الكتاب، افتتح هذه السورة ببيان الغرض في الرسالة و الكتاب، فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر أنا اللّه أعلم و أرى. و باقي الوجوه فيه مزبور في أوّل سورة البقرة.

كِتابٌ أي: هو كتاب أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ بدعائك إيّاهم إلى ما تضمّنه مِنَ الظُّلُماتِ من أنواع الضلال إِلَى النُّورِ إلى الهدى بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بتيسيره و تسهيله. مستعار من الإذن الّذي هو تسهيل الحجاب. و المراد ما يمنحهم من التوفيق و الألطاف. و هذا صلة «لتخرج»، أو حال من فاعله أو مفعوله.

إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ بدل من قوله: «إلى النور» بتكرير العامل. أو استئناف على أنّه جواب لمن يسأل عنه. و إضافة الصراط إلى اللّه تعالى، إمّا لأنّه مقصده، أو المظهر له. و تخصيص الوصفين للتنبيه على

أنّه لا يذلّ سالكه، و لا يخيب سابله.

اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ قرأ نافع و أبو عمرو بالرفع، على أنّه مبتدأ و الموصول خبره، أو خبر مبتدأ محذوف و الموصول صفته، أي: هو اللّه الّذي. و قرأ الباقون بالجرّ، على أنّه عطف بيان للعزيز، لأنّه كالعلم- كما غلّب النجم في الثريّا- لاختصاصه بالمعبود على الحقّ.

ثمّ أوعد لمن كفر بالكتاب و لم يخرج به من الظلمات إلى النور، فقال:

وَ وَيْلٌ لِلْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ شَدِيدٍ الويل نقيض الوأل، و هو النجاة. و أصله النصب، لأنّه مصدر، إلّا أنّه لم يشتقّ منه فعل، لكنّه رفع لإفادة الثبات، كما يقال: سلام عليك. و المعنى: أنّهم يولولون من عذاب شديد، و يضجّون منه فيقولون: يا ويلاه، كقوله: دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً «1».

الَّذِينَ يَسْتَحِبُّونَ الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ يختارونها عليها، فإنّ المختار

______________________________

(1) الفرقان: 13.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 465

للشي ء يطلب من نفسه أن يكون أحبّ إليها من غيره وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بتعويق الناس عن الإيمان وَ يَبْغُونَها عِوَجاً و يبغون لها زيغا و نكوبا عن الحقّ ليقدحوا فيه. فحذف الجارّ و أوصل الفعل إلى الضمير. و الموصول بصلته يحتمل الجرّ صفة للكافرين، و النصب على الذمّ، و الرفع عليه، أو على أنّه مبتدأ خبره أُولئِكَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ أي: ضلّوا عن الحقّ، و وقفوا دونه بمراحل. و البعد في الحقيقة للضالّ، لأنّه متباعد عن الطريق، فوصف به فعله للمبالغة، كما تقول: جدّ جدّه. و يجوز أن يراد: في ضلال ذي بعد، أو للأمر الّذي به الضلال، فوصف به للملابسة.

[سورة إبراهيم (14): الآيات 4 الى 6]

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ بِلِسانِ قَوْمِهِ لِيُبَيِّنَ لَهُمْ فَيُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ

يَشاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (4) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا أَنْ أَخْرِجْ قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (5) وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ وَ فِي ذلِكُمْ بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ (6)

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ رَسُولٍ إِلَّا بِلِسانِ قَوْمِهِ إلّا بلغة قومه الّذي هو منهم و بعث فيهم لِيُبَيِّنَ لَهُمْ ما أمروا به، فيفقهوه عنه بيسر و سرعة، ثمّ ينقلوه و يترجموه لغيرهم، فإنّهم أولى الناس إليه بأن يدعوهم، و أحقّ بأن ينذرهم، و لذلك أمر

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 466

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بإنذار عشيرته أوّلا. و لو نزّل على من بعث إلى أمم مختلفة كتب على ألسنتهم استقلّ ذلك بنوع من الإعجاز، و لكن أدّى إلى اختلاف الكلمة، و إضاعة فضل الاجتهاد في تعلّم الألفاظ و معانيها و العلوم المتشعّبة منها، و ما في إتعاب القرائح و كدّ النفوس من القرب المقتضية لجزيل الثواب.

و قيل: الضمير في «قومه» لمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أنه تعالى أنزل الكتب كلّها بالعربيّة، ثمّ ترجمها جبرئيل عليه السّلام أو كلّ نبيّ بلغة المنزل عليهم.

فَيُضِلُّ اللَّهُ فيخلّي في الضلال خذلانا، بمنع الألطاف و أسباب التوفيق مَنْ يَشاءُ من هو راسخ في الكفر و مصمّم على العناد وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ و يوفّق للهداية من هو طالب الرشاد و الصواب، مثل قوله: فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ «1» وَ هُوَ الْعَزِيزُ فلا يغلب على مشيئته الْحَكِيمُ فلا يخذل إلّا أهل الخذلان، و لا

يلطف إلّا بأهل اللطف.

ثمّ ذكر سبحانه إرسال موسى عليه السّلام تخصيصا بعد التعميم، فقال: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا يعني: اليد و العصا و سائر معجزاته أَنْ أَخْرِجْ «أن» مفسّرة، فمعناه: أي أخرج، لأنّ الإرسال فيه معنى القول، فكأنّه قال: أرسلناه و قلنا له: أن أخرج قَوْمَكَ مِنَ الظُّلُماتِ ظلمات الكفر إِلَى النُّورِ إلى نور الإسلام. و يجوز أن تكون مصدريّة، أي: بأن أخرج، فإنّ صيغ الأفعال سواء في الدلالة على المصدر، فيصحّ أن توصل بها «أن» الناصبة.

وَ ذَكِّرْهُمْ بِأَيَّامِ اللَّهِ بوقائعه الّتي وقعت على الأمم الدارجة، و منه أيّام العرب، أي: حروبها و ملاحمها. و عن ابن عبّاس: هي نعماؤه و بلاؤه. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ يصبر على بلائه شَكُورٍ يشكر على نعمائه، فإنّه إذا سمع بما نزل على من قبله من البلاء، و أفيض عليهم من النعماء، اعتبر و تنبّه لما يجب عليه

______________________________

(1) التغابن: 2.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 467

من الصبر و الشكر.

و قيل: المراد لكلّ مؤمن، و إنّما عبّر عنهم بذلك تنبيها على أنّ الصبر و الشكر عنوان المؤمن و من سجاياه، فإنّ التكليف لا يخلو من الصبر و الشكر.

وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ أَنْجاكُمْ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ ظرف للنعمة بمعنى الإنعام، أي: اذكروا إنعامه عليكم وقت إنجائه إيّاكم. و يجوز أن ينتصب ب «عليكم» إن جعلت مستقرّة غير صلة للنعمة، لأنّه إذا كان صلة لم يعمل فيه، أي: اذكروا نعمة اللّه مستقرّة عليكم وقت إنجائكم، و ذلك إذا أريدت بها العطيّة دون الإنعام. و يجوز أن يكون بدلا من «نعمة اللّه» بدل الاشتمال، أي: اذكروا وقت إنجائكم.

و قوله: يَسُومُونَكُمْ سُوءَ الْعَذابِ وَ يُذَبِّحُونَ أَبْناءَكُمْ

وَ يَسْتَحْيُونَ نِساءَكُمْ أحوال من آل فرعون، أو من ضمير المخاطبين. و المراد بالعذاب ها هنا غير المراد به في سورة البقرة «1» و الأعراف «2»، لأنّه ثمّ مفسّر بالتذبيح و القتل، و معطوف عليه التذبيح هنا. و هو إمّا جنس العذاب، أو استعبادهم و استعمالهم بالأعمال الشاقّة.

وَ فِي ذلِكُمْ من حيث استعبادهم بإقدار اللّه تعالى إيّاهم، و تمكينهم و إمهالهم فيه بَلاءٌ مِنْ رَبِّكُمْ عَظِيمٌ ابتلاء منه. و يجوز أن تكون الإشارة إلى الإنجاء. و المراد بالبلاء النعمة.

[سورة إبراهيم (14): الآيات 7 الى 9]

وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ لَئِنْ شَكَرْتُمْ لَأَزِيدَنَّكُمْ وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ (7) وَ قالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ حَمِيدٌ (8) أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ وَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ اللَّهُ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ وَ قالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ وَ إِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ مُرِيبٍ (9)

______________________________

(1) البقرة: 49.

(2) الأعراف: 141.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 468

و لمّا تقدّم ذكر النعم أتبعه سبحانه بذكر ما يلزم عليها من الشكر، فقال: وَ إِذْ تَأَذَّنَ رَبُّكُمْ هو ايضا من كلام موسى عليه السّلام. و «تأذّن» بمعنى: آذن، ك: توعّد و أوعد، غير أنّه أبلغ، لما في التفعّل من معنى التكلّف و المبالغة، و لا بدّ في «تفعّل» من زيادة معنى ليس في «أفعل». كأنّه قال: و إذ أذن ربّكم إيذانا بليغا تنتفي عنده الشكوك.

لَئِنْ شَكَرْتُمْ يا بني إسرائيل ما أنعمت عليكم لَأَزِيدَنَّكُمْ نعمة إلى نعمة وَ لَئِنْ كَفَرْتُمْ جحدتم نعمتي إِنَّ عَذابِي لَشَدِيدٌ بمعنى: أعذّبكم على الكفران عذابا شديدا. و من عادة أكرم

الأكرمين أن يصرّح بالوعد و يعرّض بالوعيد.

و الجملة مقول قول مقدّر، أو مفعول «تأذّن»، على أنّه جار مجرى «قال»، لأنّه ضرب منه.

وَ قالَ مُوسى إِنْ تَكْفُرُوا أَنْتُمْ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً من الثقلين فَإِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌ عن شكركم، و أنتم محاويج إليه حَمِيدٌ مستحقّ للحمد في ذاته، محمود تحمده الملائكة، و تنطق بنعمته ذرّات المخلوقات، فما ضررتم بكفرانكم إلّا أنفسكم، حيث حرّمتموها مزيد الإنعام، و عرّضتموها للعذاب الشديد.

قال أبو عبد اللّه الصادق عليه السّلام في هذه الآية: «أيّما عبد أنعمت عليه نعمة فأقرّ بها بقلبه، و حمد اللّه تعالى عليها بلسانه، لم ينفذ كلامه حتّى يأمر اللّه له بالزيادة».

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 469

أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَؤُا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكُمْ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ من كلام موسى، أو كلام مبتدأ من اللّه خطابا لأمّة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ لا يَعْلَمُهُمْ إِلَّا اللَّهُ جملة وقعت اعتراضا. أو «الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ» في محلّ الجرّ عطفا على قوم نوح، و «لا يعلمهم» اعتراض. و المعنى: أنّهم لكثرتهم لا يعلم عددهم إلّا اللّه تعالى. و لذلك قال ابن مسعود حين قرأ هذه الآية: كذب النسّابون.

و قيل: إنّ بين عدنان و إسماعيل ثلاثين أبا لا يعرفون. و قيل: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان لا يجاوز في انتسابه معد بن عدنان.

جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرَدُّوا أَيْدِيَهُمْ فِي أَفْواهِهِمْ فعضّوا على أصابع أيديهم من شدّة الغيظ و الضجر ممّا جاءت به الرسل، كقوله: عَضُّوا عَلَيْكُمُ الْأَنامِلَ مِنَ الْغَيْظِ «1». أو وضعوها عليها تعجّبا منه، أو استهزاء عليه، كمن غلبه الضحك، أو إسكاتا للأنبياء و أمرا لهم بإطباق الأفواه،

أي: اسكتوا عمّا تدعوننا إليه. أو أشاروا بها إلى ألسنتهم و ما نطقت به، من قولهم: إنّا كفرنا، تنبيها على أن لا جواب لهم سواه، أوردوها في أفواه الأنبياء عليهم السّلام يمنعونهم من التكلّم.

و قيل: الأيدي بمعنى الأيادي، أي: ردّوا أيادي الأنبياء الّتي هي أجلّ النعم، و هي مواعظهم و ما أوحي إليهم من الحكم و الشرائع في أفواههم، لأنّهم إذا كذّبوها و لم يقبلوها فكأنّهم ردّوها إلى أفواههم، و رجعوها إلى حيث جاءت منه، على طريق المثل.

وَ قالُوا إِنَّا كَفَرْنا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ على زعمكم وَ إِنَّا لَفِي شَكٍّ مِمَّا تَدْعُونَنا إِلَيْهِ من الإيمان مُرِيبٍ موقع في الريبة، أو ذي ريبة. و هي قلق النفس بحيث لا تطمئنّ إلى شي ء.

______________________________

(1) آل عمران: 119.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 470

[سورة إبراهيم (14): آية 10]

قالَتْ رُسُلُهُمْ أَ فِي اللَّهِ شَكٌّ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (10)

قالَتْ رُسُلُهُمْ أَ فِي اللَّهِ شَكٌ ادخلت همزة الإنكار على الظرف، لأنّ الكلام في المشكوك فيه و أنّه لا يحتمل الشكّ، لا في الشكّ، أي: إنّما يدعوكم إلى اللّه، و هو لا يتطرّق إليه الشكّ، لكثرة الأدلّة، و ظهور دلالتها عليه. و أشاروا إلى ذلك بقولهم: فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ صفة أو بدل. و «شكّ» مرتفع بالظّرف.

يَدْعُوكُمْ إلى الإيمان ببعثه إيّانا لِيَغْفِرَ لَكُمْ أو يدعوكم إلى المغفرة، كقولك: دعوته لينصرني، على إقامة المفعول له مقام المفعول به مِنْ ذُنُوبِكُمْ بعض ذنوبكم، و هو ما بينكم و بينه، فإنّ الإسلام يجبّه دون المظالم. و قيل: جي ء ب «من» في خطاب الكفّار دون

المؤمنين في جميع القرآن، تفرقة بين الخطابين.

و يحتمل أن يكون المعنى فيه: أنّ المغفرة حيث جاءت في خطاب الكفّار مرتّبة على الإيمان، و حيث جاءت في خطاب المؤمنين مشفوعة بالطاعة و التجنّب عن المعاصي، فتتناول الخروج عن المظالم.

وَ يُؤَخِّرَكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إلى وقت سمّاه اللّه تعالى، و جعله آخر أعماركم.

و في هذه الآية دلالة على أنّه سبحانه لا يريد الكفر و الشرك، و إنّما يريد الخير و الإيمان، و أنّه إنّما بعث الرسل إلى الكفّار رحمة و فضلا، و إنعاما عليهم ليؤمنوا، فإنّه قال: «يَدْعُوكُمْ لِيَغْفِرَ لَكُمْ» إلى آخرها.

قالُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا لا فضل لكم علينا، فلم تخصّون بالنبوّة دوننا؟

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 471

و لو شاء اللّه أن يبعث إلى البشر رسلا لبعث من جنس أفضل، و هم الملائكة تُرِيدُونَ أَنْ تَصُدُّونا عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُنا بهذه الدعوى فَأْتُونا بِسُلْطانٍ مُبِينٍ يدلّ على فضلكم و استحقاقكم لهذه المزيّة، أو على صحّة ادّعائكم النبوّة. و قد جاءتهم رسلهم بالبيّنات و الحجج لكن لم يعتبروها عنادا، و اقترحوا عليهم آية اخرى تعنّتا و لجاجا.

[سورة إبراهيم (14): الآيات 11 الى 12]

قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ ما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (11) وَ ما لَنا أَلاَّ نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ وَ قَدْ هَدانا سُبُلَنا وَ لَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ (12)

ثمّ حكى جواب الرسل للكفّار، فقال: قالَتْ لَهُمْ رُسُلُهُمْ إِنْ نَحْنُ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ سلّموا مشاركتهم إيّاهم في البشريّة، و جعلوا الموجب لاختصاصهم بالنبوّة فضل اللّه تعالى و منّه

عليهم، و لم يذكروا فضلهم تواضعا منهم، فاقتصروا على قولهم: «وَ لكِنَّ اللَّهَ يَمُنُّ عَلى مَنْ يَشاءُ» مِنْ عِبادِهِ بالنبوّة، لأنّه قد علم أنّه لا يختصّهم بتلك الكرامة إلّا و هم أهل لاختصاصهم بها، لخصائص فيهم قد استأثروا بها على أبناء جنسهم.

وَ ما كانَ لَنا أَنْ نَأْتِيَكُمْ بِسُلْطانٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي: ليس إلينا الإتيان بالآيات، و لا يستبدّ به استطاعتنا حتّى نأتي بما اقترحتموه، و إنّما هو أمر يتعلّق بمشيئة اللّه تعالى، فيخصّ كلّ نبيّ بنوع من الآيات.

وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ عمّموا الأمر بالتوكّل للإشعار بما يوجب

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 472

التوكّل، و قصدوا به أنفسهم قصدا أوّليّا، و أمروها به، كأنّهم قالوا: و من حقّنا أن نتوكّل على اللّه في الصبر على معاندتكم و معاداتكم، و لهذا قالوا بعد ذلك: وَ ما لَنا أَلَّا نَتَوَكَّلَ عَلَى اللَّهِ أي: أيّ عذر لنا في أن لا نتوكّل عليه وَ قَدْ هَدانا سُبُلَنا و قد فعل بنا ما يوجب توكّلنا عليه، و هو التوفيق لهداية كلّ واحد منّا إلى السبيل الّذي يجب عليه سلوكه في الدين. و قرأ أبو عمرو بالتخفيف هاهنا و في العنكبوت «1».

وَ لَنَصْبِرَنَّ عَلى ما آذَيْتُمُونا جواب قسم محذوف، أكّدوا توكّلهم و عدم مبالاتهم بما يجري من الكفّار عليهم وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُتَوَكِّلُونَ فليثبت المتوكّلون على ما استحدثوه من توكّلهم المسبّب عن إيمانهم. فالمراد بالتوكّل الأوّل استحداثه، و بالثاني التوكّل عليه.

[سورة إبراهيم (14): الآيات 13 الى 17]

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا فَأَوْحى إِلَيْهِمْ رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ (13) وَ لَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ ذلِكَ لِمَنْ خافَ مَقامِي وَ خافَ وَعِيدِ (14) وَ اسْتَفْتَحُوا وَ خابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ (15)

مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ وَ يُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ (16) يَتَجَرَّعُهُ وَ لا يَكادُ يُسِيغُهُ وَ يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ وَ ما هُوَ بِمَيِّتٍ وَ مِنْ وَرائِهِ عَذابٌ غَلِيظٌ (17)

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِرُسُلِهِمْ لَنُخْرِجَنَّكُمْ مِنْ أَرْضِنا أَوْ لَتَعُودُنَّ فِي مِلَّتِنا حلفوا

______________________________

(1) العنكبوت: 69.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 473

على أنّه لا بدّ من أحد الأمرين: إمّا إخراجهم للرسل من بلادهم، أو عودهم إلى ملّتهم. و العود هاهنا بمعنى الصيرورة، لأنّهم لم يكونوا على ملّتهم قطّ. و يجوز أن يكون الخطاب لكلّ رسول و لمن آمن معه، فغلّبوا الجماعة على الواحد.

فَأَوْحى إِلَيْهِمْ إلى رسلهم رَبُّهُمْ لَنُهْلِكَنَّ الظَّالِمِينَ على إضمار القول، أو إجراء الإيحاء مجراه، لأنّه نوع منه.

وَ لَنُسْكِنَنَّكُمُ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِهِمْ أي: أرضهم و ديارهم، كقوله: وَ أَوْرَثْنَا الْقَوْمَ الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا «1». و في الحديث: «من آذى جاره ورّثه اللّه داره».

ذلِكَ إشارة إلى الموحى به، و هو إهلاك الظالمين و إسكان المؤمنين لِمَنْ خافَ مَقامِي موقفي، و هو الموقف الّذي يقيم فيه العباد للحكومة يوم القيامة. أو قيامي عليه، و حفظي لأعماله. و قيل: المقام مقحم.

وَ خافَ وَعِيدِ أي: وعيدي بالعذاب، أو عذابي الموعود للكفّار.

وَ اسْتَفْتَحُوا سألوا من اللّه الفتح على أعدائهم، أو القضاء بينهم و بين أعاديهم، من الفتاحة، كقوله: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا وَ بَيْنَ قَوْمِنا بِالْحَقِ «2». و هو معطوف على «فأوحى». و الضمير للأنبياء. و قيل: للكفرة، ظنّا منهم بأنّهم على الحقّ و الرسل على الباطل. و قيل: للفريقين، فإنّ كلّهم سألوه أن ينصر المحقّ و يهلك المبطل.

وَ خابَ كُلُّ جَبَّارٍ عَنِيدٍ أي: ففتح لهم فأفلح المؤمنون، و خاب كلّ جبّار عات متكبّر على اللّه عزّ و جلّ معاند

للحقّ فلم يفلح.

مِنْ وَرائِهِ جَهَنَّمُ أي: من بين يدي هذا الجبّار، فإنّه مرصد بها، واقف على

______________________________

(1) الأعراف: 137.

(2) الأعراف: 89.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 474

شفيرها في الدنيا، مبعوث إليها في الآخرة. و قيل: من وراء حياته و حقيقته ما توارى عنك. وَ يُسْقى مِنْ ماءٍ عطف على محذوف تقديره: من ورائه جهنّم يلقى فيها ما يلقى، و يسقى من ماء صَدِيدٍ عطف بيان ل «ماء». و هو ما يسيل من جلود أهل النار من القيح و الدم.

و

عن أبي عبد اللّه الصادق عليه السّلام: «هو الدم و القيح من فروج الزواني في النار».

و هذا قول أكثر المفسّرين.

روى أبو امامة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في قوله: «وَ يُسْقى مِنْ ماءٍ صَدِيدٍ»، قال:

«يقرّب إليه فيكرهه، فإذا أدني منه شوى وجهه، و وقعت فروة «1» رأسه، و إذا شرب قطع أمعاءه حتّى يخرج من دبره.

يقول اللّه تعالى: وَ سُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ «2». و يقول: وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ «3»».

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من شرب الخمر لم تقبل له صلاة أربعين يوما، فإن مات و في بطنه شي ء من ذلك كان حقّا على اللّه عزّ و جلّ أن يسقيه من طينة خبال، و هي صديد أهل النار، و ما يخرج من فروج الزناة، يجمع ذلك في قدور جهنّم، فيشربه أهل النار، فيصهر به ما في بطونهم و الجلود». رواه شعيب بن واقد، عن الحسين بن زيد، عن الصادق عليه السّلام، عن آبائه عليهم السّلام، عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

يَتَجَرَّعُهُ يتكلّف جرعه. و هو صفة ل «ماء»، أو حال من الضمير

في «يسقى». وَ لا يَكادُ يُسِيغُهُ و لا يقارب أن يسيغه فكيف يسيغه؟ كقوله: لَمْ يَكَدْ يَراها «4» أي: لم يقرب من رؤيتها فكيف يراها؟ بل يغصّ به فيطول عذابه.

______________________________

(1) الفروة: جلدة الرأس بشعرها.

(2) محمد: 15.

(3) الكهف: 29.

(4) النور: 40.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 475

و السوغ جواز الشراب على الحلق بسهولة و قبول نفس.

وَ يَأْتِيهِ الْمَوْتُ مِنْ كُلِّ مَكانٍ أي: أسبابه من الشدائد، فتحيط به من جميع الجهات. و قيل: من كلّ مكان من جسده، حتّى من أصول شعره و إبهام رجله.

وَ ما هُوَ بِمَيِّتٍ فيستريح وَ مِنْ وَرائِهِ و من بين يديه عَذابٌ غَلِيظٌ يستقبل في كلّ وقت عذابا أشدّ و أغلظ ممّا هو عليه. عن ابن عبّاس: هو الخلود في النار.

و عن الفضيل: هو حبس الأنفاس.

و قيل: الآية منقطعة عن قصّة الرسل، نازلة في أهل مكّة، طلبوا الفتح الّذي هو المطر في سنيّ القحط الّتي أرسل اللّه تعالى عليهم بدعوة رسوله، فخيّب رجاءهم فلم يسقهم، و وعد لهم أن يسقيهم صديد أهل النار في جهنّم بدل سقياهم في الدنيا.

[سورة إبراهيم (14): آية 18]

مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عاصِفٍ لا يَقْدِرُونَ مِمَّا كَسَبُوا عَلى شَيْ ءٍ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (18)

ثمّ أخبر سبحانه عمّا ينال الكفّار من الحسرة فيما تكلّفوه من الأعمال، فقال: مَثَلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ مبتدأ خبره محذوف، أي: فيما يتلى عليكم صفتهم الّتي هي مثل في الغرابة. و قوله: أَعْمالُهُمْ كَرَمادٍ جملة مستأنفة لبيان مثلهم، على تقدير سؤال سائل يقول: كيف مثلهم؟ فقيل: أعمالهم كرماد. و قيل:

أعمالهم بدل من المثل، و الخبر «كرماد».

اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ حملته و أسرعت الذهاب به. و قرأ نافع: الرياح. فِي يَوْمٍ عاصِفٍ العصف اشتداد الريح.

وصف به زمانه للمبالغة، كقولهم: يوم ماطر، و نهاره صائم، و ليله قائم. شبّه صنائعهم- من الصدقة و صلة الرحم و إغاثة الملهوف و عتق الرقاب و نحو ذلك من مكارمهم، في حبوطها، لبنائها على غير أساس من

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 476

معرفة اللّه و التوجّه بها إليه- أو أعمالهم للأصنام، برماد طيّرته الريح العاصف، فكما لا يقدر أحد على جمع ذلك الرماد المتفرّق و الانتفاع به، فكذلك هؤلاء الكفّار.

لا يَقْدِرُونَ يوم القيامة مِمَّا كَسَبُوا من أعمالهم عَلى شَيْ ءٍ لحبوطه، فلا يرون له أثرا من الثواب. و هو فذلكة التمثيل. ذلِكَ إشارة إلى ضلالهم مع حسبانهم أنّهم محسنون هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ فإنّه الغاية في البعد عن طريق الحقّ.

و في هذه الآية دلالة واضحة على بطلان قول المجبّرة، لأنّه أضاف العمل إليهم، و لو كان مخلوقا له سبحانه لما صحّ إضافته إليهم.

[سورة إبراهيم (14): الآيات 19 الى 21]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (19) وَ ما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (20) وَ بَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً فَقالَ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ قالُوا لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ سَواءٌ عَلَيْنا أَ جَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ (21)

ثمّ بيّن سبحانه أنّه إنّما خلق الخلق ليعبدوه و ليؤمنوا به، لا ليكفروا، فقال: أَ لَمْ تَرَ خطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و المراد به أمّته. و قيل: لكلّ واحد من الكفرة على التلوين. أَنَّ اللَّهَ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِ بالحكمة و الوجه الّذي يحقّ أن تخلق عليه، و لم يخلقها عبثا و لا شهوة. و قرأ حمزة

و الكسائي: خالق السماوات.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 477

إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ يعدمكم وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ و يخلق مكانكم خلقا آخر. رتّب ذلك على كونه خالقا للسماوات و الأرض استدلالا به عليه، فإنّ من خلق أصولهم و ما يتوقّف عليه تخليقهم، ثمّ كوّنهم بتبديل الصور و تغيير الطبائع، قدر أن يبدلهم بخلق آخر، و لم يمتنع عليه ذلك، كما قال: وَ ما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ بمتعذّر أو متعسّر، بل هو يسير، فإنّه قادر لذاته، لا اختصاص له بمقدور دون مقدور. و من كان هذا شأنه كان حقيقا بأن يعبد و يؤمن به، رجاء لثوابه، و خوفا من عقابه يوم الجزاء.

وَ بَرَزُوا لِلَّهِ جَمِيعاً أي: يبرزون من قبورهم و يخرجون منها يوم القيامة لأمر اللّه و محاسبته. أو للّه على ظنّهم، فإنّهم كانوا يخفون ارتكاب الفواحش، و يظنّون أنّها تخفى على اللّه، فإذا كان يوم القيامة انكشفوا للّه عند أنفسهم، و علموا أنّ اللّه لا تخفى عليه خافية. و إنّما ذكر بلفظ الماضي لتحقّق وقوعه. و نحوه قوله تعالى: وَ نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ «1».

و نظائره. و المعنى: و برّزهم اللّه، و اللّه لا يتوارى عنه شي ء حتى يبرز له كما ظنّوا.

فَقالَ الضُّعَفاءُ أي: الأتباع، جمع ضعيف. يريد به ضعاف الرأي، و إنّما كتبت بالواو على لفظ من يفخم الألف قبل الهمزة فيميلها إلى الواو. لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لرؤسائهم الّذين استتبعوهم و استغووهم، و صدّوهم عن الاستماع إلى الأنبياء إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً في تكذيب الرسل و الإعراض عن نصائحهم. و هو جمع تابع، كغائب و غيب. أو مصدر، نحو خادم و خدم، نعت به للمبالغة، أو على إضمار مضاف، أي: ذوي تبع.

______________________________

(1) الأعراف: 44.

زبدة التفاسير،

ج 3، ص: 478

فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا دافعون عنّا مِنْ عَذابِ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ «من» الأولى للبيان واقعة موقع الحال، و الثانية للتبعيض واقعة موقع المفعول، أي: بعض الشي ء الّذي هو عذاب اللّه. و يجوز أن تكونا للتبعيض، أي: بعض شي ء هو بعض عذاب اللّه. و الإعراب ما سبق. و يحتمل أن تكون الأولى مفعولا و الثانية مصدرا، أي: فهل أنتم مغنون عنّا بعض العذاب بعض الإغناء.

قالُوا أي: الّذين استكبروا جوابا عن معاتبة الأتباع، و اعتذارا عمّا فعلوا بهم لَوْ هَدانَا اللَّهُ للإيمان لَهَدَيْناكُمْ و لكن ضللنا فأضللناكم، أي: اخترنا لكم ما اخترناه لأنفسنا. و هذا كقوله تعالى: لَوْ شاءَ اللَّهُ ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا «1». لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ «2». يقولون ذلك في الآخرة، كما كانوا يقولون ذلك في الدنيا. أو لو هدانا اللّه طريق النجاة من العذاب لهديناكم و أغنيناه عنكم، و سلكنا بكم طريق النجاة، و انقطعت حيلتنا و يئسنا من النجاة، و لكن سدّ دوننا طريق النجاة.

سَواءٌ عَلَيْنا أَ جَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا مستويان علينا الجزع و الصبر. فالهمزة و «أم» للتسوية. و نحوه فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا «3». ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ أي:

منجى و مهرب من العذاب. من الحيص، و هو العدول على جهة الفرار. و هو يحتمل أن يكون مكانا كالمبيت و المضيف، و مصدرا كالمغيب و المشيب. و يجوز أن يكون قوله: سَواءٌ عَلَيْنا من كلام الفريقين. و يؤيّده ما روي أنّهم يقولون: تعالوا نجزع، فيجزعون خمسمائة عام فلا ينفعهم، فيقولون: تعالوا نصبر، فيصبرون كذلك، ثمّ يقولون: سواء علينا.

______________________________

(1) الأنعام: 148.

(2) النحل: 35.

(3) الطور: 16.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 479

[سورة إبراهيم (14): آية 22]

وَ قالَ الشَّيْطانُ لَمَّا قُضِيَ

الْأَمْرُ إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِّ وَ وَعَدْتُكُمْ فَأَخْلَفْتُكُمْ وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي فَلا تَلُومُونِي وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ وَ ما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَّ إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (22)

و لمّا تقدّم وعيد الكفّار و وصف يوم الحشر، و ما يجري فيه من الجدال بين الأتباع و المتبوعين، عقّب ذلك سبحانه بكلام الشيطان في ذلك اليوم، فقال: وَ قالَ الشَّيْطانُ و هو إبليس باتّفاق المفسّرين لَمَّا قُضِيَ الْأَمْرُ أحكم و فرغ منه، و دخل أهل الجنّة الجنّة و أهل النار النار، خطيبا في الأشقياء من الثقلين: إِنَّ اللَّهَ وَعَدَكُمْ وَعْدَ الْحَقِ وعدا من حقّه أن ينجز، أو وعدا أنجزه، و هو الوعد بالبعث و الجزاء وَ وَعَدْتُكُمْ وعد الباطل، و هو أن لا بعث و لا حساب، و إن كانا فالأصنام تشفع لكم فَأَخْلَفْتُكُمْ لم أوف بما وعدتكم. جعل تبيّن خلف وعده كالإخلاف منه.

وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ تسلّط، فأقسركم على الكفر و المعاصي، و ألجئكم إليها إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ إلّا دعائي إيّاكم إلى الضلالة بوسوستي و تزييني.

و ليس الدعاء من جنس السلطان و القهر و القسر، و لكنّه على طريقة قولهم: تحيّة بينهم ضرب وجيع. و يجوز أن يكون الاستثناء منقطعا. فَاسْتَجَبْتُمْ لِي أسرعتم إجابتي.

فَلا تَلُومُونِي بوسوستي، فإنّ من صرّح العداوة لا يلام بأمثال ذلك وَ لُومُوا أَنْفُسَكُمْ حيث أطعتموني، إذ دعوتكم من غير دليل و برهان، و لم تطيعوا

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 480

ربّكم لما دعاكم بالأدلّة الواضحة و الحجج الباهرة.

و هذا دليل على أنّ الإنسان هو الّذي يختار الشقاوة أو السعادة، و يحصّلها لنفسه، و ليس

من اللّه إلّا التمكين، و لا من الشيطان إلّا التزيين. و لو كان الأمر كما تزعم المجبّرة لقال: فلا تلوموني و لا أنفسكم، فإنّ اللّه قد قضى عليكم الكفر و أجبركم عليه.

لا يقال: هذا قول الشيطان، فلا يجوز التمسّك به في بطلان قول المجبّرة.

لأنّا نقول: لو كان صدور هذا القول من الشيطان باطلا لبيّن اللّه بطلانه، و أظهر إنكاره، فتقريره دالّ على صحّته.

ما أَنَا بِمُصْرِخِكُمْ بمغيثكم من العذاب وَ ما أَنْتُمْ بِمُصْرِخِيَ بمغيثي.

و قرأ حمزة بكسر الياء، على الأصل في التقاء الساكنين. و هو أصل مرفوض في مثله، لما فيه من اجتماع ياءين و ثلاث كسرات. مع أنّ حركة ياء الإضافة هي الفتح، فإذا لم تكسر و قبلها ألف- نحو: عصاي و رحاي- فبالحريّ أن لا تكسر و قبلها ياء.

إِنِّي كَفَرْتُ بِما أَشْرَكْتُمُونِ مِنْ قَبْلُ «ما» إمّا مصدريّة، و «من» متعلّقة ب «أشركتموني»، أي: كفرت اليوم بإشراككم إيّاي من قبل هذا اليوم، أي: في الدنيا، بمعنى: تبرّأت منه و استنكرته، كقوله: وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ «1». أو موصولة، بمعنى «من»، نحو «ما» في قولهم: سبحان ما سخّركنّ لنا، و «من» متعلّقة ب «كفرت»، أي: كفرت بالّذي أشركتمونيه- و هو اللّه تعالى- بطاعتكم إيّاي فيما دعوتكم إليه من عبادة الأصنام و غيرها من قبل إشراككم، حين رددت أمره بالسجود لآدم. و «أشركت» منقول من: شركت زيدا للتعدية إلى مفعول ثان. فتقول:

شركت زيدا، ثمّ تقول: أشركنيه فلان، أي: جعلني له شريكا.

______________________________

(1) فاطر: 14.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 481

إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ تتمّة كلامه، أو ابتداء كلام من اللّه تعالى. و في حكاية أمثال ذلك لطف للسامعين، و إيقاظ لهم حتّى يحاسبوا أنفسهم، و يتدبّروا عواقبهم.

[سورة إبراهيم (14): آية 23]

وَ

أُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ (23)

و لمّا تقدّم وعيد الكافرين، عقّبه سبحانه بالوعد للمؤمنين، فقال: وَ أُدْخِلَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ بإذن اللّه و أمره. و المدخلون هم الملائكة. تَحِيَّتُهُمْ فِيها سَلامٌ أي: تحيّيهم الملائكة فيها بالسلام بإذن ربّهم.

[سورة إبراهيم (14): الآيات 24 الى 27]

أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً كَلِمَةً طَيِّبَةً كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ أَصْلُها ثابِتٌ وَ فَرْعُها فِي السَّماءِ (24) تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (25) وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ ما لَها مِنْ قَرارٍ (26) يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ وَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ وَ يَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ (27)

ثمّ ضرب سبحانه مثلا يقرّب من أفهام السامعين، ترغيبا للخلق في اتّباع

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 482

الحقّ، فقال: أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا كيف اعتمده و وضعه كَلِمَةً طَيِّبَةً منصوبة بفعل مضمر، أي: جعل كلمة طيّبة كَشَجَرَةٍ طَيِّبَةٍ زاكية نامية. و هو تفسير لقوله: «ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا»، كما تقول: أكرم الأمير زيدا، كساه حلّة، و حمله على فرس. و يجوز أن تكون «كلمة» بدلا من «مثلا» و «كشجرة» صفتها، أو خبر مبتدأ محذوف، أي: هي كشجرة. و أن تكون أول مفعولي «ضرب»، إجراء لها مجرى «جعل».

أَصْلُها ثابِتٌ في الأرض، ضارب بعروقه فيها، راسخة أصولها فيها وَ فَرْعُها و أعلاها فِي السَّماءِ في جهة العلوّ و الصعود. أراد به المبالغة في الرفعة. و يجوز أن يريد: و فروعها، أي: أفنانها «1»، على الاكتفاء بلفظ

الجنس، لاكتسابه الاستغراق من الإضافة.

تُؤْتِي أُكُلَها تعطي ثمرها كُلَّ حِينٍ وقّته اللّه لإثمارها. و عن سعيد بن جبير: أراد بذلك أنّه يؤكل ثمرها في الصيف، و طلعها في الشتاء. و ما بين صرام «2» النخلة إلى حملها ستّة أشهر. بِإِذْنِ رَبِّها بإرادة خالقها و تكوينه.

و قيل: معناه في جميع الأوقات، لأنّ ثمر النخل يكون أوّلا طلعا، ثمّ يصير بلحا، ثمّ بسرا، ثمّ رطبا، ثمّ تمرا، فيكون ثمره موجودا في الأوقات كلّها.

وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ لأنّ في ضربها زيادة إفهام و تذكير، فإنّه تصوير للمعاني و إدناء لها من الحسّ.

و الكلمة الطيّبة هي كلمة التوحيد، كما نقل عن ابن عبّاس أنّها شهادة أن لا إله إلّا اللّه. و قيل: كلّ كلمة حسنة، كالتسبيحة و التحميد و التوبة و الاستغفار و الدعوة، و سائر ما أمر اللّه تعالى به. و إنّما سمّاها طيّبة، لأنّها زاكية بالخيرات، نامية

______________________________

(1) الأفنان جمع الفنن، و هو الغصن المستقيم.

(2) أي: قطع تمرها.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 483

بالبركات في الدنيا و الآخرة.

و أمّا الشجرة فكلّ شجرة مثمرة طيّبة الثمار، كالنخلة و شجرة التين و العنب و الرمّان، و غير ذلك. و عن ابن عبّاس: شجرة في الجنّة.

و

روى ابن عقدة عن الباقر عليه السّلام: «أنّ الشجرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و فرعها عليّ عليه السّلام، و عنصر الشجرة فاطمة عليهما السّلام، و ثمرتها أولادها، و أغصانها و أوراقها شيعتنا». ثمّ قال: «إنّ الرجل من شيعتنا ليموت فتسقط من الشجرة ورقة، و إنّ المولود من شيعتنا ليولد فيورق مكان تلك الورقة ورقة».

و

روي عن ابن عبّاس قال: قال جبرئيل عليه السّلام للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

أنت الشجرة، و عليّ غصنها، و فاطمة ورقها، و الحسن و الحسين عليهما السّلام، ثمارها، و شيعتكم أوراقها.

و قيل: إنّه سبحانه شبّه الإيمان بالنخلة، لثبات الإيمان في قلب المؤمن كثبات النخلة في منبتها. و شبّه علوّ مرتبة الإيمان عند اللّه بارتفاع فروع النخلة.

و شبّه ما يكسبه المؤمنون من بركة الإيمان و ثوابه في كلّ وقت و حين، بما ينال من ثمرة النخلة في أوقات السنة كلّها، من الرطب و التمر.

و قيل: إنّ معنى قوله: تُؤْتِي أُكُلَها كُلَّ حِينٍ بِإِذْنِ رَبِّها ما يفتي به الأئمّة من آل محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و شيعتهم في الحلال و الحرام.

وَ مَثَلُ كَلِمَةٍ خَبِيثَةٍ كَشَجَرَةٍ خَبِيثَةٍ اجْتُثَّتْ استؤصلت و أخذت جثّتها بالكلّية مِنْ فَوْقِ الْأَرْضِ لأنّ عروقها قريبة منه ما لَها مِنْ قَرارٍ استقرار. يقال:

قرّ الشي ء قرارا، كقولك: ثبت ثباتا، في مقابلة قوله: «أصلها ثابت». شبّه بها القول الّذي لم يعضد بحجّة، فهو داحض غير ثابت. و هذه الكلمة كلمة الشرك، و الدعاء إلى الكفر، و تكذيب الحقّ، أو كلّ كلمة مضلّة على العموم. و فسّرت الشجرة بالحنظلة و الكشوث «1». و

عن الباقر عليه السّلام: أنّها بنو أميّة.

______________________________

(1) الكشوث: نبات طفيليّ، لا جذر له و لا ورق، يلتفّ بأغصان الشجر.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 484

يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ أي: الّذي ثبت بالحجّة عندهم، و تمكّن في قلوبهم، فاعتقدوه، و اطمأنّت إليه أنفسهم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا فلا يزلّون إذا فتنوا في دينهم، كزكريّا و يحيى و جرجيس و شمعون، و الّذين فتنهم أصحاب الأخدود وَ فِي الْآخِرَةِ فلا يتلعثمون إذا سئلوا عن معتقدهم في الموقف، و لا تدهشهم أهوال يوم القيامة.

و

قيل: معناه الثبات عند سؤال القبر.

و هذا قول أكثر المفسّرين، منقول عن ابن عبّاس و ابن مسعود. و هو المرويّ عن أئمّتنا عليهم السّلام.

و

عن سويد بن غفلة عن أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام: قال: «إنّ المؤمن الصالح إذا كان في آخر يوم من الدنيا و أوّل يوم من الآخرة، أتاه عمله الصالح أطيب الناس ريحا، و أحسنهم منظرا، و أحسنهم رياشا، فقال: أبشر بروح و ريحان و جنّة نعيم، و مقدمك خير مقدم.

فيقول له: من أنت؟

فيقول: أنا عملك الصالح، ارتحل من الدنيا إلى الجنّة، و إنّه ليعرف غاسله، و يناشد حامله أن يعجّله.

فإذا أدخل قبره أتاه ملكا القبر يجرّان أشعارهما، و يخدّان الأرض بأنيابهما، أصواتهما كالرعد القاصف، و أبصارهما كالبرق الخاطف، فيقولان له: من ربّك؟ و ما دينك؟ و من نبيّك؟

فيقول: اللّه ربّي، و ديني الإسلام، و نبييّ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فيقولان: ثبّتك اللّه فيما تحبّ و ترضى.

و هو قوله سبحانه و تعالى: يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ. ثمّ يفسحان له في القبر قدّ بصره، ثمّ يفتحان له بابا إلى الجنّة، ثمّ يقولان له: نم قرير العين نوم الشابّ الناعم، فإنّ اللّه سبحانه يقول: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَ أَحْسَنُ مَقِيلًا «1»».

______________________________

(1) الفرقان: 24.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 485

عن البراء بن عازب أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذكر قبض روح المؤمن فقال: «ثمّ يعاد روحه في جسده، فيأتيه ملكان فيجلسانه في قبره، و يقولان له: من ربّك؟ و ما دينك؟ و من نبيّك؟ فيقول: ربّي اللّه، و ديني الإسلام، و نبيّي محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فينادي مناد من السماء أن

صدق عبدي. فذلك قوله: «يُثَبِّتُ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْقَوْلِ الثَّابِتِ».

وَ يُضِلُّ اللَّهُ الظَّالِمِينَ الّذين ظلموا أنفسهم بالاقتصار على تقليد شيوخهم و كبارهم و آبائهم، فقالوا: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ «1». و إضلالهم اللّه في الدنيا أنّهم لا يثبّتون في مواقف الفتن، تخلية و خذلانا.

وَ يَفْعَلُ اللَّهُ ما يَشاءُ و لا يشاء إلّا ما توجبه الحكمة، من تثبيت المؤمنين و تأييدهم، و عصمتهم عند ثباتهم و عزمهم، و من إضلال الظالمين، أي: خذلانهم و التخلية بينهم و بين شأنهم عند زللهم.

[سورة إبراهيم (14): الآيات 28 الى 31]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ دارَ الْبَوارِ (28) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها وَ بِئْسَ الْقَرارُ (29) وَ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعُوا فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ إِلَى النَّارِ (30) قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَ يُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ وَ لا خِلالٌ (31)

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ بَدَّلُوا نِعْمَتَ اللَّهِ كُفْراً أي: شكر نعمته كفرانا، بأن وضعوا مكانه كفرا، فكأنّهم غيّروا الشكر إلى الكفر، و بدّلوه تبديلا. و نحوه:

______________________________

(1) الزخرف: 22.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 486

وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ «1»، أي: شكر رزقكم، حيث وضعتم التكذيب موضعه.

و

عن أمير المؤمنين عليه السّلام و ابن عبّاس و سعيد بن جبير و مجاهد و الضحّاك: أنّهم كفّار قريش، كذّبوا نبيّهم، و نصبوا له الحرب و العداوة.

فالمعنى: أنّ اللّه سبحانه خلق كفّار مكّة و أسكنهم حرمه، و جعلهم قوّام بيته، و وسّع عليهم أبواب رزقه، و شرّفهم بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فبدّلوا نفس النعمة كفرا، فسلبت منهم، فقحطوا سبع سنين، و أسروا و قتلوا يوم بدر، و

صاروا أذلّاء، فبقوا مسلوبي النعمة موصوفين بالكفر، حاصلا لهم الكفر بدلها.

و أيضا

عن عليّ عليه السّلام: «هم الأفجران من قريش: بنو المغيرة و بنو أميّة، فأمّا بنو المغيرة فكفيتموهم يوم بدر، و أمّا بنو أميّة فمتّعوا حتّى حين».

وَ أَحَلُّوا قَوْمَهُمْ الّذين شايعوهم في الكفر دارَ الْبَوارِ دار الهلاك، بحملهم على الكفر.

جَهَنَّمَ عطف بيان لها يَصْلَوْنَها حال منها، أو من القوم، أي: داخلين فيها مقاسين لحرّها. أو مفسّر لفعل مقدّر ناصب ل «جهنّم».

وَ بِئْسَ الْقَرارُ أي: و بئس المقرّ جهنّم.

و

عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «نحن و اللّه نعمة اللّه الّتي أنعم بها على عباده، و بنا يفوز من فاز من دار البوار». ذكره عليّ بن إبراهيم «2» في تفسيره.

وَ جَعَلُوا لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلُّوا عَنْ سَبِيلِهِ الّذي هو التوحيد. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و رويس عن يعقوب بفتح الياء. و ليس الضلال و الإضلال غرضهم في اتّخاذ الأنداد، لكن لمّا كان نتيجته جعل كالغرض على طريق التشبيه.

قُلْ تَمَتَّعُوا بشهواتكم أو بعبادة الأوثان، فإنّها من قبيل الشهوات الّتي

______________________________

(1) الواقعة: 82.

(2) تفسير عليّ بن إبراهيم 1: 371.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 487

يتمتّع بها. و في التهديد بصيغة الأمر إيذان بأنّهم لانغماسهم في التمتّع لا يعرفون غيره و لا يريدونه، فكأنّهم مأمورون به، قد أمرهم آمر مطاع، و أنّ المهدّد عليه- أي: التمتّع- كالمطلوب، لإفضائه إلى المهدّد به، و هو النار، و أنّهما متلازمان، و لذلك علّله بقوله: فَإِنَّ مَصِيرَكُمْ مرجعكم إِلَى النَّارِ إلى نار جهنّم.

قُلْ لِعِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا خصّهم بالإضافة تنويها لهم، و تنبيها على أنّهم المقيمون لحقوق العبوديّة. و مفعول «قل» محذوف يدلّ عليه جوابه، أي: قل لعبادي الّذين آمنوا أقيموا الصّلاة و أنفقوا. يُقِيمُوا

الصَّلاةَ وَ يُنْفِقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ فيكون إيذانا بأنّهم لفرط مطاوعتهم للرسول بحيث لا ينفكّ فعلهم عن أمره، و أنّه كالسبب الموجب له.

و قيل: لام الأمر مقدّر فيهما، أي: ليقيموا و لينفقوا، ليصحّ تعلّق القول بهما.

و إنّما جاز حذف اللام، لأنّ الأمر الّذي هو «قل» عوض منه. و لو قيل ابتداء: ليقيموا الصلاة و ينفقوا، لم يجز.

و قيل: هما جوابا «أقيموا» و «أنفقوا» يقامان مقامهما.

و هو ضعيف، لأنّه لا بدّ من مخالفه ما بين الشرط و جوابه، و لأنّ أمر المواجهة لا يجاب بلفظ الغيبة إذا كان الفاعل واحدا.

سِرًّا وَ عَلانِيَةً منتصبان على المصدر، أي: إنفاق سرّ و علانية. أو على الحال، أي: ذوي سرّ و علانية، بمعنى: مسرّين و معلنين. أو على الظرف، أي: وقتي سرّ و علانية. و الأفضل إعلان الواجب إذا كان صاحبه متّهما، و إلّا إخفاؤه أفضل.

و في المتطوّع به الأفضل الإخفاء مطلقا.

مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا بَيْعٌ فِيهِ فيبتاع المقصّر ما يتدارك به تقصيره، أو يفدي به نفسه وَ لا خِلالٌ و لا مخالّة فيشفع له خليل. أو من قبل أن يأتي يوم لا انتفاع فيه بمبايعة و لا مخالّة، و إنّما ينتفع فيه بالإنفاق لوجه اللّه. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و يعقوب بالفتح فيهما، على النفي العامّ.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 488

[سورة إبراهيم (14): الآيات 32 الى 34]

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ (32) وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ دائِبَيْنِ وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ (33) وَ آتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَتَ اللَّهِ

لا تُحْصُوها إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ (34)

ثمّ بيّن سبحانه أنّه المستحقّ للإلهيّة، فقال: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ مبتدأ و خبر. و بدأ بذكرهما لعظم شأنهما و غيرهما من المكوّنات في ضمنهما. وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجَ بِهِ مِنَ الثَّمَراتِ رِزْقاً لَكُمْ تعيشون به. و هو يشمل المطعوم و الملبوس. و هذا مفعول ل «أخرج»، و «من الثمرات» بيان له و حال منه. و يحتمل عكس ذلك. و يجوز أن يراد به المصدر، فينتصب بالعلّة أو المصدر، لأنّ «أخرج» في معنى: رزق.

وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْفُلْكَ لِتَجْرِيَ فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ بمشيئته إلى حيث توجّهتم وَ سَخَّرَ لَكُمُ الْأَنْهارَ فجعلها معدّة لانتفاعكم و تصرّفكم. و قيل: تسخير هذه الأشياء تعليم كيفيّة اتّخاذها.

وَ سَخَّرَ لَكُمُ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ دائِبَيْنِ يدأبان في سيرهما و إنارتهما، و إصلاح ما يصلحانه من المكوّنات وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ يتعاقبان لسباتكم و معاشكم.

وَ آتاكُمْ مِنْ كُلِّ ما سَأَلْتُمُوهُ أي: بعض جميع ما سألتموه، نظرا في

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 489

مصالحكم. أو بعضا من كلّ من الأصناف سألتموه، فإنّ الموجود من كلّ صنف بعض ما في قدرة اللّه تعالى. و يحتمل أن يكون المراد ب «ما سألتموه» ما كان حقيقا بأن يسأل، لاحتياج الناس إليه سئل أو لم يسأل. و يحتمل أن تكون «ما» موصولة و موصوفة و مصدريّة، و يكون المصدر بمعنى المفعول.

وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها أي: لا تقدروا على إحصائها و حصرها، و لا تطيقوا عدّ أنواعها، فضلا عن أفرادها، فإنّها غير متناهية. و فيه دليل على أنّ المفرد يفيد الاستغراق بالإضافة.

إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ يظلم النعمة بإغفال شكرها، أو يظلم نفسه، بأن يعرّضها للحرمان كَفَّارٌ

شديد الكفران لنعم ربّه. و قيل: ظلوم في الشدّة يشكو و يجزع، كفّار في النعمة يجمع و يمنع.

[سورة إبراهيم (14): الآيات 35 الى 41]

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ آمِناً وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ (35) رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فَمَنْ تَبِعَنِي فَإِنَّهُ مِنِّي وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (36) رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ (37) رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَ ما نُعْلِنُ وَ ما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ (38) الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ (39)

رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي رَبَّنا وَ تَقَبَّلْ دُعاءِ (40) رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ (41)

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 490

و لمّا نهى اللّه سبحانه عن عبادة الأصنام، و أمر بعبادة اللّه وحده، عقّبه بما كان عليه إبراهيم عليه السّلام من التشدّد في إنكار عبادة الأصنام، و الدعاء بما دعا به، فقال عطفا على الجمل السابقة: وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ اجْعَلْ هَذَا الْبَلَدَ بلدة مكّة آمِناً ذا أمن لمن فيها. و الفرق بين قوله: اجعل هذا بلدا آمنا، و بين قوله: اجعل هذا البلد آمنا، أنّ المسؤل في الأوّل جعله من جملة البلاد الّتي يأمن أهلها و لا يخافون، و في الثاني إخراجه من صفة كان عليها من الخوف إلى ضدّها من الأمن، كأنّه قال: هو بلد مخوف، فاجعله آمنا. فاستجاب اللّه دعاء إبراهيم عليه السّلام، حتّى كان الإنسان يرى قاتل أبيه

فيها فلا يتعرّض له، و تدنو الوحوش فيها من الناس فتأمن منهم.

وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَ بعّدني و إيّاهم أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ أي: ثبّتني و بنيّ على اجتناب عبادة الأوثان. و المعنى: الطف لي و لبنيّ لطفا نتجنّب به عن عبادة الأصنام إلى آخر العمر. و أراد بنيه من صلبه، كما هو المتبادر، فلا يتناول أحفاده و جميع ذرّيّته. و فيه دليل على أنّ عصمة الأنبياء بتوفيق اللّه و حفظه إيّاهم.

و زعم ابن عيينة أنّ أولاد إسماعيل لم يعبدوا الصنم، محتجّا به، و إنّما كانت لهم حجارة يدورون بها، و يسمّونها الدوار- بتخفيف الواو و تشديدها- و يقولون:

البيت حجر فحيثما نصبنا حجرا فهو بمنزلته.

قيل: إنّ إبراهيم عليه السّلام لمّا فرغ من بناء الكعبة دعا بهذا الدعاء ثمّ قال: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ فلذلك سألت منك العصمة، و استعذت بك من إضلالهنّ. و إسناد الإضلال إليهنّ باعتبار السببيّة، كقوله: وَ غَرَّتْهُمُ الْحَياةُ

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 491

الدُّنْيا «1»، بمعنى: اغترّوا بها و بسببها.

فَمَنْ تَبِعَنِي على ديني فَإِنَّهُ مِنِّي هو بعضي، لفرط اختصاصه بي و ملابسته لي. و مثل ذلك قولهم: «من غشّنا فليس منّا»، أي: ليس بعض المؤمنين، لأنّ الغشّ ليس من أفعالهم و أوصافهم. و المعنى: فإنّه لا ينفكّ عنّي في أمر الدين.

وَ مَنْ عَصانِي فَإِنَّكَ غَفُورٌ تستر على العباد معاصيهم رَحِيمٌ بهم في جميع أحوالهم، و منعهم عليهم. و قيل: و من عصاني فيما دون الشرك.

رَبَّنا إِنِّي أَسْكَنْتُ مِنْ ذُرِّيَّتِي أي: بعض ذرّيّتي، أو ذرّيّة من ذرّيّتي، فحذف المفعول، و هم إسماعيل و من ولد منه، فإنّ إسكانه متضمّن لإسكانهم.

و

روي عن الباقر عليه السّلام أنّه قال: «نحن بقيّة تلك العترة».

و

قال عليه السّلام: «كانت دعوة

إبراهيم عليه السّلام لنا خاصّة».

بِوادٍ غَيْرِ ذِي زَرْعٍ لا يكون فيه شي ء من زرع قطّ، كقوله: قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ «2». بمعنى: لا يوجد فيه اعوجاج، ما فيه إلّا الاستقامة. يعني: وادي مكّة، فإنّها حجريّة لا تنبت.

عِنْدَ بَيْتِكَ الْمُحَرَّمِ الّذي حرّمت التعرّض له و التهاون به، بحيث لا يحلّ انتهاكه أصلا، و ما حوله محرّم بحرمته. أو لم يزل محترما معظّما ممنّعا تهابه الجبابرة. أو منع منه الطوفان، فلم يستول عليه، و لذلك سمّي عتيقا، أي: أعتق منه.

و لو دعا بهذا الدعاء أوّل ما قدم، فتسميته بالبيت باعتبار ما كان، أو ما سيؤل إليه.

و إنّما أضاف البيت إليه سبحانه، لأنّه مالكه لا يملكه أحد سواه، و ما عداه من البيوت قد ملكه غيره من العباد.

و

روي أنّ هاجر كانت لسارة، فوهبتها لإبراهيم عليه السّلام، فولدت منه إسماعيل،

______________________________

(1) الأنعام: 70.

(2) الزمر: 28. زبدة التفاسير، ج 3، ص: 492

فعرضت لها الغيرة، فناشدته أن يخرجهما من عندها. فأخرجهما إلى أرض مكّة.

فأظهر اللّه عين زمزم. ثمّ إنّ جرهم رأو ثمّ طيورا فقالوا: لا طير إلّا على الماء، فقصدوه فرأوهما و عندهما عين، فقالوا: أشركينا في مائك نشركك في ألباننا، ففعلت.

و تفصيل هذه القصّة مرّت قبل «1».

رَبَّنا لِيُقِيمُوا الصَّلاةَ اللام لام «كي» متعلّقة ب «أسكنت» أي: ما أسكنتهم بهذا الوادي البلقع من كلّ مرتفق و مرتزق إلّا لإقامة الصلاة عند بيتك المحرّم.

و تكرير النداء و توسيطه للإشعار بأنّها المقصودة بالذات من إسكانهم ثمّة، و المقصود من الدعاء توفيقهم لها.

و قيل: لام الأمر. و المراد هو الدعاء لهم بإقامة الصلاة، كأنّه طلب منهم الإقامة، و سأل من اللّه أن يوفّقهم لها.

فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ أي: أفئدة من أفئدة الناس. و «من» للتبعيض.

و

يدلّ عليه ما روي عن مجاهد: لو قال: أفئدة النّاس، لازدحمت عليهم فارس و الروم. و عن سعيد بن جبير: لو قال: افئدة الناس، لحجّت اليهود و النصارى و المجوس. أو للابتداء، كقولك: القلب منّي سقيم، أي: أفئدة ناس. تَهْوِي إِلَيْهِمْ تسرع إليهم شوقا و ودادا.

وَ ارْزُقْهُمْ مِنَ الثَّمَراتِ مع سكناهم واديا لا نبات فيه، بأن تجلب إليه من البلاد لَعَلَّهُمْ يَشْكُرُونَ في أن يرزقوا أنواع الثمرات، حاضرة في واد ليس فيه زرع و لا شجر و لا ماء. فأجاب اللّه دعوته، فجعله حرما آمنا تجبى إليه ثمرات كلّ شي ء، حتّى يوجد فيه الفواكه الربيعيّة و الصيفيّة و الخريفيّة في يوم واحد.

رَبَّنا إِنَّكَ تَعْلَمُ ما نُخْفِي وَ ما نُعْلِنُ تعلم سرّنا كما تعلم علننا. و المعنى: أنّك أعلم بأحوالنا و مصالحنا، و أرحم بنا منّا بأنفسنا، فلا حاجة لنا إلى الطلب، لكنّا

______________________________

(1) راجع ج 1 ص 232 ذيل الآية 126 من سورة البقرة.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 493

ندعوك إظهارا للعبوديّة لك، و تخشّعا لعظمتك، و تذلّلا لعزّتك، و افتقارا إلى ما عندك، و استعجالا لنيل مواهبك، و ولها إلى رحمتك، كما يتملّق العبد بين يدي سيّده رغبة في إصابة معروفه، مع توفّر السيّد على الوجه الحسن.

وَ ما يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ أي: هو علّام الغيوب في كلّ مكان من الأرض و السماء، لأنّه العالم بعلم ذاتيّ يستوي إلى كلّ معلوم. و «من» للاستغراق.

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي وَهَبَ لِي عَلَى الْكِبَرِ أي: مع الكبر، كقول الشاعر: إنّي على ما ترين من كبري ... و هو في موضع الحال، أي: وهب لي و أنا كبير آيس من الولد إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ قيّد

الهبة بحال الكبر استعظاما للنعمة، من حيث إنها حال وقوع اليأس من الولادة، و الظفر بالحاجة على عقب اليأس، من أجلّ النعم و أحلاها في نفس الظافر، و إظهارا لما فيها من آلائه. روي أنّه ولد له إسماعيل لتسع و تسعين سنة، و إسحاق لمائة و اثنتي عشرة سنة.

إِنَّ رَبِّي لَسَمِيعُ الدُّعاءِ أي: لمجيبه، من قولك: سمع الملك كلامي، إذا اعتدّ به. و هو من أبنية المبالغة العاملة عمل الفعل، أضيف إلى مفعوله. و يجوز أن يكون من قبيل إضافة الفعل إلى فاعله، فيجعل دعاء اللّه سميعا على الإسناد المجازي، و المراد سماع اللّه الدعاء. و فيه إشعار بأنّه دعا ربّه و سأل منه الولد حال اليأس، فأجابه و وهب له سؤله حينما وقع اليأس منه.

رَبِّ اجْعَلْنِي مُقِيمَ الصَّلاةِ هذا سؤال من إبراهيم من اللّه بأن يلطف له اللطف الّذي عنده يقيم الصلاة، معدّلا لها مواظبا عليها وَ مِنْ ذُرِّيَّتِي عطف على المنصوب في «اجعلني». و التبعيض لعلمه بإعلام اللّه أنّه يكون في ذرّيّته كفّار، و ذلك قوله: لا يَنالُ عَهْدِي الظَّالِمِينَ «1».

______________________________

(1) البقرة: 124.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 494

رَبَّنا وَ تَقَبَّلْ دُعاءِ أي: و استجب دعائي، أو و تقبّل عبادتي، فإنّ قبول الدعاء إنما هو الاجابة، و قبول الطاعة الإثابة.

رَبَّنَا اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَ في هذا دلالة على أنّ أبويه لم يكونا كافرين، و إنّما كان آزر عمّه أو جدّه لأمّه على الخلاف، لأنّه سأل المغفرة لهما يوم القيامة، فلو كانا كافرين لما سأل ذلك، لأنّه قال: فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ «1».

و من قال: إنّما دعا لأبيه لأنّه كان وعده أن يسلم، فلمّا مات على الكفر تبرّأ منه، على ما روي

عن الحسن، فقول فاسد، لأنّ إبراهيم عليه السّلام إنّما دعا بهذا الدعاء بعد الكبر، و بعد أن وهب له إسماعيل و إسحاق، و قد تبيّن له في هذا الوقت عداوة أبيه الكافر للّه، فلا يجوز أن يقصده بدعائه.

وَ لِلْمُؤْمِنِينَ يَوْمَ يَقُومُ الْحِسابُ أي: يثبت. مستعار من قيام القائم على الرجل، كقولهم: قامت الحرب على ساقها. أو يقوم إليه أهله، فحذف المضاف، أو أسند إليه قيامهم مجازا.

[سورة إبراهيم (14): الآيات 42 الى 43]

وَ لا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلاً عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ (42) مُهْطِعِينَ مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ وَ أَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ (43)

و لمّا ذكر سبحانه يوم الحساب بيّن أنّه لا يمهل الظالمين عن غفلة من أفعالهم القبيحة، لكن لتأكيد الحجّة، فقال وعيدا للظالم و تسلية للمظلوم: وَ لا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ غافِلًا عَمَّا يَعْمَلُ الظَّالِمُونَ خطاب للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و المراد به تثبيته على ما هو

______________________________

(1) التوبة: 114.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 495

عليه، من أنّه مطّلع على أحوالهم و أفعالهم، لا يخفى عليه خافية، و وعيدهم بأنّه معاقبهم على قليله و كثيره لا محالة. أو خطاب لكلّ من توهّم غفلته، جهلا بصفاته، و اغترارا بإمهاله.

إِنَّما يُؤَخِّرُهُمْ يؤخّر عذابهم. و عن أبي عمرو بالنون. لِيَوْمٍ تَشْخَصُ فِيهِ الْأَبْصارُ أي: تشخص فيه أبصارهم، فلا تقرّ في أماكنها من هول ما ترى في ذلك اليوم.

مُهْطِعِينَ مسرعين في المحشر إلى الداعي. و قيل: الإهطاع أن تقبل ببصرك على ما ترى، تديم النظر إليه لا تطرف. فالمعنى: مقبلين بأبصارهم لا يطرفون هيبة و خوفا، فإنّ أصل الكلمة هو الإقبال على الشي ء.

مُقْنِعِي رُؤُسِهِمْ رافعيها لا يَرْتَدُّ إِلَيْهِمْ طَرْفُهُمْ لا ترجع إليهم أعينهم، فلا يغمضونها و لا يطبقونها، بل

بقيت عيونهم مفتوحة ممدودة من غير تحريك للأجفان. أو لا يرجع إليهم نظرهم فينظروا إلى أنفسهم.

وَ أَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ خلاء. أي: خالية عن الفهم، كفؤاد ذي الحيرة و الدهشة، و منه يقال للأحمق و للجبان: قلبه هواء، أي: لا رأي فيه و لا قوّة. و قيل: خالية عن الخير، خاوية عن الحقّ.

[سورة إبراهيم (14): الآيات 44 الى 45]

وَ أَنْذِرِ النَّاسَ يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَ نَتَّبِعِ الرُّسُلَ أَ وَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ (44) وَ سَكَنْتُمْ فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ وَ تَبَيَّنَ لَكُمْ كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ وَ ضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ (45)

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 496

وَ أَنْذِرِ النَّاسَ يا محمّد يَوْمَ يَأْتِيهِمُ الْعَذابُ يعني: يوم القيامة، أو يوم الموت، أو يوم هلاكهم بالعذاب العاجل، فإنّه أوّل أيّام عذابهم. و هو مفعول ثان ل «أنذر».

فَيَقُولُ الَّذِينَ ظَلَمُوا نفوسهم بالشرك و التكذيب رَبَّنا أَخِّرْنا إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أخّر العذاب عنّا. أو ردّنا إلى الدنيا، و أمهلنا إلى حدّ من الزمان قريب. أو أخّر آجالنا، و أبقنا مقدار ما نؤمن بك و نجيب دعوتك نُجِبْ دَعْوَتَكَ وَ نَتَّبِعِ الرُّسُلَ جواب للأمر. و نظيره: لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَ أَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ «1».

فيقول اللّه تعالى مخاطبا لهم، أو يقول الملائكة بأمره: أَ وَ لَمْ تَكُونُوا أَقْسَمْتُمْ مِنْ قَبْلُ ما لَكُمْ مِنْ زَوالٍ من انتقال إلى دار اخرى. و هو على إرادة القول، و «ما لكم» جواب القسم، جاء بلفظ الخطاب على المطابقة دون الحكاية. و لو حكى لفظ المقسمين لقيل: ما لنا من زوال. و المعنى: أقسمتم أنّكم باقون في الدنيا، لا تزالون بالموت. و لعلّهم أقسموا بطرا

و غرورا، لما استولى عليهم من عادة الجهل و السفه، أو دلّ عليه حالهم، حيث بنوا شديدا و أملوا بعيدا.

و قيل: أقسموا أنّهم لا ينتقلون إلى دار اخرى، يعني: أنّهم كفروا بالبعث، كقوله: وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ «2». لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ «3».

وَ سَكَنْتُمْ من السكون، أو السكنى فِي مَساكِنِ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ بالكفر و المعاصي، كعاد و ثمود. و أصل «سكن» أن يعدّى ب «في» كقرّ و غني و أقام.

و قد يستعمل بمعنى التبوّء، فيجري مجراه، كقولك: سكنت الدار. و المعنى:

______________________________

(1) المنافقون: 10.

(2) النور: 53.

(3) النحل: 38.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 497

اطمأننتم فيها طيّبي النفوس، سائرين سيرة من قبلكم في الظلم.

وَ تَبَيَّنَ لَكُمْ بالأخبار المتواترة عندكم أو بالمشاهدة كَيْفَ فَعَلْنا بِهِمْ كيف أهلكناهم وَ ضَرَبْنا لَكُمُ الْأَمْثالَ من أحوالهم، أي: بيّنّا لكم أنّكم مثلهم في الكفر و استحقاق العذاب، أو في صفات ما فعلوا و فعل بهم الّتي هي في الغرابة كالأمثال المضروبة.

[سورة إبراهيم (14): الآيات 46 الى 47]

وَ قَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ وَ عِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ وَ إِنْ كانَ مَكْرُهُمْ لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ (46) فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ ذُو انتِقامٍ (47)

ثمّ أبان سبحانه عن مكر الكفّار و دفعه ذلك عن رسله، تسلية لنبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: وَ قَدْ مَكَرُوا مَكْرَهُمْ المستفرغ فيه جهدهم لإبطال الحقّ و تقرير الباطل وَ عِنْدَ اللَّهِ مَكْرُهُمْ يمكن أن يكون مضافا إلى الفاعل، على معنى: و مكتوب عنده مكرهم، فهو مجازيهم عليه. أو مضافا إلى المفعول، يعني: و عنده ما يمكرهم به، و هو عذابهم الّذي يأتيهم به من حيث لا يحتسبون، جزاء لمكرهم و إبطالا له.

وَ إِنْ كانَ مَكْرُهُمْ بالأنبياء قبلك في

العظم و الشدّة لِتَزُولَ مِنْهُ الْجِبالُ مسوّى لإزالة الجبال.

و قيل: «إن» نافية، و اللام مؤكّدة لها، كقوله: وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعَذِّبَهُمْ «1».

وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ «2». أي: و ما كان مكرهم لتزول منه ما هو مثل

______________________________

(1) الأنفال: 33.

(2) البقرة: 143.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 498

الجبال الراسية- من دلائل النبيّ و شرائعه- في الثبات و التمكّن. يعني: لا تزول منه الجبال، فكيف يزول منه الدين الّذي هو أثبت من الجبال؟! و قيل: مخفّفة من الثقيلة، أي: و إنّه كان مكرهم ليزيلوا به ما هو كالجبال الراسية ثباتا و تمكّنا، من آيات اللّه و شرائعه. يعني: أنّ مكرهم و إن بلغ كلّ مبلغ فلا يزيل دين اللّه، و لا يضرّ ذلك أنبياءه، و لا يزيل أمرهم، و لا سيّما أمر محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإنّه أثبت من الجبال.

و قرأ الكسائي بالفتح و الرفع، على أنّها المخفّفة، و اللام هي الفاصلة. و معناه:

تعظيم مكرهم.

قيل: إنّ المراد به نمرود بن كوش بن كنعان، حين أخذ التابوت، و أخذ أربعة من النسور فأجاعها أيّاما، و علّق فوقها لحما، و ربط التابوت إليها، و طارت النسور بالتابوت و هو و وزيره فيه، إلى أن بلغت حيث شاء اللّه تعالى، و ظنّ أنّه بلغ السماء، ففتح باب التابوت من أعلاه فرأى بعد السماء منه كبعدها حين كان في الأرض، و فتح بابا من أسفل التابوت فرأى الأرض قد غابت عنه، فهاله الأمر، فصوّب النسور، و سقط التابوت، و كانت له وجبة. و هذا القول مرويّ عن ابن مسعود و ابن عبّاس و جماعة.

فَلا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ مُخْلِفَ وَعْدِهِ رُسُلَهُ مثل قوله: إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا «1»، كَتَبَ

اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي «2». و أصله: مخلف رسله وعده، فقدّم المفعول الثاني إيذانا بأنّه لا يخلف وعده أصلا، كقوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُخْلِفُ الْمِيعادَ «3». و إذا لم يخلف وعده أحدا فكيف يخلف رسله الّذين هم خيرته و صفوته؟!

______________________________

(1) غافر: 51.

(2) المجادلة: 21.

(3) آل عمران: 9.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 499

إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غالب لا يماكر، قادر لا يدافع ذُو انتِقامٍ لأوليائه من أعدائه.

[سورة إبراهيم (14): الآيات 48 الى 52]

يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ وَ بَرَزُوا لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (48) وَ تَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (49) سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ وَ تَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ (50) لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ ما كَسَبَتْ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (51) هذا بَلاغٌ لِلنَّاسِ وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ وَ لِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ وَ لِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (52)

يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ أي: الأرض الّتي تعرفونها غَيْرَ الْأَرْضِ أي: أرضا اخرى غيرها. و هو بدل من «يوم يأتيهم»، أو ظرف للانتقام، أو مقدّر ب: اذكر، أو:

لا يخلف وعده. و لا يجوز أن ينتصب ب «مخلف»، لأنّ ما قبل «أن» لا يعمل فيما بعده.

وَ السَّماواتُ عطف على «الأرض». و تقديره: و السماوات غير السماوات.

و التبديل يكون في الذات، كقولك: بدّلت الدراهم دنانير. و عليه قوله: بَدَّلْناهُمْ جُلُوداً غَيْرَها «1». وَ بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ «2». و في الصفة، كقولك: بدّلت الحلقة خاتما، إذا أذبتها و سوّيتها خاتما، فنقلتها من شكل إلى شكل. و عليه قوله:

______________________________

(1) النساء: 56.

(2) سبأ: 16.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 500

زبدة التفاسير ج 3 549

يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ «1». و الآية تحتملهما.

و

عن عليّ عليه السّلام: «تبدّل أرضا من فضّة، و سماوات من ذهب».

و عن ابن مسعود و أنس: يحشر الناس على أرض

بيضاء، لم يخطئ عليها أحد خطيئة.

و

في تفسير أهل البيت عليهم السّلام بالإسناد عن زرارة و محمد بن مسلم و حمران بن أعين، عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام قالا: «تبدّل الأرض خبزة نقيّة، يأكل الناس منها حتّى يفرغ من الحساب،

قال اللّه تعالى: وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ «2». و هو قول سعيد بن جبير و محمد بن كعب.

و روي عن ابن مسعود أنّه قال: تبدّل الأرض بنار، فتصير الأرض كلّها يوم القيامة نارا، و الجنّة من ورائها، يرى كواعبها و أكوابها، و يلجم الناس العرق، و لم يبلغ الحساب بعد.

و قال كعب: تصير السماوات جنانا، و يصير مكان البحر النار، و تبدّل الأرض غيرها. و يؤيّده قوله: كَلَّا إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ «3». و قوله: إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ « «4»».

و

عن أبي أيّوب الأنصاري قال: أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حبر من اليهود فقال: أ رأيت إذ يقول اللّه في كتابه: «يَوْمَ تُبَدَّلُ الْأَرْضُ غَيْرَ الْأَرْضِ وَ السَّماواتُ» فأين الخلق عند ذلك؟ فقال: أضياف اللّه، فلن يعجزهم ما لديه.

و قيل: تبدّل الأرض لقوم بأرض الجنّة، و لقوم بأرض النار.

و عن ابن عبّاس: هي تلك الأرض، و إنّما تغيّر صفاتها. و يدلّ عليه ما

روى

______________________________

(1) الفرقان: 70.

(2) الأنبياء: 8.

(3، 4) المطفّفين: 18 و 7. زبدة التفاسير، ج 3، ص: 501

أبو هريرة أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «تبدّل الأرض غير الأرض، فتبسط و تمدّ مدّ الأديم «1» العكاظي، لا ترى فيها عوجا و لا أمتا».

و أمّا تبدّل السماء صفة فيكون بانتثار كواكبها، و كسوف شمسها، و خسوف قمرها، و انشقاقها، و كونها أبوابا.

وَ

بَرَزُوا لِلَّهِ من قبورهم الْواحِدِ الْقَهَّارِ لمحاسبته و مجازاته. و توصيفه بالوصفين للدلالة على أنّ الأمر في غاية الصعوبة، كقوله: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ «2» فإنّ الأمر إذا كان لواحد غلّاب لا يغالب، فلا مستغاث لأحد إلى غيره و لا مستجار.

وَ تَرَى الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ مُقَرَّنِينَ قرن بعضهم مع بعض بحسب مشاركتهم في العقائد الزائغة و الأعمال السيّئة، كقوله تعالى: وَ إِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ «3» أو بأن يقرن كلّ كافر مع شيطان كان يضلّه. و هو المنقول عن ابن عبّاس. أو قرنت أيديهم و أرجلهم إلى رقابهم بالأغلال. فِي الْأَصْفادِ متعلّق ب «مقرّنين»، أو حال من ضميره. و الصفد القيد. و قيل: الغلّ. و أصله الشدّ.

سَرابِيلُهُمْ قمصانهم مِنْ قَطِرانٍ و قطران و قطران أيضا- بفتح القاف و كسرها مع سكون الطاء- لغتان، و إن لم يقرأهما أحد من القرّاء العشرة. و هو ما يتحلّب من شجر يسمّى الأبهل، فيطبخ فتطلى به الإبل الجربي «4»، فيحرق الجرب بحرّه و حدّته. و قد تبلغ حرارته الجوف، و من شأنه أن يسرع فيه اشتعال النار، و قد يستسرج به. و هو أسود اللون، منتن الريح، لزج. فتطلى به جلود أهل النار، حتّى

______________________________

(1) الأديم: الجلد المدبوغ. و العكاظي منسوب إلى سوق عكاظ بمكّة في الجاهليّة.

(2) غافر: 16.

(3) التكوير: 7.

(4) الجربي جمع الأجرب، و هو الإبل أصابه الجرب. و هو داء يحدث في الجلد بثورا صغارا لها حكّة شديدة.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 502

يكون طلاؤه لهم كالسراويل، ليجتمع عليهم أربع: لذع القطران و حرقته، و إسراع النار في جلودهم، و اللون الوحش، و نتن الريح. على أنّ التفاوت بين القطرانين كالتفاوت بين النارين. و كلّ ما وعد اللّه أو

أوعد اللّه في الآخرة، فبينه و بين ما يشاهد من جنسه ما لا يقادر قدره، فكأنّه ما عندنا إلّا الأسامي و المسمّيات ثمّة.

و عن يعقوب: قطر آن. و القطر: النحاس أو الصفر المذاب، و الآني: المتناهي حرّه. و الجملة حال ثانية من مفعول «ترى»، أو حال من الضمير في «مقرّنين».

وَ تَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ لأنّهم لم يتوجّهوا بها إلى الحقّ، و لم يستعملوا في تدبّره مشاعرهم و حواسّهم الّتي خلقت فيها لأجله، كما تطّلع على أفئدتهم، لأنّها فارغة عن المعرفة، مملوءة بالجهالات. و نظيره قوله: أَ فَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ «1»، و قوله: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ «2».

لِيَجْزِيَ اللَّهُ كُلَّ نَفْسٍ أي: يفعل بالمجرمين ما يفعل ليجزي كلّ نفس مجرمة ما كَسَبَتْ أو كلّ نفس مجرمة أو مطيعة، لأنّه إذا بيّن أنّ المجرمين يعاقبون لأجرامهم، دلّ على أنّ المطيعين يثابون لطاعتهم. و يتعيّن ذلك إن علّق اللام ب «برزوا». إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ لا يشغله حساب عن حساب.

هذا إشارة إلى القرآن، أو السورة، أو ما فيه من العظة و التذكير، أو ما وصفه من قوله: وَ لا تَحْسَبَنَّ اللَّهَ «3» بَلاغٌ لِلنَّاسِ كفاية لهم في الموعظة وَ لِيُنْذَرُوا بِهِ عطف على محذوف، أي: لينصحوا و لينذروا بما في هذا البلاغ من الوعيد. فتكون اللام متعلّقة بالبلاغ. و يجوز أن تتعلّق بمحذوف تقديره: و لينذروا به أنزل أو تلي.

______________________________

(1) الزمر: 24.

(2) القمر: 48.

(3) إبراهيم: 42.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 503

وَ لِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ بالنظر و التأمّل في الأدلّة المؤدّية إلى التوحيد، المثبتة في القرآن من الآيات الدالّة عليه. وَ لِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ ذوي العقول و النهى، فيرتدعوا عمّا يرديهم، و يتدرّعوا

بما يحظيهم.

و اعلم أيّها الطالب للرشاد ذخرا ليوم المعاد، أنّ في هذه الآية دلالة على أنّ القرآن كاف في جميع ما يحتاج الناس إليه من أمور الدين، لأنّ جميعها- جملها و تفاصيلها- يعلم بالقرآن، إمّا بنفسه، و إمّا بواسطة. فيجب على المؤمن المجتهد المهتمّ بأمور الدين أن يشمّر عن ساق الجدّ في طلب علوم القرآن، ليوفّق بمعرفة ما فيه من بدائع الحكمة و مواضع البيان، و يكتفي به عمّا سواه، لينال السعادة في دنياه و عقباه.

و في قوله: وَ لِيَعْلَمُوا أَنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ دلالة على أنّه سبحانه أراد من الناس علم التوحيد، خلافا لأهل الجبر في قولهم إنّه سبحانه أراد من النصارى إثبات التثليث، و من الزنادقة القول بالتثنية، تعالى اللّه عن ذلك.

و في قوله: «وَ لِيَذَّكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ» دلالة على أنّه أراد من الجميع التدبّر و التذكّر. و على أنّ العقل حجّة، لأنّ غير ذوي العقول لا يمكنهم الفكر و الاعتبار.

و اعلم أيضا أنّه سبحانه ذكر لهذا البلاغ ثلاث فوائد، هي الغاية في إنزال الكتب: تكميل الرسل للناس. و استكمالهم القوّة النظريّة الّتي منتهى كمالها التوحيد.

و استصلاح القوّة العمليّة، الّذي هو التدرّع بلباس التقوى. اللّهمّ اجعلنا من الموفّقين لهما، بحقّ نبيّك النبيه، و وليّك الوليه، و آلهما المعصومين أجمعين.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 505

(15) سورة الحجر

اشارة

مكّيّة، و هي تسع و تسعون آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأها اعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد المهاجرين و الأنصار و المستهزئين بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

[سورة الحجر (15): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَ قُرْآنٍ مُبِينٍ (1) رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ (2) ذَرْهُمْ يَأْكُلُوا وَ يَتَمَتَّعُوا وَ يُلْهِهِمُ الْأَمَلُ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (3) وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ وَ لَها كِتابٌ مَعْلُومٌ (4)

ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ (5)

و لمّا ختم سبحانه سورة إبراهيم عليه السّلام بذكر القرآن، و أنّه بلاغ و كفاية لأهل الإسلام، افتتح هذه السورة بذكر القرآن، و أنّه مبيّن للأحكام، فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الر تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ وَ قُرْآنٍ مُبِينٍ إشارة إلى آيات السورة. و الكتاب

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 506

هو السورة. و كذا القرآن. أو المراد بهما الكتاب و السورة جميعا. و تنكيره للتفخيم، أي: آيات المنزل الجامع بين كونه كتابا كاملا و قرآنا يبيّن الرشد من الغيّ، كاملا في البيان.

رُبَما يَوَدُّ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ ربما يتمنّى الكفّار الإسلام حين عاينوا حال المسلمين عند نزول النصر، أو عند حلول الموت، أو في القبر، أو يوم القيامة.

روى مجاهد عن ابن عبّاس قال: ما يزال اللّه يدخل الجنّة و يرحم و يشفع حتّى يقول: من كان من المسلمين فليدخل الجنّة، فحينئذ يودّ الّذين كفروا لو كانوا مسلمين.

و

روي مرفوعا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «إذا اجتمع أهل النار في النار و معهم من يشاء اللّه من أهل القبلة، قال الكفّار للمسلمين: ألم تكونوا

مسلمين؟ قالوا: بلى.

قالوا: فما أغنى عنكم إسلامكم و قد صرتم معنا في النار؟ قالوا: كانت لنا ذنوب فأخذنا بها. فسمع اللّه عزّ و جلّ ما قالوه، فأمر من كان في النار من أهل الإسلام فأخرجوا منها. فحينئذ يقول الكفّار: يا ليتنا كنّا مسلمين».

و

قال الصادق عليه السّلام: «ينادي مناد يوم القيامة يسمع الخلائق: أنّه لا يدخل الجنّة إلّا مسلم، فثمّ يودّ سائر الخلق أنّهم كانوا مسلمين».

و قرأ نافع و عاصم: ربما بالتخفيف. و «ما» كافّة تكفّه عن الجرّ، فيجوز دخوله على الفعل. و حقّه أن يدخل على الماضي، لكن لمّا كان المترقّب في أخبار اللّه تعالى كالماضي في تحقّقه، اجري المضارع مجرى الماضي.

و قيل: «ما» نكرة موصوفة، كقوله:

ربما «1» تكره النّفوس من الأمرله فرجة كحلّ العقال

______________________________

(1) أي: ربّ شي ء تكرهه النفوس.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 507

و معنى التقليل فيه: الإيذان بأنّهم لو كانوا يودّون الإسلام مرّة فبالحريّ أن يسارعوا إليه، فكيف و هم يودّونه كلّ ساعة! و قيل: تدهشهم أهوال القيامة، فإن حانت منهم إفاقة في بعض الآنات من سكرتهم تمنّوا ذلك.

و قوله: «لَوْ كانُوا مُسْلِمِينَ» حكاية ودادهم. و إنّما جي ء بها على لفظ الغيبة لأنّهم مخبر عنهم، كقولك: حلف باللّه ليفعلنّ. و لو قيل: لو كنّا مسلمين، و حلف باللّه لأفعلنّ، لكان حسنا، لكن إيثار الحكاية هو الأحسن، لئلّا يلتبس بقول المتكلّم الحاكي.

ذَرْهُمْ أي: اقطع طمعك منهم، و دعهم عن النهي عمّا هم عليه، و الصدّ عنه بالتذكرة و النصيحة، و خلّهم يَأْكُلُوا وَ يَتَمَتَّعُوا بدنياهم و تنفيذ شهواتهم وَ يُلْهِهِمُ الْأَمَلُ و يشغلهم أملهم و توقّعهم لطول الأعمار و استقامة الأحوال عن الاستعداد للمعاد فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ سوء صنيعهم إذا عاينوا جزاءه. و الغرض إقناط

الرسول من ارعوائهم، و إيذانه بأنّهم من أهل الخذلان، فلا ينفعهم الوعظ، و لا ينجع فيهم النصح، فنصحهم بعد اشتغال بما لا طائل تحته.

و فيه إلزام للحجّة، و تحذير عن إيثار التنعّم و ما يؤدّي إليه طول الأمل، و مبالغة في الإنذار منه، و تنبيه على أنّ الإنسان يجب أن يكون مقصور الهمّة على أمور الآخرة، مستعدّا للموت، مسارعا إلى التوبة، و لا يأمل الآمال المؤدّية إلى الصدّ عنها.

و

روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «أخوف ما أخاف عليكم اثنان: اتّباع الهوى و طول الأمل، فإنّ اتّباع الهوى يصدّ عن الحقّ، و طول الأمل ينسي الآخرة».

و عن بعض العلماء: التمرّغ في الدنيا من أخلاق الهالكين.

وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَ لَها كِتابٌ مَعْلُومٌ مكتوب مقدّر معيّن، و هو أجلها الّذي كتب في اللوح المحفوظ. و المستثنى جملة واقعة صفة ل «قرية». و الأصل أن

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 508

لا تدخلها الواو، كما في قوله: وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ «1» لكن لمّا شابهت صورتها صورة الحال أدخلت عليها تأكيدا، للصوقها بالموصوف، كما يقال في الحال: جاءني زيد و عليه ثوب.

ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها موضع كتابها، أي: لم تكن أمّة فيما مضى تسبق أجلها الّذي قدّر لها، فتهلك قبل ذلك وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ عنه، بل إذا استوفت أجلها أهلكها اللّه لا محالة. و تذكير ضمير «أمّة» فيه للحمل على المعنى، فإنّها بمعنى القوم.

[سورة الحجر (15): الآيات 6 الى 15]

وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ (6) لَوْ ما تَأْتِينا بِالْمَلائِكَةِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (7) ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ ما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ (8) إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا

لَهُ لَحافِظُونَ (9) وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ (10)

وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (11) كَذلِكَ نَسْلُكُهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (12) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ قَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ (13) وَ لَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ (14) لَقالُوا إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ (15)

وَ قالُوا يا أَيُّهَا الَّذِي نُزِّلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ نادوا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على التهكّم. ألا ترى إلى ما نادوه له، و هو قولهم: إِنَّكَ لَمَجْنُونٌ و نظير ذلك قول فرعون:

______________________________

(1) الشعراء: 208.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 509

إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ «1». و التعكيس في كلامهم للاستهزاء و التهكّم مذهب واسع، و قد جاء في كتاب اللّه في مواضع، منها: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «2».

إِنَّكَ لَأَنْتَ الْحَلِيمُ الرَّشِيدُ «3». و قد يوجد في كلام العجم. و المعنى: أنّك لتقول قول المجانين حين تدّعي أنّ اللّه نزّل عليك الذكر، أي: القرآن.

لَوْ ما تَأْتِينا ركّبت «لو» مع «ما» كما ركّبت مع «لا» لمعنيين: لامتناع الشي ء لوجود غيره، و التحضيض. و المراد ها هنا الثاني، أي: هلّا تأتينا.

بِالْمَلائِكَةِ ليصدّقوك و يعضدوك على الدعوة، كقوله تعالى: لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً «4». أو للعقاب على تكذيبنا لك، كما أتت الأمم المكذّبة قبل.

إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك.

ما نُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بالياء مسند إلى ضمير اسم اللّه. و قرأ حمزة و الكسائي و حفص و عاصم: ننزّل بالنون. و أبو بكر: تنزّل الملائكة، بالتاء و البناء للمفعول و رفع الملائكة. إِلَّا بِالْحَقِ إلّا تنزيلا ملتبسا بالحقّ، أي: بالوجه الّذي قدّره و اقتضته حكمته، و لا حكمة في أن يأتيكم

بصور تشاهدونها، فإنّه لا يزيدكم إلّا لبسا، و لا في معاجلتكم بالعقوبة، فإنّ علمنا يتعلّق بأنّ منكم و من ذراريكم من سيؤمن.

و قيل: الحقّ الوحي، أو العذاب.

وَ ما كانُوا إِذاً مُنْظَرِينَ ممهلين مؤخّرين. «إذا» جواب لهم و جزاء الشرط مقدّر، أي: و لو نزّلنا الملائكة ما كانوا منظرين، بل عذّبوا بلا مهلة.

ثمّ زاد سبحانه في البيان، فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ ردّ لإنكارهم

______________________________

(1) الشعراء: 27.

(2) آل عمران: 21.

(3) هود: 87.

(4) الفرقان: 7.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 510

و استهزائهم، و لذلك أكّده من وجوه، و هي: إيراد حرف التحقيق، و تأكيد الضمير، و الإسناد إلى نفسه، و صيغة المبالغة، و تقريره بقوله: وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ أي: من كلّ زيادة و نقصان، و تغيير و تحريف، بخلاف الكتب المتقدّمة، فإنّه لم يتولّ حفظها، و إنّما يستحفظها الربّانيّون و الأحبار. و لم يكل القرآن إلى غير حفظه، ليكون إلى آخر الدهر معجزا مباينا لكلام البشر، لا يخفى تغيير نظمه على أهل اللسان، فتنقله الأمّة عصرا بعد عصر على ما هو عليه، فيكون حجّة على الخلق.

و قيل: الضمير في «له» للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لقوله: وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ «1».

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ يا محمّد رسلا. حذف المفعول لدلالة الإرسال عليه. فِي شِيَعِ الْأَوَّلِينَ في فرقهم. جمع شيعة، و هي الفرقة المتّفقة على طريق و مذهب، من: شاعه، إذا تبعه. و المعنى: نبّأنا رجالا فيهم و جعلناهم رسلا فيما بينهم.

وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ كما يفعل هؤلاء. و هو تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و «ما» للحال لا يدخل إلّا مضارعا بمعناه، أو ماضيا

قريبا منه. و هذا على حكاية الحال الماضية.

كَذلِكَ نَسْلُكُهُ ندخل الذكر فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ و السلك إدخال الشي ء في الشي ء، كالخيط في المخيط، و الرمح في المطعون.

لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حال من مفعول «نسلكه». و المعنى: مثل ذلك السلك نسلك الذكر و نلقيه في قلوب المجرمين مكذّبا غير مؤمن به، كما لو أنزلت بلئيم حاجة فلم يجبك إليها فقلت: كذلك أنزلها باللئام، يعني: مثل هذا الإنزال أنزلها بهم مردودة غير مقضيّة. أو يكون قوله: «لا يؤمنون» بيانا للجملة المتضمّنة للضمير.

______________________________

(1) المائدة: 67.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 511

و قال بعض الأشعريّة: إنّ المعنى نسلك الاستهزاء في قلوبهم. و هذا غير صحيح، لأنّه لو كان اللّه قد سلك الاستهزاء في قلوبهم لسقط عنهم الذمّ و العقاب، لأنّ ذلك ليس من فعلهم، بل من فعل اللّه سبحانه فيهم، فلهم أن يقولوا محتجّين عليه: عتبتنا و ذممتنا، و عذّبتنا بشي ء أنت تخلقه فينا، و ليس لنا فيه اختيار، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

ثمّ قال تهديدا لهم على تكذيبهم: وَ قَدْ خَلَتْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ طريقتهم الّتي سنّها اللّه في إهلاكهم حين كذّبوا برسلهم و بالذكر المنزل عليهم. و هو وعيد لأهل مكّة على تكذيبهم.

وَ لَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ على هؤلاء المعاندين المقترحين باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ يصعدون إليها و يرون عجائبها طول نهارهم. و تخصيص ذلك بالنهار ليكونوا مستوضحين لما يرون. و قيل: الضمير للملائكة، أي: لو أريناهم الملائكة يصعدون في السماء عيانا.

لَقالُوا من غلوّهم في العناد و تشكيكهم في الحقّ إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا سدّت عن الإبصار بالسحر، فإنّ اشتقاقه من السّكر بمعنى السدّ. و يدلّ عليه قراءة ابن كثير بالتخفيف. أو حيّرت من السّكر، أي: حارت كما يحار السكران.

و المعنى: أنّ هؤلاء المشركين بلغ من غلوّهم في العناد أن لو فتح لهم باب من أبواب السماء، و يسّر لهم معراج يصعدون فيه إليها، و شاهدوا ملكوت السماء، أو رأو صعود الملائكة في السماء من العيان، لقالوا: هو شي ء نتخايله لا حقيقة له.

بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ بل قالوا: قد سحرنا محمّد بذلك، كما قالوه عند ظهور غيره من الآيات. و إنّما قال: «إنّما» ليدلّ على أنّهم يقطعون بأنّ ذلك ليس إلّا تسكيرا لأبصارهم.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 512

[سورة الحجر (15): الآيات 16 الى 18]

وَ لَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَ زَيَّنَّاها لِلنَّاظِرِينَ (16) وَ حَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (17) إِلاَّ مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ مُبِينٌ (18)

ثمّ ذكر سبحانه دلالات التوحيد ردّا عليهم، فقال: وَ لَقَدْ جَعَلْنا فِي السَّماءِ بُرُوجاً اثني عشر تسير الشمس و القمر فيها، مختلفة الهيئات و الخواصّ وَ زَيَّنَّاها بالأشكال الحسنة و الهيئات البهيّة من الكواكب المنيرة لِلنَّاظِرِينَ المعتبرين المستدلّين بها على قدرة مبدعها و توحيد صانعها.

وَ حَفِظْناها و حفظنا السماء مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ مرجوم مرميّ بالشهب، أو ملعون مشؤوم، فلا يقدر أن يصعد إليها، و يوسوس أهلها، و يتصرّف في أمرها، و يطّلع على أحوالها. و حفظ الشي ء جعله على ما ينفي عنه الضياع. فمن ذلك حفظ القرآن بدرسه حتّى لا ينسى. و حفظ المال إحرازه حتّى لا يضيع. و حفظ السماء من الشيطان بالمنع حتّى لا يدخلها، و لا يبلغ إلى موضع يتمكّن فيه من استراق السمع، لما أعدّ له من الشهاب، كما قال جلّ و عزّ: إِلَّا مَنِ اسْتَرَقَ السَّمْعَ بدل «مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ».

و استراق السمع اختلاسه سرّا. شبّه به خطفتهم اليسيرة من قطّان السماوات، لما بينهم من المناسبة في الجوهر،

أو بالاستدلال من أوضاع الكواكب و حركاتها ليخبروا بها الكهنة.

و عن ابن عباس: أنّه كان في الجاهليّة كهنة، و مع كلّ واحد شيطان، فكان يقعد من السماء مقاعد للسمع، فيستمع من الملائكة ما هو كائن في الأرض، فينزل و يخبر به الكاهن، فيفشيه الكاهن إلى الناس، فلمّا ولد عيسى عليه السّلام منعوا من ثلاث

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 513

سماوات، و لمّا ولد محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منعوا من السماوات كلّها بالشهب. فالشهاب من معجزات نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لأنّه لم ير قبل زمانه.

و قيل: الاستثناء منقطع، أي: و لكن من استرق السمع فَأَتْبَعَهُ فتبعه و لحقه شِهابٌ مُبِينٌ ظاهر للمبصرين. و الشهاب شعلة نار ساطعة. و قد يطلق للكواكب و السنان، لما فيهما من البريق.

[سورة الحجر (15): الآيات 19 الى 23]

وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها وَ أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْزُونٍ (19) وَ جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ وَ مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ (20) وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاَّ عِنْدَنا خَزائِنُهُ وَ ما نُنَزِّلُهُ إِلاَّ بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ (21) وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ وَ ما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ (22) وَ إِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ نَحْنُ الْوارِثُونَ (23)

و لمّا تقدّم ذكر السماء و ما فيها من الأدلّة و النعم، أتبعه بذكر الأرض، فقال:

وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها بسطناها طولا و عرضا وَ أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ جبالا ثوابت وَ أَنْبَتْنا فِيها في الأرض، أو فيها و في الجبال مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ مَوْزُونٍ مقدّر بمقدار معيّن وزن بميزان الحكمة. أو مستحسن مناسب، من قولهم: كلام موزون.

أو ما يوزن و يقدّر في العادة، كالفضّة و الذهب. أو له وزن في

أبواب النعم و المنفعة.

وَ جَعَلْنا لَكُمْ فِيها مَعايِشَ تعيشون بها من المطاعم و الملابس وَ مَنْ لَسْتُمْ لَهُ بِرازِقِينَ عطف على معايش، أو على محلّ «لكم». كأنّه قيل: و جعلنا لكم فيها معايش و جعلنا من لستم له برازقين. و لا يجوز عطفه على ضمير «لكم»، لأنّه لا

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 514

يعطف على الضمير المجرور. و المراد به العيال و الخدم و المماليك، و سائر ما يظنّون أنّهم يرزقونهم ظنّا كاذبا، فإنّ اللّه يرزقهم و إيّاهم.

و فذلكة الآية: الاستدلال بجعل الأرض ممدودة بمقدار و شكل معيّنين- مختلفة الأجزاء في الوضع، محدثة فيها أنواع النبات و الحيوان المختلفة خلقة و طبيعة، مع جواز أن لا تكون كذلك- على كمال قدرته، و تناهي حكمته، و التفرّد في الألوهيّة، و الامتنان على العباد بما أنعم عليهم في ذلك، ليوحّدوه و يعبدوه.

ثمّ بالغ في ذلك و قال: وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ أي: و ما من شي ء إلّا و نحن قادرون على إيجاده و تكوينه. فضرب الخزائن مثلا لاقتداره على كلّ مقدوراته، أو شبّه مقدوراته بالأشياء المخزونة الّتي لا يحوج إخراجها إلى كلفة و اجتهاد.

و قيل: المراد به الماء الّذي منه النبات، و هو مخزون عنده تعالى إلى أن ينزله، و نبات الأرض و ثمارها إنّما ينبت بماء السماء.

وَ ما نُنَزِّلُهُ و ما نوجده و ما نعطيه، أو ما ننزّل المطر في بقاع الأرض إِلَّا بِقَدَرٍ مَعْلُومٍ نعلم أنّه مصلحة. فحدّه الحكمة، و تعلّقت به المشيئة، فإنّ تخصيص بعضها بالإيجاد في بعض الأوقات، مشتملا على بعض الصفات و الحالات، لا بدّ له من مخصّص حكيم.

و يؤيّد التفسير الثاني قوله: وَ أَرْسَلْنَا الرِّياحَ لَواقِحَ حوامل. شبّه الريح التي

جاءت بخير- من إنشاء سحاب ماطر- بالحامل، كما شبّه ما لا يكون كذلك بالعقيم. أو ملحقات للشجر أو السحاب. و نظيره الطوائح، بمعنى المطيحات، في قوله: و مختبط ممّا تطيح الطوائح.

فَأَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَسْقَيْناكُمُوهُ فجعلناه لكم سقيا وَ ما أَنْتُمْ لَهُ بِخازِنِينَ قادرين متمكّنين من إخراجه. نفى عنهم ما أثبته لنفسه في قوله:

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 515

«وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلَّا عِنْدَنا خَزائِنُهُ». أو حافظين في الغدران و العيون و الآبار، ثم نخرجه منها بقدر الحاجة، و لا يقدر أحد على إحراز ما يحتاج إليه من الماء في موضع.

و ذلك أيضا يدلّ على المدبّر الحكيم، كما تدلّ حركة الهواء في بعض الأوقات من بعض الجهات على وجه ينتفع به الناس، فإنّ طبيعة الماء تقتضي الغور، فوقوفه دون حدّ لا بدّ له من سبب مخصّص.

وَ إِنَّا لَنَحْنُ نُحْيِي بإيجاد الحياة في بعض الأجسام القابلة لها وَ نُمِيتُ بإزالتها. و قد أوّل الحياة بما يعمّ الحيوان و النبات. و تكرير الضمير للدلالة على الحصر. وَ نَحْنُ الْوارِثُونَ الباقون إذا هلك الخلق كلّه. و هو استعارة من وارث الميّت، لأنّه يبقى بعد فناء الموروث منه، و منه

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «و اجعله الوارث منّا».

أو المراد: نحن الوارثون جميع الأشياء كلّها إذا مات الخلائق، فتصير جميع الأشياء كلّها راجعة إلينا ننفرد بالتصرّف فيها.

[سورة الحجر (15): الآيات 24 الى 25]

وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ (24) وَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ إِنَّهُ حَكِيمٌ عَلِيمٌ (25)

ثمّ بيّن كمال علمه بعد الاحتجاج على كمال قدرته، فقال: وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَقْدِمِينَ مِنْكُمْ وَ لَقَدْ عَلِمْنَا الْمُسْتَأْخِرِينَ من استقدم ولادة و موتا و من استأخر من الأوّلين و الآخرين. أو

من خرج من أصلاب الرجال و من لم يخرج بعد. أو من تقدّم في الإسلام و الجهاد و سبق إلى الطاعة أو تأخّر، لا يخفى علينا شي ء من أحوالكم.

و قيل: رغّب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الصفّ الأول، و

قال: «خير صفوف الرجال أولها، و شرّها آخرها، و خير صفوف النساء آخرها، و شرّها أوّلها».

و

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ اللّه و ملائكته يصلّون على الصفّ المقدّم». فازدحم الناس، و كانت دور بني

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 516

عذرة بعيدة عن المسجد، فقالوا: لنبيعنّ دورنا، و لنشترينّ دورا قريبة من المسجد، حتى ندرك الصفّ المقدّم، فنزلت هذه الآية.

فعلى هذا يكون المعنى: أنّا نجازي الناس على نيّاتهم.

و قيل: إنّ امرأة حسناء كانت تصلّي خلف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فتقدّم بعض القوم لئلّا ينظر إليها، و تأخّر بعض ليبصرها، فنزلت الآية المذكورة. فقال: وَ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَحْشُرُهُمْ لا محالة للجزاء.

و توسيط الضمير للدلالة على أنّه القادر و المتولّي لحشرهم، و العالم بحصرهم- مع كثرتهم و تباعد أطراف عددهم- لا غير.

و تصدير الجملة ب «إنّ» لتحقيق الوعد، و التنبيه على أنّ ما سبق من الدلالة على كمال قدرته و علمه بتفاصيل الأشياء يدلّ على صحّة الحكم، كما صرّح به بقوله: إِنَّهُ حَكِيمٌ باهر الحكمة، متقن في أفعاله عَلِيمٌ وسع علمه كلّ شي ء.

[سورة الحجر (15): الآيات 26 الى 44]

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (26) وَ الْجَانَّ خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ مِنْ نارِ السَّمُومِ (27) وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (28) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (29)

فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (30)

إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (31) قالَ يا إِبْلِيسُ ما لَكَ أَلاَّ تَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ (32) قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ لِبَشَرٍ خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ (33) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (34) وَ إِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ إِلى يَوْمِ الدِّينِ (35)

قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (36) قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (37) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (38) قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (39) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (40)

قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَّ مُسْتَقِيمٌ (41) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلاَّ مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ (42) وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ أَجْمَعِينَ (43) لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ (44)

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 517

و لمّا ذكر سبحانه الإحياء و الإماتة و النشأة الثانية، عقّبه ببيان النشأة الأولى، فقال: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ طين يابس يصلصل- أي: يصوّت إذا نقر- و هو غير مطبوخ، فإذا طبخ فهو فخار. و قيل: هو من: صلصل إذا أنتن، تضعيف:

صلّ، فإنّه يقال: صلّ اللحم و أصلّ إذا أنتن.

مِنْ حَمَإٍ طين تغيّر و اسودّ من طول مجاورة الماء. و هو صفة صلصال، أي: كائن من حمإ مَسْنُونٍ مصوّر، من: سنّة الوجه، أي: صورته. أو مصبوب مفرّغ لييبس، كالجواهر المذابة تصبّ في القوالب، من السنّ و هو الصبّ، كأنّه أفرغ الحمأ فصوّر منها تمثال إنسان أجوف، فيبس حتّى إذا نقر صلصل، ثمّ غيّر ذلك طورا بعد طور، حتّى سوّاه و نفخ فيه من روحه. أو منتن، من: سننت الحجر على الحجر إذا حككته به، فإنّ ما يسيل بينهما يكون منتنا، و يسمّى السنين.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 518

وَ

الْجَانَ أبا الجنّ. و قيل: إبليس. و يجوز أن يراد به الجنس، كما هو الظاهر من الإنسان، لأنّ تشعّب الجنس لمّا كان من شخص واحد خلق من مادّة واحدة، كان الجنس بأسره مخلوقا منها. و انتصابه بفعل يفسّره قوله: خَلَقْناهُ من قبل خلق الإنسان مِنْ نارِ السَّمُومِ من نار الحرّ الشديد النافذ في المسامّ.

و قيل: هي نار لا دخان لها، و الصواعق يكون منها. و لا يمتنع خلق الحياة في الأجرام البسيطة، كما لا يمتنع خلقها في الجواهر المجرّدة، فضلا عن الأجساد المؤلّفة الّتي الغالب فيها الجزء الناري، فإنّها أقبل لها من الّتي الغالب فيها الجزء الأرضي. و قوله: «مِنْ نارِ» باعتبار الغالب، كقوله: خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ «1».

قيل: هذه السموم جزء من سبعين جزءا من سموم النار الّتي خلق اللّه منها الجانّ.

و مساق الآية كما يدلّ على كمال قدرته و بيان بدء خلق الثقلين، فهو كالتنبيه على المقدّمة الثانية الّتي يتوقّف عليها إمكان الحشر، و هو قبول الموادّ للجمع و الإحياء.

و اعلم أنّ أصل آدم عليه السّلام كان من تراب، و ذلك قوله: مِنْ تُرابٍ «2». ثمّ جعل التراب طينا، و ذلك قوله: خَلَقَكُمْ مِنْ طِينٍ «3». ثمّ ترك ذلك الطين حتّى تغيّر و استرخى، و ذلك قوله: «مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ» ثمّ ترك حتّى جفّ، و ذلك قوله: «مِنْ صَلْصالٍ». فهذه الأقوال لا تناقض فيها، إذ هي إخبار عن حالاته المختلفة، كما قال تعالى: وَ إِذْ قالَ رَبُّكَ و اذكر وقت قوله: لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً يعني: آدم.

و سمّي بشرا لأنّه ظاهر الجلد، لا يواريه شعر و لا صوف.

______________________________

(1) الروم: 20.

(2) آل عمران: 59.

(3) الأنعام: 2.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 519

مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ

فَإِذا

سَوَّيْتُهُ عدّلت خلقته و كمّلته، و هيّأته لنفخ الروح فيه وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي حتى جرى آثاره في تجاويف أعضائه فحيي.

قال في الكشّاف: «معناه: و أحييته، و ليس ثمّ نفخ و لا منفوخ، و إنّما هو تمثيل لتحصيل ما يحيا به فيه» «1».

و قال في الأنوار: «أصل النفخ إجراء الريح في تجويف جسم آخر، و لمّا كان الروح يتعلّق أوّلا بالبخار اللطيف المنبعث من القلب، و تفيض عليه القوّة الحيوانيّة، فيسري حاملا لها في تجاويف الشرايين إلى أعماق البدن، جعل تعلّقه بالبدن نفخا، و إضافة الروح إلى نفسه للتشريف» «2».

فَقَعُوا فاسقطوا لَهُ ساجِدِينَ أمر من: وقع يقع.

فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ أكّد بتأكيدين للمبالغة في التعميم، و منع توهّم احتمال التخصيص.

و قيل: أكّد بالكلّ للإحاطة، و بأجمعين للدلالة على أنّهم سجدوا مجتمعين دفعة. و فيه بحث، إذ لو كان الأمر كذلك كان الثاني حالا لا تأكيدا.

إِلَّا إِبْلِيسَ إن جعل منقطعا اتّصل به قوله: أَبى أَنْ يَكُونَ مَعَ السَّاجِدِينَ أي: و لكن إبليس امتنع أن يسجد معهم و استكبر. و إن جعل متّصلا كان استئنافا، على أنّه جواب سائل قال: هلّا سجد؟ فقيل: أبى أن يكون من الساجدين.

و استثنى إبليس من الملائكة، لأنّه كان بينهم مأمورا معهم بالسجود، فغلّب اسم الملائكة ثمّ استثنى بعد التغليب، كقولك: رأيتهم إلّا هذا. و قد سبق «3» القول في

______________________________

(1) الكشّاف 2: 577.

(2) أنوار التنزيل 3: 168.

(3) راجع ج 1 ص 123 ذيل الآية (34) من سورة البقرة.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 520

أنّ إبليس هل كان من الملائكة أو لم يكن؟ باختلاف العلماء فيه، و ما لكلّ واحد من الفريقين من الحجج في سورة البقرة، فلا معنى للإعادة هاهنا.

قالَ يا إِبْلِيسُ

ما لَكَ أَلَّا تَكُونَ حرف الجرّ محذوف، أي: أيّ غرض لك في أن لا تكون مَعَ السَّاجِدِينَ لآدم؟! قالَ لَمْ أَكُنْ لِأَسْجُدَ اللام لتأكيد النفي، أي: لا يصحّ منّي و ينافي حالي أن أسجد لِبَشَرٍ جسمانيّ كثيف و أنا جسم لطيف خَلَقْتَهُ مِنْ صَلْصالٍ مِنْ حَمَإٍ مَسْنُونٍ و هو أخسّ العناصر، و خلقتني من نار و هي أشرفها. استنقص آدم عليه السّلام باعتبار النوع و الأصل. و قد سبق «1» الجواب عنه في سورة الأعراف.

قالَ فَاخْرُجْ مِنْها أي: من السماء، أو الجنّة، أو زمر الملائكة. و قيل: من الرئاسة. فَإِنَّكَ رَجِيمٌ مطرود من الخير و الكرامة، مبعد من الرحمة، فإنّ من يطرد يرجم بالحجر. أو شيطان يرجم بالشهب. و هو وعيد يتضمّن الجواب عن شبهته.

وَ إِنَّ عَلَيْكَ اللَّعْنَةَ هذا الطرد و الإبعاد إِلى يَوْمِ الدِّينِ ضرب يوم الدين حدّا للعنة، إمّا لأنّه أبعد غاية يضربها الناس- كقوله: ما دامَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ «2»- في التأبيد. و إمّا أن يراد: أنّك مذموم مدعوّ عليك باللعنة في السماوات و الأرض إلى يوم الدين من غير أن تعذّب، فإذا جاء ذلك اليوم عذّبت بما ينسى اللعن معه. أو لأنّ اللعنة إلى يوم الدين يناسب أيّام التكليف. و ما في قوله:

فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ «3» بمعنى آخر، و هو العذاب الأليم و العقاب العظيم.

قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي فأخّرني. و الفاء متعلّقة بمحذوف دلّ عليه «فاخرج

______________________________

(1) راجع ج 2 ص 498 ذيل الآية (12) من سورة الأعراف.

(2) هود: 107.

(3) الأعراف: 44.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 521

منها فإنّك رجيم». إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ سأل الإنظار إلى اليوم الّذي فيه يبعثون لئلّا يموت، لأنّه لا يموت يوم البعث أحد، فلم

يجب إلى ذلك الوقت، بل قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ المسمّى فيه أجلك عند اللّه، أو انقراض الناس كلّهم، و هو النفخة الأولى.

و يجوز أن يكون المراد بالأيّام الثلاثة يوم القيامة، و اختلاف العبارات لاختلاف الاعتبارات. فعبّر عنه أوّلا بيوم الجزاء لما عرفته، و ثانيا بيوم البعث، إذ به يحصل العلم بانقطاع التكليف و اليأس عن التضليل، و ثالثا بالمعلوم، لوقوعه في الكلامين. و لا يلزم من ذلك أن لا يموت، و يمكن أن يموت أوّل اليوم و يبعث مع الخلائق في تضاعيفه. و هذه المخاطبة و إن لم تكن بواسطة لم تدلّ على منصب إبليس، لأنّ خطاب اللّه له على سبيل الإهانة و الإذلال.

قالَ رَبِّ بِما أَغْوَيْتَنِي الباء للقسم، و «ما» مصدريّة، و جوابه لَأُزَيِّنَنَّ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ و المعنى: أقسم بإغوائك إيّاي لأزيّننّ لهم المعاصي في الدنيا الّتي هي دار الغرور. و معنى إغوائه إيّاه تسبيبه لغيّه، بأن أمره بالسجود لآدم، فأفضى ذلك إلى غيّه. و ما الأمر بالسجود إلّا حسن و تعريض للثواب بالتواضع و الخضوع لأمر اللّه، و لكن إبليس اختار الإباء و الاستكبار فهلك، و اللّه تعالى بري ء من غيّه و من إرادته و الرضا به، كما هو رأي الأشعريّة، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا. و نحو ذلك قوله: فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ «1» في أنّه إقسام، إلّا أنّ أحدهما إقسام بصفته، و الآخر إقسام بفعله.

و يجوز أن لا تكون الباء للقسم، بل للسببيّة، و يقدّر قسم محذوف. و المعنى:

بسبب تسبيبك لإغوائي أقسم لأفعلنّ بهم نحو ما فعلت بي من التسبيب لإغوائهم، بأن أزيّن لهم المعاصي.

______________________________

(1) ص: 82.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 522

وَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ و لأحملنّهم أجمعين على الغواية،

و أوسوس إليهم ما يكون سبب هلاكهم في الدنيا الّتي هي دار الغرور، كقوله: أَخْلَدَ إِلَى الْأَرْضِ وَ اتَّبَعَ هَواهُ «1». أو أراد: أنّي أقدر على الاحتيال لآدم و التزيين له الأكل من الشجرة و هو في السماء، فأنا على التزيين لأولاده في الأرض أقدر. أو أراد: لأجعلنّ مكان التزيين عندهم الأرض، و لأوقعنّ تزييني فيها، أي: لأزيّننّها في أعينهم، و لأحدّثنّهم بأنّ الزينة في الدنيا وحدها حتّى يستحبّوها على الآخرة، و يطمئنّوا إليها دونها.

إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ الّذين أخلصتهم لطاعتك، و طهّرتهم من الشوائب، فلا يعمل فيهم كيدي.

قالَ هذا صِراطٌ عَلَيَ حقّ عليّ أن أراعيه مُسْتَقِيمٌ لا انحراف عنه.

و هذا إشارة إلى ما تضمّنه الاستثناء، و هو تخليص المخلصين من إغوائه. أو إلى الإخلاص، على معنى أنّه طريق عليّ يؤدّي إلى الوصول إليّ من غير اعوجاج و ضلال.

إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ إِلَّا مَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْغاوِينَ تصديق لإبليس فيما استثناه. و تغيير الوضع لتعظيم المخلصين، و لأنّ المقصود بيان عصمتهم، و انقطاع مخالب الشيطان عنهم. أو تكذيب له فيما أوهم أنّ له سلطانا على من ليس بمخلص من عباده، فإنّ منتهى تزيينه التحريض و التدليس، كما قال: وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي «2». و على هذا يكون الاستثناء منقطعا. و على الأول يدفع قول من شرط أن يكون المستثنى أقلّ من الباقي، لإفضائه إلى تناقض الاستثناءين، لأنّه استثنى الغاوين من العباد تارة، و عكس

______________________________

(1) الأعراف: 176.

(2) إبراهيم: 22.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 523

اخرى، فيكون كلّ من الفريقين أقلّ من الآخر و أكثر.

وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمَوْعِدُهُمْ لموعد الغاوين أو المتّبعين أَجْمَعِينَ تأكيد للضمير، أو حال. و

العامل فيها الموعد إن جعلته مصدرا على تقدير مضاف، و معنى الإضافة إن جعلته اسم مكان، فإنّه لا يعمل.

لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ يدخلون منها لكثرتهم. أو طبقات ينزلونها بحسب مراتبهم في المتابعة، كما

روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّ جهنّم لها سبعة طبقات بعضها فوق بعض، و وضع إحدى يديه على الاخرى فقال: هكذا، و إنّ اللّه وضع الجنان على العرض، و وضع النيران بعضها فوق بعض، فأسفلها جهنّم، و فوقها لظى، و فوقها الحطمة، و فوقها سقر، و فوقها الجحيم، و فوقها السعير، و فوقها الهاوية».

و في رواية الكلبي: أسفلها الهاوية، و أعلاها جهنّم.

و عن ابن عبّاس: أنّ الباب الأوّل جهنّم، و الثاني سعير، و الثالث سقر، و الرابع جحيم، و الخامس لظى، و السادس الحطمة، و السابع الهاوية.

و لعلّ تخصيص العدد لانحصار مجامع المهلكات في الركون إلى المحسوسات، و متابعة القوّة الشهويّة و الغضبيّة، أو لأنّ أهلها سبع فرق.

لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ من الأتباع في الدنيا جُزْءٌ مَقْسُومٌ نصيب أفرز له، فأعلاها للموحّدين العصاة، و الثاني لليهود، و الثالث للنصارى، و الرابع للصابئين، و الخامس للمجوس، و السادس للمشركين، و السابع للمنافقين.

و عن ابن عبّاس: أنّ جهنّم لمن ادّعى الربوبيّة، و لظى لعبدة النار، و الحطمة لعبدة الأصنام، و سقر لليهود، و السعير للنصارى، و الجحيم للصابئين، و الهاوية للموحّدين.

و قرأ أبو بكر: جزء بضمّتين. و «منهم» حال منه، أو من المستكن في الظرف لا في «مقسوم»، لأنّ الصفة لا تعمل فيما تقدّم موصوفها.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 524

[سورة الحجر (15): الآيات 45 الى 48]

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (45) ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ (46) وَ نَزَعْنا ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍّ إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (47) لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ

وَ ما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ (48)

و لمّا ذكر سبحانه عبادة المخلصين عقّبه بذكر حالهم في الآخرة، فقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ من اتّباعه في الكفر و الفواحش، فإنّ غيرهما مكفّرة بالصلوات و غيرها فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ لكلّ واحد جنّة و عين. أو لكلّ عدّة منهما، كقوله: وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ «1» ثمّ قوله: وَ مِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ « «2»» و قوله: مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ الآية «3».

و قرأ نافع و أبو عمرو و حفص و هشام: و عيون، حيث وقع بضمّ العين، و الباقون بكسر العين.

ادْخُلُوها على إرادة القول بِسَلامٍ آمِنِينَ سالمين. أو مسلّما عليكم، يسلّم عليكم الملائكة. أو آمنين من الإخراج.

وَ نَزَعْنا في الدنيا بما ألّفنا بين قلوبهم، أو في الجنّة بتطييب نفوسهم ما فِي صُدُورِهِمْ مِنْ غِلٍ من حقد كان في الدنيا. و المعنى: و أزلنا ما كان في قلوبهم من أسباب العداوة في الدنيا. أو طهّرنا قلوبهم من أن يتحاسدوا على درجات الجنّة و مراتب القرب.

إِخْواناً حال من الضمير في «جنّات»، أو فاعل «ادخلوها»، أو الضمير

______________________________

(1، 2) الرحمن: 46 و 62.

(3) محمد: 15.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 525

في «آمنين»، أو الضمير المضاف إليه، و العامل فيها معنى الإضافة. و كذا قوله:

عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ كائنين على مجالس السرر متواجهين، ينظر بعضهم إلى وجه بعض. و عن مجاهد: تدور بهم الأسرّة حيثما داروا، فيكونون في جميع أحوالهم متقابلين. و يجوز أن يكونا صفتين ل «إخوانا»، أو حالين من ضميره، لأنّه في معنى: متصافّين. و أن يكون «متقابلين» حالا من المستتر في «على سرر».

لا يَمَسُّهُمْ فِيها نَصَبٌ تعب و عناء. استئناف، أو حال بعد حال، أو حال من

الضمير في «متقابلين». وَ ما هُمْ مِنْها بِمُخْرَجِينَ فإنّ تمام النعمة بالخلود.

[سورة الحجر (15): الآيات 49 الى 56]

نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (49) وَ أَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ (50) وَ نَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ (51) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ (52) قالُوا لا تَوْجَلْ إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (53)

قالَ أَ بَشَّرْتُمُونِي عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ فَبِمَ تُبَشِّرُونَ (54) قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِّ فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ (55) قالَ وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ إِلاَّ الضَّالُّونَ (56)

ثمّ قرّر ما ذكره من الوعد و الوعيد، و مكّنه في نفوسهم بقوله: نَبِّئْ عِبادِي أَنِّي أَنَا الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وَ أَنَّ عَذابِي هُوَ الْعَذابُ الْأَلِيمُ و في ذكر المغفرة دليل على أنّه لم يرد بالمتّقين من يتّقي الذنوب بأسرها، كبيرها و صغيرها. و في توصيف ذاته بالغفران و الرحمة دون التعذيب ترجيح الوعد و تأكيده. و عن ابن عبّاس: غفور لمن

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 526

تاب، و عذابه لمن لم يتب.

و عطف قوله: وَ نَبِّئْهُمْ عَنْ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ على «نبئ عبادي» ليتّخذوا ما أحلّ من العذاب بقوم لوط عبرة يعتبرون بها، و يعلموا أنّ رحمة اللّه على المتّقين، و سخط اللّه و انتقامه من المجرمين، فيتحقّقوا عنده أنّه هو الغفور الرحيم، و أنّ عذابه هو العذاب الأليم. و ضيف إبراهيم كانوا أحد عشر ملكا في صورة أمارد.

إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً أي: نسلّم عليك سلاما، أو سلّمنا عليك سلاما قالَ إِنَّا مِنْكُمْ وَجِلُونَ خائفون. و ذلك لأنّهم دخلوا بغير إذن و بغير وقت، أو لأنّهم امتنعوا من الأكل. و الوجل اضطراب النفس لتوقّع مكروه.

قالُوا لا تَوْجَلْ لا تخف إِنَّا نُبَشِّرُكَ استئناف في معنى التعليل للنهي عن الوجل. أرادوا: أنّك

بمثابة الآمن المبشّر، فلا توجل، فإنّ المبشّر لا يخاف منه.

و قرأ حمزة: نبشرك، من البشر. بِغُلامٍ هو إسحاق، لقوله: وَ بَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ «1» عَلِيمٍ إذا بلغ.

قالَ أَ بَشَّرْتُمُونِي بالمولود عَلى أَنْ مَسَّنِيَ الْكِبَرُ تعجّب من أن يولد له مع مسّ الكبر إيّاه، أو إنكار لأن يبشّر به في مثل هذه الحالة. و كذلك قوله: فَبِمَ تُبَشِّرُونَ «ما» استفهاميّة دخلها معنى التعجّب، كأنّه قال: فبأيّ أعجوبة تبشّرون؟! أو أراد: أنّكم تبشّرونني بما هو غير متصوّر في العادة، فبأيّ شي ء تبشّرونني؟! فإنّ البشارة بما لا يتصوّر وقوعه عادة بشارة بغير شي ء.

و قرأ ابن كثير بكسر النون مشدّدة في كلّ القرآن، على إدغام نون الجمع في نون الوقاية و كسرها.

قالُوا بَشَّرْناكَ بِالْحَقِ بما يكون لا محالة، أو باليقين الّذي لا لبس فيه، أو بطريقة هي حقّ، و هو قول اللّه و أمره فَلا تَكُنْ مِنَ الْقانِطِينَ من الآيسين من ذلك،

______________________________

(1) الصافّات: 112.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 527

فإنّه تعالى قادر على أن يخلق بشرا من غير أبوين، فكيف من شيخ فان و عجوز عاقر؟! و كان استعجاب إبراهيم باعتبار العادة دون القدرة، و لذا قالَ وَ مَنْ يَقْنَطُ مِنْ رَحْمَةِ رَبِّهِ استفهام إنكاري بمعنى النفي، أي: لا يقنط البتّة منها إِلَّا الضَّالُّونَ أي: المخطئون طريق المعرفة، فلا يعرفون سعة رحمة اللّه و كمال علمه و قدرته، كما قال: لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ «1». فكأنّه قال: لم استنكر ذلك قنوطا من رحمته، و لكن استبعادا للعادة الّتي أجراها اللّه في الخلق. و قرأ أبو عمرو و الكسائي: يقنط بالكسر.

[سورة الحجر (15): الآيات 57 الى 60]

قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (57) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (58) إِلاَّ آلَ لُوطٍ إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ

أَجْمَعِينَ (59) إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ (60)

قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ أي: فما شأنكم الّذي أرسلتم لأجله سوى البشارة؟ لأنّهم كانوا عددا، و البشارة لا تحتاج إلى العدد، و لذلك اكتفى بالواحد في بشارة زكريّا و مريم. أو لأنّهم بشّروه في تضاعيف الحال لإزالة الوجل، و لو كانت تمام المقصود لابتدؤوا بها.

قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ يعني: قوم لوط إِلَّا آلَ لُوطٍ إن كان استثناء من «قوم» كان منقطعا، إذ القوم موصوفون بالإجرام، فاختلف لذلك الجنسان. و إن كان استثناء من الضمير في «مجرمين» كان متّصلا، و القوم و الإرسال شاملين للمجرمين و آل لوط المؤمنين به. و كأنّهم قالوا: إنّا أرسلنا إلى قوم أجرم

______________________________

(1) يوسف: 87.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 528

كلّهم إلا آل لوط منهم، لنهلك المجرمين، و ننجّي آل لوط منهم.

و يدلّ عليه قوله: إِنَّا لَمُنَجُّوهُمْ أَجْمَعِينَ ممّا يعذّب به القوم. و هو استئناف إذا اتّصل الاستثناء، كأنّ إبراهيم قال لهم: فما حال آل لوط؟ قالوا: إنّا لمنجّوهم.

و متعلّق ب «آل لوط» جار مجرى خبر «لكن» إذا انقطع، لأنّ المعنى: لكن آل لوط منجّون.

و على هذا جاز أن يكون قوله: إِلَّا امْرَأَتَهُ استثناء من آل لوط أو من ضميرهم. و على الأوّل لا يكون إلّا من ضميرهم، لاختلاف الحكمين، لأنّ آل لوط متعلّق ب «أرسلنا» أو ب «مجرمين»، و «إلّا امرأته» متعلّق ب «منجّوهم»، فأنّى يكون استثناء من استثناء؟ فإنّ الاستثناء من الاستثناء إنّما يكون فيما اتّحد الحكم فيه، بأن يقال: أهلكناهم إلّا آل لوط إلّا امرأته، كما اتّحد الحكم في قول المطلّق: أنت طالق ثلاثا إلّا ثنتين إلّا واحدة، و في قول المقرّ: لفلان عليّ عشرة دراهم إلّا ثلاثة

إلّا درهما. اللّهمّ إلّا أن يجعل «إنّا لمنجّوهم» اعتراضا. و قرأ حمزة و الكسائي:

لمنجوهم مخفّفا.

قَدَّرْنا إِنَّها لَمِنَ الْغابِرِينَ الباقين مع الكفرة لتهلك معهم. و قرأ أبو بكر عن عاصم: قدرنا، هنا و في النمل «1» بالتخفيف. و إنّما علّق فعل التقدير، و التعليق من خواصّ أفعال القلوب، لتضمّنه معنى العلم، و لذلك فسّر العلماء تقدير اللّه أعمال العباد بالعلم.

و في المدارك: «لو لم تكن اللام في خبرها لوجب فتح «إنّ»، لأنّ «إنّ» مع اسمه و خبره مفعول قَدَّرْنا «2».

و يجوز أن يكون «قدّرنا» أجري مجرى «قلنا» لأنّ التقدير بمعنى القضاء، و هو بمعنى القول. و أصله جعل الشي ء على مقدار غيره.

______________________________

(1) النمل: 57.

(2) مدارك التنزيل للنسفي المطبوع بهامش تفسير الخازن 3: 99.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 529

و إسناد الملائكة التقدير إلى أنفسهم و هو فعل اللّه، لما لهم من القرب و الاختصاص به، كما يقول خاصّة الملك: دبّرنا كذا و أمرنا بكذا، و المدبّر و الآمر هو الملك لا هم، و إنّما يظهرون بذلك اختصاصهم و أنّهم لا يتميّزون عنه.

[سورة الحجر (15): الآيات 61 الى 66]

فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ (61) قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (62) قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ (63) وَ أَتَيْناكَ بِالْحَقِّ وَ إِنَّا لَصادِقُونَ (64) فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ وَ اتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ وَ امْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ (65)

وَ قَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ (66)

فَلَمَّا جاءَ آلَ لُوطٍ الْمُرْسَلُونَ قالَ إِنَّكُمْ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ غير معروفين، تنكركم نفسي و تنفر عنكم، مخافة أن تطرقوني بشرّ.

قالُوا بَلْ جِئْناكَ بِما كانُوا فِيهِ يَمْتَرُونَ أي: ما جئناك بما تنكرنا لأجله، بل جئناك بما يسرّك و يشفي لك من عدوّك، و هو

العذاب الّذي توعّدتهم به، فيمترون فيه، أي: يشكّون.

وَ أَتَيْناكَ بِالْحَقِ باليقين من عذابهم وَ إِنَّا لَصادِقُونَ فيما أخبرناك به من نزول العذاب عليهم.

فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ فاذهب بهم في الليل. و قرأ الحجازيّان بوصل الهمزة، من السّرى. و هما بمعنى. بِقِطْعٍ مِنَ اللَّيْلِ في طائفة من الليل بعد ما يمضي أكثره وَ اتَّبِعْ أَدْبارَهُمْ اقتف آثارهم، و كن وراءهم تسرع بهم، و تطّلع على حالهم، لئلّا يتخلّف أحد منهم.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 530

وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ لا ينظر ما وراءه، فيرى من الهول ما لا يطيقه، أو فيصيبه ما أصابهم. أو و لا ينصرف أحدكم و لا يتخلّف، فيصيبه العذاب. و قيل: نهوا عن الالتفات ليوطّنوا نفوسهم على المهاجرة، و لا يشتغل بمن خلفهم قلوبهم، و لا يتحسّروا على مفارقة أوطانهم و من به.

وَ امْضُوا حَيْثُ تُؤْمَرُونَ اذهبوا إلى الموضع الّذي أمرتم بالذهاب إليه، و هو الشام أو مصر. و عدّي «امضوا» إلى «حيث» كما يعدّى إلى الظرف المبهم، لأنّ «حيث» مبهم في الأمكنة. و كذلك الضمير «1» في «تؤمرون».

وَ قَضَيْنا إِلَيْهِ أوحينا إليه مقضيّا مبتوتا، و لذلك عدّي ب «إلى» ذلِكَ الْأَمْرَ مبهم يفسّره أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ و محلّه النصب على البدل منه. و في ذلك تفخيم للأمر و تعظيم له. و دابر الشي ء آخره. و المعنى: يستأصلون عن آخرهم حتّى لا يبقى منهم أحد. مُصْبِحِينَ داخلين في الصبح. و هو حال من «هؤلاء»، أو من الضمير في «مقطوع». و جمعه للحمل على المعنى، فإنّ دابر هؤلاء في معنى مدبري هؤلاء.

[سورة الحجر (15): الآيات 67 الى 72]

وَ جاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ يَسْتَبْشِرُونَ (67) قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ (68) وَ اتَّقُوا اللَّهَ وَ لا تُخْزُونِ (69) قالُوا أَ وَ

لَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ (70) قالَ هؤُلاءِ بَناتِي إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (71)

لَعَمْرُكَ إِنَّهُمْ لَفِي سَكْرَتِهِمْ يَعْمَهُونَ (72)

وَ جاءَ أَهْلُ الْمَدِينَةِ و هي قرية سدوم يَسْتَبْشِرُونَ يبشّر بعضهم بعضا

______________________________

(1) أي: الضمير المحذوف في: تؤمرونه.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 531

بنزول من هو في صورة أضياف لوط، طمعا فيهم.

قالَ إِنَّ هؤُلاءِ ضَيْفِي فَلا تَفْضَحُونِ بفضيحة ضيفي، فإنّ من اسي ء إلى ضيفه فقد أسي ء إليه.

وَ اتَّقُوا اللَّهَ في ركوب الفاحشة وَ لا تُخْزُونِ و لا تذلّوني بإذلال ضيفي، من الخزي و هو الهوان. أو لا تخجلوني فيهم، من الخزاية و هو الحياء.

قالُوا أَ وَ لَمْ نَنْهَكَ عَنِ الْعالَمِينَ عن أن تجير منهم أحدا، أو تضيفه، أو تمنع بيننا و بينهم، فإنّهم كانوا يتعرّضون لكلّ أحد، و كان لوط يمنعهم عنه بقدر وسعه، أو عن ضيافة الناس و إنزالهم.

قالَ هؤُلاءِ بَناتِي فانكحوهنّ، فلا تتعرّضوا لهم، يعني: نساء القوم، فإنّ نبيّ كلّ أمّة بمنزلة أبيهم. و فيه وجوه ذكرت في سورة هود «1». إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ قضاء الوطر، أو ما أقول لكم. فهذا شكّ في قبولهم لقوله.

لَعَمْرُكَ قسم بحياة المخاطب، و هو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. قال ابن عبّاس: ما خلق اللّه عزّ و جلّ و لا ذرأ و لا برأ نفسا أكرم عليه من محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ما سمعت اللّه أقسم بحياة أحد إلّا بحياته، فقال: لعمرك. و قيل: قسم بحياة لوط، قالت الملائكة له ذلك.

و الأصحّ الأوّل. و التقدير: بحياتك و مدّة بقائك قسمي. و العمر و العمر واحد، إلّا أنّهم خصّوا القسم بالمفتوح، لإيثار الأخفّ فيه، لأنّه كثير الدوران على ألسنتهم، و لذلك حذفوا الخبر، و هو قسمي.

إِنَّهُمْ لَفِي

سَكْرَتِهِمْ لفي غوايتهم، أو شدّة غلمتهم «2» الّتي أزالت عقولهم و تمييزهم بين الخطأ الّذي هم عليه، و بين الصواب الّذي يشار به إليهم، من ترك البنين إلى البنات يَعْمَهُونَ يتحيّرون. فكيف يسمعون نصحك؟! و قيل: الضمير لقريش، و الجملة معترضة.

______________________________

(1) راجع ص 300 ذيل الآية 78 من سورة هود.

(2) الغلمة: اشتداد الشهوة و اهتياجها.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 532

[سورة الحجر (15): الآيات 73 الى 84]

فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ (73) فَجَعَلْنا عالِيَها سافِلَها وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ (74) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ (75) وَ إِنَّها لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ (76) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (77)

وَ إِنْ كانَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ (78) فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ وَ إِنَّهُما لَبِإِمامٍ مُبِينٍ (79) وَ لَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ (80) وَ آتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (81) وَ كانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ (82)

فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ (83) فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (84)

ثمّ أخبر سبحانه عن كيفيّة عذاب قوم لوط بقوله: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ الصوت الهائل المهلك. و هي صيحة جبرئيل. مُشْرِقِينَ داخلين في وقت شروق الشمس.

فَجَعَلْنا عالِيَها عالي مدينتهم، أو عالي قريتهم سافِلَها و صارت منقلبة بهم وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ سِجِّيلٍ من طين متحجّر، أو طين عليه كتاب من السجلّ، بدليل قوله تعالى: حِجارَةً مِنْ طِينٍ مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ «1» أي:

معلّمة بكتاب. و قد سبق «2» مزيد بيان لهذه القصّة في سورة هود.

إِنَّ فِي ذلِكَ فيما سبق ذكره من إهلاك قوم لوط لَآياتٍ لِلْمُتَوَسِّمِينَ للمتفرّسين المتأمّلين. و حقيقة المتوسّمين النظّار المتثبّتون في نظرهم حتّى يعرفوا

______________________________

(1) الذاريات: 33- 34.

(2) راجع ص 303 ذيل الآية 83 من سورة هود.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 533

حقيقة الشي ء بسمته. يقال: توسّمت في فلان كذا، أي: عرفت و

سمه فيه. و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اتّقوا فراسة المؤمن، فإنّه ينظر بنور اللّه.

و

قال: إنّ للّه عبادا يعرفون الناس بالتوسّم، ثمّ قرأ هذه الآية.

وَ إِنَّها و إنّ المدينة أو القرى لَبِسَبِيلٍ مُقِيمٍ ثابت يسلكه الناس، و يرون آثارها. و هو تنبيه لقريش، كقوله: وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ «1».

ذكر عليّ بن إبراهيم في تفسيره أنّه روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «نحن المتوسّمون، و السبيل فينا مقيم، و السبيل طريق الجنّة» «2».

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ باللّه و رسله. خصّهم بالذكر، لأنّهم هم المنتفعون بها.

وَ إِنْ كانَ و إنّه كان أَصْحابُ الْأَيْكَةِ لَظالِمِينَ هم قوم شعيب كانوا يسكنون الغيضة، فبعثه اللّه إليهم فكذّبوه فأهلكوا بالظلّة. و الأيكة الشجرة المتكاثفة.

فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ بالإهلاك. روي: أنّهم أهلكوا بالظلّة الّتي احترقوا بنارها.

وَ إِنَّهُما يعني: سدوم و الأيكة. و قيل: الأيكة و مدين، فإنّه كان مبعوثا إليهما، فكان ذكر إحداهما منبّها على الاخرى. لَبِإِمامٍ مُبِينٍ لبطريق واضح يؤتمّ و يتّبع و يهتدى به باعتباره. و الامام اسم ما يؤتمّ به، فسمّي به اللوح الّذي يكتب فيه و مطمر البناء- و هو حبل يقدّر به البناء- لأنّه ممّا يؤتمّ به.

وَ لَقَدْ كَذَّبَ أَصْحابُ الْحِجْرِ الْمُرْسَلِينَ يعني: ثمود كذّبوا صالحا، و من كذّب واحدا من الرسل فكأنّما كذّب الجميع. و يجوز أن يراد بالمرسلين صالحا و من معه من المؤمنين. و الحجر واد بين المدينة و الشام يسكنونه.

وَ آتَيْناهُمْ آياتِنا فَكانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ يعني: آيات الكتاب المنزل على

______________________________

(1) الصافّات: 137.

(2) تفسير عليّ بن إبراهيم 1: 377.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 534

نبيّهم. أو معجزاته، كالناقة و سقبها «1» و شربها و درّها. أو ما نصب لهم من الأدلّة.

وَ

كانُوا يَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً آمِنِينَ من الانهدام، لاستحكامها جدّا.

أو من نقب اللصوص و تخريب الأعداء، لوثاقتها. أو من العذاب، لفرط غفلتهم، أو حسبانهم أنّ الجبال تحميهم منه.

فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُصْبِحِينَ فَما أَغْنى عَنْهُمْ فما دفع عنهم العذاب ما كانُوا يَكْسِبُونَ من بناء البيوت الوثيقة، و استكثار الأموال و العدد.

عن جابر قال: مررنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على الحجر فقال لنا: «لا تدخلوا مساكن الّذين ظلموا أنفسهم إلّا أن تكونوا باكين، حذرا أن يصيبكم مثل ما أصاب هؤلاء». ثمّ زجر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم راحلته فأسرع حتّى خلّفها.

[سورة الحجر (15): الآيات 85 الى 86]

وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ (85) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (86)

ثمّ بيّن سبحانه أنّ إهلاك هؤلاء الأمم لأجل أنّهم خالفوا الحقّ، فقال: وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ خلقا ملتبسا بالحقّ لا يلائم استمرار الفساد و دوام الشرور، فلذلك اقتضت الحكمة إهلاك أمثال هؤلاء، و إزاحة فسادهم من الأرض.

وَ إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ فينتقم اللّه لك فيها ممّن كذّبك من أعدائك، و يجازيك و إيّاهم على حسناتك و سيّئاتهم، فإنّه ما خلق السماوات و الأرض و ما بينهما إلّا لذلك فَاصْفَحِ الصَّفْحَ الْجَمِيلَ فأعرض عنهم إعراضا جميلا، فلا تعجل بالانتقام منهم، و عاملهم معاملة الصفوح الحليم. و قيل: هو منسوخ بآية السيف «2». و يجوز

______________________________

(1) السقب: ولد الناقة ساعة يولد.

(2) التوبة: 5 و 29.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 535

أن يكون المراد به المخالقة «1»، فلا يكون منسوخا.

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ الْخَلَّاقُ الّذي خلقك و خلقهم، و بيده أمرك و أمرهم الْعَلِيمُ

بحالك و حالهم، فهو حقيق بأن تكل ذلك إليه ليحكم بينكم. أو هو الّذي خلقكم و علم الأصلح لكم، و قد علم أنّ الصفح اليوم أصلح إلى أن يكون السيف أصلح.

[سورة الحجر (15): الآيات 87 الى 99]

وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً مِنَ الْمَثانِي وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ (87) لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ (88) وَ قُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ (89) كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ (90) الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ (91)

فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (92) عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ (93) فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ (94) إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ (95) الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (96)

وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ (97) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ كُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ (98) وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ (99)

ثمّ ذكر سبحانه ما خصّ به نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من النعم، لتطيب نفسه في احتمال

______________________________

(1) أي: المعاشرة بخلق حسن.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 536

المشاقّ و المتاعب في التبليغ، فقال: وَ لَقَدْ آتَيْناكَ سَبْعاً

سبع آيات، و هي الفاتحة. و هو قول عليّ عليه السّلام و ابن عبّاس، و الحسن، و أبي العالية، و سعيد بن جبير، و إبراهيم، و مجاهد، و قتادة. و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.

و قال ابن مسعود و الضحّاك و ابن عمر: هي سبع سور، و هي الطوال. و اختلف في سابعتها، فقيل: الأنفال و التوبة، فإنّهما في حكم سورة، و لذلك لم يفصل بينهما بالتسمية. و قيل التوبة. و قيل: يونس، أو الحواميم السبع. و قيل: سبع صحائف، و هي الأسباع.

مِنَ الْمَثانِي بيان

للسبع. و المثاني جمع المثناة أو المثنية، من التثنية أو الثناء، فإنّ كلّ ذلك مثنّى، تكرّر قراءته أو ألفاظه أو قصصه و مواعظه، أو مثنيّ عليه بالبلاغة و الإعجاز، أو مثن على اللّه بما هو أهله من صفاته العظمى و أسمائه الحسنى. و يجوز أن يراد بالمثاني القرآن أو كتب اللّه كلّها، فتكون «من» للتبعيض.

وَ الْقُرْآنَ الْعَظِيمَ إن أريد بالسبع الآيات أو السور فمن عطف الكلّ على البعض. و إن أريد به الأسباع فمن عطف أحد الوصفين على الآخر. يعني: و لقد آتيناك ما يقال له السبع المثاني و القرآن العظيم، أي: الجامع لهذين النعتين، و هو التثنية أو الثناء و العظم. و وجه عظمه أنّه يتضمّن جميع ما يحتاج إليه من أمور الدين، بأوجز لفظ، و أحسن نظم، و أتمّ معنى.

و لمّا علمت أنّ القرآن أعظم النعم، و ما دونه بالنسبة إليه حقير جدّا، من النعم الدنيّة الفانية الدنياويّة، فعليك أن تستغني به و لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ لا تطمح ببصرك طموح راغب إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ أصنافا من الكفّار من أنواع النعم، فإنّه مستحقر جدّا بالإضافة إلى ما أوتيته، فإنّه كمال مقصود بالذات، مفض إلى دوام اللذّات. و

في الحديث: «من اوتي القرآن فرأى أنّ أحدا أوتي من الدنيا أفضل

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 537

ممّا أوتي، فقد صغّر عظيما، و عظّم صغيرا».

قيل وافت من بصرى و أذرعات سبع قوافل ليهود بني قريظة و النضير، فيها أنواع البزّ «1» و الطيب و الجوهر و سائر الأمتعة. فقال المسلمون: لو كانت هذه الأموال لنا لتقوّينا بها، و لأنفقناها في سبيل اللّه. فقال لهم اللّه سبحانه:

لقد أعطيتكم سبع آيات هي خير من هذه القوافل السبع. و

المعنى: لا تتمنّ أموالهم، و لا تحزن عليهم أنّهم لم يؤمنوا، فيتقوّى بمكانهم الإسلام، و ينتعش بهم المؤمنون.

وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ أنّهم لم يؤمنوا. و قيل: إنّهم المتمتّعون به. وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ و تواضع لمن معك من فقراء المؤمنين و ضعفائهم، و ارفق بهم، و طب نفسا عن إيمان الأغنياء و الأقوياء.

وَ قُلْ إِنِّي أَنَا النَّذِيرُ الْمُبِينُ أنذركم ببيان و برهان أنّ عذاب اللّه نازل بكم إن لم تؤمنوا كَما أَنْزَلْنا عَلَى الْمُقْتَسِمِينَ أي: عذابا مثل العذاب الّذي أنزلنا عليهم.

فهو وصف لمفعول «النذير» أقيم مقامه.

و المقتسمون هم الاثنا عشر الّذين اقتسموا مداخل مكّة، فقعدوا في كلّ مدخل متفرّقين أيّام الموسم لينفّروا الناس عن الإيمان بالرسول، يقول بعضهم: لا تغترّوا بالخارج منّا، فإنّه ساحر، و يقول الآخر: كذّاب، و الآخر شاعر، فأهلكهم اللّه يوم بدر. أو الرهط الّذين اقتسموا، أي: تقاسموا على أن يبيّتوا صالحا عليه السّلام، أي:

يقتلوه ليلا.

و قيل: هو صفة مصدر محذوف، يدلّ عليه قوله: «و لقد آتيناك» فإنّه بمعنى: أنزلنا إليك. و المعنى: أنزلنا عليك مثل ما أنزلنا على أهل الكتاب المقتسمين.

______________________________

(1) البزّ: السلاح، و الثياب من الكتّان أو القطن.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 538

الَّذِينَ جَعَلُوا الْقُرْآنَ عِضِينَ أي: جزّؤه أجزاء حيث قالوا بعنادهم و شدّة عداوتهم و حسدهم: بعضه موافق للتوراة و الإنجيل، و بعضه باطل مخالف لهما، فاقتسموه إلى حقّ و باطل. و واحد عضين عضة، بمعنى الجزء. و أصلها عضوة، من:

عضى الشاة، إذا جعلها أعضاء. و قيل: أسحارا، من: عضهته إذا بهتّه «1». و

في الحديث: «لعن رسول اللّه العاضهة «2» و المستعضهة».

و إنّما جمع جمع السلامة جبرا لما حذف منه.

و قيل: كانوا يستهزؤن، فيقول بعضهم: سورة البقرة لي، و يقول

الآخر: سورة آل عمران لي.

و يجوز أن يراد بالقرآن ما يقرءونه من كتبهم، و قد اقتسموه بتحريفهم، و بأنّ اليهود أقرّت ببعض التوراة و كذّبت ببعض، و النصارى أقرّت ببعض الإنجيل و كذّبت ببعض.

و هذه تسلية لرسول اللّه عن صنيع قومه بالقرآن و تكذيبهم، و قولهم: إنّه سحر و شعر و أساطير الأوّلين، بأنّ غيرهم من الكفرة فعلوا بغيره من الكتب نحو فعلهم.

و الموصول بصلته صفة ل «المقتسمين»، أو مبتدأ خبره فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ عَمَّا كانُوا يَعْمَلُونَ من التقسيم، فنجازيهم عليه. و قيل: هو عامّ في كلّ ما فعلوا من الكفر و المعاصي. عن أبي العالية: يسأل العباد عن خلّتين: عمّا كانوا يعبدون، و ماذا أجابوا المرسلين. و أضاف اللّه سبحانه نفسه إلى نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تشريفا له، و تنبيها للخلق على عظم منزلته عنده. و هذا سؤال تقريع و توبيخ، بأن يقول لهم:

لم عصيتم؟ و ما حجّتكم في ذلك؟ فيظهر عند ذلك خزيهم و فضيحتهم.

______________________________

(1) أي: اتّهمته.

(2) العاضهة: الساحر بلغة قريش.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 539

فَاصْدَعْ بِما تُؤْمَرُ فأظهر، من: صدع بالحجّة إذا تكلّم بها جهارا. أو فافرق به بين الحقّ و الباطل. و أصله الإبانة و التمييز. و «ما» مصدريّة، أي: بأمرك، مصدر من المبنيّ للمفعول. أو موصولة، و الراجع محذوف، أي: بما تؤمر به من الشرائع. وَ أَعْرِضْ عَنِ الْمُشْرِكِينَ و لا تلتفت إلى ما يقولون.

إِنَّا كَفَيْناكَ الْمُسْتَهْزِئِينَ بقمعهم و إهلاكهم.

روي: أنّهم كانوا خمسة نفر ذووا أسنان و شرف: الوليد بن المغيرة، و العاص بن وائل، و الأسود بن عبد يغوث، و الأسود بن المطّلب، و الحارث بن قيس- و قيل: ستّة، سادسهم الحارث بن الطلاطلة- يبالغون

في إيذاء النبيّ و الاستهزاء به. فقال جبرئيل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

أمرت أن أكفيكهم، فأومأ إلى ساق الوليد فمرّ بنبال فتعلّق بثوبه سهم، فلم ينعطف تعظّما لأخذه، أي: منعه الكبر أن يخفض رأسه فينزعه، فأصاب عرقا في عقبه فقطعه فمات. و أومأ إلى أخمص العاص بن وائل فدخلت فيه شوكة، فقال: لدغت لدغت، و انتفخت رجله حتّى صارت كالرحى و مات. و أشار إلى أنف الحارث بن الطلاطلة فامتخط «1» قيحا فمات. و أشار إلى عيني الأسود بن المطّلب فعمي. و إلى الأسود بن عبد يغوث و هو قاعد في أصل شجرة، فجعل ينطح رأسه بالشجرة، و يضرب وجهه بالشوك حتى مات.

و قيل: إنّ الحارث بن قيس أكل حوتا مالحا فأصابه العطش، فما زال يشرب حتّى نفخ بطنه فمات. و عن ابن عبّاس: ماتوا كلّهم قبل وقعة بدر.

الَّذِينَ يَجْعَلُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة أمرهم في الدارين.

وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّكَ يَضِيقُ صَدْرُكَ بِما يَقُولُونَ من الشرك، و الطعن في القرآن، و الاستهزاء بك فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ فافزع إلى اللّه فيما نابك بالتسبيح و التحميد يكفك المهمّ، و يكشف الغمّ عنك. أو فنزّهه عمّا يقولون، حامدا له على أن هداك

______________________________

(1) أي: أخرج القيح، و هو ما يسيل من الجراحة و القرح.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 540

للحقّ. وَ كُنْ مِنَ السَّاجِدِينَ من المصلّين. و كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا حزبه «1» أمر فزع إلى الصلاة.

وَ اعْبُدْ رَبَّكَ حَتَّى يَأْتِيَكَ الْيَقِينُ أي: الموت، فإنّه متيقّن لحاقه كلّ حيّ مخلوق. و يحتمل أن يكون أراد: حتّى يأتيك العلم الضروري بالموت و الخروج من الدنيا، الّذي يزول معه التكليف.

و المعنى: فاعبده ما دمت حيّا، و لا تخلّ بالعبادة لحظة.

______________________________

(1) أي: اصابه غمّ و أمر شديد، و منه: الحزيب، أي: الأمر الشديد.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 541

(16) سورة النحل

اشارة

مكّيّة غير ثلاث آيات نزلت في انصراف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من أحد، و هي: «وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا» إلى آخر السورة، نزلت بين مكّة و المدينة. و هي مائة و ثمان و عشرون آية بلا خلاف.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأها لم يحاسبه اللّه بالنعم الّتي أنعمها عليه في دار الدنيا، و إن مات في يوم تلاها أو ليلة كان له من الأجر كالّذي مات و أحسن الوصيّة».

و

روى محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من قرأ سورة النحل في كلّ شهر كفي المغرم في الدنيا، و سبعين نوعا من أنواع البلاء، أهونه الجنون و الجذام و البرص، و كان مسكنه في جنّة عدن، و هي وسط الجنان».

[سورة النحل (16): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَتى أَمْرُ اللَّهِ فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (1) يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ أَنْ أَنْذِرُوا أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاتَّقُونِ (2)

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 542

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة الحجر بوعيد الكفّار، افتتح هذه السورة بوعيدهم أيضا. و روي أنّ كفّار مكّة كانوا يستعجلون ما أوعدهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، من قيام الساعة أو إهلاك اللّه إيّاهم- كما فعل يوم بدر- استهزاء و تكذيبا، و يقولون: إن صحّ ما تقوله فالأصنام تشفع لنا و تخلّصنا منه، فنزلت: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَتى أَمْرُ اللَّهِ أي: الأمر الموعود من اللّه بمنزلة الآتي المتحقّق، من حيث إنّه واجب الوقوع. و

في الحديث عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «إنّ أمر اللّه

آت، و كلّ ما هو آت قريب دان».

فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ فلا تستعجلوا وقوعه، فإنّه لا خير لكم فيه، و لا خلاص لكم منه.

و قيل: لمّا نزلت: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ «1» قال الكفّار فيما بينهم: إنّ هذا يزعم أنّ القيامة قد قربت، فأمسكوا عن بعض ما تعملون حتّى ننظر ما هو كائن. فلمّا تأخّرت قالوا: ما نرى شيئا. فنزلت: اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ «2». فأشفقوا و انتظروا قربها. فلمّا امتدّت الأيّام قالوا: يا محمّد ما نرى شيئا ممّا تخوّفنا به. فنزلت: «أَتى أَمْرُ اللَّهِ». فوثب رسول اللّه، و رفع الناس رؤوسهم، فنزلت: «فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ» فاطمأنّوا.

سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ تبرّأ و جلّ عن أن يكون له شريك فيدفع ما أراد بهم، فتكون «ما» موصولة. أو عن إشراكهم، فتكون مصدريّة. و قرأ حمزة و الكسائي بالتاء على وفق قوله: «فَلا تَسْتَعْجِلُوهُ». و الباقون بالياء على تلوين الخطاب، أو على أن الخطاب للمؤمنين، أو لهم و لغيرهم.

يُنَزِّلُ الْمَلائِكَةَ بِالرُّوحِ بالوحي أو القرآن، فإنّه يحيي به القلوب الميّتة بالجهل. أو بما يقوم في الدين مقام الروح في الجسد. و ذكره عقيب ذلك إشارة إلى

______________________________

(1) القمر: 1.

(2) الأنبياء: 1.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 543

الطريق الّذي به علم الرسول ما تحقّق موعدهم به و دنوّه.

و قرأ ابن كثير و أبو عمرو: ينزل، من: أنزل. و عن يعقوب مثله. و عنه: تنزّل، بمعنى: تتنزّل. و قرأ أبو بكر: تنزّل، على المضارع المبنيّ للمفعول، من التنزيل.

مِنْ أَمْرِهِ من أجله، أو بأمره. و نظيره قوله: يَحْفَظُونَهُ مِنْ أَمْرِ اللَّهِ «1» أي: بأمره. عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ ممّن يصلح للنبوّة أَنْ أَنْذِرُوا بأن أنذروا، أي: أعلموا، من: نذرت بكذا، إذا علمته أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاتَّقُونِ

أي: خوّفوا أهل الكفر و المعاصي بأنّه لا إله إلّا أنا. و قوله: «فاتّقون» رجوع إلى مخاطبتهم بما هو المقصود. و «أنّ» مفسّرة، لأنّ الروح بمعنى الوحي الدالّ على القول. أو مصدريّة في موضع الجرّ بدلا من الروح، أو النصب بنزع الخافض. أو مخفّفة من الثقيلة، أي: أن الشأن لا إله إلّا أنا.

و الآية تدلّ على أنّ نزول الوحي بواسطة الملائكة، و أنّ الغرض منه التنبيه على التوحيد الّذي هو منتهى كمال القوّة العلميّة، و الأمر بالتقوى الّذي هو أقصى كمال القوّة العمليّة.

[سورة النحل (16): الآيات 3 الى 8]

خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (3) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (4) وَ الْأَنْعامَ خَلَقَها لَكُمْ فِيها دِفْ ءٌ وَ مَنافِعُ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ (5) وَ لَكُمْ فِيها جَمالٌ حِينَ تُرِيحُونَ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ (6) وَ تَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ إِلى بَلَدٍ لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إِلاَّ بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (7)

وَ الْخَيْلَ وَ الْبِغالَ وَ الْحَمِيرَ لِتَرْكَبُوها وَ زِينَةً وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ (8)

______________________________

(1) الرعد: 11.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 544

ثمّ دلّ على وحدانيّته بما ذكر ممّا لا يقدر عليه غيره، من خلق السماوات و الأرض، و خلق الإنسان و ما يصلحه، و ما لا بدّله منه من خلق البهائم، فقال:

خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِ أوجدهما على مقدار و شكل و أوضاع و صفات مختلفة، قدّرها و خصّصها بحكمته تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ منهما، أو ممّا يفتقر في وجوده أو بقائه إليهما، ممّا لا يقدر على خلقهما.

خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ جماد لا حسّ بها و لا حراك، سيّالة لا تحفظ الوضع و الشكل فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ منطيق، مجادل، مكافح للخصوم مُبِينٌ للحجّة بعد ما كان نطفة من منيّ،

جمادا لا حسّ به و لا حركة. أو خصيم لربّه، منكر على خالقه، قائل: مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ «1»، وصفا للإنسان بالإفراط في الوقاحة و الجهل، و التمادي في كفران النعمة.

و قيل: نزلت في أبيّ بن خلف، أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعظم رميم و قال: يا محمّد، أ ترى اللّه يحيي هذا بعد ما قد رمّ «2»؟

وَ الْأَنْعامَ الإبل و البقر و الغنم. و انتصابها بمضمر يفسّره خَلَقَها لَكُمْ أو بالعطف على الإنسان. و «خلقها لكم» بيان ما خلقت لأجله، و ما بعده تفصيل له.

و هو قوله: فِيها دِفْ ءٌ ما يدفأ به من لباس معمول من الصوف و الشعر- ك: مل ء، اسم ما يملأ به- فيقي البرد.

______________________________

(1) يس: 78.

(2) رمّ العظم: بلي.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 545

وَ مَنافِعُ نسلها و درّها و ظهورها. و إنّما عبّر عنها بالمنافع ليتناول عوضها.

وَ مِنْها تَأْكُلُونَ أي: تأكلون ما يؤكل منها من اللحوم و الشحوم و الألبان.

و تقديم الظرف للمحافظة على رؤوس الآي، أو لأنّ الأكل منها هو المعتاد المعتمد عليه في المعاش، و أمّا الأكل من سائر الحيوانات المأكولة- كالصيود البرّيّة و البحريّة، كالدجاج و البطّ- فعلى سبيل التداوي أو التفكّه «1».

وَ لَكُمْ فِيها جَمالٌ زينة حِينَ تُرِيحُونَ تردّونها من مراعيها إلى مراحها بالعشيّ وَ حِينَ تَسْرَحُونَ تخرجونها بالغداة إلى المراعي، فإنّ الأفنية تتزيّن بها في الوقتين، و يجلّ أهلها في أعين الناظرين إليها، و يفرح أربابها. و نحوه:

لِتَرْكَبُوها وَ زِينَةً «2» يُوارِي سَوْآتِكُمْ وَ رِيشاً «3». و تقديم الإراحة لأنّ الجمال فيها أظهر، فإنّها تقبل ملأى البطون حافلة «4» الضروع، ثمّ تأوي إلى الحظائر حاضرة لأهلها.

وَ تَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ أحمالكم إِلى بَلَدٍ

لَمْ تَكُونُوا بالِغِيهِ إن لم تكن الأنعام و لم تخلق، فضلا أن تحملوها على ظهوركم إليه. فلأجل هذه الإفادة لم يقل: لم تكونوا حامليها إليه، ليطابق قوله: «وَ تَحْمِلُ أَثْقالَكُمْ». إِلَّا بِشِقِّ الْأَنْفُسِ إلّا بكلفة و مشقّة. و أصله: النصف، كأنّه ذهب نصف قوّته بالتعب.

إِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ حيث رحمكم بخلقها لانتفاعكم، و تيسير الأمر عليكم.

وَ الْخَيْلَ وَ الْبِغالَ وَ الْحَمِيرَ عطف على الأنعام لِتَرْكَبُوها وَ زِينَةً أي:

______________________________

(1) أي: التلذّذ و التمتّع.

(2) النحل: 8.

(3) الأعراف: 26.

(4) أي: ممتلئة ضروعها لبنا.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 546

و لتتزيّنوا بها زينة. و قيل: هي معطوفة على محلّ «لتركبوها». و تغيير النظم لأنّ الزينة بفعل الخالق، و الركوب ليس بفعله. و لأنّ المقصود من خلقها الركوب، و أمّا التزيّن بها فحاصل بالعرض. و ليس فيه ما يدلّ على تحريم أكل لحومها، كما استدلّ به بعض العامّة، إذ لا يلزم من تعليل الفعل بما يقصد منه غالبا أن لا يقصد منه غيره أصلا. و قد روى البخاري في الصحيح «1» مرفوعا إلى اسماء بنت أبي بكر قالت:

أكلنا لحم الفرس على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و لمّا فصّل الحيوانات الّتي يحتاج إليها غالبا- احتياجا ضروريّا أو غير ضروريّ- أجمل غيرها، فقال: وَ يَخْلُقُ ما لا تَعْلَمُونَ و يجوز أن يكون إخبارا بأنّ له من الخلائق ما لا علم لنا به، من الحشرات في المفاوز و البحار. و أن يراد به ما خلق في الجنّة و النار ممّا لم يخطر على قلب بشر، ليزيد دلالة على اقتداره بالإخبار بذلك، و إن طوى عنّا علمه، لحكمة ما في طيّه.

[سورة النحل (16): آية 9]

وَ عَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ وَ مِنْها جائِرٌ وَ لَوْ

شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ (9)

وَ عَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ أي: بيان مستقيم الطريق الموصل إلى الحقّ.

فالقصد مصدر بمعنى الفاعل، و هو القاصد، يقال: سبيل قصد و قاصد، أي: مستقيم، كأنّه يقصد الوجه الّذي يؤمّه السالك لا يعدل عنه. أو المعنى: إقامة السبيل و تعديلها. أو عليه قصد السبيل، يصل إليه من يسلكه لا محالة، أي: واجب عليه هداية الطريق الموصل إلى الحقّ، كقوله: إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى «2». و المعنى: واجب على اللّه في عدله بيان الطريق المستقيم، و بيان الهدى من الضلالة، و الحلال من

______________________________

(1) صحيح البخاري 7: 123.

(2) الليل: 12.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 547

الحرام، لينتفع المكلّف بالهدى و الحلال، و يتجنّب عن الضلالة و الحرام.

و المراد بالسبيل الجنس، و لذلك أضاف إليه القصد و قال: وَ مِنْها جائِرٌ مائل عن القصد، أو عن اللّه. و غيّر الأسلوب ليعلم ما يجوز إضافته إليه من السبيل و ما لا يجوز. و لو كان الأمر كما تزعم المجبّرة لقيل: و على اللّه قصد السبيل و عليه جائرها، أو و عليه الجائر. أو ليعلم أنّ المقصود بيان سبيله، و تقسيم السبيل إلى القصد و الجائر إنّما جاء بالعرض.

وَ لَوْ شاءَ لَهَداكُمْ أَجْمَعِينَ أي: و لو شاء هدايتكم أجمعين مشيئة جبر و قسر لهداكم قسرا إلى قصد السبيل، هداية مستلزمة للاهتداء، و لكنّ القسر و الإلجاء ضدّ التكليف الّذي هو مدار أعمال العباد، كما بيّن غير مرّة.

[سورة النحل (16): الآيات 10 الى 13]

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً لَكُمْ مِنْهُ شَرابٌ وَ مِنْهُ شَجَرٌ فِيهِ تُسِيمُونَ (10) يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ الزَّرْعَ وَ الزَّيْتُونَ وَ النَّخِيلَ وَ الْأَعْنابَ وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (11) وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ

وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومُ مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (12) وَ ما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ (13)

ثمّ عدّ سبحانه نعمة اخرى دالّة على كمال قدرته و وحدانيّته، فقال: هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ من السحاب، أو من جانب السماء ماءً أي: مطرا لَكُمْ

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 548

مِنْهُ شَرابٌ ما تشربونه. و «لكم» صلة «أنزل»، أو خبر «شراب»، و «من» تبعيضيّة متعلّقة به. و تقديمها يوهم حصر المشروب فيه. و لا بأس به، لأنّ مياه العيون و الآبار منه، لقوله: فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ «1»، و قوله: فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ «2».

وَ مِنْهُ شَجَرٌ و منه يكون شجر. قيل: معناه: لكم من ذلك الماء شراب، و منه شرب شجر أو سقي شجر، فحذف المضاف. أو لكم من سقيه شجر، فحذف المضاف إلى الهاء في «منه». و المراد بالشجر الّذي ترعاه المواشي. و قيل: كلّ ما نبت على الأرض شجر.

فِيهِ تُسِيمُونَ ترعون أنعامكم من غير كلفة و التزام مؤونة لعلفها. من:

سامت الماشية إذا رعت، و أسامها صاحبها. و أصله: السومة، و هي العلامة، لأنّها تؤثّر بالرعي علامات في الأرض.

يُنْبِتُ لَكُمْ بِهِ بذلك المطر الزَّرْعَ و قرأ أبو بكر بالنون على التفخيم وَ الزَّيْتُونَ وَ النَّخِيلَ وَ الْأَعْنابَ وَ مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ و بعض كلّها، إذ لم ينبت في الأرض كلّ ما يمكن من الثمار، بل كلّ الثمار في الجنّة. و لعلّ تقديم ما يسام فيه على ما يؤكل منه، لأنّه سيصير غذاء حيوانيّا هو أشرف الأغذية، و من هذا تقديم الزرع و التصريح بالأجناس الثلاثة و ترتيبها.

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ على وجود الصانع و

كمال حكمته و قدرته، فإنّ من تأمّل أن الحبّة تقع في الأرض، و تصل إليها نداوة تنفذ فيها فينشقّ أعلاها، و يخرج منه ساق الشجرة، و ينشقّ أسفلها فيخرج منه عروقها، ثمّ ينمو و يخرج منه الأوراق و الأزهار و الأكمام و الثمار، و يشتمل كلّ منها على أجسام مختلفة الأشكال و الطباع، مع اتّحاد الموادّ و نسبة الطبائع السفليّة و التأثيرات الفلكيّة إلى الكلّ، علم أنّ ذلك ليس إلّا بفعل فاعل مختار مقدّس عن منازعة الأضداد

______________________________

(1) الزمر: 21.

(2) المؤمنون: 18.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 549

و الأنداد، جلّت قدرته و حكمته.

وَ سَخَّرَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ وَ النُّجُومُ بأن هيّأها لمنافعكم مُسَخَّراتٌ بِأَمْرِهِ حال من الجميع، أي: نفعكم بها حال كونها مسخّرات للّه، خلقها و دبّرها كيف شاء. أو مسخّرات لما خلقن له بأمره بإيجاده و تقديره، أو لحكمه. و يجوز أن يكون نصب «مسخّرات» بالمصدريّة، و جمع لاختلاف النوع، أي: سخّرها أنواعا من التسخير. و قرأ حفص: و النجوم مسخّرات، على الابتداء و الخبر، فيكون تعميما للحكم بعد تخصيصه. و رفع ابن عامر الشمس و القمر أيضا.

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ جمع الآية و ذكر العقل، لأنّ الآثار العلويّة أظهر دلالة على القدرة الباهرة، و أبين شهادة للكبرياء و العظمة. و لأنّها تدلّ أنواعا من الدلالة ظاهرة لذوي العقول السليمة، غير محوجة إلى استيفاء فكر، كأحوال النبات.

وَ ما ذَرَأَ لَكُمْ فِي الْأَرْضِ عطف على الليل، أي: و سخّر لكم ما خلق لكم فيها من حيوان و نبات و معدن مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ أصنافه، فإنّها تتخالف باللون غالبا إِنَّ فِي ذلِكَ التسخير لَآيَةً لِقَوْمٍ يَذَّكَّرُونَ أنّ اختلافها في الطباع و الهيئات و

المناظر ليس إلّا بصنع صانع حكيم.

[سورة النحل (16): الآيات 14 الى 16]

وَ هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ لِتَأْكُلُوا مِنْهُ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَ تَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (14) وَ أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ أَنْهاراً وَ سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (15) وَ عَلاماتٍ وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ (16)

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 550

زبدة التفاسير ج 3 599

ثمّ عدّد سبحانه نوعا آخر من أنواع نعمه، فقال: وَ هُوَ الَّذِي سَخَّرَ الْبَحْرَ جعله بحيث تتمكّنون من الانتفاع به بالركوب و الاصطياد و الغوص لِتَأْكُلُوا مِنْهُ بالاصطياد لَحْماً طَرِيًّا هو السمك. و وصفه بالطراوة، لأنّه أرطب اللحوم، يسرع إليه الفساد، فيسارع إلى أكله خيفة للفساد عليه. و لإظهار قدرته في خلقه عذبا طريّا في ماء زعاق «1».

و تمسّك به مالك و الثوري على أنّ من حلف أن لا يأكل لحما حنث بأكل السمك.

و أجيب عنه بأنّ مبنى الأيمان على العرف، و هو لا يفهم منه عند الإطلاق.

ألا ترى إذا قال الرجل لغلامه: اشتر بهذه الدراهم لحما، فجاء بالسمك كان حقيقا بالإنكار. و نظيره أنّ اللّه سمّى الكافر دابّة في قوله: إِنَّ شَرَّ الدَّوَابِّ عِنْدَ اللَّهِ الَّذِينَ كَفَرُوا «2». و لا يحنث الحالف على أن لا يركب دابّة بركوب الكافر.

وَ تَسْتَخْرِجُوا مِنْهُ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها كاللؤلؤ و المرجان، أي: تلبسها نساؤكم، فأسند إليهم لأنّهنّ من جملتهم، و لأنّهنّ يتزيّنّ بها لأجلهم.

وَ تَرَى الْفُلْكَ السفن مَواخِرَ فِيهِ شواقّ في البحر، و قواطع لمائه. يعني:

في حالة الجريان تشقّ البحر بحيزومها «3». من المخر، و هو شقّ الماء. و عن الفرّاء:

هو صوت جري الفلك بالرياح.

وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ من سعة رزقه بركوبها للتجارة وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ

أي: تعرفون نعم اللّه فتقومون بحقّها. و لعلّ تخصيصه بتعقيب الشكر، لأنّه أقوى نعمة من نعم المنعم، من حيث إنّه جعل مظانّ الهلاك سببا للانتفاع و تحصيل المعاش.

______________________________

(1) الزعاق: الماء المرّ لا يطاق شربه.

(2) الأنفال: 55.

(3) في هامش النسخة الخطّية: «هو وسط الصدر. منه».

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 551

وَ أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ جبالا عالية ثابتة. واحدها راسية. أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ كراهة أن تميل بكم، أو لئلّا تميل بكم و تضطرب. و ذلك لأنّ الأرض قبل خلق الجبال فيها كانت كرة خفيفة بسيطة الطبع، و كان من شأن الكرويّات أن تتحرّك بالاستدارة كالأفلاك، و أن تتحرّك بأدنى سبب للتحريك، فلمّا خلقت الجبال على وجهها تفاوتت جوانبها، و توجّهت الجبال بثقلها نحو المركز، فصارت كالأوتاد الّتي تمنعها عن الحركة.

و

روي: أنّ اللّه سبحانه لمّا خلق الأرض جعلت تمور «1»، فقالت الملائكة: ما هي بمقرّ أحد على ظهرها، فأصبحت و قد أرسيت بالجبال، و لم تدر الملائكة ممّ خلقت.

وَ أَنْهاراً أي: و جعل فيها أنهارا، لأن «ألقى» فيه معنى: جعل وَ سُبُلًا و طرقا لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ إلى حيث شئتم من البلاد لمقاصدكم، أو إلى معرفة اللّه.

وَ عَلاماتٍ و معالم الطرق، و كلّ ما يستدلّ به السابلة من جبل و منهل و نحو ذلك وَ بِالنَّجْمِ هُمْ يَهْتَدُونَ بالليل في البراري و البحار. و المراد بالنجم الجنس، كما يقال: كثر الدرهم في أيدي الناس. و يدلّ عليه القراءة الشاذّة: و بالنجم، بضمّتين، و ضمّ و سكون، على الجمع. و عن السدّي: هو الثريّا و الفرقدان و بنات النعش و الجدي.

و

عن ابن عبّاس: سألت رسول اللّه عنه فقال: الجدي علامة قبلتكم، و به تهتدون في برّكم و بحركم.

و لعلّ الضمير لقريش،

لأنّهم كانوا كثيري الأسفار للتجارة، مشهورين بالاهتداء في مسايرهم بالنجوم. و إخراج الكلام عن سنن الخطاب، و تقديم النجم، و إقحام الضمير للتخصيص، كأنّه قيل: إنّ للناس- خصوصا لقريش- اهتداء

______________________________

(1) أي: تضطرب و تتحرّك كثيرا و بسرعة من جهة إلى اخرى.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 552

بالنجوم في أسفارهم، فكان لهم بذلك علم لم يكن مثله لغيرهم، فكان الشكر عليه ألزم لهم، و أوجب عليهم.

و

عن الصادق عليه السّلام: «نحن العلامات، و النجم رسول اللّه».

و

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ اللّه جعل النجوم أمانا لأهل السماء، و جعل أهل بيتي أمانا لأهل الأرض».

[سورة النحل (16): آية 17]

أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (17)

و بعد إقامة الدلائل المتكاثرة على كمال قدرته و تناهي حكمته، و التفرّد بخلق ما عدّد من مبدعاته، أنكر عبادة المشركين الأصنام، فقال: أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ يعني: كيف يساوي و يستحقّ مشاركته ما لا يقدر على خلق شي ء من ذلك، بل على إيجاد شي ء ما.

و المراد ب «من لا يخلق» كلّ ما عبد من دون اللّه، سواء كان من أولي العلم أم لا، فغلّب أولو العلم على غيرهم لشرافتهم.

أو المراد به الأصنام، فجي ء ب «من» الّذي لأولي العلم، إمّا لأنّهم سمّوها آلهة و عبدوها، فأجروها مجرى أولي العلم. ألا ترى إلى قوله على أثره: «وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ». و إمّا للمشاكلة بينه و بين «من يخلق». و إمّا للتنبيه على أن من يخلق ليس كمن لا يخلق من أولي العلم، فكيف بما لا علم عنده؟! و كان حقّ الكلام: أ فمن لا يخلق كمن يخلق؟ لأنّه إلزام للّذين عبدوا الأوثان،

و سمّوها آلهة تشبيها باللّه، فجعلوا غير الخالق مثل الخالق، فكان حقّ الإلزام أن يقال لهم: أ فمن لا يخلق كمن يخلق، لكنّه عكس تنبيها على أنّهم حين جعلوا غير اللّه مثل اللّه في تسميته باسمه و العبادة له، و سوّوا بينه و بينه، فقد جعلوا

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 553

اللّه من جنس المخلوقات، شبيها بها، فأنكر عليهم ذلك بقوله: «أَ فَمَنْ يَخْلُقُ كَمَنْ لا يَخْلُقُ»، أي: أ جعلتموه من جنس المخلوقات العجزة و شبّهتموه بها؟

أَ فَلا تَذَكَّرُونَ أ فلا تتذكّرون أيّها المشركون، فتعرفوا فساد ذلك؟! فإنّه لجلائه كالّذي حصل عند العقل بأدنى تذكّر و التفات.

[سورة النحل (16): آية 18]

وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ لا تُحْصُوها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (18)

و لمّا عدّد النعم و ألزم الحجّة على تفرّده باستحقاق العبادة، نبّه العباد على أنّ ما وراء ما عدّد نعما لا تنحصر، فحقّ عبادته غير مقدور، فقال: وَ إِنْ تَعُدُّوا نِعْمَةَ اللَّهِ و إن أردتم تعداد نعم اللّه عليكم و معرفة تفاصيلها لا تُحْصُوها لا تضبطوا عددها، و لم يمكنكم إقصاؤها، و لا تبلغه طاقتكم، فضلا أن تطيقوا القيام بشكرها إِنَّ اللَّهَ لَغَفُورٌ حيث يتجاوز عن تقصيركم في أداء شكرها رَحِيمٌ لا يقطعها لتفريطكم فيه، و لا يعاجلكم بالعقوبة على كفرانها.

[سورة النحل (16): آية 19]

وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَ ما تُعْلِنُونَ (19)

و لمّا قدّم سبحانه الدعاء إلى عبادته بذكر نعمه و كمال قدرته، عقّبه ببيان علمه بسريرة كلّ أحد و علانيته، فقال: وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَ ما تُعْلِنُونَ من عقائدكم و أعمالكم، فيجازيكم على حسبهما، إذ لا يخفى عليه الجليّ و الخفيّ من أحوالكم. و هذا وعيد للكافر الكفور، و تزييف للشرك باعتبار العلم.

[سورة النحل (16): الآيات 20 الى 21]

وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ (20) أَمْواتٌ غَيْرُ أَحْياءٍ وَ ما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (21)

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 554

و لمّا نفى المشاركة بين من يخلق و من لا يخلق، بيّن أنّهم لا يخلقون شيئا، لينتج أنّهم لا يشاركونه، فقال: وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: و الآلهة الّذين يعبدونهم من دونه. و قرأ عاصم و يعقوب بالياء. لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً فكيف يجوز أن يكونوا شركاء للّه في الألوهيّة؟! ثمّ أكّد ذلك بأن أثبت لهم صفات تنافي الألوهيّة، فقال: وَ هُمْ يُخْلَقُونَ لأنّها ذوات ممكنة مفتقرة الوجود إلى التخليق، و الإله ينبغي أن يكون واجب الوجود.

أَمْواتٌ هم أموات لا تعتريهم الحياة، أو أموات حالا أو مآلا غَيْرُ أَحْياءٍ بالذات ليتناول كلّ معبود، و الإله ينبغي أن يكون حيّا بالذات لا يعتريه الممات وَ ما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ و لا يعلمون وقت بعث عبدتهم. و فيه تهكّم بالمشركين، و أن آلهتهم لا يعلمون وقت بعثهم، فكيف يكون لهم وقت جزاء منهم على عبادتهم؟! و الإله ينبغي أن يكون عالما بالغيوب، مقدّرا للثواب و العقاب. و فيه تنبيه على أنّ البعث من توابع التكليف، فإنّه لا بدّ للتكليف من الجزاء، و هو بعد البعث.

[سورة النحل (16): الآيات 22 الى 23]

إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَالَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (22) لا جَرَمَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ (23)

و لمّا أقام اللّه سبحانه الحجج على بطلان الشرك و الشركاء، ذكر المدّعى و هو الوحدانيّة، فقال: إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 555

ثمّ بيّن ما اقتضى إصرارهم على الشرك بعد وضوح الحقّ، من عدم إيمانهم بالآخرة، فقال: فَالَّذِينَ

لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ قُلُوبُهُمْ مُنْكِرَةٌ جاحدة للحقّ، مستبعدة لما يرد عليها من المواعظ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ عن الانقياد للحقّ، دافعون له من غير حجّة، فإنّ المؤمن بالآخرة يكون طالبا للدلائل، متأمّلا فيما يسمع، فينتفع به، و الكافر بها يكون حاله بالعكس. يعني: أنكرت قلوبهم ما لا يعرف إلّا بالبرهان، اتّباعا للأسلاف، و ركونا إلى المألوف، فإنّه ينافي النظر، و استكبرت عن اتّباع الرسول و تصديقه، و الالتفات إلى قوله. و الأوّل هو العمدة في هذا الباب، و لذلك رتّب عليه الآخرين.

لا جَرَمَ حقّا أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ فيجازيهم. و هو في موضع الرفع ب «جرم»، لأنّه فعل أو مصدر. إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْمُسْتَكْبِرِينَ فضلا عن الّذين استكبروا عن توحيده أو اتّباع رسوله.

[سورة النحل (16): الآيات 24 الى 29]

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (24) لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ مِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ (25) قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ أَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (26) ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ وَ يَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تُشَاقُّونَ فِيهِمْ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَ السُّوءَ عَلَى الْكافِرِينَ (27) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ فَأَلْقَوُا السَّلَمَ ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ بَلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28)

فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (29)

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 556

ثمّ أبان سبحانه عن أحوال المشركين و أقوالهم، فقال: وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ القائل بعضهم على التهكّم، أو الوافدون عليهم، أو المسلمون. و «ماذا» إما منصوب ب «أنزل»

بمعنى: أيّ شي ء أنزل ربّكم؟ أو مرفوع بالابتداء، بمعنى: ايّ شي ء أنزله ربّكم؟ فإذا نصبت فمعنى قوله: قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ما تدّعون نزوله أساطير الأوّلين. و إذا رفعته فالمعنى: المنزل أساطير الأوّلين. و إنّما سمّوه منزلا على التهكّم، أو على فرض أنّه منزل فهو أساطير الأولين لا تحقيق فيه.

و القائلون قيل: هم المقتسمون الّذين اقتسموا مداخل مكّة ينفّرون عن رسول اللّه، إذا سألهم وفود الحاجّ عمّا أنزل على رسول اللّه قالوا: أحاديث الأوّلين و أباطيلهم.

لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ اللام للعاقبة. و المعنى: كان عاقبة أمرهم إذا فعلوا ذلك أن حملوا أوزار ضلالهم تامّة، فإنّ إضلالهم نتيجة رسوخهم في الضلال.

وَ مِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ و بعض أوزار ضلال من يضلّونهم، و هو حصّة التسبّب. يعني: حملوا أوزار إضلالهم و إغوائهم، و لم يحملوا أوزار ضلالهم.

بِغَيْرِ عِلْمٍ حال من المفعول، أي: يضلّون من لا يعلم أنّهم ضلّال. و إنّما وصف بالضلال من لا يعلم، لأنّه كان عليه أن يبحث و ينظر بعقله حتى يميّز بين المحقّ و المبطل.

أَلا ساءَ ما يَزِرُونَ بئس شيئا يزرونه فعلهم.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أيّما داع

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 557

دعا إلى الهدى فاتّبع، فله مثل أجورهم، من غير أن ينقص من أجورهم شي ء.

و أيّما داع دعا إلى ضلالة فاتّبع عليه، فإنّ عليه مثل أوزار من اتّبعه، من غير أن ينقص من أوزارهم شي ء».

قَدْ مَكَرَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي: جعلوا وسائل ليمكروا بها رسل اللّه فَأَتَى اللَّهُ بُنْيانَهُمْ مِنَ الْقَواعِدِ فأتاها أمره من جهة أساطين البناء الّتي بنوا عليها، بأن ضعضعت فَخَرَّ عَلَيْهِمُ السَّقْفُ مِنْ فَوْقِهِمْ و صار سبب هلاكهم وَ أَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ

لا يحتسبون و لا يتوقّعون. و هو على سبيل التمثيل لاستئصالهم.

و المعنى: أنّهم سوّوا منصوبات ليمكروا رسل اللّه بها، فجعل اللّه هلاكهم في تلك المنصوبات، كحال قوم بنوا بنيانا و عمدوه بالأساطين، فأتى البنيان من الأساطين، بأن ضعضعت فسقط عليهم السقف و هلكوا.

و عن ابن عبّاس: المراد به نمرود بن كنعان، بنى الصرح ببابل، سمكه خمسة آلاف ذراع، و قيل: فرسخان، و رام منه الصعود إلى السماء ليقاتل أهلها بزعمه، أو ليترصّد أمر السماء، فأهبّ اللّه الريح فخرّ عليه و على قومه فهلكوا. و قيل: ألقت رأس الصرح في البحر، و خرّ عليهم الباقي. و الأوّل أليق، و أفيد للعموم، و أليق بكلام العرب، كما قالوا: أتي فلان من مأمنه، أي: أتاه الهلاك من جهة مأمنه. و ذكر الفوق مع حصول العلم بأنّ السقف لا يكون إلّا من فوق للتأكيد، كما يقال: مشيت برجلي، و تكلّمت بلساني.

ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يُخْزِيهِمْ ثمّ يذلّهم أو يعذّبهم بالنار، كقوله: رَبَّنا إِنَّكَ مَنْ تُدْخِلِ النَّارَ فَقَدْ أَخْزَيْتَهُ «1». وَ يَقُولُ على سبيل التوبيخ لهم و التهجين أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تشركونهم معي في العبادة. فأضاف إلى نفسه استهزاء، أو حكاية لإضافتهم زيادة في توبيخهم. و قرأ البزّي بخلاف عنه: أين شركائي بغير

______________________________

(1) آل عمران: 192.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 558

همزة، و الباقون بالهمز. تُشَاقُّونَ فِيهِمْ تعادون المؤمنين في شأنهم. و قرأ نافع بكسر النون، بمعنى: تشاقّونني، فإنّ مشاقّة المؤمنين كمشاقّة اللّه.

قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي: الأنبياء أو العلماء الّذين كانوا يدعونهم إلى التوحيد، فيشاقّونهم و ينكرون عليهم، أو الملائكة إِنَّ الْخِزْيَ الْيَوْمَ وَ السُّوءَ الذلّة و العذاب عَلَى الْكافِرِينَ و فائدة قولهم إظهار الشماتة بهم، و زيادة الإهانة.

و حكايته لأن

يكون لطفا لمن سمعه.

الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ و قرأ حمزة بالياء. و موضع الموصول يحتمل الأوجه الثلاثة. ظالِمِي أَنْفُسِهِمْ بأن عرّضوها للعذاب المخلّد فَأَلْقَوُا السَّلَمَ فسالموا و أخبتوا حين عاينوا الموت. و أصل الإلقاء في الأجسام، فاستعمل في إظهارهم الانقياد، إشعارا بغاية خضوعهم و استكانتهم، و أنّها كالشي ء الملقى بين يدي الغالب القاهر، قائلين: ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ كفر و عدوان، فجاءوا بخلاف ما كانوا عليه في الدنيا من الشقاق و الكبر. و يجوز أن يكون تفسيرا للسلم، على أنّ المراد به القول الدالّ على الاستسلام.

بَلى أي: فتجيبهم الملائكة بلى إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ في الدنيا من الكفر و المعاصي، فهو يجازيكم عليه.

و قيل: قوله: «فألقوا السلم ... إلخ» استئناف و رجوع إلى شرح حالهم يوم القيامة. و على هذا أوّل من لم يجوّز الكذب يومئذ «ما كُنَّا نَعْمَلُ مِنْ سُوءٍ» بأنّا لم نكن في زعمنا و اعتقادنا فاعلين سوء. و احتمل أن يكون الرادّ عليهم هو اللّه أو أولوا العلم. و هذا أيضا من الشماتة. و كذلك فَادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ كلّ صنف بابها المعدّ له. و قيل: أبواب جهنّم طبقات جهنّم و دركاتها المتضمّنة أصناف عذابها.

خالِدِينَ فِيها فَلَبِئْسَ جهنّم مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ المتعظّمين عن قبول الحقّ.

و اللام للتأكيد.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 559

[سورة النحل (16): الآيات 30 الى 32]

وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ وَ لَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ (30) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ كَذلِكَ يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ (31) الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (32)

و لمّا قدّم سبحانه ذكر أقوال الكافرين فيما

أنزل على نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، عقّبه بذكر أقوال المؤمنين في ذلك، فقال: وَ قِيلَ لِلَّذِينَ اتَّقَوْا يعني: المؤمنين ما ذا أَنْزَلَ رَبُّكُمْ قالُوا خَيْراً أي: أنزل خيرا. و في نصبه دليل على أنّهم لم يتلعثموا «1» في الجواب، و أطبقوه على السؤال، معترفين بالإنزال، على خلاف الكفرة، فصلا بين جواب المقرّ و جواب الجاحد. فهؤلاء أطبقوا الجواب على السؤال فقالوا:

خيرا، أي: أنزل خيرا. و أولئك عدلوا بالجواب عن السؤال فقالوا: هو أساطير الأوّلين، و ليس من الإنزال في شي ء.

روي أنّ أحياء العرب كانوا يبعثون أيّام الموسم من يأتيهم بخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإذا جاء الوافد المقتسمين قالوا له ما قالوا، و إذا جاء المؤمنين قالوا له ذلك، فيخبرونه بصدقه و أنّه نبيّ مبعوث، فهم الّذين قالوا خيرا.

لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ مكافأة في الدنيا وَ لَدارُ الْآخِرَةِ خَيْرٌ

______________________________

(1) أي: لم يتوقفوا و لم يتأنوا. يقال: تلعثم في الأمر، أي: توقف فيه و تأنى.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 560

أي: و لثوابهم في الآخرة خير منها. و هو وعد للّذين اتّقوا على قولهم خيرا.

و يجوز أن يكون «للّذين أحسنوا» و ما بعده حكاية لقولهم، بدلا و تفسيرا ل «خيرا»، على أنّه منتصب ب «قالوا». وَ لَنِعْمَ دارُ الْمُتَّقِينَ دار الآخرة. فحذفت لتقدّم ذكرها.

و قوله: جَنَّاتُ عَدْنٍ خبر مبتدأ محذوف. و يجوز أن يكون المخصوص بالمدح يَدْخُلُونَها تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ من أنواع المشتهيات. و في تقديم الظرف تنبيه على أنّ الإنسان لا يجد جميع ما يريده إلّا في الجنّة.

كَذلِكَ مثل هذا الجزاء يَجْزِي اللَّهُ الْمُتَّقِينَ الَّذِينَ تَتَوَفَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ طَيِّبِينَ طاهرين من ظلم أنفسهم

بالكفر و المعاصي، لأنّه في مقابلة ظالمي أنفسهم. و قيل: فرحين ببشارة الملائكة إيّاهم بالجنّة. أو طيّبين بقبض أرواحهم، لتوجّه نفوسهم بالكلّية إلى حضرة القدس.

يَقُولُونَ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا يحيقكم بعد مكروه ادْخُلُوا الْجَنَّةَ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إنّما يقولون ذلك لهم عند خروجهم من قبورهم. و قيل: إذا أشرف العبد على الموت جاءه ملك فقال: السلام عليك يا وليّ اللّه، اللّه يقرئك السلام و يبشّرك بالجنّة.

[سورة النحل (16): الآيات 33 الى 34]

هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (33) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (34)

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 561

ثمّ أشار إلى توعيد الكفّار، فقال: هَلْ يَنْظُرُونَ ما ينتظر الكفّار المارّ ذكرهم إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمُ الْمَلائِكَةُ لقبض أرواحهم. و قرأ حمزة و الكسائي بالياء. أَوْ يَأْتِيَ أَمْرُ رَبِّكَ القيامة أو العذاب المستأصل كَذلِكَ مثل ذلك الفعل من الشرك و التكذيب فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فأصابهم ما أصابوا وَ ما ظَلَمَهُمُ اللَّهُ بتدميرهم وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بكفرهم و معاصيهم المؤدّية إليه.

فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا أي: جزاء سيّئات أعمالهم، على حذف المضاف، أو تسمية الجزاء باسمها، كما قال: وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «1» وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ و أحاط بهم جزاؤه. و الحيق لا يستعمل إلّا في الشرّ.

[سورة النحل (16): آية 35]

وَ قالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ نَحْنُ وَ لا آباؤُنا وَ لا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (35)

ثمّ عاد إلى حكاية قول المشركين، فقال: وَ قالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا مع اللّه إلها آخر لَوْ شاءَ اللَّهُ ما عَبَدْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ من الأصنام و غيرها نَحْنُ وَ لا آباؤُنا الّذين اقتدينا بهم وَ لا حَرَّمْنا مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ بل شاء منّا، و أراد فعلنا.

و هذا القول من جملة ما عدّد من أصناف كفرهم و عنادهم، من شركهم باللّه و إنكار وحدانيّته بعد قيام الحجج، و إنكار البعث، و استهزائهم به، و تكذيبهم الرسول،

______________________________

(1)

الشورى: 40.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 562

و شقاقهم و استكبارهم عن قبول الحقّ. يعني: أنّهم أشركوا باللّه، و حرّموا ما أحلّ اللّه من البحيرة و السائبة و غيرهما، ثمّ نسبوا فعلهم إلى اللّه و قالوا: لو شاء لم نفعل. و هذا مذهب المجبّرة بعينه.

كَذلِكَ فَعَلَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فأشركوا باللّه، و حرّموا حلّه، و ردّوا رسله.

ثمّ أنكر سبحانه هذا القول عليهم، فقال: فَهَلْ عَلَى الرُّسُلِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ إلّا أن يبلغوا الحقّ بالبرهان و البيان، و يطلعوهم على بطلان الشرك و قبحه، و أنّ اللّه لا يشاء الشرك و المعاصي منهم، و على براءة اللّه من أفعال العباد، و أنّهم فاعلوها بقصدهم و إرادتهم و اختيارهم، و اللّه باعثهم على جميلها، و موفّقهم و زاجرهم عن قبيحها، و موعدهم عليه.

[سورة النحل (16): آية 36]

وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (36)

ثمّ بيّن أنّ بعثة الرسل أمر جرت به السنّة الإلهيّة في الأمم كلّها، سببا لهداية من استرشد و استهدى، و زيادة لضلالة من عاند و استهوى، كالغذاء الصالح، فإنّه ينفع المزاج السويّ و يقوّيه، و يضرّ المنحرف و يفنيه، فقال: وَ لَقَدْ بَعَثْنا فِي كُلِّ أُمَّةٍ في كلّ جماعة و قرن رَسُولًا كما بعثناك على أمّتك أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ليقول لهم: اعبدوا اللّه وَ اجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ أي: عبادة الشيطان و كلّ داع يدعو إلى الضلالة.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 563

فَمِنْهُمْ مَنْ هَدَى اللَّهُ وفّقهم للإيمان بإرشادهم، لاسترشادهم. أو هداهم اللّه إلى طريق الجنّة. وَ مِنْهُمْ مَنْ حَقَّتْ عَلَيْهِ الضَّلالَةُ أي: من أعرض عمّا دعا إليه الرسول

عنادا و انهماكا في الجحود، مع وضوح الحقّ عليه، فخذله و خلّاه، فثبتت عليه الضلالة و لزمته. أو حقّت عليه عقوبة الضلالة. فسمّى اللّه العقاب ضلالا، كقوله: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ «1».

فَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أرض المكذّبين يا معشر قريش إن لم تصدّقوني فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ من عاد و ثمود و غيرهم، لعلّكم تعتبرون كيف حقّت عليهم العقوبة و حلّت بهم، حتّى لا يبقى لكم شبهة في أنّي لا أقدّر الشرّ و لا الإساءة حيث أفعل بالأشرار.

[سورة النحل (16): آية 37]

إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ يُضِلُّ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (37)

ثمّ ذكر عناد قريش و حرص رسول اللّه على إيمانهم، فقال: إِنْ تَحْرِصْ عَلى هُداهُمْ على أن يؤمنوا بك فَإِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي لا يوفّق مَنْ يُضِلُ و لا يلطف بمن يخذل، أي: يريد ضلاله و يخلّيه، لانهماكه في الكفر و تصميمه على العناد، لأنّ اللطف في حقّه عبث، و اللّه متعال عن العبث، لأنّه من قبيل القبائح الّتي لا تجوز عليه. و قرأ غير الكوفيّين: لا يهدى، على البناء للمفعول.

و هو أبلغ.

وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ من ينصرهم بدفع العذاب عنهم. و هذا دليل على أنّ المراد بالضلال الخذلان الّذي هو نقيض النصرة.

______________________________

(1) القمر: 47.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 564

[سورة النحل (16): الآيات 38 الى 40]

وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لا يَبْعَثُ اللَّهُ مَنْ يَمُوتُ بَلى وَعْداً عَلَيْهِ حَقًّا وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (38) لِيُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ (39) إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (40)

روي: أنّه كان لرجل من المسلمين على مشرك دين فتقاضاه، فوقع في كلامه: و الّذي أرجوه بعد الموت أنّه لكذا و كذا. فقال المشرك: إنّك لتزعم أنّك تبعث بعد الموت، و أقسم باللّه لا يبعث اللّه من يموت. فنزلت: وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ حلفوا باللّه مجتهدين في أيمانهم. و المعنى: بلغوا في القسم كلّ مبلغ. لا يَبْعَثُ اللَّهُ لا يحيي مَنْ يَمُوتُ عطف ذلك على «وَ قالَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا» إيذانا بأنّهم كما أنكروا التوحيد أنكروا البعث مقسمين عليه، زيادة في البتّ على فساده.

فردّ اللّه عليهم أبلغ ردّ، فقال: بَلى يبعثهم وَعْداً مصدر مؤكّد لنفسه، أي:

وعدكم البعث و الجزاء وعدا واجبا عَلَيْهِ إنجازه، لامتناع الخلف في وعده، أو لأنّ البعث مقتضى حكمته حَقًّا صفة اخرى للوعد، أي: وعدا ثابتا عند اللّه وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ أنّهم يبعثون، إمّا لعدم علمهم بأنّه من مواجب الحكمة الّتي جرت عادته بمراعاتها، و إمّا لقصور نظرهم بالمألوف، فيتوهّمون امتناعه.

ثمّ إنّه تعالى بيّن الأمرين فقال: لِيُبَيِّنَ لَهُمُ أي: يبعثهم ليبيّن لهم الَّذِي يَخْتَلِفُونَ فِيهِ و هو الحقّ وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ كانُوا كاذِبِينَ فيما كانوا يزعمون. و هو إشارة إلى السبب الداعي إلى البعث، المقتضي له من

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 565

حيث الحكمة. و هو المميّز بين الحقّ و الباطل، و المحقّ و المبطل، بالثواب و العقاب.

ثمّ قال بيانا لإمكانه: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أي: إذا أردنا وجوده، فليس إلّا أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أي: أحدث فيحدث ذلك بلا توقّف. و هذا مثل في أنّ مراد اللّه لا يمتنع عليه، و أنّ وجوده عند إرادته مثل وجود المأمور به عند أمر الآمر المطاع إذا ورد على المأمور المطيع المتمثّل، و لا قول هناك. و المعنى: أنّ إيجاد كلّ مقدور على اللّه تعالى بهذه السهولة، فكيف يمتنع عليه البعث الّذي هو من شقّ المقدورات؟! و تقرير البيان أنّ تكوين اللّه بمحض قدرته و مشيئته لا توقّف له على سبق الموادّ و المدد و إلّا لزم التسلسل، فكما أمكن له تكوين الأشياء ابتداء بلا سبق مادّة و مثال، أمكن له تكوينها إعادة بعده.

و نصب ابن عامر و الكسائي «فيكون» هاهنا و في يس «1»، عطفا على «نقول»، أو جوابا للأمر.

[سورة النحل (16): الآيات 41 الى 42]

وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا

حَسَنَةً وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (42)

وَ الَّذِينَ هاجَرُوا و الّذين فارقوا أوطانهم و ديارهم و أهلهم فرارا بدينهم و اتّباعا لنبيّهم فِي اللَّهِ في حقّه و لوجهه خالصا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا ما ظلمهم

______________________________

(1) يس: 82.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 566

المشركون و عذّبوهم بمكّة. و هم رسول اللّه و أصحابه المهاجرون، ظلمهم قريش ففرّوا بدينهم إلى اللّه، منهم من هاجر إلى الحبشة ثمّ إلى المدينة فجمع بين الهجرتين، و منهم من هاجر إلى المدينة.

و قيل: هم الّذين كانوا محبوسين معذّبين بمكّة بعد هجرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و كلّما خرجوا تبعوهم فردّوهم، منهم بلال و صهيب و خباب و عمّار و عابس و أبو جندل و سهيل.

و قوله: لَنُبَوِّئَنَّهُمْ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً صفة للمصدر، أي: تبوئة حسنة.

و قيل: مباءة حسنة. و هي المدينة، حيث آواهم أهلها و نصروهم. و قيل: لننزلنّهم في الدنيا منزلة حسنة، و هي الغلبة على أهل مكّة الّذين ظلموهم، و على العرب قاطبة، و على أهل المشرق و المغرب.

وَ لَأَجْرُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ ممّا يعجّل لهم في الدنيا لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الضمير للكفّار، أي: لو علموا أنّ اللّه يجمع لهؤلاء المهاجرين خير الدارين لوافقوهم. أو للمهاجرين، أي: لو علموا ذلك لزادوا في اجتهادهم و صبرهم.

الَّذِينَ صَبَرُوا منصوب المحلّ أو مرفوعه على المدح، تقديره: أعني الّذين، أو هم الّذين صبروا على الشدائد، كأذى الكفرة، و مفارقة الوطن الّذي هو حرم اللّه المحبوب في كلّ قلب، فكيف بقلوب قوم هو مسقط رؤوسهم؟! و على المجاهدة و بذل الأرواح في سبيل اللّه. وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ منقطعين إلى اللّه، مفوّضين

إليه الأمر كلّه.

[سورة النحل (16): الآيات 43 الى 47]

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (43) بِالْبَيِّناتِ وَ الزُّبُرِ وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (44) أَ فَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (45) أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (46) أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (47)

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 567

روي أنّ قريش قالوا: اللّه أعظم من أن يكون رسوله بشرا، أو لا يرسل اللّه إلينا بشرا مثلنا، فنزلت: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ إِلَّا رِجالًا نُوحِي إِلَيْهِمْ أي: جرت السنّة الإلهيّة بأن لا يبعث للدعوة العامّة إلّا بشرا يوحي إليه على ألسنة الملائكة، و الحكمة في ذلك مذكورة في سورة الأنعام «1»، فإن شككتم فيه فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ أهل الكتاب أو علماء الأحبار ليعلّموكم إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ

و في الآية دلالة على أنّه تعالى لم يرسل امرأة و لا ملكا للدعوة العامّة. و أما قوله: جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا «2» معناه رسلا إلى الملائكة أو إلى الأنبياء. و قيل: لم يبعثوا إلى الأنبياء إلّا متمثّلين بصورة الرجال. و ردّ بما

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رأى جبرئيل عليه السّلام على صورته الّتي هو عليها مرّتين.

و على وجوب المراجعة إلى العلماء فيما لا يعلم.

بِالْبَيِّناتِ وَ الزُّبُرِ أي: أرسلناهم بالبيّنات و الزبر، أي: المعجزات و الكتب، كأنّه جواب قائل قال: بم أرسلوا؟ و يجوز أن يتعلّق ب «ما أرسلنا» داخلا في الاستثناء مع «رجالا»، أي: و ما أرسلنا إلّا رجالا بالبيّنات، كقولك: ما ضربت

______________________________

(1) راجع ج 2 ص

363.

(2) فاطر: 1.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 568

إلّا زيدا بالسوط، لأنّ أصله: ضربت زيدا بالسوط، أو صفة لهم: أي: رجالا ملتبسين بالبيّنات. أو ب «نوحي» على المفعوليّة، أو الحال من القائم مقام فاعله.

و على هذه الوجوه قوله: «فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ» اعتراض. أو ب «لا تعلمون» على أن الشرط للإلزام و التبكيت.

وَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الذِّكْرَ أي: القرآن. و إنّما سمّي ذكرا لأنّه موعظة و تنبيه للغافلين. لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ ما نُزِّلَ إِلَيْهِمْ في الذكر بتوسّط إنزاله إليك ممّا أمروا به و نهوا عنه، أو ممّا يتشابه عليهم. و التبيين أعمّ من أن ينصّ بالمقصود، أو يرشد إلى ما يدلّ عليه، كالقياس المنصوص العلّة و دليل العقل. وَ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ و إرادة أن يتأمّلوا فيه فيتنبّهوا للحقائق. و في هذا دلالة على أنّ اللّه تعالى أراد من جميعهم التفكّر و النظر المؤدّي إلى المعرفة، بخلاف ما يقوله أهل الجبر.

أَ فَأَمِنَ الَّذِينَ مَكَرُوا السَّيِّئاتِ أي: المكرات السيّئات. و هم الّذين احتالوا لهلاك الأنبياء، أو الّذين مكروا رسول اللّه، و دبّروا التدابير في إطفاء نور الإسلام و إيذاء المؤمنين، و راموا صدّ أصحابه عن الإيمان. أَنْ يَخْسِفَ اللَّهُ بِهِمُ الْأَرْضَ كما خسف بقارون أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ بغتة من جانب السماء، كما فعل بقوم لوط. قال ابن عبّاس: يعني يوم بدر، و ذلك أنّهم أهلكوا يوم بدر، و ما كانوا يقدّرون ذلك و لا يتوقّعونه.

أَوْ يَأْخُذَهُمْ فِي تَقَلُّبِهِمْ أي: منقلبين في مسايرهم و متاجرهم و أسباب دنياهم. و هو خلاف قوله: «مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ». فَما هُمْ بِمُعْجِزِينَ

أَوْ يَأْخُذَهُمْ عَلى تَخَوُّفٍ على مخافة بأن يهلك قوما قبلهم، فيتخوّفوا فيأتيهم العذاب و هم متخوّفون و متوقّعون. أو على

أن ينقصهم شيئا بعد شي ء في أنفسهم و أموالهم حتّى يهلكوا. من: تخوّفته إذا تنقّصته. روي أنّ عمر قال على المنبر: ما تقولون فيها؟ فسكتوا. فقام شيخ من هذيل فقال: هذه لغتنا، التخوّف:

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 569

التنقّص. فقال: فهل تعرف العرب ذلك في أشعارها؟ قال: نعم، قال شاعرنا أبو كبير يصف ناقته:

تخوّف الرحل منها تامكا قرداكما تخوّف عود النبعة «1» السّفن

فقال: عليكم بديوانكم لا تضلّوا. قالوا: و ما ديواننا؟ قال: شعر الجاهليّة، فإنّ فيه تفسير كتابكم و معاني كلامكم.

[سورة النحل (16): الآيات 48 الى 50]

أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ وَ هُمْ داخِرُونَ (48) وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ دابَّةٍ وَ الْمَلائِكَةُ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (49) يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (50)

فَإِنَّ رَبَّكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ حيث لا يعاجلكم بالعقوبة مع استحقاقكم.

ثمّ بيّن دلائل قدرته، فقال: أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلى ما خَلَقَ اللَّهُ أو لم ينظر هؤلاء الكفّار الّذين جحدوا وحدانيّته و كذّبوا نبيّه. و الهمزة للإنكار، أي: قد رأو أمثال هذه الصنائع، فما بالهم لم يتفكّروا فيها ليظهر لهم كمال قدرته و قهره فيخافوا منه؟! و «ما» موصولة مبهمة بيانها.

مِنْ شَيْ ءٍ يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ أي: أ و لم ينظروا إلى المخلوقات الّتي لها ظلال

______________________________

(1) في هامش النسخة الخطّية: «النبعة: الشجرة الّتي تتّخذ منها أخشاب القوس. منه».

و التامك: سنام البعير المرتفع. و القرد: الذي أكله القراد من كثرة أسفارها. و السفن: المبرد الحديد الذي ينحت به الخشب. و المعنى: تنقّص رحلها سنامها المرتفع الذي تنقب من كثرة السفر، كما تنقّص المبرد عود النبعة.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 570

متفيّئة؟!

و قرأ حمزة و الكسائي: تروا بالتاء، و أبو عمرو: تتفيّؤا بالتاء. عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمائِلِ عن أيمانها و شمائلها، أي: عن جانبي كلّ واحد منها و شقّيه، استعارة من يمين الإنسان و شماله. و لعلّ توحيد اليمين و جمع الشمائل باعتبار اللفظ و المعنى، فإنّ «من شي ء» في معنى: ما خلق اللّه من كلّ شي ء، فيكون جمعا معنى، كتوحيد الضمير في «ظلاله» و جمعه في قوله: سُجَّداً لِلَّهِ وَ هُمْ داخِرُونَ و هما حالان من الضمير في «ظلاله».

و المراد من السجود الاستسلام، سواء كان بالطبع أو الاختيار. يقال: سجدت النخلة إذا مالت لكثرة الحمل، و سجد البعير إذا طأطأ رأسه ليركب.

و يحتمل أن يكون «سجّدا» حالا من الظلال، و «هم داخرون» حالا من الضمير في «ضلاله»، لأنّه بمعنى الجمع كما عرفت آنفا. و المعنى: يرجع الظلال بارتفاع الشمس و انحدارها، أو باختلاف مشارقها و مغاربها، بتقدير اللّه تعالى من جانب إلى جانب، منقادة لما قدّر لها من التفيّؤ، أو واقعة على الأرض ملتصقة بها على هيئة الساجد، و الأجرام في أنفسها أيضا داخرة، أي: صاغرة منقادة لأفعال اللّه فيها. و جمع «داخرون» بالواو لأنّ من جملتها من يعقل فغلّب، أو لأنّ الدخور من أوصاف العقلاء.

و قيل: المراد باليمين و الشمائل يمين الفلك، و هو جانبه الشرقي، لأنّ الكواكب تظهر منه آخذة في الارتفاع و السطوع، و شماله و هو الجانب الغربي المقابل له، فإنّ الظلال في أوّل النهار تبتدئ من المشرق واقعة على الربع الغربي من الأرض، و عند الزوال تبتدئ من المغرب واقعة على الربع الشرقي من الأرض، جلّت قدرته و عظمته.

و عن الكلبي: معنى تفيّؤ الظلال يمينا و شمالا: أنّ الشمس إذا

طلعت و أنت متوجّه إلى القبلة كان الظلّ قدّامك، و إذا ارتفعت كان عن يمينك، فإذا كان بعد ذلك

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 571

كان خلفك، و إذا كان قبل أن تغرب الشمس كان عن يسارك، فهذا تفيّؤه عن اليمين و الشمال.

و قد نبّه اللّه تعالى بهذه الآية على أنّ جميع الأشياء تخضع له، بما فيها من الدلالة على الحاجة إلى خالقها و مدبّرها، بما لولاه لبطلت و لم يكن لها قوام طرفة عين، فهي في ذلك كالساجد من العباد بفعله الخاضع الذليل، و لهذا قال: وَ لِلَّهِ يَسْجُدُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ أي: ينقاد انقيادا يعمّ الانقياد لإرادته و تأثيره طبعا، و الانقياد لتكليفه و أمره طوعا، ليصحّ إسناده إلى عامّة أهل السماوات و الأرض.

و قوله: مِنْ دابَّةٍ بيان لما في السماوات و الأرض جميعا، لأنّ الدبيب هو الحركة الجسمانيّة، سواء كان في أرض أو سماء. وَ الْمَلائِكَةُ عطف على المبيّن به عطف جبرئيل على الملائكة للتعظيم، أو عطف المجرّدات على الجسمانيّات.

و به احتجّ من قال: إنّ الملائكة أرواح مجرّدة.

أو بيان «1» ل «ما في الأرض». و يراد بما في السماوات الملائكة الساكنة فيها.

و حينئذ «و الملائكة» تكرير لما في السماوات، و تعيين له إجلالا و تعظيما، فإنّهم أعبد الخلائق. أو المراد بها ملائكتها من الحفظة و غيرهم. «و ما» لمّا استعمل للعقلاء كما استعمل لغيرهم، كان استعماله حيث اجتمع القبيلان أولى من إطلاق «من» تغليبا للعقلاء. وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن عبادته.

يَخافُونَ رَبَّهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ يخافونه أن يرسل عذابا من فوقهم. و تخصيص هذه الجهة أنّ أكثر العقاب المهلك إنّما يأتي من فوق. أو يخافونه و هو فوقهم، أي:

قاهرا غالبا عاليا

عليهم، كقوله تعالى: وَ هُوَ الْقاهِرُ فَوْقَ عِبادِهِ «2»

______________________________

(1) عطف على قوله: بيان لما في السماوات و الأرض، قبل أربعة أسطر.

(2) الأنعام: 18.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 572

وَ إِنَّا فَوْقَهُمْ قاهِرُونَ «1». و على الأوّل يتعلّق ب «يخافون». و على الثاني حال من «ربّهم».

و الجملة الفعليّة حال من الضمير في «لا يستكبرون»، أو بيان لنفي الاستكبار و تقرير له، لأنّ من خاف اللّه لم يستكبر عن عبادته.

وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ من الطاعة و التدبير. و قد صحّ

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «إنّ للّه تعالى ملائكة في السماء السابعة سجودا مذ خلقهم اللّه إلى يوم القيامة، ترعد فرائصهم من خشية اللّه، لا يقطر من دموعهم قطرة إلا صار ملكا، فإذا كان يوم القيامة رفعوا رؤوسهم و قالوا: ما عبدناك حقّ عبادتك».

و فيه دليل على أنّ الملائكة مكلّفون مدارون على الأمر و النهي، و الوعد و الوعيد، و الخوف و الرجاء، كسائر المكلّفين.

[سورة النحل (16): الآيات 51 الى 55]

وَ قالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ (51) وَ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لَهُ الدِّينُ واصِباً أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ (52) وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ (53) ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (54) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (55)

و لمّا بيّن سبحانه دلائل قدرته و ألوهيّته، عقّبه بالتنبيه على وحدانيّته، فقال:

وَ قالَ اللَّهُ لا تَتَّخِذُوا إِلهَيْنِ اثْنَيْنِ ذكر العدد مع المعدود لم يجر في الاثنين

______________________________

(1) الأعراف: 127.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 573

و الواحد، و إنّما يجري فيما عداهما، كقولك: رجال ثلاثة و أفراس أربعة، لأنّ

المعدود فيما عداهما عار عن الدلالة على العدد الخاصّ، بخلاف رجل و رجلان، فإنّهما يدلّان على العدد، فلا حاجة إلى أن يقال: رجل واحد و رجلان اثنان، لكن ذكر ها هنا ليدلّ دلالة صريحة على أنّ المقصود نهي الاثنينيّة لا ذات المعدود.

أو إيماء بأنّ الاثنينيّة تنافي الألوهيّة، كما ذكر الواحد في قوله: إِنَّما هُوَ إِلهٌ واحِدٌ للدلالة على أنّ المقصود إثبات الوحدانيّة دون الإلهيّة. ألا ترى أنّك لو قلت: إنّما هو إله، و لم تؤكّده بواحد، خيّل أنّك تثبت الإلهيّة لا الوحدانيّة الّتي قصدتها، فكذا إذا قلت: لا تتّخذوا إلهين بدون ذكر العدد، لخيّل أنّك قصدت المعدود لا العدد، و لمّا شفّعتهما بذكر الاثنين دلّ دلالة صريحة على أنّ مقصودك نفي الاثنينيّة لا الجنسيّة، أو للتنبيه على أنّ الوحدة من لوازم الإلهيّة.

فَإِيَّايَ فَارْهَبُونِ نقل من الغيبة إلى التكلّم مبالغة في الترهيب، و تصريحا بالمقصود، فكأنّه قال: فأنا ذلك الإله الواحد، فإيّاي فارهبون لا غير.

عن بعض الحكماء: أنّه قال: نهاك ربّك أن تتّخذ إلهين فاتّخذت آلهة، عبدت نفسك و هواك و دنياك و طبعك و مرادك، و عبدت الخلق، فأنّى تكون موحّدا؟! وَ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ خلقا و ملكا وَ لَهُ الدِّينُ أي: الطاعة واصِباً ثابتا لازما، لما تقرّر من أنّه الإله وحده، و أنّه الحقيق بأن يرهب منه.

و قيل: واصبا من الوصب، أي: و له الدين ذا كلفة. و قيل: الدين الجزاء، أي: و له الجزاء دائما، لا ينقطع ثوابه لمن آمن، و عقابه لمن كفر. و على التقادير، هو حال عمل فيه الظرف.

أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَتَّقُونَ و لا ضارّ حقيقة سواه، كما لا نافع غيره، كما قال: وَ ما بِكُمْ مِنْ

نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ و أيّ شي ء اتّصل بكم من نعمة فهو من اللّه. و «ما» شرطيّة، أو موصولة متضمّنة معنى الشرط باعتبار الإخبار دون الحصول، فإنّ استقرار النعمة

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 574

لهم يكون سببا للإخبار بأنّها من اللّه لا لحصولها منه.

ثُمَّ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ من المرض و سائر الشدائد فَإِلَيْهِ تَجْئَرُونَ فما تتضرّعون إلّا إليه. و الجؤار رفع الصوت في الدعاء و الاستغاثة.

ثُمَّ إِذا كَشَفَ الضُّرَّ عَنْكُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْكُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ و هم كفّاركم.

لِيَكْفُرُوا بعبادة غيره. هذا إذا كان الخطاب في قوله: «وَ ما بِكُمْ مِنْ نِعْمَةٍ فَمِنَ اللَّهِ ... إلخ» عامّا. فإن كان خاصّا بالمشركين كان «من» للبيان، كأنّه قال: و إذا فريق منهم و هم أنتم. و يحتمل أن يكون للتبعيض، على أن يعتبر بعضهم الّذي كان أشدّ عنادا منهم، كقوله: فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ «1».

بِما آتَيْناهُمْ من نعمة الكشف عنهم، كأنّهم قصدوا بكفرهم كفران النعمة أو إنكار كونها من اللّه. و اللام للعلّة، أي: جعلوا غرضهم من الشرك كفران النعمة.

و يجوز أن يكون للأمر تخلية و خذلانا، كقوله: فَتَمَتَّعُوا فإنّه أمر تهديد فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ ما يحلّ بكم في العاقبة من العقاب و أليم العذاب. حذف المفعول لدلالة الكلام عليه، و هذا أغلظ وعيد.

[سورة النحل (16): الآيات 56 الى 60]

وَ يَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ (56) وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ سُبْحانَهُ وَ لَهُمْ ما يَشْتَهُونَ (57) وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ (58) يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ أَ يُمْسِكُهُ عَلى هُونٍ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (59) لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ وَ لِلَّهِ الْمَثَلُ

الْأَعْلى وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (60)

______________________________

(1) لقمان: 32.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 575

ثمّ ذكر سبحانه فعلا آخر من أفعال المشركين دالّا على جهلهم، فقال:

وَ يَجْعَلُونَ لِما لا يَعْلَمُونَ أي: لآلهتهم الّتي لا علم لها، لأنّها جماد، فيكون الضمير ل «ما». أو الّتي لا يعلمونها، فيعتقدون فيها جهالات، مثل أنّها تنفعهم و تشفع لهم عند اللّه، و ليس كذلك، فإنّ حقيقتها أنّها جماد لا يضرّ و لا ينفع، فهم إذا جاهلون بها، على أنّ العائد إلى «ما» محذوف. أو لجهلهم، على أنّ «ما» مصدريّة، و المجعول له محذوف للعلم به. نَصِيباً مِمَّا رَزَقْناهُمْ من زروعهم و أنعامهم، و هي لا تشعر بذلك.

ثمّ أوعدهم اللّه بذلك، فقال تأكيدا للوعيد: تَاللَّهِ لَتُسْئَلُنَ في الآخرة عَمَّا كُنْتُمْ تَفْتَرُونَ تكذبون في الدنيا من أنّها آلهة حقيقة بالتقرّب إليها.

ثمّ ذكر سبحانه نوعا آخر من جهالاتهم فقال: وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ الْبَناتِ الضمير لخزاعة و كنانة، فإنّهم كانوا يقولون: الملائكة بنات اللّه سُبْحانَهُ تنزيه له من قولهم أو تعجّب منه وَ لَهُمْ ما يَشْتَهُونَ يعني: البنين. و يجوز في «ما يشتهون» الرفع بالابتداء، أو النصب بالعطف على البنات، على أنّ الجعل بمعنى الاختيار. و هو و إن أفضى إلى أن يكون ضمير الفاعل و المفعول لشي ء واحد، لكنّه لا يبعد تجويزه في المعطوف.

وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِالْأُنْثى أخبر بولادتها ظَلَّ وَجْهُهُ صار، أو دام النهار كلّه مُسْوَدًّا من الكآبة و الحزن و الحياء من الناس. و اسوداد الوجه كناية عن شدّة الاغتمام. وَ هُوَ كَظِيمٌ مملوء غيظا على المرأة.

يَتَوارى مِنَ الْقَوْمِ يستخفي منهم مِنْ سُوءِ ما بُشِّرَ بِهِ من سوء

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 576

المبشّر به عرفا، و من أجل تعييرهم أَ يُمْسِكُهُ محدّثا نفسه،

متفكّرا في أن يتركه عَلى هُونٍ هوان و ذلّ أَمْ يَدُسُّهُ فِي التُّرابِ أم يخفيه فيه و يئده.

و تذكير الضمير للفظ «ما». أَلا ساءَ ما يَحْكُمُونَ حيث يجعلون لمن تعالى عن الولد ما هذا محلّه عندهم، و يجعلون لأنفسهم من هو على العكس، و هذا غاية الجهل.

لِلَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ مَثَلُ السَّوْءِ صفة السوء، و هي الحاجة إلى الولد المنادية بالموت و استبقاء الذكور استظهارا بهم، و كراهة الإناث و وأدهنّ خشية الإملاق، و إقرارهم على أنفسهم بالشحّ البالغ، أو صفة النقص من الجهل و العجز.

وَ لِلَّهِ الْمَثَلُ الْأَعْلى الصفة العليا، و هي الوجوب الذاتي، و الغنى المطلق، و الجود الفائق، و النزاهة عن صفات المخلوقين وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ المنفرد بكمال القدرة و الحكمة.

[سورة النحل (16): الآيات 61 الى 63]

وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ ما تَرَكَ عَلَيْها مِنْ دَابَّةٍ وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ (61) وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ وَ تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى لا جَرَمَ أَنَّ لَهُمُ النَّارَ وَ أَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ (62) تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63)

وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِظُلْمِهِمْ بكفرهم و معاصيهم، و يعاجلهم بالعقوبة

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 577

ما تَرَكَ عَلَيْها على الأرض. و إنّما أضمرها من غير ذكر لدلالة الناس و الدابّة عليها مِنْ دَابَّةٍ أي: ممّن يستحقّ العقوبة من الظالمين. و يؤيّده ما روي عن ابن عبّاس: أنّ معناه من مشرك يدبّ عليها. أو من دابّة ظالمة. أو لأهلك الدوابّ كلّها بشؤم ظلم الظالمين. و عن ابن مسعود: كاد الجعل يهلك في جحره بذنب ابن

آدم.

و قيل: لو أهلك الآباء بكفرهم لم يكن الأبناء.

و قيل: معنى الآية: لو يؤاخذهم بذنوبهم لحبس المطر عنهم حتى يهلك كلّ دابّة. و على هذا العذاب للظالم عقوبة، و لغير الظالم عبرة و محنة، فيكون كالأمراض النازلة بالأولياء و غير المكلّفين، فيعوّضون عنها.

و قيل: إنّه إذا هلك الظلمة و لم يبق مكلّف لا يبقى غيرهم من الحيوانات، لأنّها إنّما خلقت للمكلّفين، فلا فائدة في بقائها بعدهم.

وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى سمّاه لأعمارهم أو لعذابهم كي يتوالدوا فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ بل هلكوا أو عذّبوا حينئذ لا محالة. و لا يلزم من عموم الناس و إضافة الظلم إليهم أن يكونوا كلّهم ظالمين حتّى الأنبياء عليهم السّلام، لجواز أن يضاف إليهم ما شاع فيهم و صدر عن أكثرهم.

وَ يَجْعَلُونَ لِلَّهِ ما يَكْرَهُونَ أي: ما يكرهونه لأنفسهم، من البنات، و الشركاء في الرئاسة، و الاستخفاف برسلهم، و التهاون برسالتهم، و جعلهم له أرذل الأموال، و لأصنامهم أكرمها.

وَ تَصِفُ أَلْسِنَتُهُمُ الْكَذِبَ مع ذلك، و هو أَنَّ لَهُمُ الْحُسْنى أي: عند اللّه، كقوله: وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى «1». هذا بدل من «الكذب»، إذ هو قولهم: لنا البنون و للّه البنات.

لا أي: ليس الأمر على ما وصفوه جَرَمَ ثبت و حقّا أَنَّ لَهُمُ النَّارَ

______________________________

(1) فصّلت: 50.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 578

ردّ لكلامهم، و إثبات لضدّه وَ أَنَّهُمْ مُفْرَطُونَ مقدّمون إلى النار، من: أفرطته في طلب الماء إذا قدّمته. و قرأ نافع بكسر الراء، على أنّه من الإفراط في المعاصي.

تَاللَّهِ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى أُمَمٍ مِنْ قَبْلِكَ فَزَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فأصرّوا على قبائحها، و كفروا بالمرسلين فَهُوَ وَلِيُّهُمُ الْيَوْمَ أي: قرينهم و

ناصرهم في الدنيا.

عبّر باليوم عن زمانها. أو فهو وليّهم حين كان يزيّن لهم. أو يوم القيامة، على أنّه حكاية حال ماضية، كأن يزيّن لهم الشيطان أعمالهم فيها، أو حال آتية، و هي حال كونهم معذّبين في النار، أي: فهو ناصرهم اليوم و لا ناصر لهم غيره، فيكون نفيا للناصر لهم على أبلغ الوجوه. و يجوز أن يكون الضمير لقريش، أي: زيّن الشيطان للكفرة المتقدّمين أعمالهم، فهو وليّ هؤلاء اليوم، فيغرّهم و يغويهم، و أن يقدّر مضاف، أي: فهو وليّ أمثالهم. وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في القيامة.

[سورة النحل (16): الآيات 64 الى 65]

وَ ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلاَّ لِتُبَيِّنَ لَهُمُ الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (64) وَ اللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (65)

ثمّ بيّن سبحانه أنّه قد أقام الحجّة و أزاح العلّة و أوضح الحقّ، فقال: وَ ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ إِلَّا لِتُبَيِّنَ لَهُمُ للناس الَّذِي اخْتَلَفُوا فِيهِ من التوحيد، و أحوال المعاد، و أحكام الحلال و الحرام وَ هُدىً و دلالة على الحقّ وَ رَحْمَةً لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ و هما معطوفان على محلّ «لتبيّن»، إلّا أنّهما انتصبا على أنّهما مفعول لهما، لأنّهما فعلا الّذي أنزل الكتاب. و دخل اللام على «لتبيّن» لأنّه فعل المخاطب.

و إنّما ينتصب مفعولا له ما كان فعل فاعل الفعل المعلّل.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 579

وَ اللَّهُ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً غيثا فَأَحْيا بِهِ بذلك الماء الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها أنبت فيها أنواع النبات بعد يبسها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع تدبّر و إنصاف، لأنّ من لم يسمع بقلبه فكأنّه أصمّ لا يسمع أصلا.

[سورة النحل (16): الآيات 66 الى 67]

وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ لَبَناً خالِصاً سائِغاً لِلشَّارِبِينَ (66) وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (67)

ثمّ عطف سبحانه على ما تقدّم من دلائل التوحيد و عجائب الصنعة و بدائع الحكمة، فقال: وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ الإبل و البقر و الغنم لَعِبْرَةً دلالة يعبر بها من الجهل إلى العلم نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِهِ استئناف لبيان العبرة. و إنّما ذكّر الضمير و وحّده ها هنا للفظ، و أنّثه في سورة المؤمنين «1» للمعنى،

فإنّ الأنعام اسم جمع، و لذلك عدّه سيبويه في المفردات المبنيّة على أفعال، كأخلاق و أكباش «2». و من قال: إنّه جمع «نعم» جعل الضمير للبعض، فإنّ اللبن لبعضها دون جميعها، أو لواحدة، أو له على المعنى، فإنّ المراد به الجنس.

و قرأ نافع و ابن عامر و أبو بكر و يعقوب: نسقيكم بالفتح، هاهنا و في المؤمنين.

______________________________

(1) المؤمنون: 21.

(2) في هامش النسخة الخطّية: «ضرب من النبات غزل مرّتين. و قيل: ضرب من برود اليمن.

منه».

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 580

مِنْ بَيْنِ فَرْثٍ وَ دَمٍ لَبَناً فإنّه يخلق من بعض أجزاء الدم المتولّد من الأجزاء اللطيفة الّتي في الفرث، و هي الأشياء المأكولة المنهضمة بعض الانهضام في الكرش.

و عن ابن عبّاس: «أنّ البهيمة إذا اعتلفت و انطبخ العلف في كرشها، كان أسفله فرثا، و أوسطه لبنا، و أعلاه دما» الحديث. فالكبد مسلّطة على هذه الأصناف الثلاثة تقسّمها، فتجري الدم في العروق، و اللبن في الضرع، و تبقى الفرث في الكرش. فسبحان اللّه ما أعظم قدرته، و ألطف حكمته، لمن تفكّر و تأمّل.

قال صاحب الأنوار بعد ذكر هذا الحديث: «إن صحّ هذا النقل فلعلّ المراد أنّ أوسطه يكون مادّة اللبن، و أعلاه مادّة الدم الّذي يغذّي البدن، لأنّهما لا يتكوّنان في الكرش، بل الكبد يجذب صفاوة الطعام المنهضم في الكرش، و يبقى ثفله و هو الفرث، ثمّ يمسكها ريثما يهضمها هضما ثانيا، فيحدث أخلاطا أربعة معها مائيّة، فتميّز القوّة المميّزة تلك المائيّة بما زاد على قدر الحاجة من المرّتين، و تدفعها إلى الكلية و المرارة و الطحال، ثمّ يوزّع الباقي على الأعضاء بحسبها، فيجري إلى كلّ حقّه على ما يليق به، بتقدير العليم الحكيم.

ثمّ إن كان الحيوان أنثى زاد

أخلاطها على قدر غذائها، لاستيلاء البرد و الرطوبة على مزاجها، فيندفع الزائد أولا إلى الرحم لأجل الجنين، فإذا انفصل انصبّ ذلك الزائد أو بعضه إلى الضروع، فيبيض بمجاورة لحومها الغدديّة البيض، فيصير لبنا. و من تدبّر صنع اللّه في إحداث الأخلاط و الألبان، و إعداد مقارّها و مجاريها، و الأسباب المولّدة لها، و القوى المتصرّفة فيها كلّ وقت على ما يليق به، اضطرّ إلى الإقرار بكمال حكمته و تناهي رحمته» «1».

و اعلم أنّ «من» الأولى تبعيضيّة، لأنّ اللبن بعض ما في بطونها، كقولك:

______________________________

(1) أنوار التنزيل 3: 185.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 581

أخذت من مال زيد ثوبا. و الثانية ابتدائيّة، كقولك: سقيت من الحوض، لأنّ بين الفرث و الدم المحلّ الّذي يبتدأ منه الإسقاء. و هي متعلّقة ب «نسقيكم». أو حال من «لبنا»، قدّم عليه لتنكيره، و للتنبيه على أنّه موضع العبرة.

سئل شقيق عن الإخلاص، فقال: تمييز العمل من العيوب، كتمييز اللبن من بين فرث و دم.

خالِصاً صافيا لا يستصحب لون الدم و لا رائحة الفرث. أو مصفّى عمّا يصحبه من الأجزاء الكثيفة بتضييق مخرجه. سائِغاً لِلشَّارِبِينَ سهل المرور في حلقهم.

بيّن سبحانه في هذه الآية لمن ينكر البعث أنّ من قدر على إخراج لبن أبيض سائغ من بين الفرث و الدم من غير أن يختلط بهما، قادر على إخراج الموتى من الأرض من غير أن يختلط شي ء من أبدانهم بأبدان غيرهم.

ثمّ قال تعدادا لنعمة اخرى: وَ مِنْ ثَمَراتِ النَّخِيلِ وَ الْأَعْنابِ متعلّق بمحذوف، أي: و نسقيكم من ثمرات النخيل و الأعناب، أي: من عصيرهما. و حذف لدلالة «نسقيكم» قبله عليه.

و قوله: تَتَّخِذُونَ مِنْهُ سَكَراً استئناف لبيان الإسقاء، أو يتعلّق ب «تتّخذون».

و «منه» تكرير للظرف تأكيدا، كقولك: زيد

في الدار فيها، أو خبر لمحذوف صفته تَتَّخِذُونَ أي: و من ثمرات النخيل و الأعناب ثمر تتّخذون منه. و تذكير الضمير على الوجهين الأوّلين، لأنّه للمضاف المحذوف الّذي هو العصير، أو لأنّ الثمرات بمعنى الثمر. و السكر مصدر: سكر يسكر سكرا و سكرا، سمّي به الخمر. وَ رِزْقاً حَسَناً كالتمر و الزبيب و الدبس و الخلّ. و الآية جامعة بين العتاب و المنّة.

روى الحاكم في صحيحة بالإسناد عن ابن عبّاس أنّه سئل عن هذه الآية فقال: «السكر ما حرّم من ثمرها، و الرزق الحسن ما أحلّ من ثمرها». و هذا القول

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 582

أيضا مرويّ عن ابن مسعود و سعيد بن جبير و الحسن و قتادة و مجاهد و غيرهم.

و قال قتادة: نزلت الآية قبل تحريم الخمر، و نزل تحريمها بعد ذلك في سورة المائدة «1».

و قال أبو مسلم: لا حاجة إلى ذلك، سواء كان حراما أو حلالا، لأنّه تعالى خاطب المشركين و عدّد إنعامه عليهم بهذه الثمرات، و الخمر من أشربتهم، فكانت نعمة عليهم.

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم بالنظر و التأمّل في الآيات. بيّن سبحانه بذلك أنّكم تستخرجون من الثمرات عصيرا يخرج من قشر قد اختلط به، فكذلك يستخلص اللّه سبحانه ما تبدّد من الميّت ممّا هو مختلط به من التراب.

[سورة النحل (16): الآيات 68 الى 69]

وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ أَنِ اتَّخِذِي مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً وَ مِنَ الشَّجَرِ وَ مِمَّا يَعْرِشُونَ (68) ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ ذُلُلاً يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها شَرابٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (69)

ثمّ ذكر نعمة اخرى من نعمة الّتي تتضمّن كمال قدرته، فقال: وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ ألهمها

و قذف في قلوبها، و علّمها على وجه لا سبيل إلى الوقوف عليه.

و أصل الوحي عند العرب أن يلقي الإنسان إلى صاحبه شيئا بالاستتار و الإخفاء.

______________________________

(1) المائدة: 90- 91.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 583

أَنِ اتَّخِذِي بأن اتّخذي. و يجوز أن تكون «أن» مفسّرة، لأنّ في الإيحاء معنى القول. و تأنيث الضمير على المعنى، فإنّ النحل مذكّر.

مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً تتعسّل فيها وَ مِنَ الشَّجَرِ وَ مِمَّا يَعْرِشُونَ أي: من الكرم، لأنّه الّذي يعرش و يتّخذ منه العريش. أو ما يرفعون من سقوف البيوت، فإنّ العرش سقف البيت. و المعنى: ما يبني الناس للنحل في الجبال و الشجر و البيوت من الأماكن الّتي تتعسّل فيها، و لولا إلهام اللّه إيّاها ما كانت تأوي إلى ما بني لها من بيوتها.

و إنّما أتى بلفظ الأمر و إن كانت النحل لا تعقل الأمر و لا تكون مأمورة، لأنّه لمّا أتى بلفظ الوحي أجرى عليه لفظ الأمر اتّساعا. و ذكر بحرف التبعيض، لأنّها لا تبني في كلّ جبل و كلّ شجر و كلّ ما يعرش من كرم أو سقف، و لا في كلّ مكان منها.

و إنّما سمّي ما تبنيه لتتعسّل فيه بيتا تشبيها ببناء الإنسان، لما فيه من حسن الصنعة و صحّة القسمة، الّتي لا يقوى عليها حذّاق المهندسين إلّا بآلات و أنظار دقيقة.

و قرأ ابن عامر و أبو بكر: يعرشون بضمّ الراء.

ثُمَّ كُلِي مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ من كلّ ثمرة تشتهينها، فإذا أكلتها فَاسْلُكِي سُبُلَ رَبِّكِ أي: الطرق الّتي ألهمك و أفهمك في عمل العسل. أو إذا أكلت الثمار في المواضع البعيدة من بيوتك، فاسلكي راجعة إلى بيوتك الّتي هي سبل ربّك، لا تضلّين فيها. أو فاسلكي ما أكلت في مسالك ربّك،

الّتي يحيل فيها بقدرته النّور «1» المرّ عسلا من أجوافك.

ذُلُلًا جمع ذلول. و هي حال من السبل، أي: مذلّلة ذلّلها اللّه و سهّلها لك،

______________________________

(1) النّور: الزهر.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 584

أو من الضمير في «اسلكي» أي: و أنت ذلل منقادة لما أمرت به.

يَخْرُجُ مِنْ بُطُونِها كأنّه عدل به عن خطاب النحل إلى خطاب الناس، لأنّه محلّ الإنعام عليهم، و المقصود من خلق النحل و إلهامه لأجلهم شَرابٌ يعني:

العسل، لأنّه ممّا يشرب. و احتجّ به من زعم أنّ النحل تأكل الأزهار و الأوراق العطرة، فتستحيل في بطنها عسلا، ثمّ تقي ء ادّخارا للشتاء. و فسّر البطون بالأفواه من زعم انّها تلتقط بأفواهها أجزاء طليّة «1» حلوة صغيرة متفرّقة على الأوراق و الأزهار، و تضعها في بيوتها ادّخارا، فإذا اجتمع في بيوتها شي ء كثير منها كان العسل.

مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ أبيض و أصفر و أحمر و أسود، بسبب اختلاف سنّ النحل و الفصل فِيهِ شِفاءٌ لِلنَّاسِ إمّا بنفسه كما في الأمراض البلغميّة، أو مع غيره كما في سائر الأمراض، إذ قلّما يكون معجون إلّا و العسل جزء منه. و ليس الغرض أنّه بنفسه شفاء لكلّ مرض، كما أنّ كلّ دواء كذلك. و الدليل عليه أنّ التنكير مشعر بالتبعيض. و يجوز أن يكون للتعظيم، فإنّه سبب لدفع معظم الأمراض.

و عن ابن بابويه في كتاب الاعتقادات: «اعتقادنا في العسل أنّه شفاء للأمراض البلغميّة».

و

عن قتادة: أنّ رجلا جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: «إنّ أخي يشتكي بطنه.

فقال: اسقه العسل. فذهب ثمّ رجع فقال: قد سقيته فما نفع. فقال: اذهب و اسقه عسلا، فقد صدق اللّه و كذب بطن أخيك. فسقاه فبرى ء، فكأنّما أنشط من عقال».

و عن عبد اللّه

بن مسعود أنّه قال: عليكم بالشفاءين: القرآن و العسل.

و قيل: الضمير للقرآن، أو لما بيّن اللّه من أحوال النحل.

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فإنّ من تدبّر اختصاص النحل بتلك العلوم

______________________________

(1) أي: ناعمة غضّة.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 585

الدقيقة و الأفعال العجيبة حقّ التدبّر، علم قطعا أنّه لا بدّ له من خالق قادر حكيم يلهمها ذلك و يحملها عليه.

قال صاحب المجمع: «و من جملة عجائبه خروج العسل من فيه. و منها:

جعل الشفاء في موضع السمّ، فإنّ النحل يلسع. و منها: ما ركّب اللّه من البدائع و العجائب فيه و في طباعه. و من أعجبها أن جعل اللّه سبحانه لكلّ فئة يعسوبا هو أميرها، يقدّمها و يحامي عنها، و يدبّر أمرها و يسوسها، و هي تتبعه و تقتفي أثره، و متى فقدته انحلّ نظامها، و زال قوامها، و تفرّقت شذر مذر. و إلى هذا المعنى

أشار أمير المؤمنين عليه السّلام في قوله: «أنا يعسوب المؤمنين» «1».

[سورة النحل (16): آية 70]

وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (70)

ثمّ بيّن سبحانه نعمته علينا في خلقنا و إخراجنا من العدم إلى الوجود، فقال:

وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ ثُمَّ يَتَوَفَّاكُمْ بآجال مختلفة وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ يعاد إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ أخسّه و أوضعه، يعني: الهرم الّذي يشابه الطفوليّة في نقصان القوّة و العقل.

و قيل: هو خمس و تسعون سنة. و قيل:

خمس و سبعون. و هذا مرويّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أمير المؤمنين عليه السّلام.

لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً ليصير إلى حالة شبيهة بحالة الطفوليّة في النسيان و سوء الفهم.

إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بمقادير أعماركم

قَدِيرٌ يميت الشابّ النشيط، و يبقى الهرم الفاني. و فيه تنبيه على أنّ تفاوت آجال الناس ليس إلّا بتقدير قادر حكيم، ركّب أبنيتهم، و عدّل أمزجتهم على قدر معلوم، و لو كان ذلك مقتضى الطبائع لم يبلغ التفاوت هذا المبلغ.

______________________________

(1) مجمع البيان 6: 372.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 586

[سورة النحل (16): آية 71]

وَ اللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ أَ فَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (71)

ثمّ عدّد سبحانه نعمة منه اخرى، فقال: وَ اللَّهُ فَضَّلَ بَعْضَكُمْ عَلى بَعْضٍ فِي الرِّزْقِ أي: جعلكم متفاوتين في الرزق، فمنكم غنيّ و منكم فقير، و منكم موال يتولّون رزقهم و رزق غيرهم، و منهم مماليك حالهم على خلاف ذلك، و هم بشر مثلكم و إخوانكم، فكان ينبغي أن تردّوا فضل ما رزقتموه عليهم حتّى تتساووا في الملبس و المطعم، كما

يحكى عن أبي ذرّ رضى اللّه عنه عنه أنّه سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «إنّما هم إخوانكم، فاكسوهم ممّا تلبسون، و أطعموهم ممّا تطعمون، فما رؤي عبده بعد ذلك إلّا و رداؤه رداؤه، و إزاره إزاره من غير تفاوت».

فَمَا الَّذِينَ فُضِّلُوا بِرَادِّي رِزْقِهِمْ بمعطي رزقهم عَلى ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ على مماليكهم، فإنّ ما يردّون عليهم رزقهم الّذي جعله اللّه في أيديهم فَهُمْ فِيهِ سَواءٌ فالموالي و المماليك سواء في أنّ اللّه رزقهم، فلا يحسبنّ الموالي أنّهم يردّون على مماليكهم من عندهم شيئا من الرزق، فإنّما ذلك رزقي أجريه إليهم على أيديهم. و هذه الجملة لازمة للجملة المنفيّة أو مقرّرة لها.

قيل: هذا مثل ضربه اللّه للّذين جعلوا له شركاء، فقال لهم: أنتم لا تسوّون بينكم و بين عبيدكم

فيما أنعمت عليكم، و لا تجعلونهم فيه شركاء، و لا ترضون ذلك لأنفسكم، فكيف رضيتم أن تجعلوا عبيدي لي شركاء؟! أَ فَبِنِعْمَةِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أ فبهذه النعم الّتي عدّدتها و اقتصصتها يجحد هؤلاء الكفّار، حيث يتّخذون له شركاء؟! فإنّه يقتضي أن يضاف إليهم بعض ما أنعم اللّه عليهم، و يجحدوا أنّه من عند اللّه. أو حيث أنكروا أمثال هذه الحجج بعد ما أنعم اللّه عليهم بإيضاحها. و الباء لتضمّن الجحود معنى الكفر. و قرأ أبو بكر: تجحدون بالتاء، لقوله: «خلقكم» و «فضّل بعضكم».

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 587

[سورة النحل (16): الآيات 72 الى 74]

وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ وَ حَفَدَةً وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ أَ فَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَتِ اللَّهِ هُمْ يَكْفُرُونَ (72) وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ شَيْئاً وَ لا يَسْتَطِيعُونَ (73) فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (74)

ثمّ عدّد سبحانه نعمة اخرى، فقال: وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً أي:

من جنسكم لتأنسوا بها، و لتكون أولادكم مثلكم. و قيل: هو خلق حوّاء من ضلع آدم.

وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَنِينَ تسرّون بهم و تزيّنون بهم وَ حَفَدَةً و أولاد أولاد أو بنات، فإنّ الحافد هو الّذي يحفد، أي: يسرع في الطاعة و في الخدمة، و البنات يخدمن في البيوت أتمّ خدمة. و قيل:

هم الأختان «1» على البنات. و هو مرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام،

و عن ابن مسعود. و قيل: الربائب. و يجوز أن يراد بها البنون أنفسهم. و العطف لتغاير الوصفين، كقوله: سَكَراً وَ رِزْقاً حَسَناً «2». فكأنّه قيل: و جعل لكم منهنّ أولادا

هم بنون و هم حافدون، أي:

جامعون بين الأمرين.

وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ من اللذائذ الّتي قد أباحها لكم. و «من» للتبعيض،

______________________________

(1) الأختان جمع الختن، و هو الصهر، أي: زوج الابنة.

(2) النحل: 67.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 588

لأنّ كلّ الطيّبات في الجنّة، و ما طيّبات الدّنيا إلّا أنموذج منها.

أَ فَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ و هو ما يعتقدون من منفعة الأصنام و بركتها و شفاعتها، و أنّ من الطيّبات ما يحرم عليهم، كالبحائر و السوائب وَ بِنِعْمَتِ اللَّهِ المشاهدة المعاينة الّتي لا شبهة فيها لذي عقل و تمييز أنّها من اللّه هُمْ يَكْفُرُونَ و ينكرون لها كما ينكر المحال الّذي لا يتصوّره العقل.

و قيل: الباطل ما يسوّل لهم الشيطان من تحريم البحائر و السوائب و غيرهما، و نعمة اللّه ما أحلّ لهم في السماوات و الأرض، فأضافوا نعمه إلى الأصنام، أو حرّموا ما أحلّ اللّه لهم.

و تقديم الصلة على الفعل إمّا للاهتمام، أو لإيهام التخصيص مبالغة، أو للمحافظة على الفواصل.

وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَمْلِكُ لَهُمْ رِزْقاً مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ شَيْئاً من مطر و نبات. و «رزقا» إن جعلته مصدرا ف «شيئا» منصوب به. و إن أردت المرزوق كان «شيئا» بدلا منه، بمعنى: قليلا منه. و «مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» صلة للرزق إن كان مصدرا، بمعنى: لا يرزق من السماوات مطرا، و لا من الأرض نباتا. أو صفة إن كان اسما لما يرزق.

وَ لا يَسْتَطِيعُونَ ليس فيه تقدير راجع، و إنّما المعنى: لا يملكون أن يرزقوا، و الاستطاعة منفيّة عنهم أصلا، لأنّهم موات. أو يقدّر الراجع، و يراد بالجمع بين نفي الملك و الاستطاعة التوكيد. أو يراد: أنّهم لا يملكون الرزق، و لا يمكنهم أن يملكوه، و لا

يتأتّى ذلك منهم. و على التقادير، لا يكون معنى قوله: «لا يملك» و «و لا يستطيعون» شيئا واحدا ليلزم التكرار. و جمع الضمير في «لا يستطيعون» و توحيده في «لا يملك»، لأنّ «ما» مفرد في معنى الآلهة.

و يجوز أن يعود إلى الكفّار، أي: و لا يستطيع هؤلاء- مع أنّهم أحياء متصرّفون-

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 589

شيئا من ذلك، فكيف بالجماد؟! فَلا تَضْرِبُوا لِلَّهِ الْأَمْثالَ فلا تجعلوا له مثلا تشركونه به أو تقيسونه عليه، فإنّ ضرب المثل تشبيه حال بحال إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ فساد ما تعوّلون عليه من القياس، على أنّ عبادة عبيد الملك أدخل في التعظيم من عبادته وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذلك، و لو علمتموه لما جرّأتم عليه. أو أنّ اللّه يعلم كنه ما تفعلون و عظمه، و هو معاقبكم عليه بما يوازيه في العظم، لأنّ العقاب على مقدار الإثم، و أنتم لا تعلمون كنهه و كنه عقابه، فذاك هو الّذي جرّكم إليه و جرّأكم عليه، فهو تعليل للنهي. أو أنّه يعلم كنه الأشياء و أنتم لا تعلمونه، فدعوا رأيكم دون نصّه.

و يجوز أن يراد: فلا تضربوا للّه الأمثال، فإنّه يعلم كيف تضرب الأمثال و أنتم لا تعلمون.

[سورة النحل (16): آية 75]

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ وَ مَنْ رَزَقْناهُ مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَ جَهْراً هَلْ يَسْتَوُونَ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (75)

ثمّ علّمهم كيف يضرب مثلا لنفسه و لمن عبد دونه، فقال: ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا بيّن اللّه تبيينا فيه بيان المقصود، تقريبا للخطاب إلى أفهامهم. ثمّ أبدل من المثل قوله: عَبْداً مَمْلُوكاً لا يَقْدِرُ من أمره عَلى شَيْ ءٍ وَ مَنْ رَزَقْناهُ و حرّا رزقناه و ملّكناه مالا و نعمة

مِنَّا رِزْقاً حَسَناً فَهُوَ يُنْفِقُ مِنْهُ سِرًّا وَ جَهْراً لا يخاف من أحد هَلْ يَسْتَوُونَ لم يقل: يستويان، لأنّه أراد بقوله: «وَ مَنْ رَزَقْناهُ» و قوله: «عَبْداً مَمْلُوكاً» الشيوع في الجنس لا التخصيص، فإنّ المعنى: هل يستوي

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 590

الأحرار و العبيد؟! و تقييد العبد بالمملوك للتمييز بينه و بين الحرّ، فإنّه أيضا عبد اللّه. و سلب القدرة عنه للتمييز عن المكاتب و المأذون. و جعله قسيما للمالك المتصرّف يدلّ على أنّ المملوك لا يملك. و «من» موصوفة، كأنّه قيل: و حرّا، ليطابق: عبدا. و لا يمتنع أن تكون موصولة.

مثّل ما يشرك به بالمملوك العاجز عن التصرّف رأسا، و مثّل نفسه بالحرّ المالك الّذي رزقه اللّه مالا كثيرا، فهو يتصرّف فيه و ينفق منه كيف يشاء. و احتجّ بامتناع الاشتراك و التسوية بينهما، مع تشاركهما في الجنسيّة و المخلوقيّة، على امتناع التسوية بين الأصنام الّتي هي أعجز المخلوقات، و بين اللّه الغنيّ القادر على الإطلاق.

و توضيح المعنى: أنّ الاثنين المتساويين في الخلق، إذا كان أحدهما مالكا قادرا على الإنفاق، و الآخر مملوكا لا يمكن أن يكون مالكا لشي ء مّا، لا يستويان، فكيف يستوي بين الحجارة الّتي لا تعقل بل لا تتحرّك، و بين اللّه القادر على كلّ شي ء، الخالق الرازق لجميع خلقه؟! و قيل: إنّ هذا المثل للكافر و المؤمن، فإنّ الكافر لا خير عنده، و المؤمن يكسب الخير. نبّه سبحانه بذلك على اختلاف حالهما، فدعا إلى حال المؤمن، و صرف عن حال الكافر.

و لمّا ذكر هذا المثال، و كان مثلا مطابقا للغرض، كاشفا عن المقصود، قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ الّذي دلّنا على توحيده و معرفته، و هدانا إلى شكر نعمته، و أوضح لنا

السبيل إلى جنّته. أو كلّ الحمد له، لا يستحقّه غيره، فضلا عن العبادة، لأنّه مولى النعم كلّها. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ فيضيفون نعمه إلى غيره، و يعبدونه لأجلها.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 591

[سورة النحل (16): آية 76]

وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ وَ هُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ أَيْنَما يُوَجِّهْهُ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ هَلْ يَسْتَوِي هُوَ وَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ هُوَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (76)

ثمّ ضرب سبحانه مثلا آخر، فقال: وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلَيْنِ أَحَدُهُما أَبْكَمُ ولد أخرس لا يفهم و لا يفهم لا يَقْدِرُ عَلى شَيْ ءٍ من الصنائع و التدابير، لنقصان عقله وَ هُوَ كَلٌّ عَلى مَوْلاهُ ثقل و عيال على من يلي أمره و يعوله أَيْنَما يُوَجِّهْهُ حيثما يرسله مولاه في طلب حاجة و مهمّ لا يَأْتِ بِخَيْرٍ بنجح و كفاية مهمّ.

هَلْ يَسْتَوِي هُوَ هذا الأبكم الموصوف بهذه الصفة وَ مَنْ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ و من هو فهم منطيق ذو كفاية و رشد، ينفع الناس بحثّهم على العدل الشامل لمجامع الفضائل وَ هُوَ في نفسه عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ على سيرة صالحة و دين قويم، لا يتوجّه إلى مطلب إلّا و يبلغه بأقرب سعي. و إنّما قابل تلك الصفات بهذين الوصفين، لأنّهما كمال ما يقابلهما.

و هذا تمثيل ثان ضربه اللّه لذاته المفيض رحمته و ألطافه و نعمه الدينيّة و الدنيويّة، و للأصنام الّتي هي أموات لا تضرّ و لا تنفع، لإبطال المشاركة بينه و بينها، أو للمؤمن و الكافر.

[سورة النحل (16): الآيات 77 الى 78]

وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلاَّ كَلَمْحِ الْبَصَرِ أَوْ هُوَ أَقْرَبُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (77) وَ اللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (78)

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 592

ثمّ وصف سبحانه نفسه مؤكّدا لما قدّم ذكره من أوصاف الكمال، فقال:

وَ لِلَّهِ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي: يختصّ به

علم ما غاب فيهما عن العباد و خفي عليهم. و قيل: يوم القيامة، فإنّ علمه غائب عن أهل السماوات و الأرض، و لم يطّلع عليه أحد منهم.

وَ ما أَمْرُ السَّاعَةِ و ما أمر قيام القيامة في سرعته و سهولته إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ إلّا كرجع الطرف من أعلى الحدقة إلى أسفلها أَوْ هُوَ أَقْرَبُ أو أمرها أقرب منه، بأن يكون في زمان نصف تلك الحركة، بل في الآن الّذي تبتدئ فيه، فإنّه تعالى يحيي الخلائق دفعة، و ما يوجد دفعة كان في آن. و «أو» للتخيير، أو بمعنى: بل.

و قيل: معناه: أنّ قيام الساعة و إن تراخى فهو عند اللّه كالشي ء الّذي تقولون فيه: هو كلمح البصر أو هو أقرب، مبالغة في استقرابه.

و وجه اتّصاله بما قبله: أنّ أمر القيامة من الأمور الغائبة، و من أعظمها و أهمّها، لما فيه من الثواب و العقاب، و الإنصاف و الانتصاف.

إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فيقدر على أن يقيم الساعة، و أن يحيي الخلائق دفعة، كما قدر أن أحياهم متدرّجا.

ثمّ دلّ على قدرته، فقال: وَ اللَّهُ أَخْرَجَكُمْ مِنْ بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ و قرأ الكسائي بكسر الهمزة على أنّه لغة، أو إتباع لما قبلها. و حمزة بكسرها و كسر الميم. و الهاء مزيدة، مثل: أراق و أهراق، و الأصل: أمّات. لا تَعْلَمُونَ شَيْئاً في موضع الحال، أي: غير عالمين شيئا من حقّ المنعم الّذي خلقكم في البطون، و سوّاكم و صوّركم،

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 593

ثمّ أخرجكم من الضيق إلى السعة، مستصحبين جهل الجماديّة. و يجوز أن يكون «شيئا» مصدرا، أي: لا تعلمون علما.

وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ و ركّب فيكم هذه الآلات و الأدوات لإزالة الجهل الّذي

ولدتم عليه، و اجتلاب العلم و العمل به، من معرفة المنعم و عبادته، و القيام بحقوقه، و الترقّي إلى ما يسعدكم، فإنّكم أوّلا تحسّون بمشاعركم جزئيّات الأشياء فتدركونها، ثمّ تتنبّهون بقلوبكم لمشاركات و مباينات بينها، بتكرّر الإحساس حتّى تتحصّل لكم العلوم البديهيّة، و تتمكّنوا من تحصيل المعالم الكسبيّة بالنظر فيها.

لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ كي تعرفوا ما أنعم اللّه عليكم طورا بعد طور فتشكروه.

و الأفئدة جمع الفؤاد، كالأغربة في غراب. و هي من جموع القلّة الّتي جرت مجرى جموع الكثرة.

[سورة النحل (16): آية 79]

أَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ مُسَخَّراتٍ فِي جَوِّ السَّماءِ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ اللَّهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (79)

ثمّ عطف سبحانه على ما تقدّم من الدلائل بدلالة اخرى، فقال: أَ لَمْ يَرَوْا ينظروا و يتفكّروا إِلَى الطَّيْرِ قرأ ابن عامر و حمزة و يعقوب بالتاء، على أنّه خطاب للعامّة مُسَخَّراتٍ مذلّلات للطيران صاعدة و منحدرة، ذاهبة و جائية، بما خلق لها من الأجنحة و الأسباب المؤاتية لذلك فِي جَوِّ السَّماءِ في الهواء المتباعد من الأرض في سمت العلوّ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلَّا اللَّهُ فإنّ ثقل جسدها يقتضي سقوطها، و لا علاقة فوقها، و لا دعامة تحتها تمسكها.

إِنَّ فِي ذلِكَ في تسخير الطير للطيران، بأنّ خلقها خلقة يمكن معها الطيران، و خلق الجوّ بحيث يمكن الطيران فيه، و إمساكها في الهواء على خلاف

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 594

طبعها لَآياتٍ على وحدانيّته و كمال قدرته لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لأنّهم هم المنتفعون بها.

[سورة النحل (16): الآيات 80 الى 82]

وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً تَسْتَخِفُّونَها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وَ يَوْمَ إِقامَتِكُمْ وَ مِنْ أَصْوافِها وَ أَوْبارِها وَ أَشْعارِها أَثاثاً وَ مَتاعاً إِلى حِينٍ (80) وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ ظِلالاً وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ تَقِيكُمُ الْحَرَّ وَ سَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ كَذلِكَ يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ (81) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (82)

ثمّ عدّد سبحانه نعما أخر، فقال: وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ بُيُوتِكُمْ سَكَناً موضعا تسكنون فيه وقت إقامتكم، ممّا يتّخذ من الحجر و المدر. فعل بمعنى مفعول. و ذلك بأن خلق سبحانه الخشب و المدر، و الآلة الّتي يمكن بها تسقيف البيوت و بناؤها.

وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ

جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً هي القباب و الأبنية المتّخذة من الأدم و الأنطاع. و يجوز أن يتناول المتّخذة من الوبر و الصوف و الشعر، فإنّها من حيث إنّها نابتة على جلودها يصدق عليها أنّها من جلودها. تَسْتَخِفُّونَها تجدونها خفيفة، يخفّ عليكم حملها و نقضها و نقلها يَوْمَ ظَعْنِكُمْ وقت ترحالكم من بلد إلى آخر وَ يَوْمَ إِقامَتِكُمْ وقت الحضر، أو النزول. و اليوم بمعنى الوقت، يعني: يخفّ عليكم في أوقات السفر و الحضر جميعا. و قرأ الحجازيّان و البصريّان: يوم ظعنكم

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 595

بالفتح. و هو لغة.

وَ مِنْ أَصْوافِها وَ أَوْبارِها وَ أَشْعارِها الصوف للضأن، و الوبر للإبل، و الشعر للمعز. و إضافتها إلى ضمير الأنعام لأنّها من جملتها. أَثاثاً ما يلبس و يفرش وَ مَتاعاً ما يتّجر به إِلى حِينٍ إلى وقت أن يبلى و يفنى، أو إلى حين مماتكم، أو إلى أن تقضوا منه أوطاركم.

وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمْ مِمَّا خَلَقَ من الشجر و الجبل و الأبنية و غيرها ظِلالًا تتّقون بها من حرّ الشمس وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْجِبالِ أَكْناناً مواضع تسكنون بها، من الكهوف و البيوت المنحوتة فيها. جمع كنّ.

وَ جَعَلَ لَكُمْ سَرابِيلَ قمصانا و ثيابا من الصوف و الكتّان و القطن و غيرها تَقِيكُمُ الْحَرَّ خصّه بالذكر اكتفاء بأحد الضدّين، أو لأنّ وقاية الحرّ كانت أهمّ عندهم، و قلّما يهمّهم البرد، لأنّهم أهل حرّ في بلادهم، محتاجون إلى ما يقي الحرّ أكثر وَ سَرابِيلَ تَقِيكُمْ بَأْسَكُمْ يعني: الدروع و الجواشن «1». و السربال يعمّ كلّ ما يلبس من حديد و غيره.

كَذلِكَ كإتمام هذه النعم الّتي تقدّمت يُتِمُّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكُمْ يريد نعمة الدنيا، لقوله: لَعَلَّكُمْ تُسْلِمُونَ أي: تنظرون في نعمه فتؤمنون

به، و تنقادون لحكمه. و قال ابن عبّاس: معناه: لعلّكم يا أهل مكّة تعلمون أنّه لا يقدر على هذا غيره، فتوحّدوه و تصدّقوا رسوله.

فَإِنْ تَوَلَّوْا أعرضوا عن الإيمان، و لم يقبلوه منك فَإِنَّما عَلَيْكَ الْبَلاغُ الْمُبِينُ تبليغ ما أرسلت به، و قد بلّغت. فذكر سبب العذر- و هو البلاغ- ليدلّ على المسبّب، فهو من إقامة السبب مقام المسبّب. و هذا تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

______________________________

(1) الجوشن: الصدر و الدرع، و جمعه: جواشن.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 596

[سورة النحل (16): الآيات 83 الى 85]

يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ ثُمَّ يُنْكِرُونَها وَ أَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ (83) وَ يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (84) وَ إِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (85)

ثمّ أخبر عن حال الكفرة، فقال: يَعْرِفُونَ نِعْمَتَ اللَّهِ أي: يعرف المشركون نعمته الّتي عدّدها عليهم و غيرها، حيث يعترفون بها و بأنّها من اللّه ثُمَّ يُنْكِرُونَها بعبادتهم غير المنعم بها، و قولهم: هي من اللّه و لكنّها بشفاعة آلهتنا، أو بسبب قولهم:

ورثناها من آبائنا، أو قولهم: لولا فلان ما أصبت كذا، أو بإعراضهم عن أداء حقوقها. و قيل: نعمة اللّه نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، عرفوها بالمعجزات، ثمّ أنكروها عنادا.

وَ أَكْثَرُهُمُ الْكافِرُونَ و ذكر الأكثر إمّا لأنّ بعضهم لم يعرف الحقّ، لنقصان العقل، أو التفريط في النظر، أو لم تقم عليه الحجّة، لأنّه لم يبلغ حدّ التكليف. و إمّا لأنّه يقام مقام الكلّ، كما في قوله: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ «1».

و في هذه الآية دلالة على فساد قول المجبّرة: أنّه ليس للّه سبحانه على الكافر نعمة، و أنّ جميع ما فعله

بهم إنّما هو خذلان و نقمة، لأنّه سبحانه نصّ في هذه الآية على خلاف قولهم.

وَ يَوْمَ نَبْعَثُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً و هو نبيّها، يشهد لهم و عليهم بالإيمان و التصديق، و الكفر و التكذيب. و المعنى: لا حجّة لهم و لا عذر. و كذا العدول من كلّ عصر يشهدون على الناس بأعمالهم. و

قال الصادق عليه السّلام: «لكلّ زمان و أمّة إمام، تبعث كلّ أمّة مع إمامها».

______________________________

(1) النحل: 75.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 597

و فائدة بعث الشهداء مع علم اللّه سبحانه بذلك: أنّ ذلك أهول في النفس، و أشدّ في الفضيحة، إذا قامت الشهادة بحضرة الملأ، مع جلالة الشهود و عدالتهم عند اللّه تعالى، لأنّهم إذا علموا أنّ العدول عند اللّه يشهدون عليهم بين يدي الخلائق، فإنّ ذلك يكون زجرا لهم عن المعاصي.

ثُمَّ لا يُؤْذَنُ لِلَّذِينَ كَفَرُوا في الاعتذار، إذ لا عذر لهم صحيح. و قيل: في الرجوع إلى الدنيا. و «ثمّ» لزيادة ما يحيق بهم من شدّة المنع عن الاعتذار، لما فيه من الإقناط الكلّي على ما يمنون «1» به من شهادة الأنبياء عليهم السّلام. و المعنى: لا حجّة لهم، فدلّ بترك الإذن على أنّ لا حجّة لهم و لا عذر. وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ و لا هم يسترضون، من العتبى، و هي الرضا، أي: لا يقال لهم: أرضوا ربّكم، لأنّ الآخرة ليست بدار عمل.

و انتصاب «يوم» بمحذوف تقديره: اذكر، أو خوّفهم، أو يحيق بهم ما يحيق. و كذا قوله: وَ إِذا رَأَى الَّذِينَ ظَلَمُوا الْعَذابَ أي: عذاب جهنّم فَلا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ أي: العذاب وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ يمهلون.

[سورة النحل (16): الآيات 86 الى 88]

وَ إِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا مِنْ دُونِكَ فَأَلْقَوْا

إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ (86) وَ أَلْقَوْا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (87) الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ زِدْناهُمْ عَذاباً فَوْقَ الْعَذابِ بِما كانُوا يُفْسِدُونَ (88)

ثمّ أبان سبحانه عن حال المشركين يوم القيامة، فقال: وَ إِذا رَأَى الَّذِينَ أَشْرَكُوا شُرَكاءَهُمْ

______________________________

(1) أي: يبتلون و يختبرون، يقال: مناه الله بكذا، أي: ابتلاه.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 598

أوثانهم الّتي دعوها شركاء، أو الشياطين الّذين شاركوهم في الكفر بالحمل عليه قالُوا رَبَّنا هؤُلاءِ شُرَكاؤُنَا الَّذِينَ كُنَّا نَدْعُوا في أنّهم شركاء للّه مِنْ دُونِكَ نعبدهم أو نطيعهم. و هو اعتراف بأنّهم كانوا مخطئين في ذلك، أو التماس لأن يشطّر عذابهم.

فَأَلْقَوْا إِلَيْهِمُ الْقَوْلَ إلقاء المعنى إلى النفس إظهاره لها حتى تدركه متميّزا عن غيره، أي: فقالت الأصنام و سائر ما كانوا يعبدون من دون اللّه، بإنطاق اللّه إيّاهم لهؤلاء إِنَّكُمْ لَكاذِبُونَ يعني: أجابوهم بالتكذيب في أنّهم شركاء اللّه. أو أنّهم ما عبدوهم حقيقة، و إنّما عبدوا أهواءهم، كقوله: كَلَّا سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ «1». أو في أنّهم حملوهم على الكفر و ألزموهم إيّاه، كقوله: وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي «2».

وَ أَلْقَوْا و ألقى الّذين ظلموا إِلَى اللَّهِ يَوْمَئِذٍ السَّلَمَ الاستسلام لأمره و حكمه بعد الإباء و الاستكبار في الدنيا وَ ضَلَّ عَنْهُمْ و ضاع عنهم و بطل ما كانُوا يَفْتَرُونَ من أنّ للّه شركاء، و أنّهم ينصرونهم و يشفعون لهم حين كذّبوهم و تبرّؤا منهم.

الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ و منعوا الناس عن الإسلام، و حملوهم على الكفر زِدْناهُمْ عَذاباً أي: عذّبناهم على صدّهم عن دين اللّه فَوْقَ الْعَذابِ المستحقّ بكفرهم، أي: زيادة على عذاب الكفرة بِما

كانُوا يُفْسِدُونَ بكونهم مفسدين الناس بصدّهم عن سبيل اللّه.

عن سعيد بن جبير: زيادة عذابهم حيّات أمثال البخت و الفيلة، و عقارب

______________________________

(1) مريم: 82.

(2) إبراهيم: 22.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 599

أمثال البغال الدلم «1»، تلسع إحداهنّ اللسعة فيجد صاحبها حمتها أربعين خريفا.

و عن ابن مسعود: زيادة عذابهم الأفاعي و العقارب في النار، لها أنياب كالنخل الطوال.

و عن ابن عبّاس: هي أنهار من صفر مذاب كالنار يعذّبون بها. و قيل:

يخرجون من النار إلى الزمهرير، فيبادرون من شدّة برده إلى النار.

[سورة النحل (16): آية 89]

وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ جِئْنا بِكَ شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ تِبْياناً لِكُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (89)

وَ يَوْمَ نَبْعَثُ فِي كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً عَلَيْهِمْ مِنْ أَنْفُسِهِمْ يعني: نبيّهم الّذي أرسل إليهم، أو الحجّة الّذي هو إمام عصرهم وَ جِئْنا بِكَ يا محمّد شَهِيداً عَلى هؤُلاءِ على أمّتك. و إنّما أفرده بالذكر تشريفا له.

وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ استئناف أو حال بإضمار «قد». تِبْياناً بيانا بليغا لِكُلِّ شَيْ ءٍ من أمور الدين على التفصيل أو الإجمال، فإنّه ما من شي ء إلّا و قد بيّن في القرآن، إمّا بالنصّ عليه، أو بالإحالة على ما يوجب العلم، من بيان النبيّ و الحجج القائمين مقامه، أو إجماع الأمّة، أو القياس المنصوص العلّة، فحكم الجميع مستفاد من القرآن.

وَ هُدىً و دلالة إلى الرشد وَ رَحْمَةً و نعمة للجميع، لما فيه من الشرائع و الأحكام، و إنّما حرمان المحروم من تفريطه وَ بُشْرى و بشارة بالثواب الدائم

______________________________

(1) أي: السود، جمع الأدلم، و هو الطويل الأسود.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 600

و النعيم المقيم لِلْمُسْلِمِينَ خاصّة.

[سورة النحل (16): آية 90]

زبدة التفاسير ج 4 5

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ الْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (90)

إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ بالتوسّط في الأمور اعتقادا، كالتوحيد المتوسّط بين التعطيل و التشريك، و عملا كالتعبّد بأداء الواجبات المتوسّط بين البطالة و الترهّب، و خلقا كالجود المتوسّط بين البخل و التبذير.

وَ الْإِحْسانِ إحسان الطاعات. و هو إمّا بحسب الكمّيّة كالتطوّع بالنوافل، أو بحسب الكيفيّة، كما

قال عليه السّلام: «الإحسان أن تعبد اللّه كأنّك تراه، فإن لم تكن تراه فإنّه يراك».

و

قيل: العدل أن تنصف و تنتصف، و الإحسان أن تنصف و لا تنتصف.

و قيل: العدل في الأفعال، و الإحسان في الأقوال، فلا يفعل إلّا ما هو عدل، و لا يقول إلّا ما هو حسن. و عن ابن عبّاس: العدل التوحيد، و الإحسان أداء الفرائض.

وَ إِيتاءِ ذِي الْقُرْبى و إعطاء الأقارب ما يحتاجون إليه. و هو تخصيص بعد تعميم للمبالغة. و قيل: المراد بذي القربى قرابة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الّذين أرادهم اللّه بقوله:

فَأَنَّ لِلَّهِ خُمُسَهُ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى «1».

و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام، فإنّه قال: نحن هم.

وَ يَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ عن الإفراط في متابعة القوّة الشهويّة كالزنا، فإنّه أقبح أحوال الإنسان و أشنعها وَ الْمُنْكَرِ ما ينكر على متعاطيه في إثارة القوّة الغضبيّة وَ الْبَغْيِ و الاستعلاء و الاستيلاء على الناس، و طلب التطاول بالظلم و التجبّر عليهم، فإنّها الشيطنة الّتي هي مقتضى القوّة الوهميّة. و لا يوجد من الإنسان

______________________________

(1) الأنفال: 41.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 601

شرّ إلّا و هو مندرج في هذه الأقسام، صادر بتوسّط إحدى هذه القوى الثلاث.

و لذلك قال ابن مسعود: هي أجمع آية في القرآن للخير و الشرّ، و لو لم يكن في القرآن غير هذه الآية لصدق عليه أنّه تبيان لكلّ شي ء و هدى و رحمة للعالمين.

و لعلّ إيرادها عقيب قوله: «وَ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ» للتنبيه عليه.

يَعِظُكُمْ بالأمر و النهي، و التمييز بين الخير و الشرّ، و سائر ما تضمّنت هذه الآية من مكارم الأخلاق لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ تتّعظون.

قال في الكشّاف: «حين أسقطت من الخطب لعنة الملاعين على أمير المؤمنين عليّ صلوات اللّه عليه أقيمت هذه الآية مقامها، و لعمري إنّها كانت

فاحشة و منكرا و بغيا، ضاعف اللّه لمن سنّها غضبا و نكالا و خزيا، إجابة

لدعوة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «و عاد من عاداه، و اخذل من خذله» «1».

و

جاءت الرواية أنّ عثمان بن مظعون قال: كنت أسلمت استحياء من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لكثرة ما كان يعرض عليّ الإسلام و لم يقرّ في قلبي. و كنت ذات يوم عنده فشخص بصره نحو السماء، كأنّه يستفهم شيئا، فلمّا سرى عنه سألته عن حاله. فقال: نعم، بينا أنا أحدّثك إذ رأيت جبرئيل في الهواء فأتاني بهذه الآية: «إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَ الْإِحْسانِ»، و قرأها عليّ إلى آخرها.

فقرّ الإسلام في قلبي، و أتيت عمّه أبا طالب فأخبرته، فقال: يا آل قريش اتّبعوا محمّدا ترشدوا، فإنّه لا يأمركم إلّا بمكارم الأخلاق.

و أتيت الوليد بن المغيرة و قرأت عليه هذه الآية، فقال: إن كان محمّد قاله فنعم ما قال، و إن قاله ربّه فنعم ما قال. قال: فأنزل اللّه: أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى وَ أَعْطى قَلِيلًا وَ أَكْدى «2». يعني: قوله: فنعم ما قال. و معنى قوله: «و أكدى» أنّه لم يقم على ما قاله و قطعه.

______________________________

(1) الكشّاف 2: 629.

(2) النجم: 33- 34.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 602

و

عن عكرمة قال: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قرأ هذه الآية على الوليد بن المغيرة. فقال:

يا ابن أخي أعد. فأعاد، فقال: إنّ له لحلاوة، و إنّ عليه لطلاوة، و إن أعلاه لمثمر، و إنّ أسفله لمغدق، و ما هو قول البشر.

[سورة النحل (16): الآيات 91 الى 93]

وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ وَ لا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ بَعْدَ تَوْكِيدِها وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلاً إِنَّ اللَّهَ

يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (91) وَ لا تَكُونُوا كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ أَنْكاثاً تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ هِيَ أَرْبى مِنْ أُمَّةٍ إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ وَ لَيُبَيِّنَنَّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (92) وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (93)

و لمّا تقدّم الأمر بالعدل و الإحسان، و النهي عن المنكر و العدوان، عقّبه سبحانه بالأمر بالوفاء بالعهد، و النهي عن نقض الأيمان، فقال: وَ أَوْفُوا بِعَهْدِ اللَّهِ إِذا عاهَدْتُمْ يعني: البيعة لرسول اللّه على الإسلام، لقوله: إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ «1».

و قيل: العهد كلّ أمر يجب الوفاء به. و هو الّذي يحسن فعله، و عاهد اللّه ليفعلنّه، فإنّه يصير واجبا عليكم، كالنذر و شبهه.

وَ لا تَنْقُضُوا الْأَيْمانَ أيمان البيعة، أو مطلق الأيمان بَعْدَ تَوْكِيدِها

______________________________

(1) الفتح: 10.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 603

توثيقها بذكر اللّه. و منه: أكّد، بقلب الواو همزة. وَ قَدْ جَعَلْتُمُ اللَّهَ عَلَيْكُمْ كَفِيلًا شاهدا بتلك البيعة، فإنّ الكفيل مراع لحال المكفول به، رقيب عليه إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ من نقض الأيمان و العهود و الوفاء.

وَ لا تَكُونُوا في نقض الأيمان كَالَّتِي نَقَضَتْ غَزْلَها ما غزلته، مصدر بمعنى المفعول مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ متعلّق ب «نقضت» أي: نقضت غزلها من بعد إبرام و إحكام أَنْكاثاً طاقات نكث فتلها، جمع نكث. و انتصابه على الحال من «غزلها»، أو المفعول الثاني ل «نقضت»، فإنّه بمعنى: صيّرت. و المراد به تشبيه الناقض بمن هذا شأنه، و هو من ينكث فتله.

قيل: هي ريطة بنت سعد بن تيم القرشيّة، فإنّها كانت حمقاء خرقاء «1»، اتّخذت مغزلا قدر

ذراع، و صنّارة «2» مثل أصبع، و فلكة عظيمة على قدرها، فكانت تغزل مع جواريها إلى انتصاف النهار، ثمّ تأمرهنّ فينقضن ما غزلن.

تَتَّخِذُونَ أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ حال من الضمير في «و لا تكونوا»، أو من الجارّ الواقع موقع الخبر، أي: و لا تكونوا متشبّهين بامرأة هذا شأنها، متّخذي أيمانكم دخلا، أي: مفسدة و خيانة و غدرا بينكم. و أصل الدخل ما يدخل الشي ء و لم يكن منه.

أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ لأجل أن تكونوا، أو بسبب أن تكونوا جماعة هِيَ أَرْبى أي: أزيد عددا و أوفر مالا مِنْ أُمَّةٍ من جماعة حلفتم له. و المعنى: لا تغدروا بقوم لكثرتكم و قلّتهم، أو لكثرة منابذتهم و قوّتهم كقريش، فإنّهم كانوا إذا رأوا شوكة في أعادي حلفائهم نقضوا عهدهم، و حالفوا أعداءهم.

إِنَّما يَبْلُوكُمُ اللَّهُ بِهِ الضمير ل «أَنْ تَكُونَ أُمَّةٌ» لأنّه بمعنى المصدر، أي:

______________________________

(1) مؤنّث الأخرق، و هو الأحمق الذي لم يحسن عمله.

(2) الصفّارة: الحديدة المعقّفة في رأس المغزل. و منها الصنّارة التي تستعملها النساء لحياكة قمصان الصوف و غيرها.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 604

يختبركم بكونهم أربى لينظر أ تتمسّكون بحبل الوفاء بعهد اللّه و بيعة رسوله، أم تغترّون بكثرة قريش و شوكتهم، و قلّة المؤمنين و ضعفهم؟ و قيل: الضمير ل «أربى».

و قيل: للأمر بالوفاء. و تحقيقه أنّه يعاملكم معاملة المختبر ليميّز المحقّ من المبطل ليقع الجزاء بحسب العمل.

و لمّا كان بناء الإثابة و التعذيب على التكليف الّذي مداره الاختيار لا الإجبار، قال بعد ذلك: وَ لَيُبَيِّنَنَ و ليظهرنّ لَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ ما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ إذا جازاكم على أعمالكم بالثواب و العقاب.

وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَكُمْ أُمَّةً واحِدَةً متّفقة على الإسلام قسرا و جبرا وَ لكِنْ يُضِلُّ مَنْ

يَشاءُ يخذله في الضلالة و يخلّيه فيها، لعلمه بفرط كفره، و انهماكه في عناده، و توغّله في إنكاره، مع وضوح طريق الحقّ لديه وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ يوفّقه طريق الاهتداء، لعلمه باسترشاده و استصوابه، فإنّه بنى الأمر على الاختيار، و على ما يستحقّ به اللطف و الخذلان و الثواب و العقاب، و لم يبنه على الإجبار، و حقّق ذلك بقوله: وَ لَتُسْئَلُنَّ عَمَّا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ سؤال تبكيت و مجازاة.

[سورة النحل (16): الآيات 94 الى 96]

وَ لا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلاً بَيْنَكُمْ فَتَزِلَّ قَدَمٌ بَعْدَ ثُبُوتِها وَ تَذُوقُوا السُّوءَ بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ لَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (94) وَ لا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ ثَمَناً قَلِيلاً إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (95) ما عِنْدَكُمْ يَنْفَدُ وَ ما عِنْدَ اللَّهِ باقٍ وَ لَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (96)

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 605

ثمّ صرّح بالنهي عن نقض العهد بعد التضمين، تأكيدا و مبالغة في قبح المنهيّ، فقال: وَ لا تَتَّخِذُوا أَيْمانَكُمْ دَخَلًا بَيْنَكُمْ أي: خيانة و خديعة كما مرّ. فَتَزِلَّ قَدَمٌ عن محجّة الإسلام بَعْدَ ثُبُوتِها عليها. و المراد أقدامهم. و إنّما وحّد و نكّر للدلالة على أنّ زلل قدم واحدة عظيم، فكيف بأقدام كثيرة؟! وَ تَذُوقُوا السُّوءَ العذاب في الدنيا بِما صَدَدْتُمْ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بسبب صدودكم عن الوفاء، فإنّ من نقض البيعة و ارتدّ جعل ذلك سنّة لغيره وَ لَكُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ في الآخرة.

روي عن سلمان الفارسي أنّه قال: تهلك هذه الأمّة بنقض مواثيقها.

و

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «نزلت هذه الآيات في ولاية عليّ عليه السّلام، و ما كان من قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: سلّموا

على عليّ بإمرة المؤمنين».

وَ لا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ و لا تستبدلوا عهد اللّه و بيعة رسوله ثَمَناً قَلِيلًا عرضا يسيرا من الدنيا، و هو ما كانت قريش يعدون لضعفاء المسلمين و يمنّونهم و يشترطون لهم على الارتداد إِنَّما عِنْدَ اللَّهِ من النصر و التغنيم في الدنيا، و الثواب في الآخرة هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ ممّا يعدونكم إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ أي: كنتم من أهل العلم و التمييز.

ما عِنْدَكُمْ من أعراض الدنيا يَنْفَدُ ينقضي و يفنى وَ ما عِنْدَ اللَّهِ من خزائن رحمته باقٍ لا ينفد. و هو تعليل للحكم السابق، و دليل على أنّ نعيم أهل الجنّة باق.

وَ لَنَجْزِيَنَّ الَّذِينَ صَبَرُوا أَجْرَهُمْ على الفاقة و أذى المشركين، أو على مشاقّ التكاليف. و قرأ ابن كثير و عاصم بالنون. بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ بما يرجّح فعله من أعمالهم، كالواجبات و المندوبات. أو بجزاء أحسن من أعمالهم.

[سورة النحل (16): آية 97]

مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (97)

روي عن ابن عبّاس: أنّ رجلا من حضر موت يقال له عبدان الأشرع قال: يا

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 606

رسول اللّه إنّ امرء القيس الكندي جاورني في أرضي فاقتطع من أرضي، فذهب بها منّي، و القوم يعلمون أنّي لصادق، و لكنّه أكرم عليهم منّي.

فسأل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم امرء القيس عنه. فقال: لا أدري ما يقول. فأمره أن يحلف.

فقال عبدان: إنّه فاجر لا يبالي أن يحلف.

فقال: إن لم يكن لك شهود فخذ بيمينه.

فلمّا قام ليحلف أنظره، فانصرفا، فنزل قوله: «وَ لا تَشْتَرُوا بِعَهْدِ اللَّهِ» الآيتان.

فلمّا قرأهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال امرؤ القيس:

أمّا ما عندي فينفد، و هو صادق فيما يقول، لقد اقتطعت أرضه، و لم أدركم هي، فليأخذ من أرضي ما شاء، و مثلها معها بما أكلت من ثمرها.

فنزل فيه: مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى بيّنه بالنوعين دفعا للتخصيص وَ هُوَ مُؤْمِنٌ إذ لا اعتداد بأعمال الكفرة في استحقاق الثواب فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً في الدنيا يعيش عيشا طيّبا، فإنّه إن كان موسرا فظاهر، و إن كان معسرا يطيب عيشه بالقناعة و الرضا بالقسمة، و توقّع الأجر العظيم في الآخرة، بخلاف الكافر، فإنّه إن كان معسرا فظاهر، و إن كان موسرا لم يدعه الحرص و خوف الفوات أن يتهنّأ بعيشه.

و عن ابن عبّاس: الحياة الطيّبة الرزق الحلال. و عن قتادة: يعني بها في الآخرة. و قيل: هي حلاوة الطاعة و التوفيق في قلبه.

وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من الطاعة، كقوله: فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ الدُّنْيا وَ حُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ «1».

______________________________

(1) آل عمران: 148.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 607

[سورة النحل (16): الآيات 98 الى 100]

فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ (98) إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (99) إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ وَ الَّذِينَ هُمْ بِهِ مُشْرِكُونَ (100)

و لمّا كان الشيطان يوسوس العباد في ترك الطاعة و الإقدام على المعصية، و كلّما كانت العبادة أعظم كان الشيطان في وسوسته أجهد، و معظم العبادة تلاوة القرآن، كما

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أفضل عبادة أمّتي تلاوة القرآن»،

عقّب ذكر العمل الصالح بالاستعاذة من الشيطان عند تلاوته، ليأمن من وسوسته في طاعته، فقال:

فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ أي: إذا أردت قراءته. و التعبير عن إرادة الفعل بلفظ الفعل من قبيل تسمية السبب باسم المسبّب، فإنّ

الفعل يوجد عند القصد و الإرادة بغير فاصل و على حسبه، فكان منه بسبب قويّ و ملابسة ظاهرة، كقوله: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ «1».

فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ مِنَ الشَّيْطانِ الرَّجِيمِ فاسأل اللّه أن يعيذك من وساوسه، لئلّا يوسوسك في القراءة. و الاستعاذة استدفاع الأدنى بالأعلى على وجه الخضوع.

و هي عند التلاوة مستحبّة غير واجبة بلا خلاف، في الصلاة و خارج الصلاة.

و

عن ابن مسعود: «قرأت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقلت: أعوذ بالسميع العليم من الشيطان الرجيم. فقال: قل: أعوذ باللّه من الشيطان الرجيم، هكذا أقرأنيه جبرئيل عليه السّلام عن القلم عن اللوح المحفوظ».

إِنَّهُ لَيْسَ لَهُ سُلْطانٌ تسلّط و ولاية عَلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ

______________________________

(1) المائدة: 6.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 608

أي: على أولياء اللّه المؤمنين به و المتوكّلين عليه، فإنّهم لا يطيعون أوامره، و لا يقبلون وساوسه، إلّا فيما يحتقرون على ندور و غفلة، و لذلك أمروا بالاستعاذة. فذكر نفي السلطنة بعد الأمر بالاستعاذة، لئلّا يتوهّم أنّ له سلطانا.

إِنَّما سُلْطانُهُ عَلَى الَّذِينَ يَتَوَلَّوْنَهُ يحبّونه و يطيعونه في إغوائه وَ الَّذِينَ هُمْ بِهِ باللّه، أو بسبب الشيطان مُشْرِكُونَ

[سورة النحل (16): الآيات 101 الى 103]

وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ قالُوا إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (101) قُلْ نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِّ لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ (102) وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ لِسانُ الَّذِي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وَ هذا لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ (103)

ثمّ قال مخبرا عن إسناد الكفّار الافتراء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالنسبة إلى القرآن، فقال: وَ إِذا بَدَّلْنا آيَةً مَكانَ آيَةٍ بالنسخ،

فجعلنا الآية الناسخة مكان المنسوخة لفظا أو حكما وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُنَزِّلُ من المصالح، فلعلّ ما يكون مصلحة في وقت يصير مفسدة بعده فينسخه اللّه، و ما لا يكون مصلحة حينئذ يكون مصلحة الآن فيثبته مكانه. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو: ينزل بالتخفيف.

و هذا اعتراض لتوبيخ الكفّار على قولهم، و التنبيه على فساد سندهم، واقع بين الشرط و بين جوابه، و هو قوله: قالُوا أي: الكفرة إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ متقوّل على اللّه، تأمر بشي ء ثمّ يبدو لك فتنهى عنه.

و روي عن ابن عبّاس: أنّهم كانوا يقولون إنّ محمّدا يسخر من أصحابه، يأمرهم اليوم بأمر و ينهاهم عنه غدا فيأتيهم بما هو أهون. و لقد افتروا، فقد كان

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 609

ينسخ الأشقّ بالأهون، و الأهون بالأشقّ، و الأهون بالأهون، و الأشقّ بالأشقّ، لأنّ الغرض المصلحة لا الهوان و المشقّة.

بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ حكمة الأحكام، و لا يميّزون الخطأ من الصواب.

قُلْ ردّا لقولهم: نَزَّلَهُ رُوحُ الْقُدُسِ يعني: جبرئيل. و إضافة الروح إلى القدس- و هو الطهر- كقولهم: حاتم الجود و زيد الخير. و المراد الروح المقدّس، أي: المطهّر من المآثم. و قرأ ابن كثير: روح القدس بالتخفيف. و في «ينزّل» و «نزّله» تنبيه على أنّ إنزاله مدرّجا على حسب المصالح إنّما يقتضي التبديل. مِنْ رَبِّكَ بِالْحَقِ ملتبسا بالحكمة.

لِيُثَبِّتَ الَّذِينَ آمَنُوا على الإيمان بأنّه كلامه، فإنّهم إذا سمعوا الناسخ و تدبّروا ما فيه من رعاية الصلاح و الحكمة، رسخت عقائدهم، و اطمأنّت قلوبهم.

و معنى تثبيته: استدعاؤه لهم بألطافه و معونته إلى الثبات على الإيمان.

وَ هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُسْلِمِينَ المنقادين لحكمه. و هما معطوفان على محلّ «ليثبّت» أي: تثبيتا و هداية و بشارة. و

فيه تعريض بحصول أضداد ذلك لغيرهم.

وَ لَقَدْ نَعْلَمُ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ يعنون جبر الرومي غلام عامر بن الحضرمي. و قيل: عبدان: جبر و يسار، كانا يصنعان السيوف بمكّة، و يقران التوراة و الإنجيل، و كان الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يمرّ عليهما و يسمع ما يقرءانه. و قيل: عائشا أو يعيش غلام حويطب بن عبد العزّى، و قد أسلم و حسن إسلامه، و كان صاحب كتب. و قيل: سلمان الفارسي، قالوا: يتعلّم القصص منه. و عن ابن عبّاس: قالت قريش: إنّما يعلّمه بلعام، و كان قينا «1» بمكّة روميّا نصرانيّا.

ثمّ ألزمهم اللّه تعالى الحجّة و أكذبهم بأن قال: لِسانُ الَّذِي أي: لغة الرجل الّذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ يميلون قولهم عن الاستقامة إليه أَعْجَمِيٌ أعجميّة عبريّة وَ هذا القرآن لِسانٌ عَرَبِيٌّ مُبِينٌ ذو بيان و فصاحة.

______________________________

(1) القين: العبد و الحدّاد.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 610

و قرأ حمزة و الكسائي: يلحدون بفتح الياء و الحاء. يقال: ألحد القبر و لحّده و هو ملحد و ملحود، إذا أمال حفره عن الاستقامة، فحفر في شقّ منه. ثمّ استعير لكلّ إمالة عن استقامة، فقالوا: ألحد فلان في قوله، و ألحد في دينه. و منه الملحد، لأنّه أمال مذهبه عن الأديان كلّها، لم يمله عن دين إلى دين.

و الجملتان مستأنفتان لإبطال طعنهم. و تقريره من وجهين:

أحدهما: أنّ ما سمعه منه كلام أعجميّ لا يفهمه هو و لا أنتم، و القرآن عربيّ تفهمونه بأدنى تأمّل، فكيف يكون ما تلقّفه منه؟! و ثانيهما: هب أنّه تعلّم منه المعنى باستماع كلامه، لكن لم يتلقّف منه اللفظ، لأنّ ذلك أعجميّ، و هذا عربيّ، و القرآن كما هو معجز باعتبار المعنى، فهو معجز

من حيث اللفظ. مع أنّ العلوم الكثيرة الّتي في القرآن لا يمكن تعلّمها إلّا بملازمة معلّم فائق في تلك العلوم مدّة متطاولة، فكيف تعلّم جميع ذلك من غلام سوقيّ، سمع منه بعض أوقات مروره عليه كليمات أعجميّة، لعلّهما لم يعرفا معناها؟! و طعنهم في القرآن بأمثال هذه الكلمات الركيكة الواهية دليل على غاية عجزهم. كذا قال صاحب الأنوار «1».

[سورة النحل (16): الآيات 104 الى 106]

إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (104) إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْكاذِبُونَ (105) مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ إِلاَّ مَنْ أُكْرِهَ وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (106)

______________________________

(1) أنوار التنزيل 3: 192.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 611

ثمّ أتبع سبحانه هذه الآية بذكر الوعيد للكفّار على ما قالوه، فقال: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ لا يصدّقون بِآياتِ اللَّهِ بأنّها من عند اللّه لا يَهْدِيهِمُ اللَّهُ إلى الحقّ، أي: لا يلطف بهم، بل يخذلهم، لأنّهم أهل التخلية و الخذلان، لفرط عنادهم و مكابرتهم، مع أنّ حقّية القرآن واضح لديهم. و قيل: إلى الجنّة. وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة.

و لمّا أماط شبهتهم، و ردّ طعنهم، قلب الأمر عليهم، فقال: إِنَّما يَفْتَرِي الْكَذِبَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِآياتِ اللَّهِ لأنّهم لا يخافون عقابا يردعهم عنه وَ أُولئِكَ إشارة إلى الّذين كفروا، أو إلى قريش هُمُ الْكاذِبُونَ أي: الكاذبون على الحقيقة. أو الكاملون في الكذب، لأنّ تكذيب آيات اللّه و الطعن فيها بهذه الخرافات أعظم الكذب. أو الّذين عادتهم الكذب، و لا يبالون به في كلّ شي ء، و لا يصرفهم عنه دين و لا مروءة. أو

الكاذبون في قولهم: «إِنَّما أَنْتَ مُفْتَرٍ» «إنّما يعلّمه بشر».

مَنْ كَفَرَ بِاللَّهِ مِنْ بَعْدِ إِيمانِهِ بدل من «الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ» و ما بينهما اعتراض. و المعنى: إنّما يفتري الكذب من كفر باللّه من بعد إيمانه. و استثنى منهم المكره. أو من «أولئك» أو من «هم الكاذبون». أو مبتدأ خبره محذوف، دلّ عليه قوله: «فعليهم غضب». كأنّه قيل: من كفر باللّه فعليهم غضب إلّا من أكره ... إلخ.

و يجوز أن ينتصب بالذمّ، و أن تكون «من» شرطيّة محذوفة الجواب.

إِلَّا مَنْ أُكْرِهَ على الافتراء أو كلمة الكفر. استثناء متّصل، لأنّ الكفر لغة يعمّ القول و العقد، كالإيمان وَ قَلْبُهُ مُطْمَئِنٌّ بِالْإِيمانِ لم تتغيّر عقيدته.

وَ لكِنْ مَنْ شَرَحَ بِالْكُفْرِ صَدْراً اعتقده و طاب به نفسا فَعَلَيْهِمْ غَضَبٌ مِنَ اللَّهِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ إذ لا شي ء أعظم من جرمه.

روي: أنّ ناسا من أهل مكّة فتنوا فارتدّوا عن الإسلام بعد دخولهم فيه، و كان فيهم من أكره فأجرى كلمة الكفر على لسانه و هو معتقد للإيمان، منهم عمّار،

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 612

و أبواه- ياسر و سميّة- و صهيب، و بلال، و خباب، و سالم، عذّبوا. فأمّا سميّة فقد ربطوها بين بعيرين و وجئ «1» بحربة في قبلها، و قالوا: إنّك أسلمت من أجل الرجال، فقتلت. و قتلوا ياسرا. و هما أوّل قتيلين في الإسلام. و أمّا عمّار فقد أعطاهم بلسانه ما أرادوا مكرها. فقيل: يا رسول اللّه إنّ عمّارا كفر. فقال: كلّا، إنّ عمّارا ملي ء إيمانا من قرنه إلى قدمه، و اختلط الايمان بلحمه و دمه. فأتى عمّار رسول اللّه و هو يبكي، فجعل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يمسح عينيه. و قال: مالك إن عادوا

لك فعد لهم بما قلت.

و هو دليل على جواز التكلّم بالكفر للإكراه، و إن كان الأفضل أن يتجنّب عنه إعزازا للدين، كما فعله أبواه، لما

روي: أنّ مسيلمة أخذ رجلين فقال لأحدهما: ما تقول في محمّد؟ قال: رسول اللّه. قال: فما تقول فيّ؟ فقال: أنت أيضا. فخلّاه.

و قال للآخر: ما تقول في محمّد؟ قال: رسول اللّه. قال: فما تقول فيّ؟ قال: أنا أصمّ. فأعاد عليه ثلاثا، فأعاد جوابه، فقتله. فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: أمّا الأوّل فقد أخذ برخصة اللّه. و أمّا الثاني فقد صدع بالحقّ، فهنيئا له.

[سورة النحل (16): الآيات 107 الى 111]

ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ (107) أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ (108) لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ (109) ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا ثُمَّ جاهَدُوا وَ صَبَرُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (110) يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها وَ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (111)

______________________________

(1) وجأ فلانا بالسكّين أو بيده: ضربه في أيّ موضع كان.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 613

ذلِكَ إشارة إلى الكفر بعد الايمان، أو الوعيد بِأَنَّهُمُ اسْتَحَبُّوا الْحَياةَ الدُّنْيا عَلَى الْآخِرَةِ بسبب استحبابهم الدنيا على الآخرة وَ أَنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْكافِرِينَ و بسبب استحقاقهم نخلّيهم و خذلانهم، لأجل انهماكهم في الكفر و العناد.

أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ سَمْعِهِمْ وَ أَبْصارِهِمْ برفع التوفيق و اللطف عنهم، فيخلّيهم لفرط عنادهم و لجاجهم، فأبت قلوبهم و حواسّهم عن الاعتراف بالحقّ وَ أُولئِكَ هُمُ الْغافِلُونَ الكاملون في الغفلة، فلا

أغفل منهم، لأنّهم غفلوا عن تدبّر عاقبة حالهم في الآخرة، و ذلك غاية الغفلة و منتهاها.

لا جَرَمَ أَنَّهُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْخاسِرُونَ إذ ضيّعوا أعمارهم، و صرفوها فيما أفضى بهم إلى العذاب المخلّد.

ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ هاجَرُوا مِنْ بَعْدِ ما فُتِنُوا أي: عذّبوا، كعمّار و أصحابه.

و «ثمّ» لتباعد حال هؤلاء عن حال أولئك. يعني: إنّ ربّك لهم لا عليهم، بمعنى: أنّه وليّهم و ناصرهم، لا عدوّهم و خاذلهم. و قرأ ابن عامر: فتنوا بالفتح، أي: بعد ما عذّبوا المؤمنين، كالحضرمي أكره مولاه جبرا حتّى ارتدّ ثمّ أسلما و هاجرا، كما قال: ثُمَّ جاهَدُوا وَ صَبَرُوا على الجهاد و ما أصابهم من المشاقّ إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها من بعد الهجرة و الجهاد و الصبر لَغَفُورٌ لما فعلوا قبل رَحِيمٌ ينعم عليهم مجازاة على ما صنعوا بعد.

يَوْمَ تَأْتِي كُلُّ نَفْسٍ منصوب ب «رحيم» أو ب: أذكر. و المراد يوم القيامة.

تُجادِلُ عَنْ نَفْسِها عن ذاتها، و تسعى في خلاصها، لا يهمّها شأن غيرها، فتقول:

نفسي نفسي. و معنى المجادلة: الاحتجاج عنها و الاعتذار لها، كقولهم: هؤُلاءِ

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 614

أَضَلُّونا «1» و نحو ذلك. وَ تُوَفَّى كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ جزاء ما عملت وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ لا ينقصون أجورهم.

[سورة النحل (16): الآيات 112 الى 113]

وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً قَرْيَةً كانَتْ آمِنَةً مُطْمَئِنَّةً يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ فَكَفَرَتْ بِأَنْعُمِ اللَّهِ فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ بِما كانُوا يَصْنَعُونَ (112) وَ لَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَ هُمْ ظالِمُونَ (113)

ثمّ أنذر المشركين بقوله: وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا قَرْيَةً أي: جعلها مثلا لكلّ قوم أنعم اللّه عليهم، فأبطرتهم النعمة فكفروا، فأنزل اللّه بهم نقمته. أو لأهل مكّة.

كانَتْ آمِنَةً ذات أمن، أي:

يأمن أهلها من أن يغار عليهم مُطْمَئِنَّةً قارّة ساكنة بأهلها، لا ينزعجون خوف العدوّ، فإنّ الطمأنينة مع الأمن، و الانزعاج و القلق مع الخوف.

يَأْتِيها رِزْقُها أقواتها رَغَداً واسعا مِنْ كُلِّ مَكانٍ من نواحيها و جوانبها، كما قال: يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ «2».

فَكَفَرَتْ فكفر أهل تلك القرية بِأَنْعُمِ اللَّهِ بنعمه. جمع نعمة، على ترك الاعتداد بالتاء، كدرع و أدرع، أو جمع نعم، كبؤس و أبؤس. و في الحديث: «نادى مناد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالموسم بمنى: إنّها أيّام طعم و نعم فلا تصوموا».

فَأَذاقَهَا اللَّهُ لِباسَ الْجُوعِ وَ الْخَوْفِ استعار الذوق لإدراك أثر الضرر،

______________________________

(1) الأعراف: 38.

(2) القصص: 57.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 615

و اللباس لما غشيهم و اشتمل عليهم من الجوع و الخوف، و أوقع الإذاقة عليه بالنظر إلى المستعار له، و هو ما غشيهم.

قال صاحب الكشّاف: «أمّا الإذاقة فقد جرت عندهم مجرى الحقيقة، لشيوعها في البلايا و الشدائد و ما يمسّ الناس منها، فيقولون: ذاق فلان البؤس و الضرّ و أذاقه العذاب، شبّه ما يدرك من أثر الضرر و الألم بما يدرك من طعم المرّ و البشع. و أمّا اللباس، فقد شبّه به لاشتماله على اللابس ما غشي الإنسان و التبس به من بعض الحوادث. و أمّا إيقاع الإذاقة على لباس الجوع و الخوف، فلأنّه لمّا وقع عبارة عمّا يغشى منهما و يلابس فكأنّه قيل: فأذاقهم ما غشيهم من الجوع و الخوف» «1».

بِما كانُوا يَصْنَعُونَ بصنيعهم.

وَ لَقَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مِنْهُمْ يعني: محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و الضمير لأهل مكّة، عاد إلى ذكرهم بعد ما ذكر مثلهم. فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ وَ هُمْ ظالِمُونَ أي: حال التباسهم بالظلم و العذاب

ما أصابهم من الجدب الشديد سبع سنين، حتى أكلوا القدّ «2» و العلهز، و هو الوبر يخلط بالدم و يؤكل، و مع ذلك كانوا خائفين من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أصحابه، و ذلك حين

دعا عليهم فقال: اللّهمّ اشدد وطأتك على مضر، و اجعل عليهم سنين كسنيّ يوسف. أو وقعة بدر.

[سورة النحل (16): آية 114]

فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالاً طَيِّباً وَ اشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (114)

______________________________

(1) الكشّاف 2: 639.

(2) القدّ: جلد السخلة.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 616

و لمّا زجرهم عن الكفر، و أوعدهم بما ذكر من التمثيل، صدّا لهم عن صنيع الجاهليّة و مذاهبها الفاسدة، أمرهم بأكل ما أحلّ اللّه لهم، و شكر ما أنعم عليهم، فقال: فَكُلُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ حَلالًا طَيِّباً وَ اشْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ إنعامه بذلك إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ تطيعون، أو إن صحّ زعمكم أنّكم تعبدون اللّه بعبادة الآلهة، لأنّها شفعاؤكم عنده.

[سورة النحل (16): آية 115]

إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (115)

و لمّا أمرهم بتناول ما أحلّ لهم، عدّد عليهم ما حرّم عليهم، فقال: إِنَّما حَرَّمَ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةَ وَ الدَّمَ وَ لَحْمَ الْخِنْزِيرِ وَ ما أُهِلَّ لِغَيْرِ اللَّهِ بِهِ فَمَنِ اضْطُرَّ غَيْرَ باغٍ وَ لا عادٍ فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ مقتضى سياق الكلام و تصدير الجملة ب «إنّما» حصر المحرّمات في الأجناس الأربعة، إلّا ما ضمّ إليه دليل كالسباع. و هذه الآية و الّتي قبلها مفسّرتان في سورة البقرة، فليطالع ثمّة «1».

[سورة النحل (16): الآيات 116 الى 118]

وَ لا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ (116) مَتاعٌ قَلِيلٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (117) وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ مِنْ قَبْلُ وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (118)

______________________________

(1) راجع ج 1 ص 285 ذيل الآية 172- 173 من سورة البقرة.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 617

ثمّ أكّد ذلك بالنهي عن التحريم و التحليل بأهوائهم، فقال: وَ لا تَقُولُوا لِما تَصِفُ أَلْسِنَتُكُمُ الْكَذِبَ هذا حَلالٌ وَ هذا حَرامٌ كما قالوا: ما فِي بُطُونِ هذِهِ الْأَنْعامِ خالِصَةٌ لِذُكُورِنا «1» الآية. و انتصاب الكذب ب «لا تقولوا». و «هذا حلال و هذا حرام» بدل منه. أو متعلّق ب «تصف» على إرادة القول، أي: و لا تقولوا الكذب لما تصفه ألسنتكم فتقولوا: هذا حلال و هذا حرام. أو مفعول «لا تقولوا»، و الكذب منصوب ب «تصف»، و «ما» مصدريّة، أي: و لا تقولوا: هذا حلال و هذا حرام لوصف ألسنتكم الكذب.

و المعنى: لا تحلّلوا و لا تحرّموا بمجرّد قول تنطق به ألسنتكم من غير دليل.

و وصف ألسنتهم الكذب مبالغة في وصف كلامهم بالكذب، كأنّ حقيقة الكذب كانت مجهولة و ألسنتهم تصفها و تعرّفها بكلامهم هذا، و لذلك عدّ من فصيح الكلام، كقولهم: وجهها يصف الجمال، و عينها تصف السحر.

لِتَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ اللام للعاقبة، لأنّ الافتراء ما كان غرضا، كقوله:

عَدُوًّا وَ حَزَناً «2» إِنَّ الَّذِينَ يَفْتَرُونَ عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ لا يُفْلِحُونَ لا ينجون من عذاب اللّه، و لا ينالون خيرا.

و لمّا كان المفتري يفتري لتحصيل مطالبه الدنيويّة نفى عنهم الفلاح، و بيّنه بقوله: مَتاعٌ قَلِيلٌ أي: ما يفترون لأجله أو ما هم فيه منفعة قليلة تنقطع عن قريب وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة.

وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا ما قَصَصْنا عَلَيْكَ أي: في سورة الأنعام في قوله: وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا حَرَّمْنا كُلَّ ذِي ظُفُرٍ «3» مِنْ قَبْلُ متعلّق ب «قصصنا» أو

______________________________

(1) الأنعام: 139.

(2) القصص: 8.

(3) الأنعام: 146.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 618

«حرّمنا» وَ ما ظَلَمْناهُمْ بتحريم ذلك عليهم وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث فعلوا ما عوقبوا به عليه. و فيه تنبيه على الفرق بينهم و بين غيرهم في التحريم، و أنّه كما يكون للمضرّة يكون للعقوبة. و اتّصل قوله: «وَ عَلَى الَّذِينَ هادُوا» الآية بما تقدّم ذكره من التحريم و التحليل، ليبيّن أنّ ما كانوا يحرّمونه و يحلّلونه بزعمهم ليس في التوراة، كما أنّه ليس ذلك في القرآن.

[سورة النحل (16): آية 119]

ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ بِجَهالَةٍ ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها لَغَفُورٌ رَحِيمٌ (119)

ثمّ ذكر سبحانه التائبين بعد تقدّم الوعد و الوعيد، فقال: ثُمَّ إِنَّ رَبَّكَ لِلَّذِينَ عَمِلُوا السُّوءَ

بِجَهالَةٍ بسببها، أو ملتبسين بها، ليعمّ الجهل باللّه و بعقابه، و عدم التدبّر في العواقب لغلبة الشهوة. و السوء يعمّ الافتراء على اللّه و غيره. ثُمَّ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ من بعد سوء الفعل وَ أَصْلَحُوا نيّاتهم و أفعالهم إِنَّ رَبَّكَ مِنْ بَعْدِها من بعد التوبة لَغَفُورٌ لذلك السوء رَحِيمٌ يثيب على الإنابة.

[سورة النحل (16): الآيات 120 الى 123]

إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً قانِتاً لِلَّهِ حَنِيفاً وَ لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (120) شاكِراً لِأَنْعُمِهِ اجْتَباهُ وَ هَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (121) وَ آتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (122) ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (123)

و بعد ذمّ المشركين و أهل الكتاب، و تهديدهم بعقائدهم الزائغة و صفاتهم

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 619

السيّئة، بيّن خلال إبراهيم الخليل و نعته الجليل ليقتدوا به، فقال: إِنَّ إِبْراهِيمَ كانَ أُمَّةً أي: كان وحده أمّة من الأمم، لكماله في جميع صفات الخير، و استجماعه فضائل لا تكاد توجد إلّا مفرّقة في أشخاص كثيرة، كقوله:

ليس من اللّه بمستنكرأن يجمع العالم في واحد

و هو رئيس الموحّدين، و قدوة المحقّقين، الّذي جادل فرق المشركين، و أبطل مذاهبهم الزائغة بالحجج الدامغة. و لذلك عقّب أحوال المشركين بذكره تزييفا لمذاهبهم الزائغة، من الشرك، و الطعن في النبوّة، و تحريم ما أحلّه. أو لأنّه كان وحده مؤمنا، و كان سائر الناس كفّارا.

و قيل: هي فعلة بمعنى مفعول، كالرحلة بمعنى ما يرتحل إليه، و النخبة بمعنى ما ينتخب به، من: أمّه إذا قصده أو اقتدى به، فإنّ الناس كانوا يؤمّونه للاستفادة، و يقتدون بسيرته، كقوله تعالى: إِنِّي جاعِلُكَ لِلنَّاسِ إِماماً «1». قال ابن الأعرابي:

يقال للرجل العالم أمّة، لأنّه قدوة معلّم

الخير.

قانِتاً لِلَّهِ مطيعا له، قائما بأوامره دائما حَنِيفاً مائلا عن الباطل إلى الإسلام، مستقيما على الطاعة و طريق الحقّ وَ لَمْ يَكُ مِنَ الْمُشْرِكِينَ كما زعموا، فإنّ قريشا كانوا يزعمون أنّهم على ملّة إبراهيم.

شاكِراً لِأَنْعُمِهِ معترفا بها. ذكر بلفظ القلّة للتنبيه على أنّه كان لا يخلّ بشكر النعم القليلة، فكيف بالكثيرة؟! روي أنّه كان لا يتغدّى إلّا مع ضيف، فلم يجد ذات يوم ضيفا فأخّر غداءه، فإذا هو بفوج من الملائكة في صورة البشر، فدعاهم إلى الطعام، فخيّلوا له أنّ بهم جذاما، فقال: الآن وجبت مؤاكلتكم شكرا للّه على أنّه عافاني و ابتلاكم.

اجْتَباهُ و اصطفاه للنبوّة وَ هَداهُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ في الدعوة إلى اللّه.

______________________________

(1) البقرة: 124.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 620

وَ آتَيْناهُ فِي الدُّنْيا حَسَنَةً بأن حبّبه إلى الناس، حتّى إنّ أرباب الملل جميعا يتولّونه و يثنون عليه، و رزقه أولادا طيّبة، و عمرا طويلا في السعة و الطاعة.

و قيل: هي قول المصلّي منّا: كما صلّيت على إبراهيم و آل إبراهيم.

وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ لمن أهل الجنّة، كما سأله بقوله:

وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ «1». و ناهيك بهذا ترغيبا في الصلاح. و لم يقل: لفي أعلى منازل الصالحين، مع اقتضاء حاله ذلك، ترغيبا في الصلاح، فإنّه عزّ اسمه بيّن أنّه عليه السّلام من جملة الصالحين، مع علوّ رتبته و شرف منزلته، تشريفا لهم و تنويها بذكر من هو منهم.

ثُمَّ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ يا محمّد. و ذكر «ثمّ» إمّا لتعظيم منزلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إجلال محلّه، و الإيذان بأنّ أشرف ما أوتي خليل اللّه إبراهيم من الكرامة، و أجلّ ما أولي من النعمة، اتّباع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و

آله و سلّم ملّته، فإنّها دلّت على تباعد هذا النعت في المرتبة من بين سائر النعوت الّتي أثنى اللّه عليه بها، أو لتراخي أيّامه.

أَنِ اتَّبِعْ مِلَّةَ إِبْراهِيمَ حَنِيفاً في التوحيد و الدعوة إليه بالرفق، و إيراد الدلائل مرّة بعد اخرى، و المجادلة مع كلّ أحد على حسب فهمه وَ ما كانَ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بل كان قدوة الموحّدين.

[سورة النحل (16): آية 124]

إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (124)

و لمّا أمر سبحانه باتّباع الحقّ، حذّر من الاختلاف فيه، بما ذكر من أحوال المختلفين في السبت، كيف شدّد عليهم فرضه، و ضيّق عليهم أمره، فقال:

______________________________

(1) الشعراء: 83.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 621

إِنَّما جُعِلَ السَّبْتُ أي: تعظيم السبت، أو التخلّي فيه للعبادة عَلَى الَّذِينَ اخْتَلَفُوا فِيهِ أي: في نبيّهم. و هم اليهود، أمرهم موسى عليه السّلام أن يتفرّغوا للعبادة يوم الجمعة، فأبوا عن ذلك و قالوا: نريد يوم السبت، لأنّه فرغ اللّه فيه من خلق السماوات و الأرض، فألزمهم اللّه السبت، و شدّد الأمر عليهم، إلّا شرذمة منهم قد رضوا بالجمعة، فأذن اللّه لهم الصيد في السبت، و ابتلى المسبتين بتحريم الصيد فيه.

و قيل: معناه: إنّما جعل وبال السبت- و هو المسخ- على الّذين اختلفوا فيه، فأحلّوا الصيد فيه تارة و حرّموه اخرى، و احتالوا له الحيل، و كان الواجب عليهم أن يتّفقوا في تحريمه على كلمة واحدة، بعد ما حتّم اللّه عليهم الصبر عن الصيد فيه و تعظيمه. و على هذا، المعنيّ في ذكر ذلك نحو المعنيّ في ضرب القرية الّتي كفرت «1» بأنعم اللّه مثلا لمزيد تهديد المشركين.

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ بالمجازاة

على الاختلاف، أو بمجازاة كلّ فريق من الآبين و المعظّمين بما يستحقّه.

[سورة النحل (16): آية 125]

ادْعُ إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ بِالْحِكْمَةِ وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (125)

ثمّ أمر سبحانه نبيّه بالدعاء إلى الحقّ، فقال: ادْعُ من بعثت إليهم إِلى سَبِيلِ رَبِّكَ إلى دين ربّك، و هو الإسلام بِالْحِكْمَةِ بالمقالة المحكمة. و هو الدليل الموضح للحقّ، المزيح للشبهة. وَ الْمَوْعِظَةِ الْحَسَنَةِ الخطابات المقنعة و العبر النافعة. فالأولى لدعوة خواصّ الأمّة الطالبين للحقائق، و الثانية لدعوة عوامهم.

______________________________

(1) النحل: 112.

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 622

و قيل: الحكمة هي القرآن. و سمّي حكمة لأنّه يتضمّن الأمر بالحسن، و النهي عن القبيح. و أصل الحكمة المنع، و منه حكمة اللجام. و الموعظة الحسنة: هي الصرف عن القبيح، على وجه الترغيب في تركه، و التزهيد في فعله. و في ذلك تليين القلوب بما يوجب الخشوع.

وَ جادِلْهُمْ و جادل معانديهم بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ بالطريقة الّتي هي أحسن طرق المجادلة، من الرفق و اللين من غير فظاظة و تعنيف، و إيثار الوجه الأيسر فالأيسر، و المقدّمات الّتي هي أشهر، فإنّ ذلك أنفع في تسكين لهبهم و تليين شغبهم.

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ فمن كان فيه خير كفاه الوعظ القليل و النصيحة اليسيرة، و من لا خير فيه عجزت عنه الحيل، فكأنّك تضرب منه في حديد بارد. و إنّما عليك البلاغ و الدعوة، و أمّا حصول الهداية و الضلال و المجازاة عليهما فلا إليك، بل اللّه أعلم بالضالّين و المهتدين، و هو المجازي لهم.

[سورة النحل (16): آية 126]

وَ إِنْ عاقَبْتُمْ فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ (126)

و لمّا بيّن أمره بالدعوة و علّمه طرقها، أشار إليه و

إلى من يتابعه بمراعاة العدل مع من يناصبهم، فإن الدعوة لا تنفكّ عنه، من حيث إنّها تتضمّن رفض العادات و ترك الشهوات، و القدح في دين الأسلاف، و الحكم عليهم بالكفر و الضلال، فقال:

وَ إِنْ عاقَبْتُمْ أي: أردتم معاقبة غيركم على وجه المجازاة فَعاقِبُوا بِمِثْلِ ما عُوقِبْتُمْ بِهِ و لا تزيدوا عليه.

و قيل: كان المشركون مثّلوا بقتلى أحد، و بقروا بطونهم، و قطعوا مذاكيرهم،

زبدة التفاسير، ج 3، ص: 623

و قتل حمزة و قد مثّل به، و أخذت هند كبده، فجعلت تلوكه، و جدعوا أنفه و أذنه، فقال المسلمون: لئن أمكننا اللّه منهم لنمثّلنّ بالأحياء فضلا عن الأموات، فنزلت.

و فيه دليل على أنّ للمقتصّ أن يماثل الجاني، و ليس له أن يجاوزه. و حثّ على العفو تعريضا بقوله: «وَ إِنْ عاقَبْتُمْ»، و تصريحا بقوله: وَ لَئِنْ صَبَرْتُمْ لَهُوَ أي:

الصبر خَيْرٌ لِلصَّابِرِينَ من الانتقام للمنتقمين.

[سورة النحل (16): الآيات 127 الى 128]

وَ اصْبِرْ وَ ما صَبْرُكَ إِلاَّ بِاللَّهِ وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (127) إِنَّ اللَّهَ مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ (128)

ثمّ صرّح بالأمر به لرسوله، لأنّه أولى الناس به، لزيادة علمه باللّه، و وثوقه عليه، فقال: وَ اصْبِرْ وَ ما صَبْرُكَ إِلَّا بِاللَّهِ إلّا بتوفيقه و تثبيته وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ على الكافرين في إعراضهم عنك، أو على قتلى بدر، أو على المؤمنين و ما فعل بهم وَ لا تَكُ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ في ضيق صدر من مكرهم بك و بأصحابك، فإنّ اللّه يردّ كيدهم في نحورهم، و يحفظكم من شرورهم.

و قرأ ابن كثير: في ضيق، هنا و في النمل «1». و هما لغتان، كالقول و القيل.

و يجوز أن يكون الضيق تخفيف ضيّق.

إِنَّ اللَّهَ

مَعَ الَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك و الكبائر بالنصرة و الحفظ وَ الَّذِينَ هُمْ مُحْسِنُونَ في أعمالهم بالولاية و الفضل. أو مع الّذين اتّقوا بتعظيم أمره، و الّذين هم محسنون في أعمالهم بالولاية و الفضل. أو مع الّذين اتّقوا بتعظيم أمره، و الّذين هم محسنون بالشفقة على خلقه. و اللّه أعلم بالصواب.

______________________________

(1) النمل: 70.

الجزء الرابع

(17) سورة الإسراء

اشارة

(بني إسرائيل) مكّيّة كلّها. و هي مائة و إحدى عشرة آية.

في حديث أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ سورة بني إسرائيل فرق قلبه عند ذكر الوالدين، أعطي في الجنّة قنطارين من الأجر، و القنطار ألف أوقيّة و مائتا أوقيّة، و الأوقيّة منها خير من الدنيا و ما فيها».

روى الحسن بن أبي العلاء عن الصادق عليه السّلام قال: «من قرأ سورة بني إسرائيل في كلّ ليلة جمعة لم يمت حتّى يدرك القائم، و يكون من أصحابه».

[سورة الإسراء (17): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلاً مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (1)

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة النحل بذكر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، افتتح سورة بني إسرائيل أيضا بذكره و بيان إسرائه إلى المسجد الأقصى، فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُبْحانَ الَّذِي أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا. «سبحان» اسم بمعنى التسبيح. و قد يستعمل علما له، فينقطع عن الإضافة، و يمنع عن الصرف. قال:

قد قلت لمّا جاءني فخره سبحان من علقمة الفاخر

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 6

و انتصابه يفعل متروك إظهاره. و التقدير: أسبح اللّه سبحان. ثمّ نزّل منزلة الفعل، فسدّ مسده. و دلّ على التنزيه البليغ من جميع القبائح و المعائب و النواقص. و تصدير الكلام به للتنزيه عن العجز عمّا ذكر بعد. و أسرى و سرى بمعنى.

و «ليلا» نصب على الظرف. و فائدته- مع أنّ الإسراء لا يكون إلّا بالليل- الدلالة بتنكيره على تقليل مدّة الإسراء من مكّة إلى الشام مسيرة أربعين ليلة. و ذلك أنّ التنكير فيه معنى البعضيّة. و المعنى: أنزّه عن

صفة العجز الّذي أذهب عبده صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في جزء من الليل.

مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ بعينه، لما

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «بينا أنا في المسجد الحرام في الحجر عند البيت بين النائم و اليقظان، إذ أتاني جبرئيل بالبراق».

أو من الحرم، و سمّاه المسجد الحرام، لأنّ كلّه مسجد، أو لأنّه محيط به، لما

روي أنّه كان نائما في بيت أمّ هانئ أخت عليّ بن أبي طالب عليه السّلام بعد صلاة العشاء، فأسري به و رجع من ليلته، و قصّ القصّة عليها، و قال: مثّل لي النبيّون فصلّيت بهم. و قام ليخرج إلى المسجد فتشبّثت أمّ هانئ بثوبه. فقال: مالك؟ قالت: أخشى أن يكذّبك قومك إن أخبرتهم. قال: و إن كذّبوني.

فخرج إلى المسجد، فجلس إليه أبو جهل فأخبره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بحديث الإسراء. فقال: يا معشر بني كعب بن لؤيّ هلمّوا، فحدّثهم، فمن بين مصفّق و واضع يده على رأسه تعجّبا و إنكارا. و ارتدّ ناس ممّن كان قد آمن به. و استنعته طائفة سافروا إلى بيت المقدس، فجلّى اللّه له بيت المقدس، فطفق صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ينظر إليه و ينعته لهم. فقالوا: أمّا النعت فقد أصاب.

فقالوا: أخبرنا عن عيرنا. فأخبرهم بعدد جمالها و أحوالها. و قال: تقدم يوم كذا مع طلوع الشمس، يقدمها جمل أورق. و هو الإبل الّذي في لونه بياض إلى سواد، و هو أطيب الإبل لحما، و ليس بمحمود عندهم في العمل. كذا قاله الأصمعي.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 7

فخرجوا يشتدّون في ذلك اليوم نحو الثنيّة، فقال قائل منهم: هذه و اللّه الشمس قد أشرقت. و قال

آخر: و هذه و اللّه العير قد أقبلت يقدمها جمل أورق كما قال محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

ثمّ لم يؤمنوا و قالوا: ما هذا إلّا سحر مبين.

و قد عرج به إلى السماء في تلك الليلة، و كان العروج به من بيت المقدس، و أخبر قريشا أيضا بما رأى في السماء من العجائب، و أنّه لقي الأنبياء، و بلغ البيت المعمور و سدرة المنتهى. و كان ذلك قبل الهجرة بسنة.

و ما قاله بعضهم: إنّ ذلك العروج كان في النوم، ظاهر البطلان، مخالف لإجماع الإماميّة و جمهور العامّة.

و ما قيل: من أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كلّم اللّه سبحانه جهرة و رآه، و قعد معه على سريره، و نحو ذلك، فهو من مقالات أهل التشبيه و التجسيم، و اللّه تعالى يتقدّس عن ذلك.

و كذا ظاهر البطلان ما روي من أنّه شقّ بطنه و غسل بطنه، لأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان طاهرا مطهّرا من كلّ سوء و عيب، و كيف يطهّر القلب و ما فيه من الاعتقاد بالماء؟! و القول الصحيح المنقول عن أئمّتنا عليهم السّلام أنّ اللّه سبحانه أسرى بنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقظة بشخصه من المسجد الحرام إِلَى الْمَسْجِدِ الْأَقْصَى بيت المقدس، لأنّه لم يكن حينئذ وراءه مسجد الَّذِي بارَكْنا حَوْلَهُ ببركات الدين و الدنيا، لأنّه مهبط الوحي، و متعبّد الأنبياء من لدن موسى، و محفوف بالأنهار و الأشجار، و موضع أمن و خصب، حتّى لا يحتاجوا إلى أن تجلب إليهم الثمرات و الحبوب من موضع آخر.

لِنُرِيَهُ مِنْ آياتِنا كذهابه في برهة من الليل مسيرة شهر، و مشاهدته بيت المقدس، و تمثّل

الأنبياء له، و وقوفه على مقاماتهم، و صرف الكلام من الغيبة إلى التكلّم لتعظيم تلك البركات و الآيات. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لأقوال محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الْبَصِيرُ بأفعاله، فيكرمه و يقرّبه على حسب ذلك.

و من جملة الأخبار الواردة في قصّة المعراج ما

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من أنّه قال:

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 8

«أتاني جبرئيل و أنا بمكّة فقال: قم يا محمّد. فقمت معه و خرجت إلى الباب، فإذا معه ميكائيل و إسرافيل. فأتى جبرئيل بالبراق، و كان فوق الحمار و دون البغل، خدّه كخدّ الإنسان، و ذنبه كذنب البقر، و عرفه كعرف الفرس، و قوائمه كقوائم الإبل، عليه رحل من الجنّة، و له جناحان. فقال: اركب. فركبت و مضيت حتّى انتهيت إلى بيت المقدس، فإذا ملائكة نزلوا من السماء بالبشارة و الكرامة من عند ربّ العزّة. و صلّيت في بيت المقدس، فبشّر لي إبراهيم في رهط من الأنبياء، ثمّ موسى و عيسى.

ثمّ أخذ جبرئيل بيدي إلى الصخرة فأقعدني عليها، فإذا معراج إلى السماء لم أر مثلها حسنا. فصعدت إلى السماء الدنيا، و رأيت عجائبها و ملكوتها، و ملائكتها يسلّمون عليّ.

ثمّ أصعدني إلى السماء الثانية، فرأيت فيها عيسى بن مريم و يحيى بن زكريّا. ثمّ أصعدني إلى السماء الثالثة، فرأيت يوسف. ثمّ أصعدني إلى السماء الرابعة، فرأيت فيها إدريس، و أصعدني إلى السماء الخامسة، فرأيت فيها هارون و موسى. ثمّ أصعدني إلى السماء السادسة، فإذا فيها خلق كثير يموج بعضها في بعض، و فيها الكرّوبيّون. ثمّ أصعدني إلى السماء السّابعة، فرأيت فيها إبراهيم عليه السّلام. ثمّ جاوزناها متصاعدين إلى أعلى علّيّين.

و وصف ذلك إلى أن قال: ثمّ

كلّمني ربّي و كلّمته، و رأيت الجنّة و النار، و رأيت العرش و سدرة المنتهى. ثمّ رجعت إلى مكّة، فلمّا أصبحت حدّثت به الناس، فكذّبني أبو جهل و المشركون».

و

في تفسير العيّاشي بالإسناد عن ابن بكير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لمّا أسري برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى السماء الدنيا لم يمرّ بأحد من الملائكة إلّا استبشر به. قال: ثمّ مرّ بملك كئيب حزين، فلم يستبشر به. فقال: يا جبرئيل ما مررت بأحد من الملائكة إلّا استبشر بي إلّا هذا الملك، فمن هذا؟

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 9

قال: هذا مالك خازن جهنّم، و هكذا جعله اللّه.

فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا جبرئيل سله أن يرينيها.

قال: فقال جبرئيل: يا مالك هذا محمّد رسول اللّه، و قد شكا إليّ و قال: ما مررت بأحد من الملائكة إلّا استبشر بي إلّا هذا، فأخبرته أن اللّه هكذا جعله، و قد سألني أن أسألك أن تريه جهنّم.

قال: فكشف له عن طبق من أطباقها. قال: فما رئي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ضاحكا حتّى قبض».

و

عن أبي بصير قال: «سمعته يقول: إنّ جبرئيل احتمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى انتهى به إلى مكان من السماء، ثمّ تركه و قال له: ما وطأ نبيّ قطّ مكانك».

[سورة الإسراء (17): الآيات 2 الى 3]

وَ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ جَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلاَّ تَتَّخِذُوا مِنْ دُونِي وَكِيلاً (2) ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ إِنَّهُ كانَ عَبْداً شَكُوراً (3)

و لمّا أنكر الكفّار القرآن مع أنّه أمّ المعجزات، و حديث المعراج مع إبانة آياته عندهم، بيّن إنكارهم نبوّة موسى و كتابه مع ظهور

معجزاته، تسلية لنبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال:

وَ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ يعني: التوراة وَ جَعَلْناهُ هُدىً حجّة و دلالة و إرشادا لِبَنِي إِسْرائِيلَ أَلَّا تَتَّخِذُوا على أن لا تتّخذوا، كقولك: كتبت إليه أن افعل كذا. و قرأ أبو عمرو بالياء، على لأن لا يتّخذوا. مِنْ دُونِي وَكِيلًا ربّا غيري تكلون إليه أموركم.

ذُرِّيَّةَ مَنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ نصب على الاختصاص بتقدير: أعني. أو على النداء إن قرئ: أن لا تتّخذوا بالخطاب. أو على أنّه أحد مفعولي «لا تتّخذوا» و «من دوني» حال من «وكيلا». فيكون كقوله: وَ لا يَأْمُرَكُمْ أَنْ تَتَّخِذُوا الْمَلائِكَةَ وَ النَّبِيِّينَ أَرْباباً «1»

______________________________

(1) آل عمران: 80.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 10

و المعنى: قلنا لهم: لا تتّخذوا من دوني وكيلا يا ذرّيّة من حملنا مع نوح، أو لا تتّخذوا ذرّيّة من حملنا مع نوح وكيلا. فيكون «وكيلا» موحّد اللفظ مجموع المعنى، كرفيق في قوله: وَ حَسُنَ أُولئِكَ رَفِيقاً «1» أي: لا تجعلونهم أربابا. و فيه تذكير بإنعام اللّه عليهم في إنجاء آبائهم من الغرق، بحملهم مع نوح في السفينة.

إِنَّهُ إنّ نوحا كانَ عَبْداً شَكُوراً يحمد اللّه على مجامع حالاته. و فيه إيماء بأنّ إنجاءه و من معه كان ببركة شكره، و حثّ للذريّة على الاقتداء به. كأنّه قال:

لا تتّخذوا من دوني وكيلا، و لا تشركوا بي، لأنّ نوحا كان عبدا شكورا، و أنتم ذرّيّة من آمن به و حمل معه، فاجعلوه أسوتكم كما جعله آباؤكم أسوتهم. و قيل: الضمير لموسى.

روي عن الباقر و الصادق عليهما السّلام: «أنّه كان إذا أصبح و أمسى قال: اللّهمّ إنّي أشهدك أنّ ما أصبح و أمسى بي من نعمة في دين أو دنيا فمنك، وحدك لا شريك

لك، لك الحمد و لك الشكر بها عليّ حتى ترضى، و بعد الرضا، فهذا كان شكره».

و قيل: كان إذا أكل قال: الحمد للّه الّذي أطعمني، و لو شاء أجاعني. و إذا شرب قال: الحمد للّه الّذي سقاني، و لو شاء أظمأني. و إذا اكتسى قال: الحمد للّه الّذي كساني، و لو شاء أعراني. و إذا احتذى قال: الحمد للّه الّذي حذاني، و لو شاء أحفاني. و إذا قضى حاجته قال: الحمد للّه الّذي أخرج عنّي أذاه في عافية، و لو شاء حبسه.

و روي: أنّه كان إذا أراد الإفطار عرض طعامه على من آمن به، فإن وجده محتاجا آثره به.

[سورة الإسراء (17): الآيات 4 الى 8]

وَ قَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ فِي الْكِتابِ لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ مَرَّتَيْنِ وَ لَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً (4) فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ فَجاسُوا خِلالَ الدِّيارِ وَ كانَ وَعْداً مَفْعُولاً (5) ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ عَلَيْهِمْ وَ أَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ جَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً (6) إِنْ أَحْسَنْتُمْ أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ وَ لِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ لِيُتَبِّرُوا ما عَلَوْا تَتْبِيراً (7) عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ وَ إِنْ عُدْتُمْ عُدْنا وَ جَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً (8)

______________________________

(1) النساء: 69.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 11

و لمّا تقدّم أمره سبحانه لبني إسرائيل بالتوحيد، و نهيه إيّاهم عن الشرك، عقّب ذلك بذكر ما صدر منهم و ما جرى عليهم، تحذيرا للمشركين، و تسلية لسيّد المرسلين صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: وَ قَضَيْنا إِلى بَنِي إِسْرائِيلَ و أوحينا إليهم وحيا مقضيّا مبتوتا فِي الْكِتابِ في التوراة لَتُفْسِدُنَّ فِي الْأَرْضِ لا محالة. جواب قسم محذوف.

و

يجوز أن يجري القضاء المبتوت مجرى القسم. و المعنى: و قضينا قضاء مبتوتا جاريا مجرى القسم لتفسدنّ فيها. مَرَّتَيْنِ إفسادتين، أولاهما: مخالفة أحكام التوراة، و قتل شعيا، و حبس أرميا. و الآخرة: قتل زكريّا و يحيى، و قصد قتل عيسى. وَ لَتَعْلُنَّ عُلُوًّا كَبِيراً و لتستكبرنّ عن طاعة اللّه، أو لتظلمنّ الناس.

فَإِذا جاءَ وَعْدُ أُولاهُما وعد عقاب أولاهما بَعَثْنا عَلَيْكُمْ عِباداً لَنا أي:

خلّينا بينهم و بين ما فعلوا و لم نمنعهم، فهو كقوله: وَ كَذلِكَ نُوَلِّي بَعْضَ الظَّالِمِينَ

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 12

بَعْضاً «1». و قوله: أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ «2» و قوله وَ قَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ «3». و هم بختنصر عامل لهراسف على بابل و جنوده. و قيل: جالوت الجزري.

و قيل: سنحاريب، من أهل نينوى. أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ ذوي قوّة و بطش في الحرب شديد فَجاسُوا تردّدوا لطلبكم، من الجوس، و هو التردّد خِلالَ الدِّيارِ وسطها للقتل و الغارة. قتلوا سبعين ألفا من كبارهم، و سبوا سبعين ألفا من صغارهم، و حرّقوا التوراة، و خرّبوا المسجد. وَ كانَ وَعْداً مَفْعُولًا و كان وعد عقابهم لا بدّ أن يفعل.

عن ابن عبّاس و ابن مسعود و ابن زيد: أنّ الإفساد الأوّل قتل زكريّا، و الثاني قتل يحيى بن زكريّا. فسلّط اللّه عليهم سابور ذا الأكتاف- ملكا من ملوك فارس- في قتل زكريّا، و سلّط عليهم في قتل يحيى بختنصّر، و هو رجل خرج من بابل.

ثُمَّ رَدَدْنا لَكُمُ الْكَرَّةَ أي: الدولة و الغلبة عَلَيْهِمْ على الّذين بعثوا عليكم حين تبتم و رجعتم عن الفساد و العلوّ. فردّ أسراهم إلى الشام، و ملك دانيال عليهم، فاستولوا على من كان فيها من أتباع بختنصر. أو بأن سلّط داود على

جالوت فقتله.

وَ أَمْدَدْناكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ أي: كثّر مالكم و أولادكم، و رددنا لكم العدّة و القوّة وَ جَعَلْناكُمْ أَكْثَرَ نَفِيراً عددا ممّا كنتم. و النفير من ينفر مع الرجل من قومه. و قيل:

جمع نفر، كالعبيد. و هم المجتمعون للذهاب إلى العدوّ.

إِنْ أَحْسَنْتُمْ في أقوالكم و أفعالكم أَحْسَنْتُمْ لِأَنْفُسِكُمْ لأنّ ثوابه لكم، فنفع إحسانكم عائد إليكم وَ إِنْ أَسَأْتُمْ فَلَها فإنّ وبالها عليها. و إنّما ذكرها باللام ازدواجا. و المعنى: إنّ الإحسان و الإساءة كليهما مختصّ بأنفسكم، لا يتعدّى

______________________________

(1) الأنعام: 129.

(2) مريم: 83.

(3) فصّلت: 25.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 13

النفع و الضرر إلى غيركم. و

عن عليّ عليه السّلام: «ما أحسنت إلى أحد، و لا أسأت إليه، و تلاها».

فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ وعد عقوبة المرّة الآخرة لِيَسُوؤُا وُجُوهَكُمْ أي:

بعثناهم ليسوؤا وجوهكم، أيّ: يجعلوها بادية آثار المساءة فيها، فحذف لدلالة ذكره أوّلا عليه. و قرأ ابن عامر و حمزة و أبو بكر: ليسوء على التوحيد. و الضمير فيه للوعد، أو البعث، أو للّه. و يعضده قراءة الكسائي بالنون.

وَ لِيَدْخُلُوا الْمَسْجِدَ مسجد بيت المقدس و نواحيه كَما دَخَلُوهُ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ لِيُتَبِّرُوا و ليهلكوا ما عَلَوْا ما غلبوه و استولوا عليه، أو مدّة علوّهم تَتْبِيراً و ذلك بأن سلّط اللّه عليهم الفرس مرّة أخرى، فغزاهم ملك بابل من ملوك الطوائف اسمه جودرز. و قيل: حردوس.

قيل: دخل صاحب الجيش مذبح قرابينهم فوجد فيه دما يغلي، فسألهم عنه.

فقالوا: دم قربان لم يقبل منّا. فقال: ما صدقوني. فقتل أكثرهم، فلم يهدأ الدم. فقال: إن لم تصدّقوني ما تركت منكم أحدا. فقالوا: إنّه دم يحيى. فقال: لمثل هذا ينتقم ربّكم منكم.

ثمّ قال: يا يحيى قد علم ربّي و ربّك ما أصاب قومك

من أجلك، فاهدأ بإذن اللّه قبل أن لا أبقي منهم أحدا، فهدأ.

عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يَرْحَمَكُمْ بعد المرّة الثانية توبة أخرى، و انزجرتم عن المعاصي وَ إِنْ عُدْتُمْ مرّة ثالثة إلى الفساد عُدْنا مرّة ثالثة إلى عقوبتكم. و قد عادوا فأعاد اللّه إليهم النقمة بتسليط الأكاسرة، فقتلوا منهم مائة ألف و ثمانين ألفا، و خرّب بيت المقدس. و عن الحسن: عادوا بتكذيب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قصد قتله، فعاد اللّه بتسليطه عليهم، فقتل قريظة، و أجلى بني النضير، و ضرب الجزية على الباقين إلى يوم القيامة.

هذا لهم في الدنيا. وَ جَعَلْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ حَصِيراً محبسا لا يقدرون على الخروج منها أبد الآباد. و قيل: بساطا كما يبسط الحصير.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 14

[سورة الإسراء (17): الآيات 9 الى 10]

إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ وَ يُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً (9) وَ أَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (10)

و لمّا أمر بني إسرائيل بالرجوع إلى الطريق المستقيم من التوبة و قبول الإسلام، بيّن أنّ هذا الكتاب هو الّذي يهدي للأحسن الأقوم، فقال: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ للحالة أو الطريقة الّتي هي أعدل الحالات، أو أصوب الطرق و أرشدها و أسدّها وَ يُبَشِّرُ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً و قرأ حمزة و الكسائي: و يبشر بالتخفيف.

وَ أَنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً عطف على «أَنَّ لَهُمْ أَجْراً كَبِيراً». فيكون هذا بشارة أخرى لهم. و المعنى: أنّه يبشّر المؤمنين ببشارتين:

ثوابهم، و عقاب أعدائهم. أو عطف على «يبشّر» بإضمار: يخبر.

[سورة الإسراء (17): آية 11]

وَ يَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ وَ كانَ الْإِنْسانُ عَجُولاً (11)

و لمّا تقدّم من بشارة الكفّار بالعذاب، بيّن عقيبه أنّهم يستعجلون العذاب جهلا و عنادا، فقال: وَ يَدْعُ الْإِنْسانُ بِالشَّرِّ أي: الكافر بوقوع العذاب الموعود عليه إنكارا و استهزاء. أو المراد جنس الإنسان. و المعنى: و يدعو اللّه عند غضبه بالشّر على نفسه و أهله و ماله، أو يدعوه بما يحسبه خيرا و هو شرّ. دُعاءَهُ بِالْخَيْرِ مثل دعائه بالخير وَ كانَ الْإِنْسانُ عَجُولًا يتسرّع إلى كلّ ما يخطر بباله، لا ينظر عاقبته.

و عن ابن عبّاس: أنّ المراد به آدم، فإنّه لمّا انتهى الروح إلى سرّته أخذ لينهض

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 15

فسقط، فشبّه سبحانه ابن آدم بأبيه في الاستعجال و طلب الشي ء قبل وقته.

و قيل: المراد النضر بن الحارث استعجل بالعذاب عنادا، و قال: اللّهمّ انصر خير الحزبين،

اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك. فأجيب له، فضرب عنقه يوم بدر صبرا.

[سورة الإسراء (17): آية 12]

وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً لِتَبْتَغُوا فَضْلاً مِنْ رَبِّكُمْ وَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ وَ كُلَّ شَيْ ءٍ فَصَّلْناهُ تَفْصِيلاً (12)

ثمّ بيّن أنّه أنعم عليهم بوجوه النعم، كالليل و النهار للاستراحة و كسب الأرزاق، و نحو ذلك، و إن لم يشكروه و طلبوا منه ما فيه شرّ لهم، فقال: وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ وَ النَّهارَ آيَتَيْنِ تدلّان بتعاقبهما على نسق واحد- بإمكان غيره- على القادر الحكيم فَمَحَوْنا آيَةَ اللَّيْلِ أي: أزلنا الآية الّتي هي الليل بالإشراق و الإضاءة. و الإضافة للتبيين، كإضافة العدد إلى المعدود. وَ جَعَلْنا آيَةَ النَّهارِ مُبْصِرَةً مضيئة أو مبصرة للناس، من:

أبصره فبصر. أو مبصرا أهله، كقولهم: أجبن الرجل إذا كان أهله جبناء.

و قيل: الآيتان: القمر و الشمس. و تقدير الكلام: و جعلنا نيّري الليل و النهار آيتين، أو جعلنا الليل و النهار ذوي آيتين. و محو آية الليل- الّتي هي القمر- جعلها مظلمة في نفسها مطموسة النور، أو نقص نورها شيئا فشيئا إلى المحاق. و جعل آية النهار- الّتي هي الشمس- مبصرة جعلها ذات شعاع تبصر الأشياء بضوئها.

لِتَبْتَغُوا فَضْلًا مِنْ رَبِّكُمْ لتطلبوا في بياض النهار أسباب معاشكم، و تتوصّلوا به إلى استبانة أعمالكم وَ لِتَعْلَمُوا باختلافهما أو بحركاتهما عَدَدَ السِّنِينَ وَ الْحِسابَ و جنس الحساب، و آجال الديون، و غير ذلك من المواقيت. و لو لا ذلك لما

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 16

علم أحد حسبان الأوقات، و لتعطّلت الأمور. وَ كُلَّ شَيْ ءٍ تفتقرون إليه في أمر الدين و الدنيا فَصَّلْناهُ تَفْصِيلًا بيّنّاه بيانا غير ملتبس، و ميّزنا كلّ شي ء

تمييزا بيّنا.

[سورة الإسراء (17): الآيات 13 الى 15]

وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً يَلْقاهُ مَنْشُوراً (13) اقْرَأْ كِتابَكَ كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً (14) مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولاً (15)

و لمّا قدّم سبحانه ذكر الوعيد أتبع ذلك بذكر كيفيّته، فقال: وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ عمله من الخير الّذي عاقبته يمنة، و الشرّ الّذي خاتمته شؤمة. و إنّما قيل للعمل طائر على عادة العرب، فإنّهم إذا أخذوا في مقصد إن طار طير في أيمانهم يتّخذونه ميمونا، و إن طار في شمائلهم يتّخذونه مشؤوما. و مثله قوله تعالى: قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ «1». و قوله: إِنَّما طائِرُهُمْ عِنْدَ اللَّهِ «2». و عن ابن عيينة: هو من قولك: طار له سهم إذا خرج. يعني: ألزمناه ما طار من عمله.

فِي عُنُقِهِ لزوم الطوق و الغلّ في العنق لا ينفكّ عنه، كما قيل في المثل: تقلّدها طوق الحمامة. و قولهم: الموت في الرقاب. و هذا ربقة في رقبته. و عن الحسن: يا ابن آدم بسطت لك صحيفة إذا بعثت قلّدتها في عنقك.

وَ نُخْرِجُ لَهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ كِتاباً هو صحيفة عمله، أو نفسه المنتقشة بآثار أعماله، فإنّ الأفعال الاختياريّة تحدث في النفس أحوالا، و لهذا يفيد تكريرها لها

______________________________

(1) يس: 19.

(2) الأعراف: 131.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 17

ملكات. و نصبه بأنّه مفعول، أو حال من مفعول محذوف، و هو ضمير الطائر. و يعضده قراءة يعقوب: و يخرج، من: خرج. يَلْقاهُ يرى ذلك الكتاب مَنْشُوراً مفتوحا معروضا عليه ليقرأه و يعلم ما فيه. و هما صفتان للكتاب، أو «يلقاه» صفة و «منشورا» حال

من مفعوله. و قرأ ابن عامر: يلقّاه على البناء للمفعول، من: لقّيته كذا.

اقْرَأْ كِتابَكَ على إرادة القول. و عن قتادة: يقرأ ذلك اليوم من لم يكن في الدنيا قارئا. و

روى خالد بن نجيح عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «يذكر العبد جميع أعماله و ما كتب عليه، حتّى كأنّه فعله تلك الساعة، فلذلك قالوا: يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها «1».

كَفى بِنَفْسِكَ الْيَوْمَ عَلَيْكَ حَسِيباً الباء مزيدة، أي: كفى نفسك. و «حسيبا» تمييز. و هو بمعنى الحاسب، كالصريم بمعنى الصارم، و ضريب القداح بمعنى ضاربها.

و «على» متعلّق به، من قولهم: حسب عليه كذا. أو بمعنى الكافي، فوضع موضع الشهيد، و عدّي ب «على»، لأنّه يكفي المدّعي ما أهمّه. و تذكيره على أنّ الحساب و الشهادة ممّا يتولّاه الرجال، أو على تأويل النفس بالشخص، كما يقال: ثلاثة أنفس.

و كان الحسن إذا قرأها قال: يا ابن آدم أنصفك و اللّه من جعلك حسيب نفسك.

مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها أي: لا ينجي اهتداؤه غيره، و لا يردي ضلاله سواه وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ و لا تحمل نفس حاملة وزرا وِزْرَ أُخْرى وزر نفس أخرى، بل إنّما تحمل وزرها.

وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ و ما صحّ منّا صحّة تدعو إليها الحكمة أن نعذّب قوما بعذاب الاستئصال حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا إلّا بعد أن نبعث إليهم رسولا يبيّن الحجج و يمهّد الشرائع، فيلزمهم الحجّة، بأن ينبّههم على النظر و الإيقاظ من رقدة الغفلة في التكليفات العقليّة، و يعلّمهم التكليفات النقليّة، لئلّا يقولوا: كنّا غافلين، فلو لا بعثت إلينا رسولا

______________________________

(1) الكهف: 49.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 18

ينبّهنا على النظر في

أدلّة العقل. و على هذا التأويل تكون الآية عامّة في العقليّات و النقليّات.

و قال أكثر المفسّرين، و هو الأصح: إنّ المراد بالآية أنّه لا يعذّب سبحانه في الدنيا و لا في الآخرة إلّا بعد البعثة. فتكون الآية خاصّة فيما يتعلّق بالسمع من الشرعيّات. فأمّا ما كانت الحجّة من جهة العقل، و هو الإيمان باللّه تعالى، فإنّه يجوز العقاب بتركه و إن لم يبعث الرسول، عند من قال: إنّ التكليف العقلي ينفكّ من التكليف السمعي. على أنّ المحقّقين منهم يقولون: إنّه و إن جاز التعذيب عليه قبل بعثة الرسول، فإنّ اللّه سبحانه لا يفعل ذلك، مبالغة في الكرم و الفضل و الإحسان و الطول.

[سورة الإسراء (17): آية 16]

وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً أَمَرْنا مُتْرَفِيها فَفَسَقُوا فِيها فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً (16)

وَ إِذا أَرَدْنا أَنْ نُهْلِكَ قَرْيَةً إذا دنا وقت إرادتنا بإهلاك أهل قرية بعد قيام الحجّة عليهم و إرسال الرسل إليهم.

و قيل: ذكر الإرادة على التجوّز و الاتّساع، و إنّما عنى بها قرب الهلاك و العلم بكونه لا محالة، كما يقال إذا أراد العليل أن يموت: خلط في مأكله و يسرع إلى ما تتوق نفسه إليه، و إذا أراد التاجر أن يفتقر: أتاه الخسران من كلّ وجه. و معلوم أنّ العليل و التاجر لم يريدا في الحقيقة شيئا من ذلك، لكن لمّا كان من المعلوم من حال هذا الهلاك، و من حال ذلك الخسران، حسن هذا الكلام، و استعمل ذكر الإرادة لهذا الوجه. و لكلام العرب إشارات و استعارات و مجازات، و كان كلامهم بهذا يصير في الغاية القصوى من الفصاحة و البلاغة.

فالمعنى: إذا قرب وقت تعلّق علمنا بإهلاك أهل قرية أَمَرْنا مُتْرَفِيها متنعّميها بالإيمان و الطاعة

على لسان رسول بعثناه إليهم، توكيدا للحجّة عليهم. و يدلّ على ذلك ما

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 19

قبله و ما بعده، فإنّ الفسق هو الخروج عن الطاعة و التمرّد في العصيان، فيدلّ على الطاعة من طريق المقابلة.

و قيل: معناه: كثّرنا مترفيها. فيكون من باب: أمرت الشي ء و آمرته فأمر، إذا كثّرته فكثر. و

في الحديث: «خير المال سكّة مأبورة، و مهرة مأمورة».

و السكّة: الطريقة المصطفّة من النخل. و المأبورة: الملقّحة. و قال الأصمعي: السكّة هاهنا الحديدة الّتي يحرث بها، و مأبورة مصلحة. و معنى الحديث: خير المال كثير النتاج و الزرع. و يؤيّده قراءة يعقوب: آمرنا.

فَفَسَقُوا فِيها بالمعاصي. و تخصيص المترفين لأنّ غيرهم يتبعهم، و لأنّهم أسرع في الحماقة، و أقدر على الفجور. فَحَقَّ عَلَيْهَا الْقَوْلُ يعني: كلمة العذاب السابقة بحلوله، أو بظهور معاصيهم، أو بانهماكهم في المعاصي فَدَمَّرْناها تَدْمِيراً فأهلكناها بإهلاك أهلها. و مثله: أمرتك فعصيتني. و يشهد بصحّة هذا التأويل الآية المتقدّمة، و هي قوله: «مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ» إلى قوله: «وَ ما كُنَّا مُعَذِّبِينَ حَتَّى نَبْعَثَ رَسُولًا».

[سورة الإسراء (17): آية 17]

وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنَ الْقُرُونِ مِنْ بَعْدِ نُوحٍ وَ كَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (17)

ثمّ بيّن سبحانه ما فعله من ذلك بالقرون الخالية، فقال: وَ كَمْ أَهْلَكْنا و كثيرا أهلك مِنَ الْقُرُونِ بيان ل «كم» و تمييز له مِنْ بَعْدِ نُوحٍ يعني: عادا و ثمودا و قرونا بين ذلك كثيرا. و القرن مائة و عشرون سنة. و قيل: مائة سنة. و قيل: ثمانون. و قيل:

أربعون. وَ كَفى بِرَبِّكَ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً يدرك بواطنها و ظواهرها، فلا يفوته شي ء منها. فيعاقب عليها. و نبّه بهذا القول على أنّ الذنوب هي أسباب الهلكة لا غير، و

أنّه عالم بها جميعا، فيعاقب عليها.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 20

[سورة الإسراء (17): الآيات 18 الى 22]

مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً (18) وَ مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَ سَعى لَها سَعْيَها وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً (19) كُلاًّ نُمِدُّ هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً (20) انْظُرْ كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلاً (21) لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَقْعُدَ مَذْمُوماً مَخْذُولاً (22)

ثمّ بيّن سبحانه أنّه يدبّر عباده بحسب ما يراه من المصلحة، فقال: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعاجِلَةَ نعمها مقصورا عليها همّه عَجَّلْنا لَهُ فِيها ما نَشاءُ لِمَنْ نُرِيدُ بدل من «له» بدل البعض، لأنّ الضمير إلى «من» و هو في معنى الكثرة. و قيّد المعجّل و المعجّل له بالمشيئة و الإرادة، لأنّه لا يجد كلّ متمنّ ما يتمنّاه، و لا يعطى إلّا بعضا منه، و كثير منهم يتمنّون ذلك البعض و قد حرموه، فاجتمع عليه فقر الدنيا و فقر الآخرة. و أما المؤمن التقيّ فقد اختار مراده، و هو غني الآخرة، فما يبالي أوتي حظّا من الدنيا أو لم يؤت، فإن أوتي فيها، و إلّا فربما كان الفقر خيرا له و أعون على مراده.

قيل: الآية نزلت في المنافقين، كانوا يراؤن المسلمين و يغزون معهم، و لم يكن غرضهم إلّا مساهمتهم في الغنائم و نحوها.

و يؤيّد هذا القول ما

روي عن ابن عبّاس أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «معنى الآية: من كان يريد ثواب الدنيا بعمله الّذي افترضه اللّه عليه، لا يريد به وجه اللّه و الدار الآخرة، عجّل له

فيها ما يشاء من عرض الدنيا، و ليس له ثواب في الآخرة، و ذلك أنّ

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 21

اللّه سبحانه يؤتيه ذلك ليستعين به على الطاعة، فيستعمله في معصية اللّه، فيعاقبه اللّه عليه»،

كما قال: ثُمَّ جَعَلْنا لَهُ جَهَنَّمَ يَصْلاها مَذْمُوماً مَدْحُوراً مطرودا من رحمة اللّه.

وَ مَنْ أَرادَ الْآخِرَةَ وَ سَعى لَها سَعْيَها وَ هُوَ مُؤْمِنٌ إيمانا صحيحا لا شرك معه و لا تكذيب، لأنّ العمل بلا إيمان صحيح باطل لا يترتّب عليه فائدة فَأُولئِكَ الجامعون للشروط الثلاثة كانَ سَعْيُهُمْ مَشْكُوراً من اللّه، أي: مقبولا عنده مثابا عليه، فإنّ شكر اللّه الثواب على الطاعة.

كُلًّا كلّ واحد من الفريقين. و التنوين بدل من المضاف إليه. نُمِدُّ نزيدهم من عطائنا مرّة بعد أخرى، و نجعل آنفه مددا لسالفه لا نقطعه، فنرزق المطيع و العاصي جميعا هؤُلاءِ وَ هَؤُلاءِ بدل من «كلّا» مِنْ عَطاءِ رَبِّكَ من معطاه. متعلّق ب «نمدّ».

وَ ما كانَ عَطاءُ رَبِّكَ مَحْظُوراً ممنوعا، لا يمنعه في الدنيا من مؤمن بعصيانه، و لا كافر لكفره، تفضّلا.

انْظُرْ بعين الاعتبار كَيْفَ فَضَّلْنا بَعْضَهُمْ عَلى بَعْضٍ جعلناهم متفاوتين في تفضيل الرزق. و انتصاب «كيف» ب «فضّلنا» على الحال. وَ لَلْآخِرَةُ أَكْبَرُ دَرَجاتٍ و مراتب وَ أَكْبَرُ تَفْضِيلًا أي: التفاوت في الآخرة أكبر، لأنّ التفاوت فيها بالجنّة و درجاتها و النار و دركاتها. و

قد روي: «أنّ ما بين أعلى درجات الجنّة و أسفلها مثل ما بين السماء و الأرض».

لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ الخطاب للرسول، و المراد به أمّته، أو لكلّ أحد فَتَقْعُدَ فتصير، من قولهم: شحذ الشفرة حتّى قعدت كأنّها حربة. أو فتعجز، من قولهم: قعد عن الشي ء إذا عجز عنه مَذْمُوماً مَخْذُولًا جامعا على نفسك الذمّ من

الملائكة و المؤمنين، و الخذلان من اللّه. و مفهومه: أنّ الموحّد يكون ممدوحا منصورا.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 22

[سورة الإسراء (17): الآيات 23 الى 25]

وَ قَضى رَبُّكَ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ إِيَّاهُ وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍّ وَ لا تَنْهَرْهُما وَ قُلْ لَهُما قَوْلاً كَرِيماً (23) وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِّ مِنَ الرَّحْمَةِ وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً (24) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ غَفُوراً (25)

و لمّا تقدّم النهي عن الشرك و المعاصي، عقّبه سبحانه بالأمر بالتوحيد و الطاعات، فقال: وَ قَضى رَبُّكَ و أمر أمرا مقطوعا به أَلَّا تَعْبُدُوا بأن لا تعبدوا إِلَّا إِيَّاهُ لأنّ غاية التعظيم لا تحقّ إلا لمن له غاية العظمة و نهاية الإنعام. و هو كالتفصيل لسعي الآخرة.

و يجوز أن تكون «أن» مفسّرة، و «لا» ناهية. وَ بِالْوالِدَيْنِ إِحْساناً و بأن تحسنوا، أو و أحسنوا بالوالدين إحسانا، لأنّهما السبب الظاهر للوجود و التعيّش. و لا يجوز أن تتعلّق الباء بالإحسان، لأنّ صلة المصدر لا تتقدّم عليه.

إِمَّا يَبْلُغَنَّ عِنْدَكَ الْكِبَرَ سنّا أَحَدُهُما أَوْ كِلاهُما أصل إمّا «إن» الشرطيّة زيدت عليها «ما» تأكيدا، و لذلك صحّ لحوق النون المؤكّدة للفعل. و «أحدهما» فاعل «يبلغنّ»، و بدل على قراءة حمزة و الكسائي من ألف «يبلغانّ» الراجع إلى الوالدين.

و «كلاهما» عطف على «أحدهما» فاعلا على الأوّل و بدلا على الثاني. و لا يجوز أن يكون توكيدا للتثنية، لأنّه لو أريد التأكيد لقيل: كلاهما، فحسب، فلمّا قيل: أحدهما أو كلاهما، علم أنّ التأكيد غير مراد، فكان بدلا مثل الأوّل.

و معنى «عندك» أن يكونا في كنفك و كفالتك. و تخصيص حال الكبر- و إن كان من

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 23

الواجب طاعة الوالدين على كلّ حال- لأنّ الحاجة أكثر في تلك الحال إلى التعهّد و الخدمة.

فَلا تَقُلْ لَهُما أُفٍ فلا تتضجّر ممّا تستقذر منهما، و تستثقل من مؤونتهما. و هو صوت يدلّ على تضجّر. و قيل: اسم الفعل الّذي هو: أتضجّر. و بني على الكسر لالتقاء الساكنين. و تنوينه في قراءة نافع و حفص للتنكير. و قرأ ابن كثير و ابن عامر و يعقوب بالفتح على التخفيف. و النهي عن ذلك يدلّ على المنع من سائر أنواع الإيذاء قياسا بطريق الأولى. و هذا هو القياس المنصوص العلّة. و قيل: عرفا، كقولك: فلان لا يملك النقير «1» و القطمير.

و لقد بالغ سبحانه في التوصية بالوالدين، حيث افتتحها بأن شفّع الإحسان إليهما بتوحيده، و نظمهما في سلك القضاء بهما معا، ثمّ ضيّق الأمر في مراعاتهما، حتّى لم يرخّص في أدنى كلمة تنفلت من المتضجّر، مع موجبات الضجر و مقتضياته، و مع أحوال لا يكاد يدخل صبر الإنسان معها في الاستطاعة.

ثمّ قال: وَ لا تَنْهَرْهُما و لا تزجرهما عمّا يفعلانه بإغلاظ و صياح. و قيل:

معناه: و لا تمتنع من شي ء أراداه منك، مثل قوله: وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ «2». و قيل:

النهي و النهر و النهم أخوات. وَ قُلْ لَهُما بدل التأفيف و النهر قَوْلًا كَرِيماً جميلا، كما يقتضيه حسن الأدب و النزول على المروءة، و هو أن تقول: يا أبتاه يا أمّاه، و لا تدعوهما بأسمائهما، فإنّه من سوء الأدب و عادة الدعّار «3».

و عن سعيد بن المسيّب: معناه: قل لهما قول العبد المذنب للسيّد الفظّ الغليظ.

و عن مجاهد: معنى الآية: إن بلغا عندك من الكبر ما يبولان و يحدثان، فلا

______________________________

(1) أي: لا

يملك شيئا.

(2) الضحى: 10.

(3) الدعّار جمع الداعر، و هو الخبيث المفسد الفاسق.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 24

تتقذّرهما، و أمط عنهما كما كانا يميطن عنك في حال الصغر.

و

روي عن عليّ بن موسى الرضا عليه السّلام عن أبيه، عن جدّه أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «لو علم اللّه لفظة أوجز في ترك عقوق الوالدين من أفّ لأتى بها».

و

في رواية أخرى عنه: «أدنى العقوق أفّ، و لو علم اللّه شيئا أيسر منه و أهون منه لنهى عنه».

و

في الخبر عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «فليعمل العاقّ ما يشاء أن يعمل فلن يدخل الجنّة، و ليفعل البارّ ما يشاء أن يفعل فلن يدخل النار»!

و

عنه أيضا: «رغم أنفه، ثلاث مرّات. قيل: من يا رسول اللّه؟ قال: من أدرك أبويه عند الكبر أحدهما أو كلاهما و لم يدخل الجنّة».

و

عن حذيفة: «أنّه استأذن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في قتل أبيه و هو في صفّ المشركين.

فقال: دعه يليه غيرك».

و

في الحديث القدسي: «من رضي عنه والده فأنا عنه راض».

و روى سعيد بن المسيّب: أنّ البارّ لا يموت ميتة سوء.

وَ اخْفِضْ لَهُما جَناحَ الذُّلِ تذلّل لهما و تواضع فيهما. أمر بخفض جناح الذلّ مبالغة، و أراد جناح صاحب الذلّ، كقوله: وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِلْمُؤْمِنِينَ «1». و إضافته إلى الذلّ للبيان، أي: جناحك للذلّ، كما أضيف حاتم إلى الجود. و المعنى: و اخفض لهما جناحك الذليل أو الذلول. و المراد: بالغ في التواضع و الخضوع لهما قولا و فعلا، برّا بهما و شفقة عليهما. و المراد بالذلّ هنا اللين و التواضع، من: خفض الطائر جناحه، إذا ضمّ فرخه إليه، فكأنّه قال: ضمّ أبويك إلى نفسك، كما كانا يفعلان

بك و أنت صغير.

و

عن الصادق عليه السّلام: «لا تملأ عينيك من النظر إليهما إلّا برحمة و رأفة، و لا ترفع صوتك فوق صوتهما، و لا يديك فوق أيديهما، و لا تتقدّم قدّامهما».

______________________________

(1) الحجر: 88.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 25

مِنَ الرَّحْمَةِ من فرط رحمتك عليهما، لافتقارهما إلى من كان أفقر خلق اللّه إليهما، فإنّ الولد أحوج خلق اللّه إلى الوالدين.

وَ قُلْ رَبِّ ارْحَمْهُما و ادع اللّه أن يرحمهما برحمته الباقية، و لا تكتف برحمتك الفانية، و إن كانا كافرين، لأنّ من الرحمة أن يهديهما كَما رَبَّيانِي صَغِيراً رحمة مثل رحمتهما عليّ، و إرشادهما لي في صغري، وفاء بوعدك للراحمين.

روي أنّ رجلا قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ أبويّ بلغا من الكبر أنّي ألي منهما ما وليا منّي في الصغر، فهل قضيتهما حقّهما؟ قال: لا، فإنّهما كانا يفعلان ذلك و هما يحبّان بقاءك، و أنت تفعل ذلك و تريد موتهما».

و

شكا رجل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أباه، و أنّه يأخذ ماله. فدعا به فإذا شيخ يتوكّأ على عصا، فسأله. فقال: إنّه كان ضعيفا و أنا قويّ، و فقيرا و أنا غنيّ، فكنت لا أمنعه شيئا من مالي، و اليوم أنا ضعيف و هو قويّ، و أنا فقير و هو غنيّ، و يبخل عليّ بماله! فبكى صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال: «ما من حجر و لا مدر يسمع هذا إلّا بكى. ثمّ قال للولد: أنت و مالك لأبيك، أنت و مالك لأبيك».

و

شكا إليه آخر سوء خلق أمّه. فقال: «لم تكن سيّئة الخلق حين حملتك تسعة أشهر؟ قال: إنّها سيّئة الخلق. قال: لم تكن كذلك حين

أرضعتك حولين! قال: إنّها سيّئة الخلق. قال: لم تكن كذلك حين أسهرت لك ليلها، و أظمأت نهارها! قال: لقد جازيتها.

قال: ما فعلت؟ قال: حججت بها على عاتقي. قال: ما جزيتها و لو طلقة»

يعني: و لو كان المجزيّ به طلقة، و هو وجع المخاض.

و

عنه عليه السّلام: «إيّاكم و عقوق الوالدين، فإنّ الجنّة توجد ريحها من مسيرة ألف عام، و لا يجد ريحها عاقّ، و لا قاطع رحم، و لا شيخ زان، و لا جارّ إزاره خيلاء، و إنّ الكبرياء للّه ربّ العالمين».

رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما فِي نُفُوسِكُمْ من قصد البرّ إليهما، و اعتقاد ما يجب لهما من

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 26

التوقير، و من العقوق. و كأنّه تهديد على أن يضمر لهما كراهة و استثقالا.

إِنْ تَكُونُوا صالِحِينَ قاصدين للصلاح طائعين فَإِنَّهُ كانَ لِلْأَوَّابِينَ للتوّابين غَفُوراً ما فرط منهم من أذيّة أو تقصير في الوالدين. و فيه تشديد عظيم.

و يجوز أن يكون عامّا لكلّ تائب. و يندرج فيه الجاني على أبويه اندراجا أوّليّا، لوروده على أثره. و روي مرفوعا: أنّ الأوّابين هم الّذين يصلّون بين المغرب و العشاء.

[سورة الإسراء (17): الآيات 26 الى 28]

وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً (26) إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ وَ كانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً (27) وَ إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها فَقُلْ لَهُمْ قَوْلاً مَيْسُوراً (28)

ثمّ وصّى بغير الوالدين من الأقارب بعد أن بالغ في الوصيّة بهما، فقال: وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ من صلة الرحم، و حسن المعاشرة، و البرّ عليهم. و عن السدّي: المراد بذي القربى أقارب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

قال: إن عليّ بن الحسين عليهما السّلام قال لرجل من

أهل الشام- حين بعث به عبيد اللّه بن زياد إلى يزيد بن معاوية عليهما لعائن اللّه-: أقرأت القرآن؟ قال: نعم.

قال: أما قرأت «وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ»؟ قال: و إنّكم ذو القربى الذي أمر اللّه أن يؤتى حقّه؟

قال: نعم. و هو الّذي رواه أصحابنا رضي اللّه عنهم عن الصادقين عليهما السّلام.

قال في المجمع: «حدّثنا السيّد أبو الحمد مهدي بن نزار الحسيني، قال: حدّثنا الحاكم أبو القاسم عبيد اللّه بن عبد اللّه الحسكاني «1»، قال: حدّثنا عمر بن أحمد بن عثمان ببغداد شفاها، قال: أخبرني عمر بن الحسين بن عليّ بن مالك، قال: حدّثنا جعفر بن محمد الأحمسي، قال: حدّثنا حسن بن حسين، قال: حدّثنا أبو معمر سعيد بن خثيم،

______________________________

(1) شواهد التنزيل 1: 438 ح 467. زبدة التفاسير، ج 4، ص: 27

و عليّ بن القاسم الكندي، و يحيى بن يعلى، و عليّ بن مسهر، عن فضل بن مرزوق، عن عطيّة العوفي، عن أبي سعيد الخدري، قال: لمّا نزل قوله: «وَ آتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ» أعطى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاطمة فدكا».

قال عبد الرحمن بن صالح: «كتب المأمون إلى عبيد اللّه بن موسى يسأله عن قصّة فدك، فكتب إليه عبيد اللّه بهذا الحديث، رواه عن الفضيل بن مرزوق عن عطيّة، فردّ المأمون فدك على ولد فاطمة عليها السّلام» «1».

وَ الْمِسْكِينَ و آت المسكين حقّه الّذي جعله اللّه له، من الزكاة و غيرها وَ ابْنَ السَّبِيلِ و آت المجتاز المنقطع عن بلاده حقّه أيضا وَ لا تُبَذِّرْ تَبْذِيراً بصرف المال فيما لا ينبغي، فإنّ التبذير تفريق المال في غير حقّه. قال مجاهد: لو أنفق مدّا في باطل كان مبذّرا، و لو أنفق جميع ماله

في الحقّ لم يكن تبذيرا. و قد أنفق بعضهم نفقة في خير فأكثر، فقال له صاحبه: لا خير في السّرف، فقال: لا سرف في الخير.

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال لسعد و هو يتوضّأ: «ما هذا السرف؟ فقال: أفي الوضوء سرف؟ قال: نعم و إن كنت على نهر جار».

إِنَّ الْمُبَذِّرِينَ كانُوا إِخْوانَ الشَّياطِينِ إنّ المسرفين أمثال الشياطين في الشرارة، السالكون طريقهم، فإنّ التضييع و الإتلاف شرّ. أو أصدقاؤهم و أتباعهم، لأنّهم يطيعونهم في الإسراف و الصرف في المعاصي.

روي أنّهم كانوا ينحرون الإبل، و يتياسرون «2» عليها، و يبذّرون أموالهم في السمعة، فنهاهم اللّه تعالى عن ذلك، و أمرهم بالإنفاق في القربات.

وَ كانَ الشَّيْطانُ لِرَبِّهِ كَفُوراً مبالغا في الكفر به، فينبغي أن لا يطاع، فإنّه لا يدعو إلا إلى مثل فعله من الشرّ.

______________________________

(1) مجمع البيان 6: 411.

(2) أي: يتقامرون.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 28

وَ إِمَّا تُعْرِضَنَّ عَنْهُمُ و إن تعرض عن هؤلاء الّذين أمرتك بإيتاء حقوقهم عند مسألتهم إيّاك- لأنّك لا تجد ذلك- حياء من الردّ. و يجوز أن يراد بالإعراض عنهم أن لا ينفعهم على سبيل الكناية. ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ تَرْجُوها لانتظار رزق من اللّه ترجوه أن يأتيك فتعطيه، أو منتظرين له. و قيل: معناه: لفقد رزق من ربّك ترجوه أن يفتح لك. فوضع الابتغاء موضعه، لأنّه مسبّب عنه. فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً أي: قولا ليّنا سهلا، تطييبا لقلوبهم.

و يجوز أن يتعلّق قوله: «ابْتِغاءَ رَحْمَةٍ مِنْ رَبِّكَ» بجواب الشرط، أعني قوله: «فَقُلْ لَهُمْ قَوْلًا مَيْسُوراً». و معناه: فقل لهم قولا ليّنا ابتغاء رحمة اللّه برحمتك عليهم، بإجمال القول لهم. و الميسور من: يسر الأمر، مثل: سعد الرجل و نحس. و

قيل: القول الميسور الدعاء لهم بالميسور، و هو اليسر، مثل: أغناكم اللّه و رزقنا اللّه و إيّاكم.

[سورة الإسراء (17): الآيات 29 الى 31]

وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ فَتَقْعُدَ مَلُوماً مَحْسُوراً (29) إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (30) وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ خَشْيَةَ إِمْلاقٍ نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً (31)

ثمّ أمر سبحانه بالاقتصاد الّذي هو بين الإسراف و التقتير، فقال: وَ لا تَجْعَلْ يَدَكَ مَغْلُولَةً إِلى عُنُقِكَ وَ لا تَبْسُطْها كُلَّ الْبَسْطِ هذان تمثيلان لمنع الشحيح و إسراف المبذّر.

و المعنى: لا تكن ممّن لا يعطي شيئا و لا يهب، فتكون بمنزلة من يده مغلولة إلى عنقه لا يقدر على الإعطاء. و هذا مبالغة في النهي عن الشحّ و الإمساك. و لا تعط أيضا جميع ما عندك، فتكون بمنزلة من بسط يده حتّى لا يستقرّ فيها شي ء. و المقصود الأمر بالاقتصاد

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 29

بينهما الّذي هو الكرم.

فَتَقْعُدَ مَلُوماً فتصير ملوما عند اللّه و عند النّاس بالإسراف و سوء التدبير مَحْسُوراً نادما، أو منقطعا بك لا شي ء عندك، من: حسره السفر إذا بلغ منه، أي:

انقطع.

و قيل: معناه: إن أمسكت قعدت ملوما مذموما، و إن أسرفت بقيت متحسّرا مغموما.

و

عن جابر: «بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جالس أتاه صبيّ فقال: إنّ أمّي تستكسيك درعا. فقال: من ساعة إلى ساعة يظهر، فعد إلينا. فذهب إلى أمّه فقالت: قل له: إنّ أمّي تستكسيك الدرع الّذي عليك. فدخل صلّى اللّه عليه و آله و سلّم داره، و نزع قميصه و أعطاه، و قعد عريانا.

و أذّن بلال، و انتظروه للصلاة فلم يخرج، فلامه الكفّار

و قالوا: إنّ محمدا اشتغل بالنوم و اللهو عن الصلاة. فأنزل اللّه ذلك،

ثمّ سلّاه بقوله: إِنَّ رَبَّكَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ يوسّعه و يضيّقه بمشيئته التابعة للحكمة، فليس ما يرهقك من الإضافة إلّا لمصلحتك إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً يعلم سرّهم و علنهم، فيعلم من مصالحهم ما يخفى عليهم.

و يجوز أن يراد أن البسط و القبض من أمر اللّه العالم بالسرائر و الظواهر، فأمّا العباد فعليهم أن يقتصدوا. أو أنّه تعالى يبسط تارة و يقبض أخرى، فاستنّوا بسنّته، و لا تقبضوا كلّ القبض، و لا تبسطوا كلّ البسط. و أن يكون تمهيدا لقوله: وَ لا تَقْتُلُوا أَوْلادَكُمْ أي:

بناتكم خَشْيَةَ إِمْلاقٍ مخافة الفاقة. و قتلهم أولادهم هو و أدهم بناتهم مخافة الفقر، فنهاهم عنه، و ضمن لهم أرزاقهم، فقال: نَحْنُ نَرْزُقُهُمْ وَ إِيَّاكُمْ إِنَّ قَتْلَهُمْ كانَ خِطْأً كَبِيراً ذنبا عظيما، لما فيه من قطع التناسل و انقطاع النوع. و الخطأ: الإثم. يقال: خطئ خطأ، كأثم إثما.

و قرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان: خطأ. و هو اسم من: أخطأ، يضادّ الصواب.

و قيل: لغة فيه، كمثل و مثل، و حذر و حذر. و قرأ ابن كثير خطاء بالمدّ و الكسر. و هو إمّا

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 30

لغة فيه، أو مصدر خاطأ. و هو و إن لم يسمع لكنّه جاء: تخاطأ، فهو مبنيّ عليه.

[سورة الإسراء (17): آية 32]

وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً وَ ساءَ سَبِيلاً (32)

وَ لا تَقْرَبُوا الزِّنى بالعزم و الإتيان بالمقدّمات فضلا عن أن تباشروه إِنَّهُ كانَ فاحِشَةً فعلة فاحشة زائدة عن حدّ القبح وَ ساءَ سَبِيلًا و بئس طريقا طريقه. و هو وطء المرأة حراما بلا عقد و لا شبهة عقد.

و في الأنوار: «هو الغصب

على الأبضاع المؤدّي إلى قطع الأنساب، و تهييج الفتن» «1». و إبطال المواريث، و صلة الرحم، و حقوق الآباء على الأولاد، و ذلك مستنكر في العقول.

و

في المجمع: «أخبرني المفيد عبد الجبّار بن عبد اللّه بن علي، قال: حدّثنا أبو جعفر الطوسي، قال: حدّثنا أبو عبد اللّه الحسن بن أحمد بن حبيب الفارسي، عن أبي بكر محمّد بن أحمد بن محمّد الجرجرائي، قال: سمعت أبا عمرو عثمان بن الخطّاب المعروف بأبي الدنيا يقول: سمعت عليّ بن أبي طالب عليه السّلام يقول: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: في الزنا ستّة خصال، ثلاث في الدنيا، و ثلاث في الآخرة. فأمّا اللواتي في الدنيا: فيذهب بنور الوجه، و يقطع الرزق، و يسرع الفناء. و أمّا اللّواتي في الآخرة: فغضب الربّ، و سوء الحساب، و الدخول في النار» «2».

[سورة الإسراء (17): آية 33]

وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ سُلْطاناً فَلا يُسْرِفْ فِي الْقَتْلِ إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً (33)

______________________________

(1) أنوار التنزيل 3: 201.

(2) مجمع البيان 6: 413- 414.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 31

وَ لا تَقْتُلُوا النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلَّا بِالْحَقِ إلّا بإحدى ثلاث: كفر بعد إيمان- سواء كان أصليّا أو بالارتداد- و زنا بعد إحصان- و في حكمه اللواط- و قتل مؤمن معصوم عمدا.

وَ مَنْ قُتِلَ مَظْلُوماً غير مستوجب للقتل فَقَدْ جَعَلْنا لِوَلِيِّهِ الّذي يلي أمره بعد وفاته، و هو الوارث سُلْطاناً تسلّطا على القاتل بالمؤاخذة و الاقتصاص منه، فإنّ قوله: «مظلوما» يدلّ على أنّ القتل عمدا عدوان، فإن الخطأ لا يسمّى ظلما فَلا يُسْرِفْ أي: القاتل فِي الْقَتْلِ بأن يقتل من لا يستحقّ قتله، فإنّ العاقل لا يفعل

ما يعود عليه بالهلاك. أو الوليّ بالمثلة، أو قتل غير القاتل. و قرأ حمزة و الكسائي: فلا تسرف، على خطاب أحدهما.

ثمّ استأنف الكلام بقوله: إِنَّهُ كانَ مَنْصُوراً علّة للنهي عن قتل غير المقتول و المثلة. و الضمير إمّا للمقتول، فإنّه منصور في الدنيا بثبوت القصاص بقتله، و في الآخرة بالثواب. و إمّا لوليّه، فإنّ اللّه نصره حيث أوجب القصاص له، و أمره الولاة بمعونته. و إمّا للّذي يقتله الوليّ إسرافا، بإيجاب القصاص أو التعزير و الوزر على المسرف.

[سورة الإسراء (17): الآيات 34 الى 35]

وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلاً (34) وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ إِذا كِلْتُمْ وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ ذلِكَ خَيْرٌ وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلاً (35)

وَ لا تَقْرَبُوا مالَ الْيَتِيمِ فضلا أن تتصرّفوا فيه إِلَّا بِالَّتِي أي: بالطريقة الّتي هِيَ أَحْسَنُ و هي حفظه عليه وجوبا، و تثميره مندوبا على الأصحّ حَتَّى يَبْلُغَ أَشُدَّهُ غاية لجواز التصرّف الّذي دلّ عليه الاستثناء.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 32

و بعد النهي عن المنهيّات المذكورة الّتي هي أمّ المناهي، حثّ عباده على الوفاء بالعهود، و على إتمام الوزن و الكيل في المعاملات، و إيفاء الحقوق الّذي هو سبب انتظام الأمور، فقال: وَ أَوْفُوا بِالْعَهْدِ بما عاهدكم اللّه من تكاليفه، أو ما عاهدتموه و غيره إِنَّ الْعَهْدَ كانَ مَسْؤُلًا مطلوبا يطلب من المعاهد أن لا يضيّعه و يفي به. أو مسئولا عنه، يسأل الناكث و يعاتب عليه. و يجوز أن يكون تخييلا، كأنّه يسأل العهد لم نكثت؟

و هلّا و في بك؟ تبكيتا للناكث، كما يقال للمؤودة: بأيّ ذنب قتل؟ و يجوز أن يراد: أن صاحب العهد كان مسئولا.

وَ أَوْفُوا الْكَيْلَ و لا تبخسوا فيه

إِذا كِلْتُمْ يعني: أوفوا الناس حقوقهم إذا كلتم عليهم حقوقهم وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ بالميزان السويّ الّذي لا بخس فيه و لا غبن، صغيرا كان أو كبيرا. و قيل: هو القبّان «1». و القسطاس رومي عرّب. و لا يقدح ذلك في عربيّة القرآن، لأنّ العجمي إذا استعملته العرب و أجرته مجرى كلامهم في الإعراب و التعريف و التنكير و نحوها صار عربيّا. و قرأ حمزة و الكسائي و حفص بكسر القاف هنا و في الشعراء «2».

ذلِكَ خَيْرٌ نموّا في المال وَ أَحْسَنُ تَأْوِيلًا عاقبة في المآل. و هو ثواب الآخرة. تفعيل من: آل إذا رجع.

[سورة الإسراء (17): آية 36]

وَ لا تَقْفُ ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ كانَ عَنْهُ مَسْؤُلاً (36)

ثمّ نهى عن اقتفاء شي ء لا يتعلّق العلم به، فقال: وَ لا تَقْفُ و لا تتّبع

______________________________

(1) القبان: آلة توزن بها الأشياء.

(2) الشعراء: 182

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 33

ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ ما لم يتعلّق به علمك تقليدا. و عن ابن عبّاس: لا تقل: سمعت و لم تسمع، و لا رأيت و لم تر، و لا علمت و لم تعلم. و العلم هنا مقابل الجهل، و هو الاعتقاد الراجح المستفاد من سند، سواء كان قطعا أو ظنّا. و استعماله بهذا المعنى شائع، فلا يكون حجّة لمن منع اتّباع الظنّ، فيدخل فيه الاجتهاد، لأنّ ذلك نوع من العلم، فإنّ الشرع قد أقام غالب الظنّ مقام العلم، و أمر بالعمل به.

و قيل: إنّه مخصوص بالعقائد. و قيل: بالرمي و شهادة الزور. و يؤيّده

قوله عليه السّلام: «من قفا مؤمنا بما ليس فيه حبسه اللّه في ردغة الخبال حتى يأتي بالمخرج».

و الردغة: الماء و

الطين و الوحل الشديد. و المراد هنا عصارة أهل النار، و الخبل عرقهم. و المعنّي من الآية: النهي عن أن يقول الرجل ما لا يعلم، و أن يعمل بما لم يعلم.

إِنَّ السَّمْعَ وَ الْبَصَرَ وَ الْفُؤادَ كُلُّ أُولئِكَ أي: كلّ هذه الأعضاء.

قال في الأنوار: «إنّما خصّ هذه القوى الثلاثة بالذكر، لأنّ العلوم إمّا مستفاد من الحواسّ أو العقول. و لمّا كانت هذه الثلاثة مسئولة عن أحوالها شاهدة على صاحبها أجريت مجرى العقلاء. و أيضا «أولاء» و إن غلّب في العقلاء، لكنّه من حيث إنّه اسم جمع ل «ذا» و هو يعمّ القبيلتين جاء لغيرهم» «1».

كانَ عَنْهُ مَسْؤُلًا الضمير للكلّ، أي: كان كلّ واحد منها مسئولا عن نفسه، يعني: عمّا فعل به صاحبه. و يجوز أن يكون الضمير في «عنه» لمصدر «لا تقف»، أو لصاحب السمع و البصر و الفؤاد. و قيل: إنّ «مسئولا» مسند إلى «عنه»، كقوله تعالى:

«غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ». و المعنى: يسأل صاحبه عنه. و هو خطأ، لأنّ الفاعل و ما يقوم مقامه لا يتقدّم.

______________________________

(1) أنوار التنزيل 3: 202. و لم ترد فيه الجملة الأولى.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 34

[سورة الإسراء (17): الآيات 37 الى 39]

وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ وَ لَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولاً (37) كُلُّ ذلِكَ كانَ سَيِّئُهُ عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً (38) ذلِكَ مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ وَ لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً مَدْحُوراً (39)

ثمّ نهى عن فعل قبيح آخر بقوله: وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أي: ذا مرح، و هو الاختيال و التكبّر إِنَّكَ لَنْ تَخْرِقَ الْأَرْضَ لن تجعل فيها خرقا بدوسك فيها و شدّة وطأتك وَ لَنْ تَبْلُغَ الْجِبالَ طُولًا بتطاولك. و هو

تهكّم بالمختال، و تعليل للنهي بأنّ الاختيال حماقة محضة لا تعود بجدوى، ليس في التذلّل.

قال في المجمع: «إنّما قال ذلك لأنّ من الناس من يمشي في الأرض بطرا، يدقّ قدميه عليها ليرى بذلك قدرته و قوّته، و يرفع رأسه و عنقه، فبيّن سبحانه أنّه ضعيف مهين، لا يقدر أن يخرق الأرض بدقّ قدميه عليها حتى ينتهي إلى آخرها، و أنّ طوله لا يبلغ طول الجبال و إن كان طويلا» «1».

كُلُّ ذلِكَ إشارة إلى الخصال الخمس و العشرين المذكورة من قوله: لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ «2». و عن ابن عبّاس: أنّ هذه الثماني «3» عشرة آية كانت مكتوبة في ألواح موسى عليه السّلام. كانَ سَيِّئُهُ يعني: المنهيّ عنه، فإنّ المذكورات مأمورات و منهيّات.

و قرأ الحجازيّان و البصريّان: سيّئة، على أنّها خبر «كان»، و الاسم ضمير «كلّ»،

______________________________

(1) مجمع البيان 6: 416.

(2) الإسراء: 22.

(3) أي: من آية 22 إلى 39 من سورة الإسراء.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 35

و «ذلك» إشارة إلى ما نهى عنه خاصّة. و على هذا قوله: عِنْدَ رَبِّكَ مَكْرُوهاً بدل من «سيّئة» أو صفة لها محمولة على المعنى، فإنّه بمعنى: سيّئا. و في الكشّاف: «السيّئة في حكم الأسماء بمنزلة الذنب و الإثم، زال عنه حكم الصفات، فلا اعتبار بتأنيثه» «1».

و يجوز أن ينتصب «مكروها» على الحال من المستكن في «كان»، أو في الظرف، على أنّه صفّة «سيّئة».

و في هذا دلالة واضحة على بطلان قول المجبّرة، فإنّه سبحانه صرّح بأنّه يكره المعاصي و السيّئات، و إذا كرهها فكيف يريدها؟! فإنّ من المحال أن يكون الشي ء الواحد مرادا و مكروها عنده.

ذلِكَ إشارة إلى الأحكام المتقدّمة، من الأوامر و النواهي مِمَّا أَوْحى إِلَيْكَ رَبُّكَ مِنَ الْحِكْمَةِ الّتي

هي معرفة الحقّ لذاته، و معرفة الخير للعمل به. و في الكشّاف:

«سمّاه حكمة لأنّه كلام محكم لا مدخل فيه للفساد بوجه» « «2»».

وَ لا تَجْعَلْ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ كرّره للتنبيه على أنّ التوحيد مبدأ الأمر و منتهاه، فإنّ من لا قصد له بطل عمله، و من قصد بفعله أو تركه غيره ضاع سعيه، و أنّه رأس الحكمة و ملاكها، و من عدمه لم تنفعه حكمه و علومه، و إن بذّ «3» فيها الحكماء، و حكّ بيافوخه «4» السماء، و ما أغنت عن الفلاسفة أسفار الحكم، و هم عن دين اللّه أضلّ من النعم.

و رتّب عليه أوّلا ما هو عائدة الشرك في الدنيا، و ثانيا ما هو نتيجته في العقبى، فقال: فَتُلْقى فِي جَهَنَّمَ مَلُوماً أي: إذا فعلت ذلك فتلقى و تطرح في النار تلوم نفسك

______________________________

(1، 2) الكشّاف 2: 668.

(3) بذّه أي: غلبه وفاقه.

(4) اليافوخ: موضع من رأس الطفل بين عظام جمجمته. يقال: مسّ بيافوخه السماء، إذا علا قدره و تكبّر.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 36

مَدْحُوراً مبعدا من رحمة اللّه تعالى.

[سورة الإسراء (17): الآيات 40 الى 41]

أَ فَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ وَ اتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلاً عَظِيماً (40) وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِيَذَّكَّرُوا وَ ما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (41)

أَ فَأَصْفاكُمْ رَبُّكُمْ بِالْبَنِينَ خطاب لمن قالوا: الملائكة بنات اللّه. و الهمزة للإنكار. و المعنى: أ فخصّكم ربّكم بأفضل الأولاد و هم البنون. وَ اتَّخَذَ مِنَ الْمَلائِكَةِ إِناثاً بنات لنفسه؟! و هذا خلاف ما عليه عقولكم و عادتكم إِنَّكُمْ لَتَقُولُونَ قَوْلًا عَظِيماً بإضافة الأولاد إليه، و هي خاصّة بالأجسام لسرعة زوالها، ثمّ بتفضيل أنفسكم عليه حيث تجعلون له ما تكرهون، ثمّ. يجعل الملائكة الّذين هم من أشرف خلق

اللّه أدونهم.

وَ لَقَدْ صَرَّفْنا كرّرنا الدلائل، و فصّلنا العبر، بوجوه من تقرير التوحيد فِي هذَا الْقُرْآنِ في مواضع منه. و ترك المفعول لدلالة الكلّي عليه، و علم السامع به. و يجوز أن يراد بهذا القرآن إبطال إضافة البنات إليه، لأنّه ممّا صرفه و كرّر ذكره. و المعنى: و لقد صرّفنا القول في هذا المعنى، أو أوقعنا التصريف فيه. لِيَذَّكَّرُوا ليتذكّروا. و قرأ حمزة و الكسائي هنا و في الفرقان «1»: ليذكروا، من الذكر الّذي بمعنى التذكّر. يعني: كرّرناه ليتّعظوا و يعتبروا و يطمئنّوا إلى ما يحتجّ به عليهم.

وَ ما يَزِيدُهُمْ و ما يزيد هؤلاء الكفّار تصريف الأمثال و الدلائل لهم إِلَّا نُفُوراً عن الحقّ، و قلّة طمأنينة إليه. و أضاف النفور إلى القرآن، لأنّهم ازدادوا النفور عند

______________________________

(1) الفرقان: 50.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 37

نزوله، كقوله: فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً «1». و الحكمة في إنزاله- مع أنّهم يزدادون النفور عند إنزال القرآن- إلزام الحجّة، و قطع المعذرة في إظهار الدلائل الّتي تحسن التكليف. و عن سفيان: كان إذا قرأها قال: زادني لك خضوعا ما زاد أعداءك نفورا.

[سورة الإسراء (17): الآيات 42 الى 44]

قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ إِذاً لابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلاً (42) سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا كَبِيراً (43) تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ إِلاَّ يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (44)

ثمّ بيّن التوحيد بأوضح البيان، فقال: قُلْ لَوْ كانَ مَعَهُ آلِهَةٌ كَما يَقُولُونَ ايّها المشركون. و قرأ ابن كثير و حفص بالياء فيه و فيما بعده، على أنّ الكلام مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و وافقهما نافع و ابن

عامر و أبو بكر و أبو عمرو و يعقوب في الثانية، على أنّ الأولى ممّا أمر الرسول أن يخاطب به المشركين، و الثانية ممّا نزّه به نفسه عن مقالتهم. إِذاً لَابْتَغَوْا إِلى ذِي الْعَرْشِ سَبِيلًا جواب عن قولهم، و جزاء ل «لو».

و المعنى: لطلبوا إلى من له الملك و الربوبيّة طريقا بالمغالبة، كما يفعل الملوك بعضهم مع بعض، فإنّ الشريكين في الإلهيّة يكونان متساويين في صفات الذات، و يطلب أحدهما مغالبة صاحبه ليصفو له الملك. و فيه إشارة إلى برهان التمانع، كقوله: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «2».

قيل: معناه ليقربوا إليه بالطاعة، لعلمهم بقدرته و عجزهم، كقوله:

______________________________

(1) نوح: 6.

(2) الأنبياء: 22.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 38

أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ «1».

سُبْحانَهُ تنزّه تنزيها وَ تَعالى عَمَّا يَقُولُونَ عُلُوًّا تعاليا كَبِيراً متباعدا غاية البعد عمّا يقولون، فإنّه في أعلى مراتب الوجود، و هو كونه واجب الوجود و واجب البقاء لذاته، و اتّخاذ الولد من أدنى مراتبه، فإنّه من خواصّ ما يمتنع بقاؤه، فوصف العلوّ بالكبر للمبالغة في معنى البراءة و البعد ممّا و صفوه به.

تُسَبِّحُ لَهُ السَّماواتُ السَّبْعُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَ حيث تدلّ على صانعها و على صفاتها العلى بإمكانها و حدوثها.

وَ إِنْ مِنْ شَيْ ءٍ و ليس شي ء من الموجودات إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ ينزّهه عمّا هو من لوازم الإمكان و توابع الحدوث بلسان الحال، إذ كلّها حادث مصنوع، فتدلّ بإمكانها و حدوثها على الصانع القديم، الواجب لذاته، القادر على جميع الممكنات، على وجه كأنّها تنطق بذلك. و هذا التسبيح المجازي حاصل في الجميع، فيحمل عليه. و أيضا هو من طريق الدلالة أقوى من التسبيح الحقيقي، لأنّه يؤدّي إلى العلم به، بخلاف

الحقيقي.

وَ لكِنْ لا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ أيّها المشركون، فإنّهم و إن كانوا إذا سئلوا عن خالق السماوات و الأرض قالوا: اللّه، إلّا أنّهم لمّا جعلوا معه آلهة مع إقرارهم، فكأنّهم لم ينظروا و لم يقرّوا، لأنّ نتيجة النظر الصحيح و الإقرار الثابت خلاف ما كانوا عليه، فإذا لم يفقهوا التسبيح، و لم يستوضحوا الدلالة على الخالق.

و يجوز أن يحمل التسبيح على المشترك بين اللفظ الّذي هو التسبيح الحقيقي، و الدلالة الّتي هي التسبيح المجازي، لإسناده إلى ما يتصوّر منه اللفظ من الملائكة و الثقلين، و إلى ما لا يتصوّر منه من غير ذوي العقول. و يجوز حمله عليهما جميعا عند من جوّز إطلاق اللفظ على معنييه.

______________________________

(1) الإسراء: 57.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 39

و قرأ ابن كثير و نافع و ابن عامر و أبو بكر عن عاصم: يسبّح بالياء.

إِنَّهُ كانَ حَلِيماً حيث لم يعاجلكم بالعقوبة على غفلتكم و سوء نظركم، و جهلكم بالتسبيح و شرككم غَفُوراً لمن تاب منكم.

[سورة الإسراء (17): الآيات 45 الى 47]

وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً (45) وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً (46) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ وَ إِذْ هُمْ نَجْوى إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (47)

و لمّا تقدّم قوله: «وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ» بيّن سبحانه حالهم عند قراءة القرآن، فقال: وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً أي: يحجبهم عنك عند قراءتك ستر ذا ستر، كقولهم: سيل مفعم «1»، أي: ذو إفعام. أو مستورا عن العيون من

قدرة اللّه، فهو حجاب لا يرى. و يجوز أن يراد به حجاب من دونه حجاب.

قال الكلبي: هم: أبو سفيان، و النضر بن الحارث، و أبو جهل، و أمّ جميل امرأة أبي لهب، حجب اللّه رسوله عن أبصارهم عند قراءة القرآن، و كانوا يأتونه و يمرّون به و لا يرونه، لئلّا يؤذوه.

______________________________

(1) أي: مالئ، من: أفعم الإناء: ملأه.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 40

وَ جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً تكنّها و تحول دونها عن إدراك الحقّ و قبوله أَنْ يَفْقَهُوهُ كراهة أن يفقهوه وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً يمنعهم عن استماعه. يعني: أنّهم في رسوخ الكفر، و الانهماك في العناد، و التصميم على اللجاج في طريق الاعوجاج، على وجه كأنّ اللّه تعالى جعل أكنّة على قلوبهم لئلّا يفقهوا القرآن، و في آذانهم صمما لئلّا يستمعوه، لا أنّه واقع على معناه الظاهري، فإنّه قبيح غاية القبح، و مستلزم لتكليف ما لا يطاق، تعالى اللّه عن ذلك.

و قال صاحب الكشّاف: «هذه حكاية لما كانوا يقولونه: وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ «1» كأنّه قال: و إذا قرأت القرآن جعلنا على زعمهم» «2». و قد مرّ تحقيق ذلك في سورة الأنعام «3».

و قيل: معناه: أنّا جعلنا بينك و بينهم حجابا. بمعنى: باعدنا بينك و بينهم في القرآن، فهو لك و للمؤمنين معك شفاء و هدى، و هو للمشركين في آذانهم وقر و عليهم عمى، فهذا هو الحجاب. و هذا منقول عن أبي مسلم.

وَ إِذا ذَكَرْتَ رَبَّكَ فِي الْقُرْآنِ وَحْدَهُ واحدا غير مشفوع به آلهتهم. مصدر وقع موقع الحال. و أصله واحدا وحده. وَلَّوْا عَلى أَدْبارِهِمْ نُفُوراً هربا من استماع التوحيد أو

تولية. و يجوز أن يكون جمع نافر، كقاعد و قعود.

نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَسْتَمِعُونَ بِهِ بسببه و لأجله من الهزء بك و بالقرآن.

قيل: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا كان يقرأ يقوم عن يمينه رجلان من عبد الدار، و رجلان منهم عن يساره، فيصفّقون و يصفّرون و يخلّطون عليه بالأشعار.

إِذْ يَسْتَمِعُونَ إِلَيْكَ ظرف ل «أعلم». و كذا وَ إِذْ هُمْ نَجْوى أي: نحن أعلم

______________________________

(1) فصّلت: 5.

(2) الكشّاف 2: 670- 671.

(3) راجع ج 2 ص 374 ذيل الآية 25 من سورة الأنعام.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 41

بغرضهم من الاستماع حين هم مستمعون إليك مضمرون له، و حين هم ذووا نجوى يتناجون به في أمرك.

قيل: يعني بهم أبا جهل و زمعة بن الأسود و عمرو بن هشام و خويطب بن عبد العزّى، اجتمعوا و تشاوروا في أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فقال أبو جهل: هو مجنون. و قال زمعة: هو شاعر. و قال خويطب: هو كاهن. ثمّ أتوا الوليد بن المغيرة و عرضوا عليه ذلك، فقال: هو ساحر.

و نجوى مصدر. و يحتمل أن يكون جمع نجيّ.

إِذْ يَقُولُ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً مقدّر ب: أذكر، أو بدل من «إذ هم نجوى» على وضع «الظالمون» موضع الضمير، للدلالة على أن تناجيهم بقوله هذا ظلم. و المسحور هو الّذي سحر فزال عقله. و قيل: الّذي له سحر، و هو الرئة، أي: إلّا رجلا يتنفّس و يأكل و يشرب مثلكم.

[سورة الإسراء (17): الآيات 48 الى 52]

انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (48) وَ قالُوا أَ إِذا كُنَّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (49) قُلْ كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً (50) أَوْ خَلْقاً

مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ فَسَيَقُولُونَ مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ وَ يَقُولُونَ مَتى هُوَ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً (51) يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ بِحَمْدِهِ وَ تَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً (52)

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 42

ثمّ قال على وجه التعجّب: انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ مثّلوك بالشاعر و الساحر و الكاهن و المجنون فَضَلُّوا عن الحقّ في جميع ذلك، كضلال من يطلب في التيه طريقا يسلكه فلا يقدر عليه، فهو متحيّر في أمره لا يدري ما يصنع فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا إلى طعن بوجه فيتهافتون و يخبطون.

وَ قالُوا أَ إِذا كُنَّا عِظاماً وَ رُفاتاً و غبارا. و عن مجاهد: ترابا. أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً يعني: قال منكروا البعث على الإنكار و الاستبعاد: أ إذا متنا، و انتثرت لحومنا، و صرنا عظاما و حطاما، أنبعث بعد ذلك خلقا متجدّدا؟ لما بين غضاضة الحيّ و يبوسة الرميم من المباعدة و المنافاة. و العامل في «إذا» ما دلّ عليه «مبعوثون» لا نفسه، لأنّ ما بعد «إنّ» لا يعمل فيما قبلها. و «خلقا» مصدر أو حال.

قُلْ جوابا لهم كُونُوا حِجارَةً أَوْ حَدِيداً أي: اجهدوا في أن لا تعادوا، فكونوا إن استطعتم حجارة في القوّة و الصلابة، أو حديدا في الشدّة و الجساوة «1».

أَوْ خَلْقاً مِمَّا يَكْبُرُ فِي صُدُورِكُمْ أي: ممّا يكبر عندكم عن قبول الحياة، لكونه أبعد شي ء منها، كالسماوات و الأرض و الجبال، فإنّ قدرته تعالى لا تقصر عن إحيائكم، لاشتراك الأجسام في قبول الأعراض، فكيف إذا كنتم عظاما مرفوتة، و قد كانت غضّة موصوفة بالحياة قبل؟! و الشي ء أقبل لما عهد فيه ممّا لم يعهد. و خرج الكلام مخرج الأمر، لأنّه أبلغ في

الإلزام.

فَسَيَقُولُونَ إنكارا و استبعادا مَنْ يُعِيدُنا قُلِ الَّذِي فَطَرَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ و كنتم ترابا و ما هو أبعد منه من الحياة، فإنّ من قدر على ابتداء الشي ء كان على إعادته أقدر، فإنّ ابتداء الشي ء أصعب من إعادته، و أنتم تقرّون بالنشأة الأولى، فلم تنكرون النشأة الآخرة، مع أنّها أهون و أسهل؟! فَسَيُنْغِضُونَ إِلَيْكَ رُؤُسَهُمْ فسيحرّكونها نحوك تعجّبا و استهزاء

______________________________

(1) أي: الصلابة، من: جسأ أو جسا، إذا صلب.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 43

وَ يَقُولُونَ مَتى هُوَ متى يكون البعث؟ قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ قَرِيباً فإنّ كلّ آت قريب. و انتصابه على الخبر أو الظرف، أي: يكون في زمان قريب. و «أن يكون» اسم عسى أو خبره، و الاسم مضمر.

يَوْمَ يَدْعُوكُمْ فَتَسْتَجِيبُونَ أي: يوم نبعثكم فتنبعثون مطاوعين منقادين لا تمنعون. استعار لهما الدعاء و الاستجابة للتنبيه على سرعتهما و تيسّر أمرهما، و أنّ المقصود منهما الإحضار للمحاسبة و الجزاء. بِحَمْدِهِ حال منهم، أي: حامدين اللّه على كمال قدرته، كما نقل عن سعيد بن جبير: أنّهم ينفضون التراب عن رؤوسهم و يقولون: سبحانك اللّهمّ و بحمدك.

و في الكشّاف: «هي مبالغة في انقيادهم للبعث، كقولك لمن تأمره بركوب ما يشقّ عليه فيتأبّى و يتمنّع: ستركبه و أنت حامد شاكر» «1».

وَ تَظُنُّونَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا و تستقصرون مدّة حياتكم في الدّنيا، و تحسبونها يوما أو بعض يوم، لسرعة انقلاب الدنيا إلى الآخرة، أو لما ترون من الهول. أو لمدّة مكثكم في القبر. و قال قتادة: استقصروا مدّة لبثهم في الدنيا لما يعلمون من طول لبثهم في الآخرة.

[سورة الإسراء (17): الآيات 53 الى 54]

وَ قُلْ لِعِبادِي يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلْإِنْسانِ عَدُوًّا مُبِيناً (53) رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ إِنْ يَشَأْ

يَرْحَمْكُمْ أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ وَ ما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلاً (54)

وَ قُلْ لِعِبادِي يعني: المؤمنين يَقُولُوا للمشركين الَّتِي الكلمة الّتي

______________________________

(1) الكشّاف 2: 672.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 44

هِيَ أَحْسَنُ و لا يخاشنوهم، كقوله: وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ «1».

إِنَّ الشَّيْطانَ يَنْزَغُ بَيْنَهُمْ يهيّج بينهم المراء و المخاصمة و المشاقّة، و يغري بعضهم ببعض، و يلقي بينهم العداوة، فلعلّ المخاشنة بهم تفضي إلى العناد و ازدياد الفساد.

إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ في جميع الأوقات لِلْإِنْسانِ لآدم و ذريّته عَدُوًّا مُبِيناً ظاهر العداوة.

ثمّ فسّر الّتي هي أحسن بقوله: رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ و بما هو صلاح لكم إِنْ يَشَأْ يَرْحَمْكُمْ بالتوبة أَوْ إِنْ يَشَأْ يُعَذِّبْكُمْ بالإصرار على المعصية. و ما بينهما «2» اعتراض. و المعنى: قولوا لهم هذه الكلمة و نحوها، و لا تصرّحوا بأنّهم من أهل النار، فإنّه يهيّجهم على الشرّ، مع أنّ ختام أمرهم غيب لا يعلمه إلّا اللّه.

وَ ما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ وَكِيلًا موكولا إليك أمرهم تقسرهم على الإيمان، و إنّما أرسلناك مبشّرا و نذيرا، فدارهم و مر أصحابك بالاحتمال منهم. روي أنّ المشركين أفرطوا في إيذائهم، فشكوا إلى رسول اللّه، فنزلت، و ذلك قبل نزول آية السيف «3».

و قيل: الكلمة الّتي هي أحسن أن يقولوا: يهديكم اللّه و يرحمكم اللّه. و الخطاب في قوله: «رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِكُمْ» للمؤمنين. و المعنى: إن يشأ يرحمكم بإخراجكم من مكّة و تخليصكم من إيذاء المشركين، و إن يشأ يعذّبكم بتسليطهم عليكم. أو إن يشأ يرحمكم بفضله، و إن يشأ يعذّبكم بعذابه. و هو الأظهر.

[سورة الإسراء (17): الآيات 55 الى 57]

وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً (55) قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِهِ فَلا

يَمْلِكُونَ كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ وَ لا تَحْوِيلاً (56) أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخافُونَ عَذابَهُ إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً (57)

______________________________

(1) النحل: 125.

(2) أي: ما بين قوله تعالى: «يَقُولُوا الَّتِي هِيَ أَحْسَنُ» و قوله: «رَبُّكُمْ أَعْلَمُ».

(3) التوبة: 5 و 29.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 45

ثمّ عاد إلى خطاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: وَ رَبُّكَ أَعْلَمُ بِمَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ بأحوالهم و بما يستأهل كلّ واحد منهم، فيختار منهم لنبوّته و ولايته من يشاء. و هو ردّ لاستبعاد قريش أن يكون يتيم أبي طالب نبيّا، و أن يكون العراة الجوّع أصحابه، كصهيب و بلال و خباب، دون أن يكون ذلك في بعض أكابرهم و صناديدهم.

ثمّ زاد في الموعظة بقوله: وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ عَلى بَعْضٍ بالفضائل النفسانيّة، و التبرّي عن العلائق الجسمانيّة، لا بكثرة الأموال و الأتباع، حتّى داود عليه السّلام، فإنّ شرفه بما أوحي إليه من الكتاب، لا بما أوتيه من الملك. فقوله بعده: وَ آتَيْنا داوُدَ زَبُوراً إشارة إلى بعض ذلك.

و قيل: قوله: «وَ لَقَدْ فَضَّلْنا بَعْضَ النَّبِيِّينَ» إشارة إلى تفضيل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ما بعده تنبيه على وجه تفضيله، و هو أنه خاتم الأنبياء و أمّته خير الأمم، المدلول عليه.

بما كتب في الزبور من أنّ الأرض يرثها عبادي الصالحون، و هم محمّد و أمّته.

و قيل: وجه تخصيصه بالذكر «أنّ كفّار قريش ما كانوا على نظر و جدل، بل كانوا يرجعون إلى اليهود في استخراج الشبهات، و اليهود كانوا يقولون: لا نبيّ بعد موسى و لا كتاب بعد التوراة، فنقض اللّه عليهم كلامهم

بإنزال الزبور على داود» كذا في الكبير «1».

______________________________

(1) التفسير الكبير للرازي 20: 230.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 46

و تنكيره هاهنا و تعريفه في قوله: وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ «1» لأنّه في الأصل فعول بمعنى المفعول كالحلوب، أو المصدر كالقبول. و يؤيّده قراءة حمزة بالضمّ. و هو كالعبّاس و عبّاس، و الفضل و فضل. أو لأنّ المراد و آتينا داود بعض الزبر، و هي الكتب.

و أن يراد ما ذكر فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الزبور، فسمّى ذلك زبورا، لأنّه بعض الزبور، كما سمّي بعض القرآن قرآنا.

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أنّها آلهة مِنْ دُونِهِ كالملائكة و المسيح و عزيز فَلا يَمْلِكُونَ فلا يستطيعون كَشْفَ الضُّرِّ عَنْكُمْ كالمرض و الفقر و القحط وَ لا تَحْوِيلًا و لا تحويل ذلك منكم إلى غيركم.

أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يعني: هؤلاء الآلهة يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ يطلبون إلى اللّه القربة بالطاعة أَيُّهُمْ أَقْرَبُ بدل من واو «يبتغون»، أي: يبتغي من هو أقرب منهم إلى اللّه الوسيلة، فكيف بغير الأقرب؟! وَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخافُونَ عَذابَهُ كسائر العباد، فكيف تزعمون أنّهم آلهة؟! إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ كانَ مَحْذُوراً حقيقا بأن يحذره كلّ أحد، حتى الرسل و الملائكة، فضلا عن غيرهم.

[سورة الإسراء (17): الآيات 58 الى 59]

وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ نَحْنُ مُهْلِكُوها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (58) وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلاَّ أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ وَ آتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها وَ ما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلاَّ تَخْوِيفاً (59)

______________________________

(1) الأنبياء: 105.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 47

وَ إِنْ مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا نَحْنُ مُهْلِكُوها بإماتة أهلها و استئصال ساكنيها قَبْلَ يَوْمِ الْقِيامَةِ أَوْ مُعَذِّبُوها عَذاباً شَدِيداً

بالقتل و أنواع البليّة. قيل: الهلاك للصالحة، و العذاب للطالحة.

و عن مقاتل: وجدت في كتب الضحّاك بن مزاحم في تفسيرها: أمّا مكّة فيخرّبها الحبشة، و تهلك المدينة بالجوع، و البصرة بالغرق، و الكوفة بالترك، و الجبال- يعني:

بلادها الّتي يسكنها الأكراد، ما بين بغداد و ما والاها- بالصواعق و الرواجف. و أمّا خراسان فعذابها ضروب، ثمّ ذكرها بلدا بلدا.

كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ في اللوح المحفوظ مَسْطُوراً أخبر أنّ ذلك كائن لا محالة، و لا يكون خلافه.

وَ ما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ و ما صرفنا عن إرسال الآيات الّتي اقترحها قريش، من قلب الصفا ذهبا، و من إحياء الموتى، و غير ذلك إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ إلا تكذيب الأوّلين الّذين هم أمثالهم في الطبع، كعاد و ثمود. يعني: أنّها لو أرسلت لكذّبوا بها تكذيب أولئك، و استوجبوا الاستئصال، على ما مضت به سنّتنا في الأمم أن من كذّب بالآيات المقترحة عوجل بعذاب الاستئصال بعد أن كفر بها. و من حكمنا النافذ أن لا نستأصلهم لشرف محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لأنّ منهم من يؤمن أو يلد من يؤمن و ينصر دينه الإسلام، فإنّ أمّته باقية، و شريعته مؤيّدة إلى يوم القيامة.

ثمّ ذكر بعض الأمم المهلكة بتكذيب الآيات المقترحة، فقال: وَ آتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ بسؤالهم مُبْصِرَةً بيّنة ذات أبصار، فإنّ آثارهم قريبة من قريش، يبصرها صادرهم و واردهم، أو بصائر. أو جاعلتهم ذوي بصائر. فَظَلَمُوا بِها فكفروا بها، أو فظلموا أنفسهم بسبب عقرها.

وَ ما نُرْسِلُ بِالْآياتِ يعني: بالآيات المقترحة إِلَّا تَخْوِيفاً من نزول العذاب المستأصل. أو بالآيات غير المقترحة- كالمعجزات و آيات القرآن- إلّا إنذارا بعذاب

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 48

الآخرة، فإنّ أمر

من بعثت إليهم مؤخّر إلى يوم القيامة. و الباء مزيدة، أو في موضع الحال، و المفعول محذوف.

[سورة الإسراء (17): آية 60]

وَ إِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ إِلاَّ فِتْنَةً لِلنَّاسِ وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ وَ نُخَوِّفُهُمْ فَما يَزِيدُهُمْ إِلاَّ طُغْياناً كَبِيراً (60)

ثمّ قال سبحانه مخاطبا لنبيّه: وَ إِذْ قُلْنا لَكَ و اذكر إذ أوحينا إليك إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ كلّهم، فهم في قبضة قدرته و من تحت علمه، فإنّه عالم بأحوالهم و بما يفعلونه من طاعة أو معصية، قادر على ما يستحقّونه على ذلك من الثواب و العقاب. أو أحاط بقريش، بمعنى: أهلكهم، من: أحاط بهم العدوّ. فهو بشارة بوقعة بدر، و بالنصرة عليهم. و التعبير بلفظ الماضي لتحقّق وقوعه. و هو كقوله: سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ «1» قُلْ لِلَّذِينَ كَفَرُوا سَتُغْلَبُونَ وَ تُحْشَرُونَ «2» و غير ذلك.

وَ ما جَعَلْنَا الرُّؤْيَا الَّتِي أَرَيْناكَ قيل: المراد بهذه الرؤية رؤية العين، و هي ما ذكر في أوّل السورة من إسراء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى بيت المقدس و إلى السماوات في ليلة واحدة، فلمّا رأى ذلك ليلا و أخبر بها حين أصبح سمّاها رؤيا. و سمّاها فتنة في قوله:

إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ لأنّه أراد بها الامتحان و شدّة التكليف، ليعرض المصدّق بذلك لجزيل ثوابه و المكذّب به لأليم عقابه. و هذا مرويّ عن ابن عبّاس و سعيد بن جبير و الحسن و قتادة.

______________________________

(1) القمر: 45.

(2) آل عمران: 12

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 49

و قال بعضهم: إنّها رؤيا نوم رآها أنّه دخل مكّة و هو بالمدينة، فقصدها فصدّه المشركون في الحديبية عن دخولها، حتّى شكّ قوم و دخلت عليهم الشبهة،

فقالوا:

يا رسول اللّه أ لست قد أخبرتنا أنّا ندخل المسجد الحرام آمنين؟ فقال: أو قلت لكم إنّكم تدخلونها العام؟ قالوا: لا. فقال: لندخلنّها إن شاء اللّه. و رجع ثمّ دخل مكّة في العام القابل، فنزل: لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِ «1». و هو قول الجبائي و أبو مسلم.

و فيه: أنّ الآية مكيّة، إلّا أن يقال: رآها بمكّة و حكاها حينئذ.

و قيل: هي رؤيا رآها في وقعة بدر، لقوله: إِذْ يُرِيكَهُمُ اللَّهُ فِي مَنامِكَ قَلِيلًا «2».

و لما

روي أنه لمّا ورد ماء بدر قال: لكأنّي أنظر مصارع القوم، هذا مصرع فلان هذا مصرع فلان، فتسامعت به قريش و استسخروا منه.

و

قيل: رأى في المنام قوما من بني أميّة يرقون على منبره و ينزون عليه نزو القردة، فقال: هذا حظّهم من الدنيا، يعطون بظاهر إسلامهم. و هو منقول عن سهل بن سعيد عن أبيه،

و

مرويّ عن أبي عبد اللّه و أبي جعفر عليهما السّلام، حيث قالا: «إنّ الشجرة الملعونة في القرآن هي بنو أميّة، أخبره اللّه تعالى بتغلّبهم على مقامه، و قتلهم ذرّيّته».

و بعد هذه الرؤية لم ير صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ضاحكا حتّى مات.

و على هذا كان المراد بقوله: «إِلَّا فِتْنَةً لِلنَّاسِ» ما حدث في أيّامهم، كما

روي عن المنهال بن عمرو قال: «دخلت على عليّ بن الحسين عليهما السّلام فقلت له: كيف أصبحت يا ابن رسول اللّه؟ فقال: أصبحنا و اللّه بمنزلة بني إسرائيل من آل فرعون، يذبّحون أبناءهم، و يستحيون نساءهم، و أصبح خير البريّة بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يلعن على المنابر، و أصبح من يحبّنا منقوصا حقّه بحبّه إيّانا».

و قيل للحسن: يا أبا سعيد قتل الحسين بن

عليّ عليهما السّلام، فبكى حتّى اختلج جنباه،

______________________________

(1) الفتح: 27.

(2) الأنفال: 43.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 50

زبدة التفاسير ج 4 99

ثمّ قال: و اذلّاه لأمّة قتل ابن دعيّها ابن نبيّها.

و قوله: وَ الشَّجَرَةَ الْمَلْعُونَةَ فِي الْقُرْآنِ عطف على الرؤيا، أي: و ما جعلنا الشجرة الملعونة في القرآن إلّا فتنة للناس. و هي شجرة الزقّوم، لمّا سمع المشركون ذكرها قالوا: إنّ محمّدا يزعم أنّ الجحيم تحرق الحجارة ثمّ يقول: ينبت فيها الشجر. و ما قدروا اللّه حقّ قدره، و لم يعلموا أنّ من قدر أن يحمي و بر السمندر من أن تأكله النار- و هو دويبّة ببلاد الترك تتّخذ منه مناديل، إذا اتّسخت طرحت في النار، فذهب الوسخ و بقي المنديل سالما لا تعمل فيه النار- و أحشاء النعامة من أذى الجمر و قطع الحديد المحماة الحمر الّتي تبتلعها، قدر أن يخلق في النار شجرة لا تحرقها.

و لعنها في القرآن لعن طاعميها. و صفت به على المجاز للمبالغة. أو وصفها بأنّها في أصل الجحيم، فإنّه أبعد مكان من الرحمة. أو بأنّها مكروهة مؤذية، من قولهم: طعام ملعون لما كان ضارّا. و قد أوّلت بالشيطان، و أبي جهل، و الحكم بن أبي العاص. قيل: هي بني أميّة الّذين أكثرهم أولاد الزنا.

وَ نُخَوِّفُهُمْ بأنواع التخويف فَما يَزِيدُهُمْ إِلَّا طُغْياناً كَبِيراً إلّا عتوّا في الكفر، متجاوز الحدّ في الغيّ.

[سورة الإسراء (17): الآيات 61 الى 65]

وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ قالَ أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً (61) قالَ أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلاَّ قَلِيلاً (62) قالَ اذْهَبْ فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جَزاءً مَوْفُوراً (63) وَ اسْتَفْزِزْ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ بِصَوْتِكَ وَ

أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ وَ شارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ وَ عِدْهُمْ وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلاَّ غُرُوراً (64) إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ وَ كَفى بِرَبِّكَ وَكِيلاً (65)

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 51

ثمّ ذكر قصّة آدم و إبليس ليعلم عداوته المستمرّة من لدن آدم إلى يوم القيامة ليحترزوا عنه، فقال: وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ تقدّم تفسيره في سورة البقرة «1» قالَ أَ أَسْجُدُ لِمَنْ خَلَقْتَ طِيناً أي: من طين، فنصب بنزع الخافض. و يجوز أن يكون حالا من الراجع إلى الموصول، أي: خلقته و هو طين. أو منه، أي: أ أسجد له و أصله طين؟ و فيه على الوجوه الثلاثة إيماء إلى علّة الإنكار.

قالَ أَ رَأَيْتَكَ هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَ الكاف لتأكيد الخطاب، لا محلّ له من الإعراب. و «هذا» مفعول أوّل، و «الّذي» صفته. و المفعول الثاني محذوف، لدلالة صلته عليه. و المعنى: أخبرني عن هذا الّذي كرّمته عليّ بأمري بالسجود له لم كرّمته عليّ و أنا ختر منه؟ و اختصر الكلام بحذف ذلك.

ثمّ ابتدأ فقال: لَئِنْ أَخَّرْتَنِ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ كلام مبتدأ، و اللام موطّئة للقسم المحذوف، و جوابه لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا أي: لأستأصلنّهم بالإغواء إلّا قليلا لا أقدر أن أقاوم شكيمتهم. من: احتنك الجراد الأرض إذا جرّد ما عليها- أي: قشره- أكلا، مأخوذ من الحنك. و إنّما علم أنّ ذلك يتسهّل له، إمّا استنباطا من قول الملائكة: أَ تَجْعَلُ فِيها مَنْ يُفْسِدُ فِيها «2» مع تقرير اللّه إيّاهم في ذلك، أو تفرّسا من خلقه ذا شهوة و وهم و غضب.

قالَ اذْهَبْ امض لما قصدته. و هو طرد و تخلية بينه و بين ما سوّلت

له نفسه،

______________________________

(1) راجع ج 1 ص 130 ذيل الآية 34 من سورة البقرة.

(2) البقرة: 30.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 52

كما قال موسى عليه السّلام للسامري: فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ «1».

فَمَنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ فَإِنَّ جَهَنَّمَ جَزاؤُكُمْ جزاؤك و جزاؤهم، فغلّب المخاطب على الغائب.

و يجوز أن يكون الخطاب للتابعين على الالتفات. جَزاءً مَوْفُوراً مكمّلا، من قولهم:

فر لصاحبك عرضه. و انتصاب «جزاء» على المصدر بإضمار فعله، أو بما في «جزاؤكم» من معنى: تجازون، أو الحال، لأنّ الجزاء موصوف بالموفور.

وَ اسْتَفْزِزْ و استخفف و استزلّ مَنِ اسْتَطَعْتَ مِنْهُمْ أن تستفزّه، من الفزاز بمعنى الخفيف بِصَوْتِكَ بدعائك إلى الفساد وَ أَجْلِبْ عَلَيْهِمْ و صح عليهم، من الجلبة و هي الصياح بِخَيْلِكَ وَ رَجِلِكَ بأعوانك من راكب و راجل. و الخيل: الخيّالة.

و منه

قوله عليه السّلام: «يا خيل اللّه اركبي».

و الرّجل اسم جمع للراجل، كالصحب و الركب.

و يجوز أن يكون تمثيلا لتسلّطه على من يغويه بمغوار وقع على قوم، فصوّت بهم صوتا يستفزّهم من أماكنهم، و يقلقهم عن مراكزهم، و أجلب عليهم بجنده حتى استأصلهم.

و قرأ حفص: رجلك بالكسر، على أنّ فعلا بمعنى فاعل، نحو: تعب و تاعب.

و معناه: و جمعك الرجل.

و هذا من الأوامر الواردة على سبيل الخذلان و التخلية، كما قال للعصاة: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ «2». و كذلك قوله: وَ شارِكْهُمْ فِي الْأَمْوالِ بحملهم على كسبها و جمعها من الحرام، و التصرّف فيها على ما لا ينبغي، كالربا و البحيرة و السائبة، و منع الزكاة و غيرها، و الإنفاق المحرّم.

وَ الْأَوْلادِ بالحثّ على التوصّل إلى الولد بالسبب المحرّم، و دعوى ولد بغير سبب، و الإشراك فيه بتسميته عبد العزّى و عبد الحارث، و التضليل بالحمل

على الأديان الزائغة، و الحرف الذميمة، و الأفعال القبيحة.

______________________________

(1) طه: 97.

(2) فصّلت: 40.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 53

وَ عِدْهُمْ المواعيد الباطلة، كشفاعة الآلهة، و الاتّكال على كرامة الآباء، و تأخير التوبة لطول الأمل وَ ما يَعِدُهُمُ الشَّيْطانُ إِلَّا غُرُوراً اعتراض لبيان مواعيده الباطلة. و الغرور: تزيين الخطأ بما يوهم أنّه صواب.

إِنَّ عِبادِي يعني: المخلصين. و تعظيم الإضافة، و التقييد في قوله: إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ «1» يخصّصهم. لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ أي: على إغوائهم قدرة وَ كَفى بِرَبِّكَ وَكِيلًا يتوكّلون عليه في الاستعاذة منك على الحقيقة.

[سورة الإسراء (17): الآيات 66 الى 69]

رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً (66) وَ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ فِي الْبَحْرِ ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ إِلاَّ إِيَّاهُ فَلَمَّا نَجَّاكُمْ إِلَى الْبَرِّ أَعْرَضْتُمْ وَ كانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً (67) أَ فَأَمِنْتُمْ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلاً (68) أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ تارَةً أُخْرى فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ فَيُغْرِقَكُمْ بِما كَفَرْتُمْ ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً (69)

و لمّا تقدّم ذكر الشيطان و ذكر المشركين و عبدة الأوثان، احتجّ سبحانه بدلائل التوحيد و الإيمان، فقال: رَبُّكُمُ الَّذِي يُزْجِي يجري و يسيّر لَكُمُ الْفُلْكَ فِي الْبَحْرِ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ أي: من الريح و أنواع الأمتعة الّتي لا تكون عندكم إِنَّهُ كانَ بِكُمْ رَحِيماً حيث هيّأ لكم ما تحتاجون إليه، و سهّل عليكم ما تعسّر من أسبابه.

______________________________

(1) الحجر: 40.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 54

وَ إِذا مَسَّكُمُ الضُّرُّ خوف الغرق فِي الْبَحْرِ باضطراب الأمواج ضَلَّ مَنْ تَدْعُونَ ذهب عن خواطركم و أوهامكم كلّ من تدعونه في حوادثكم إِلَّا إِيَّاهُ وحده، فإنّكم حينئذ لا يخطر ببالكم سواه،

فلا تدعون لكشفه إلّا إيّاه. أو ضلّ كلّ من تعبدونه عن إغاثتكم إلّا اللّه فَلَمَّا نَجَّاكُمْ من الغرق إِلَى الْبَرِّ و أمنتم منه أَعْرَضْتُمْ عن التوحيد كفرانا للنعمة وَ كانَ الْإِنْسانُ كَفُوراً كثير الكفران. هذا كالتعليل للإعراض.

أَ فَأَمِنْتُمْ الهمزة للإنكار، و الفاء للعطف على محذوف تقديره: أ نجوتم فأمنتم أَنْ يَخْسِفَ بِكُمْ جانِبَ الْبَرِّ فحملكم ذلك على الإعراض عن التوحيد؟! و ليس كذلك، فإنّ من قدر أن يهلككم في البحر بالغرق، قادر أن يهلككم في البحر بالخسف و غيره. و «جانب البرّ» مفعول به ل «يخسف» كالأرض في قوله: فَخَسَفْنا بِهِ وَ بِدارِهِ الْأَرْضَ «1». و المعنى: أن يخسف جانب البرّ، أي: يقلبه و أنتم عليه، أو يقلبه بسببكم، ف «بكم» حال أو صلة. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو بالنون فيه «2» و في الأربعة الّتي بعده.

و في ذكر الجانب تنبيه على أنّهم كما وصلوا الساحل كفروا و أعرضوا، و أنّ الجوانب و الجهات في قدرته سواء، لا معقل يؤمن فيه من أسباب الهلاك. فعلى العاقل أن يستوي خوفه من اللّه تعالى في جميع الجوانب و حيث كان.

أَوْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً ريحا تحصب، أي: ترمي بالحصباء. أو إن لم يصبكم بالهلاك من تحتكم بالخسف، أصابكم به من فوقكم بريح يرسلها عليكم فيها الحصباء، فيرجمكم بها، فيكون أشدّ عليكم من الغرق في البحر. ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ وَكِيلًا يحفظكم من ذلك، فإنّه لا رادّ لفعله.

أَمْ أَمِنْتُمْ أَنْ يُعِيدَكُمْ فِيهِ أي: في البحر تارَةً أُخْرى بإلهام دواع تلجئكم

______________________________

(1) القصص: 81.

(2) أي: نخسف، و كذا: نرسل، نعيدكم، فنرسل، فنغرقكم.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 55

إلى أن ترجعوا فتركبوه فَيُرْسِلَ عَلَيْكُمْ قاصِفاً مِنَ الرِّيحِ هي الريح الّتي لها

قصيف، و هو الصوت الشديد، كأنّها تتقصّف، أي: تتكسّر. أو الّتي لا تمرّ بشي ء إلّا قصفته، أي:

كسرته. فَيُغْرِقَكُمْ و عن يعقوب بالتاء، على إسناده إلى ضمير الريح بِما كَفَرْتُمْ بسبب إشراككم، أو كفرانكم نعمة الإنجاء ثُمَّ لا تَجِدُوا لَكُمْ عَلَيْنا بِهِ تَبِيعاً مطالبا يتبعنا بانتصار أو صرف.

[سورة الإسراء (17): الآيات 70 الى 72]

وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلاً (70) يَوْمَ نَدْعُوا كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ فَمَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلاً (71) وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى وَ أَضَلُّ سَبِيلاً (72)

لمّا تقدّم ذكر قول إبليس: «هذَا الَّذِي كَرَّمْتَ عَلَيَّ» ذكر سبحانه بعد ذلك تكرمته لبني آدم بأنواع الإكرام و فنون الإنعام، فقال: وَ لَقَدْ كَرَّمْنا بَنِي آدَمَ بحسب صنوف الإنعام. و هي: حسن الصورة، و المزاج الأعدل، و اعتدال القامة، و التمييز بالعقل، و الإفهام بالنطق و الإشارة و الخطّ، و التهدّي إلى أسباب المعاش و المعاد، و التسلّط على ما في الأرض، و التمكّن من الصناعات، و تسخير أكثر الأشياء لهم، و انسياق الأسباب و المسبّبات العلويّة و السفليّة إلى ما يعود عليهم بالمنافع، إلى غير ذلك ممّا يقف الحصر دون إحصائه. و من ذلك ما ذكره ابن عبّاس: أنّ كلّ حيوان يتناول طعامه بفيه إلّا الإنسان، فإنّه يرفعه إليه بيده. و قيل: تفضيلهم بأن جعل محمّدا منهم.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 56

وَ حَمَلْناهُمْ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ على الدوابّ و السفن، من: حملته حملا، إذا جعلت له ما يركبه. أو حملناهم فيهما حتّى لم تخسف بهم الأرض و لم يغرقهم الماء.

وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ

المستلذّات ممّا يحصل بفعلهم و بغير فعلهم وَ فَضَّلْناهُمْ عَلى كَثِيرٍ مِمَّنْ خَلَقْنا تَفْضِيلًا بحسب الغلبة و الاستيلاء، أو بالشرف و مزيّة المرتبة.

و المستثنى الّذي يفهم من «كثير» جنس الملائكة، أو الخواصّ منهم على اختلاف المذهبين. و لا يلزم من عدم تفضيل الجنس عدم تفضيل بعض أفراده.

و قال في المجمع: «لا يمتنع أن يكون جنس الملائكة أفضل من جنس بني آدم، لأنّ الفضل في الملائكة عامّ لجميعهم أو أكثرهم، و الفضل في بني آدم يختصّ بقليل من كثير، و على هذا فغير منكر أن يكون الأنبياء أفضل من الملائكة، و إن كان جنس الملائكة أفضل من جنس بني آدم» «1». و قد أوّل الكثير بالكلّ. و فيه تعسّف.

يَوْمَ نَدْعُوا نصب بإضمار: أذكر، أو ظرف لما دلّ عليه «وَ لا يُظْلَمُونَ» كُلَّ أُناسٍ بِإِمامِهِمْ بمن ائتمّوا به من نبيّ، فيقال: هاتوا متّبعي إبراهيم، هاتوا متّبعي موسى، هاتوا متّبعي محمد. فيقوم أهل الحقّ الّذين اتّبعوا الأنبياء عليهم السّلام، فيأخذون كتبهم بأيمانهم.

ثمّ يقال: هاتوا متّبعي الشيطان، هاتوا متّبعي رؤساء الضلالة. أو بمقدّم في الدين من أئمّتهم و علمائهم، أو بكتاب، فيقال: يا أهل القرآن و يا أهل التوراة، أو بدين. و قيل:

بكتاب أعمالهم الّتي قدّموا، فيقال: يا أصحاب كتاب الخير، و يا أصحاب كتاب الشرّ، أي: ينقطع علقة الأسباب، و يبقى نسبة الأعمال.

و

روي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «ألا تحمدون اللّه إذا كان يوم القيامة، فدعا كلّ قوم إلى من يتولّونه، و دعانا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و فزعنا إلى رسول اللّه، و فزعتم إلينا، فإلى أين ترون نذهب بكم؟ إلى الجنّة و ربّ الكعبة. قالها ثلاثا».

و عن محمّد بن كعب:

أي: بأمّهاتهم، جمع أمّ، كخفّ و خفاف. و الحكمة في ذلك

______________________________

(1) مجمع البيان 6: 429.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 57

إجلال عيسى، و إظهار مزيّة شرف الحسن و الحسين، و إن كان فيهما الشرافة العليّة من جانب الأب، و أن لا يفتضح أولاد الزنا.

فَمَنْ أُوتِيَ من المدعوّين كِتابَهُ أي: كتاب عمله بِيَمِينِهِ فَأُولئِكَ يَقْرَؤُنَ كِتابَهُمْ ابتهاجا و تبجّحا بما يرون فيه وَ لا يُظْلَمُونَ فَتِيلًا مقدار فتيل. و هو المفتول الّذي في شقّ النواء، و هو أدنى شي ء في المقدار. يعني: لا ينقصون من أجورهم أدنى شي ء، كقوله: وَ لا يُظْلَمُونَ شَيْئاً «1». و جمع اسم الإشارة و الضمير، لأنّ من أوتي في معنى الجمع.

و تعليق القراءة بإيتاء الكتاب باليمين يدلّ على أنّ من أوتي كتابه بشماله إذا اطّلعوا على ما فيه، أخذهم ما يأخذ المطالب بالنداء على جناياته و الاعتراف بمساويه، أمام التنكيل به و الانتقام منه، من الحياء و الخجل، و حبسة اللسان و التتعتع، و العجز عن إقامة حروف الكلام، و الذهاب عن تسوية القول، فكأنّ قراءتهم كلا قراءة، و لهذا لم يذكرهم. و أمّا أصحاب اليمين فأمرهم على عكس ذلك، لا جرم أنّهم يقرؤن كتابهم أحسن قراءة و أبينها، و لا يقنعون بقراءتهم وحدها حتى يقول القارئ لأهل المحشر هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ «2».

وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى في هذه الدنيا أعمى القلب، لا يبصر الرشد و طريق النجاة فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى كذلك وَ أَضَلُّ سَبِيلًا لا يهتدي إلى طريق الجنّة.

و الأعمى مستعار ممّن لا يدرك المبصرات لفساد حاسّته، لمن لا يهتدي إلى طريق النجاة، أمّا في الدنيا فلفقد النظر، و أمّا في الآخرة فلأنّه لا ينفعه الاهتداء إليه. و قد

جوّزوا أن يكون الثاني بمعنى التفضيل، من: عمى بقلبه، كالأجهل. و من ثمّ قرأ أبو عمرو و ابن عامر و أبو بكر و حمزة و الكسائي الأوّل ممالا. و الثاني لم يوافقهم ابن عامر، بل يفخّمه،

______________________________

(1) مريم: 60.

(2) الحاقّة: 19.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 58

لأنّ أفعل التفضيل تمامه ب «من» المقدّرة، فكانت ألفه في حكم الواقعة في وسط الكلام، كقولك: أعمالكم. و أمّا الأوّل فلم يتعلّق به شي ء، فكانت ألفه واقعة في الطرف معرضة للإمالة. و قرأ و رش بين بين فيهما.

[سورة الإسراء (17): الآيات 73 الى 75]

وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ وَ إِذاً لاتَّخَذُوكَ خَلِيلاً (73) وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلاً (74) إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً (75)

روي أنّ ثقيفا قالت للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا ندخل في أمرك حتّى تعطينا خصالا نفتخر بها على العرب: لا نعشر «1»، و لا نحشر، و لا نجّبي في صلاتنا، و كلّ ربا لنا فهو لنا، و كلّ ربا علينا فهو موضوع عنّا، و أن تمتّعنا باللات سنة، و لا نكسرها بأيدينا عند رأس الحول، و أن تحرّم وادينا كما حرّمت مكّة، فإن قالت العرب: لم فعلت ذلك؟ فقل: إنّ اللّه أمرني به.

و جاؤا بكتابهم فكتب: بسم اللّه الرحمن الرحيم: هذا كتاب من محمّد رسول اللّه لثقيف: لا يعشرون و لا يحشرون. فقالوا: و لا يجبّون. فسكت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. ثم قالوا للكاتب:

اكتب: و لا يجبّون، و الكاتب ينظر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقام عمر فسلّ سيفه

فقال:

أسعرتم قلب نبيّنا يا معشر قريش، أسعر اللّه قلوبكم نارا. فقالوا: لسنا نكلّم إيّاك، إنّما نكلّم محمدا. فنزلت: وَ إِنْ كادُوا لَيَفْتِنُونَكَ

و قيل: نزلت في قريش قالوا: اجعل آية رحمة آية عذاب، و آية عذاب آية

______________________________

(1) لا نعشر أي: لا يؤخذ عشر أموالنا. و لا نحشر أي: لا نبعث إلى المغازي. و لا نجبّي من:

جبّى تجبية أي: وضع يديه على ركبتيه أو على الأرض وقت السجود.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 59

رحمة، حتّى نؤمن لك. و برواية أخرى: لا نمكّنك من استلام الحجر حتّى تلمّ بآلهتنا و تمسّها بيدك.

و «إن» هي المخفّفة، و اللام هي الفارقة بينها و بين النافية.

و المعنى: أنّ الشأن قاربوا بمبالغتهم أن يفتنوك، أي: يخدعوك فاتنين عَنِ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ من أوامرنا و نواهينا، و وعدنا و وعيدنا لِتَفْتَرِيَ عَلَيْنا غَيْرَهُ لتقول علينا غير ما أوحينا إليك وَ إِذاً و لو اتّبعت مرادهم لَاتَّخَذُوكَ بافتتانك خَلِيلًا وليّا لهم، بريئا من ولايتي.

وَ لَوْ لا أَنْ ثَبَّتْناكَ و لو لا تثبيتنا إيّاك و عصمتنا لَقَدْ كِدْتَ تَرْكَنُ إِلَيْهِمْ شَيْئاً قَلِيلًا لقاربت أن تميل قليلا إلى اتّباع مرادهم. و المعنى: أنّك كنت على صدد الركون إليهم، لقوّة خدعهم و شدّة احتيالهم، لكن أدركتك عصمتنا فمنعت أن تقرب من الركون، فضلا عن أن تركن إليهم. و هو صريح في أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما همّ بإجابتهم، مع قوّة الداعي إليها، و دليل على أنّ العصمة بتوفيق اللّه و حفظه.

ثمّ توعّده سبحانه على ذلك لو فعله، فقال: إِذاً لو قاربت لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ أي: عذاب الدنيا و عذاب الآخرة، ضعف ما نعذّب به في الدارين بمثل هذا الفعل غيرك، لأنّ

خطأ الخطير «1» أخطر. و كان أصل الكلام: عذابا ضعفا في الحياة، و عذابا ضعفا في الممات، بمعنى: مضاعفا، نحو قوله تعالى: عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ «2» بمعنى: مضاعفا، ثمّ حذف الموصوف و أقيمت الصفة مقامه، ثمّ أضيفت كما يضاف موصوفها.

و قيل: الضعف من أسماء العذاب. و قيل: المراد بضعف الحياة عذاب الآخرة، و بضعف الممات عذاب القبر.

______________________________

(1) أي: الشريف.

(2) ص: 61.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 60

ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ عَلَيْنا نَصِيراً يدفع العذاب عنك. و فيه دليل على أنّ أدنى مداهنة للغواة مضادّة للّه، و خروج عن ولايته، و سبب موجب لغضبه و نكاله. فعلى المؤمن أن يتدبّرها، و يستشعر فيها الخشية و ازدياد التصلّب في دين اللّه. و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّها لمّا نزلت كان يقول: «اللّهمّ لا تكلني إلى نفسي طرفة عين أبدا».

[سورة الإسراء (17): الآيات 76 الى 77]

وَ إِنْ كادُوا لَيَسْتَفِزُّونَكَ مِنَ الْأَرْضِ لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَ إِذاً لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ إِلاَّ قَلِيلاً (76) سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا وَ لا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلاً (77)

وَ إِنْ كادُوا و إن كاد أهل مكّة لَيَسْتَفِزُّونَكَ ليزعجونك بمعاداتهم و مكرهم مِنَ الْأَرْضِ من أرض مكّة لِيُخْرِجُوكَ مِنْها وَ إِذاً لو خرجت لا يَلْبَثُونَ خِلافَكَ لا يبقون بعد إخراجك إِلَّا قَلِيلًا إلّا زمانا قليلا، فإنّ اللّه مهلكهم. و قد كان كذلك، فإنّهم أهلكوا ببدر بعد هجرته بقليل.

و قيل: الآية نزلت في اليهود، حسدوا مقام النبيّ بالمدينة فقالوا: الشام مقام الأنبياء، فإن كنت نبيّا فالحق بها حتّى نؤمن بك و نتّبعك، و قد علمنا أنّه لا يمنعك من الخروج إلّا خوف الروم، فإن كنت رسول اللّه فاللّه مانعك منهم. فوقع ذلك في قلبه، فخرج مرحلة فنزلت

فرجع. ثمّ قتل منهم بنو قريظة، و أجلي بنو النضير بقليل.

و قرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي و يعقوب و حفص: خلافك. و هو لغة فيه.

سُنَّةَ مَنْ قَدْ أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنْ رُسُلِنا نصب على المصدر، أي: سنّ اللّه ذلك سنّة، و هو أن يهلك كلّ أمّة أخرجوا رسولهم من بين أظهرهم. فالسنّة للّه، و إضافتها إلى الرسل لأنّها من أجلهم. و يدلّ عليه: وَ لا تَجِدُ لِسُنَّتِنا تَحْوِيلًا تغييرا، أي: ما يتهيّأ

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 61

لأحد أن يقلّب سنّة اللّه و يبطلها، و السنّة هي العادة الجارية.

[سورة الإسراء (17): الآيات 78 الى 81]

أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً (78) وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً (79) وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي مُدْخَلَ صِدْقٍ وَ أَخْرِجْنِي مُخْرَجَ صِدْقٍ وَ اجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً (80) وَ قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً (81)

ثمّ أمر سبحانه بعد إقامة البيّنات و ذكر الوعد و الوعيد بإقامة الصلاة، فقال مخاطبا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إن كان المراد هو و غيره، فقال: أَقِمِ الصَّلاةَ لِدُلُوكِ الشَّمْسِ لزوالها.

و يدلّ عليه

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أتاني جبرئيل عليه السّلام لدلوك الشمس حين زالت، فصلّى بي الظهر».

و قيل: لغروبها. و الأوّل أشهر و أصحّ، فإنّه منقول عن معظم المفسّرين، كابن عبّاس و ابن عمر و جابر و أبي العالية و الحسن و الشعبي و عطاء و مجاهد. و هو المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.

و أصل التركيب الانتقال، و منه الدلك، فإنّ الدالك لا

تستقرّ يده. و كذا ما تركّب من الدال و اللام، كدلج و دلع و دله. و قيل: الدلوك من الدلك، لأنّ الناظر إليها يدلك عينيه ليدفع شعاعها. و اللام للتأقيت، مثلها في: لثلاث خلون.

إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ ظلمته. و هو وقت صلاة العشاءين. وَ قُرْآنَ الْفَجْرِ و صلاة الصبح. سمّيت قرآنا لأنّه جزؤها، تسمية للشي ء باسم جزئه، كما سمّيت ركوعا و سجودا. و استدلّ به على وجوب القراءة فيها.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 62

إِنَّ قُرْآنَ الْفَجْرِ كانَ مَشْهُوداً تشهده ملائكة الليل و ملائكة النهار، ينزل هؤلاء و يصعد هؤلاء، فهو في آخر ديوان الليل و أوّل ديوان النهار. أورده البخاري في الصحيح «1». أو مشهودا بشواهد القدرة، من تبدّل الظلمة بالضياء، و النوم الّذي هو أخو الموت بالانتباه. أو بكثير من المصلّين في العادة. أو من حقّه أن يشهده الجمّ الغفير.

و قيل: قرآن الفجر حثّ على طول القراءة في صلاة الفجر، لكونها مشهودا بالجماعة الكثيرة، ليسمع العباد القرآن فيكثر الثواب.

و الآية جامعة للصلوات الخمس، إن فسّر الدلوك بالزوال. فصلاتا دلوك الشمس الظهر و العصر، و صلاتا غسق الليل هما المغرب و العشاء الآخرة، و المراد بقرآن الفجر صلاة الغداة. و لصلوات الليل وحدها إن فسّر بالغروب.

و يؤيّد الأوّل ما

رواه العيّاشي بالإسناد عن عبيد بن زرارة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في هذه الآية، قال: «إنّ اللّه افترض أربع صلوات، أوّل وقتها من زوال الشمس إلى انتصاف الليل، منها صلاتان أوّل وقتهما عند زوال الشمس إلى غروبها، إلّا أنّ هذه قبل هذه، و منها صلاتان أوّل وقتهما من غروب الشمس إلى انتصاف الليل، إلّا أنّ هذه قبل هذه» «2»

و إلى هذا ذهب المرتضى علم الهدى قدّس سرّه

في أوقات الصلاة. فالآية دالّة على امتداد الصلوات الأربع.

وَ مِنَ اللَّيْلِ و بعض الليل فَتَهَجَّدْ بِهِ أي: فاترك الهجود للصلاة، فإنّ التهجّد بمعنى ترك الهجود «3»، نحو التأثّم و التحرّج. و الضمير للقرآن. نافِلَةً لَكَ عبادة زائدة لك على الصلوات المفروضة. أو فضيلة لك، لاختصاص وجوبه بك دون أمّتك، فإنّه تطوّع لهم.

______________________________

(1) ذكره بلفظ آخر في صحيح البخاري 6: 108.

(2) تفسير العيّاشي 2: 310 ح 143.

(3) أي: النوم.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 63

عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ يوم القيامة مَقاماً مَحْمُوداً مقاما يحمده القائم فيه.

و أجمع المفسّرون على أنّه مقام الشفاعة، لما

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «هو المقام الّذي أشفع فيه لأمّتي».

و لإشعاره بأنّ الناس يحمدونه، لقيامه فيه، و ما ذاك إلّا مقام الشفاعة.

و عن ابن عبّاس: مقاما محمودا يحمدك فيه الأوّلون و الآخرون، و تشرّف فيه على جميع الخلائق، تسأل فتعطى، و تشفّع فتشفع، ليس أحد إلّا تحت لوائك.

و

عن حذيفة: يجمع الناس في صعيد واحد، فلا تتكلّم نفس، فأوّل مدعوّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فيقول: لبّيك و سعديك، و الخير في يديك، و الشرّ ليس إليك، و المهديّ من هديت، و عبدك بين يديك، و بك و إليك، و لا ملجأ و لا منجى منك إلّا إليك، تباركت و تعاليت، سبحانك ربّ البيت. قال: فهذا قوله: «عَسى أَنْ يَبْعَثَكَ رَبُّكَ مَقاماً مَحْمُوداً».

و انتصاب «مقاما» على الظرف بإضمار فعله، أي: فيقيمك مقاما. أو بتضمين «يبعثك» معنى: يقيمك. أو الحال، بمعنى: أن يبعثك ذا مقام.

وَ قُلْ رَبِّ أَدْخِلْنِي أي: في القبر مُدْخَلَ صِدْقٍ إدخالا مرضيّا على طهارة و طيب من السيّئات وَ أَخْرِجْنِي أي: منه عند البعث مُخْرَجَ صِدْقٍ

إخراجا ملقى بالكرامة، آمنا من السخط. يدلّ عليه ذكره على أثر ذكر البعث.

و قيل: المراد إدخال المدينة، و الإخراج من مكّة ظاهرا عليها بالفتح، و إخراجه منها آمنا من المشركين.

و قيل إدخاله الغار، و إخراجه منه سالما.

و قيل: إدخاله فيما حمّله من أعباء الرسالة، و إخراجه منها مؤدّيا حقّه.

و قيل: إدخاله عامّ في كلّ ما يلابسه من مكان أو أمر، و إخراجه منه.

وَ اجْعَلْ لِي مِنْ لَدُنْكَ سُلْطاناً نَصِيراً حجّة تنصرني على من خالفني، أو ملكا ينصر الإسلام على الكفر. فاستجاب له بقوله: وَ اللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ «1».

______________________________

(1) المائدة: 67 و 56.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 64

فَإِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْغالِبُونَ «1». لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ «2». لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ «3».

وَ قُلْ جاءَ الْحَقُ الإسلام وَ زَهَقَ الْباطِلُ و ذهب و هلك الشرك، من: زهق روحه إذا خرج إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً مضمحلّا غير ثابت.

عن ابن عبّاس: «كانت لقبائل العرب ثلاثمائة و ستّون صنما، كلّ قوم بحيالهم، يحجّون إليها و ينحرون لها. فشكا البيت إلى اللّه فقال: أي ربّ حتّى متى تعبد هذه الأصنام حولي دونك؟ فأوحى اللّه إلى البيت: إنّي سأحدث لك نوبة جديدة، فأملأك خدودا سجّدا، يدفّون إليك دفيف «4» النسور، و يحنّون إليك حنين الطيور إلى بيضها، لهم عجيج حولك بالتلبية.

و لمّا نزلت هذه الآية يوم الفتح

قال جبرئيل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: خذ مخصرتك «5» ثمّ ألق بها الأصنام. فجعل ينكت بمخصرته في عين واحد واحد منها و يقول: جاء الحقّ و زهق الباطل، فينكبّ لوجهه، حتّى ألقى جميعها. و بقي صنم خزاعة فوق الكعبة، و كان من قوارير صفر، فقال: يا عليّ إرم به. فحمله

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتى صعد فرمى به فكسره، فجعل أهل مكّة يتعجّبون و يقولون: ما رأينا رجلا أسحر من محمّد.

و

عن عليّ عليه السّلام: كان على الكعبة أصنام، فذهبت لأحمل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلم أستطع، فحملني فجعلت أقطعها، و لو شئت لنلت السماء.

[سورة الإسراء (17): الآيات 82 الى 84]

وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلاَّ خَساراً (82) وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَ نَأى بِجانِبِهِ وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ كانَ يَؤُساً (83) قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلاً (84)

______________________________

(1) المائدة: 56.

(2) التوبة: 33.

(3) النور: 55.

(4) الدفيف: السير الليّن.

(5) المخصرة: السوط، و ما يتوكّأ عليه كالعصا.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 65

وَ نُنَزِّلُ مِنَ الْقُرْآنِ ما هُوَ شِفاءٌ وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ ما هو في قمع الشرك و الشكّ و الريب، و تقويم دينهم، و استصلاح نفوسهم، كالدواء الشافي للمرضى. و «من» للبيان، فإنّ كلّه كذلك. و قيل: للتبعيض. و المعنى: أنّ منه ما يشفي من المرض، كالفاتحة و آيات الشفاء. و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من لم يستشف بالقرآن فلا شفاه اللّه».

و قرأ البصريّان: ننزل بالتخفيف.

وَ لا يَزِيدُ الظَّالِمِينَ إِلَّا خَساراً نقصانا، لتكذيبهم و كفرهم به، كقوله: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ «1» وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ بالصحّة و السعة أَعْرَضَ عن ذكر اللّه تعالى وَ نَأى بِجانِبِهِ لوى عطفه، و بعّد بنفسه عنه، كأنّه مستغن مستبدّ. و يجوز أن يكون كناية عن الاستكبار، لأنّه من عادة المستكبرين.

و قرأ ابن عامر و ابن ذكوان هنا و في فصّلت «2»: و ناء على القلب، كقولهم: راء

في:

رأى. و يجوز أن يكون من: ناء بمعنى: نهض. و أمال الكسائي و خلف فتحة النون و الهمزة في السورتين. و أمال خلف فتحة الهمزة فيهما فقط. و أمال أبو بكر فتحة الهمزة هنا، و أخلص فتحته. و ورش على أصله في ذوات الراء.

وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ من مرض أو فقر كانَ يَؤُساً شديد اليأس من روح اللّه، كقوله: لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ «3».

______________________________

(1) التوبة: 125.

(2) فصّلت: 51.

(3) يوسف: 87.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 66

قُلْ كُلٌّ يَعْمَلُ عَلى شاكِلَتِهِ أي: كلّ واحد من المؤمن و الكافر يعمل على طريقته الّتي تشاكل حاله في الهدى و الضلالة، من قولهم: طريق ذو شواكل، و هي الطرق الّتي تتشعّب منه. و الدليل عليه قوله: فَرَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِمَنْ هُوَ أَهْدى سَبِيلًا أسدّ طريقا، و أبين منهجا. و قد فسّرت الشاكلة بالطبيعة و العادة.

قال بعض المحقّقين: هذه الآية أرجى آية في كتاب اللّه تعالى، لأنّ لفظ «كلّ» فيها شامل لكلّ من الواجب و الممكن، فمقتضى ذاته الكرم و العفو عن عباده، فهو يعمل به، و مقتضى ذاتهم المعصية و اتّباع الهوى.

[سورة الإسراء (17): آية 85]

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلاً (85)

روي أنّ اليهود قالوا لقريش: سلوا محمدا عن أصحاب الكهف و عن ذي القرنين و عن الروح، فإن أجاب عنها أو سكت فليس بنبيّ، و إن أجاب عن بعض و سكت عن بعض فهو نبيّ. فبيّن لهم القصّتين و أبهم أمر الروح، و هو مبهم في التوراة. فنزلت:

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ الّذي يحيا به بدن الإنسان و يدبّره قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي أي: ممّا استأثره بعلمه، و لا يطلعه

أحدا من عباده.

و قيل: سألوا عن الروح أهو قديم، أو مخلوق محدث؟ فقال: قل الرّوح وجد بأمره و حدث بتكوينه.

و قيل: سألوا عن الروح أنّه مادّيّ أو متولّد من أصل؟ فأجيب بأنّه من الإبداعيّات الكائنة ب «كن»، من غير مادّة و تولّد من أصل، كأعضاء جسده.

و قيل: هو خلق عظيم روحانيّ أعظم من الملك. و قيل: الروح جبرئيل. و

عن عليّ عليه السّلام: أنّه ملك من الملائكة، له سبعون ألف وجه، لكلّ وجه سبعون ألف لسان، تسبّح اللّه بجميع ذلك.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 67

و قيل: إنّ المشركين سألوه عن الروح الّذي هو القرآن، كيف يلقاك به الملك؟

و كيف صار معجزا؟ و كيف صار نظمه و ترتيبه مخالفا لأنواع كلامنا من الخطب و الأشعار؟ و قد سمّى اللّه القرآن روحا في قوله: وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً «1». فقال سبحانه: قل يا محمّد إنّ الروح الّذي هو القرآن من أمر ربّي، أي: من وحيه و كلامه، ليس من كلام البشر، و لا ممّا يدخل في إمكانهم.

وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا تستفيدونه بتوسّط حواسّكم، فإنّ اكتساب العقل للمعارف النظريّة إنّما هو من الضروريّات المستفادة من إحساس الجزئيّات، فلذلك قيل: من فقد حسّا فقد فقد علما، و أكثر الأشياء لا يدركه الحسّ، و لا شيئا من أحواله المعرّفة لذاته.

و هو إشارة إلى أنّ الروح ممّا لا يمكن معرفة ذاته إلّا بعوارض تميّزه عمّا يلتبس به. كما قيل: إنّه جسم رقيق هوائيّ متردّد في مخارق الحيوان. و هو مذهب أكثر المتكلّمين. و اختاره علم الهدى قدس سرّه. أو جسم هوائيّ على بنية حيوانيّة، في كلّ جزء منه حياة. أو الحياة الّتي يتهيّأ به المحلّ لوجود القدرة و العلم

و الاختيار. و هو مذهب الشيخ المفيد و جماعة من المعتزلة. و غير ذلك من الأقاويل الّتي لا يعلم بها كنهه، فلذلك اقتصر على الجواب، كما اقتصر موسى في جواب وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ «2» بذكر بعض صفاته.

روي أنّه عليه السّلام لمّا قال لهم ذلك قالوا: أ نحن مختصّون بهذا الخطاب؟ فقال: بل نحن و أنتم. فقالوا: ما أعجب شأنك! ساعة تقول: وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً «3». و ساعة تقول هذا. فنزلت. و ليس ما قالوه بلازم، لأنّ القلّة و الكثرة تدوران مع الإضافة، فيوصف الشي ء بالقلّة مضافا إلى ما فوقه، و بالكثرة مضافا إلى ما تحته،

______________________________

(1) الشورى: 52.

(2) الشعراء: 23.

(3) البقرة: 269.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 68

فالحكمة الّتي أوتيها العبد خير كثير في نفسها، إلّا أنّها إذا أضيفت إلى علم اللّه فهي قليلة.

و قيل: هو خطاب لليهود خاصّة، لأنّهم قالوا للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قد أوتينا التوراة، و فيها الحكمة، و قد تلوت: وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً. فقيل لهم: إنّ علم التوراة قليل في جنب علم اللّه.

[سورة الإسراء (17): الآيات 86 الى 87]

وَ لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلاً (86) إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً (87)

ثمّ امتنّ سبحانه ببقاء القرآن بعد المنّة في تنزيله، فقال: وَ لَئِنْ شِئْنا لَنَذْهَبَنَّ بِالَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ اللام الأولى توطئة للقسم، و «لنذهبنّ» جوابه النائب مناب جزاء الشرط. و المعنى: إن شئنا ذهبنا بالقرآن، و محوناه من المصاحف و الصدور، فلم نترك له أثرا، و بقيت كما كنت لا تدري ما الكتاب. ثُمَّ لا تَجِدُ لَكَ بِهِ عَلَيْنا وَكِيلًا من يتوكّل علينا

استرداده و إعادته مسطورا محفوظا.

إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إلّا أن يرحمك ربّك فيردّه عليك، كأنّ رحمته تتوكّل عليه بالردّ. و يجوز أن يكون استثناء منقطعا، بمعنى: و لكن رحمة من ربّك تركته غير مذهوب به. إِنَّ فَضْلَهُ كانَ عَلَيْكَ كَبِيراً كإرساله، و إنزال الكتاب عليه، و إبقائه في حفظه.

فعلى كلّ ذي علم أن لا يغفل عن هاتين النعمتين و القيام بشكرهما.

عن ابن مسعود: إنّ أوّل ما تفقدون من دينكم الأمانة، و آخر ما تفقدون الصلاة، و ليصلّينّ قوم و لا دين لهم، و إنّ هذا القرآن تصبحون يوما و ما فيكم منه شي ء. فقال رجل: كيف ذلك و قد أثبتناه في قلوبنا، و أثبتناه في مصاحفنا، نعلّمه أبناءنا، و يعلّمه أبناؤنا أبناءهم؟ فقال: يسرى عليه ليلا فيصبح الناس منه فقراء، ترفع المصاحف، و ينزع ما في القلوب.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 69

[سورة الإسراء (17): الآيات 88 الى 89]

قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً (88) وَ لَقَدْ صَرَّفْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (89)

ثمّ احتجّ سبحانه على المشركين بإعجاز القرآن، فقال: قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هذَا الْقُرْآنِ في البلاغة القصوى، و حسن النظم، و كمال المعنى، و الفصاحة العليا لا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ و فيهم العرب العرباء، و أرباب البيان، و أهل التحقيق. و هو جواب قسم محذوف دلّ عليه اللام الموطّئة، و لو لا هي لكان جواب الشرط بلا جزم، لكون الشرط ماضيا. وَ لَوْ كانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيراً و لو تظاهروا على الإتيان به. و لعلّه لم يذكر الملائكة لأنّ إتيانهم بمثله لا

يخرجه عن كونه معجزا، و لأنّهم كانوا وسائط في إتيانه.

وَ لَقَدْ صَرَّفْنا كرّرنا بوجوه مختلفة زيادة في التقرير و البيان لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ من كلّ معنى هو كالمثل في غرابته و وقوعه موقعها في الأنفس فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً إلّا جحودا. و إنّما جاز ذلك و لم يجز: ضربت إلّا زيدا، لأنّه متأوّل بالنفي، كأنّه قيل: فلم يرضوا إلّا كفورا.

و لمّا تبيّن إعجاز القرآن، و انضمّت إليه المعجزات الأخر و البيّنات، و لزمتهم الحجّة و غلبوا، أخذوا يتعلّلون باقتراح الآيات تعنّتا، فعل المبهوت المحجوج المتعثّر في أذيال الحيرة.

[سورة الإسراء (17): الآيات 90 الى 93]

وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ يَنْبُوعاً (90) أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ خِلالَها تَفْجِيراً (91) أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ قَبِيلاً (92) أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ قُلْ سُبْحانَ رَبِّي هَلْ كُنْتُ إِلاَّ بَشَراً رَسُولاً (93)

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 70

وَ قالُوا لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ أي: لن نصدّقك حَتَّى تَفْجُرَ لَنا مِنَ الْأَرْضِ أي: تشقّق لنا من أرض مكّة، فإنّها قليلة الماء يَنْبُوعاً ينبع منه الماء في وسط مكّة. و قرأ الكوفيّون و يعقوب: نفجر بالتخفيف. و الينبوع عين غزيرة لا ينضب ماؤها. يفعول من:

نبع الماء، كيعبوب، و هو فرس كثير الجري، و نهر شديد الجري. من: عبّ الماء إذا زخر.

و عباب الماء معظمه و كثرته. و هذه الصفة للمبالغة.

أَوْ تَكُونَ لَكَ جَنَّةٌ مِنْ نَخِيلٍ وَ عِنَبٍ فَتُفَجِّرَ الْأَنْهارَ من الماء خِلالَها وسطها تَفْجِيراً تشقيقا، حتّى يجري الماء تحت الأشجار، أي: بستان

مشتمل على ذلك بحيث يجنّ أشجاره، أي: يستره.

أَوْ تُسْقِطَ السَّماءَ كَما زَعَمْتَ عَلَيْنا كِسَفاً أي: قطعا قد تركّب بعضها على بعض، يعنون قوله تعالى: أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ «1». و هو كقطع لفظا و معنى. و قد سكّنه ابن كثير و أبو عمرو و حمزة و الكسائي و يعقوب في جميع القرآن إلّا في الروم «2». و ابن عامر إلّا في هذه السورة. و نافع و أبو بكر في غيرهما. و حفص فيما عدا الطور «3» و هو إمّا مخفّف من المفتوح، كسدرة و سدر، أو فعل بمعنى مفعول، كالطحن.

أَوْ تَأْتِيَ بِاللَّهِ وَ الْمَلائِكَةِ قَبِيلًا كفيلا بما تدّعيه، أي: شاهدا على صحّته، ضامنا

______________________________

(1) سبأ: 9.

(2) الروم: 48.

(3) الطور: 44.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 71

لدركه. أو مقابلا، كالعشير بمعنى المعاشر. و هو حال من اللّه، أي: يقابلنا بحيث نشاهده.

و حال الملائكة محذوفة، لدلالتها عليها، كما حذف الخبر في قوله:

و من يك أمسى بالمدينة رحله فإنّي و قيّار بها لغريب

أو جماعة، فيكون حالا من الملائكة.

أَوْ يَكُونَ لَكَ بَيْتٌ مِنْ زُخْرُفٍ من ذهب. و أصله: الزينة. أَوْ تَرْقى فِي السَّماءِ أي: في معارجها، بحذف المضاف وَ لَنْ نُؤْمِنَ لك لِرُقِيِّكَ لأجل رقيّك.

و هو ما يرقى به، أي: يتصاعد كالسلّم. حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ و كان فيه تصديقك.

عن ابن عبّاس: قال عبد اللّه بن أبي أميّة: لن نؤمن لك حتّى تتّخذ إلى السماء سلّما، ثمّ ترقى فيه و أنا أنظر حتّى تأتيها، ثمّ تأتي معك بصكّ منشور، معه أربعة من الملائكة، يشهدون لك أنّك كما تقول.

و ما كانوا يقصدون بهذه الاقتراحات إلّا العناد و اللجاج، و لهذا قال عزّ اسمه:

قُلْ سُبْحانَ رَبِّي تعجّبا من اقتراحاتهم، أو تنزيها

للّه من أن يأتي أو يتحكّم عليه أو يشاركه أحد في القدرة. و قرأ ابن كثير و ابن عامر: قال سبحان ربّي، أي: قال الرسول. هَلْ كُنْتُ إِلَّا بَشَراً كسائر الناس رَسُولًا كسائر الرسل، و كانوا لا يأتون قومهم إلّا بما يظهره اللّه عليهم على ما يلائم حال قومهم، و لم يكن أمر الآيات إليهم، و لا لهم أن يتحكّموا على اللّه، فما لكم تقترحون عليّ و أنا مثلهم لا أقدر بنفسي أن آتي بها؟! هذا هو الجواب المجمل. و أمّا التفصيل فقد ذكر في آيات أخر، كقوله تعالى:

وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ «1». وَ لَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ «2».

______________________________

(1) الأنعام: 7.

(2) الحجر: 14.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 72

[سورة الإسراء (17): الآيات 94 الى 100]

وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى إِلاَّ أَنْ قالُوا أَ بَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولاً (94) قُلْ لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ مُطْمَئِنِّينَ لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولاً (95) قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً (96) وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَ مَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَ بُكْماً وَ صُمًّا مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ زِدْناهُمْ سَعِيراً (97) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَ قالُوا أَ إِذا كُنَّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً (98)

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ وَ جَعَلَ لَهُمْ أَجَلاً لا رَيْبَ فِيهِ فَأَبَى الظَّالِمُونَ إِلاَّ كُفُوراً (99) قُلْ لَوْ أَنْتُمْ تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ وَ كانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً

(100)

وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى و ما منعهم الإيمان، أي: ما صرفهم عنه بعد نزول الوحي و ظهور الحقّ إِلَّا أَنْ قالُوا إنكارا أَ بَعَثَ اللَّهُ بَشَراً رَسُولًا إلّا قولهم هذا. و المعنى: أنّه لم يبق لهم شبهة تمنعهم عن الإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و القرآن، إلّا إنكارهم أن يرسل اللّه بشرا.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 73

قُلْ جوابا لشبهتهم لَوْ كانَ فِي الْأَرْضِ مَلائِكَةٌ يَمْشُونَ كما يمشي بنو آدم مُطْمَئِنِّينَ ساكنين فيها لَنَزَّلْنا عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ مَلَكاً رَسُولًا لتمكّنهم من الاجتماع به و التلقّي منه. و أمّا الإنس فعامّتهم عماة عن إدراك الملك و التلقّف منه، فإنّ ذلك مشروط بنوع من التناسب و التجانس.

إن قيل: إذا جاز أن يكون الرسول إلى النبيّ ملكا ليس من جنسه، فلم لم يجز أن يكون الرسول إلى الناس أيضا ملكا ليس من جنسهم؟! قلنا: إنّ صاحب المعجزة قد اختير للنبوّة، فصارت حاله مقاربة لحال الملك، و ليس كذلك غيره من الأمّة، فيجوز أن يرى الملائكة كما يرى بعضهم بعضا، بخلاف الأمّة. و أيضا فإنّ النبيّ يحتاج إلى معجزة تعرف بها رسالة نفسه، كما احتاجت إليه الأمّة، فجعل اللّه تعالى المعجزة رؤيته الملك.

و «ملكا» يحتمل أن يكون حالا من «رسولا» و أن يكون موصوفا به. و كذلك «بشرا». و الأوّل أوفق.

قُلْ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ على أنّي رسول اللّه إليكم بإظهاره المعجزة على وفق دعواي. أو على أنّي بلّغت ما أرسلت به إليكم، و أنّكم عاندتم. و «شهيدا» نصب على الحال أو التمييز. إِنَّهُ كانَ بِعِبادِهِ خَبِيراً بَصِيراً يعلم أحوالهم الباطنة منها و الظاهرة، فيجازيهم عليها. و فيه تسلية للرسول

صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و تهديد للكفّار.

وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ توفيقا و لطفا فَهُوَ الْمُهْتَدِ حقيقة وَ مَنْ يُضْلِلْ تخلية و خذلانا فَلَنْ تَجِدَ لَهُمْ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِهِ أنصارا يهدونه وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ يسحبون عليها، كقوله تعالى: يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ «1».

أو يمشون بها.

روي أنّه قيل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كيف يمشون على وجوههم؟ قال: «إنّ الّذي أمشاهم على أقدامهم قادر على أن يمشيهم على وجوههم».

______________________________

(1) القمر: 48.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 74

عُمْياً لا يبصرون ما يقرّ أعينهم وَ بُكْماً لا يسمعون ما يلذّ مسامعهم وَ صُمًّا لا ينطقون بما يقبل منهم، لأنّهم في دنياهم لم يستبصروا بالآيات و العبر، و تصامّوا عن استماع الحقّ، و أبوا أن ينطقوا بالصدق. و يجوز أن يحشروا بعد الحساب من الموقف إلى النار مسلوبي الحواسّ، فقد أخبر عنهم في موضع آخر أنّهم يقرءون و يتكلّمون.

مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ كُلَّما خَبَتْ بأن أكلت جلودهم و لحومهم و أفنتها فسكن لهبها زِدْناهُمْ سَعِيراً توقّدا، بأن نبدّل جلودهم و لحومهم فتعود ملتهبة مستعرة، كأنّهم لمّا كذّبوا بالإعادة بعد الإفناء جزاهم اللّه بأن لا يزالوا على الإعادة و الإفناء. و إليه أشار بقوله:

ذلِكَ إشارة إلى ما تقدّم من عذابهم جَزاؤُهُمْ بِأَنَّهُمْ كَفَرُوا بِآياتِنا وَ قالُوا أَ إِذا كُنَّا عِظاماً وَ رُفاتاً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ خَلْقاً جَدِيداً مرّ معناه «1».

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أو لم يعلموا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ قادِرٌ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ فإنّهم ليسوا أشدّ خلقا منهنّ، و لا الإعادة أصعب عليه من الإبداء وَ جَعَلَ لَهُمْ أَجَلًا لا رَيْبَ فِيهِ هو الموت أو القيامة. و هو

معطوف على قوله: «أَ وَ لَمْ يَرَوْا». فَأَبَى الظَّالِمُونَ مع وضوح الحقّ إِلَّا كُفُوراً جحودا.

قُلْ لَوْ أَنْتُمْ مرفوع بفعل يفسّره ما بعده. و فائدة هذا الحذف و التفسير المبالغة مع الإيجاز، و الدلالة على الاختصاص. تَمْلِكُونَ خَزائِنَ رَحْمَةِ رَبِّي خزائن رزقه و سائر نعمه إِذاً لَأَمْسَكْتُمْ خَشْيَةَ الْإِنْفاقِ لبخلتم مخافة النفاد بالإنفاق، إذ لا أحد إلّا و يختار النفع لنفسه، و لو آثر غيره بشي ء فإنّما يؤثره لعوض يفوقه، فهو إذن بخيل بالإضافة إلى جود اللّه و كرمه. و لقد بلغ هذا الوصف بالشحّ الغاية الّتي لا يبلغها الوهم.

و قيل: هؤلاء أهل مكّة الّذين اقترحوا ما اقترحوا من الينبوع و الأنهار و غيرها، و انّهم لو ملكوا خزائن الأرزاق لبخلوا بها.

______________________________

(1) راجع ص 42 ذيل الآية 49.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 75

وَ كانَ الْإِنْسانُ قَتُوراً بخيلا، لأنّ بناء أمره على الحاجة و الضنّة بما يحتاج إليه، و ملاحظة العوض فيما يبذله.

[سورة الإسراء (17): الآيات 101 الى 104]

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ إِذْ جاءَهُمْ فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً (101) قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ إِلاَّ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ بَصائِرَ وَ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً (102) فَأَرادَ أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ مِنَ الْأَرْضِ فَأَغْرَقْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ جَمِيعاً (103) وَ قُلْنا مِنْ بَعْدِهِ لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً (104)

ثمّ ذكر سبحانه قصّة موسى عليه السّلام، و معاندة أمّته و مكابرتهم و اقتراحاتهم، كصناديد قريش، فقال: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى تِسْعَ آياتٍ بَيِّناتٍ هي: العصا، و اليد، و الجراد، و القمّل، و الضفادع، و الدم، و انفجار الماء من الحجر، و انفلاق البحر، و نتق الطور على رؤوس

بني إسرائيل، و عن الحسن: الطوفان، و السنون، و نقص الثمرات مكان الثلاثة الأخيرة. و قيل: المراد بالآيات الأحكام العامّة الثابتة في كلّ الشرائع.

و

عن صفوان بن عسال: أنّ يهوديّا سأل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عنها، فقال: أوحى اللّه إلى موسى أن قل لبني إسرائيل: أن لا تشركوا باللّه شيئا، و لا تسرقوا، و لا تزنوا، و لا تقتلوا النفس الّتي حرّم اللّه إلّا بالحقّ، و لا تسحروا، و لا تأكلوا الربا، و لا تمشوا ببري ء إلى ذي سلطان ليقتله، و لا تقذفوا محصنة، و لا تفرّوا من الزحف. و أنتم يا يهود خاصّة: أن لا

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 76

تعدوا في يوم السبت. فقبّل اليهوديّ يده و رجله، و قال: أشهد أنّك نبيّ اللّه.

و على هذا سمّيت الشرائع بالآيات، لأنّها تدلّ على حال من يتعاطى متعلّقها في الآخرة من السعادة و الشقاوة. و

قوله عليه السّلام: «أنتم يا يهود خاصّة أن لا تعتدوا»

حكم مستأنف زائد على الجواب، ليدلّ على إحاطة علمه بالكلّ، و لذلك غيّر فيه مساق الكلام.

فَسْئَلْ بَنِي إِسْرائِيلَ فقلنا له: سلهم من فرعون ليرسلهم معك، أو سلهم عن حال دينهم، أو سلهم أن يعاضدوك، و تكون قلوبهم و أيديهم معك. و قوله: إِذْ جاءَهُمْ متعلّق ب: قلنا. أو معناه: فأسال يا محمّد بني إسرائيل- و هم عبد اللّه ابن سلام و أحزابه- عمّا جرى بين موسى و فرعون إذ جاءهم. أو عن الآيات ليظهر للمشركين صدقك. أو لتعلم أنّه تعالى لو أتى بما اقترحوا لأصرّوا على العناد و المكابرة كمن قبلهم. أو ليزداد يقينك، لأنّ تظاهر الأدلّة يوجب قوّة اليقين و طمأنينة القلب، كقول إبراهيم: وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي «1».

و على

هذا كان «إذ» نصبا ب «آتينا»، أو بإضمار: يخبروك، على أنّه جواب الأمر، أو بإضمار: اذكر، على الاستئناف.

فَقالَ لَهُ فِرْعَوْنُ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا مُوسى مَسْحُوراً سحرت فتخبّط عقلك. قيل:

معناه: إنّك ساحر، فوضع المفعول موضع الفاعل، كما يقال: مشؤوم و ميمون في معنى:

شائم و يامن.

قالَ لَقَدْ عَلِمْتَ يا فرعون. و قرأ الكسائي بالضمّ على إخباره عن نفسه، كما

روي أنّ عليّا عليه السّلام قال: «و اللّه ما علم عدوّ اللّه، و لكن موسى هو الّذي علم».

فقال: لقد علمت ما أَنْزَلَ هؤُلاءِ يعني: الآيات إِلَّا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ بَصائِرَ بيّنات مكشوفات تبصّرك صدقي، و لكنّك تعاند و تكابر. و نحوه:

______________________________

(1) البقرة: 260.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 77

وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا «1». و انتصابه على الحال.

وَ إِنِّي لَأَظُنُّكَ يا فِرْعَوْنُ مَثْبُوراً مصروفا عن الخير، مطبوعا على الشرّ، من قولك: ما ثبرك عن هذا؟ أي: ما صرفك؟ أو هالكا. قارع ظنّه بظنّه، كأنّه قال: إن ظننتني مسحورا فأنا أظنّك مثبورا، و شتّان ما بين الظنّين، فإنّ ظنّ فرعون كذب بحت، و ظنّ موسى يحوم حوم اليقين من تظاهر أماراته، و لهذا فسّر الظنّ هاهنا بمعنى العلم.

فَأَرادَ فرعون أَنْ يَسْتَفِزَّهُمْ أن يستخفّ موسى و قومه و ينفيهم مِنَ الْأَرْضِ أرض مصر، أو الأرض مطلقا، بالقتل و الاستئصال فَأَغْرَقْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ جَمِيعاً فعكسنا عليه مكره، و استفززناه و قومه بالإغراق.

وَ قُلْنا مِنْ بَعْدِهِ من بعد فرعون، أو إغراقه لِبَنِي إِسْرائِيلَ اسْكُنُوا الْأَرْضَ الّتي أراد أن يستفزّكم منها فَإِذا جاءَ وَعْدُ الْآخِرَةِ الكرّة، أو الحياة، أو الساعة، أو الدار الآخرة، يعني: قيام القيامة جِئْنا بِكُمْ لَفِيفاً مختلطين إيّاكم و إيّاهم، ثمّ نحكم بينكم، و نميّز سعداءكم من

أشقيائكم. و اللفيف: الجماعات من قبائل شتّى.

[سورة الإسراء (17): الآيات 105 الى 109]

وَ بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ وَ بِالْحَقِّ نَزَلَ وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (105) وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلاً (106) قُلْ آمِنُوا بِهِ أَوْ لا تُؤْمِنُوا إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً (107) وَ يَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولاً (108) وَ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ وَ يَزِيدُهُمْ خُشُوعاً (109)

______________________________

(1) النمل: 14.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 78

وَ بِالْحَقِّ أَنْزَلْناهُ تقديم الجارّ لإفادة الحصر، أي: و ما أنزلنا القرآن إلّا ملتبسا بالحقّ المقتضي لإنزاله. و كذلك قوله: وَ بِالْحَقِّ نَزَلَ أي: ما نزل إلّا ملتبسا بالحقّ و الحكمة، لاشتماله على الهداية إلى كلّ خير.

و قيل: معناه: و ما أنزلناه من السماء إلّا محفوظا بالرصد من الملائكة، و ما نزل على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلّا محفوظا بهم من تخليط الشيطان. و يحتمل أن يريد به نفي اعتراء البطلان له أوّل الأمر و آخره.

وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً للمطيع بالثواب وَ نَذِيراً للعاصي بالعقاب. فلا عليك- من إكراه على الدين أو نحو ذلك- إلّا التبشير و الإنذار.

وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ منصوب بفعل يفسّره «فرقناه»، أي: نزّلناه مفرّقا منجّما. و قيل:

فرقنا فيه الحقّ من الباطل، فحذف الجارّ، كما في قوله: و يوما شهدناه. لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ على مهل و تؤدة و تثبّت، فإنّه أيسر للحفظ و أعون في الفهم وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا على حسب الحوادث.

روي عن ابن عبّاس أنّه قال: لئن أقرأ سورة البقرة و أرتّلها أحبّ إليّ من أن أقرأ القرآن جميعا.

و عن عبد اللّه بن مسعود أنّه قال: لا تقرأ القرآن في

أقلّ من ثلاث، و اقرأه في سبع.

قُلْ آمِنُوا بِهِ بالقرآن أَوْ لا تُؤْمِنُوا فإنّ إيمانكم بالقرآن لا يزيده كمالا، و امتناعكم عنه لا يورّثه نقصانا. هذا أمر بالإعراض عنهم و احتقارهم و الازدراء بشأنهم، و أن لا يكترث بهم و بإيمانهم و بامتناعهم عنه، و إن لم يدخلوا في الايمان و لم يصدّقوا بالقرآن، و هم أهل جاهليّة و شرك.

قوله: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ تعليل له: أي: إن لم تؤمنوا به فقد آمن به من هو خير منكم، و هم العلماء الّذين قرءوا الكتب السابقة، و عرفوا حقيقة الوحي و أمارات النبوّة، و تمكّنوا من الميز بين المحقّ و المبطل، أو رأوا نعتك و صفة ما أنزل إليك

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 79

في تلك الكتب، و هم عبد اللّه بن سلام و أصحابه.

و يجوز أن يكون تعليلا ل «قل» على سبيل التسلية له و تطييب نفسه، كأنّه قيل:

تسلّ بإيمان العلماء عن إيمان الجهلة، و لا تكترث بإيمانهم و إعراضهم.

إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ القرآن يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً يسقطون على وجوههم تعظيما لأمر اللّه، أو شكرا لإنجاز وعده في تلك الكتب ببعثة محمّد على فترة من الرّسل، و إنزال القرآن عليه.

وَ يَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا تنزيها لرّبنا عزّ اسمه عن خلف الموعد إِنْ كانَ وَعْدُ رَبِّنا لَمَفْعُولًا إنّه كان وعده كائنا لا محالة.

وَ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ يَبْكُونَ كرّره لاختلاف الحال و السبب، فإنّ الأوّل للشكر عند إنجاز الوعد، و الثاني لما أثّر فيهم من مواعظ القرآن، حال كونهم باكين من خشية اللّه، تواضعا للّه، و استسلاما لأمره و طاعته. و ذكر الذقن الّذي هو مجمع اللّحيين، لأنّه أوّل ما يلقى الأرض من وجد السّاجد. و اللّام فيه لاختصاص

الخرور «1» به. وَ يَزِيدُهُمْ سماع القرآن خُشُوعاً كما يزيدهم علما و يقينا باللّه.

[سورة الإسراء (17): الآيات 110 الى 111]

قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ وَ لا تُخافِتْ بِها وَ ابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ سَبِيلاً (110) وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِّ وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً (111)

______________________________

(1) الخرور مصدر: خرّ للّه ساجدا، أي: انكبّ على الأرض و سجد.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 80

عن ابن عبّاس: أنّ أبا جهل سمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: يا اللّه يا رحمن، فقال: إنّه ينهانا أن نعبد إلهين و يدعو إلها آخر.

و قيل: إنّ أهل الكتاب قالوا: إنّك لتقلّ ذكر الرحمن، و قد أكثر اللّه في التوراة هذا الاسم، فنزلت: قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ «أو» على الأوّل «1» للتسوية بين إطلاق اللفظين على المعبود. و على الثاني « «2»» أنّهما سيّان في حسن الإطلاق و الإفضاء إلى المقصود. و على التقديرين «أو» للتخيير و الإباحة، أي: إن دعوتم بأحدهما كان جائزا، و إن دعوتم بهما كان جائزا، كما قال: أَيًّا ما تَدْعُوا فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى

و الدعاء في الآية بمعنى التسمية لا النداء. و هو يتعدّى إلى مفعولين، تقول: دعوته زيدا، حذف أولهما استغناء عنه، فيقال: دعوت زيدا. و التنوين في «أيّا» عوض عن المضاف إليه. و «ما» صلة لتأكيد ما في «أيّا» من الإبهام، أي: أيّ هذين الاسمين سمّيتم و ذكرتم فله الأسماء الحسنى. و الضمير في «فله» لمسمّاهما، و هو ذاته تعالى، لأنّ التسمية للذات لا للاسم. و كأنّ أصل الكلام: أيّا

ما تدعو فهو حسن. فوضع موضعه «فَلَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى للمبالغة، لأنّه إذا حسنت أسماؤه كلّها حسن هذان الاسمان، لأنّهما منها.

و معنى كونها أحسن الأسماء أنّها مستقلّة بمعاني التمجيد و التقديس و التعظيم، و غيرها من صفات الجلال و الإكرام.

فبيّن سبحانه في هذه الآية أنّه سبحانه شي ء واحد، و إن اختلفت أسماؤه و صفاته.

و فيه دلالة على أنّه سبحانه لا يفعل القبيح، مثل الظلم و غيره، لأنّ أسماءه حينئذ لا تكون حسنة.

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يرفع صوته بقراءة القرآن، فإذا سمعها المشركون لغوا و سبّوا، و كان ذلك في أوّل أمر الإسلام، فنزلت: وَ لا تَجْهَرْ بِصَلاتِكَ بقراءة

______________________________

(1، 2) أي: على قول أبي جهل و قول أهل الكتاب. زبدة التفاسير، ج 4، ص: 81

صلاتك حتّى تسمع المشركين،

فإنّ ذلك يحملهم على السبّ و اللغو فيها وَ لا تُخافِتْ بِها حتّى لا تسمع من خلفك من المؤمنين وَ ابْتَغِ بَيْنَ ذلِكَ بين الجهر و المخافتة سَبِيلًا وسطا، فإنّ الاقتصاد في جميع الأمور محبوب. و لم يقل: بين ذينك، لأنّه أراد به الفعل، فهو مثل قوله: عَوانٌ بَيْنَ ذلِكَ «1».

و قيل: معناه: و لا تجهر بصلاتك كلّها، و لا تخافت بها بأسرها، و ابتغ بين ذلك سبيلا، بالإخفات نهارا و الجهر ليلا.

وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً فيكون مربوبا لا ربّا، لأنّ ربّ الأرباب لا يجوز أن يكون له ولد وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ في الألوهيّة، فيكون عاجزا محتاجا إلى غيره ليعينه، و هذا مناف للألوهيّة وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ وَلِيٌّ مِنَ الذُّلِ أي: ناصر يواليه من أجل مذلّة به ليدفعها بموالاته.

نفى عنه أن يكون له ما

يشاركه من جنسه و من غير جنسه، اختيارا و اضطرارا، و ما يعاونه و يقوّيه، تعالى اللّه عن صفة العجز و الاحتياج. و رتّب الحمد عليه للدلالة على أن من هذا وصفه هو الّذي يقدر على إيلاء كلّ نعمة، فهو الّذي يستحقّ جنس الحمد، لأنّه الكامل الذات، المنفرد بالإيجاد، المنعم على الإطلاق، و ما عداه ناقص مملوك نعمة أو منعم عليه. و لذلك عطف عليه قوله: وَ كَبِّرْهُ تَكْبِيراً و عظّمه تعظيما لا يساويه تعظيم و لا يقاربه.

و فيه تنبيه على أنّ العبد و إن بالغ في التنزيه و التمجيد، و اجتهد في العبادة و التحميد، ينبغي أن يعترف بالقصور عن حقّه في ذلك.

و في هذه الآية ردّ على اليهود و النصارى حيث قالوا: اتّخذ اللّه الولد، و على مشركي العرب حيث قالوا: لبّيك لا شريك لك إلّا شريكا هو لك، و على الصابئين و المجوس حيث قالوا: لو لا أولياء اللّه لذلّ اللّه.

______________________________

(1) البقرة: 68.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 82

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان إذا أفصح «1» الغلام من بني عبد المطلّب علّمه هذه الآية.

و

روى إبراهيم بن الحكم عن أبيه قال: بلغني أنّ رجلا أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا رسول اللّه إنّي كثير الدّين كثير الهمّ. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «اقرأ آخر سورة بني إسرائيل:

قُلِ ادْعُوا اللَّهَ أَوِ ادْعُوا الرَّحْمنَ حتّى تختم، ثمّ قل: توكّلت على الحيّ الّذي لا يموت، ثلاث مرّات».

______________________________

(1) في هامش النسخة الخطّية: «يقال: أفصح الغلام في منطقه، فهم ما يقول في أوّل ما يتكلّم.

منه».

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 83

(18) سورة الكهف

اشارة

مكّيّة. و هي مائة و عشرة

آيات.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأها فهو معصوم ثمانية أيّام من كلّ فتنة، فإن خرج الدجّال في تلك الثمانية أيّام عصمه اللّه من فتنة الدّجال. و من قرأ الآية الّتي في آخرها: «قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ» الآية، حين يأخذ مضجعه، كان له نور يتلألأ إلى الكعبة، حشو ذلك النور ملائكة يصلّون عليه حتّى يستيقظ».

سمرة بن جندب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ عشر آيات من سورة الكهف حفظا لم تضرّه فتنة الدجّال، و من قرأ السورة كلّها دخل الجنّة».

و

عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «ألا أدلّكم على سورة شيّعها سبعون ألف ملك حين نزلت، ملأت عظمتها ما بين السماء و الأرض؟ قالوا: بلى. قال: سورة أصحاب الكهف، من قرأها يوم الجمعة غفر له إلى الجمعة الاخرى و زيادة ثلاثة أيّام، و أعطي نورا ليبلغ السماء، و وقي فتنة الدجّال».

و

روى الواقدي بإسناده عن أبي الدرداء عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من حفظ عشر آيات من أوّل سورة الكهف ثم أدرك الدجّال لم يضرّه، و من حفظ خواتيم سورة الكهف كانت له نورا يوم القيامة».

و

روى أيضا بالإسناد عن سعيد بن محمّد الجزمي، عن أبيه، عن جدّه، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ الكهف يوم الجمعة فهو معصوم إلى ستّة أيّام من كلّ فتنة تكون، فإن رأى الدجّال عصم منه».

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 84

و

روى العيّاشي بإسناده عن الحسن بن عليّ بن أبي حمزة، عن أبيه، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة الكهف في

كلّ ليلة جمعة لم يمت إلّا شهيدا، و بعثه اللّه مع الشهداء، و أوقف يوم القيامة مع الشهداء» «1».

[سورة الكهف (18): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ الْكِتابَ وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً (1) قَيِّماً لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً مِنْ لَدُنْهُ وَ يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً (2) ماكِثِينَ فِيهِ أَبَداً (3) وَ يُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً (4)

ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ وَ لا لِآبائِهِمْ كَبُرَتْ كَلِمَةً تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ إِنْ يَقُولُونَ إِلاَّ كَذِباً (5) فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ أَسَفاً (6)

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة بني إسرائيل بالتحميد و التوحيد و ذكر القرآن، افتتح سورة الكهف أيضا بالتحميد و ذكر القرآن و النبيّ، ليتّصل أوّل هذه بآخر تلك، اتّصال الجنس بالجنس، فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَنْزَلَ عَلى عَبْدِهِ يعني: محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الْكِتابَ أي: القرآن، فبعثه نبيّا و رسولا. و رتّب استحقاق الحمد على إنزاله، تنبيها على أنّه أعظم نعمائه و أجزل آلائه، و ذلك لأنّه الهادي إلى ما فيه كمال العباد، و الداعي إلى ما به ينتظم المعاش و المعاد.

وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً شيئا من العوج قطّ، باختلال في اللفظ و تناقض في

______________________________

(1) تفسير العيّاشي 2: 321 ح 1.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 85

المعنى، أو انحراف من الدعوة إلى جانب الحقّ. و هو في المعاني كالعوج في الأعيان.

قَيِّماً مستقيما معتدلا، لا إفراط فيه و لا تفريط. أو قيّما بمصالح العباد و ما لا بدّ لهم منه من الشرائع، فيكون وصفا له بالتكميل بعد وصفه بالكمال. أو قيّما على الكتب السالفة،

يشهد بصحّتها. أو دائما يدوم و يثبت إلى يوم القيامة.

و انتصابه بمضمر، تقديره: جعله قيّما. أو على الحال من الضمير في «له»، أو من «الكتاب» على أنّ الواو في «و لم» يجعل للحال دون العطف، إذ لو كان للعطف لكان المعطوف فاصلا بين أبعاض المعطوف عليه، فإنّ الحال من تتمّة ذي الحال، و لذلك قيل:

فيه تقديم و تأخير.

ثمّ بيّن سبحانه الغرض في إنزاله، فقال: لِيُنْذِرَ بَأْساً شَدِيداً أي: لينذر العبد الّذي أنزل عليه الكتاب، الّذين كفروا، عذابا شديدا من عند اللّه، إن لم يؤمنوا به. فحذف المفعول الأوّل اكتفاء بدلالة القرينة، و اقتصارا على الغرض المسوق إليه. مِنْ لَدُنْهُ صادرا من عنده.

و قرأ أبو بكر بإسكان الدال مع إشمام الضمّة، ليدلّ على أصله، و كسر النون لالتقاء الساكنين، و كسر الهاء للإتباع.

وَ يُبَشِّرَ الْمُؤْمِنِينَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ الصَّالِحاتِ أَنَّ لَهُمْ أَجْراً حَسَناً هو الجنّة ماكِثِينَ فِيهِ في الأجر أَبَداً بلا انقطاع.

وَ يُنْذِرَ الَّذِينَ قالُوا اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً خصّهم بالذكر، و كرّر الإنذار متعلّقا بهم، استعظاما لكفرهم. و إنّما لم يذكر المنذر به استغناء بتقدّم ذكره.

ما لَهُمْ بِهِ أي: بالولد، أو باتّخاذه، أو بالقول به مِنْ عِلْمٍ يعني: أنّهم يقولونه عن جهل مفرط و توهّم كاذب، أو تقليد لما سمعوه من أوائلهم، من غير علم بالمعنى الّذي أرادوا به، فإنّهم كانوا يطلقون الأب و الابن بمعنى المؤثّر و الأثر، أو باللّه، إذ لو علموه لما جوّزوا نسبة الاتّخاذ إليه وَ لا لِآبائِهِمْ الّذين تقوّلوه، بمعنى التبنّي.

كَبُرَتْ كَلِمَةً عظمت مقالتهم هذه في الكفر، لما فيها من التشبيه و التشريك،

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 86

و إيهام احتياجه تعالى إلى ولد يعينه و يخلفه، إلى غير ذلك من الزيغ. و «كلمة»

نصب على التمييز. و فيه معنى التعجّب، كأنّه قيل: ما أكبرها كلمة! و ضمير «كبرت» راجع إلى قولهم:

«اتَّخَذَ اللَّهُ وَلَداً». و سمّيت كلمة كما يسمّون القصيدة بها.

تَخْرُجُ مِنْ أَفْواهِهِمْ صفة لها تفيد استعظام اجترائهم على إخراجها من أفواههم، فإنّ كثيرا ممّا يوسوسه الشيطان في قلوب الناس، و يحدّثون به أنفسهم من المنكرات، لا يتمالكون أن يتفوّهوا به و يطلقوا به ألسنتهم، بل يكظمون عليه تشوّرا «1» من إظهاره، فكيف بمثل هذا المنكر؟! و وصف الكلمة بالخروج من الأفواه توسّعا و مجازا، فإنّ الخارج بالذات هو الهواء الحامل لها. إِنْ يَقُولُونَ إِلَّا كَذِباً و افتراء على اللّه.

فَلَعَلَّكَ باخِعٌ أي: قاتل نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ إذا ولّوا عن الايمان. شبّهه حين تولّوا عنه و لم يؤمنوا به، لما تداخله من الوجد و الأسف على تولّيهم، برجل فارقه أحبّته و أعزّته، فهو يتساقط حسرات على آثارهم، و يبخع نفسه وجدا عليهم، و تلهّفا على فراقهم. إِنْ لَمْ يُؤْمِنُوا بِهذَا الْحَدِيثِ بهذا القرآن أَسَفاً للتأسّف عليهم.

و الأسف فرط الحزن و الغضب. يقال: رجل أسف و أسيف.

[سورة الكهف (18): الآيات 7 الى 9]

إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ زِينَةً لَها لِنَبْلُوَهُمْ أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً (7) وَ إِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً (8) أَمْ حَسِبْتَ أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَ الرَّقِيمِ كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً (9)

إِنَّا جَعَلْنا ما عَلَى الْأَرْضِ من الحيوان و النبات و المعادن زِينَةً لَها يعني:

______________________________

(1) أي: تباعدا من إظهاره، كأنّه عورة. و في الصحاح (2: 704): «الشوار: فرج المرأة و الرجل».

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 87

ما يصلح أن يكون زينة لها و لأهلها، من زخارف الدنيا و ما يستحسن منها لِنَبْلُوَهُمْ أي: لنعامل عبادنا معاملة المبتلي أَيُّهُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أي: أعمل بطاعة اللّه، و أطوع

له في تعاطيه. و هو: من زهد فيه، و لم يغترّ به، و قنع منه بما يزجّي «1» به أيّامه، و صرفه على ما ينبغي، و فيه تسكين لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

ثمّ زهّد العباد فيه بقوله: وَ إِنَّا لَجاعِلُونَ ما عَلَيْها صَعِيداً جُرُزاً هي الأرض الّتي قطع نباتها، من الجرز بمعنى القطع. و المعنى: إنّا لنعيد ما عليها من الزينة ترابا مستويا بالأرض، و نجعله كصعيد أملس لا نبات فيه، بعد أن كانت خضراء معشبة، في إزالة بهجته، و إماطة حسنه، و إبطال ما به كان زينة.

أَمْ حَسِبْتَ أم منقطعة، و الخطاب للرسول، و المقصود أمّته. يعني: بل حسبت أَنَّ أَصْحابَ الْكَهْفِ وَ الرَّقِيمِ في إبقاء حياتهم مدّة مديدة كانُوا مِنْ آياتِنا عَجَباً أي: كانوا آية عجبا من آياتنا. وصفا بالمصدر، أو على: ذات عجب على تقدير المضاف.

و قصّتهم بالإضافة إلى خلق ما على الأرض من الأجناس و الأنواع الّتي لا حصر لها، على طبائع متباعدة و هيئات متخالفة تعجب الناظرين، مع أنّها من مادّة واحدة، ثمّ ردّها إلى الأرض، ليس «2» بعجيب، مع أنّه من آيات اللّه كالنزر الحقير.

و الكهف: الغار الواسع في الجبل. و الرقيم قيل: اسم الجبل. و عن ابن عبّاس: إنّه اسم الوادي الّذي فيه كهفهم. أو اسم قريتهم، أو كلبهم، كما قال أميّة بن أبي الصلت:

و ليس بها إلّا الرقيم مجاوراو صيدهم و القوم في الكهف هجّد

و عن ابن سعيد: لوح رصاصيّ أو حجريّ رقمت فيه أسماؤهم، و جعل على باب الكهف.

و عن النعمان بن بشير مرفوعا: أنّ أصحاب الرقيم قوم آخرون كانوا ثلاثة خرجوا يرتادون لأهلهم، فأخذتهم السماء فأووا إلى الكهف، فانحطّت صخرة

و سدّت بابه. فقال أحدهم: اذكروا أيّكم عمل حسنة، لعلّ اللّه يرحمنا ببركته.

______________________________

(1) زجّى يزجّي تزجية: دفع. يقال: كيف تزجّي أيّامك؟ أي: كيف تدفعها؟

(2) خبر «و قصّتهم» قبل سطرين.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 88

فقال أحدهم: استعملت أجراء ذات يوم، فجاء رجل وسط النهار و عمل في بقيّته مثل عملهم، فأعطيته مثل أجرهم، فغضب أحدهم و ترك أجره، فوضعته في جانب البيت. ثمّ مرّ بي بقر فاشتريت به فصيلة، فبلغت ما شاء اللّه، فرجع إليّ بعد حين شيخا ضعيفا لا أعرفه، و قال لي: إنّ لي عندك حقّا، و ذكره لي حتّى عرفته، فدفعتها إليه جميعا.

اللّهمّ إن كنت فعلت ذلك لوجهك فافرج عنّا. فانصدع الجبل حتّى رأوا الضوء.

و قال آخر: كان فيّ فضل، و أصابت الناس شدّة، فجاءتني امرأة فطلبت منّي معروفا، فقلت: و اللّه ما هو دون نفسك، فأبت و عادت ثمّ رجعت ثلاثا. ثمّ ذكرت لزوجها، فقال: أجيبي له و أغيثي عيالك. فأتت و سلّمت إليّ نفسها، فلمّا تكشّفتها و هممت بها ارتعدت. فقلت: مالك؟ فقالت: أخاف اللّه. فقلت لها: خفته في الشدّة و لم أخفه في الرخاء. فتركتها و أعطيتها ملتمسها. اللّهمّ إن كنت فعلته لوجهك فافرج عنّا.

فانصدع حتّى تعارفوا.

و قال الثالث: كان لي أبوان همّان، و كانت لي غنم، و كنت أطعمهما و اسقيهما ثمّ أرجع إلى غنمي. فحبسني ذات يوم غيث، فلم أبرح حتى أمسيت فأتيت أهلي، و أخذت محلبي فحلبت فيه و مضيت إليهما، فوجدتهما نائمين، فشقّ عليّ أن أوقظهما، فتوقّعت جالسا و محلبي على يدي، حتّى أيقظهما الصبح، فسقيتهما. اللّهمّ إن فعلته لوجهك فافرج عنّا، ففرّج اللّه عنهم فخرجوا.

[سورة الكهف (18): الآيات 10 الى 16]

إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً

وَ هَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا رَشَداً (10) فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً (11) ثُمَّ بَعَثْناهُمْ لِنَعْلَمَ أَيُّ الْحِزْبَيْنِ أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً (12) نَحْنُ نَقُصُّ عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِّ إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدىً (13) وَ رَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ إِذْ قامُوا فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً (14)

هؤُلاءِ قَوْمُنَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لَوْ لا يَأْتُونَ عَلَيْهِمْ بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً (15) وَ إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ إِلاَّ اللَّهَ فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً (16)

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 89

ثمّ بيّن سبحانه قصّة أصحاب الكهف بقوله: إِذْ أَوَى الْفِتْيَةُ إِلَى الْكَهْفِ أي:

اذكر حين إذ أوى فتية من أشراف الروم، و هم آمنوا باللّه، و كانوا يخفون الإسلام خوفا من ملكهم. و اسم ملكهم دقيانوس، و اسم مدينتهم أفسوس أو أطروس. و كان ملكهم يعبد الأصنام، و يدعو إليها، و يقتل من خالفه، فهربوا من دقيانوس لحفظ دينهم، و التجأوا إلى الكهف. فَقالُوا رَبَّنا آتِنا مِنْ لَدُنْكَ رَحْمَةً توجب لنا المغفرة و الرزق و الأمن من الأعداء وَ هَيِّئْ لَنا مِنْ أَمْرِنا الذي نحن عليه من مفارقة الكفّار رَشَداً نصير بسببه راشدين مهتدين. أو اجعل أمرنا كلّه رشدا، كقولك: رأيت منك أسدا. و أصل التهيئة إحداث هيئة الشي ء.

فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ أي: فضربنا عليها حجابا يمنع السماع. يعني: أنمناهم إنامة ثقيلة لا تنبّههم فيها الأصوات. فحذف المفعول، كما حذف في قولهم: بنى على امرأته، يريدون: بني عليها القبّة. فِي الْكَهْفِ سِنِينَ ظرفان ل «ضربنا» عَدَداً أي:

ذوات عدد. و وصف السنين به

يحتمل أن يريد التكثير و التقليل، فإنّ مدّة لبثهم كبعض يوم عنده.

ثُمَّ بَعَثْناهُمْ أيقظناهم لِنَعْلَمَ ليتعلّق علمنا تعلّقا استقباليّا مطابقا لمتعلّقه.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 90

يعني: ليظهر معلومنا على ما علّمناه. أَيُّ الْحِزْبَيْنِ المختلفين منهم في مدّة لبثهم.

و ذلك قوله: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ «1». أو المختلفين من غيرهم في مدّة لبثهم. أَحْصى لِما لَبِثُوا أَمَداً ضبط أمدا لزمان لبثهم. و ما في «أيّ» من معنى الاستفهام علّق عنه «لنعلم» يعني: لم يعمل فيه. فهو مبتدأ و «أحصى» خبره. و هو فعل ماض، و «أمدا» مفعوله، و «لما لبثوا» حال منه أو مفعول له.

و قيل: إنّه المفعول، و اللام مزيدة، و «ما» موصولة، و «أمدا» تمييز.

و قيل: «أحصى» اسم تفضيل من الإحصاء بحذف الزوائد، كقولهم: هو أحصى للمال، و أفلس من ابن المذلّق.

و قال صاحب الكشّاف: «و هذا القول ليس بالوجه السديد، و ذلك أنّ بناءه من غير الثلاثيّ المجرّد ليس بقياس. و نحو: أعدى من الجرب و أفلس من ابن المذلّق شاذّ، و القياس على الشاذّ في غير القرآن ممتنع فكيف به؟ و لأنّ «أمدا» لا يخلوا: إمّا أن ينتصب بأفعل، و هو غير جائز، لأن أفعل لا يعمل. و إمّا أن ينتصب ب «لبثوا» فلا يسدّ عليه المعنى.

و إن زعمت أنّي أنصبه بإضمار فعل يدلّ عليه «أحصى» كما أضمر في قوله: و أضرب منّا بالسيوف القوانسا «2»، على: نضرب القوانس، فقد أبعدت المتناول و هو قريب، حيث أبيت أن يكون «أحصى» فعلا، ثمّ رجعت مضطرّا إلى تقديره و إضماره» «3».

نَحْنُ نَقُصُ أي: نتلو عَلَيْكَ نَبَأَهُمْ بِالْحَقِ خبرهم بالصدق و الصحّة إِنَّهُمْ فِتْيَةٌ

شبّان. جمع فتيّ، كصبيّ و صبية. آمَنُوا بِرَبِّهِمْ وَ زِدْناهُمْ هُدىً بالتثبيت.

______________________________

(1) الكهف: 19.

(2) في هامش النسخة الخطّية: «القوانس: أعلى البيضة من الحديد و القونس. منه». يعني:

أعلى بيضة الفارس و أعلى رأس الفرس.

(3) الكشّاف 2: 705.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 91

وَ رَبَطْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أي: قوّيناها بالصبر على هجر الأوطان و الأهل و المال، و الفرار بالدين إلى بعض الغيران «1»، و جسّرناهم على القيام بكلمة الحقّ و التظاهر بالإسلام إِذْ قامُوا بين يديه من غير مبالاة حين عاتبهم على ترك عبادة الأصنام فَقالُوا رَبُّنا رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَنْ نَدْعُوَا مِنْ دُونِهِ إِلهاً لَقَدْ قُلْنا إِذاً شَطَطاً و اللّه لقد قلنا قولا ذا شطط، أي: ذا بعد عن الحقّ مفرط في الظلم، من: شطّ إذا بعد.

هؤُلاءِ مبتدأ قَوْمُنَا عطف بيان اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً خبره. و هو إخبار في معنى الإنكار. ثمّ بكّتوهم بقولهم: لَوْ لا يَأْتُونَ هلّا يأتون عَلَيْهِمْ على عبادتهم، بحذف المضاف بِسُلْطانٍ بَيِّنٍ ببرهان ظاهر، فإنّ الدين لا يؤخذ إلّا به.

و فيه دليل على أنّ ما لا دليل عليه من الديانات مردود، و أن التقليد فيه غير جائز. فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بنسبة الشريك إليه.

وَ إِذِ اعْتَزَلْتُمُوهُمْ خطاب من بعضهم لبعض حين صمّمت عزيمتهم على الفرار بدينهم وَ ما يَعْبُدُونَ إِلَّا اللَّهَ عطف على الضمير المنصوب، أي: و إذ اعتزلتم القوم و معبوديهم إلّا اللّه. و يجوز أن تكون «ما» مصدريّة على تقدير: و إذ اعتزلتموهم و عبادتهم إلّا عبادة اللّه. و أن تكون نافية، على أنّه إخبار من اللّه تعالى عن الفتية بالتوحيد، معترض بين «إذ» و جوابه، لتحقيق اعتزالهم. و الاستثناء يجوز أن يكون متّصلا، فإنّهم كانوا

يعبدون اللّه و يعبدون الأصنام، كسائر المشركين. و يجوز أن يكون منقطعا.

فَأْوُوا إِلَى الْكَهْفِ يَنْشُرْ لَكُمْ رَبُّكُمْ يبسط الرزق لكم و يوسّع عليكم مِنْ رَحْمَتِهِ في الدارين وَ يُهَيِّئْ لَكُمْ مِنْ أَمْرِكُمْ مِرْفَقاً ما ترتفقون به، أي: تنتفعون.

و جزمهم بذلك لخلوص يقينهم، و قوّة وثوقهم بفضل اللّه.

و قرأ نافع و ابن عامر: مرفقا بفتح الميم و كسر الفاء. و هو مصدر جاء شاذّا، كالمرجع و المحيض، فإنّ قياسه الفتح.

______________________________

(1) جمع الغار.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 92

[سورة الكهف (18): الآيات 17 الى 21]

وَ تَرَى الشَّمْسَ إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَ إِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ ذاتَ الشِّمالِ وَ هُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ ذلِكَ مِنْ آياتِ اللَّهِ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَهُوَ الْمُهْتَدِ وَ مَنْ يُضْلِلْ فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً (17) وَ تَحْسَبُهُمْ أَيْقاظاً وَ هُمْ رُقُودٌ وَ نُقَلِّبُهُمْ ذاتَ الْيَمِينِ وَ ذاتَ الشِّمالِ وَ كَلْبُهُمْ باسِطٌ ذِراعَيْهِ بِالْوَصِيدِ لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً وَ لَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً (18) وَ كَذلِكَ بَعَثْناهُمْ لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أَزْكى طَعاماً فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَ لْيَتَلَطَّفْ وَ لا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً (19) إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ يَرْجُمُوكُمْ أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ وَ لَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً (20) وَ كَذلِكَ أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ لِيَعْلَمُوا أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ أَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها إِذْ يَتَنازَعُونَ بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ فَقالُوا ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا عَلى أَمْرِهِمْ لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً (21)

ثمّ بيّن سبحانه حالهم في الكهف، فقال: وَ تَرَى الشَّمْسَ أي: لو رأيتهم.

و الخطاب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

و سلّم، أو لكلّ أحد. إِذا طَلَعَتْ تَزاوَرُ عَنْ كَهْفِهِمْ تميل عنه، و لا

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 93

يقع شعاعها عليهم فيؤذيهم، لأنّ الكهف كان جنوبيّا، أو لأنّ اللّه زوّرها عنهم. و أصله:

تتزاور، فأدغمت التاء في الزاي. و قرأ الكوفيّون بحذفها، و ابن عامر و يعقوب: تزوّر، ك:

تحمّر. و كلّها من الزور، و هو الميل، و منه: زاره إذا مال إليه: ذاتَ الْيَمِينِ جهة اليمين.

و حقيقتها الجهة المسمّاة باليمين.

وَ إِذا غَرَبَتْ تَقْرِضُهُمْ تقطعهم و تصرم عنهم و لا تقربهم ذاتَ الشِّمالِ يعني:

يمين الكهف و شماله، لقوله: وَ هُمْ فِي فَجْوَةٍ مِنْهُ أي: و هم في متّسع من الكهف.

و المعنى: أنّهم في ظلّ نهارهم كلّه لا تصيبهم الشمس في طلوعها و لا غروبها، مع أنّهم في مكان واسع منفتح معرّض لإصابة الشمس، ينالهم فيه روح الهواء و برد النسيم، و لا يحسّون كرب الغار، و ذلك لأنّ باب الكهف شماليّ مستقبل لبنات نعش، فتميل عنهم الشمس طالعة و غاربة، فهم في مقنأة «1» أبدا.

ذلِكَ أي: شأنهم و إبواؤهم إلى كهف شأنه كذلك، أو ازورار الشمس و قرضها طالعة و غاربة، أو إخبارك هذا مِنْ آياتِ اللَّهِ من أدلّته و براهينه مَنْ يَهْدِ اللَّهُ بالتوفيق فَهُوَ الْمُهْتَدِ الّذي أصاب الفلاح. و المراد به إمّا الثناء عليهم، أو التنبيه على أنّ أمثال هذه الآيات كثيرة، و لكنّ المنتفع بها من استرشد، فيوفّقه اللّه للتأمّل فيها و الاستبصار بها. وَ مَنْ يُضْلِلْ و من يخذله و يخلّه لفرط عناده و تصميمه على الكفر فَلَنْ تَجِدَ لَهُ وَلِيًّا مُرْشِداً من يليه و يرشده.

وَ تَحْسَبُهُمْ أي: لو رأيتهم لحسبتهم أَيْقاظاً لانفتاح عيونهم، أو لكثرة تقلّبهم. جمع يقظ، كأنكاد في نكد وَ هُمْ

رُقُودٌ نيام في الحقيقة وَ نُقَلِّبُهُمْ في رقدتهم ذاتَ الْيَمِينِ وَ ذاتَ الشِّمالِ أي: تارة عن اليمين إلى الشمال، و تارة عن الشمال إلى اليمين، كما ينقلب النائم، لئلّا تأكل الأرض ما يليها من أبدانهم على طول الزمان. قيل لهم تقلبتان في السنة. و قيل: تقلبة واحدة في يوم عاشوراء.

______________________________

(1) المقنأة: الموضع الذي لا تطلع عليه الشمس.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 94

وَ كَلْبُهُمْ هو كلب مرّوا به فتبعهم فطردوه، فأنطقه اللّه تعالى فقال: أنا أحبّ أحبّاء اللّه فناموا و أنا أحرسكم. أو كلب راع مرّوا به فتبعهم و تبعه الكلب. و قيل: كان كلب صيدهم، و هو أصفر اللون. و عن ابن عبّاس: أنمر «1»، و اسمه قطمير. و عن الحسن: أنّ ذلك الكلب مكث هناك ثلاثمائة و تسع سنين بغير شراب و طعام، و لا نوم و لا قيام.

باسِطٌ ذِراعَيْهِ حكاية حال ماضية، و لذلك أعمل اسم الفاعل. و المعنى:

و يلقيهما على الأرض مبسوطتين كافتراش السبع. بِالْوَصِيدِ بفناء الكهف. و قيل:

الوصيد الباب. و قيل: العتبة. لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ فنظرت إليهم لَوَلَّيْتَ أي: لهربت مِنْهُمْ فِراراً نصبه بالمصدريّة، لأنّه نوع من التولية، أو بالعلّية، أو الحاليّة وَ لَمُلِئْتَ مِنْهُمْ رُعْباً خوفا يملأ صدرك، بما ألبسهم اللّه من الهيبة، أو لعظم أجرامهم و انفتاح عيونهم، و قيل: لطول أظفارهم و شعورهم. و قيل: لوحشة مكانهم.

و قرأ الحجازيّان: لملّئت بالتشديد، للمبالغة. و ابن عامر و الكسائي و يعقوب:

رعبا بالتثقيل. و كلاهما بمعنى الخوف الّذي يرعب الصدر، أي: يملؤه.

و عن معاوية: أنّه غزا الروم فمرّ بالكهف، فقال: لو كشف لنا عن هؤلاء فننظر إليهم! فقال له ابن عبّاس: ليس ذلك لك، قد منع اللّه ذلك من هو خير منك،

فقال: «لَوِ اطَّلَعْتَ عَلَيْهِمْ لَوَلَّيْتَ مِنْهُمْ فِراراً». فلم يسمع، و بعث أناسا فلمّا دخلوا جاءت ريح فأحرقتهم.

وَ كَذلِكَ و كما أنمناهم آية بَعَثْناهُمْ آية و ادّكارا بكمال قدرتنا لِيَتَساءَلُوا بَيْنَهُمْ ليسأل بعضهم بعضا فيتعرّفوا حالهم و ما صنع اللّه بهم، فيزدادوا يقينا على كمال قدرة اللّه، و يستبصروا به أمر البعث، و يشكروا ما أنعم اللّه تعالى به عليهم.

قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ كَمْ لَبِثْتُمْ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ بناء على غالب ظنّهم، لأنّ النائم لا يحصي مدّة نومه، و لذلك أحالوا العلم إلى اللّه قالُوا رَبُّكُمْ أَعْلَمُ بِما لَبِثْتُمْ و يجوز أن يكون القول الأوّل قول بعضهم، و الثاني إنكار الآخرين عليهم. و عن ابن

______________________________

(1) الأنمر: ما فيه نقط سود. يقال: أسد أنمر، أي: فيه غبرة و سواد.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 95

عبّاس: أنّ قائل هذا القول هو تمليخا رئيسهم.

و قيل: إنّهم دخلوا الكهف غدوة و انتبهوا ظهيرة، فظنّوا أنّهم في يومهم أو اليوم الّذي بعده قالوا ذلك، فلمّا نظروا إلى طول أظفارهم و أشعارهم قالوا هذا.

ثمّ لمّا علموا أنّ الأمر ملتبس لا طريق لهم إلى علمه أخذوا في شي ء آخر ممّا يهمّهم و قالوا: فَابْعَثُوا أَحَدَكُمْ بِوَرِقِكُمْ هذِهِ إِلَى الْمَدِينَةِ و الورق الفضّة مضروبة كانت أو غيرها. و قرأ أبو عمرو و حمزة و أبو بكر و روح عن يعقوب بالتخفيف. و تزوّدهم عند فرارهم دليل على أنّ حمل النفقة و ما يصلح المسافر هو رأي المتوكّلين على اللّه، دون المتّكلين على الاتّفاقات، و على ما في أوعية القوم من النفقات. عن ابن عبّاس: كان معهم دراهم عليها صورة الملك الّذي كان في زمانهم.

فَلْيَنْظُرْ أَيُّها أيّ أهلها أَزْكى طَعاماً أحلّ و أطيب. و

عن ابن عبّاس: أطهر و أحلّ ذبيحة، لأنّ عامّتهم كانت مجوسا، و فيهم قوم مؤمنون يخفون إيمانهم. و قيل: أكثر و أرخص. فَلْيَأْتِكُمْ بِرِزْقٍ مِنْهُ وَ لْيَتَلَطَّفْ و ليتكلّف اللطف في المعاملة حتّى لا يغبن.

أو في التخفّي حتى لا يعرف. وَ لا يُشْعِرَنَّ بِكُمْ أَحَداً و لا يفعلنّ ما يؤدّي إلى الشعور.

إِنَّهُمْ إِنْ يَظْهَرُوا عَلَيْكُمْ إن يطّلعوا عليكم و يعلموا مكانكم، أو يظفروا بكم.

و الضمير للأهل المقدّر في «أيّها». يَرْجُمُوكُمْ يقتلوكم بالرجم، و هو من أخبث القتل أَوْ يُعِيدُوكُمْ فِي مِلَّتِهِمْ أو يصيّروكم إليها كرها، من العود بمعنى الصيرورة. و التقيّة في ذلك الوقت لم تكن جائزة في إظهار الكفر. و قيل: كانوا أوّلا على دينهم فآمنوا. و المعنى:

يعيدوكم إلى دينهم بالاستدعاء دون الإكراه إلى دينهم الّذي كنّا نتديّن به قبل ذلك الوقت.

وَ لَنْ تُفْلِحُوا إِذاً أَبَداً إن دخلتم في ملّتهم.

وَ كَذلِكَ و كما أنمناهم و بعثناهم لتزداد بصيرتهم أَعْثَرْنا عَلَيْهِمْ أطلعنا عليهم لِيَعْلَمُوا ليعلم الّذين أطلعنا عليهم أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث أو الموعود الّذي هو البعث حَقٌ لأنّ نومهم و انتباههم كحال من يموت ثمّ يبعث وَ أَنَّ السَّاعَةَ لا رَيْبَ فِيها و أنّ القيامة لا ريب في إمكانها، فإنّ من توفّى نفوسهم و أمسكها ثلاثمائة سنين،

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 96

حافظا أبدانها عن التحلّل و التفتّت، ثمّ أرسلها إليها، قدر أن يتوفّى نفوس جميع الناس، ممسكا إيّاها إلى أن يحشر أبدانهم فيردّها عليها.

إِذْ يَتَنازَعُونَ ظرف ل «أعثرنا» أي: أعثرنا عليهم حين يتنازعون بَيْنَهُمْ أَمْرَهُمْ أمر دينهم، و كان بعضهم يقول: تبعث الأرواح مجرّدة، و بعضهم يقول: يبعثان معا، ليرتفع الخلاف، و يتبيّن أنّهما يبعثان معا كما كانت قبل الموت. أو أمر الفتية حين أماتهم

اللّه ثانيا بالموت، فقال بعضهم: ماتوا، و قال آخرون: ناموا نومهم أوّل مرّة. أو قالت طائفة: نبني عليهم بنيانا يسكنه الناس و يتّخذونه قرية، و قال آخرون: لنتّخذنّ عليهم مسجدا يصلّى فيه، كما قال عزّ اسمه: فَقالُوا أي: بعضهم ابْنُوا عَلَيْهِمْ بُنْياناً أي:

على باب الكهف، لئلّا يتطرّق إليهم الناس ضنّا بتربتهم، و محافظة عليها، كما حفظت تربة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالحظيرة.

و قوله: رَبُّهُمْ أَعْلَمُ بِهِمْ معترض بينه و بين قوله: قالَ الَّذِينَ غَلَبُوا أي:

أطّلعوا عَلى أَمْرِهِمْ يعني: الملك و أصحابه المؤمنين باللّه لَنَتَّخِذَنَّ عَلَيْهِمْ مَسْجِداً متعبّدا للعبادة. و الاعتراض إمّا من اللّه ردّا على الخائضين في أمرهم من أولئك المتنازعين. أو من المتنازعين فيهم على عهد الرسول. أو من المتنازعين للردّ إلى اللّه بعد ما تذاكروا أمرهم، و تناقلوا الكلام في أنسابهم و أحوالهم، فلم يتحقّق لهم ذلك.

و تفصيل هذه القصّة على ما قاله المفسّرون: أنّ أهل الإنجيل عظمت فيهم الخطايا، و طغت ملوكهم حتّى عبدوا الأصنام و أكرهوا على عبادتها. و ممّن شدّد في ذلك دقيانوس، فأراد أن يحمل فئة من أشراف قومه على الشرك، و توعّدهم بالقتل، فأبوا إلّا الثبات على الإيمان و التصلّب فيه، ثمّ هربوا من ملكهم و دخلوا الكهف، فاطّلع الملك على مكانهم، فأمر أن يسدّ عليهم باب الكهف، و يدعوهم كما هم في الكهف يموتوا عطشا و جوعا، و ليكن كهفهم الّذي اختاروا قبرا لهم، و هو يظنّ أنّهم أيقاظا.

ثمّ إنّ رجلين مؤمنين كتبا شأن الفتية و أنسابهم و أسماءهم و خبرهم في لوح من رصاص، و جعلاه في تابوت من نحاس، و جعلا التابوت في البنيان الّذي بنوا على باب

زبدة التفاسير،

ج 4، ص: 97

الكهف، و قالا: لعلّ اللّه يظهر على هؤلاء الفئة قوما مؤمنين قبل يوم القيامة، ليعلموا خبرهم حين يقرءون هذا الكتاب.

ثمّ انقرض أهل ذلك الزمان، و خلّفت بعدهم قرون و ملوك كثيرون، و ملك أهل تلك البلاد رجل صالح يقال له: ندليس. و قيل: بندوسيس. و تحزّب الناس في ملكه أحزابا، منهم من يؤمن باللّه و يعلم أنّ الساعة حقّ، و منهم من يكذّب. فكبر ذلك على الملك الصالح، و بكى إلى اللّه و تضرّع و قال: أي ربّ قد ترى اختلاف هؤلاء، فابعث لهم آية تبيّن لهم بها أنّ البعث حقّ، و أن الساعة آتية لا ريب فيها.

فألقى اللّه في قلب رجل من أهل تلك البقعة الّتي بها الكهف أن يهدم البنيان الّذي على فم الكهف، فيبني به حظيرة لغنمه، ففعل ذلك. و بعث اللّه الفتية من نومهم، فأرسلوا أحدهم ليطلب لهم طعاما. فلمّا دخل السوق أخرج الدرهم و كان عليه اسم دقيانوس، اتّهموه بأنّه وجد كنزا، فذهبوا به إلى الملك، و كان نصرانيّا موحّدا. فقصّ عليهم القصص.

قال بعضهم: إنّ آباءنا أخبرونا أنّ فتية فرّوا بدينهم من دقيانوس، فلعلّهم هؤلاء.

فانطلق الملك و أهل المدينة من مؤمن و كافر، و أبصروهم و كلّموهم. ثمّ قال الفتية للملك: نستودعك اللّه، و نعيذك به من شرّ الجنّ و الإنس. ثمّ رجعوا إلى مضاجعهم. فبنى الملك عليهم مسجدا.

و قيل: لمّا انتهوا إلى الكهف قال لهم الفتى: مكانكم حتّى أدخل أوّلا لئلّا يفزعوا.

فدخل فعمي عليهم المدخل، فبنوا ثمّ مسجدا.

[سورة الكهف (18): آية 22]

سَيَقُولُونَ ثَلاثَةٌ رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ وَ يَقُولُونَ خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ رَجْماً بِالْغَيْبِ وَ يَقُولُونَ سَبْعَةٌ وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلاَّ قَلِيلٌ فَلا تُمارِ فِيهِمْ إِلاَّ

مِراءً ظاهِراً وَ لا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً (22)

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 98

ثمّ بيّن سبحانه تنازعهم في عددهم، فقال: سَيَقُولُونَ سيقول قوم من المختلفين في عددهم في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، من أهل الكتاب و المؤمنين: ثَلاثَةٌ ثلاثة رجال رابِعُهُمْ كَلْبُهُمْ يربّعهم كلبهم بانضمامه إليهم. قيل: هو قول اليهود. و قيل:

قول السيّد من نصارى نجران، و كان يعقوبيّا. وَ يَقُولُونَ و يقول آخرون: هم خَمْسَةٌ سادِسُهُمْ كَلْبُهُمْ قاله النصارى، أو العاقب، و كان نسطوريّا.

رَجْماً بِالْغَيْبِ يرمون رميا بالخبر الخفيّ الّذي لا مطلع لهم عليه، كقوله:

و يقذفون بالغيب، أي: يأتون به. أو وضع الرجم موضع الظنّ، فكأنّه قيل: ظنّا بالغيب، لأنّهم أكثروا أن يقولوا: رجم بالظنّ، مكان قولهم: ظنّ، حتّى لم يبق عندهم فرق بين العبارتين. و إنّما لم يذكر بالسين اكتفاء بعطفه على ما يكون السين فيه.

وَ يَقُولُونَ و يقول آخرون: هم سَبْعَةٌ وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ إنّما قاله المسلمون بإخبار الرسول لهم عن جبرئيل، و إيماء اللّه إليه، بأن أتبعه قوله: قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ بِعِدَّتِهِمْ ما يَعْلَمُهُمْ إِلَّا قَلِيلٌ و أتبع الأوّلين قوله: «رَجْماً بِالْغَيْبِ».

و بأن أثبت العلم بهم لطائفة بعد ما حصر أقوال الطوائف في الثلاثة المذكورة، فإنّ عدم إيراد رابع في نحو هذا المحلّ دليل العدم، مع أنّ الأصل ينفيه. ثمّ ردّ الأوّلين بأن أتبعهما قوله: «رجما بالغيب» ليتعيّن الثالث.

و بأن أدخل فيه الواو على الجملة الواقعة صفة للنكرة، تشبيها لها بالواقعة حالا من المعرفة، لتأكيد لصوق الصفة بالموصوف، و الدلالة على أنّ اتّصافه بها أمر ثابت. و نظيره قوله تعالى: وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَ لَها كِتابٌ مَعْلُومٌ «1». و نحو قولك: جاءني رجل

و معه آخر، و مررت بزيد و في يده سيف.

و قال ابن عبّاس: حين وقعت الواو انقطعت العدّة، أي: لم يبق بعدها عدّة عادّ يلتفت إليها، و ثبت أنّهم سبعة و ثامنهم كلبهم على القطع و الثبات. ثمّ قال: و أنا من ذلك القليل.

______________________________

(1) الحجر: 4.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 99

و قيل: معناه: إلّا قليل من أهل الكتاب. و الضمير في «سيقولون» على هذا لأهل الكتاب خاصّة، أي: سيقول أهل الكتاب فيهم كذا و كذا، و لا علم بذلك إلّا في قليل منهم، و أكثرهم على الظنّ و التخمين.

و

روي عن علي عليه السّلام: «هم سبعة و ثامنهم كلبهم. و أسماؤهم: يمليخا، و مكشلينيا، و مشلينيا. هؤلاء أصحاب يمين الملك. و مرنوش، و دبرنوش، و شاذنوش، أصحاب يساره. و كان يستشيرهم. و السابع: الراعي الّذي وافقهم. و اسم كلبهم قطمير».

فَلا تُمارِ فِيهِمْ و لا تجادل في شأن أصحاب الكهف مع الخائضين فيهم إِلَّا مِراءً ظاهِراً إلّا جدالا ظاهرا غير متعمّق فيه، و هو أن تقصّ عليهم ما أوحي إليك فحسب، من غير تجهيل لهم، و لا تعنيف بهم في الردّ عليهم، فإنّه يخلّ بمكارم الأخلاق، كما قال: وَ جادِلْهُمْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ «1».

وَ لا تَسْتَفْتِ فِيهِمْ مِنْهُمْ أَحَداً و لا تسأل أحدا منهم عن قصّتهم سؤال مسترشد، فإنّ فيما أوحي إليك لمندوحة عن غيره، مع أنّه لا علم لهم بها. و لا سؤال متعنّت، حتّى يقول شيئا فتردّه عليه و تزيّف ما عنده، لأنّ ذلك ما وصيت به من المداراة و المجاملة.

[سورة الكهف (18): الآيات 23 الى 24]

وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً (23) إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ وَ اذْكُرْ رَبَّكَ إِذا نَسِيتَ وَ قُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي لِأَقْرَبَ

مِنْ هذا رَشَداً (24)

و روي عن ابن عبّاس و سعيد بن جبير: أنّ النضر بن الحارث بن كلدة و عقبة بن أبي معيط أنفذهما قريش إلى أحبار اليهود بالمدينة، و قالوا لهما: سلاهم عن محمّد، و صفا لهم صفته، و أخبراهم بقوله، فإنّهم أهل الكتاب الأوّل، و عندهم من علم الأنبياء ما ليس عندنا. فخرجا حتّى قدما المدينة، فسألا أحبار اليهود عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قالا لهم ما قالت قريش.

______________________________

(1) النحل: 125.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 100

زبدة التفاسير ج 4 150

فقال لهما أحبار اليهود: اسألوه عن ثلاث، فإن أخبركم بهنّ فهو نبيّ مرسل، و إن لم يفعل فهو رجل متقوّل. اسألوه عن فتية ذهبوا في الدهر الأوّل ما كان أمرهم؟ فإنّه قد كان لهم حديث عجيب. و اسألوه عن رجل طوّاف قد بلغ مشارق الأرض و مغاربها، ما كان نبؤه؟ و اسألوه عن الروح. و في رواية أخرى: فإن أخبركم عن الثنتين و لم يخبركم بالروح فهو نبيّ.

فانصرفا إلى مكّة فقالا: يا معاشر قريش قد جئنا بفصل ما بينكم و بين محمّد.

و قصّا عليهم القصّة.

فجاءوا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فسألوه. فقال: أخبركم بما سألتم غدا، و لم يستثن. فانصرفوا عنه. فمكث صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خمس عشرة ليلة- و قيل: عشرا، و قيل: أربعين- لا يحدث اللّه له في ذلك وحيا، و لا يأتيه جبرئيل، حتّى أرجف أهل مكّة و تكلّموا في ذلك، فكذّبوا نبوّته. فشقّ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما يتكلّم به أهل مكّة. ثمّ جاءه جبرئيل عليه السّلام عن اللّه، فقرأ على رسول

اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هذه الآية: وَ لا تَقُولَنَّ لِشَيْ ءٍ إِنِّي فاعِلٌ ذلِكَ غَداً إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ

هذا نهي تأديب من اللّه لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا نهي تحريم، لأنّه لو لم يقل ذلك لم يأثم بلا خلاف. و الاستثناء متعلّق بالنهي خاصّة، أي: و لا تقولنّ لأجل شي ء تعزم عليه إنّي فاعل غدا- أي: فيما يستقبل- إلّا بأن يشاء اللّه، أي: إلّا ملتبسا بمشيئته قائلا: إن شاء اللّه، أو إلّا وقت أن يشاء اللّه أن تقوله، بأن أذن لك فيه. و لا يجوز تعليقه ب «إنّي فاعل»، لأنّه لو قال: إنّي فاعل كذا إلّا أن يشاء اللّه، كان معناه: إلّا أن تعترض مشيئة اللّه دون فعله، و ذلك ما لا مدخل فيه للنهي.

و

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لجبرئيل حين جاءه: «لقد احتبست عنّي يا جبرئيل. فقال له جبرئيل: و ما نتنزّل إلّا بأمر ربّك. فقصّ عليه هذه السورة المشتملة على قصّة أصحاب الكهف و الرجل الطوّاف، و قرأ عليه ما في سورة بني إسرائيل من قوله:

«وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي».

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 101

وَ اذْكُرْ رَبَّكَ مشيئة ربّك و قل: إن شاء اللّه، كما

روي أنّه لمّا نزل قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إن شاء اللّه

إِذا نَسِيتَ يعني: إذا غفلت عن كلمة الاستثناء، لاشتغالك بأمر آخر من الأوامر الشرعيّة، ثمّ تنبّهت عليها فتداركها.

و عن ابن عبّاس: يجوز تأخير الاستثناء في الأيمان و النذور و غير ذلك من العقود و الإيقاعات، كالإقرار و الطلاق، و لو بعد سنة ما لم يحنث، و

لذلك جوّز تأخير الاستثناء عنه.

و عن سعيد بن جبير: و لو بعد يوم أو أسبوع. و عن طاووس: هو على ثنياه ما دام في مجلسه. و عن الحسن: نحوه. و عن عطاء: يستثني على مقدار حلب ناقة غزيرة.

و عند أصحابنا: لا أثر في الأحكام ما لم يكن موصولا، كما

قال الصادق عليه السّلام: «ما لم ينقطع الكلام»،

فإنّه لو صحّ التأخير العرفي لم يتقرّر إقرار و لا طلاق و لا عتاق، و لم يعلم صدق و لا كذب.

و يجوز أن يكون المعنى: و اذكر ربّك بالتسبيح و الاستغفار إذا نسيت كلمة الاستثناء، مبالغة في الحثّ عليه.

و قيل: و اذكر ربّك و عقابه إذا تركت بعض ما أمرك به ليبعثك على التدارك. أو اذكره إذا اعتراك النسيان، ليذكّرك المنسيّ.

وَ قُلْ عَسى أَنْ يَهْدِيَنِ رَبِّي يدلّني لِأَقْرَبَ مِنْ هذا رَشَداً أي: لعلّ اللّه يؤتيني من البيّنات و الحجج على أنّي نبيّ صادق، ما هو أعظم في الدلالة و أقرب رشدا من نبأ أصحاب الكهف. و قد هداه لأعظم من ذلك، كقصص الأنبياء المتباعدة عنه أيّامهم، و الإخبار بالغيوب و الحوادث النازلة في الأعصار المستقبلة إلى قيام الساعة.

و في الكشّاف «1»: «و الظاهر أن يكون المعنى: إذا نسيت شيئا فاذكر ربّك. و ذكر ربّك عند نسيانه أن تقول: عسى ربّي أن يهديني لشي ء آخر بدل من هذا المنسيّ، أقرب

______________________________

(1) في الصفحة التالية.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 102

منه رشدا، و أدنى خيرا و منفعة. و لعلّ النسيان كان خيرا، كقوله تعالى: أَوْ نُنْسِها نَأْتِ بِخَيْرٍ مِنْها «1» «2».

[سورة الكهف (18): الآيات 25 الى 26]

وَ لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَ ازْدَادُوا تِسْعاً (25) قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَبْصِرْ بِهِ

وَ أَسْمِعْ ما لَهُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ أَحَداً (26)

ثمّ أخبر سبحانه عن مقدار مدّة لبثهم، فقال: وَ لَبِثُوا فِي كَهْفِهِمْ ثَلاثَ مِائَةٍ سِنِينَ وَ ازْدَادُوا تِسْعاً تسع سنين. يعني: لبثهم فيه أحياء مضروبا على آذانهم هذه المدّة. و هو بيان لما أجمله في قوله: فَضَرَبْنا عَلَى آذانِهِمْ فِي الْكَهْفِ سِنِينَ عَدَداً «3». و المعنى: قل اللّه أعلم من الّذين اختلفوا منهم مدّة لبثهم، و الحقّ ما أخبرك به.

و عن قتادة: أنّه حكاية أهل الكتاب، فإنّهم اختلفوا في مدّة لبثهم، كما اختلفوا في عدّتهم، فقال بعضهم: ثلاثمائة، و قال بعضهم: ثلاثمائة و تسع سنين.

و قرأ حمزة و الكسائي: ثلاثمائة سنين بالإضافة، على وضع الجمع موضع الواحد في التمييز، و الأصل ثلاثمائة سنة. و من لم يضف أبدل السنين من ثلاثمائة. و قوله: قُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما لَبِثُوا ردّ عليهم. و المعنى: اللّه أعلم بلبثهم.

ثمّ ذكر اختصاصه بما غاب عن الناس، فقال: لَهُ غَيْبُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يعني: له ما غاب فيهما، و خفي من أحوال أهلهما، و غيرها، فلا خلق يخفى عليه

______________________________

(1) البقرة: 106.

(2) الكهف: 11.

(3) البقرة: 106.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 103

علما. و يؤكّد ذلك قوله: أَبْصِرْ بِهِ وَ أَسْمِعْ فإنّه ذكر بصيغة التعجّب، للدلالة على أنّ أمره في الإدراك خارج عمّا عليه إدراك السامعين و المبصرين، لأنّه يدرك ألطف الأشياء و أصغرها، كما يدرك أكبرها حجما و أكثفها جرما، و يدرك البواطن كما يدرك الظواهر، فلا يحجبه شي ء، و لا يتفاوت دونه لطيف و كثيف، و صغير و كبير، و خفيّ و جليّ.

و الهاء تعود إلى اللّه، و محلّه الرفع على الفاعليّة. و الباء مزيدة عند سيبويه. و

كان أصله: أبصر، أي: صار ذا بصر، ثمّ نقل إلى صيغة الأمر بمعنى الإنشاء، فبرز الضمير، لعدم بيان الصيغة له، أو لزيادة الباء، كما في قوله تعالى: وَ كَفى بِهِ «1». و النصب على المفعوليّة عند الأخفش، و الفاعل ضمير المأمور، و هو كلّ أحد. و الباء مزيدة إن كانت الهمزة للتعدية، و معدّية إن كانت للصيرورة. و المعنى: ما أبصر اللّه لكلّ مبصر! و ما أسمعه لكلّ مسموع! فلا يخفى عليه شي ء.

ما لَهُمْ الضمير لأهل السماوات و الأرض مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍ من يتولّى أمورهم وَ لا يُشْرِكُ فِي حُكْمِهِ في قضائه أَحَداً منهم، و لا يجعل له فيه مدخلا.

و قرأ ابن عامر و قالون عن يعقوب بالتاء و الجزم، على نهي كلّ أحد عن الإشراك.

[سورة الكهف (18): آية 27]

وَ اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ وَ لَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (27)

و بعد ذكر أصحاب الكهف و بيان قصّتهم قال: وَ اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنْ كِتابِ رَبِّكَ من القرآن، و لا تسمع لقولهم: ائْتِ بِقُرْآنٍ غَيْرِ هذا أَوْ بَدِّلْهُ «2» لا مُبَدِّلَ لِكَلِماتِهِ لا أحد يقدر على تبديلها و تغييرها غيره وَ لَنْ تَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً ملتجأ تعدل إليه إن هممت به.

______________________________

(1) النساء: 50.

(2) يونس: 15

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 104

[سورة الكهف (18): الآيات 28 الى 29]

وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِّ يُرِيدُونَ وَجْهَهُ وَ لا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ عَنْ ذِكْرِنا وَ اتَّبَعَ هَواهُ وَ كانَ أَمْرُهُ فُرُطاً (28) وَ قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ إِنَّا أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ يَشْوِي الْوُجُوهَ بِئْسَ الشَّرابُ وَ ساءَتْ مُرْتَفَقاً (29)

روي أنّ قوما من رؤساء الكفرة قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: نحّ هؤلاء الموالي الّذين كأنّ ريحهم ريح الضأن- و هم صهيب و عمّار و خبّاب، و غيرهم من فقراء المسلمين- حتّى نجالسك، كما قال نوح: أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ «1» فنزلت: وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ

و احبسها و ثبّتها مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ بِالْغَداةِ وَ الْعَشِيِ في مجامع أوقاتهم، أو في طرفي النهار. و قرأ ابن عامر: بالغدوة. و فيه: أنّ غدوة علم في أكثر الاستعمال، فتكون اللام فيه على تأويل التنكير. يُرِيدُونَ وَجْهَهُ رضا اللّه و طاعته.

وَ لا تَعْدُ عَيْناكَ عَنْهُمْ و لا يجاوزهم نظرك إلى غيرهم. و تعديته ب

«عن» لتضمينه معنى: نبا و علا، في قولك: نبت عنه عينه و علت عنه عينه، إذا اقتحمته و لم تعلق به. و فائدة التضمين إعطاء مجموع معنيين، و ذلك أقوى من إعطاء معنى فذّ. تُرِيدُ زِينَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا حال من الكاف.

______________________________

(1) الشعراء: 111.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 105

وَ لا تُطِعْ مَنْ أَغْفَلْنا قَلْبَهُ من جعلنا قلبه غافلا عَنْ ذِكْرِنا بالخذلان. أو نسبنا قلبه إلى الغفلة، كما يقال: أكفره إذا نسبه إلى الكفر. أو من: أغفل إبله إذا تركها بغير سمة، أي: لم نسمهم بالذكر، و لم نجعلهم من الّذين كتبنا في قلوبهم الايمان. و قد أبطل اللّه تعالى توهّم المجبّرة بقوله: وَ اتَّبَعَ هَواهُ وَ كانَ أَمْرُهُ فُرُطاً أي: تقدّما على الحقّ، و نبذا له وراء ظهره. يقال: فرس فرط، أي: متقدّم للخيل. و منه الفرط.

و فيه تنبيه على أنّ الداعي إلى هذا الاستدعاء غفلة قلبه عن المعقولات، و انهماكه في المحسوسات، حتّى خفي عليه أنّ الشرف بحلية النفس لا بزينة الجسد، و أنّه لو أطاعه كان مثله في الغباوة.

وَ قُلِ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكُمْ أي: الحقّ ما يكون من جهة اللّه، لا ما يقتضيه الهوى.

و يجوز أن يكون «الحقّ» خبر مبتدأ محذوف، و «من ربّكم» حالا، أي: هذا الّذي أوحي إليّ هو الحقّ حال كونه صادرا من ربّكم. يعني: جاء الحقّ و زاحت العلل، فلم يبق إلّا اختياركم لأنفسكم ما شئتم.

فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ يعني: من شاء أخذ في طريق النجاة، و من شاء أخذ في طريق الهلاك. و جي ء بلفظ الأمر و التخيير لأنّه لمّا مكّن من اختيار أيّهما شاء، فكأنّه مخيّر مأمور بأن يتخيّر ما شاء من النجدين.

إِنَّا أَعْتَدْنا هيّأنا لِلظَّالِمِينَ

ناراً أَحاطَ بِهِمْ سُرادِقُها فسطاطها. شبّه به ما يحيط بهم من النار. و قيل: السرادق الحجرة الّتي تكون حول الفسطاط. و قيل: سرادقها دخانها، يحيط بالكفّار قبل دخولهم النار. و قيل: حائط من نار يطيف «1» بهم.

وَ إِنْ يَسْتَغِيثُوا من العطش يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ هو كلّ شي ء أذيب، كالصفر المذاب، أو النحاس المذاب، أو غيرهما من جواهر الأرض. و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

______________________________

(1) طاف يطوف حول الشي ء: دار حوله. و أطاف يطيف بالشي ء: ألمّ و أحاط به. زبدة التفاسير، ج 4، ص: 106

كعكر «1» الزيت، إذا قرّب إليه سقطت فروة وجهه.

و قيل: هو القيح و الدم. و عن الضحّاك:

أنّه ماء أسود، فإنّ جهنّم أسود ماؤها، أسود شجرها، أسود أهلها. و قيل: هو كدرديّ «2» الزيت. و فيه تهكّم على طريقة قوله: فاعتبوا بالصيلم «3» يَشْوِي الْوُجُوهَ إذا قدّم ليشرب انشوى الوجه من فرط حرارته. و هو صفة ثانية لماء، أو حال من المهل، أو الضمير في الكاف. بِئْسَ الشَّرابُ المهل وَ ساءَتْ النار مُرْتَفَقاً متّكأ. و أصل الارتفاق نصب المرفق تحت الخدّ. و هو لمقابلة قوله: و حسنت مرتفقا، و إلّا فلا ارتفاق لأهل النار و لا اتّكاء.

[سورة الكهف (18): الآيات 30 الى 31]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلاً (30) أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ يَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً مِنْ سُنْدُسٍ وَ إِسْتَبْرَقٍ مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ نِعْمَ الثَّوابُ وَ حَسُنَتْ مُرْتَفَقاً (31)

و لمّا تقدّم ذكر الوعيد عقّبه سبحانه بذكر الوعد، فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ إِنَّا لا نُضِيعُ أَجْرَ مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا أي: لا نترك أعمالهم تذهب ضياعا،

بل نجازيهم و نوفّيهم أجورهم من غير بخس.

______________________________

(1) العكر من كلّ شي ء: خاثره، أي: الغليظ و الثخين منه.

(2) الدرديّ من الزيت و نحوه: الكدر الراسب في أسفله.

(3) لبشر بن أبي حازم، و تمامه: غضبت تميم أن نقتّل عامرايوم النسار فاعتبوا بالصيلم

أي: أزلنا عتابهم بالصيلم. و هو السيف الكثير القطع.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 107

و اعلم أنّ خبر «إنّ» الأولى «إنّ» الثانية بما في حيّزها. و الراجع محذوف، تقديره:

من أحسن عملا منهم. أو مستغنى عنه بعموم «مَنْ أَحْسَنَ عَمَلًا» كما هو مستغنى عنه في قولك: نعم الرجل زيد. أو واقع موقعه الظاهر، فإنّ من أحسن عملا لا يحسن إطلاقه على الحقيقة إلّا على الّذين آمنوا و عملوا الصالحات. أو خبرها أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ أي:

إقامة لهم، لأنّهم يبقون فيها ببقاء اللّه دائما أبدا. و على الوجه الأخير اعتراض «1». و على الأوّل استئناف لبيان الأجر المبهم، أو خبر ثان.

و عن ابن مسعود: عدن بطنان الجنّة، أي: وسطها، و هي جنّة من الجنّات. و على هذا، فإنّما جمع لسعتها، و لأنّ كلّ ناحية منها تصلح أن تكون جنّة.

تَجْرِي مِنْ تَحْتِهِمُ الْأَنْهارُ لأنّهم على غرف في الجنّة، كما قال: وَ هُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ «2». و قيل: إنّ أنهار الجنّة تجري في أخاديد من الأرض، فلذلك قال:

تجري من تحتهم الأنهار.

يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ «من» الأولى للابتداء، و الثانية للبيان، صفة ل «أساور». و تنكيره لتعظيم حسنها من الإحاطة به. و هو جمع أسورة في جمع سوار.

عن سعيد بن جبير: أنّه يحلّى كلّ واحد بثلاثة أساور: سوار من فضّة، و سوار من ذهب، و سوار من لؤلؤ و ياقوت.

وَ يَلْبَسُونَ ثِياباً خُضْراً لأنّ الخضرة أحسن الألوان و

أكثرها طراوة مِنْ سُنْدُسٍ ممّا رقّ من الديباج وَ إِسْتَبْرَقٍ و ما غلظ منه. جمع بين النوعين للدلالة على أنّ فيها ما تشتهي الأنفس و تلذّ الأعين.

مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ على السرر، كما هو هيئة المتنعّمين المستريحين

______________________________

(1) أي: إن جعلنا قوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ ... خبرا ل «إنّ» الأولى، يكون قوله: إِنَّا لا نُضِيعُ ... اعتراضا بين «إنّ» و خبرها. و على الوجه الأوّل- و هو جعل إِنَّا لا نُضِيعُ ... خبرا ل «إنّ» الأولى- يكون قوله تعالى: أُولئِكَ لَهُمْ جَنَّاتُ ... استئنافا أو خبرا ثانيا ل «إنّ».

(2) سبأ: 37.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 108

حال الأمن و السلامة نِعْمَ الثَّوابُ الجنّة و نعيمها وَ حَسُنَتْ أي: الأرائك مُرْتَفَقاً متّكأ.

[سورة الكهف (18): الآيات 32 الى 44]

وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً رَجُلَيْنِ جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ وَ حَفَفْناهُما بِنَخْلٍ وَ جَعَلْنا بَيْنَهُما زَرْعاً (32) كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها وَ لَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ شَيْئاً وَ فَجَّرْنا خِلالَهُما نَهَراً (33) وَ كانَ لَهُ ثَمَرٌ فَقالَ لِصاحِبِهِ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالاً وَ أَعَزُّ نَفَراً (34) وَ دَخَلَ جَنَّتَهُ وَ هُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ هذِهِ أَبَداً (35) وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً (36)

قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلاً (37) لكِنَّا هُوَ اللَّهُ رَبِّي وَ لا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً (38) وَ لَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلاَّ بِاللَّهِ إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالاً وَ وَلَداً (39) فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ وَ يُرْسِلَ عَلَيْها حُسْباناً مِنَ السَّماءِ فَتُصْبِحَ صَعِيداً

زَلَقاً (40) أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً (41)

وَ أُحِيطَ بِثَمَرِهِ فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ عَلى ما أَنْفَقَ فِيها وَ هِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَ يَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً (42) وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ ما كانَ مُنْتَصِراً (43) هُنالِكَ الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِّ هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَ خَيْرٌ عُقْباً (44)

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 109

ثمّ ضرب اللّه لعباده مثلا ليرغّبهم به إلى طاعته، و يزجرهم عن معصيته و كفران نعمته، فقال: وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلًا للكافر و المؤمن رَجُلَيْنِ حال رجلين مقدّرين أو موجودين.

قيل: هما أخوان من بني إسرائيل، كافر اسمه قطروس، و الآخر مؤمن اسمه يهوذا.

قيل: هما المذكوران في سورة الصّافّات في قوله: قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ «1». ورثا من أبيهما ثمانية آلاف دينار، فتشاطرا، فاشترى الكافر أرضا بألف.

فقال المؤمن: اللّهمّ إنّ أخي اشترى أرضا بألف دينار، و أنا أشتري منك أرضا في الجنّة بألف، فتصدّق به.

ثمّ بنى أخوه دارا بألف.

فقال: اللّهمّ إنّي أشتري منك دارا في الجنّة بألف، فتصدّق به.

ثمّ تزوّج أخوه امرأة بألف.

فقال: اللّهمّ إنّي جعلت ألفا صداقا للحور.

ثمّ اشترى أخوه خدما و متاعا بألف.

فقال: اللّهمّ إنّي اشتريت منك الولدان المخلّدين بألف، فتصدّق به.

ثمّ أصابته حاجة، فجلس لأخيه على طريقه، فمرّ به في حشمه فتعرّض له،

______________________________

(1) الصافّات: 51.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 110

فطرده و وبّخه على التصدّق بماله.

و قيل: هما أخوان من بني مخزوم، كافر و هو الأسود بن عبد الأشد، و مؤمن و هو أبو سلمة عبد اللّه زوج أمّ سلمة قبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ بستانين مِنْ أَعْنابٍ من كروم. و الجملة بتمامها

بيان للتمثيل، أو صفة ل «رجلين». وَ حَفَفْناهُما بِنَخْلٍ و جعلنا النخل محيطة بهما، مؤزّرا «1» بها كرومهما وسطها. يقال: حفّه القوم إذا أطافوا به، و حففته بهم إذا جعلتهم حافّين حوله. فتزيده الباء مفعولا ثانيا، كقولك: غشيه و غشيته به. وَ جَعَلْنا بَيْنَهُما وسطهما زَرْعاً ليكون كلّ منهما جامعا للأقوات و الفواكه، متواصل العمارة على الشكل الحسن و الترتيب الأنيق.

كِلْتَا الْجَنَّتَيْنِ آتَتْ أُكُلَها ثمرها. و إفراد الضمير لإفراد «كلتا»، فإنّه مفرد اللفظ مثنّى المعنى. و لو قيل: آتتا على المعنى لجاز. وَ لَمْ تَظْلِمْ مِنْهُ و لم تنقص من أكلها شَيْئاً يعهد في سائر البساتين، فإنّ الثمار تتمّ في عام و تنقص في عام غالبا وَ فَجَّرْنا خِلالَهُما و شققنا وسط الجنّتين نَهَراً نسقيهما، حتّى يكون الماء قريبا منهما، يصل إليهما من غير كدّ و تعب، و يكون ثمرهما و زرعهما بدوام الماء فيهما أوفى و أروى. و قرأ يعقوب: و فجرنا بالتخفيف.

وَ كانَ لَهُ ثَمَرٌ أنواع من المال سوى الجنّتين، من ثمر ماله إذا كثر. و عن مجاهد: الذهب و الفضّة و غيرهما. فكان وافر اليسار من كلّ وجه، متمكّنا من عمارة الأرض كيف شاء. فَقالَ لِصاحِبِهِ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ يراجعه في الكلام، من: حار يحور إذا رجع أَنَا أَكْثَرُ مِنْكَ مالًا وَ أَعَزُّ نَفَراً حشما و أعوانا. و قيل: أولادا ذكورا، لأنّهم

______________________________

(1) في هامش النسخة الخطّية: «التوزير: الإحكام، من قولهم: تأزّر النبت، أي: التفّ و اشتدّ.

منه غفر اللّه له».

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 111

الّذين ينفرون «1» معه دون الإناث.

وَ دَخَلَ جَنَّتَهُ أخذا بيد أخيه المسلم يطوف به فيها، و يفاخره بها. و إفراد الجنّة لأنّ المراد ما هو جنّته، و هو ما

متّع به من الدنيا، تنبيها على أنّه لا جنّة له غيرها، و لا حظّ له في الجنّة الّتي وعد المتّقون. أو لاتّصال كلّ واحدة من جنّتيه بالأخرى. أو لأنّ الدخول يكون في واحدة واحدة.

وَ هُوَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ ضارّ لها بعجبه و افتخاره، و كفره و كفرانه، معرّض بذلك نفسه لسخط اللّه، و هو أفحش الظلم.

قالَ ما أَظُنُّ أَنْ تَبِيدَ أن تفنى هذِهِ الجنّة أَبَداً لطول أمله، و تمادي غفلته، و اغتراره بمهلته، و اطّراحه النظر في عواقب أمثاله. و نرى أكثر الأغنياء من المسلمين كذلك، و إن لم يطلقوا بنحو هذا ألسنتهم، فإنّ ألسنة أحوالهم ناطقة به، منادية عليه.

وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً كائنة وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي أقسم على أنّي إن بعثت و رجعت إلى جزاء ربّي على سبيل الفرض و التقدير، أو كما زعمت لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها من جنّته. و قرأ الحجازيّان و الشامي: منهما، أي: من الجنّتين. مُنْقَلَباً مرجعا و عاقبة، لأنّها فانية، و تلك باقية. و نصبه على التمييز. و إنّما أقسم على ذلك لاعتقاده أنّه تعالى إنّما أولاه ما أولاه لاستئهاله و استحقاقه إيّاه لذاته، و هو معه أينما توجّه، كقوله:

إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى «2». لَأُوتَيَنَّ مالًا وَ وَلَداً «3». و قيل: معناه: لاكتسبنّ في الآخرة خيرا من هذه الّتي اكتسبها في الدنيا.

قالَ لَهُ صاحِبُهُ وَ هُوَ يُحاوِرُهُ أَ كَفَرْتَ بِالَّذِي خَلَقَكَ مِنْ تُرابٍ لأنّه أصل مادّتك،

______________________________

(1) أي: يخرجون معه للحرب.

(2) فصّلت: 50.

(3) مريم: 77.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 112

أو مادّة أصلك ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ فإنّها مادّتك القريبة ثُمَّ سَوَّاكَ رَجُلًا ثمّ عدّلك و كمّلك إنسانا ذكرا بالغا مبلغ الرجال. جعل كفره بالبعث كفرا باللّه، لأنّ منشأه الشكّ في كمال

قدرة اللّه، و لذلك رتّب الإنكار على خلقه إيّاه من التراب، فإنّ من قدر على بدء خلقه منه قدر أن يعيده منه. و في الآية دلالة على أنّ الشكّ في البعث و النشور كفر.

لكِنَّا أصله: لكن أنّا، فحذفت الهمزة، و ألقيت حركتها على نون «لكن»، فتلاقت النونان، فحرّكت النون الأولى و أدغمت. و قرأ ابن عامر و يعقوب في رواية بالألف في الوصل، لتعويضها من الهمزة، أو لإجراء الوصل مجرى الوقف. هُوَ اللَّهُ رَبِّي هو ضمير الشأن، و هو بالجملة الواقعة خبرا له خبر «أنا». أو ضمير اللّه، و «اللّه» بدله، و «ربّي» خبره، و الجملة خبر «أنا». وَ لا أُشْرِكُ بِرَبِّي أَحَداً لا أشرك بعبادتي إيّاه أحدا، بل أوجّهها إليه وحده خالصا. و الاستدراك من «أكفرت» كأنّه قال: أنت كافر باللّه، لكنّي مؤمن به و بوحدانيّته.

وَ لَوْ لا إِذْ دَخَلْتَ جَنَّتَكَ قُلْتَ و هلّا قلت عند دخولها و النظر إلى ما رزقك اللّه منها ما شاءَ اللَّهُ أي: الأمر ما شاء اللّه. أو ما شاء اللّه كائن، على أنّ «ما» موصولة. أو أيّ شي ء شاء اللّه كان، على أنّها شرطيّة، و الجواب محذوف، إقرارا بأنّها و ما فيها بمشيئة اللّه، إن شاء أبقاها عامرة، و إن شاء أبادها و خرّبها. لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ و هلّا قلت: لا قوّة إلّا باللّه، اعترافا بالعجز على نفسك و القدرة للّه، و أن ما تيسّر لك من عمارتها و تدبير أمرها فبمعونته و إقداره، إذ لا يقوى أحد في بدنه و لا في ملك يده إلّا باللّه.

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من رأى شيئا فأعجبه فقال: ما شاء اللّه و لا قوّة إلا

باللّه، لم يضرّه».

و

روى هشام بن سالم و أبان بن عثمان عن الصادق عليه السّلام قال: «عجبت لمن خاف الفقر كيف لا يفزع إلى قوله سبحانه: حَسْبُنَا اللَّهُ وَ نِعْمَ الْوَكِيلُ «1» قال: سمعت اللّه عزّ و جلّ

______________________________

(1) آل عمران: 173. زبدة التفاسير، ج 4، ص: 113

يقول بعقبها: فَانْقَلَبُوا بِنِعْمَةٍ مِنَ اللَّهِ وَ فَضْلٍ لَمْ يَمْسَسْهُمْ سُوءٌ «1».

و عجبت لمن اغتمّ كيف لا يفزع إلى قوله: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ «2». فإنّي سمعت اللّه سبحانه يقول معها: فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَ كَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ « «3»».

و عجبت لمن مكر به كيف لا يفزع إلى قوله: وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ «4» فإنّي سمعت اللّه سبحانه يعقّبها: فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا « «5»».

و عجبت لمن أراد الدنيا و زينتها كيف لا يفزع إلى قوله: ما شاءَ اللَّهُ لا قُوَّةَ إِلَّا بِاللَّهِ فإنّي سمعت اللّه تعالى يعقّبها: فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ

و «عسى» موجبة».

إِنْ تَرَنِ أَنَا أَقَلَّ مِنْكَ مالًا وَ وَلَداً يحتمل أن يكون «أنا» فصلا، و أن يكون تأكيدا للمفعول الأوّل. و قرئ: أقلّ بالرفع، على أنّه خبر «أنا»، و الجملة مفعول ثان ل «ترن».

و في قوله: «و ولدا» دليل لمن فسّر النفر بالأولاد.

و جواب الشرط قوله: فَعَسى رَبِّي أَنْ يُؤْتِيَنِ خَيْراً مِنْ جَنَّتِكَ في الدنيا أو في الآخرة، لإيماني. و المعنى: إن ترني أفقر منك، فأنا أتوقّع من صنع اللّه أن يقلّب ما بي و ما بك من الفقر و الغنى، فيرزقني لإيماني جنّة خيرا من جنّتك.

وَ يُرْسِلَ عَلَيْها على جنّتك، لكفرك و كفرانك حُسْباناً مِنَ السَّماءِ مرامي «6»، جمع

حسبانة، و هي الصواعق. و قيل: هو مصدر، كالغفران و البطلان، بمعنى الحساب. و المعنى: مقدارا قدّره اللّه و حسبه، و هو الحكم بتخريبها. و قال الزّجاج: عذاب حسبان أي: حساب ما كسبت يداك من الأعمال السيّئة. فَتُصْبِحَ صَعِيداً زَلَقاً أرضا

______________________________

(1) آل عمران: 174.

(2، 3) الأنبياء: 87- 88.

(4، 5) غافر: 44- 45.

(6) أصل الحسبان: السهام التي ترمى لتجري في طلق واحد.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 114

ملساء يزلق عليها القدم، لملاستها باستئصال نباتها و أشجارها.

أَوْ يُصْبِحَ ماؤُها غَوْراً غائرا «1» في الأرض، لا يبقى أثره. مصدر وصف به، كالزلق. فَلَنْ تَسْتَطِيعَ لَهُ طَلَباً للماء الغائر، تردّدا في ردّه.

وَ أُحِيطَ بِثَمَرِهِ و أهلك أمواله حسبما توقّعه صاحبه. و هو مأخوذ من: أحاط به العدوّ، فإنّه إذا أحاط به استولى عليه و غلبه، و إذا غلبه أهلكه. و منه: إِلَّا أَنْ يُحاطَ بِكُمْ «2». و نظيره: أتى عليه إذا أهلكه، من: أتى عليهم العدوّ إذا جاءهم مستعليا عليهم.

فَأَصْبَحَ يُقَلِّبُ كَفَّيْهِ ظهرا لبطن، كما هو فعل النادم، تلهّفا و تحسّرا عَلى ما أَنْفَقَ فِيها في عمارتها. و هو متعلّق ب «يقلّب»، لأنّ تقليب الكفّين لمّا كان في معنى الندم، عدّي تعديته ب «على»، فإنّ النادم يقلّب كفّيه ظهرا لبطن، كما كنّي عن ذلك بعضّ الكفّ و السقوط في اليد. فكأنّه قيل: فأصبح يندم. أو حال، أي: متحسّرا على ما أنفق فيها.

وَ هِيَ خاوِيَةٌ ساقطة عَلى عُرُوشِها بأن سقطت عروشها على الأرض، و سقطت الكروم فوقها. قيل: أرسل اللّه عليها نارا فأكلتها.

وَ يَقُولُ عطف على «يقلّب»، أو حال من ضميره يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ بِرَبِّي أَحَداً كأنّه تذكّر موعظة أخيه، و علم أنّه أتى من قبل شركه و طغيانه، فتمنّى لو

لم يكن مشركا فلم يهلك اللّه بستانه. و يجوز أن يكون توبة من الشرك، و ندما على ما سبق منه.

وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ و قرأ حمزة و الكسائي بالياء، لتقدّمه يَنْصُرُونَهُ يقدرون على نصره، بدفع الإهلاك، أو ردّ المهلك، أو الإتيان بمثله مِنْ دُونِ اللَّهِ فإنّه القادر على ذلك وحده وَ ما كانَ مُنْتَصِراً و ما كان ممتنعا بقوّته عن انتقام اللّه منه.

هُنالِكَ في ذلك المقام و تلك الحال الْوَلايَةُ لِلَّهِ الْحَقِ النصرة للّه وحده، لا

______________________________

(1) غار الماء: ذهب في الأرض، فهو غائر.

(2) يوسف: 66.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 115

يقدر عليها غيره. و هذا تقرير لقوله: «وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ فِئَةٌ يَنْصُرُونَهُ». أو ينصر فيها أولياءه المؤمنين على الكفرة، كما نصر فيما فعل بالكافر أخاه المؤمن. و يعضده قوله: هُوَ خَيْرٌ ثَواباً وَ خَيْرٌ عُقْباً أي: لأوليائه.

و قرأ حمزة و الكسائي «الولاية» بالكسر، و معناها السلطان و الملك، أي: هنالك السلطان له لا يغلب و لا يمنع منه، أو في مثل تلك الحال الشديد يتولّى اللّه و يؤمن به كلّ مضطرّ، كقوله: فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ «1». فيكون تنبيها على أنّ قوله: «يا لَيْتَنِي لَمْ أُشْرِكْ» كان عن اضطرار و جزع ممّا دهاه من شؤم كفره. و قيل:

«هنا لك» إشارة إلى الآخرة، كقوله: لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ «2».

و قرأ حمزة و الكسائي «الحقّ» بالرفع، صفة للولاية. و قرأ حمزة و عاصم «عقبا» بالسكون.

[سورة الكهف (18): الآيات 45 الى 46]

وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا كَماءٍ أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فَأَصْبَحَ هَشِيماً تَذْرُوهُ الرِّياحُ وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقْتَدِراً (45) الْمالُ وَ الْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ

ثَواباً وَ خَيْرٌ أَمَلاً (46)

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يضرب المثل للدنيا، تزهيدا فيها و ترغيبا في الآخرة، فقال: وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلَ الْحَياةِ الدُّنْيا و اذكر لهم ما يشبه الحياة الدنيا في زهرتها و سرعة زوالها، أو صفتها الغريبة كَماءٍ هي كماء. و يجوز أن يكون مفعولا ثانيا

______________________________

(1) العنكبوت: 65.

(2) غافر: 16.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 116

ل «اضرب»، على أنّه بمعنى: صيّر.

أَنْزَلْناهُ مِنَ السَّماءِ فَاخْتَلَطَ بِهِ نَباتُ الْأَرْضِ فالتفّ و تكاثف بسببه، و خالط بعضه بعضا من كثرته و تكاثفه. أو نفذ في النبات الماء، فاختلط به حتّى روى و رفّ «1» رفيفا. و على هذا، كان حقّه: فاختلط بنبات الأرض، لكن لمّا كان كلّ من المختلطين موصوفا بصفة صاحبه عكس، للمبالغة في كثرته.

فَأَصْبَحَ هَشِيماً مهشوما متفتّتا تَذْرُوهُ الرِّياحُ تفرّقه. و المشبّه به ليس الماء و لا حاله، بل الكيفيّة المنتزعة من الجملة، و هي حال النبات المنبت بالماء، يكون أخضر وارفا، ثمّ هشيما تطيّره الرياح، فيصير كأن لم يكن. فشبّه الدنيا بهذا النبات في سرعة الفساد و الهلاك. وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ من الإنشاء و الإفناء مُقْتَدِراً قادرا.

الْمالُ وَ الْبَنُونَ زِينَةُ الْحَياةِ الدُّنْيا يتزيّن بها الإنسان في دنياه، و تفنى عنه عمّا قريب وَ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ و أعمال الخير الّتي تبقى له ثمرتها أبد الآباد، و تفنى عنه كلّ ما تطمح إليه نفسه من حظوظ الدنيا خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ من المال و البنين ثَواباً عائدة وَ خَيْرٌ أَمَلًا لأنّ صاحبها ينال بها في الآخرة ما كان يأمل بها في الدنيا.

روي عن عطاء و عكرمة و مجاهد عن ابن عبّاس: أنّ الباقيات الصالحات هي ما كان

يأتي به سلمان و صهيب و فقراء المسلمين، و هو: سبحان اللّه، و الحمد للّه، و لا إله إلّا اللّه، و اللّه أكبر.

و

روى أنس بن مالك عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال لجلسائه: «خذوا جنّتكم. قالوا:

أحضر عدوّ؟ قال: خذوا جنّتكم من النار، قولوا: سبحان اللّه، و الحمد للّه، و لا إله إلّا اللّه، و اللّه أكبر. فإنّهن المقدّمات، و هنّ المجيبات، و هنّ المعقّبات، و هنّ الباقيات

______________________________

(1) رفّ لونه رفيفا: برق و تلألأ. زبدة التفاسير، ج 4، ص: 117

الصالحات» و رواه أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، عن آبائه، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «إن عجزتم عن الليل أن تكابدوه، و عن العدوّ أن تجاهدوه، فلا تعجزوا عن قول: سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر، فإنّهنّ من الباقيات الصالحات، فقولوها».

و

عن ابن مسعود و سعيد بن جبير و مسروق: هي الصلوات الخمس. و روي ذلك عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و

روي عنه أيضا: «أنّ الباقيات الصالحات القيام بالليل».

و قيل: إنّ الباقيات الصالحات هنّ البنات الصالحات. و قيل: صيام رمضان.

و قيل: أعمال الحجّ. و روي: الكلام الطيّب. و الأولى حملها على الطاعات، فيدخل فيها جميع الطاعات و الخيرات.

و

في كتاب ابن عقدة أنّ أبا عبد اللّه عليه السّلام قال للحصين بن عبد الرحمن: «يا حصين لا تستصغر مودّتنا، فإنّها من الباقيات الصالحات. قال: يا ابن رسول اللّه ما أستصغرها، و لكن أحمد اللّه عز و جلّ عليها».

[سورة الكهف (18): الآيات 47 الى 49]

وَ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ وَ تَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً وَ حَشَرْناهُمْ فَلَمْ نُغادِرْ مِنْهُمْ

أَحَداً (47) وَ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ صَفًّا لَقَدْ جِئْتُمُونا كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً (48) وَ وُضِعَ الْكِتابُ فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ وَ يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ما لِهذَا الْكِتابِ لا يُغادِرُ صَغِيرَةً وَ لا كَبِيرَةً إِلاَّ أَحْصاها وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً وَ لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً (49)

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 118

وَ يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ و اذكر يوم نقلعها و نسيّرها في الجوّ، أو نذهب بها فنجعلها هباء منبثّا. و يجوز عطفه على «عند ربّك» أي: الباقيات الصالحات خير عند اللّه و يوم القيامة. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و ابن عامر: تسيّر، بالتاء و البناء للمفعول.

قيل: يسيّرها على وجه الأرض كما يسيّر السحاب في السماء، ثمّ يجعلها كثيبا مهيلا، كما قال: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ «1» الآية. ثمّ يصيّرها كالعهن المنفوش، كما قال: وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ «2». ثمّ يصيّرها هباء منبثّا في الهواء، كما قال: وَ بُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا «3». ثمّ يصيّرها بمنزلة التراب، كما قال:

وَ سُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً «4».

وَ تَرَى الْأَرْضَ بارِزَةً بادية برزت من تحت الجبال، ليس عليها ما يسترها من الجبال و النبات و الشجر. و قيل: معناه قد برز من كان في بطنها، فصاروا على ظهرها.

و تقديره: و ترى ما في باطن الأرض بارزا. فهو مثل

قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ترمي الأرض بأفلاذ كبدها».

وَ حَشَرْناهُمْ و جمعناهم إلى الموقف. و مجيئه ماضيا بعد «نسيّر» و «ترى» لتحقّق الحشر، أو للدلالة على أنّ حشرهم قبل التسيير ليعاينوا و يشاهدوا ما وعد لهم.

و على هذا، تكون الواو للحال بإضمار «قد». فَلَمْ نُغادِرْ

فلم نترك مِنْهُمْ أَحَداً يقال: غادره و أغدره إذا تركه. و منه: الغدر لترك الوفاء، و الغدير لما غادره السيل.

وَ عُرِضُوا عَلى رَبِّكَ شبّه حالهم بحال الجند المعروضين على السلطان لا ليعرفهم بل ليأمر فيهم صَفًّا مصطفّين ظاهرين، لا يحجب أحد أحدا.

______________________________

(1) المزّمّل: 14.

(2) القارعة: 5.

(3) الواقعة: 5- 6.

(4) النبأ: 20.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 119

و قيل: يعرضون صفّا بعد صفّ. لَقَدْ جِئْتُمُونا على إضمار القول، أي: قلنا لهم:

لقد جئتمونا. و هذا المضمر يجوز أن يكون عاملا في «يَوْمَ نُسَيِّرُ الْجِبالَ». كَما خَلَقْناكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ عراة لا شي ء معكم من المال و الولد، كقوله: وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى «1».

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «يحشر الناس من قبورهم يوم القيامة عراة حفاة غرلا «2». فقالت عائشة: يا رسول اللّه أما يستحيي بعضهم من بعض؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ».

أو أحياء كخلقتكم الأولى.

بَلْ زَعَمْتُمْ أَلَّنْ نَجْعَلَ لَكُمْ مَوْعِداً وقتا لإنجاز الوعد بالبعث و النشور، و أنّ الأنبياء كذّبوكم به. و «بل» للخروج من قصّة إلى قصّة اخرى.

وَ وُضِعَ الْكِتابُ صحائف أعمال بني آدم في الأيمان و الشمائل، أو في الميزان. و قيل: هو كناية عن وضع الحساب. فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ خائفين مِمَّا فِيهِ من الذنوب وَ يَقُولُونَ يا وَيْلَتَنا ينادون هلكتهم الّتي هلكوها من بين الهلكات ما لِهذَا الْكِتابِ تعجّبا من شأنه لا يُغادِرُ صَغِيرَةً لا يترك هنة صغيرة وَ لا كَبِيرَةً إِلَّا أَحْصاها إلّا عدّدها و أحاط بها، أي: أحصاها كلّها. و قد مرّ «3» تفسير الصغيرة و الكبيرة في سورة النساء. وَ وَجَدُوا ما عَمِلُوا حاضِراً مكتوبا في الصحف وَ

لا يَظْلِمُ رَبُّكَ أَحَداً فيكتب عليه ما لم يفعل، أو يزيد في عقابه الملائم لعمله.

و فيه دلالة على أنّه سبحانه لا يعاقب الأطفال، لأنّه إذا كان لا يزيد في عقوبة المذنب فكيف يعاقب من ليس بمذنب؟!

______________________________

(1) الأنعام: 94.

(2) غرل الصبيّ: لم يختن، فهو أغرل، و جمعه: غرل.

(3) راجع ج 2 ص 148.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 120

[سورة الكهف (18): الآيات 50 الى 51]

وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ أَ فَتَتَّخِذُونَهُ وَ ذُرِّيَّتَهُ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي وَ هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلاً (50) ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً (51)

ثمّ أمر سبحانه نبيّه أن يذكّر هؤلاء المتكبّرين عن مجالسة الفقراء قصّة إبليس و ما أورثه الكبر، فقال: وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ قيل: لمّا بيّن حال المغرور بالدنيا و المعرض عنها، و كان سبب الاغترار بها حبّ الشهوات و تسويل الشيطان، زهّدهم أوّلا في زخارف الدنيا بأنّها عرضة الزوال، و الأعمال الصالحة خير و أبقى، ثمّ نفّرهم عن الشيطان بتذكير ما بينهم من العداوة القديمة. و كرّره سبحانه في مواضع لكونه مقدّمة للأمور المقصود بيانها في تلك المحالّ كما هاهنا، و هكذا مذهب كلّ تكرير في القرآن.

كانَ مِنَ الْجِنِ حال بإضمار «قد»، أو استئناف للتعليل، كأنّه قيل: ماله لم يسجد؟ فقيل: كان من الجنّ. فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ فخرج عن أمره بترك السجود.

و الفاء للتسبيب، جعل كونه من الجنّ سببا في فسقه. يعني: لو كان ملكا كسائر من سجد لآدم لم يفسق عن أمر اللّه، لأنّ الملائكة معصومون البتّة، لا يجوز عليهم ما يجوز على الجنّ و

الإنس، كما قال: لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ «1».

و فيه دليل على أنّ الملك لا يعصي البتّة، و إنّما عصى إبليس لأنّه كان جنّيّا في أصله. فما أبعد البون بين هذا القول، و بين قول من ضادّه و زعم أنّه كان ملكا و رئيسا على

______________________________

(1) الأنبياء: 27.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 121

الملائكة، فعصى، فلعن و مسخ شيطانا. و تفصيل هذا المبحث قد مرّ «1» في سورة البقرة.

أَ فَتَتَّخِذُونَهُ الهمزة للإنكار و التعجّب، كأنّه قيل: أ عقيب ما وجد منه تتّخذونه وَ ذُرِّيَّتَهُ أولاده أو أتباعه. و سمّاهم ذرّيّة مجازا. أَوْلِياءَ مِنْ دُونِي أي:

تستبدلونهم في، فتطيعونهم بدل طاعتي وَ هُمْ لَكُمْ عَدُوٌّ بِئْسَ لِلظَّالِمِينَ بَدَلًا أي: بئس البدل من اللّه إبليس و ذرّيّته لمن استبدله، فأطاعه بدل طاعته.

ثم نفى مشاركتهم في الإلهيّة بقوله: ما أَشْهَدْتُهُمْ خَلْقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لأعتضد بهم في خلقهما وَ لا خَلْقَ أَنْفُسِهِمْ و لا أشهدت بعضهم خلق بعض، كقوله:

وَ لا تَقْتُلُوا أَنْفُسَكُمْ «2». فنفى إحضار إبليس و ذرّيّته خلق السماوات و الأرض، و إحضار بعضهم خلق بعض، ليدلّ على نفي الاعتضاد بهم في ذلك، كما صرّح به بقوله:

وَ ما كُنْتُ مُتَّخِذَ الْمُضِلِّينَ عَضُداً أي: أعوانا، ردّا لاتّخاذهم أولياء من دون اللّه شركاء له في العبادة، فإنّ استحقاق العبادة من توابع الخالقيّة، و الاشتراك فيه يستلزم الاشتراك فيها. فوضع «المضلّين» موضع الضمير ذمّا لهم بالإضلال، و استبعادا للاعتضاد بهم، فإذا لم يكونوا عضدا لي في الخلق، فما لكم تتّخذونهم شركاء في العبادة؟! و قيل: الضمير للمشركين. و المعنى: ما أشهدتهم خلق ذلك، و لا خصصتهم بعلوم لا يعرفها غيرهم، حتّى لو آمنوا تبعهم الناس كما يزعمون، فلا تلتفت إلى قولهم

طمعا في نصرتهم للدين، فإنّه لا ينبغي لي أن أعتضد بالمضلّين لديني.

[سورة الكهف (18): الآيات 52 الى 55]

وَ يَوْمَ يَقُولُ نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ مَوْبِقاً (52) وَ رَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها وَ لَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً (53) وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَ كانَ الْإِنْسانُ أَكْثَرَ شَيْ ءٍ جَدَلاً (54) وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى وَ يَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ إِلاَّ أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ قُبُلاً (55)

______________________________

(1) راجع ج 1 ص 132 ذيل الآية 34 من سورة البقرة.

(2) النساء: 29.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 122

وَ يَوْمَ يَقُولُ أي: اللّه تعالى للكفّار. و قرأ حمزة بالنون. نادُوا شُرَكائِيَ الَّذِينَ زَعَمْتُمْ أنّهم شركائي و شفعاؤكم، ليمنعوكم من عذابي. و إضافة الشركاء على زعمهم للتوبيخ. و المراد: كلّ ما عبد من دونه. و قيل: إبليس و ذرّيّته. فَدَعَوْهُمْ فنادوهم للإغاثة فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ فلم يغيثوهم وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ بين الكفّار و آلهتهم مَوْبِقاً مهلكا يشتركون فيه، و هو النار. اسم مكان من: وبق يبق وبوقا، و وبق يوبق وبقا، إذا هلك، و أوبقه غيره.

و يجوز أن يكون مصدرا، كالمورد و الموعد. يعني: و جعلنا بينهم واديا من أودية جهنّم، هو مكان الهلاك و العذاب الشديد مشتركا، يهلكون فيه جميعا.

و عن الحسن: «موبقا» عداوة. و المعنى: عداوة هي في شدّتها هلاك.

و قال الفراء: البين الوصل، أي: و جعلنا تواصلهم في الدنيا هلاكا يوم القيامة.

و يجوز أن يريد الملائكة و عزيرا و عيسى و مريم، و بالموبق: البرزخ البعيد، أي:

و جعلنا بينهم أمدا بعيدا تهلك فيه الأشواط لفرط بعده، لأنّهم في قعر جهنّم، و هم في أعلى الجنان.

وَ

رَأَى الْمُجْرِمُونَ النَّارَ فَظَنُّوا فأيقنوا أَنَّهُمْ مُواقِعُوها مخالطوها واقعون فيها وَ لَمْ يَجِدُوا عَنْها مَصْرِفاً انصرافا، أو مكانا ينصرفون إليه.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 123

وَ لَقَدْ صَرَّفْنا فِي هذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ تصريفها ترديدها من نوع واحد و أنواع مختلفة ليتفكّروا فيها وَ كانَ الْإِنْسانُ أي: النضر بن الحارث. و قيل: أبيّ بن خلف، أو جميع الكفّار أَكْثَرَ شَيْ ءٍ يتأتّى منه الجدل جَدَلًا خصومة بالباطل.

و انتصابه على التمييز. يعني: جدل الإنسان أكثر من جدل كلّ شي ء. و نحوه: فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ «1».

وَ ما مَنَعَ النَّاسَ أَنْ يُؤْمِنُوا أي: من الإيمان إِذْ جاءَهُمُ الْهُدى و هو الرسول الداعي، أو القرآن المبين وَ يَسْتَغْفِرُوا رَبَّهُمْ و من الاستغفار من الذنوب إِلَّا أَنْ تَأْتِيَهُمْ سُنَّةُ الْأَوَّلِينَ إلّا طلب أو انتظار أو تقدير أن تأتيهم سنّة الأوّلين، و هي الاستئصال، فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه أَوْ يَأْتِيَهُمُ الْعَذابُ عذاب الآخرة قُبُلًا عيانا من حيث يرونه. و تأويله: أنّهم بامتناعهم من الإيمان بمنزلة من يطلب هذا.

و قرأ الكوفيّون بضمّتين. و هو لغة فيه، أو جمع قبيل بمعنى أنواع. و انتصابه على الحال من الضمير أو العذاب.

[سورة الكهف (18): الآيات 56 الى 59]

وَ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ وَ يُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ وَ اتَّخَذُوا آياتِي وَ ما أُنْذِرُوا هُزُواً (56) وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ فَأَعْرَضَ عَنْها وَ نَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أَنْ يَفْقَهُوهُ وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً وَ إِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً (57) وَ رَبُّكَ الْغَفُورُ ذُو الرَّحْمَةِ لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلاً (58)

وَ تِلْكَ الْقُرى أَهْلَكْناهُمْ لَمَّا ظَلَمُوا وَ جَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً (59)

______________________________

(1) يس: 77.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 124

ثمّ بيّن سبحانه أنّه قد أزاح العلّة، و أظهر الحجّة، و أوضح المحجّة، فقال: وَ ما نُرْسِلُ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا مُبَشِّرِينَ وَ مُنْذِرِينَ للمؤمنين و الكافرين وَ يُجادِلُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالْباطِلِ باقتراح الآيات بعد ظهور المعجزات، و السؤال عن قصّة أصحاب الكهف و نحوها تعنّتا لِيُدْحِضُوا بِهِ ليزيلوا بالجدال الْحَقَ عن مقرّه و يبطلوه. من إدحاض القدم، و هو إزلاقها. و ذلك قولهم للرسل: ما أنتم إلّا بشر مثلنا، و لو شاء اللّه لأنزل ملائكة و نحو ذلك. وَ اتَّخَذُوا آياتِي يعني: القرآن وَ ما أُنْذِرُوا و إنذارهم، أو و الّذي أنذروا به من العقاب هُزُواً استهزاء.

و قرأ نافع و الكسائي و أبو عمرو و ابن عامر و أبو بكر و ابن كثير بضمّتين و إبدال الواو همزة. و حفص: هزوا بضمّتين. و حمزة: هزءا، بسكون الزاء و الهمزة.

وَ مَنْ أَظْلَمُ أي: ليس أحد أظلم لنفسه مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ وعظ بالقرآن فَأَعْرَضَ عَنْها فلم يتدبّرها، و لم يتذكّر بها وَ نَسِيَ ما قَدَّمَتْ يَداهُ عاقبة ما كسبت من الكفر و المعاصي، و لم يتفكّر في عاقبتهما، و لم ينظر في أنّ المحسن و المسي ء لا بدّ لهما من جزاء.

ثمّ عللّ إعراضهم و نسيانهم بقوله: إِنَّا جَعَلْنا عَلى قُلُوبِهِمْ أَكِنَّةً أي: إنّهم مطبوع على قلوبهم خذلانا أَنْ يَفْقَهُوهُ كراهة أن يفقهوه، فأعرض عنها و لم يتذكّر حين ذكر، و لم يتدبّر. و تذكير الضمير و إفراده للمعنى. وَ فِي آذانِهِمْ وَقْراً ثقلا يمنعهم

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 125

أن يستمعوه حقّ استماعه. و قد تقدّم «1» بيان هذا فيما مضى. و

جملته أنّه على التمثيل، كما قال في موضع آخر: وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً «2». فالمعنى: كأنّ على قلوبهم أكنّة أن يفقهوه، و في آذانهم وقرا أن يسمع.

وَ إِنْ تَدْعُهُمْ إِلَى الْهُدى فَلَنْ يَهْتَدُوا إِذاً أَبَداً فلا يكون منهم اهتداء البتّة، كأنّه محال منهم، لشدّة تصميمهم على الكفر و العناد مدّة التكليف كلّها. و «إذا» كما عرفت جزاء و جواب، فدلّ على انتفاء اهتدائهم لدعوة الرسول، بمعنى أنّهم جعلوا ما يجب أن يكون سبب وجود الاهتداء سببا في انتفائه، و على أنّه جواب للرسول على تقدير قوله:

مالي لا أدعوهم حرصا على إسلامهم؟ فقيل: و إن تدعهم إلى الهدى فلن يهتدوا.

وَ رَبُّكَ الْغَفُورُ البليغ المغفرة ذُو الرَّحْمَةِ الموصوف بالرحمة. ثمّ استشهد على ذلك بترك مؤاخذة أهل مكّة عاجلا، مع إفراطهم في عداوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال:

لَوْ يُؤاخِذُهُمْ بِما كَسَبُوا لَعَجَّلَ لَهُمُ الْعَذابَ بَلْ لَهُمْ مَوْعِدٌ و هو يوم بدر، أو يوم القيامة لَنْ يَجِدُوا مِنْ دُونِهِ مَوْئِلًا منجا. يقال: و أل إذا نجا، و وأل إليه إذا لجأ إليه.

وَ تِلْكَ الْقُرى يعني: قرى عاد و ثمود و أضرابهم. و «تلك» مبتدأ خبره أَهْلَكْناهُمْ و يجوز أن يكون «تلك القرى» نصبا بإضمار «أهلكنا» على شرائط التفسير. و المعنى: و تلك أصحاب القرى أهلكناهم لَمَّا ظَلَمُوا بالتكذيب و المراء و أنواع المعاصي، مثل ظلم أهل مكّة وَ جَعَلْنا لِمَهْلِكِهِمْ مَوْعِداً لإهلاكهم وقتا معلوما، لا يستأخرون عنه ساعة و لا يستقدمون. فليعتبروا بهم، و لا يغترّوا بتأخير العذاب عنهم.

و قرأ أبو بكر: لمهلكهم بفتح الميم و اللام، أي: لهلاكهم. و حفص بكسر اللام حملا

على ما شذّ من مصادر: يفعل، كالمرجع و المحيض.

______________________________

(1) راجع ج 2: ص 374 ذيل الآية 25 من سورة الأنعام، و هنا ص 40 ذيل الآية 46 من سورة الإسراء.

(2) لقمان: 7.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 126

[سورة الكهف (18): الآيات 60 الى 62]

وَ إِذْ قالَ مُوسى لِفَتاهُ لا أَبْرَحُ حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً (60) فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما نَسِيا حُوتَهُما فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ سَرَباً (61) فَلَمَّا جاوَزا قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً (62)

قال عليّ بن إبراهيم في تفسيره «1»: لمّا أخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قريشا بخبر أصحاب الكهف، و انجرّ الكلام إلى هاهنا، قالوا: أخبرنا عن العالم الّذي أمر اللّه تعالى موسى أن يتبعه من هو؟ و كيف تبعه؟ و ما قصّته؟ فنزلت: وَ إِذْ قالَ مُوسى

بتقدير: اذكر لِفَتاهُ يوشع بن نون بن افرائيم بن يوسف عليه السّلام، فإنّه كان يخدمه و يصحبه و يتبعه، و لذلك سمّاه فتاه. و قيل: كان يأخذ منه العلم. و قيل: لعبده. و في الحديث: ليقل أحدكم فتاي و فتاتي، و لا يقل: عبدي و أمتي.

لا أَبْرَحُ أي: لا أزال أسير، فحذف الخبر، لدلالة حاله- و هو السفر- و قوله:

حَتَّى أَبْلُغَ مَجْمَعَ الْبَحْرَيْنِ من حيث أنّه يستدعي ذا غاية، على الخبر المحذوف.

و يجوز أن يكون أصله: لا يبرح مسيري حتّى أبلغ، على أنّ «حتّى أبلغ» هو الخبر، فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه، فانقلب الضمير و الفعل عن لفظ الغائب إلى لفظ المتكلّم. و هو وجه لطيف. و أن يكون «لا أبرح» بمعنى: لا أزول عمّا أنا عليه من السير و الطلب، بمعنى: ألزم المسير و الطلب، و

لا أفارقه حتّى أبلغ، فلا يستدعي الخبر.

و مجمع البحرين ملتقى بحري فارس و الروم ممّا يلي المشرق، وعد لقاء الخضر فيه. و قيل: هو طنجة. و قيل: أفريقية. و قيل: البحران موسى و خضر عليهما السّلام، فإنّ موسى كان

______________________________

(1) تفسير على بن إبراهيم 2: 37.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 127

بحر علم الظاهر، و الخضر كان بحر علم الباطن.

أَوْ أَمْضِيَ حُقُباً أو أسير زمانا طويلا. و المعنى: حتّى يقع إمّا بلوغ المجمع، أو أن أمضي زمانا أتيقّن معه فوات المجمع. و الحقب: الدهر. و قيل: ثمانون سنة. و قيل:

سبعون.

و اعلم أنّ أكثر المفسّرين على أنّ موسى الّذي حكاه اللّه عنه هو موسى بن عمران، و فتاه يوشع بن نون، كما مرّ.

و قال محمّد بن كعب بقول أهل الكتاب: إنّ موسى الّذي طلب الخضر هو موسى بن ميشا بن يوسف، و كان نبيّا في بني إسرائيل قبل موسى بن عمران.

و أمّا الّذي عليه الجمهور و أجمع عليه الإماميّة أنّه موسى بن عمران، و لأنّ إطلاقه يوجب صرفه إلى موسى بن عمران، كما أنّ إطلاق محمّد ينصرف إلى نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و عن سعيد بن جبير: أنّه قال لابن عبّاس: إنّ نوفا ابن امرأة كعب يزعم أنّ الخضر ليس بصاحب موسى بن عمران، و أنّ موسى هو موسى بن ميشا. فقال: كذب عدوّ اللّه.

و

قال عليّ بن إبراهيم: حدّثني محمّد بن عليّ بن بلال، عن يونس، قال: اختلف يونس و هشام بن إبراهيم في العالم الّذي أتاه موسى أيّهما كان أعلم؟ و هل يجوز أن يكون على موسى حجّة في وقته، و هو حجّة اللّه على خلقه؟ فكتبوا إلى أبي الحسن الرضا عليه السّلام يسألانه

عن ذلك. فكتب في الجواب: «أتى موسى العالم فأصابه في جزيرة من جزائر البحر، فسلّم عليه موسى، فأنكر السلام، إذ كان بأرض ليس بها سلام.

قال: من أنت؟

قال: أنا موسى بن عمران.

قال: أنت موسى بن عمران الّذي كلّمه اللّه تكليما؟

قال: نعم.

قال: فما حاجتك؟ قال: جئت لتعلّمني ممّا علّمت رشدا.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 128

قال: إنّي وكّلت بأمر لا تطيقه، و وكّلت بأمر لا أطيقه» «1».

و

روي أنّه لمّا ظهر موسى على مصر مع بني إسرائيل بعد هلاك القبط و استقرّوا بها، أمره اللّه أن يذكّر قومه النعمة. فقام فخطب خطبة بليغة أعجب خطبة، فذكر نعمة اللّه و قال:

إنّه اصطفى نبيّكم و كلّمه. فقالوا له: قد علمنا هذا هل تعلم أحدا أعلم منك؟ قال: لا.

فبعث اللّه عليه جبرئيل حين لم يردّ العلم إلى اللّه، فأوحى إليه: بل أعلم منك عبدلي عند مجمع البحرين، و هو الخضر. و كان الخضر في أيّام أفريدون قبل موسى. و كان على مقدّمة ذي القرنين الأكبر، و بقي إلى أيّام موسى.

و قيل: إنّ موسى سأل ربّه أيّ عبادك أحبّ إليك؟ قال: الّذي يذكرني و لا ينساني.

قال: فأيّ عبادك أقضى؟

قال: الّذي يقضي بالحقّ، و لا يتّبع الهوى.

قال: فأيّ عبادك أعلم؟

قال: الّذي يبتغي علم الناس إلى علمه، عسى أن يصيب كلمة تدلّه على هدى، أو تردّه عن ردى.

فقال: إن كان في عبادك من هو أعلم منّي فادللني عليه.

قال: أعلم منك الخضر.

قال: أين أطلبه؟

قال: على الساحل، عند الصخرة الّتي عندها ماء الحياة، عند مجمع البحرين.

قال: يا ربّ كيف لي به؟ قال: خذ حوتا في مكتل فحيث فقدته فهو هناك.

فقال لفتاه: إذا فقدت الحوت فأخبرني. فذهبا يمشيان فَلَمَّا بَلَغا مَجْمَعَ بَيْنِهِما أي: مجمع البحرين. و «بينهما» ظرف أضيف

إليه على الاتّساع، أو بمعنى

______________________________

(1) تفسير عليّ بن إبراهيم 2: 38.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 129

الوصل. نَسِيا حُوتَهُما غفل موسى أن يطلبه و يتعرّف حاله، لاستغراقه في جناب القدس، و توجّهه التامّ إلى المبدأ الحقيقي. و لذلك أيضا غفل يوشع أن يذكر له ما رأى من حياته و وقوعه في البحر.

قيل: كان الحوت سمكة مملوحة. و قيل: إنّ يوشع حمل الحوت و الخبز في المكتل «1»، فنزل ليلة على شاطئ عين تسمّى عين الحياة، و نام موسى، فلمّا أصاب السمكة روح الماء و برده عاشت. و روي أنّهما أكلا منها.

و قيل: إنّ موسى رقد فاضطرب الحوت المشويّ و وثب في البحر، معجزة لموسى أو الخضر.

و قيل: توضّأ يوشع بن نون من عين الحياة، فانتضح الماء عليه، فعاش و وثب في الماء.

و قيل: نسيا تفقّد أمره و ما يكون منه، أمارة على الظفر بالمطلوب.

فَاتَّخَذَ سَبِيلَهُ فاتّخذ الحوت طريقه فِي الْبَحْرِ سَرَباً مسلكا، من قوله:

وَ سارِبٌ بِالنَّهارِ «2». و قيل: أمسك اللّه جرية الماء على الحوت فصار كالطاق عليه، و حصل منه في مثل السرب. و نصبه على المفعول الثاني، و «في البحر» حال منه، أو من السبيل. و يجوز أن يكون «في البحر» متعلّقا ب «اتّخذ».

فَلَمَّا جاوَزا مجمع البحرين. و هو الموعد الّذي فيه الصخر. قالَ لِفَتاهُ آتِنا غَداءَنا ما نتغدّى به لَقَدْ لَقِينا مِنْ سَفَرِنا هذا نَصَباً تعبا و شدّة. قيل: لم ينصب حتّى جاوز الموعد، فلمّا جاوزه و سار الليلة و الغد إلى الظهر ألقي عليه الجوع و النصب. و قيل:

لم يعي موسى في سفر غيره. و يؤيّده التقييد باسم الاشارة.

______________________________

(1) المكتل: زنبيل من خوص يحمل فيه التمر و غيره.

(2) الرعد: 10.

زبدة التفاسير، ج 4،

ص: 130

[سورة الكهف (18): الآيات 63 الى 70]

قالَ أَ رَأَيْتَ إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ وَ ما أَنْسانِيهُ إِلاَّ الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ وَ اتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً (63) قالَ ذلِكَ ما كُنَّا نَبْغِ فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما قَصَصاً (64) فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً (65) قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً (66) قالَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (67)

وَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً (68) قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً وَ لا أَعْصِي لَكَ أَمْراً (69) قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْ ءٍ حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً (70)

و لمّا طلب موسى الحوت، ذكر يوشع ما رأى منه و ما اعتراه من نسيانه إلى تلك الغاية، فدهش و طفق يسأل موسى عن سبب ذلك قالَ يوشع أَ رَأَيْتَ ما دهاني إِذْ أَوَيْنا إِلَى الصَّخْرَةِ يعني: الصخرة الّتي رقد عندها موسى. و قيل: هي الصخرة الّتي دون نهر الزيت «1». فَإِنِّي نَسِيتُ الْحُوتَ فقدته، أو نسيت ذكره بما رأيت منه.

ثمّ اعتذر عن نسيانه، فقال: وَ ما أَنْسانِيهُ إِلَّا الشَّيْطانُ أَنْ أَذْكُرَهُ و ما أنساني ذكره إلّا الشيطان، فإنّ «أن أذكره» بدل من الضمير. و الحال و إن كانت عجيبة لا ينسى

______________________________

(1) في هامش النسخة الخطيّة: «سمّي نهر الزيت لكثرة أشجار الزيت على شاطئه. منه غفر اللّه له».

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 131

مثلها، لكنّه لمّا ضرى «1» بمشاهدة أمثالها عند موسى و ألفها قلّ اهتمامه بها، أو نسي ذلك لاستغراقه في الاستبصار، و انجذاب شراشره إلى جناب القدس، بما عراه من مشاهدة الآيات الباهرة. و إنّما نسبه إلى الشيطان هضما لنفسه، أو لأنّ

عدم احتمال القوّة للجانبين و اشتغالها بأحدهما عن الآخر يعدّ من نقصان.

وَ اتَّخَذَ سَبِيلَهُ فِي الْبَحْرِ عَجَباً سبيلا عجبا، و هو كونه كالسرب. أو اتّخاذا عجبا. و المفعول الثاني هو الظرف. و قيل: هو مصدر فعله المضمر، أي: قال في آخر كلامه أو موسى في جوابه: عجبا، تعجّبا من تلك الحال. و عن ابن عبّاس: الفعل لموسى، أي:

اتّخذ موسى سبيل الحوت في البحر عجبا.

قالَ ذلِكَ أي: أمر الحوت ما كُنَّا نَبْغِ نطلب، لأنّه أمارة المطلوب. حذف الياء لدلالة الكسرة عليه. و قرأ نافع و أبو عمرو بالياء وصلا، و ابن كثير مطلقا. فَارْتَدَّا عَلى آثارِهِما فرجعا في الطريق الّذي جاءا فيه قَصَصاً يقصّان قصصا، أي: يتّبعان آثارهما اتّباعا. أو فارتدّا مقتصّين حتّى أتيا الصخرة الّتي هي مدخل الحوت.

فَوَجَدا عَبْداً مِنْ عِبادِنا الجمهور على أنّه الخضر كما مرّ. و اسمه بليا بن ملكان. و قيل: اليسع. و قيل: إلياس. آتَيْناهُ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا هي: الوحي و النبوّة وَ عَلَّمْناهُ مِنْ لَدُنَّا عِلْماً ممّا يختصّ بنا، و لا يعلم إلّا بتوفيقنا. و هو علم الغيوب.

و قيل: إنّ موسى رآه على طنفسة خضراء فسلّم عليه. فقال: و عليك السلام يا نبيّ بني إسرائيل. فقال له موسى: و ما أدراك من أنا؟ و من أخبرك أنّي نبيّ؟ قال: من دلّك عليّ. و قيل: سلّم عليه موسى فعرّفه نفسه، فقال: و أنّى بأرضنا السلام.

قالَ لَهُ مُوسى هَلْ أَتَّبِعُكَ عَلى أَنْ تُعَلِّمَنِ و هو في موضع الحال من الكاف مِمَّا عُلِّمْتَ رُشْداً علما ذا رشد، و هو إصابة الخير. و قرأ البصريّان بفتحتين. و هما لغتان، كالبخل و البخل. و هو مفعول «تعلّمني». و مفعول «علّمت» العائد

______________________________

(1) أي: اعتاد و ألف.

و أصله من الضراوة، و هي الدربة و العادة.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 132

المحذوف. و كلاهما منقولان من «علم» الّذي له مفعول واحد. و يجوز أن يكون «رشدا» علّة ل «أتّبعك» أو مصدرا بإضمار فعله.

و لا ينافي نبوّته و كونه صاحب شريعة أن يتعلّم من غيره ما لم يكن شرطا في أبواب الدين، فإنّ الرسول ينبغي أن يكون أعلم ممّن أرسل إليه فيما بعث به من اصول الدين و فروعه لا مطلقا. و قد راعي في ذلك غاية التواضع و الأدب، فاستجهل نفسه، و استأذن أن يكون تابعا له، و سأل منه أن يرشده و ينعم عليه بتعليم بعض ما أنعم اللّه عليه.

و إنّما سمّي خضرا، لأنّه إذا صلّى في مكان اخضرّ ما حوله.

قالَ الخضر إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً أي: يثقل عليك الصبر و لا يخفّ عليك. و إنّما قال ذلك لأنّ موسى عليه السّلام كان يأخذ الأمور على ظواهرها، و الخضر كان يحكم بما علّمه اللّه من بواطنها، فلا يسهل على موسى مشاهدة ذلك. فنفى استطاعة الصبر منه على وجه التأكيد، كأنّها ممّا لا يصحّ و لا يستقيم.

و علّل ذلك و اعتذر عنه بقوله: وَ كَيْفَ تَصْبِرُ عَلى ما لَمْ تُحِطْ بِهِ خُبْراً أي:

و كيف تصبر و أنت نبيّ على ما أتولّى من أمور ظواهرها مناكير و بواطنها لم يحط بها خبرك؟ و الرجل الصالح لا يصبر على ذلك، فكيف إذا كان نبيّا؟! لا يتمالك أن يشمئزّ و يمتعض «1» و يجزع إذا رأى ذلك، و يأخذ في الإنكار. و «خبرا» تمييز، أي: لم يحط به خبرك أو مصدر، لأنّ «لم تحط» بمعنى لم تخبره، فنصبه نصب المصدر.

قالَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ صابِراً معك

غير منكر عليك وَ لا أَعْصِي لَكَ أَمْراً عطف على «صابرا» أي: ستجدني صابرا و غير عاص أو على «ستجدني».

و تعليق الوعد بالمشيئة إمّا للتيمّن، أو لعلمه بصعوبة الأمر، فإنّ مشاهدة الفساد و الصبر على خلاف المعتاد شديد، خصوصا على الأنبياء.

______________________________

(1) في هامش النسخة الخطّية: «معضت من ذلك الأمر و امتعضت، إذا غضبت و شقّ عليك.

منه غفر اللّه له».

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 133

قالَ فَإِنِ اتَّبَعْتَنِي فإن اقتفيت أثري فَلا تَسْئَلْنِي عَنْ شَيْ ءٍ فلا تفاتحني بالسؤال عن شي ء أنكرته منّي، و لم تعلم وجه صحّته حَتَّى أُحْدِثَ لَكَ مِنْهُ ذِكْراً حتّى أبتدئك ببيانه. و قرأ نافع و ابن عامر: فلا تسألنّي، بالنون الثقيلة. و هذا من أدب المتعلّم مع العالم، و المتبوع مع التابع.

[سورة الكهف (18): الآيات 71 الى 73]

فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ خَرَقَها قالَ أَ خَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً (71) قالَ أَ لَمْ أَقُلْ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (72) قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ وَ لا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً (73)

فَانْطَلَقا على الساحل يطلبان السفينة حَتَّى إِذا رَكِبا فِي السَّفِينَةِ قال أهلها: هما من اللصوص، و أمروهما بالخروج. فقال صاحب السفينة: أرى وجوه الأنبياء. و قيل: عرفوا الخضر فحملوهما بغير نول «1». فلمّا لججوا أخذ الخضر فأسا خَرَقَها فخرق السفينة، بأن قلع لوحين من ألواحها ممّا يلي الماء، فجعل موسى يسدّ الخرق بثيابه.

قالَ منكرا عليه أَ خَرَقْتَها لِتُغْرِقَ أَهْلَها فإنّ خرقها سبب لدخول الماء فيها المفضي إلى غرق أهلها. و قرأ حمزة و الكسائي: «ليغرق أهلها» على إسناده إلى الأهل.

لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً إِمْراً أتيت أمرا عظيما، من: أمر الأمر إذا عظم.

قالَ أَ لَمْ أَقُلْ حين رغبت في اتّباعي إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً تذكير

لما ذكره قبل، فتذكّر موسى ما بذل له من الشرط.

قالَ لا تُؤاخِذْنِي بِما نَسِيتُ بالّذي نسيته، أي: غفلته، من التسليم لك و ترك

______________________________

(1) أي: بغير أجرة و عطيّة. و النون: العطيّة.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 134

الإنكار عليك. أو بشي ء نسيته، يعني: وصيّته بأن لا يعترض عليه. أو بنسياني إيّاها.

و هو اعتذار بالنسيان، أخرجه في معرض النهي عن المؤاخذة مع قيام المانع لها، لأنّه لا مؤاخذة على الناسي.

و قيل: أراد بالنسيان الترك، أي: لا تؤاخذني بما تركت من وصيّتك أوّل مرّة، كما روي عن ابن عبّاس: بما تركت من وصيّتك و عهدك. و على هذا، فيكون النسيان بمعنى الترك، لا بمعنى الغفلة و السهو.

و قيل: إنّه من معاريض الكلام الّتي يتّقى بها الكذب مع التوصّل إلى الغرض، كقول إبراهيم: هذه أختي و إنّي سقيم. فمراده شي ء آخر نسيه.

وَ لا تُرْهِقْنِي مِنْ أَمْرِي عُسْراً فلا تغشّني عسرا من أمري، و هو اتّباعه إيّاه.

يعني: و لا تعسّر عليّ متابعتك، و يسّرها عليّ بالإغضاء و ترك المناقشة و المضايقة و المؤاخذة على المنسيّ. و «عسرا» مفعول ثان ل: ترهق، فإنّه يقال: رهقه إذا غشيه و أرهقه إيّاه.

[سورة الكهف (18): الآيات 74 الى 76]

فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً فَقَتَلَهُ قالَ أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً بِغَيْرِ نَفْسٍ لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً (74) قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً (75) قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْ ءٍ بَعْدَها فَلا تُصاحِبْنِي قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً (76)

فَانْطَلَقا أي: بعد ما خرجا من السفينة انطلقا يمشيان في البرّ. و لم يذكر يوشع، لأنّه كان تابعا لموسى، أو كان قد تأخّر عنهما. و هو الأظهر، لاختصاص موسى بالنبوّة، و اجتماعه مع الخضر في البحر. حَتَّى إِذا لَقِيا غُلاماً

فَقَتَلَهُ قيل: فتل عنقه، و كان يلعب

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 135

مع الصبيان. و عن سعيد بن جبير: كان من أحسن أولئك الغلمان و أصبحهم. و قيل: ضرب برأسه الحائط. و عن سعيد بن جبير: أضجعه ثم ذبحه بالسكّين. و الفاء للدلالة على أنّه لمّا لقيه قتله من غير تروّ و استكشاف حال، و لذلك قالَ أَ قَتَلْتَ نَفْساً زَكِيَّةً أي: طاهرة من الذنوب.

و قرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو و رويس عن يعقوب: زاكية. و الأوّل أبلغ. و قال أبو عمرو: الزاكية: الّتي لم تذنب قطّ، و الزكيّة الّتي ثمّ غفرت. و لعلّه اختار زاكية لذلك، فإنّها كانت صغيرة لم تبلغ الحلم، أو أنّه لم يرها قد أذنبت ذنبا يقتضي قتلها.

بِغَيْرِ نَفْسٍ بغير قتل نفس يوجب القود. يعني: لم تقتل نفسا فيقتصّ منها، بل قتلت نفسا تقاد بها. نبّه به على أنّ القتل إنّما يباح حدّا أو قصاصا، و كلا الأمرين منتف.

و لعلّ تغيير النظم، بأن جعل خرقها جزاء للشرط، و اعتراض موسى مستأنفا في الأولى، و في الثانية قتله من جملة الشرط، و اعتراضه جزاء، لأنّ القتل أقبح، و الاعتراض عليه أدخل، فكان جديرا بأن يجعل عمدة الكلام، و لذلك فصّله بقوله: لَقَدْ جِئْتَ شَيْئاً نُكْراً أي: منكرا أشدّ من الإمر، فإنّ الخرق يمكن تداركه بالسدّ، و هذا لا سبيل إلى تداركه.

و قرأ نافع في رواية قالون و ورش و ابن عامر و يعقوب و أبو بكر: نكرا بضمّتين.

قالَ أَ لَمْ أَقُلْ لَكَ إِنَّكَ لَنْ تَسْتَطِيعَ مَعِيَ صَبْراً زاد فيه «لك» لزيادة المكافحة بالعتاب على رفض الوصيّة، و الوسم بقلّة الثبات و الصبر، لمّا تكرّر منه الاشمئزاز و الاستنكار، و لم

يرعو بالتذكير أوّل مرّة، حتّى زاد في الاستنكار ثاني مرّة.

قالَ إِنْ سَأَلْتُكَ عَنْ شَيْ ءٍ بَعْدَها بعد هذه المرّة فَلا تُصاحِبْنِي و إن سألت صحبتك. و عن يعقوب: فلا تصحبني، أي: فلا تكن صاحبي. قَدْ بَلَغْتَ مِنْ لَدُنِّي عُذْراً قد وجدت عذرا من قبلي لمّا خالفتك ثلاث مرّات. و

عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «رحم اللّه أخي موسى استحيا فقال ذلك، لو لبث مع صاحبه لأبصر أعجب الأعاجيب».

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 136

و قرأ نافع: لدني، بتحريك النون، و الاكتفاء بها عن نون الدعامة. و أبو بكر: لدني، بتحريك النون و إسكان الدال، إسكان الضاد من عضد.

[سورة الكهف (18): الآيات 77 الى 82]

فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَّ فَأَقامَهُ قالَ لَوْ شِئْتَ لاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً (77) قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَ بَيْنِكَ سَأُنَبِّئُكَ بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (78) أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها وَ كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً (79) وَ أَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ فَخَشِينا أَنْ يُرْهِقَهُما طُغْياناً وَ كُفْراً (80) فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ زَكاةً وَ أَقْرَبَ رُحْماً (81)

وَ أَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ وَ كانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما وَ كانَ أَبُوهُما صالِحاً فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما وَ يَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ وَ ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً (82)

فَانْطَلَقا حَتَّى إِذا أَتَيا أَهْلَ قَرْيَةٍ قرية أنطاكية. و قيل: أبلّة بصرة. و

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «هي قرية على ساحل البحر يقال لها ناصرة، و بها سمّيت النصارى نصارى».

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 137

و

قيل: باجروان أرمينية. و هي أبعد أرض اللّه من السماء. اسْتَطْعَما أَهْلَها فَأَبَوْا أَنْ يُضَيِّفُوهُما من: ضيّفه إذا أنزله و جعله ضيفه. و أصل التركيب للميل، يقال: ضاف السهم عن الغرض إذا مال.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «كانوا أهل قرية لئاما».

و قيل: شرّ القرى الّتي لا يضاف الضيف فيها، و لا يعرف لابن السبيل حقّه. و

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «لم يضيّفوهما، و لا يضيّفون بعدهما أحدا إلى أن تقوم الساعة».

فَوَجَدا فِيها جِداراً يُرِيدُ أَنْ يَنْقَضَ تدانى أن يسقط، فاستعيرت الإرادة للمداناة و المشارفة، كما استعير الهمّ و العزم و أمثال ذلك أيضا لذلك، كما يقال: عزم السراج أن يطفأ، و طلب أن يطفأ. و إذا كان القول و الإباء، و العزم و العزّة، و النطق و الشكاية، و الصدق و الكذب، و السكوت و التمرّد و الطواعية، و غير ذلك مستعارة للجماد و لسائر ما لا يعقل، فما بال الإرادة؟ و «انقضّ» انفعل، مطاوع: قضضته إذا كسرته. و منه انقضاض الطير و الكوكب لهويّه. أو افعلّ من النقض.

فَأَقامَهُ بعمارته أو بعمود عمده به. و قيل: مسحه بيده فقام. و قيل: نقضه و بناه. و قيل: كان طول الجدار في السماء مائة ذراع.

و لمّا بخلوا عليهما بالطعام، و أقام الخضر جدارهم المشرف على الانهدام، عجب موسى من ذلك قالَ لَوْ شِئْتَ لَاتَّخَذْتَ عَلَيْهِ أَجْراً أي: طلبت على عملك جعلا، تحريضا على أخذ الجعل، لينتعشا به، و ليسدا جوعتهما. أو تعريضا بأنّه فضول، لما في «لو» من النفي، كأنّه لمّا رأى الحرمان و مساس الحاجة، و اشتغاله بما لا يعنيه، لم يتمالك نفسه.

و «اتّخذ» افتعل من: تخذ، كاتّبع من: تبع. و

ليس من الأخذ عند البصريّين. و قرأ ابن كثير و البصريّان: لتخذت، أي: لأخذت. و أظهر ابن كثير و يعقوب و حفص الذال، و أدغمه الباقون.

قالَ هذا فِراقُ بَيْنِي وَ بَيْنِكَ الإشارة إلى الفراق الموعود بقوله: فلا تصاحبني.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 138

أو إلى الاعتراض الثالث. أو الوقت، أي: هذا الاعتراض سبب فراقنا، أو هذا الوقت وقته.

و إضافة الفراق إلى البين إضافة المصدر إلى الظرف على الاتّساع، و كرّر «بين» تأكيدا.

سَأُنَبِّئُكَ سأخبرك بِتَأْوِيلِ ما لَمْ تَسْتَطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً بالخبر الباطن فيما لم تستطع الصبر عليه، لكونه منكرا من حيث الظاهر.

أَمَّا السَّفِينَةُ فَكانَتْ لِمَساكِينَ لمحاويج لا شي ء لهم يكفيهم يَعْمَلُونَ فِي الْبَحْرِ للتعيّش. و هو دليل على أنّ المسكين يطلق على من يملك شيئا إذا لم يكفه.

و قيل: سمّوا مساكين لعجزهم عن دفع الملك، أو لزمانتهم، فإنّها كانت لعشرة إخوة:

خمسة زمنى، و خمسة يعملون في البحر.

فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها أجعلها ذات عيب وَ كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ قدّامهم، كقوله:

من ورائهم برزخ، أو خلفهم. و كان رجوعهم عليه، و اسمه جلندى بن كركر. و فيه لغة اخرى، و هي جلنداء ممدودة. يَأْخُذُ كُلَّ سَفِينَةٍ غَصْباً من أصحابها.

و كان حقّ النظم أن يتأخّر قوله: «فَأَرَدْتُ أَنْ أَعِيبَها» عن قوله: «وَ كانَ وَراءَهُمْ مَلِكٌ» لأنّ إرادة التعييب مسبّب عن خوف الغصب، و إنّما قدّم للعناية. أو لأنّ السبب لمّا كان مجموع الأمرين: خوف الغصب و مسكنة الملّاك، رتّبه على أقوى الجزأين و ادّعاهما، و عقّبه بالآخر على سبيل التقييد و التتميم.

وَ أَمَّا الْغُلامُ فَكانَ أَبَواهُ مُؤْمِنَيْنِ و هو كافر. و يؤيّده ما روي عن أبيّ و ابن عبّاس: أنّ الغلام كان كافرا، و أبواه مؤمنين. و

روي أيضا عن أبي عبد اللّه عليه

السّلام: «و أمّا الغلام الّذي قتله، فإنّما قتله لأنّه كان كافرا».

فَخَشِينا فخفنا، لعلمنا من عند اللّه أنّه إن بقي أَنْ يُرْهِقَهُما أي: يغشيهما طُغْياناً عليهما وَ كُفْراً لنعمتهما، بعقوقه و سوء صنيعه، فيلحقهما شرّا و بلاء. أو يقرن بإيمانهما طغيانه و كفره، فيجتمع في بيت واحد مؤمنان و طاغ كافر. أو يعديهما بدائه، فيرتدّا بإضلاله، أو بممالأته على طغيانه و كفره حبّا له. و إنّما خشي ذلك لأنّ اللّه أعلمه بحاله، و اطّلعه على سريرة أمره.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 139

و عن ابن عبّاس: أنّ نجدة الحروري «1» كتب إليه: كيف قتله- أي: قتل الخضر الغلام- و قد نهى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن قتل الولدان؟ فكتب إليه: إن علمت من حال الولدان ما علمه عالم موسى فلك أن تقتل.

و يجوز أن يكون قوله: «فخشينا» حكاية قول اللّه عزّ و جلّ. فمعنى «خشينا»: علمنا.

فَأَرَدْنا أَنْ يُبْدِلَهُما رَبُّهُما خَيْراً مِنْهُ أن يرزقهما بدله ولدا خيرا منه زَكاةً طهارة من الذنوب و الأخلاق الرديئة وَ أَقْرَبَ رُحْماً رحمة و عطوفة على والديه. قيل:

ولدت لهما جارية، فتزوّجها نبيّ، فولدت له نبيّا هدى اللّه به أمّة من الأمم.

و

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنّهما أبدلا بالغلام المقتول جارية، فولدت سبعين نبيّا».

و قرأ نافع و أبو عمرو: يبدّلهما بالتشديد. و ابن عامر و يعقوب و عاصم: رحما بالتخفيف. و انتصابه على التمييز، و العامل اسم التفضيل. و كذلك «زكوة».

و في الآية دلالة على وجوب اللطف على ما نذهب إليه، لأنّ المفهوم من الآية أنّه تدبير من اللّه تعالى لم يكن يجوز خلافه، و أنّه إذا علم من حال الإنسان أنّه يفسد عند شي ء، يجب عليه في الحكمة

أن يذهب ذلك الشي ء، حتّى لا يقع هذا الفساد.

وَ أَمَّا الْجِدارُ فَكانَ لِغُلامَيْنِ يَتِيمَيْنِ فِي الْمَدِينَةِ قيل: اسمهما أصرم و صريم، و اسم المقتول جيسور وَ كانَ تَحْتَهُ كَنْزٌ لَهُما من ذهب و فضّة. روي ذلك مرفوعا.

و الذمّ على كنز الذهب و الفضّة في قوله: وَ الَّذِينَ يَكْنِزُونَ الذَّهَبَ وَ الْفِضَّةَ «2» لمن لا يؤدّي زكاتهما و ما تعلّق بهما من الحقوق.

و قيل: صحف فيها علم، كما روي عن ابن عبّاس: ما كان ذلك الكنز إلّا علما.

و قيل: كان لوحا من ذهب مكتوب فيه: عجبت لمن يؤمن بالقدر كيف يحزن؟! و عجبت لمن يؤمن بالرزق كيف يتعب؟! و عجبت لمن يؤمن بالموت كيف يفرح؟!

______________________________

(1) في هامش النسخة الخطّية: «الحرورا قرية الخوارج. منه».

(2) التوبة: 34.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 140

و عجبت لمن يعرف الدنيا و تقلّبها بأهلها كيف يطمئنّ إليها؟! لا إله إلّا اللّه، محمّد رسول اللّه. و الظاهر لإطلاقه أنّه مال.

وَ كانَ أَبُوهُما صالِحاً تنبيه على أنّ سعيه ذلك كان لصلاحه. و كان سيّاحا، و اسمه كاشح.

و

عن جعفر بن محمّد عليه السّلام: «كان بين الغلامين و بين الأب الّذي حفظا فيه سبعة آباء».

و معنى «حفظا فيه»: حفظا في حقّه. يقال: اللّهمّ احفظنا في نبيّك، أي: في حقّه و لأجله. و يقال: أخ في اللّه، أي: من أجل اللّه. و

قال عليه السّلام: «إن اللّه ليصلح بصلاح الرجل المؤمن ولده و ولد ولده و دويرات حوله، فلا يزالون في حفظ اللّه، لكرامته على اللّه تعالى».

فَأَرادَ رَبُّكَ أَنْ يَبْلُغا أَشُدَّهُما أي: الحلم و كمال الرأي وَ يَسْتَخْرِجا كَنزَهُما رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ مرحومين من ربّك. و يجوز أن يكون علّة أو مصدرا ل «أراد»، فإنّ إرادة الخير رحمة. و قيل:

متعلّق بمحذوف تقديره: فعلت ما فعلت رحمة من ربّك. و لعلّ إسناد الإرادة أوّلا إلى نفسه «لأنّه المباشر للتعييب، و ثانيا إلى اللّه و إلى نفسه لأنّ التبديل بإهلاك الغلام و إيجاد اللّه بدله، و ثالثا إلى اللّه وحده لأنّه لا مدخل له في بلوغ الغلامين. أو لأنّ الأوّل في نفسه شرّ، و الثالث خير، و الثاني ممتزج.

وَ ما فَعَلْتُهُ عَنْ أَمْرِي عن رأيي و اجتهادي، و إنّما فعلته بأمر اللّه عزّ و جلّ. و مبنى ذلك على أنّه متى تعارض ضرران يجب تحمّل أهونهما لدفع أعظمهما. و هو أصل ممهّد، غير أنّ الشرائع في تفاصيله مختلفة. ذلِكَ تَأْوِيلُ ما لَمْ تَسْطِعْ عَلَيْهِ صَبْراً أي: ما لم تستطع، فحذف التاء تخفيفا.

و من فوائد هذه القصّة أن لا يعجب المرء بعلمه، و لا يبادر إلى إنكار ما لا يستحسنه، فلعلّ فيه سرّا لا يعرفه، و أن يداوم على التعلّم، و يتذلّل للمعلّم، و يراعي الأدب في المقال، و أن ينبّه المجرم على جرمه، و يعفو عنه حتّى يتحقّق إصراره، ثمّ

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 141

يهاجر عنه.

و اعلم أنّ المشهور بين الأمّة أنّ الخضر عليه السّلام موجود في زماننا. و لا ينافيه

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا نبيّ بعدي»

لأنّ الخضر عليه السّلام كان قبل نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و شرعه لو كان شرعا خاصّا، فإنّه منسوخ بشريعة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و لو كان داعيا إلى شريعة من تقدّمه من الأنبياء، فإنّ شريعة نبيّنا ناسخة لها. فلا يرد ما قيل: لا يجوز أن يكون الخضر حيّا إلى وقتنا هذا، لأنّه لا نبيّ بعد نبيّنا صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم.

[سورة الكهف (18): الآيات 83 الى 98]

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً (83) إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ وَ آتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ سَبَباً (84) فَأَتْبَعَ سَبَباً (85) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ وَ وَجَدَ عِنْدَها قَوْماً قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ وَ إِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً (86) قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً (87)

وَ أَمَّا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَلَهُ جَزاءً الْحُسْنى وَ سَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا يُسْراً (88) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (89) حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ الشَّمْسِ وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً (90) كَذلِكَ وَ قَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ خُبْراً (91) ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً (92)

حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلاً (93) قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِنَّ يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَ بَيْنَهُمْ سَدًّا (94) قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْماً (95) آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ قالَ انْفُخُوا حَتَّى إِذا جَعَلَهُ ناراً قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً (96) فَمَا اسْطاعُوا أَنْ يَظْهَرُوهُ وَ مَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً (97)

قالَ هذا رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي جَعَلَهُ دَكَّاءَ وَ كانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا (98)

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 142

ثمّ بيّن سبحانه قصّة ذي القرنين، فقال: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنْ ذِي الْقَرْنَيْنِ يعني:

إسكندر الرومي ملك فارس و الروم. و قيل: ملك الدنيا مؤمنان: ذو القرنين و سليمان، و كافران: نمرود و بختنصّر، و كان

بعد نمرود.

قيل: إنّه كان عبدا صالحا ملّكه اللّه الأرض، و أعطاه العلم و الحكمة، و ألبسه الهيبة، و سخّر له النور و الظلمة، فإذا سرى يهديه النور من أمامه، و تحوطه الظلمة من ورائه. و قيل: كان نبيّا. و قيل: ملكا من الملائكة.

و

عن عليّ عليه السّلام: «سخّر له السحاب، و مدّت له الأسباب، و بسط له النور، فكان الليل و النهار عليه سواء- و هذا معنى تمكّنه في الأرض- و سهّل عليه المسير فيها، و ذلّل له طريقها و حزونها» «1».

و

سئل عنه فقال: «أحبّ اللّه فأحبّه».

______________________________

(1) الحزون جمع الحزن، و هو ما غلظ من الأرض.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 143

و سأله ابن الكوّا ما ذو القرنين، أملك أم نبيّ؟ فقال: «ليس بملك و لا نبيّ، و لكن كان عبدا صالحا، ضرب على قرنه الأيمن في طاعة اللّه فمات، ثمّ بعثه اللّه فضرب على قرنه الأيسر فمات، فبعثه اللّه فسمّي ذا القرنين، و فيكم مثله، أراد نفسه». قيل: كان يدعوهم إلى التوحيد فيقتلونه، فيحييه اللّه.

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «سمّي ذا القرنين، لأنّه طاف قرني الدنيا- يعني: جانبيها- شرقها و غربها».

و قيل: له قرنان، أي: ضفيرتان «1». و قيل: انقرض في وقته قرنان من الناس، و عن وهب: لأنّه ملك الروم و فارس. و روي: الروم و الترك. و عنه: كانت صفحتا رأسه من نحاس. و قيل: كان لتاجه قرنان. و قيل: كان على رأسه ما يشبه القرنين. و يجوز أنه لقّب بذلك لشجاعته، كما يسمّى الشجاع كبشا، كأنّه ينطح أقرانه. و كان من الروم ولد عجوز ليس لها ولد غيره.

و عن وهب: أنّه رأى في منامه أنّه دنا من الشمس حتّى أخذ

بقرنيها في شرقها و غربها، فقصّ رؤياه على قومه، فسمّوه ذا القرنين.

و قيل: لأنّه كريم الطرفين، من أهل بيت الشرف من قبل أبيه و أمّه. و السائلون هم اليهود كما مرّ، سألوه امتحانا.

قُلْ سَأَتْلُوا عَلَيْكُمْ مِنْهُ ذِكْراً خطاب للسائلين، و الهاء لذي القرنين.

إِنَّا مَكَّنَّا لَهُ فِي الْأَرْضِ أي: مكّنّا له أمره من التصرّف فيها كيف شاء، فحذف المفعول وَ آتَيْناهُ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ أراده و توجّه إليه، من أغراضه و مقاصده في ملكه سَبَباً طريقا موصلا إليه. و السّبب ما يتوصّل به إلى المطلوب، من العلم و القدرة و الآلة.

فلمّا أراد بلوغ المغرب فَأَتْبَعَ سَبَباً فأتبع سببا يوصل إليه حَتَّى إِذا بَلَغَ مَغْرِبَ الشَّمْسِ

______________________________

(1) الضفيرة: كل خصلة مما ضفر- أي: نسج- على حدتها من الشعر.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 144

موضع غروبها. يعني: نهاية العمارة من جانب المغرب، لا أنّه بلغ موضع الغروب، لأنّه لا يصل إليه أحد. وَجَدَها تَغْرُبُ فِي عَيْنٍ حَمِئَةٍ ذات حمأ، من: حمئت البئر إذا صارت ذات حمأة «1».

و قرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي و أبو بكر: حامية، أي: حارّة. و لا تنافي بينهما، لجواز أن تكون العين جامعة للوصفين.

و

عن أبي ذرّ: «كنت رديف رسول اللّه على جمل فرأى الشمس حين غابت، فقال:

تدري يا أبا ذرّ أين تغرب هذه؟ قلت: اللّه و رسوله أعلم. قال: فإنّها تغرب في عين حامية».

و لعلّه بلغ ساحل المحيط فرآها كذلك، إذ لم يكن في مطمح بصره غير الماء، و لذلك قال: وجدها تغرب، و لم يقل: كانت تغرب.

و قيل إنّ: ابن عبّاس سمع معاوية يقرأ: حامية، فقال: حمئة. فبعث معاوية إلى كعب الأحبار كيف تجد الشمس تغرب؟ قال: في ماء و طين، كذلك نجده

في التوراة.

وَ وَجَدَ عِنْدَها عند تلك العين قَوْماً قيل: كان لباسهم جلود الوحش، و طعامهم ما لفظ البحر، و كانوا كفّارا، فخيّره اللّه بين أن يعذّبهم أو يدعوهم إلى الايمان، كما حكى بقوله: قُلْنا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ إِمَّا أَنْ تُعَذِّبَ بالقتل على كفرهم وَ إِمَّا أَنْ تَتَّخِذَ فِيهِمْ حُسْناً بالإرشاد و تعليم الشرائع.

و قيل: خيّره اللّه بين القتل و الأسر. و سمّاه إحسانا في مقابلة القتل.

و يؤيّد الأوّل قوله: قالَ أَمَّا مَنْ ظَلَمَ فَسَوْفَ نُعَذِّبُهُ ثُمَّ يُرَدُّ إِلى رَبِّهِ فَيُعَذِّبُهُ عَذاباً نُكْراً أي: فاختار الدعوة و قال: أمّا من دعوته فظلم نفسه بالإصرار على كفره، أو استمرّ على ظلمه الّذي هو الشرك، فنعذّبه أنا و من معي في الدنيا بالقتل، و يعذّبه اللّه في الآخرة عذابا منكرا لم يعهد مثله.

______________________________

(1) الحمأة: الطين الأسود.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 145

وَ أَمَّا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً و هو ما يقتضيه الإيمان فَلَهُ في الدارين جَزاءً الْحُسْنى الفعلة الحسنة. و «أمّا» للتقسيم دون التخيير، أي: ليكن شأنك معهم إمّا التعذيب و إمّا الإحسان، فالأوّل لمن أصرّ على الكفر، و الثاني لمن تاب عنه.

و قرأ حمزة و الكسائي و يعقوب و حفص: جزاء، منوّنا منصوبا على الحال، أي:

فله المثوبة الحسنى مجزيّا بها، أو على المصدر لفعله المقدّر حالا، أي: يجزى بها جزاء.

و نداء اللّه إيّاه إن كان نبيّا فبوحي، و إن كان غيره فبإلهام أو على لسان نبيّ.

وَ سَنَقُولُ لَهُ مِنْ أَمْرِنا ممّا نأمر به يُسْراً سهلا ميسّرا غير شاقّ. و تقديره:

ذا يسر. أي: لا نأمره بالصعب الشاقّ، بل بالسهل المتيسّر، من الزكاة و الخراج و غير ذلك.

ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً ثمّ أتبع طريقا يوصله إلى المشرق حَتَّى إِذا بَلَغَ مَطْلِعَ

الشَّمْسِ يعني: الموضع الّذي تطلع الشمس عليه أوّلا من معمورة الأرض وَجَدَها تَطْلُعُ عَلى قَوْمٍ لَمْ نَجْعَلْ لَهُمْ مِنْ دُونِها سِتْراً من جنس اللباس و البناء، فإنّ أرضهم لا تمسك الأبنية. و

عن أحدهما عليهما السّلام قال: «لم يعلموا صنعة البيوت».

و قيل: لأنّهم اتّخذوا الأسراب «1» بدل الأبنية، فإذا ارتفع النهار خرجوا إلى معايشهم.

و عن بعض الثقات: خرجت حتّى جاوزت الصين، فسألت عن هؤلاء، فقيل:

بينك و بينهم مسيرة يوم و ليلة. فبلغتهم فإذا أحدهم يفرش أذنه و يلبس الاخرى، و معي صاحب يعرف لسانهم. فقالوا له: جئتنا تنظر كيف تطلع الشمس؟ قال: فبينا نحن كذلك إذ سمعنا كهيئة الصلصلة «2»، فغشي عليّ، ثمّ أفقت و هم يمسحونني بالدهن، فلمّا طلعت الشمس على الماء إذا هي فوق الماء كهيئة الزيت. فأدخلونا سربا لهم، فلمّا ارتفع النهار خرجوا إلى البحر، فجعلوا يصطادون السمك و يطرحونه في الشمس فينضج لهم.

______________________________

(1) السرب: الحفير تحت الأرض. و جمعه: أسراب.

(2) صلصل الحليّ أو اللجام: صوّت.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 146

كَذلِكَ أي: أمر ذي القرنين كما وصفناه في رفعة المكان و بسطة الملك. أو أمره فيهم كأمره في أهل المغرب من التخيير و الاختيار. و يجوز أن يكون صفة مصدر محذوف ل «وجد»، أو «نجعل» أو صفة «قوم» أي: على قوم مثل ذلك القبيل الّذين تغرب عليهم الشمس في الكفر و الحكم.

وَ قَدْ أَحَطْنا بِما لَدَيْهِ أي: علمنا ما كان عند ذي القرنين من الجنود و الآلات و العدد و الأسباب خُبْراً علما تعلّق بظواهره و خفاياه. و المراد: أنّ كثرة ذلك بلغت مبلغا لا يحيط به إلّا علم اللطيف الخبير.

ثُمَّ أَتْبَعَ سَبَباً يعني: طريقا ثالثا معترضا بين المشرق و المغرب، أخذا من الجنوب

إلى الشمال حَتَّى إِذا بَلَغَ بَيْنَ السَّدَّيْنِ هما جبلان سدّ ذو القرنين ما بينهما.

و هما جبلا أرمينية و أذربيجان. و قيل: جبلان في أواخر الشمال، في منقطع أرض الترك، من ورائهما يأجوج و مأجوج. و قيل: إنّ هذا السدّ وراء بحر الروم، على مؤخّرهما البحر المحيط.

و قرأ نافع و ابن عامر و الكسائي و أبو بكر و يعقوب: بين السّدّين بالضمّ. و هما لغتان. و قيل: المضموم لما خلقه اللّه بمعنى المفعول، و المفتوح لما عمله الناس، لأنّه في الأصل مصدر سمّي به حدث يحدثه الناس. و قيل: بالعكس.

و «بين» هاهنا مفعول به، كما انجرّ على الإضافة، كقوله: هذا فِراقُ بَيْنِي وَ بَيْنِكَ «1». و كما ارتفع في قوله: لَقَدْ تَقَطَّعَ بَيْنَكُمْ «2» لأنّه من الظروف الّتي تستعمل أسماء و ظروفا.

وَجَدَ مِنْ دُونِهِما قَوْماً لا يَكادُونَ يَفْقَهُونَ قَوْلًا إلّا بجهد و مشقّة، من إشارة و نحوها كما يفهم البكم، لغرابة لغتهم، و قلّة فطنتهم.

______________________________

(1) الكهف: 78.

(2) الأنعام: 94.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 147

و قرأ حمزة و الكسائي: يفقهون، أي: لا يفهمون السامع كلامهم و لا يبينونه، لتلعثمهم «1» فيه.

قالُوا يا ذَا الْقَرْنَيْنِ أي: قال مترجمهم إِنَّ يَأْجُوجَ وَ مَأْجُوجَ قبيلتان من ولد يافث بن نوح. و قيل: يأجوج من الترك، و مأجوج من الجيل و الديلم. و هما اسمان أعجميّان بدليل منع الصرف. و قيل: عربيّان، من: أجّ الظليم «2» إذا أسرع. و أصلهما الهمز، كما قرأ عاصم. و منع صرفهما للتعريف و التأنيث. مُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ أي: في أرضنا، بالقتل و التخريب و إتلاف الزروع. قيل: كانوا يخرجون في الربيع، فلا يتركون أخضر إلّا أكلوه، و لا يابسا إلّا احتملوه، و قيل: كانوا يأكلون الناس

و الدوابّ.

ورد في الخبر عن حذيفة قال: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن يأجوج و مأجوج، فقال: «يأجوج أمّة و مأجوج أمّة، لا يموت منهم أحد حتّى ينظر إلى ألف ذكر من صلبه كلّ قد حمل السلاح. قلت: يا رسول اللّه صفهم لنا. قال: هم ثلاثة أصناف: صنف منهم أمثال الأرز. قلت: يا رسول اللّه و ما الأرز؟ قال: شجر بالشام طوال. و صنف منهم طولهم و عرضهم سواء، و هؤلاء الّذين لا يقوم لهم خيل و لا حديد. و صنف منهم يفترش أحدهم إحدى أذنيه و يلتحف بالأخرى، و لا يمرّون بفيل و لا وحش و لا جمل و لا خنزير إلّا أكلوه، و من مات منهم أكلوه، مقدّمتهم بالشام، و ساقتهم بخراسان، يشربون أنهار المشرق و بحيرة طبرية».

و في الكشّاف «3»: «هم على صنفين: طوال مفرطو الطول، و قصار مفرطو القصر».

فَهَلْ نَجْعَلُ لَكَ خَرْجاً جعلا نخرجه من أموالنا. و قرأ حمزة و الكسائي: خراجا.

و كلاهما واحد، كالنول و النوال. و قيل: الخراج على الأرض و الذمّة، و الخرج المصدر.

______________________________

(1) تلعثم في الأمر: توقّف فيه و تأنّى.

(2) الظليم: الذكر من النعام.

(3) الكشّاف 2: 746- 747.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 148

عَلى أَنْ تَجْعَلَ بَيْنَنا وَ بَيْنَهُمْ سَدًّا يحجز دون خروجهم علينا. و قد ضمّه من ضمّ السدّين غير حمزة و الكسائي.

قالَ ما مَكَّنِّي فِيهِ رَبِّي خَيْرٌ ما جعلني فيه مكينا من كثرة المال و الملك خير ممّا تبذلون لي من الخراج، و لا حاجة بي إليه، كما قال سليمان عليه السّلام: فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ «1». و قرأ ابن كثير: مكّنني على الأصل.

فَأَعِينُونِي بِقُوَّةٍ أي: بقوّة فعلة و صنّاع

يحسنون البناء، أو بما أتقوّى به من الآلات أَجْعَلْ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَهُمْ رَدْماً حاجزا حصينا موثقا هو أكبر من السدّ، من قولهم:

ثوب مردّم إذا كان رقاعا فوق رقاع.

آتُونِي زُبَرَ الْحَدِيدِ قطعه. و الزبرة القطعة الكبيرة. و هو لا ينافي ردّ الخراج و الاقتصار على المعونة، لأنّ الإيتاء بمعنى المناولة. و يدلّ عليه قراءة أبي بكر: ردما ائتوني، بكسر التنوين موصولة الهمزة، على معنى: جيئوني بزبر الحديد. و الباء محذوفة، حذفها في: أمرتك الخير. و لأن إعطاء الآلة من الإعانة بالقوّة، دون الخراج على العمل.

حَتَّى إِذا ساوى بَيْنَ الصَّدَفَيْنِ سوّى بين جانبي الجبلين، بأن أمر بتنضيدها.

و قرأ ابن كثير و ابن عامر و البصريّان بضمّتين، و أبو بكر بضمّ الصاد و سكون الدال، من الصدف و هو الميل، لأنّ كلّا منهما منعزل عن الآخر، و منه التصادف للتقابل.

قالَ انْفُخُوا أي: قال للعملة: انفخوا في الأكوار «2» و الحديد حَتَّى إِذا جَعَلَهُ جعل المنفوخ فيه ناراً كالنار بالإحماء قالَ آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً أي:

آتوني قطرا- أي: نحاسا مذابا- أفرغ عليه قطرا، لينسدّ الثقب الّذي فيه، و يصير جدارا مصمتا. و كانت حجارته الحديد، و طينه النحاس الذائب. فحذف المفعول الأوّل لدلالة الثاني عليه. و به تمسّك البصريّون على أنّ إعمال الثاني من العاملين المتوجّهين نحو

______________________________

(1) النمل: 36.

(2) الكور: كور الحدّاد المبنيّ من الطين. و جمعه أكوار.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 149

معمول واحد أولى، إذ لو كان «قطرا» مفعول «آتوني» لأضمر مفعول «أفرغ» حذرا من الالتباس. و قرأ حمزة و أبو بكر: قال ائتوني موصولة الألف.

و قيل: حفر للأساس حتّى بلغ الماء، و جعل الأساس من الصخر و النحاس المذاب، و البنيان من زبر الحديد بينها الحطب و الفحم،

حتّى سدّ ما بين الجبلين إلى أعلاهما، ثم وضع المنافيخ حتّى صارت كالنار، فصبّ النحاس المذاب على الحديد المحمى، فاختلط و التصق بعضه ببعض، و صار جبلا صلدا.

و قيل: بعد ما بين السدّين مائة فرسخ، و مقدار ارتفاع السدّ مائتا ذراع، و عرض الحائط نحو من خمسين ذراعا.

قيل: بناه من الصخور مرتبطا بعضها ببعض، بكلاليب من حديد و نحاس مذاب في تجاويفها.

و

عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنّ رجلا أخبره به، فقال: كيف رأيته؟ قال: كالبرد المحبّر، طريقة سوداء و طريقة حمراء، قال: قد رأيته».

فَمَا اسْطاعُوا بحذف التاء حذرا من تلاقي متقاربين. و قرأ حمزة بالإدغام، جامعا بين الساكنين على غير حدّه. أَنْ يَظْهَرُوهُ أن يعلوه بالصعود، لارتفاعه و انملاسه وَ مَا اسْتَطاعُوا لَهُ نَقْباً لثخنه و صلابته.

قالَ هذا هذا السدّ، أو الإقدار و التمكين على تسويته رَحْمَةٌ مِنْ رَبِّي على عباده فَإِذا جاءَ وَعْدُ رَبِّي فإذا دنا وقت وعده بخروج يأجوج و مأجوج، أو بقيام الساعة، بأن شارف يوم القيامة جَعَلَهُ دَكَّاءَ مدكوكا مبسوطا مسوّى بالأرض. مصدر بمعنى المفعول. و منه: جمل أدكّ لمنبسط السنام. و قرأ الكوفيّون: دكّاء بالمدّ، أي: أرضا مستوية. وَ كانَ وَعْدُ رَبِّي حَقًّا كائنا لا محالة. و إنّما يكون ذلك بعد قتل عيسى بن مريم الدجّال.

و

جاء في الحديث: «أنّهم يدأبون في حفره نهارهم، حتّى إذا أمسوا و كادوا

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 150

يبصرون شعاع الشمس قالوا: نرجع غدا و نفتحه و نخرج، و لا يستثنون. فيعودون من الغد قد استوى كما كان، حتّى إذا جاء وعد اللّه قالوا: غدا نفتح و نخرج إن شاء اللّه، فيعودون إليه و هو كهيئته حين تركوه بالأمس، فيخرقونه و يخرجون

على الناس، فينشفون المياه، و يتحصّن الناس في حصونهم منهم، فيرمون سهامهم إلى السماء فترجع و فيها كهيئة الدماء، و يقولون: قد قهرنا أهل الأرض و علونا أهل السماء. فبعث اللّه عليهم نغفا «1» في أقفائهم، فيدخل آذانهم فيهلكون بها. فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و الّذي نفس محمد بيده إنّ دوابّ الأرض لتسمن و تسكر من لحومهم سكرا».

و في تفسير الكلبي: إنّ الخضر و اليسع يجتمعان كلّ ليلة على ذلك السدّ، يحجبان يأجوج و مأجوج عن الخروج».

[سورة الكهف (18): الآيات 99 الى 106]

وَ تَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً (99) وَ عَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً (100) الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي وَ كانُوا لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً (101) أَ فَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلاً (102) قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالاً (103)

الَّذِينَ ضَلَّ سَعْيُهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً (104) أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ وَ لِقائِهِ فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً (105) ذلِكَ جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ بِما كَفَرُوا وَ اتَّخَذُوا آياتِي وَ رُسُلِي هُزُواً (106)

______________________________

(1) في هامش النسخة الخطّية: «النغف: دود يكون في أنف الغنم. منه».

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 151

زبدة التفاسير ج 4 199

ثمّ أخبر سبحانه عن تلك الأمم، فقال: وَ تَرَكْنا بَعْضَهُمْ يَوْمَئِذٍ و جعلنا بعض يأجوج و مأجوج حين يخرجون ممّا وراء السدّ يَمُوجُ فِي بَعْضٍ يموجون في بعض مزدحمين في البلاد. أو يموج بعض الخلق في بعض، فيضطربون و يختلطون إنسهم و جهنّم حيارى. و يؤيّده وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ لقيام الساعة.

و اختلفوا في الصور، فعن ابن عبّاس:

هو قرن ينفخ فيه. و عن الحسن: هو جمع صورة، و أنّ اللّه سبحانه يصوّر الخلق في القبور كما صوّرهم في الأرحام، ثمّ ينفخ فيهم الأرواح كما ينفخ في أرحام أمّهاتهم.

و قيل: إنّه ينفخ إسرافيل في الصور ثلاث نفخات. فالنفخة الأولى: نفخة الفزع.

و الثانية: نفخة الصعق الّتي يصعق من في السماء و الأرض بها فيموتون. و الثالثة: نفخة القيام، فيحشرهم بها في قبورهم لربّ العالمين.

فَجَمَعْناهُمْ جَمْعاً للحساب و الجزاء في صعيد واحد.

وَ عَرَضْنا جَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ لِلْكافِرِينَ عَرْضاً و أبرزناها و أظهرناها لهم، فرأوها و شاهدوها مع ألوان عذابها قبل دخولها.

الَّذِينَ كانَتْ أَعْيُنُهُمْ فِي غِطاءٍ عَنْ ذِكْرِي أي: غفلوا عن آياتي الّتي ينظر إليها، فأذكر بالتوحيد و التعظيم، فأعرضوا عن التفكّر فيها وَ كانُوا فصاروا بمنزلة من يكون في عينه غطاء يمنعه من الإدراك لا يَسْتَطِيعُونَ سَمْعاً أي: يثقل عليهم استماع ذكري و كلامي، لإفراط صممهم عن الحقّ، فإنّ الأصمّ قد يستطيع السمع إذا صيح به، و هؤلاء كأنّهم أصمت مسامعهم بالكلّيّة، فلا استطاعة بهم للسمع.

أَ فَحَسِبَ الَّذِينَ كَفَرُوا أ فظنّوا، و الاستفهام للإنكار أَنْ يَتَّخِذُوا عِبادِي و هم

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 152

الملائكة و المسيح مِنْ دُونِي أَوْلِياءَ معبودين نافعهم؟ أو لا أعذّبهم به؟ فحذف المفعول الثاني كما يحذف الخبر للقرينة، أو سدّ «أن يتّخذوا» مسدّ مفعوليه. إِنَّا أَعْتَدْنا جَهَنَّمَ لِلْكافِرِينَ نُزُلًا ما يقام للنزيل، و هو الضيف. و فيه تهكّم. و نحوه: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «1». و تنبيه على أنّ لهم وراءها من العذاب ما تستحقرونه.

قُلْ هَلْ نُنَبِّئُكُمْ بِالْأَخْسَرِينَ أَعْمالًا نصب على التمييز. و جمع لأنّه من أسماء الفاعلين، أو لتنوّع أعمالهم، أي: بأخسر الناس أعمالا.

الَّذِينَ ضَلَ ضاع و بطل سَعْيُهُمْ و اجتهادهم فِي

الْحَياةِ الدُّنْيا لكفرهم و عجبهم، كالرهابنة، فإنّهم خسروا دنياهم و أخراهم. و محلّه الرفع على الخبر المحذوف، فإنّه جواب السؤال. أو الجرّ على البدل. أو النصب على الذمّ. وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً بعجبهم و اعتقادهم أنّهم على الحقّ.

روى العيّاشي بإسناده قال: «قام ابن الكوّاء إلى أمير المؤمنين عليه السّلام فسأله عن أهل هذه الآية. فقال: أولئك أهل الكتاب كفروا بربّهم، و ابتدعوا في دينهم، فحبطت أعمالهم.

و أهل النهر منهم ليسوا ببعيد. يعني: الخوارج» «2».

و

في رواية أخرى قال عليه السّلام: «منهم أهل الحروراء» « «3»».

أُولئِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ بالقرآن، أو بدلائله المنصوبة على التوحيد و النبوّة وَ لِقائِهِ بالبعث على ما هو عليه، أو لقاء عذابه فَحَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ ضاعت و بطلت بكفرهم، فلا يثابون عليها، لأنّهم أوقعوها على خلاف الوجه الّذي أمرهم اللّه به فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً فنزدري بهم، و لا نجعل لهم مقدارا و اعتبارا. و قيل: لا نضع لهم ميزانا يوزن به أعمالهم، لانحباطها، لأن الميزان إنّما يوضع لأهل الحسنات و السيّئات من الموحّدين.

______________________________

(1) الانشقاق: 24.

(2، 3) تفسير العيّاشي 2: 352 ح 89، 90.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 153

و عن أبي سعيد الخدري: يأتي ناس بأعمال يوم القيامة في العظم كجبال تهامة، فإذا وزنوها لم تزن شيئا.

و

روي في الصحيح أن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «إنّه ليأتي الرجل العظيم السمين يوم القيامة لا يزن جناح بعوضة».

ذلِكَ أي: الأمر ذلك الّذي ذكرت، من حبوط أعمالهم و خسّة قدرهم. و قوله:

جَزاؤُهُمْ جَهَنَّمُ جملة مبيّنة له. و يجوز أن يكون «ذلك» مبتدأ، و الجملة خبره، و العائد محذوف، أي: جزاؤهم به. أو «جزاؤهم» بدله، و «جهنّم» خبره. أو

«جزاؤهم» خبره، و «جهنّم» عطف بيان للخبر. بِما كَفَرُوا وَ اتَّخَذُوا آياتِي وَ رُسُلِي هُزُواً أي:

بسبب ذلك.

[سورة الكهف (18): الآيات 107 الى 108]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلاً (107) خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلاً (108)

و لمّا تقدّم ذكر حال الكافرين، عقّبه سبحانه بذكر حال المؤمنين، فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كانَتْ لَهُمْ جَنَّاتُ الْفِرْدَوْسِ نُزُلًا فيما سبق من حكم اللّه و وعده. و الفردوس أعلى درجات الجنّة و أفضلها. و أصله البستان الّذي يجمع الكرم و النخيل.

روى عبادة بن الصامت عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «الجنّة مائة درجة، ما بين كلّ درجتين كما بين السماء و الأرض، الفردوس أعلاها درجة، منها تفجر أنهار الجنّة الأربعة، فإذا سألتم اللّه فاسألوه الفردوس».

خالِدِينَ فِيها لا يَبْغُونَ عَنْها حِوَلًا تحوّلا، إذ لا يجدون أطيب منها حتّى تنازعهم إليه أنفسهم. و يجوز أن يراد به تأكيد الخلود. و هذه غاية الوصف، لأنّ الإنسان في الدنيا في أيّ نعيم كان فهو طامح الطرف إلى أرفع منه.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 154

[سورة الكهف (18): الآيات 109 الى 110]

قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي لَنَفِدَ الْبَحْرُ قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي وَ لَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ مَدَداً (109) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ فَلْيَعْمَلْ عَمَلاً صالِحاً وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً (110)

و اعلم أنّه قد مرّ «1» في سورة بني إسرائيل أنّ اليهود قالوا: في كتابكم: وَ مَنْ يُؤْتَ الْحِكْمَةَ فَقَدْ أُوتِيَ خَيْراً كَثِيراً «2» ثمّ تقرؤون: وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا «3»، فنزلت: قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ جنس البحر مِداداً ما يكتب به. و هو اسم ما يمدّ به الشي ء، كالحبر للدواة، و السليط «4» للسراج. لِكَلِماتِ رَبِّي لكلمات علمه و حكمته، و

مقدوراته و عجائبه لَنَفِدَ الْبَحْرُ لنفد جنس البحر بأسره، لأنّ كلّ جسم متناه قَبْلَ أَنْ تَنْفَدَ كَلِماتُ رَبِّي فإنّها غير متناهية فلا تنفد وَ لَوْ جِئْنا بِمِثْلِهِ بمثل البحر الموجود مَدَداً زيادة و معونة، لأنّ مجموع المتناهيين متناه، بل مجموع ما يدخل في الوجود من الأجسام لا يكون إلّا متناهيا، للدلائل القاطعة على تناهي الأبعاد، و المتناهي ينفد قبل أن ينفد غير المتناهي لا محالة.

و نصبه للتمييز، كقولك: لي مثله رجلا. و هو مثل المدد معنى. و المعنى: أنّ الحكمة و إن كانت خيرا كثيرا في نفسه، لكنّه قطرة من بحر كلمات اللّه.

______________________________

(1) راجع ص 67- 68 ذيل الآية 85 من سورة الإسراء.

(2) البقرة: 269.

(3) الإسراء: 85.

(4) في هامش النسخة الخطّية: «دهن الزيت. منه».

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 155

قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ لا أدّعي الإحاطة على كلماته.

عن ابن عبّاس: علّم اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم التواضع لئلّا يزهى على خلقه، فأمره أن يقرّ على نفسه بأنّه آدميّ كغيره، إلّا أنّه أكرم بالوحي. و هو قوله: يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ و إنّما ميّزت عنكم بذلك. يعني: لا فضل لي عليكم إلّا بالدين و النبوّة، و لا علم لي إلّا ما علّمنيه اللّه تعالى.

فَمَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ رَبِّهِ يأمل حسن جزائه عند ربّه فَلْيَعْمَلْ عَمَلًا صالِحاً خالصا للّه، يتقرّب به إليه، بحيث يرتضيه وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً من ملك أو بشر، أو حجر أو شجر. و الأكثر أنّ معناه لا يرائيه.

و عن عطاء، عن ابن عبّاس: أنّ اللّه تعالى قال: «وَ لا يُشْرِكْ بِعِبادَةِ رَبِّهِ أَحَداً» و لم يقل: و لا يشرك به، لأنّه أراد العمل الّذي يعمل للّه،

و يحبّ أن يحمد عليه.

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «اتّقوا الشرك الأصغر. قالوا: و ما الشرك الأصغر؟ قال: الرياء».

و

روي عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «قال اللّه عز و جل: أنا أغنى الشركاء عن الشرك، فمن عمل عملا أشرك فيه معي غيري فأنا منه بري ء، فهو للّذي أشرك». رواه مسلم في الصحيح «1».

و

روي عن عبادة بن الصامت و شدّاد بن أوس قالا: سمعنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «من صلّى صلاة يرائي بها فقد أشرك، و من صام صوما يرائي به فقد أشرك، ثمّ قرأ هذه الآية».

و

روي أنّ جندب بن زهير قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّي لأعمل العمل للّه، فإذا اطّلع عليه سرّني. فقال: إنّ اللّه لا يقبل ما شورك فيه. فنزلت تصديقا له».

و

روي: «أنّ أبا الحسن الرضا عليه السّلام دخل يوما على المأمون فرآه يتوضّأ للصلاة و الغلام يصبّ على يده الماء، فقال: لا تشرك بعبادة ربّك أحدا. فصرف المأمون الغلام، و تولّى إتمام وضوئه بنفسه».

______________________________

(1) صحيح مسلم 4: 2289 ح 46.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 156

و قيل: معناه: و لا يطلب منه أجرا. و يؤيّده ما

روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «ما عبدتك طمعا لثوابك، و خوفا من نارك، بل وجدتك أهلا للعبادة فعبدتك».

و قيل: هذه الآية آخر آية نزلت من القرآن.

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأها- أي: هذه الآية- عند مضجعه كان له نورا في مضجعه يتلألأ إلى مكّة، حشو ذلك النور ملائكة يصلّون عليه حتّى يقوم. فإن كان مضجعه بمكّة كان له نورا يتلألأ من مضجعه إلى

البيت المعمور، حشو ذلك ملائكة يصلّون عليه حتّى يستيقظ».

و مثله ما

روى الشيخ أبو جعفر بن بابويه رحمه اللّه بإسناده عن عيسى بن عبد اللّه، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ عليه السّلام قال: «ما من عبد يقرأ «قل إنّما أنا بشر مثلكم» إلى آخر الآية، إلّا كان له نورا في مضجعه إلى بيت اللّه الحرام، فإن كان من أهل البيت الحرام كان له نورا إلى بيت المقدس».

و

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «ما من أحد يقرأ آخر الكهف عند النوم إلّا يتيقّظ في الساعة الّتي يريدها».

قيل في وجه اتّصال «قُلْ لَوْ كانَ الْبَحْرُ مِداداً لِكَلِماتِ رَبِّي» بما قبلها: إنّه لمّا تقدّم الأمر و النهي و الوعد و الوعيد، عقّب ذلك سبحانه ببيان أنّ مقدوراته لا تتناهى، و أنّه قادر على ما يشاء في أفعاله و أوامره على حسب المصالح، فمن الواجب على المكلّف أن يمتثل أمره و نهيه، و يثق بوعده، و يتّقي وعيده.

تمّت هذه المجلّدة بحمد اللّه و حسن توفيقه، و الصلاة على محمد و آله الطيّبين الطاهرين

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 157

(19) سورة مريم

اشارة

مكّيّة بالإجماع. و هي ثمان و تسعون آية. و

في حديث أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأ سورة مريم أعطي من الأجر بعدد من صدّق بزكريّا و كذّب به، و بيحيى و مريم و عيسى و موسى و هارون و إبراهيم و إسحاق و يعقوب و إسماعيل عشر حسنات، و بعدد من دعا اللّه في الدنيا، و بعدد من لم يدع اللّه».

و

قال الصادق عليه السّلام: «من أدمن قراءة سورة مريم لم يمت في الدنيا حتّى يصيب ما يغنيه في ماله و ولده، و كان

في الآخرة من أصحاب عيسى بن مريم، و أعطي من الأجر في الآخرة ملك سليمان بن داود في الدنيا».

و اعلم أنّه سبحانه لمّا ختم سورة الكهف بذكر التوحيد و الدعاء إليه، افتتح هذه السورة بذكر الأنبياء الّذين كانوا على تلك الطريقة، بعثا على الاقتداء بهم، و حثّا على الاهتداء بهديهم، فقال:

[سورة مريم (19): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

كهيعص (1) ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ عَبْدَهُ زَكَرِيَّا (2) إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا (3) قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِّ شَقِيًّا (4)

وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا (5) يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا (6)

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 158

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ كهيعص أمال أبو عمرو الهاء، لأنّ ألفات أسماء التهجّي عنده ياءات. و ابن عامر و حمزة الياء. و الكسائي و أبو بكر كليهما. و نافع بين بين.

و نافع و ابن كثير و عاصم يظهرون دال الهجاء عند الذال، و الباقون يدغمونها.

و قد ذكرنا في أوّل سورة البقرة اختلاف العلماء في حروف المعجم الّتي في أوائل السور، و شرحنا أقوالهم هناك. و قيل هاهنا: إنّها اسم هذه السورة، أو اسم القرآن.

و حدّث عطاء بن ثابت، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس أنّه قال: إنّ «كاف» من كريم، و «ها» من هاد، و «يا» من حكيم، و «عين» من عليم، و «صاد» من صادق.

و في رواية عطاء و الكلبي عنه: أنّ معناه: كاف لخلقه، هاد لعباده، يده فوق أيديهم، عالم ببريّته، صادق بوعده، فإنّ كلّ واحدة من هذه الحروف تدلّ على صفة من صفات اللّه عز و

جلّ.

و عند بعضهم أنّ الياء إشارة إلى: يا من يجير و لا يجار عليه. و

روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال في دعائه: «أسألك يا كهيعص يا حمسق».

ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ خبر ما قبله إن أوّل بالسورة أو القرآن، فإنّه مشتمل عليه. أو خبر محذوف، أي: هذا المتلوّ ذكر رحمة ربّك. أو مبتدأ حذف خبره، أي: فيما يتلى عليك ذكر رحمة ربّك. عَبْدَهُ مفعول الرحمة أو الذكر، على أنّ الرحمة فاعل الذكر على الاتّساع، كقولك: ذكرني جود زيد زَكَرِيَّا بدل من «عبده»، أو عطف بيان له.

و المراد بالرحمة إجابته إيّاه حين دعاه و سأله الولد. و زكريّا اسم نبيّ من أنبياء بني

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 159

إسرائيل، كان من أولاد هارون بن عمران.

إِذْ نادى رَبَّهُ نِداءً خَفِيًّا دعا ربّه دعاء خفيّا. و الإخفاء و الجهر و إن كانا سيّان عند اللّه، لكن الإخفاء أشدّ إخباتا و أكثر إخلاصا. و

في الحديث: «خير الدعاء الخفيّ، و خير الرزق ما يكفي».

و قيل: قيّد النداء به لئلّا يهزؤا به على طلب الولد وقت الشيخوخة، فيقولوا: انظروا إلى الشيخ الهمّ يسأل الولد على الكبر. أو لئلّا يطّلع عليه مواليه الّذين خافهم. أو لأنّ ضعف الهرم أخفى صوته.

و اختلف في سنّة حينئذ، فقيل: ستّون. و قيل: سبعون. و قيل: خمس و سبعون.

و قيل: خمس و ثمانون. و قيل: تسع و تسعون.

ثمّ فسّر النداء بقوله: قالَ رَبِّ إِنِّي وَهَنَ الْعَظْمُ مِنِّي أي: ضعف. و تخصيص العظم لأنّه دعامة البدن و قوامه و أصل بنيانه، فإذا وهن تساقطت قوّته. و لأنّه أصلب ما فيه، فإذا ضعف كان ما وراءه أضعف. و توحيده لأنّ الواحد هو الدالّ على معنى الجنس، و قصده إلى أنّ

هذا الجنس الّذي هو العمود و القوام و أشدّ ما تركّب منه الجسد قد أصابه الوهن. و لو جمع لكان يفيد معنى آخر، و هو أنّه لم يهن منه بعض عظامه و لكن كلّها.

وَ اشْتَعَلَ الرَّأْسُ شَيْباً أدغم أبو عمرو السين في الشين. شبّه الشيب في بياضه و إنارته بشواظ «1» النار، و انتشاره و فشوّه في الشعر و أخذه منه كلّ مأخذ باشتعالها.

ثمّ أخرجه مخرج الاستعارة، و أسند الاشتعال إلى الرأس الّذي هو مكان الشيب و منبته مبالغة. و جعله مميّزا إيضاحا للمقصود. و اكتفى باللام عن الإضافة، للدلالة على أنّ علم المخاطب بتعيّن المراد يغني عن التقييد. و لهذا فصحت هذه الجملة، و شهد لها بالبلاغة.

وَ لَمْ أَكُنْ بِدُعائِكَ رَبِ بدعائي إيّاك فيما مضى شَقِيًّا محروما، بل كلّما دعوتك استجبت لي. و هو توسّل بما سلف معه من الاستجابة، و تنبيه على أنّ المدعوّ له

______________________________

(1) الشواظ: لهب لا دخان فيه.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 160

و إن لم يكن معتادا فإجابته معتادة، و أنّه تعالى عوّده بالإجابة و أطمعه فيها، و من حقّ الكريم أن لا يخيب من أطمعه. و المعنى: أنّك ما خيّبتني فيما سألتك، و لا حرّمتني الاستجابة.

و

عن بعضهم: أنّ محتاجا سأله و قال: أنا الّذي أحسنت إليّ وقت كذا. فقال: مرحبا بمن توسّل بنا إلينا، فقضى حاجته.

وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ يعني: بني عمّه. و عن ابن عبّاس: هم الكلالة. و كانوا أشرار بني إسرائيل، فخاف على الدين أن يغيّروه، و يبدّلوا على أمّته أحكام ملّته. مِنْ وَرائِي من بعد موتي. و عن ابن كثير: بالمدّ و القصر «1» و فتح الياء. و هذا الظرف لا يتعلّق ب «خفت»، لفساد المعنى، لأنّ

بعد الموت لا يكون الخوف، و لكن بمحذوف، أو بمعنى الولاية في الموالي، أي: خفت فعل الموالي، و هو تبديلهم و سوء خلافتهم من ورائي، أو خفت الّذين يلون الأمر من ورائي.

وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً لا تلد فَهَبْ لِي مِنْ لَدُنْكَ وَلِيًّا من صلبي، يليني و يكون أولى بميراثي، فإنّ مثل هذه الهيئة لا يرجى إلّا من فضلك و كمال قدرتك، فإنّي و امرأتي لا نصلح للولادة.

يَرِثُنِي وَ يَرِثُ مِنْ آلِ يَعْقُوبَ صفتان له. و جزمهما أبو عمرو و الكسائي على أنّهما جواب الدعاء. و المراد يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم عليهم السّلام، فإنّ زكريّا كان من ولد هارون، و هو من ولد لاوي بن يعقوب. و قيل: يعقوب أخو زكريّا، أو أخو عمران بن ماثان من نسل سليمان.

و اختلف في معنى هذا الإرث، فقيل: معناه: يرثني مالي، و يرث من آل يعقوب النبوّة. و قيل: يرثني نبوّتي و نبوّة آل يعقوب. و قيل: يرثني الحبورة، فإنّه كان حبرا، و يرث من آل يعقوب الملك.

______________________________

(1) أي: وراي.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 161

و أصحابنا رضوان اللّه عليهم استدلّوا بهذه الآية على أنّ الأنبياء يرثون المال، و أنّ المراد بالإرث فيها المال دون العلم و النبوّة، لأنّ لفظ الميراث في اللغة و الشريعة لا يطلق إلّا على ما ينقل من الموروث إلى الوارث كالأموال، و لا يستعمل في غير المال إلّا على طريق المجاز، و لا يجوز الانتقال من الحقيقة إلى المجاز بغير دليل.

و أيضا فإنّ زكريّا عليه السّلام قال في دعائه: وَ اجْعَلْهُ رَبِّ رَضِيًّا أي: اجعل يا ربّ ذلك الوليّ الّذي يرثني مرضيّا عندك قولا و فعلا، ممتثلا لأمرك. و متى حملنا الإرث على النبوّة- كما

زعم العامّة- لم يكن لذلك معنى، و كان لغوا. ألا ترى أنّه لا يحسن أن يقول أحد: اللّهمّ ابعث إلينا نبيّا و اجعله مرضيّا في أخلاقه، لأنّه إذا كان نبيّا فقد دخل الرضا و ما هو أعظم منه في النبوّة.

و يقوّي ما قلناه: أنّ زكريّا عليه السّلام صرّح بأنّه يخاف بني عمّه بعده بقوله: «وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ مِنْ وَرائِي». و إنّما يطلب وارثا لأجل خوفه، و لا يليق خوفه منهم إلّا بالمال دون النبوّة و العلم، لأنّه كان أعلم باللّه من أن يخاف أن يبعث نبيّا من ليس بأهل للنبوّة، و أن يورث علمه و حكمته من ليس لهما بأهل. و لأنّه إنّما بعث لإذاعة العلم و نشره في الناس، فكيف يخاف من الأمر الّذي هو الغرض في بعثته؟! فعلى هذا التحقيق: المراد بقوله: «وَ إِنِّي خِفْتُ الْمَوالِيَ» خفت تضييع الموالي مالي، و إنفاقهم إيّاه في معصية اللّه عزّ و جلّ. فاستجاب اللّه دعاءه، و أوحى إليه وعدا بإجابة دعائه.

[سورة مريم (19): الآيات 7 الى 10]

يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا (7) قالَ رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا (8) قالَ كَذلِكَ قالَ رَبُّكَ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً (9) قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً قالَ آيَتُكَ أَلاَّ تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا (10)

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 162

يا زَكَرِيَّا إِنَّا نُبَشِّرُكَ بِغُلامٍ اسْمُهُ يَحْيى إنّا نخبرك على ألسنة الملائكة بخبر يرى السرور في وجهك، و هو أن يولد لك ابن اسمه يحيى لَمْ نَجْعَلْ لَهُ مِنْ قَبْلُ سَمِيًّا لم يسمّ أحد بيحيى قبله.

و

قال الصادق عليه السّلام:

«و كذلك الحسين عليه السّلام لم يكن له من قبل سمّي، و لم تبك السماء إلّا عليهما أربعين صباحا. قيل له: و ما كان بكاؤها؟ قال: كانت تطلع حمراء و تغيب حمراء، و كان قاتل الحسين ولد زنا، و قاتل يحيى ولد زنا».

و

روى سفيان بن عيينة، عن عليّ بن زيد، عن عليّ بن الحسين عليه السّلام قال: «خرجنا مع الحسين عليه السّلام، فما نزل منزلا و لا ارتحل منه إلّا ذكر يحيى بن زكريّا و قتله. و قال يوما:

و من هوان الدنيا على اللّه عزّ و جلّ أنّ رأس يحيى بن زكريّا أهدي إلى بغيّ من بغايا بني إسرائيل».

و في الآية إشارة إلى أنّ التسمية بالأسامي النادرة الغريبة الّتي لم يسبق إليها أحد تنويه للمسمّى. و يحتمل أن يكون شرافته و فضله من حيث إنّ اللّه تولّى تسميته، و لم يكلها إلى الأبوين.

و هو منقول عن فعل، ك: يعيش و يعمر و يزيد. و قيل: سمّي به لأنّه حيي به رحم أمّه، أو لأنّ دين اللّه يحيى بدعوته. و الأظهر أنّه أعجميّ.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 163

و قيل: «سميّا»: شبيها، كقوله: هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا «1» لأنّ كلّ متشاكلين يسمّى كلّ واحد منهما باسم المثل و الشبيه و الشكل و النظير، فكلّ واحد منهما سمّي لصاحبه.

و قالوا: لم يكن له مثل في أنّه لم يعص، و لم يهتمّ بمعصية قطّ. و أنّه ولد بين شيخ فإن و عجوز عاقر. و أنّه كان حصورا، أي: كان على صفة العقر.

قالَ استعجابا لا استبعادا رَبِّ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ كانَتِ امْرَأَتِي عاقِراً وَ قَدْ بَلَغْتُ مِنَ الْكِبَرِ عِتِيًّا جساوة «2» و يبسا في المفاصل و العظام. و أصله:

عتوو، كقعود، فاستثقلوا توالي الضمّتين و الواوين، فكسروا التاء، فانقلبت الواو الأولى ياء، ثمّ قلبت الثانية و أدغمت. و قرأ حمزة و الكسائي و حفص: عتيّا بالكسر.

قال الحسن: إنّما قال ذلك على جهة الاستخبار، أي: أ تعيدنا شابّين أم ترزقنا الولد شيخين؟! و قيل: إنّما استعجب الولد من شيخ فان و عجوز عاقر، اعترافا بأنّ المؤثّر فيه كمال قدرته، و أنّ الوسائط عند التحقيق ملغاة، و لذلك قالَ أي: اللّه، أو الملك المبلّغ للبشارة، تصديقا له: كَذلِكَ الأمر كذلك.

و يجوز أن تكون الكاف منصوبة ب «قال» في قالَ رَبُّكَ و ذلك إشارة إلى مبهم يفسّره هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ فأردّ عليك قوّتك حتّى تقوى على الجماع، و أفتق رحم امرأتك بالولد، و لا أحتاج فيما أريد أن أفعله إلى الأسباب. و نحو ذلك قوله: وَ قَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ مَقْطُوعٌ مُصْبِحِينَ «3» و «أَنَّ دابِرَ هؤُلاءِ» مفسّر لذلك.

و يجوز أن يكون مفعول «قال» الثاني محذوفا، أي: أفعل ذلك هو عليّ هيّن.

وَ قَدْ خَلَقْتُكَ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ تَكُ شَيْئاً بل كنت معدوما صرفا، و إزالة عقر زوجتك

______________________________

(1) مريم: 65.

(2) الجساوة: اليبس و الصلابة.

(3) الحجر: 66.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 164

و إزالة ما يمنع قبول الولد أيسر في الاعتبار من ابتداء الإنشاء. و

روى الحكم بن عيينة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إنّما ولد يحيى بعد البشارة له من اللّه بخمس سنين».

و فيه دليل على أنّ المعدوم ليس بشي ء. و قرأ حمزة و الكسائي: و قد خلقناك.

قالَ رَبِّ اجْعَلْ لِي آيَةً علامة أعلم بها وقوع ما بشّرتني به قالَ آيَتُكَ أَلَّا تُكَلِّمَ النَّاسَ ثَلاثَ لَيالٍ سَوِيًّا سويّ الخلق أي: علامتك أن تمنع الكلام، فلا

تطيقه و أنت سليم الجوارح صحيح البنية و الآلات، ما بك من خرس و لا بكم. و إنّما ذكر الليالي هنا و الأيّام في آل عمران «1»، للدلالة على أنّه استمرّ عليه المنع من كلام الناس و التجرّد للذكر و الشكر ثلاثة أيّام و لياليهنّ.

قال ابن عبّاس: اعتقل لسانه من غير علّة و مرض ثلاثة أيّام، فإنّه كان يقرأ الزبور و يدعو إلى اللّه سبحانه و يسبّحه، و لا يمكنه أن يكلّم الناس. و هذا أمر خارج عن العادة.

[سورة مريم (19): الآيات 11 الى 15]

فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ فَأَوْحى إِلَيْهِمْ أَنْ سَبِّحُوا بُكْرَةً وَ عَشِيًّا (11) يا يَحْيى خُذِ الْكِتابَ بِقُوَّةٍ وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا (12) وَ حَناناً مِنْ لَدُنَّا وَ زَكاةً وَ كانَ تَقِيًّا (13) وَ بَرًّا بِوالِدَيْهِ وَ لَمْ يَكُنْ جَبَّاراً عَصِيًّا (14) وَ سَلامٌ عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ وَ يَوْمَ يَمُوتُ وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا (15)

فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ مِنَ الْمِحْرابِ من المصلّى. سمّي محرابا لأنّ المتوجّه إليه في صلاته كالمحارب للشيطان على صلاته. و الأصل فيه مجلس الأشراف الّذي يحارب دونه ذبّا عن أهله.

______________________________

(1) آل عمران: 41.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 165

قالوا: و كان زكريّا قد أخبر قومه بما بشّر به، فلمّا خرج عليهم و امتنع من كلامهم علموا إجابة دعائه، فسرّوا به.

فَأَوْحى إِلَيْهِمْ بيده، لقوله: إِلَّا رَمْزاً «1». و عن ابن عبّاس: كتب لهم على الأرض. أَنْ سَبِّحُوا صلّوا. و تسمّى الصلاة سبحة و تسبيحا، لما فيها من التسبيح.

و قيل: أراد التسبيح بعينه كما هو الظاهر، أي: نزّهوا ربّكم. بُكْرَةً وَ عَشِيًّا طرفي النهار. و لعلّه كان مأمورا بأن يسبّح و يأمر قومه بأن يوافقوه. و «أن» تحتمل أن تكون مصدريّة، و أن تكون مفسّرة.

قال ابن جريج:

أشرف عليهم من فوق غرفة كان يصلّي فيها، لا يصعد إليها إلّا بسلّم، و كانوا يصلّون معه الفجر و العشاء، و كان يخرج إليهم فيأذن لهم بلسانه، فلمّا اعتقل لسانه خرج على عادته و أذن لهم بغير كلام، فعرفوا عند ذلك أنّه قد جاء وقت حمل امرأته بيحيى، فمكث ثلاثة أيّام لا يقدر على الكلام معهم، و يقدر على التسبيح و الدعاء.

يا يَحْيى فيه اختصار عجيب، تقديره: فوهبناك يحيى، و أعطينا له العقل و الفهم، و قلنا له: يا يحيى خُذِ الْكِتابَ التوراة بِقُوَّةٍ بجدّ، و صحّة عزيمة، و استظهار بالتوفيق. أو بما قوّاك اللّه عليه و أيّدك.

وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا يعني: الحكمة. يقال: حكم حكما كحلم، أي: صار حكيما و حليما. و هو فهم التوراة، و الفقه في الدين، و العمل به. و قيل: النبوّة و أنّ اللّه أحكم عقله في صباه و استنبأه.

قيل: دعاه الصبيان إلى اللعب و هو صبيّ فقال: ما للعب خلقنا. و عن ابن عبّاس:

أنّه أوتي النبوّة و هو ابن ثلاث سنين. و روي ذلك عن أبي الحسن الرضا عليه الصلاة و السلام.

______________________________

(1) آل عمران: 41.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 166

و

روي العيّاشي بإسناده عن عليّ بن أسباط قال: «قدمت المدينة و أنا أريد مصر، فدخلت على أبي جعفر محمّد بن عليّ الرضا عليه السّلام، و هو إذ ذاك خماسيّ، فجعلت أتأمّله لأصفه لأصحابنا بمصر، فنظر إليّ و قال يا عليّ: إنّ اللّه قد أخذ في الإمامة كما أخذ في النبوّة، فقال: وَ آتَيْناهُ الْحُكْمَ صَبِيًّا و قال: وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً «1».

وَ حَناناً مِنْ لَدُنَّا عطف على الحكم، أي: و آتيناه رحمة منّا عليه. أو

رحمة و تعطّفا في قلبه على أبويه و غيرهما، فإنّ «حنّ» في معنى: ارتاح و اشتاق، ثمّ استعمل في العطف و الرأفة، و قيل للّه: حنان، كما قيل: رحيم، على سبيل الاستعارة. و منه: حنين الناقة، و هو صوتها إذا اشتاقت إلى ولدها.

وَ زَكاةً و طهارة من الذنوب، أو صدقة، أي: تصدّق اللّه به على أبويه، أو مكّنه و وفّقه على أن يتعطّف على الناس و يتصدّق عليهم وَ كانَ تَقِيًّا مطيعا، متجنّبا عن المعاصي.

وَ بَرًّا بِوالِدَيْهِ و بارّا بهما و مطيعا وَ لَمْ يَكُنْ جَبَّاراً متكبّرا متطاولا على الناس عَصِيًّا عاقّا، أو عاصيا ربّه.

وَ سَلامٌ من اللّه عَلَيْهِ يَوْمَ وُلِدَ من أن يناله الشيطان بما ينال به بني آدم وَ يَوْمَ يَمُوتُ من عذاب القبر وَ يَوْمَ يُبْعَثُ حَيًّا من عذاب النار و هول القيامة.

و إنّما قال: «حيّا» تأكيدا لقوله: «يبعث».

خصّه سبحانه بالكرامة و السلامة في هذه المواطن الثلاثة الّتي هي أوحش المواطن، فإنّ يوم الولادة يوم يرى الإنسان نفسه خارجا ممّا كان فيه، و يوم الموت يوم يرى أشياء ليس له بها عهد، و يوم البعث يوم يرى نفسه في محشر عظيم.

______________________________

(1) القصص: 14.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 167

[سورة مريم (19): الآيات 16 الى 21]

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مَرْيَمَ إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها مَكاناً شَرْقِيًّا (16) فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا (17) قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا (18) قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً زَكِيًّا (19) قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا (20)

قالَ كَذلِكِ قالَ رَبُّكِ هُوَ عَلَيَّ هَيِّنٌ وَ لِنَجْعَلَهُ آيَةً لِلنَّاسِ وَ رَحْمَةً مِنَّا وَ كانَ أَمْراً مَقْضِيًّا (21)

ثمّ

عطف قصّة مريم و عيسى على قصّة زكريّا و يحيى عليهما السّلام، فقال: وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ في القرآن مَرْيَمَ يعني: قصّتها العجيبة، من ولادتها عيسى بلا أب، و فرط صلاحها ليقتدي الناس بها، و لتكون معجزة لك إِذِ انْتَبَذَتْ مِنْ أَهْلِها إذ اعتزلت منهم و تخلّت للعبادة.

و هذا بدل من «مريم» بدل الاشتمال، لأنّ الأحيان مشتملة على ما فيها. و فيه: أنّ المقصود بذكر مريم ذكر وقتها هذا، لوقوع هذه القضيّة العجيبة فيه. أو بدل الكلّ، لأنّ المراد بمريم قصّتها، و بالظرف الأمر الواقع فيه، و هما- أعني: قصّة مريم، و الأمر الواقع فيه- واحد. أو ظرف لمضاف مقدّر، أي: قصّة مريم إذ انتبذت.

و قيل: «إذ» بمعنى «أن» المصدريّة، كقولك: أكرمتك إذ لم تكرمني، فتكون بدلا لا محالة.

مَكاناً شَرْقِيًّا في مكان ممّا يلي شرقيّ بيت المقدس، أو شرقيّ دارها، و لذلك اتّخذ النصارى المشرق قبلة. و «مكانا» ظرف كما فسّر، أو مفعول، لأنّ «انتبذت»

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 168

متضمّن معنى: أتت.

فَاتَّخَذَتْ مِنْ دُونِهِمْ حِجاباً سترا يستر خلفه فَأَرْسَلْنا إِلَيْها رُوحَنا يعني:

جبرئيل. سمّاه اللّه الروح و أضافه إلى نفسه، لأنّ دينه يحيا به و بوحيه، أو محبّة له و تقريبا و تشريفا، كما تقول لحبيبك: أنت روحي. فَتَمَثَّلَ لَها بَشَراً سَوِيًّا فانتصب بين يديها في صورة آدميّ صحيح لم ينتقص من الصورة البشريّة شي ء.

و قيل: قعدت في مشرفة «1» للاغتسال من الحيض في يوم شديد البرد، محتجبة بحائط أو بشي ء يسترها، و كان موضعها المسجد، فإذا حاضت تحوّلت إلى بيت خالتها، فإذا طهرت عادت إلى المسجد، فبينا هي في مغتسلها أتاها جبرئيل متمثّلا بصورة شابّ أمرد، وضي ء الوجه، جعد الشعر، سويّ الخلق، لتستأنس بكلامه و لا

تنفر عنه، و لو بدا لها في الصورة الملكيّة لنفرت و لم تقدر على استماع كلامه، و كان تمثيله على تلك الصورة الحسنة ابتلاء لها و سبرا «2» لعفّتها.

قيل: كانت في منزل زوج أختها زكريّا، و لها محراب على حدة تسكنه، و كان زكريّا عليه السّلام إذا خرج أغلق عليها الباب، فتمنّت أن تجد خلوة في الجبل لتفلي «3» رأسها، فانشقّ السقف لها فخرجت و جلست في المشرفة وراء الجبل، فأتاها الملك.

و قيل: قام بين يديها في صورة ترب «4» لها اسمه يوسف، من خدم بيت المقدس.

و دلّ على عفافها و ورعها أنّها تعوّذت باللّه من تلك الصورة الجميلة الفائقة الحسن، بأن قالَتْ إِنِّي أَعُوذُ بِالرَّحْمنِ مِنْكَ إِنْ كُنْتَ تَقِيًّا أي: إن كان يرجى منك أن تتّقي اللّه

______________________________

(1) أي: في موضع عال مطلّ على غيره. و مشارف الأرض: أعاليها. و الواحدة: مشرفة.

(2) سبر الأمر سبرا: جرّبه و اختبره.

(3) فلى يفلي رأسه أو ثوبه: نقّاهما من القمل.

(4) الترب: من ولد معك، و كان على سنّك. و جمعه: أتراب.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 169

و تحتفل بالاستعاذة. و

عن عليّ عليه السّلام أنّه قال: «علمت أنّ التقيّ ينهاه التقى عن المعصية».

و جواب الشرط محذوف بقرينة ما قبله، أي: فإنّي عائذة به منك. أو فتتّعظ بتعويذي، أو فلا تتعرّض بي. و يجوز أن يكون للمبالغة، أي: إن كنت تقيّا متورّعا فإنّي أعوذ منك، فكيف إذا لم تكن كذلك؟! فلمّا سمع جبرئيل منها هذا القول قالَ إِنَّما أَنَا رَسُولُ رَبِّكِ الّذي استعذت به لِأَهَبَ لَكِ غُلاماً لأكون سببا في هبته بوسيلة النفخ في الدرع. و يجوز أن يكون حكاية لقول اللّه تعالى. و يؤيّده قراءة أبي عمرو و ابن كثير عن

نافع و يعقوب بالياء. زَكِيًّا طاهرا من الذنوب، أو ناميا على الخير، أي: مترقّيا من سنّ إلى سنّ على الخير و الصلاح.

و عن ابن عبّاس: يريد نبيّا.

قالَتْ أَنَّى يَكُونُ لِي غُلامٌ أي: ولد وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ و لم يباشرني رجل بالحلال، فإنّ المسّ كناية عنه، كقوله: مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ «1» أَوْ لامَسْتُمُ النِّساءَ «2». أمّا الزنا فإنّما يقال فيه: خبث بها و فجر، و نحو ذلك. و يعضده عطف قوله:

وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا عليه، أي: فاجرة تبغي الزنا.

و هو فعول من البغي، قلبت واوه ياء و أدغمت، ثمّ كسرت الغين اتباعا للياء، و لذلك لم تلحقه التاء. أو فعيل بمعنى فاعل، و لم تلحقه التاء، لأنّه للمبالغة، أو للنسب كطالق. و المعنى: أنّي لست بذات زوج و غير ذات الزوج لا تلد إلّا عن فجور، و لست فاجرة.

قالَ كَذلِكِ أي: الأمر كما وصفت لك قالَ رَبُّكِ هُوَ أي: إحداث الولد من غير زوج عَلَيَّ هَيِّنٌ سهل لا يشقّ عليّ وَ لِنَجْعَلَهُ تعليل معلّله محذوف، أي:

و نفعل ذلك لنجعله آية. أو معطوف على تعليل مضمر، أي: لنبيّن به قدرتنا و لنجعله آية.

______________________________

(1) البقرة: 237.

(2) النساء: 43.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 170

أو عطف على «لأهب» على طريقة الالتفات. آيَةً لِلنَّاسِ علامة لهم و برهانا على كمال قدرتنا وَ رَحْمَةً مِنَّا على العباد يهتدون بإرشاده وَ كانَ أَمْراً مَقْضِيًّا كائنا محتوما تعلّق به قضاء اللّه في الأزل، و قدّر و سطر في اللوح. أو كان أمرا حقيقا بأن يقضى و يفعل، لكونه آية و رحمة.

و في هذه الآيات دلالة على جواز إظهار المعجزات لغير الأنبياء عليهم الصلاة و السلام، لأنّ من المعلوم أنّ مريم ليست بنبيّة، و

أنّ رؤية الملك على صورة البشر، و بشارة الملك إيّاها، و ولادتها من غير وطء، إلى غير ذلك من الآيات الّتي أتاها اللّه بها، من أكبر المعجزات. و من لم يجوّز إظهار المعجزات على غير الأنبياء، اختلفت أقوالهم في ذلك، فقال الجبائي و ابنه: إنّها معجزات لزكريّا. و قال البلخي: إنّها معجزات لعيسى على وجه الإرهاص «1» و التأسيس لنبوّته.

[سورة مريم (19): الآيات 22 الى 34]

فَحَمَلَتْهُ فَانْتَبَذَتْ بِهِ مَكاناً قَصِيًّا (22) فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا وَ كُنْتُ نَسْياً مَنْسِيًّا (23) فَناداها مِنْ تَحْتِها أَلاَّ تَحْزَنِي قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا (24) وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ تُساقِطْ عَلَيْكِ رُطَباً جَنِيًّا (25) فَكُلِي وَ اشْرَبِي وَ قَرِّي عَيْناً فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا (26)

فَأَتَتْ بِهِ قَوْمَها تَحْمِلُهُ قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا (27) يا أُخْتَ هارُونَ ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَ ما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا (28) فَأَشارَتْ إِلَيْهِ قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا (29) قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ آتانِيَ الْكِتابَ وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا (30) وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً أَيْنَ ما كُنْتُ وَ أَوْصانِي بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ ما دُمْتُ حَيًّا (31)

وَ بَرًّا بِوالِدَتِي وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً شَقِيًّا (32) وَ السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا (33) ذلِكَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ قَوْلَ الْحَقِّ الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ (34)

______________________________

(1) أرهص الشي ء: أسّسه و أثبته.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 171

عن ابن عبّاس: لمّا سمعت مريم قول جبرئيل اطمأنّت إلى قوله، فدنا منها فأخذ ردن «1» قميصها بإصبعيه، فنفخ فيه فدخلت النفخة في جوفها فَحَمَلَتْهُ في ساعتها، و وجدت حسّ الحمل.

و

روي

عن الباقر عليه السّلام «أنّه تناول جيب مدرعتها «2» فنفخ فيه نفخة، فكمل الولد في الرحم من ساعته كما يكمل الولد في أرحام النساء تسعة أشهر، فخرجت من المستحمّ «3» و هي حامل محج «4» مثقل، فنظرت إليها خالتها فأنكرتها، و مضت مريم على وجهها مستحية من خالتها و من زكريّا».

و قيل: كان مدّة حملها ستّة أشهر. و قيل: سبعة. و قيل: ثمانية. و لم يعش مولود

______________________________

(1) الردن: أصل الكمّ. و جمعه أردان.

(2) المدرعة: جبّة مشقوقة المقدّم، أو ثوب من كتّان كان يلبسه عظيم أحبار اليهود.

(3) المستحمّ: موضع الاستحمام.

(4) حجا يحجوا الأمر: ظنّه فادّعاه ظانّا و لم يستيقنه.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 172

وضع لثمانية غيره. و قيل: ثلاث ساعات. و قيل: حملته في ساعة، و صوّر في ساعة، و وضعته في ساعة حين زالت الشمس من يومها. و عن ابن عبّاس: مدّة الحمل ساعة واحدة، كما حملته نبذته. و

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: تسع ساعات. و سنّها يومئذ ثلاث عشرة سنة.

و قيل: عشر. و قد حاضت حيضتين قبل أن تحمل. و قالوا: ما من مولود إلّا يستهلّ «1» إلّا عيسى عليه السّلام.

فَانْتَبَذَتْ بِهِ فاعتزلت و تنحّت و هو في بطنها. و الجارّ و المجرور في موضع الحال. و نحوه قوله تعالى: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ «2» أي: تنبت و دهنها فيها. مَكاناً قَصِيًّا بعيدا من أهلها وراء الجبل. و قيل: أقصى الدار.

فَأَجاءَهَا الْمَخاضُ فألجاها الطلق، و هو وجع الولادة. و هو في الأصل منقول من: جاء، إلّا أنّه قد خصّ بالإلجاء في الاستعمال، ك: آتى في: أعطى. و المخاض مصدر:

مخضت المرأة إذا تحرّك الولد في بطنها للخروج. و منه: المخيض، لتقلقله في الظرف.

إِلى جِذْعِ النَّخْلَةِ لتستتر

به و تعتمد عليه عند الولادة. و هو ما بين العرق و الغصن. و كانت نخلة يابسة لا رأس لها و لا ثمرة و لا خضرة، و كان الوقت شتاء.

و التعريف إمّا للجنس، أي: جذوع هذه الشجرة خاصّة، أو للعهد، إذ لم يكن ثمّ غيرها، فكانت كالمتعالم عند الناس، فإذا قيل: جذع النخلة فهم منه ذاك دون غيره من جذوع النخل. و كأنّ اللّه تعالى ألهمها ذلك ليريها من آياته ما يسكن روعتها، و يطعمها الرطب الّذي هو خرسة «3» النفساء الموافقة لها.

قالَتْ يا لَيْتَنِي مِتُّ قَبْلَ هذا استحياء من الناس، و مخافة لومهم. و

روي عن الصادق عليه السّلام: «تمنّت الموت لأنّها لم تر في قومها رشيدا ذا فراسة ينزّهها من السوء».

و قرأ

______________________________

(1) استهلّ الصبيّ: رفع صوته بالبكاء عند الولادة.

(2) المؤمنون: 20

(3) الخرس: طعام الولادة. و الخرسة: طعام النفساء نفسها.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 173

أبو عمرو و ابن كثير و ابن عامر و أبو بكر: متّ، من: مات يموت.

وَ كُنْتُ نَسْياً ما من شأنه أن ينسى و يطرح و لا يطلب، كخرقة الطامث.

و نظيره: الذبح اسم ما من شأنه أن يذبح. و قرأ حمزة و حفص: نسيا بالفتح. و هو لغة فيه، أو مصدر- كالحمل- سمّي به. مَنْسِيًّا متروك الذكر بحيث لا يخطر ببالهم.

فَناداها مِنْ تَحْتِها و هو عيسى. و قيل: جبرئيل، كان يقبل الولد كالقابلة.

و قيل: «تحتها» أسفل من مكانها.

و قرأ نافع و حمزة و الكسائي و حفص و روح: من تحتها بالكسر و الجرّ، على أنّ في «نادى» ضمير أحدهما. و قيل: الضمير في «تحتها» للنخلة.

أَلَّا تَحْزَنِي أي: لا تحزني، أو بأن لا تحزني قَدْ جَعَلَ رَبُّكِ تَحْتَكِ سَرِيًّا جدولا. هكذا روي مرفوعا. قيل:

ضرب جبرئيل برجله، فظهر ماء عذب.

و

عن أبي جعفر عليه السّلام: «ضرب عيسى عليه السّلام برجله فظهرت عين ماء تجري».

و قيل: السريّ: السيّد الشريف، من السرو، و هو عيسى. و عن الحسن: كان و اللّه عبدا سريّا.

وَ هُزِّي إِلَيْكِ بِجِذْعِ النَّخْلَةِ و أميليه إليك. و الباء مزيدة للتأكيد، كقوله: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ «1». أو المعنى: افعلي الهزّ و الإمالة به، أو هزّي الثمرة بهزّه.

و الهزّ تحريك بجذب و دفع. تُساقِطْ عَلَيْكِ تتساقط، فأدغمت التاء الثانية في السين.

و حذفها حمزة. و قرأ يعقوب بالياء. و حفص: تساقط، من: ساقطت، بمعنى: أسقطت.

رُطَباً جَنِيًّا نضيجا. تمييز أو مفعول على حسب القراءة.

روي أنّها كانت نخلة يابسة لا رأس لها و لا ثمر، و كان الوقت شتاء، فهزّتها، فجعل اللّه لها رأسا و خوصا و رطبا في غير أو انه دفعة واحدة، فإنّ العادة أن يكون نورا أوّلا، ثمّ يصير بلحا، ثمّ بسرا في أوانه. و فيه: تسليتها بذلك، لما فيه من المعجزات الدالّة على براءة ساحتها، فإنّ مثلها لا يتصوّر لمن يرتكب الفواحش، و المنبّهة لمن رآها على أنّ من

______________________________

(1) البقرة: 195.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 174

قدر أن يثمر النخلة اليابسة في الشتاء، قدر أن يحبلها من غير فحل.

و لما كان في الرطب من الطعام و الشراب رتّب عليه الأمرين، فقال: فَكُلِي من الرطب وَ اشْرَبِي من عصير الرطب، أو من ماء السريّ وَ قَرِّي عَيْناً و طيبي نفسك، و ارفضي عنها ما أحزنك. و اشتقاقه من القرار، فإنّ العين إذا رأت ما تسرّ به النفس سكنت إليه من النظر إلى غيره. أو من القرّ، فإنّ دمعة السرور باردة، و دمعة الحزن حارّة، و لذلك قالوا: قرّة

العين للمحبوب، و سخنتها للمكروه.

و

عن الباقر عليه السّلام: «لم تستشف النفساء بمثل الرطب، لأنّ اللّه تعالى أطعمه مريم في نفاسها».

و قيل: إذا عسر ولادتها لم يكن لها خير من الرطب.

فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً فإن تري آدميّا يسألك عن ولدك فَقُولِي إِنِّي نَذَرْتُ لِلرَّحْمنِ صَوْماً صمتا، أي: إمساكا عن الكلام، أو صياما، و كانوا لا يتكلّمون في صيامهم. و

قد نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن صوم الصمت، فنسخ هذا في شريعته. فَلَنْ أُكَلِّمَ الْيَوْمَ إِنْسِيًّا بعد أن أخبرتكم بنذري، و إنّما أكلّم الملائكة و أناجي ربّي.

و قيل: أخبرتهم بنذرها بالإشارة. و الأصحّ أنّه سوّغ لها ذلك بالنطق. و أمرها بذلك لكراهة المجادلة، و للاكتفاء بكلام عيسى، فإنّه كاف في قطع الطاعن.

فَأَتَتْ بِهِ مع ولدها قَوْمَها راجعة إليهم بعد ما طهرت من النفاس تَحْمِلُهُ حاملة إيّاه ملفّا بخرقة. حال من الضمير المرفوع في «فأتت»، أو من الهاء المجرور في «به»، أو منهما جميعا.

قيل: احتمل يوسف النجّار مريم و ابنها إلى غار، فلبثوا فيه أربعين يوما حتّى سلمت من نفاسها، ثمّ جاءت تحمله، فكلّمها عيسى في الطريق، فقال: يا أمّاه أبشري فإنّي عبد اللّه و مسيحه، فلمّا دخلت به على قومها و هم أهل بيت صالحون تباكوا.

قالُوا يا مَرْيَمُ لَقَدْ جِئْتِ شَيْئاً فَرِيًّا بديعا منكرا، من فري الجلد. يقال: فريت.

الجلد إذا قطعته، و فريت الشي ء، أي: حززته، أو من الافتراء، و هو الكذب.

يا أُخْتَ هارُونَ يعنون هارون النبيّ، و كانت من أعقاب من كان معه في طبقة

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 175

الإخوة، و بينها و بينه ألف سنة و أكثر.

و قيل: كانت من أولاد هارون. و إنّما قيل: أخت هارون، كما يقال: يا

أخا همدان، أي: يا واحدا منهم.

و قيل:

هو رجل صالح كان في زمانهم شبّهوها به، أي: كنت عندنا مثله في الصلاح، و لم ترد إخوة النسب. و هذا مرويّ عن ابن عبّاس و قتادة و كعب و ابن زيد و المغيرة، يرفعه إلى النبيّ.

و قيل: إنّه لمّا مات شيّعه أربعون ألفا كلّهم يسمّى هارون، تبرّكا به و باسمه. فقال قومها: كنّا نشبّهك بهارون هذا.

و قيل: كان هو رجلا فاسقا مشهورا بالعهر و الفساد، فنسبت إليه، و قيل لها: يا شبيهته في قبح فعله.

ما كانَ أَبُوكِ امْرَأَ سَوْءٍ وَ ما كانَتْ أُمُّكِ بَغِيًّا تقرير لقولهم: إنّ ما جاءت به فريّ، و تنبيه على أنّ الفواحش من أولاد الصالحين أفحش.

فَأَشارَتْ إِلَيْهِ إلى عيسى، أي: هو الّذي يجيبكم فكلّموه قالُوا كَيْفَ نُكَلِّمُ مَنْ كانَ فِي الْمَهْدِ صَبِيًّا و لم نعهد صبيّا في المهد كلّمه عاقل. و «كان» زائدة. و الظرف صلة «من». و «صبيّا» حال من المستكن فيه، أو تامّة، أو دائمة، كقوله تعالى: وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً «1». أو بمعنى: صار.

و في الكشّاف: «كان» لإيقاع مضمون الجملة في زمان ماض مبهم يصلح لقريبه و بعيده. و هو هاهنا لقريبه خاصّة. و الدليل عليه مبنى الكلام، و أنّه مسوق للتعجّب.

و وجه آخر: أن يكون «نكلّم» حكاية حال ماضية، أي: كيف عهد قبل عيسى أن يكلّم الناس صبيّا في المهد فيما سلف من الزمان حتّى نكلّم هذا؟!» «2».

و عن قتادة: معناه: صبيّا في الحجر رضيعا. و كان المهد حجر أمّه الّذي تربّيه، إذ لم

______________________________

(1) النساء: 17.

(2) الكشّاف 3: 15.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 176

تكن هيّأت له المهد.

و عن السدّي: لمّا أشارت إليه غضبوا و قالوا: لسخريّتها بنا أشدّ علينا

من زناها.

و روي: أنّه كان يرضع، فلمّا سمع ذلك ترك الرضاع و أقبل عليهم بوجهه، و اتّكأ على يساره، و أشار بسبّابته.

ثمّ قالَ إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ أنطقه اللّه أوّلا لأنّه أوّل المقامات، و للردّ على من يزعم ربوبيّته من النصارى آتانِيَ الْكِتابَ الإنجيل وَ جَعَلَنِي نَبِيًّا.

وَ جَعَلَنِي مُبارَكاً نفّاعا معلّما للخير. و التعبير بلفظ الماضي إمّا باعتبار ما سبق في قضائه، أو بجعل المحقّق وقوعه كالواقع. و عن ابن عبّاس و أكثر المفسّرين: أنّ اللّه أكمل عقله و استنبأه طفلا. و هو الظاهر. أَيْنَ ما كُنْتُ حيث كنت وَ أَوْصانِي و أمرني بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ زكاة المال إن ملكته. أو المراد تطهير النفس عن الرذائل.

ما دُمْتُ حَيًّا مكلّفا.

وَ بَرًّا بِوالِدَتِي عطوفا عليها، مؤدّيا شكرها. عطف على «مباركا». وَ لَمْ يَجْعَلْنِي جَبَّاراً متجبّرا متكبّرا شَقِيًّا عند اللّه لفرط تكبّره. و المعنى: إنّي بلطفه و توفيقه كنت محسنا إلى والدتي، متواضعا في نفسي، حتّى لم أكن من الجبابرة و الأشقياء.

وَ السَّلامُ عَلَيَّ يَوْمَ وُلِدْتُ وَ يَوْمَ أَمُوتُ وَ يَوْمَ أُبْعَثُ حَيًّا كما هو على يحيى.

و التعريف للعهد، كقولك: جاءنا رجل، فكان من فعل الرجل كذا. فالمعنى: أنّ السلام الموجّه إلى يحيى في المواطن الثلاثة موجّه إليّ. و الأظهر أنّه للجنس و التعريض باللعن على أعدائه، فإنّه لمّا جعل جنس السلام على نفسه عرّض بأنّ ضدّه عليهم، كقوله تعالى:

وَ السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى «1» فإنّه تعريض بأنّ العذاب على من كذّب و تولّى.

قيل: كلّم عيسى بذلك القول، ثمّ لم يتكلّم حتّى بلغ مبلغا يتكلّم فيه الصبيان.

ذلِكَ أي: الّذي تقدّم نعته هو عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لا ما يصفه النصارى. و هو

______________________________

(1) طه: 47.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 177

تكذيب لهم

فيما يصفونه- من أنّه ابن اللّه و أنّه إله- على الوجه الأبلغ و الطريق الأوضح، حيث جعله موصوفا بأضداد ما يصفونه.

قَوْلَ الْحَقِ خبر محذوف، أي: هو قول الحقّ الّذي لا ريب فيه. و الإضافة للبيان. و الضمير للكلام السابق، أو لتمام القصّة. و قيل: صفة عيسى أو بدل، أو خبر ثان.

و معناه: كلمة اللّه.

و إنّما قيل لعيسى «كلمة اللّه» و «قول الحقّ» لأنّه لم يولد إلّا بكلمة اللّه وحدها، و هي قوله: «كن» من غير واسطة أب، تسمية للمسبّب باسم السبب.

و قرأ عاصم و ابن عامر و يعقوب: قول بالنصب، على أنّه المدح إن فسّر بكلمة اللّه، أو مصدر مؤكّد لمضمون الجملة إن أريد قول الثبات و الصدق، كقولك: هو عبد اللّه حقّا.

الَّذِي فِيهِ يَمْتَرُونَ في أمره يشكّون، من المرية، و هي الشكّ. أو يتنازعون، فقالت اليهود: ساحر كذّاب، و قالت النصارى: ابن اللّه و ثالث ثالثة.

[سورة مريم (19): الآيات 35 الى 39]

ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (35) وَ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (36) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ (37) أَسْمِعْ بِهِمْ وَ أَبْصِرْ يَوْمَ يَأْتُونَنا لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (38) وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ وَ هُمْ لا يُؤْمِنُونَ (39)

ثمّ كذّب اللّه النصارى، و نزّه ذاته عمّا بهتوه، فقال: ما كانَ لِلَّهِ أَنْ يَتَّخِذَ مِنْ وَلَدٍ سُبْحانَهُ يعني: ما كان ينبغي للّه أن يتّخذه، أي: ما يصلح له و لا يستقيم، فإنّ من اتّخذ

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 178

ولدا فإنّما يتّخذه من جنسه، لأنّ الولد مجانس للوالد، و اللّه تعالى

ليس كمثله شي ء، فلا يكون له ولد، و لا يتّخذ ولدا.

ثمّ بكّتهم بالاستدلال على انتفاء الولد عنه بقوله: إِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ أي: إذا أراد شيئا أوجده ب «كن»، و من كان كذلك كان منزّها عن شبه الخلق، أو الحاجة في اتّخاذ الولد بإحبال الإناث. و قرأ ابن عامر: فيكون بالنصب على الجواب.

و القول هاهنا مجاز. و معناه: أنّ إرادته للشي ء يتبعها كونه لا محالة من غير توقّف، فشبّه ذلك بأمر الآمر المطاع إذا ورد على المأمور الممتثل.

وَ إِنَّ اللَّهَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ طريق واضح فالزموه.

و قرأ الحجازيّان و البصريّان: و أنّ بالفتح، على: و لأنّ. و قيل: لأنّه معطوف على «الصلاة». و قرأ غيرهم بالكسر ليكون ابتداء كلامهم من اللّه.

فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ اليهود و النصارى. أو فرق النصارى. نسطوريّة قالوا: إنّه ابن اللّه. و يعقوبيّة قالوا: هو اللّه، هبط إلى الأرض ثمّ صعد إلى السماء. و ملكانيّة قالوا: هو عبد اللّه و نبيّه.

فَوَيْلٌ فشدّة عذاب لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ مَشْهَدِ يَوْمٍ عَظِيمٍ من شهود يوم عظيم هوله و حسابه، و هو يوم القيامة. أو من وقت الشهود. أو من مكانه فيه. أو من شهادة ذلك اليوم عليهم، و هو أن تشهد عليهم الملائكة و الأنبياء، و ألسنتهم و أيديهم و أرجلهم، بكفرهم و سوء أعمالهم. أو من وقت الشهادة. أو من مكانها. و قيل أمر: هو ما شهدوا به في عيسى و أمّه.

أَسْمِعْ بِهِمْ وَ أَبْصِرْ تعجّب. و لمّا كان اللّه سبحانه لا يوصف بالتعجّب، فالمراد أنّ أسماعهم و أبصارهم يومئذ جدير بأن يتعجّب منهما. يَوْمَ يَأْتُونَنا أي: يوم القيامة بعد ما كانوا صمّا عميا في

الدنيا. و المراد أنّهم في الدنيا جاهلون، و في الآخرة عارفون جدّا، حيث لا تنفعهم المعرفة.

و قيل: معناه: تهديد بما سيسمعون و يبصرون يومئذ ممّا يسوءهم و يصدع قلوبهم.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 179

و قيل: أمر بأن يسمعهم الرسول و يبصرهم مواعيد ذلك اليوم و ما يحيق بهم فيه.

و الجارّ و المجرور على الأوّل في موضع الرفع، و على الثاني في محلّ النصب.

لكِنِ الظَّالِمُونَ الْيَوْمَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أوقع الظالمين موقع الضمير إشعارا بأن لا ظلم أعظم من ظلمهم أنفسهم، حيث أغفلوا الاستماع و النظر حين ينفعهم، و سجّل على إغفالهم بأنّه ضلال بيّن.

و المعنى: إنّ الكافرين في الدنيا آثروا الهوى على الهدى، و لم ينظروا إليه و لم يسمعوا به، فهم في ذهاب عن الدين و عدول عن الحقّ.

وَ أَنْذِرْهُمْ و خوّف يا محمّد كفّار مكّة يَوْمَ الْحَسْرَةِ يوم يتحسّر الناس، المسي ء على إساءته، و المحسن على قلّة إحسانه. و قيل: الحسرة يومئذ مختصّة بمن يستحقّ العقاب، و المؤمن الصالح لا يتحسّر أصلا.

إِذْ قُضِيَ الْأَمْرُ فرغ من الحساب، و حكم بين الخلائق بالعدل، و تصادر الفريقان إلى الجنّة و النار. و «إذ» بدل من اليوم، أو ظرف للحسرة.

وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ وَ هُمْ لا يُؤْمِنُونَ حالان متعلّقان بقوله: «فِي ضَلالٍ مُبِينٍ»، و ما بينهما اعتراض. أو ب «أنذرهم»، أي: أنذرهم غافلين غير مؤمنين. فيكونان حالين متضمّنين للتعليل.

روى مسلم في الصحيح بالإسناد عن أبي سعيد الخدري قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا دخل أهل الجنّة الجنّة، و أهل النار النار، قيل: يا أهل الجنّة، فيسرعون و ينظرون. و قيل: يا أهل النار، فيسرعون و ينظرون. فيجاء بالموت و كأنّه كبش

أملح «1»، فيقال لهم: تعرفون الموت؟ فيقولون: هذا هذا. و كلّ قد عرفه. قال: فيقدّم فيذبح. ثمّ يقال: يا أهل الجنّة! خلود فلا موت. و يا أهل النار! خلود فلا موت. قال: و ذلك قوله:

«وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْحَسْرَةِ».

و رواه أصحابنا عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليه السّلام. ثمّ جاء في آخره: «فيفرح أهل

______________________________

(1) الكبش الأملح: إذا كان أسود يعلو شعره بياض. زبدة التفاسير، ج 4، ص: 180

الجنّة فرحا لو كان أحد يومئذ ميّتا لماتوا فرحا، و يشهق أهل النار شهقة لو كان أحد ميّتا لماتوا» «1».

[سورة مريم (19): الآيات 40 الى 50]

إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَ مَنْ عَلَيْها وَ إِلَيْنا يُرْجَعُونَ (40) وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (41) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ يا أَبَتِ لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَ لا يُبْصِرُ وَ لا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً (42) يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا (43) يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا (44)

يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا (45) قالَ أَ راغِبٌ أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي يا إِبْراهِيمُ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لَأَرْجُمَنَّكَ وَ اهْجُرْنِي مَلِيًّا (46) قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا (47) وَ أَعْتَزِلُكُمْ وَ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ أَدْعُوا رَبِّي عَسى أَلاَّ أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا (48) فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ كُلاًّ جَعَلْنا نَبِيًّا (49)

وَ وَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا وَ جَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ عَلِيًّا (50)

______________________________

(1) صحيح مسلم 4: 2188- 2189 ح 40- 41.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 181

ثمّ أخبر سبحانه عن

إفناء الدنيا و ما عليها الّذي هو مقدّمة وقوع يوم الحسرة، فقال: إِنَّا نَحْنُ نَرِثُ الْأَرْضَ وَ مَنْ عَلَيْها أي: نميت سكّانها، فلا يبقى فيها مالك و لا ملك. أو نتوفّى الأرض و من عليها بالإفناء و الإهلاك، توفّي الوارث لإرثه. وَ إِلَيْنا يُرْجَعُونَ يردّون للجزاء بعد الموت، أي: إلى حيث لا يملك الأمر و النهي غيرنا.

ثمّ أخبر عن قصّة إبراهيم الّتي هي متضمّنة للتوحيد، الّذي هو منشأ الفلاح و الفوز يوم الحسرة، فقال: وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِبْراهِيمَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً ملازما للصدق، أو كثير التصديق، لكثرة ما صدّق به من غيوب اللّه و آياته و كتبه و رسله. و هو من أبنية المبالغة. و نظيره: النطّيق. نَبِيًّا رفيع الشأن برسالة اللّه تعالى.

إِذْ قالَ بدل من «إبراهيم»، و ما بينهما اعتراض. أو متعلّق ب «كان» أو ب «صدّيقا نبيّا». لِأَبِيهِ أي: لعمّه الّذي هو بمنزلة أبيه في تربيته، أو لجدّه لأمّه، فإنّ أباه الّذي ولده كان اسمه تارخ، لإجماع الطائفة الحقّة على أنّ آباء الأنبياء كلّهم إلى آدم كانوا مسلمين موحّدين. و قد بيّنّا ذلك في سورة الأنعام «1».

يا أَبَتِ التاء معوّضة من ياء الإضافة، و لذلك لا يقال: يا أبتي، لئلّا يجمع بين العوض و المعوّض منه، و يقال: يا أبتا. و إنّما تذكر للاستعطاف، و لذلك كرّرها.

لِمَ تَعْبُدُ ما لا يَسْمَعُ وَ لا يُبْصِرُ فيعرف حالك، و يسمع ذكرك، و يرى خضوعك وَ لا يُغْنِي عَنْكَ شَيْئاً في جلب نفع أو دفع ضرّ.

دعاه إلى الهدى، و بيّن ضلاله، و احتجّ عليه أبلغ احتجاج و أرشقه، برفق و حسن أدب و خلق حسن، منتصحا في ذلك بنصيحة ربّه عزّ و علا، كما

روى أبو

هريرة أنّه قال:

«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أوحى اللّه إلى إبراهيم عليه السّلام: إنّك خليلي، حسّن خلقك و لو مع الكفّار، تدخل مداخل الأبرار، فإنّ كلمتي سبقت لمن حسن خلقه: أظلّه تحت عرشي، و أسكنه حظيرة القدس، و أدنيه من جواري».

______________________________

(1) راجع ج 2 ص 415 ذيل الآية 74 من سورة الأنعام.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 182

و لهذا لم يصرّح بضلالة أبيه، بل طلب العلّة الّتي تدعوه إلى عبادة ما يستخفّ به العقل الصريح، و يأبى الركون إليه، فضلا عن عبادته الّتي هي غاية التعظيم، و لا تحقّ إلّا لمن له الاستغناء التامّ و الإنعام العامّ، و هو الخالق الرازق، المحيي المميت، المعاقب المثيب، الّذي منه أصول النعم و فروعها.

و نبّه على أنّ العاقل ينبغي أن يفعل ما يفعل لغرض صحيح. و الشي ء لو كان حيّا مميّزا سميعا بصيرا مقتدرا على النفع و الضرّ و لكن كان ممكنا، لاستنكف العقل القويم عن عبادته، و إن كان أشرف الخلق كالملائكة و النبيّين، لما يراه مثله في الحاجة و الانقياد للقدرة الواجبة، فكيف إذا كان جمادا لا يسمع و لا يبصر؟! ثمّ ثنّى بدعوته إلى الحقّ مترّفقا به متلطّفا، و دعاه إلى أن يتّبعه ليهديه إلى الحقّ القويم و الصراط المستقيم، لمّا لم يكن محظوظا من العلم الإلهي، مستقلّا بالنظر السويّ، فقال: يا أَبَتِ إِنِّي قَدْ جاءَنِي مِنَ الْعِلْمِ باللّه سبحانه ما لَمْ يَأْتِكَ فَاتَّبِعْنِي على ذلك و اقتد بي فيه أَهْدِكَ صِراطاً سَوِيًّا أي: أوضح لك طريقا مستقيما. و لم يسم أباه بالجهل المفرط، و لا نفسه بالعلم الفائق، بل جعل نفسه كرفيق له في مسير يكون أعرف بالطريق، كأنّه قال: لا

تستنكف وهب أنّي و إيّاك في مسير، و عندي مزيّة معرفة بالهداية دونك.

ثمّ ثلّث تثبيطه عمّا كان عليه، بأنّه مع خلوّه عن النفع مستلزم للضرّ، فإنّه في الحقيقة عبادة الشيطان، من حيث إنّه الآمر به، فقال: يا أَبَتِ لا تَعْبُدِ الشَّيْطانَ لا تطعه فيما يدعوك إليه، فتكون بمنزلة من عبده، فإنّ الكافر لا يعبد الشيطان، و لكن يطيعه فيما أمره من الكفر و الشرك.

ثمّ بيّن وجه الضرّ فيه، بأنّ الشيطان مستعص على ربّك المولي للنعم كلّها، بقوله:

إِنَّ الشَّيْطانَ كانَ لِلرَّحْمنِ عَصِيًّا شديد العصيان. و معلوم أنّ المطاوع للعاصي عاص، و كلّ عاص حقيق بأن تستردّ منه النعم، و ينتقم منه.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 183

ثمّ ربّع بتخويفه سوء عاقبته و ما يجرّ إليه من التبعة، و لم يخل ذلك من حسن الأدب، حيث لم يصرّح بأنّ العقاب لاحق له، و أنّ العذاب لاصق به، و لكنّه قال: يا أَبَتِ إِنِّي أَخافُ أَنْ يَمَسَّكَ عَذابٌ مِنَ الرَّحْمنِ لإصرارك على الكفر. و ذكر الخوف و المسّ و تنكير العذاب للمجاهلة. فَتَكُونَ لِلشَّيْطانِ وَلِيًّا ثابتا في موالاته، قرينا في اللعن و العذاب، تليه و يليك. و هو أكبر من العذاب، كما أنّ رضوان اللّه أكبر من الثواب.

قالَ أَ راغِبٌ أ معرض أَنْتَ عَنْ آلِهَتِي عن عبادتها يا إِبْراهِيمُ قابل استعطافه و لطفه في الإرشاد بالفظاظة و غلظة العناد، فناداه باسمه، و لم يقابل «يا أبت» ب «يا بنيّ». و أخّره و قدّم الخبر على المبتدأ، و صدّره بالهمزة، لإنكار نفس الرغبة على ضرب من التعجّب، كأنّها ممّا لا يرغب عنها عاقل.

ثمّ هدّده بقوله: لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ عن مقالتك فيها، أو الرغبة عنها لَأَرْجُمَنَّكَ لأرمينّك بلساني- يعني: الشتم و الذمّ-

أو بالحجارة حتّى تموت أو تبعد منّي وَ اهْجُرْنِي عطف على ما دلّ عليه «لأرجمنّك» أي: فاحذرني و اهجرني، لأنّ «لأرجمنّك» تهديد و تقريع مَلِيًّا زمانا طويلا من الملاوة. أو مليّا بالذهاب عنّي و الهجران قبل أن أثخنك بالضرب، حتّى لا تقدر أن تبرح. من قولهم: فلان مليّ بهذا الأمر إذا كان كاملا فيه مضطلعا به.

قالَ سَلامٌ عَلَيْكَ سلام توديع و متاركة و مباعدة منه، كقوله تعالى: لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ «1». و قوله: وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً «2». أو سلام إكرام و مقابلة للسيّئة بالحسنة، أي: لا أصيبك بمكروه، و لا أقول لك بعد ما يؤذيك. و يجوز أن يكون دعا له بالسلامة استمالة له، ألا ترى أنّه وعده الاستغفار و قال: سَأَسْتَغْفِرُ لَكَ رَبِّي سأطلب لك التوفيق للإيمان، فإنّ

______________________________

(1) القصص: 55.

(2) الفرقان: 63.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 184

حقيقة الاستغفار للكافر استدعاء التوفيق لما يوجب مغفرته.

و الأصحّ أنّ الاستغفار له كان مشروطا بالتوبة عن الكفر. و دلّ عليه قوله تعالى:

وَ ما كانَ اسْتِغْفارُ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ إِلَّا عَنْ مَوْعِدَةٍ وَعَدَها إِيَّاهُ فَلَمَّا تَبَيَّنَ لَهُ أَنَّهُ عَدُوٌّ لِلَّهِ تَبَرَّأَ مِنْهُ «1»، كما مرّ «2» في سورة التوبة.

إِنَّهُ كانَ بِي حَفِيًّا بليغا في البرّ و الألطاف. يقال: حفي به حفاوة، أشفق عليه و بالغ في إكرامه، و هو حفيّ.

وَ أَعْتَزِلُكُمْ و أتنحّى منكم جانبا وَ ما تَدْعُونَ تعبدون. و منه

قوله عليه السّلام: «الدعاء هو العبادة».

مِنْ دُونِ اللَّهِ بالمهاجرة بديني إلى الشام وَ أَدْعُوا رَبِّي أي:

أعبده.

ثمّ عرّض بشقاوتهم بدعاء آلهتهم في قوله: عَسى أَلَّا أَكُونَ بِدُعاءِ رَبِّي شَقِيًّا خائبا ضائع السعي مثلكم في دعاء آلهتكم. و في تصدير الكلام

ب «عسى» التواضع و هضم النفس، كقوله: وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ «3» مع تيقّنه بالغفران.

و يجوز أن يراد بالدعاء ما حكاه في سورة الشعراء حيث قال: وَ اغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ « «4»».

فَلَمَّا اعْتَزَلَهُمْ فارقهم وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بالهجرة إلى الشام وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ ولده وَ يَعْقُوبَ ولد ولده، بدل من فارقهم من الكفرة. قيل: لأنّه لمّا قصد الشام أتى أوّلا حرّان، و تزوّج بسارة، و ولدت له إسحاق، و ولد منه يعقوب.

و لعلّ تخصيصهما بالذكر لأنّهما شجرتا الأنبياء، أو لأنّه أراد أن يذكر فضل إسماعيل على الانفراد. وَ كُلًّا و كلّا منهما، أو منهم جَعَلْنا نَبِيًّا.

______________________________

(1) التوبة: 114.

(2) راجع ج 3 ص 173.

(3، 4) الشعراء: 82 و 86.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 185

وَ وَهَبْنا لَهُمْ مِنْ رَحْمَتِنا من نعمتنا النبوّة و الأموال و الأولاد، و كلّ خير دينيّ و دنيويّ وَ جَعَلْنا لَهُمْ لِسانَ صِدْقٍ ثناء و حسنا في الناس عَلِيًّا مرتفعا سائرا بينهم، بحيث يفتخرون بهم و يثنون عليهم استجابة لدعوته، حيث قال: وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ «1». فكلّ أهل الأديان يتولّونه و ذرّيّته، و يدّعون أنّهم على دينهم.

و قيل: معناه: و أعلينا ذكرهم بأنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أمّته يذكرونهم بالجميل إلى يوم القيامة.

و قيل: هو ما يقال في التشهّد: كما صلّيت على إبراهيم و آل إبراهيم.

و عبّر باللسان عمّا يوجد به، كما عبّر باليد عمّا يطلق بها، و هي العطيّة. و لسان العرب لغتهم و كلامهم. و إضافته إلى الصدق، و توصيفه بالعلوّ، للدلالة على أنّهم أحقّاء بما يثنون عليهم، و أنّ محامدهم لا

تخفى على تباعد الأعصار و تحوّل الدول و تبدّل الملل.

[سورة مريم (19): الآيات 51 الى 53]

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً وَ كانَ رَسُولاً نَبِيًّا (51) وَ نادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ وَ قَرَّبْناهُ نَجِيًّا (52) وَ وَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا (53)

ثمّ ذكر سبحانه حديث موسى عليه السّلام فقال: وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ في القرآن مُوسى إِنَّهُ كانَ مُخْلَصاً موحّدا أخلص عبادته عن الشرك و الرياء، أو أسلم وجهه للّه، و أخلص نفسه عمّا سواه. و قرأ الكوفيّون بالفتح، على أنّ اللّه أخلصه. وَ كانَ رَسُولًا

______________________________

(1) الشعراء: 84.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 186

نَبِيًّا أي: أرسله اللّه إلى الخلق فأنبأهم عنه، و لذلك قدّم «رسولا». قال في الجامع «1» و الكشّاف «2» ما حاصله: أنّ الرسول أخصّ و أعلى، من حيث إنّه صاحب شريعة و كتاب، بخلاف النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

وَ نادَيْناهُ مِنْ جانِبِ الطُّورِ الْأَيْمَنِ من ناحيته اليمنى من اليمين، و هي الّتي تلي يمين موسى. أو من جانبه الميمون، من اليمن. و هو صفة للطور أو الجانب. و الطور جبل في أرض الشام.

وَ قَرَّبْناهُ تقريب تشريف، لا تقريب مكان و مسافة. و شبّهه بمن قرّبه الملك لمناجاته، حيث كلّمه بغير واسطة ملك، بأن خلق الكلام في الشجر نَجِيًّا مناجيا، حال من أحد الضميرين. و قيل: مرتفعا، من النجوة، و هو الارتفاع، لما روي عن أبي العالية: أنّه رفع فوق السماوات حتّى سمع صرير القلم الّذي كتبت به التوراة.

وَ وَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا من أجل رحمتنا أَخاهُ معاضدة أخيه و مؤازرته، إجابة لدعوته: وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي «3» و هو مفعول أو بدل. هارُونَ عطف بيان له نَبِيًّا حال منه.

و

عن ابن عبّاس: كان هارون عليه السّلام أسنّ من موسى عليه السّلام، فوقعت الهبة على معاضدته و مؤازرته.

[سورة مريم (19): الآيات 54 الى 55]

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ وَ كانَ رَسُولاً نَبِيًّا (54) وَ كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ وَ كانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا (55)

______________________________

(1) جوامع الجامع 2: 18.

(2) الكشّاف 3: 22.

(3) طه: 29.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 187

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِسْماعِيلَ إِنَّهُ كانَ صادِقَ الْوَعْدِ إذا وعد بشي ء و فى به و لم يخلف. ذكره بذلك لأنّه المشهور به، و إن كان موجودا في غيره من الأنبياء، فإنّه الموصوف بأشياء في هذا الباب لم تعهد من غيره. و ناهيك «1» أنّه وعد الصبر على الذبح، فقال: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ «2» فوفى.

و

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنّه واعد رجلا أن ينتظره في مكان و نسي الرجل، فانتظره مدّة كثيرة حتى أتاه الرجل».

و عن مقاتل: أقام أن ينتظره ثلاثة أيّام.

وَ كانَ رَسُولًا نَبِيًّا يدلّ هذا على أنّ الرسول لا يلزم أن يكون صاحب شريعة، فإنّ أولاد إبراهيم كانوا على شريعته.

وَ كانَ يَأْمُرُ أَهْلَهُ بِالصَّلاةِ وَ الزَّكاةِ كان يبدأ بأهله في الأمر بالصلاح و العبادة ليجعلهم قدوة لمن وراءهم، و لأنّهم أولى من سائر الناس، فإنّ الرجل يقبل على نفسه و من هو أقرب الناس إليه بالتكميل. قال اللّه تعالى: وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «3».

وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ «4» و قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً «5». ألا ترى أنّهم أحقّ بالتصدّق عليهم، فالإحسان الديني أولى. و قيل: إنّه كان يأمر أهله بصلاة الليل و صدقة النهار.

و قيل: أهله أمّته كلّهم من القرابة و غيرهم، فإنّ الأنبياء آباء أممهم، و أممهم في عداد أهاليهم.

و

فيه: أنّ من حقّ الصالح أن لا يألو نصحا للأجانب، فضلا عن الأقارب

______________________________

(1) في هامش النسخة الخطّية: «النهاية: الغاية. و فلان ناهيك و نهيك، كما تقول: كافيك و حسبك. و تأويله: أنه غاية تنهاك عن تطلّب غيره. و التطلّب: الطلب مرّة بعد مرّة. منه».

(2) الصافّات: 102.

(3) الشعراء: 214.

(4) طه: 132.

(5) التحريم: 6.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 188

و المتّصلين به، و أن يحظيهم بالفوائد الدينيّة، و لا يفرّط في شي ء من ذلك.

وَ كانَ عِنْدَ رَبِّهِ مَرْضِيًّا لاستقامة أقواله و أفعاله كلّها.

روى أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «إنّ إسماعيل بن إبراهيم مات قبل أبيه إبراهيم، و إنّ هذا هو إسماعيل بن حزقيل، بعثه اللّه إلى قومه، فسلخوا جلدة وجهه و فروة رأسه، فخيّره اللّه فيما شاء من عذابهم، فاستعفاه و رضي بثوابه، و فوّض أمرهم إلى اللّه في عفوه و عقابه. و قد أتاه ملك من ربّه يقرئه السلام و يقول: قد رأيت ما صنع بك، و قد أمرني بطاعتك، فمرني بما شئت. فقال: يكون لي بالحسين عليه السّلام قدوة».

[سورة مريم (19): الآيات 56 الى 57]

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا (56) وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا (57)

وَ اذْكُرْ فِي الْكِتابِ إِدْرِيسَ و هو سبط شيث، و جدّ أبي نوح. و اسمه أخنوخ.

و اشتقاقه من الدرس يردّه منع صرفه. و كذلك إبليس أعجميّ، و ليس من الإبلاس كما يزعمون، و لا يعقوب من العقب، و لا إسرائيل من إسراءل، و الأسر القوّة، و الإل هو اللّه، كما زعم ابن السكّيت. و من لم يحقّق و لم يتدرّب بالصناعة كثر منه أمثال هذه الهنات.

و لا يبعد أن يكون إدريس في تلك اللغة ملقّبا به لكثرة درسه، إذ

روي أنّه تعالى أنزل عليه ثلاثين صحيفة، و أنّه أوّل من خطّ بالقلم، و نظر في علم النجوم و الحساب، و أوّل من خاط الثياب و لبسها، و كانوا يلبسون الجلود.

إِنَّهُ كانَ صِدِّيقاً نَبِيًّا وَ رَفَعْناهُ مَكاناً عَلِيًّا رفيعا شريفا عند اللّه في رفعة الدرجة و مزيّة القربة. و قيل: المراد الجنّة. و قيل: السماء السادسة أو الرابعة، فإنّه رفع إليها كما رفع عيسى و هو حيّ لم يمت. و

روي عن أبي جعفر عليه السّلام «أنّه قبض روحه بين السماء الرابعة و الخامسة».

و اعلم أنّه يجوز أن يكون تقديم ذكر إبراهيم على موسى، و موسى على إسماعيل،

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 189

و إسماعيل على إدريس، لأجل تقدّم شرف كلّ واحد منهم على الآخر، و مزيّة مرتبة بعضهم على بعض على الترتيب المذكور.

[سورة مريم (19): الآيات 58 الى 62]

أُولئِكَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ مِنَ النَّبِيِّينَ مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ وَ مِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ وَ إِسْرائِيلَ وَ مِمَّنْ هَدَيْنا وَ اجْتَبَيْنا إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ خَرُّوا سُجَّداً وَ بُكِيًّا (58) فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ أَضاعُوا الصَّلاةَ وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا (59) إِلاَّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ وَ لا يُظْلَمُونَ شَيْئاً (60) جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّهُ كانَ وَعْدُهُ مَأْتِيًّا (61) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلاَّ سَلاماً وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَ عَشِيًّا (62)

و لمّا فصّل سبحانه ذكر النبيّين، و وصف كلّا منهم بصفة تخصّه، جمعهم في المدح و الثناء، فقال: أُولئِكَ أي: هؤلاء المذكورون في السورة من زكريّا إلى إدريس الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ بأنواع النعم الدينيّة و الدنيويّة مِنَ النَّبِيِّينَ بيان للموصول مِنْ ذُرِّيَّةِ آدَمَ

بدل منه بإعادة الجارّ. و يجوز أن تكون «من» فيه للتبعيض، لأنّ المنعم عليهم أعمّ من الأنبياء و أخصّ من الذرّيّة.

وَ مِمَّنْ حَمَلْنا مَعَ نُوحٍ من ذرّيّة من حملنا خصوصا. و هم من عدا إدريس، فإنّ إبراهيم كان من ذرّيّة سام بن نوح. وَ مِنْ ذُرِّيَّةِ إِبْراهِيمَ الباقون وَ إِسْرائِيلَ عطف على «إبراهيم» أي: و من ذرّيّة إسرائيل.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 190

و إنّما فرّق سبحانه ذكر نسبهم، مع أنّ كلّهم كانوا من ذرّيّة آدم، لتبيان مراتبهم في شرف النسب، فإنّه كان لإدريس شرف القرب لآدم، لأنّه جدّ نوح عليه السّلام. و كان إبراهيم من ذرّيّة من حمل مع نوح، كما ذكر آنفا. و كان إسماعيل و إسحاق و يعقوب من ذرّيّة إبراهيم، فلمّا تباعدوا من آدم حصل لهم شرف إبراهيم. و كذلك كان موسى و هارون و زكريّا و يحيى و عيسى من ذرّيّة إسرائيل. و فيه دليل على أنّ أولاد البنات من الذرّيّة، فإنّ مريم من ذرّيّة إسرائيل.

وَ مِمَّنْ هَدَيْنا عطف على «من» الأولى أو الثانية، أي: هؤلاء من جملة من أرشدناه إلى الحقّ وَ اجْتَبَيْنا للنبوّة و الكرامة إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُ الرَّحْمنِ من كتبه السماويّة خَرُّوا سُجَّداً وَ بُكِيًّا خبر ل «أولئك» إن جعل الموصول صفة، و استئناف إن جعل خبرا، لبيان أنّهم مع جلالة قدرهم و شرف نسبهم و كمال أنفسهم و زلفاهم من اللّه تعالى، كانوا يبكون عند ذكر آيات اللّه مخبتين خاشعين، و هؤلاء العصاة ساهون لاهون مع إحاطة السيّئات بهم.

و البكيّ جمع باك، كالسجود جمع ساجد. و قرأ حمزة و الكسائي: بكيّا بكسر الباء.

روي عن عليّ بن الحسين عليه السّلام أنّه قال: «نحن عنينا بهذه الآية».

و يؤيّده ما

روي عن ابن عبّاس: أنّ المراد من آيات الرحمن هاهنا القرآن. و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أتلوا القرآن و ابكوا، فإن لم تبكوا فتباكوا».

و

عن صالح المرّي: قرأت القرآن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في المنام، فقال لي: يا صالح هذه القراءة، فأين البكاء؟!

و

عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ القرآن نزل بحزن، فإذا قرأتموه فتحازنوا».

و عن ابن عبّاس: إذا قرأتم سجدة سبحان فلا تعجلوا بالسجود حتّى تبكوا، فإن لم تبك عين أحدكم فليبك قلبه.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 191

فَخَلَفَ مِنْ بَعْدِهِمْ خَلْفٌ فعقّبهم و جاء بعدهم عقب سوء. يقال: خلف صدق بالفتح، و خلف سوء بالسكون، كما قالوا: وعد في الخير، و وعيد في الشرّ. أَضاعُوا الصَّلاةَ تركوها. و عن ابن مسعود: أضاعوها بتأخيرها عن مواقيتها من غير أن يتركوها أصلا. و يؤيّد الأوّل الاستثناء من بعده. وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ أنفذوها فيما حرّم عليهم.

عن ابن عبّاس: هم اليهود، تركوا الصلاة المفروضة، و شربوا الخمر، و استحلّوا نكاح الأخت من الأب، و انهمكوا في المعاصي.

و عن قتادة: هم من هذه الأمّة عند قيام الساعة.

و

عن علي عليه السّلام في قوله: وَ اتَّبَعُوا الشَّهَواتِ من بني الشديد، و ركب المنظور، و لبس المشهور» «1».

فَسَوْفَ يَلْقَوْنَ غَيًّا شرّا، فإنّ كلّ شرّ عند العرب غيّ، كقوله:

فمن يلق خيرا تحمد النّاس أمره و من يغو لا يعدم على الغيّ لائما

أو جزاء غيّ، كقوله: يَلْقَ أَثاماً «2» أي: مجازاة أثام. أو غيّا عن طريق الجنّة.

و عن ابن مسعود: هو واد في جهنّم تستعيذ منه أوديتها.

إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً يدلّ على أنّ الآية في الكفرة فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ

الْجَنَّةَ. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و أبو بكر و يعقوب على البناء للمفعول، من:

أدخل. وَ لا يُظْلَمُونَ شَيْئاً و لا ينقصون شيئا من جزاء أعمالهم. و يجوز أن ينتصب «شيئا» على المصدر، أي: ظلما حقيرا، فإنّ «شيئا» وقع موقعه. و فيه تنبيه على أنّ كفرهم السابق لا يضرّهم، و لا ينقص أجورهم.

______________________________

(1) رواه الزمخشري في الكشّاف (3: 26) بهذا اللفظ. و الشديد: الرفيع. و لعلّه إشارة إلى بناء القصور الرفيعة المشيّدة، و ركوب الحيوان للخيلاء و التبختر، و لباس الشهرة.

(2) الفرقان: 68.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 192

جَنَّاتِ عَدْنٍ بدل من الجنّة بدل البعض، لأنّ الجنّة قد اشتملت عليها. أو منصوب على المدح.

و «عدن» بمعنى الإقامة، يقال: عدن بالمكان إذا أقام به. أو هو علم لأرض الجنّة، لكونها مكان إقامة، و لو لا ذلك لما ساغ الإبدال، لأنّ النكرة لا تبدل من المعرفة إلّا موصوفة، و لما ساغ وصفها ب «الّتي» في قوله الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ أي: عباده المؤمنين بِالْغَيْبِ أي: وعدها إيّاهم و هي غائبة عنهم، أو هم غائبون عنها. أو وعدهم بإيمانهم بالغيب.

إِنَّهُ إنّ اللّه كانَ وَعْدُهُ الّذي هو الجنّة مَأْتِيًّا يأتيها أهلها الموعود لهم لا محالة. و قيل: هو مأخوذ من: أتى إليه إحسانا، أي: باشره و صنع إليه. و منه قوله تعالى:

وَ اللَّاتِي يَأْتِينَ الْفاحِشَةَ «1» أي: يباشرنها. و المعنى: و كان وعد اللّه مفعولا منجّزا.

و في المجمع: «المفعول هنا بمعنى الفاعل، لأن ما أتيته فقد أتاك، و ما أتاك فقد أتيته» «2».

لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً فضول كلام و ما لا طائل تحته. و فيه تنبيه ظاهر على وجوب تجنّب اللغو و اتّقائه، حيث نزّه اللّه عنه الدار الّتي

لا تكليف فيها. و ما أحسن ما قال: وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً «3» وَ إِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَ قالُوا لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ «4» نعوذ باللّه من اللغو و الجهل، و الخوض فيما لا يعنينا.

إِلَّا سَلاماً و لكن يسمعون قولا يسلمون فيه من العيب و النقيصة. أو تسليم

______________________________

(1) النساء: 15.

(2) مجمع البيان 6: 521.

(3) الفرقان: 72.

(4) القصص: 55.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 193

الملائكة عليهم. أو تسليم بعضهم على بعض، على الاستثناء المنقطع. أو على معنى أنّ التسليم إن كان لغوا فلا يسمعون لغوا سواه، كقوله:

و لا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم بهنّ فلول من قراع الكتائب

أو على أنّ الدعاء بالسلامة و أهلها أغنياء عنه، فهو من باب اللغو ظاهرا، و إنّما فائدته الإكرام.

و لمّا كانت العرب تأكل الوجبة، و هي الأكلة الواحدة في اليوم، أخبر اللّه سبحانه بقوله: وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَ عَشِيًّا على العادة المحمودة بين المتنعّمين، و التوسّط بين الوجبة الّتي هي طرف التفريط، و بين دوام الأكل كلّ الأوقات كما هو عادة المنهومين و لا يكون ثمّ ليل و لا نهار، و لا قمر و شمس، ليكون لهم بكرة و عشيّ. و المراد: أنّهم يؤتون برزقهم على ما يعرفونه من مقدار الغداء و العشاء.

و قيل: إنّهم يعرفون مقدار الليل بإرخاء الحجب و إغلاق الأبواب، و مقدار النهار برفع الحجب و فتح الأبواب.

و قيل: المراد دوام الرزق و دروره، كما تقول: أنا عند فلان صباحا و مساء و بكرة و عشيّا، تريد الديمومة، و لا تقصد الوقتين المعلومين.

[سورة مريم (19): الآيات 63 الى 65]

تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا (63) وَ ما نَتَنَزَّلُ

إِلاَّ بِأَمْرِ رَبِّكَ لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا وَ ما خَلْفَنا وَ ما بَيْنَ ذلِكَ وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا (64) رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما فَاعْبُدْهُ وَ اصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا (65)

قيل: إنّ العاص بن وائل السهمي لم يعط أجرة أجير استعمله، و قال: لو كان ما

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 194

يقوله محمد حقّا فنحن أولى بالجنّة و نعيمها! فحينئذ أوفّره أجره، فنزلت: تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي نُورِثُ مِنْ عِبادِنا مَنْ كانَ تَقِيًّا نبقيها عليهم من ثمرة تقواهم، كما يبقى على الوارث مال مورّثه. و الوراثة أقوى لفظ يستعمل في التملّك و الاستحقاق، من حيث إنّها لا تعقّب بفسخ و لا استرجاع، و لا تبطل بردّ و لا إسقاط.

و قيل: أورثوا من الجنّة المساكن الّتي كانت لأهل النار لو أطاعوا، زيادة في كرامتهم. و عن يعقوب: نورّث بالتشديد.

و اعلم أنّه قد مرّ «1» في سورة الكهف

أنّه سئل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن قصّة أصحاب الكهف و ذي القرنين و الروح، و لم يدر ما يجيب، و رجا أن يوحى إليه فيه، فأبطأ عليه خمسة عشر يوما، و قيل: أربعين، حتّى قال المشركون: ودّعه ربّه و قلاه، فشقّ ذلك عليه مشقّة شديدة. ثمّ نزل جبرئيل ببيان ذلك. فقال رسول اللّه: أبطأت و إنّي اشتقت إليك. قال: إنّي كنت أشوق، و لكنّي عبد مأمور، إذا بعثت نزلت، و إذا حبست احتبست. فنزلت: وَ ما نَتَنَزَّلُ إِلَّا بِأَمْرِ رَبِّكَ فهو حكاية قول جبرئيل حين استبطأه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و التنزّل: النزول على مهل، لأنّه مطاوع: نزل. و قد يطلق بمعنى النزول مطلقا، كما يطلق «نزل» بمعنى: أنزل.

و

المعنى: ما نتنزّل وقتا غبّ وقت إلّا بأمر اللّه على ما تقتضيه حكمته.

لَهُ ما بَيْنَ أَيْدِينا ما قدّامنا وَ ما خَلْفَنا من الجهات و الأماكن وَ ما بَيْنَ ذلِكَ و هو ما نحن فيه من الأماكن و الأحايين وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا لأعمال العاملين و غيرها، فإنّه لا يجوز عليه الغفلة و النسيان.

و المعنى: ما كان عدم نزولنا إليك إلّا لعدم الأمر به، فأنّى لنا أن نتقلّب في ملكوته، و نتمالك أن ننتقل من جهة إلى جهة، و مكان إلى مكان، إلّا بأمر المليك و مشيئته، و هو الحافظ العالم بكلّ حركة و سكون. و ما يحدث و يتجدّد من الأحوال لا يجوز عليه الغفلة

______________________________

(1) راجع ص 100 ذيل الآية 24 من سورة الكهف.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 195

و النسيان، فأنّى لنا أن نتقلّب في ملكوته إلّا إذا راى ذلك مصلحة و حكمة، و أطلق لنا الإذن فيه.

و قيل: معناه: و ما كان ربّك تاركا لك، كقوله: ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى «1» أي:

احتباس الوحي لم يكن عن ترك اللّه لك و توديعه إيّاك كما زعمت الكفرة، و إنّما كان لحكمة رآها فيه.

و قيل: أوّل الآية حكاية قول المتّقين حين يدخلون الجنّة. و المعنى: و ما ننزل الجنّة إلّا بأمر اللّه و لطفه، و هو مالك الأمور كلّها، السالفة و المترقّبة و الحاضرة، فما وجدناه و ما نجده من فضله و لطفه. و قوله: وَ ما كانَ رَبُّكَ نَسِيًّا تقرير من اللّه لقولهم:

أي: و ما كان ناسيا لأعمال العاملين، و ما وعد لهم من الثواب عليها، و كيف يجوز النسيان و الغفلة على ذي ملكوت السماوات و الأرض و ما بينهما؟! و قيل: ما

سلف من أمر الدنيا، و ما يستقبل من أمر الآخرة، و ما بين ذلك ما بين النفختين، و هو أربعون سنة.

و قيل: ما مضى من أعمارنا، و ما غبر منها، و الحال الّتي نحن فيها.

و قيل: ما قبل وجودنا، و ما بعد فنائنا، و حين حياتنا.

و قيل: الأرض الّتي بين أيدينا إذا نزلنا، و السّماء الّتي وراءنا، و ما بين السماء و الأرض.

و توضيح المعنى: أنّه المحيط بكلّ شي ء، لا تخفى عليه خافية، و لا يعزب عنه مثقال ذرّة، فكيف نقدم على فعل نحدثه إلّا صادرا عمّا توجبه حكمته، و يأمرنا به، و يأذن لنا فيه؟! و قوله: رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما بيان لامتناع النسيان عليه. و هو خبر محذوف، أو بدل من «ربّك» أي: كيف يجوز النسيان و الغفلة على من له ملك

______________________________

(1) الضّحى: 3.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 196

السماوات و الأرض و ما بينهما؟! فحين عرفته بهذه الصفة فَاعْبُدْهُ وحده وَ اصْطَبِرْ لِعِبادَتِهِ أي: اصبر على تحمّل مشقّة عبادته، يثبك كما أثاب غيرك من المتّقين.

و هذا خطاب للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، مرتّب على ما قبله، أي: لمّا عرفت ربّك بأنّه لا ينبغي له أن ينساك أو ينسى أعمال العمّال، فأقبل على عبادته، و اصطبر عليها، و لا تتشوّش بإبطاء الوحي و هزء الكفرة.

و إنّما عدّي باللام لتضمّنه معنى الثبات للعبادة فيما يورد عليه من الشدائد و المشاقّ، كقولك للمحارب: اصطبر لقرنك، أي: اثبت للعبادة، و لا تهن، و لا يضق صدرك عن إلقاء عداتك «1» من أهل الكتاب إليك الأغاليط «2»، و عن احتباس الوحي عليك مدّة، و عن شماتة المشركين بك.

هَلْ تَعْلَمُ لَهُ سَمِيًّا مثلا

و شبيها يستحقّ أن يسمّى إلها، أو أحدا سمّي اللّه؟! فإنّ المشركين و إن سمّوا الصنم إلها لم يسمّوه اللّه قطّ، و ذلك لظهور أحديّته، و تعالى ذاته عن المماثلة، بحيث لم يقبل اللبس و المكابرة. أو هل تعلم أحدا يسمّى خالقا رازقا، محييا مميتا، قادرا على الثواب و العقاب سواه حتّى تعبده؟ فإذا لم تعلم ذلك فالزم عبادته.

و الاستفهام لتقرير الأمر، أي: إذا صحّ أن لا أحد مثله، و لا يستحقّ العبادة غيره، لم يكن بدّ من التسليم لأمره، و الاشتغال بعبادته، و الاصطبار على مشاقّها.

[سورة مريم (19): الآيات 66 الى 72]

وَ يَقُولُ الْإِنْسانُ أَ إِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا (66) أَ وَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً (67) فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ وَ الشَّياطِينَ ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ حَوْلَ جَهَنَّمَ جِثِيًّا (68) ثُمَّ لَنَنْزِعَنَّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا (69) ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا (70)

وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلاَّ وارِدُها كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا (71) ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا (72)

______________________________

(1) في هامش النسخة الخطّية: «العداة جمع عاد، و هو الظالم، كقضاة جمع قاض. منه».

(2) في هامش النسخة الخطية: «الأغاليط جمع أغلوط و أغلوطة. و في الحديث نهي عن المغلوطات و الأغلوطات. و هي المبهمة من المسائل. منه».

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 197

روي: أنّ أبيّ بن خلف الجمحي- و برواية ابن عبّاس: الوليد بن المغيرة- أخذ عظما باليا فجعل يفتّه بيده و يذريه في الريح، و يقول: زعم محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّ اللّه يبعثنا بعد أن نموت و نكون عظاما مثل هذا، إنّ هذا شي ء لا يكون أبدا. فنزلت:

وَ يَقُولُ الْإِنْسانُ

قيل: المراد به الجنس بأسره، فإنّ المقول مقول فيما بينهم و إن لم يقله كلّهم، كقولك: بنو فلان قتلوا فلانا، و القاتل واحد منهم. أو المراد بعضهم المعهود، و هم الكفرة.

أَ إِذا ما مِتُّ لَسَوْفَ أُخْرَجُ حَيًّا من الأرض، أو من حال الموت. و تقديم الظرف و إيلاؤه حرف الإنكار، لأنّ المنكر كون ما بعد الموت وقت الحياة. و انتصابه بفعل دلّ عليه «اخرج» لابه، لأن ما بعد اللام لا يعمل فيما قبلها، و لهذا لا يقال: اليوم لزيد قائم.

و «ما» في «أ إذا ما» للتأكيد. و اللام هنا مخلصة للتوكيد، مجرّدة عن معنى الحال، فلهذا ساغ اقترانها بحرف الاستقبال، كما خلصت الهمزة و اللام في «يا اللّه» للتعويض.

و روي عن ابن ذكوان: «إذا ما متّ» بهمزة واحدة مكسورة على الخبر.

أَ وَ لا يَذْكُرُ الْإِنْسانُ عطف على «و يقول». و توسيط همزة الإنكار بينه و بين العاطف، مع أنّ الأصل أن يتقدّمهما و يقال: أ يقول ذلك و لا يتذكّر، للدلالة على أنّ المنكر بالذات هو المعطوف، و أنّ المعطوف عليه إنّما نشأ منه، فإنّه لو تذكّر و تأمّل أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ قَبْلُ وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً بل كان عدما صرفا لم يقل ذلك، فإنّه أعجب و أغرب من جمع

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 198

الموادّ بعد التفريق، و إيجاد مثل ما كان فيها من الأعراض، و أدلّ على قدرة الخالق، حيث أخرج الجواهر و الأعراض من العدم إلى الوجود. ثمّ أوقع التأليف مشحونا بضروب الحكم الّتي تحار فيها الفطن، من غير حذو على مثال، و اقتداء بمؤلّف، و لكن اختراعا و إبداعا من عند قادر، جلّت قدرته، و دقّت حكمته.

و أمّا النشأة

الثانية فقد تقدّمت نظيرتها و عادت لها كالمثال المحتذى عليه، و ليس فيها إلّا تأليف الأجزاء الموجودة الباقية و تركيبها، و ردّها إلى ما كانت عليه مجموعة بعد التفكيك و التفريق.

و قوله تعالى: «وَ لَمْ يَكُ شَيْئاً» دليل على هذا المعنى. و كذلك قوله تعالى: وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ «1» على أنّ ربّ العزّة سواء عليه النشأتان، لا يتفاوت في قدرته الصعب و السهل، و لا يحتاج إلى احتذاء على مثال، و لا استعانة بحكيم، و لا نظر في مقياس، و لكن يواجه جاحد البعث بذلك دفعا في بحر معاندته، و كشفا عن صفحة جهله.

و قرأ نافع و ابن عامر و عاصم و قالون عن يعقوب: يذّكّر، من التذكّر الّذي يراد به التفكّر.

ثمّ أقسم سبحانه باسمه مبالغة و تأكيدا لوقوع الحشر، فقال: فَوَ رَبِّكَ لَنَحْشُرَنَّهُمْ أضاف اسمه إلى نبيّه تفخيما لشأن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و قوله: وَ الشَّياطِينَ عطف على المفعول به، أو مفعول معه. و هذا أحسن، لما روي أنّ الكفرة يحشرون مع قرنائهم من الشياطين الّذين أغووهم، كلّ كافر مع شيطانه في سلسلة. هذا إذا كان المراد بالإنسان الكفرة خاصّة. أمّا إذا أريد الأناسي على العموم، فالمعنى: أنّهم إذا حشروا و فيهم الكفرة مقرونين بالشياطين، فقد صدق أنّهم حشروا جميعا معهم، كقوله: وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً «2»، و إن كان القمر في فلك واحد.

______________________________

(1) الروم: 27.

(2) نوح: 16.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 199

ثُمَّ لَنُحْضِرَنَّهُمْ جميعا حَوْلَ جَهَنَّمَ ليرى السعداء ما نجّاهم اللّه منه، فيزدادوا غبطة و سرورا، و ليشمتوا بأعداء اللّه و أعدائهم، فتزداد مساءتهم، و ينال الأشقياء ما ادّخروا لمعادهم عدّة، فيزدادوا غيظا من رجوع السعداء عنهم إلى

دار الثواب، و شماتتهم عليهم.

جِثِيًّا متجاثين «1» على ركبهم، لما يدهمهم من هول المطّلع. أو لأنّه من توابع التواقف للحساب قبل التواصل إلى الثواب و العقاب، فإنّ أهل الموقف كلّهم جاثون، لقوله: وَ تَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً «2» على المعتاد في مواقف التقاول. و إن كان المراد بالإنسان الكفرة، فيجوز أن يساقوا جثاة من الموقف إلى شاطئ جهنّم إهانة بهم، أو لعجزهم عن القيام، لما عراهم من الشدّة.

و قرأ حمزة و الكسائي و حفص بكسر الجيم. و كذا في: عتيّا و صليّا.

ثُمَّ لَنَنْزِعَنَ لنستخرجنّ مِنْ كُلِّ شِيعَةٍ فعلة بمعنى الطائفة التي شاعت، أي: تبعت. و المراد: من كلّ أمّة شاعت دينا. أَيُّهُمْ أَشَدُّ عَلَى الرَّحْمنِ عِتِيًّا من كان أعتى و أعصى منهم، فنطرحهم في جهنّم. و العتيّ مصدر، كالعتوّ، و هو التمرّد في العصيان.

و في ذكر الأشدّ تنبيه على أنّه تعالى يعفو كثيرا من أهل العصيان. و لو خصّ بالكفرة، فالمراد أنّه يميّز طوائفهم أعتاهم فأعتاهم، و يطرحهم في النار على الترتيب، أو يدخل كلّا طبقتها الّتي تليق به.

و اختلفوا في «أيّهم»، فعند سيبويه أنّه مبنيّ على الضمّ، لأنّ حقّه أن يبنى كسائر الموصولات، لكنّه أعرب حملا على «كلّ» و «بعض» للزوم الإضافة، فإذا حذف صدر صلته زاد نقصه، فعاد إلى بنائه، لتأكّد شبه الحرف من جهة الاحتياج إلى أمر غير الصلة،

______________________________

(1) جثا جثوّا و جثيّا: جلس على ركبتيه أو قام على أطراف أصابعه، فهو جاث، و جمعه: جثيّ و جثيّ.

(2) الجاثية: 28.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 200

زبدة التفاسير ج 4 249

فإنّ جزء الصلة غير الصلة. و بنيت على الضمّ تشبيها لها بالغايات، لأنّه حذف منها بعض ما يوضحها، كما حذف من الغايات ما يبيّنها،

أعني: المضاف إليه.

و هو منصوب المحلّ ب «ننزعنّ». و عند الخليل مرفوع، إمّا بالابتداء على أنّه استفهاميّ، و خبره «أشدّ»، و الجملة محكيّة. و تقدير الكلام: لننزعنّ من كلّ شيعة الّذين يقال فيهم: أيّهم أشدّ. أو الجملة معلّق عنها ب «ننزعنّ»، لتضمّنه معنى التمييز اللازم للعلم. أو مستأنفة و الفعل واقع على «من كلّ شيعة»، على زيادة «من»، كما تقول: أكلت من كلّ طعام. أو على معنى: لننزعنّ بعض كلّ شيعة. و إمّا ب «شيعة» لأنّها بمعنى: تشيع، و «على» للبيان، أو متعلّق ب «أفعل» أي: عتوّهم أشدّ على الرحمن.

و كذا الباء في قوله: ثُمَّ لَنَحْنُ أَعْلَمُ بِالَّذِينَ هُمْ أَوْلى بِها صِلِيًّا أي: أولى بالصليّ، أو صليّهم أولى بالنار، و هم المنتزعون. و يجوز أن يراد بهم و بأشدّهم عتيّا رؤساء الشيع، فإنّ عذابهم مضاعف، لضلالهم و إضلالهم.

و المعنى: نحن أعلم بالّذين هم أولى بشدّة العذاب، و أحقّ بعظيم العقاب، و أجدر بلزوم النار.

و قرأ حمزة و الكسائي و حفص: صليّا بكسر الصاد. و هو لازم من باب: علم، بمعنى الدخول في النار و الحرق بها.

ثمّ التفت إلى الإنسان فقال خطابا لهم: وَ إِنْ مِنْكُمْ إِلَّا وارِدُها إلّا واصلها و حاضر عندها. و قيل: خطاب للناس من غير التفات إلى المذكور، أمّا المؤمن منهم فيمرّ بها و هي خامدة، و أمّا الكافر فتنهار به.

و

عن جابر أنّه سئل عليه السّلام عنه، فقال: إذا دخل أهل الجنّة الجنّة قال بعضهم لبعض:

أليس قد وعدنا ربّنا أن نرد النّار؟ فيقال لهم: قد وردتموها و هي خامدة.

و

عنه أيضا: أنّه سئل عن هذه الآية، فقال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «الورود الدخول، لا يبقى برّ

و لا فاجر إلّا دخلها، فتكون على المؤمنين بردا و سلاما كما كانت

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 201

على إبراهيم عليه السّلام، حتّى إنّ للنار ضجيجا من بردها».

و

روي مرفوعا عن يعلى بن منبّه عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «تقول النار للمؤمن يوم القيامة: جز يا مؤمن، فقد أطفأ نورك لهبي».

روي عنه عليه السّلام أيضا أنّه سئل عن معنى الآية فقال: «إنّ اللّه يجعل النار كالسمن الجامد، و يجمع عليها الخلق، ثمّ ينادي المنادي: أن خذي أصحابك و ذري أصحابي. قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: فو الّذي نفسي بيده لهي أعرف بأصحابها من الوالدة بولدها».

و

روي عن الحسن أنّه رأى رجلا يضحك، فقال: هل علمت أنّك وارد النار؟ قال:

نعم. قال: و هل علمت أنّك خارج منها؟ قال: لا. قال: فبم هذا الضحك؟ فكان الحسن لم ير ضاحكا حتّى مات.

و أمّا قوله تعالى: أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ «1» فالمراد عن عذابها، لا عن ورودها.

و عن ابن مسعود و الحسن و قتادة: معنى الورود الجواز على الصراط، فإنّه ممدود عليها.

و عن ابن عبّاس: قد يرد الشي ء الشّي ء و لم يدخله، كقوله: وَ لَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ «2»، و وردت القافلة البلد و إن لم تدخله و لكن قربت منه.

و عن مجاهد: ورود المؤمن النار هو مسّ الحمّى جسده في الدنيا،

لقوله عليه السّلام «الحمّى من فيح جهنّم».

و

في الحديث: «الحمّى حظّ كلّ مؤمن من النار».

كانَ عَلى رَبِّكَ حَتْماً مَقْضِيًّا كان ورودهم واجبا أوجبه اللّه على نفسه و قضى به. و قيل: أقسم عليه. و الحتم مصدر: حتم الأمر إذا أوجبه، فسمّي به الموجب، كقولهم:

خلق اللّه، و ضرب الأمير.

______________________________

(1) الأنبياء: 101.

(2) القصص: 23.

زبدة التفاسير، ج 4،

ص: 202

ثُمَّ نُنَجِّي الَّذِينَ اتَّقَوْا الشرك، فيساقون إلى الجنّة. و قرأ الكسائي و يعقوب:

ننجي بالتخفيف. وَ نَذَرُ الظَّالِمِينَ فِيها جِثِيًّا باركين على ركبهم، منها؟؟؟ رابهم كما كانوا.

و دلّ هذا على أنّ الورود بمعنى الجثوّ حواليها، و أنّ المؤمنين يفارقون الكفرة إلى الجنّة بعد تجاثيهم، و تبقى الكفرة في مكانهم جاثين.

[سورة مريم (19): آية 73]

وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ خَيْرٌ مَقاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا (73)

ثمّ بيّن مقال أهل الكفر و الطغيان عند العجز عن معارضة القرآن، فقال: وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ مرتلات الألفاظ، مبيّنات المعاني، ملخّصات المقاصد، إمّا محكمات، أو متشابهات قد تبعها البيان بالمحكمات، أو بتبيين الرسول. أو المراد:

واضحات الإعجاز، قد تحدّى بها فلم يقدر على معارضتها. أو حجبا و براهين. و على هذا فالوجه أن تكون حالا مؤكّدة، كقوله: وَ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً «1» لأنّ آيات اللّه لا تكون إلّا واضحة و حججا.

قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا جحدوا بآياتنا لِلَّذِينَ آمَنُوا لأجلهم و في معناهم، كقوله تعالى: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا «2» أو معهم، أي:

يواجهونهم به و يناطقونهم. أَيُّ الْفَرِيقَيْنِ من المؤمنين بالآيات و الكافرين الجاحدين لها خَيْرٌ مَقاماً موضع قيام. و قرأ ابن كثير بالضمّ، أي: موضع إقامة و منزل. وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا مجلسا و مجتمعا للانتداء و التحديث.

و المعنى: أنّهم لمّا سمعوا الآيات الواضحات، و عجزوا عن معارضتها و الدخل

______________________________

(1) البقرة: 91.

(2) الأحقاف: 11.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 203

عليها، أخذوا في الافتخار بما لهم من حظوظ الدنيا، و الاستدلال على أنّ زيادة حظّهم فيها يدلّ على فضلهم و حسن حالهم عند اللّه تعالى، لقصور نظرهم على الحال، و علمهم بظاهر

من الحياة الدنيا.

[سورة مريم (19): آية 74]

وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَ رِءْياً (74)

و قد روي أنّهم كانوا يرجّلون شعورهم و يدهنون و يتطيّبون و يتزيّنون بالزين الفاخرة، ثمّ يدعون مفتخرين على فقراء المسلمين أنّهم أكرم على اللّه تعالى منهم. فردّ اللّه عليهم ذلك مع التهديد نقضا، فقال: وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ «كم» مفعول «أهلكنا»، و «من قرن» تبيين لإبهامها، أي: كثيرا من القرون أهلكنا. و إنّما سمّي أهل كلّ عصر قرنا، لأنّهم يتقدّمون من بعدهم.

هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً في محلّ النصب صفة ل «كم». ألا ترى أنّك لو تركت «هم» لم يكن لك بدّ من نصب «أحسن» على الوصفيّة. و «أثاثا» تمييز عن النسبة. و هو متاع البيت. و قيل: هو ما جدّ «1» من الفرش، غير مبتذل و لا ممتهن. و الخرثي «2» ما ليس منها ورثّ.

وَ رِءْياً و هو المنظر و الهيئة. فعل بمعنى مفعول، من الرؤية لما يرى، كالطحن و الخبز. و قرأ قالون و ابن ذكوان: ريّا على قلب الهمزة ياء و إدغامها، أو على أنّه من الريّ الّذي هو النعمة و الترفّه، من قولهم: ريّان من النعيم. و أبو بكر: ريئا على القلب.

و المعنى: أنّا قد أهلكنا قبلهم أمما و جماعات كانوا أكثر أموالا و أحسن منظرا منهم، و لم تغن عنهم أموالهم و لا جمالهم، كذلك لا يغني عن هؤلاء.

______________________________

(1) في هامش النسخة الخطية: «من الجدة ضدّ الخلق. منه».

(2) الخرثي: أردأ المتاع و سقطه، و العتيق من لوازم البيت و ما رثّ- أي: بلي- منها.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 204

[سورة مريم (19): آية 75]

قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ إِمَّا الْعَذابَ وَ إِمَّا السَّاعَةَ فَسَيَعْلَمُونَ

مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً وَ أَضْعَفُ جُنْداً (75)

ثمّ بيّن أنّ تمتيعهم استدراج و ليس بإكرام، و إنّما العيار على الفضل و النقص ما يكون في الآخرة، فقال: قُلْ مَنْ كانَ فِي الضَّلالَةِ فَلْيَمْدُدْ لَهُ الرَّحْمنُ مَدًّا فيمدّه و يمهله بطول العمر و التمتّع به.

و إنّما أخرجه على لفظ الأمر إيذانا بوجوب إمهاله، و أنّه مفعول لا محالة، كالمأمور به الممتثل، لأنّه تنقطع معاذير الضالّ، و يقال له يوم القيامة: أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ «1».

أو المعنى: من كان في الضلالة فيمدّ له الرحمن، على معنى الدعاء عليه، بأن يمهله اللّه عزّ و جلّ، و يؤخّره في مدّة حياته خذلانا و استدراجا.

أو المعنى على التهديد، أي: فليعش ما شاء، فإنّه لا ينفعه طول عمره، بل يوجب مزيد عذابه و نكاله.

حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ غاية المدّ. و قيل: غاية قول الّذين كفروا للّذين آمنوا. و الآيتان اعتراض بينهما، أي: لا يزالون يقولون هذا القول حتّى إذا رأوا ما يوعدون.

ثمّ فصّل الموعود بقوله: إِمَّا الْعَذابَ في الدنيا. و هو غلبة المسلمين عليهم، و تعذيبهم إيّاهم قتلا و أسرا. وَ إِمَّا السَّاعَةَ و إمّا يوم القيامة، و ما ينالهم فيه

______________________________

(1) فاطر: 37.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 205

من الخزي و النكال.

فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ شَرٌّ مَكاناً من الفريقين، بأن عاينوا الأمر على عكس ما قدّروه، و عاد ما متّعوا به خذلانا و وبالا عليهم. و هو جواب الشرط. وَ أَضْعَفُ جُنْداً أي: فئة و أنصارا و أعوانا. قابل به «خَيْرٌ مَقاماً وَ أَحْسَنُ نَدِيًّا» من حيث إنّ حسن النادي باجتماع وجوه القوم و أعيانهم و أعوانهم، و ظهور شوكتهم و استظهارهم.

[سورة مريم (19): آية 76]

وَ يَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا

هُدىً وَ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً وَ خَيْرٌ مَرَدًّا (76)

ثمّ بيّن سبحانه حال المؤمنين، فقال: وَ يَزِيدُ اللَّهُ الَّذِينَ اهْتَدَوْا هُدىً عطف على الشرطيّة المحكيّة بعد القول، كأنّه لمّا بيّن أنّ إمهال الكافر و تمتيعه بالحياة الدنيا ليس لفضله، أراد أن يبيّن أنّ قصور حظّ المؤمن منها ليس لنقصه، بل لأنّ اللّه عزّ و جلّ أراد به ما هو خير له، و عوّضه منه.

و قيل: عطف على «فليمدد». و الآية في معنى الخبر. كأنّه قيل: من كان في الضلالة يزيد اللّه في ضلاله بالخذلان و التخلية، و يزيد المقابل له هداية.

وَ الْباقِياتُ الصَّالِحاتُ الطاعات الّتي تبقى عائدتها أبد الآباد في الآخرة.

و يدخل فيها ما قيل من الصلوات الخمس، و التسبيحات الأربع، أعني: سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر، و غير ذلك، كما مرّ في سورة الكهف «1».

خَيْرٌ عِنْدَ رَبِّكَ ثَواباً عائدة ممّا متّع به الكفرة، من النعم الناقصة الفانية الّتي يفتخرون بها، و مع ذلك مآل ذلك النعيم الأبدي، و مآل هذه الحسرة و العذاب الدائم، كما أشار إليه بقوله: وَ خَيْرٌ مَرَدًّا مرجعا و عاقبة. أو منفعة. من قولهم: ليس لهذا الأمر مردّ،

______________________________

(1) راجع ص 116- 117 ذيل الآية 46 من سورة الكهف.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 206

أي: منفعة، و هو أردّ عليك، أي: أنفع. و الخير هنا إمّا لمجرّد الزيادة، أو على طريقة قولهم: الصيف أحرّ من الشتاء، أي: أبلغ في حرّه منه في برده.

[سورة مريم (19): الآيات 77 الى 82]

أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَ قالَ لَأُوتَيَنَّ مالاً وَ وَلَداً (77) أَطَّلَعَ الْغَيْبَ أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (78) كَلاَّ سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا

(79) وَ نَرِثُهُ ما يَقُولُ وَ يَأْتِينا فَرْداً (80) وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا (81)

كَلاَّ سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا (82)

روي أنّ الخباب بن الأرتّ كان له على العاص بن وائل مال، فتقاضاه.

فقال له: لا أقضيك حتّى تكفر بمحمّد.

فقال: لا و اللّه لا أكفر بمحمّد حيّا و لا ميّتا، و لا حين تبعث.

قال: فإنّي إذا متّ بعثت؟

قال: نعم.

قال: فإذا بعثت جئني، و سيكون لي ثمّ مال و ولد، فأعطيك. فنزلت: أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي كَفَرَ بِآياتِنا وَ قالَ لَأُوتَيَنَّ مالًا وَ وَلَداً لمّا كانت رؤية الأشياء أشدّ طريقا إلى الإحاطة بها علما، و أقوى سندا للإخبار، استعملوا «أ رأيت» بمعنى: أخبر، و الفاء جاءت لإفادة معناها الّذي هو التعقيب، كأنّه قال: أخبر أيضا بقصّة هذا الكافر عقيب حديث أولئك.

و قرأ حمزة و الكسائي: و ولدا. و هو جمع ولد، كأسد و أسد، أو لغة فيه،

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 207

كالعرب و العرب.

أَطَّلَعَ الْغَيْبَ يقال: اطّلع الجبل إذا ارتقى إلى أعلاه. فالمعنى: قد بلغ من عظمة شأنه إلى أن ارتقى إلى علم الغيب الّذي توحّد به الواحد القهّار، حتّى ادّعى أن يؤتى في الآخرة مالا و ولدا، و أقسم عليه.

أَمِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً أو اتّخذ من عالم الغيوب عهدا بذلك، فإنّه لا يتوصّل إلى العلم به إلّا بأحد هذين الطريقين. و قيل: العهد كلمة الشهادة.

و عن قتادة: هل له عمل صالح قدّمه، فهو يرجو بذلك ما يقول؟! فإنّ وعد اللّه بالثواب على الشهادة أو العمل الصالح كالعهد عليه.

كَلَّا ردع و تنبيه على أنّه مخطئ فيما يصوّره لنفسه و يتمنّاه، فليرتدع عنه سَنَكْتُبُ ما يَقُولُ ذكر سين التسويف، لأنّه بمعنى: سنظهر له أنّا

كتبنا قوله. أو سننتقم منه انتقام من كتب جريمة العدوّ و حفظها عليه، فإنّ نفس الكتبة لا تتأخّر عن القول أبدا، لقوله تعالى: ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ «1».

وَ نَمُدُّ لَهُ مِنَ الْعَذابِ مَدًّا و نطوّل له من العذاب ما يستأهله. أو نزيد عذابه، و نضاعف له بعضا فوق بعض، لكفره و افترائه و استهزائه على اللّه. و لذلك أكّده بالمصدر دلالة على فرط غضبه عليه. يقال: مدّه و أمدّه بمعنى.

وَ نَرِثُهُ بموته ما يَقُولُ يعني: المال و الولد وَ يَأْتِينا يوم القيامة فَرْداً لا يصحبه مال و لا ولد كان له في الدنيا، فضلا أن يؤتى ثمّة زائدا، كقوله: وَ لَقَدْ جِئْتُمُونا فُرادى «2».

و قيل: معناه: إنّما يقوله ما دام حيّا، فإذا قبضناه حلنا بينه و بين أن يقوله، و يأتينا رافضا لهذا القول، منفردا عنه، غير قائل له.

______________________________

(1) ق: 18.

(2) الأنعام: 94.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 208

وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا ليتعزّزوا بهم، حيث يكونون لهم و صلة إلى اللّه، و شفعاء عنده، و أنصارا ينقذونهم من العذاب.

كَلَّا ردع و إنكار لتعزّزهم بها سَيَكْفُرُونَ بِعِبادَتِهِمْ ستجحد الآلهة عبادتهم، و يقولون: ما عبدتمونا و أنتم كاذبون، لقوله: إِذْ تَبَرَّأَ الَّذِينَ اتُّبِعُوا مِنَ الَّذِينَ اتَّبَعُوا «1».

أو سينكر الكفّار لسوء عاقبتهم أنّهم عبدوها، كقوله: ثُمَّ لَمْ تَكُنْ فِتْنَتُهُمْ إِلَّا أَنْ قالُوا وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ «2».

و قوله: وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا يؤيّد الأوّل، إذا فسّر الضدّ بضدّ العزّ، أي:

و يكونون عليهم ضدّا لما قصدوه و أرادوه، كأنّه قيل: و يكونون عليهم ذلّا و هوانا، لا لهم عزّا.

أو بضدّهم بمعنى. عونهم، كما يقال: من أضدادكم، أي: أعوانكم. و سمّي

العون ضدّا، لأنّه يضادّ عدوّك و ينافيه بإعانته لك عليه، أي: أنّها تكون معونة عليهم في عذابهم، بأن توقد بها نيرانهم، فإنّهم وقود النار و حصب جهنّم، و لأنّهم عذّبوا بسبب عبادتها.

أو جعل الواو للكفرة، أي: يكونون كافرين بهم بعد أن كانوا يعبدونها. و توحيده لوحدة المعنى الّذي به مضادّتهم، و هو اتّفاق كلمتهم، و فرط تضامّهم و توافقهم، فهم كشي ء واحد. و نظيره

قوله عليه السّلام: «و هم يد على من سواهم».

[سورة مريم (19): الآيات 83 الى 84]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ تَؤُزُّهُمْ أَزًّا (83) فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ عَدًّا (84)

______________________________

(1) البقرة: 166.

(2) الأنعام: 23.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 209

ثمّ عجّب اللّه سبحانه رسوله من أقاويل العتاة المردة من الكفرة، و تماديهم في الغيّ، و تصميمهم على الكفر، و اجتماعهم على دفع الحقّ بعد وضوحه و انتفاء الشكّ عنه، و انهماكهم في اتّباع الشياطين و ما تسوّل لهم، فقال: أَ لَمْ تَرَ أَنَّا أَرْسَلْنَا الشَّياطِينَ عَلَى الْكافِرِينَ بأن خلينا بينهم و بينهم و لم نمنعهم، و لم نحل بينهم و بينهم، و لو شاء لمنعهم قسرا و إجبارا، لكنّه مناف للتكليف الّذي هو مناط الثواب و العقاب.

تَؤُزُّهُمْ أَزًّا تهزّهم و تغريهم و تهيّجهم على المعاصي بالتسويلات و تحبيب الشهوات. و الأزّ و الهزّ و الاستفزاز أخوات. و معناها: التهييج و شدّة الإزعاج.

فَلا تَعْجَلْ عَلَيْهِمْ بأن يهلكوا حتّى تستريح أنت و المؤمنون من شرورهم، و تطهر الأرض من فسادهم بقطع دابرهم إِنَّما نَعُدُّ لَهُمْ أيّام آجالهم عَدًّا أي:

فلتطب نفسك يا محمّد و لا تستعجل بهلاكهم، فإنّه لم يبق لهم إلّا أيّام محصورة، و أنفاس معدودة، و ما دخل تحت العدّ فكان قد نفد. و هذا استقصار

لمددهم.

و عن ابن عبّاس: أنّه كان إذا قرأها بكى و قال: آخر العدد خروج نفسك، أي:

روحك، آخر العدد فراق أهلك، آخر العدد دخول قبرك.

و عن ابن سماك: أنّه كان عند المأمون فقرأها، فقال: إذا كانت الأنفاس بالعدد، و لم يكن لها مدد، فما أسرع ما تنفد.

[سورة مريم (19): الآيات 85 الى 87]

يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ وَفْداً (85) وَ نَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً (86) لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً (87)

ثمّ بيّن حال المطيعين المتّقين، و مآل المتمرّدين العاصين في الآخرة، بقوله:

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 210

يَوْمَ نَحْشُرُ الْمُتَّقِينَ إِلَى الرَّحْمنِ إلى ربّهم الّذي غمرهم برحمته، و خصّهم برضوانه و كرامته. و ذكر هذا الاسم الشريف في هذه السورة مكرّرا، لأن مساق الكلام فيها، لتعداد نعمه الجسام، و شرح حال الشاكرين لها و الكافرين بها. وَفْداً وافدين عليه، كما يفد الوفّاد على الملوك منتظرين لكرامتهم و إنعامهم.

و

عن عليّ عليه السّلام: «ما يحشرون و اللّه على أرجلهم، و لكنّهم على نوق رحالها ذهب، و على نجائب سروجها ياقوت».

وَ نَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ بإهانة و استخفاف كما تساق البهائم إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً عطاشا، فإنّ من يرد الماء لا يرد إلّا لعطش. و حقيقة الورد المسير إلى الماء. يعني: كأنّهم نعم عطاش تساق إلى الماء.

لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ الضمير فيه للعباد المدلول عليها بذكر القسمين. و هو الناصب لليوم. و قيل: نصب بمضمر، أي: يوم نجمعهم و نسوقهم نفعل بالفريقين ما لا يحيط به الوصف. أو اذكر يوم نحشر.

إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً إلّا من تحلّى بما يستعدّ به و يستأهل أن يشفع للعصاة، من الإيمان و العمل الصالح على ما وعد اللّه. أو إلّا من اتّخذ من اللّه إذنا فيها، كالأنبياء

و الأئمّة و خيار المؤمنين. فهو كقوله: لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ «1». من قولهم: عهد الأمير إلى فلان بكذا، إذا أمره به.

و محلّه الرفع على البدل من الضمير. أو النصب على تقدير مضاف، أي: إلّا شفاعة من اتّخذ، أو على الاستثناء.

و قيل: الضمير للمجرمين. و المعنى: لا يملكون الشفاعة فيهم إلّا من اتّخذ عند الرحمن عهدا يستعدّ به أن يشفع له بالإسلام.

عن ابن مسعود: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لأصحابه ذات يوم: «أ يعجز أحدكم أن يتّخذ

______________________________

(1) طه: 109. زبدة التفاسير، ج 4، ص: 211

كلّ صباح و مساء عند اللّه عهدا؟

قالوا: و كيف ذلك؟

قال: يقول كلّ صباح و مساء: اللّهمّ فاطر السماوات و الأرض، عالم الغيب و الشهادة، إنّي أعهد إليك بأنّي أشهد أن لا إله إلّا أنت وحدك لا شريك لك، و أنّ محمّدا عبدك و رسولك، و أنّك إن تكلني إلى نفسي تقرّبني من الشرّ و تباعدني من الخير، و أنّي لا أثق إلّا برحمتك، فصلّ على محمّد و آل محمّد، و اجعل لي عندك عهدا توفينيه يوم القيامة، إنّك لا تخلف الميعاد.

فإذا قال ذلك طبع عليه بطابع و وضع تحت العرش، فإذا كان يوم القيامة نادى مناد: أين الّذين لهم عند الرحمن عهد؟ فيدخلون الجنّة».

و

قال عليّ بن إبراهيم بن هاشم في تفسيره: «حدّثني أبي، عن ابن محبوب، عن سليمان بن جعفر، عن أبيه، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، عن أبيه، عن آبائه عليهم السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من لم يحسن وصيّته عند الموت كان نقصا في مروءته.

قيل: يا رسول اللّه و كيف يوصي الميّت؟

قال: إذا

حضرته وفاته و اجتمع الناس إليه قال: اللّهمّ فاطر السماوات و الأرض، عالم الغيب و الشهادة، الرحمن الرحيم، إنّي أعهد إليك في دار الدنيا أنّي أشهد أن لا إله إلّا أنت وحدك لا شريك لك، و أنّ محمدا عبدك و رسولك، و أنّ الجنّة حقّ و أن النار حقّ، و أن البعث حقّ، و الحساب حقّ، و القدر و الميزان حقّ، و أنّ الدين كما وصفت، و أنّ الإسلام كما شرعت، و أنّ القول كما حدّثت، و أنّ القرآن كما أنزلت، و أنّك أنت اللّه الحقّ المبين.

جزى اللّه عنّا محمّدا خير الجزاء، و حيّا اللّه محمّدا و آله بالسلام.

اللّهمّ يا عدّتي عند كربتي، و يا صاحبي عند شدّتي، و يا وليّي في نعمتي، يا إلهي و إله آبائي لا تكلني إلى نفسي طرفة عين، فإنّك إن تكلني إلى نفسي كنت أقرب من الشرّ و أبعد من الخير. و آنس في القبر وحشتي، و اجعل لي عهدا يوم ألقاك منشورا.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 212

ثمّ يوصي بحاجته.

و تصديق هذه الوصيّة في سورة مريم في قوله: «لا يَمْلِكُونَ الشَّفاعَةَ إِلَّا مَنِ اتَّخَذَ عِنْدَ الرَّحْمنِ عَهْداً». فهذا عهد الميّت. و الوصيّة حقّ على كلّ مسلم، و حقّ عليه أن يحفظ هذه الوصيّة و يتعلّمها. و

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «علّمنيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قال:

علّمنيها جبرئيل» «1».

[سورة مريم (19): الآيات 88 الى 95]

وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً (88) لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا (89) تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَ تَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا (90) أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً (91) وَ ما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً (92)

إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِلاَّ آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً

(93) لَقَدْ أَحْصاهُمْ وَ عَدَّهُمْ عَدًّا (94) وَ كُلُّهُمْ آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً (95)

وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً الضمير يحتمل لمطلق الإنسان، لأنّ هذا لمّا كان مقولا فيما بين الناس جاز أن ينسب إليهم. أو المراد الإخبار عن اليهود و النصارى و مشركي العرب، فإنّ اليهود قالوا: عزيز ابن اللّه، و قالت النصارى: المسيح ابن اللّه، و قال مشركو العرب: الملائكة بنات اللّه.

ثمّ التفت إليهم للمبالغة في الذمّ، و التسجيل عليهم بالجرأة على اللّه، و قال خطابا لهم: لَقَدْ جِئْتُمْ شَيْئاً إِدًّا شيئا منكرا عظيم النكارة شنيعا فظيعا، فإنّ الإدّ بالفتح

______________________________

(1) تفسير عليّ بن إبراهيم 2: 55- 56.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 213

و الكسر العظيم المنكر. و الإدّة: الشدّة. و أدّني الأمر: أثقلني و عظم عليّ. و قيل: الإدّ:

العجب.

ثمّ بيّن عظم نكارته، و قرّر شدّة فظاعته و فرط شناعته بقوله: تَكادُ السَّماواتُ و قرأ نافع و الكسائي بالياء يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ يتشقّقن مرّة بعد أخرى.

و قرأ أبو عمرو و ابن عامر و حمزة و أبو بكر و يعقوب: ينفطرن. و الأوّل أبلغ، لأنّ التفعّل مطاوع: فعل، و الانفعال مطاوع: فعل. يقال: فطره فانفطر إذا شقّه، و فطّره فتفطّر إذا شقّقه. و لأنّ أصل التفعّل التكلّف.

وَ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَ تَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا تهدّ هدّا، أو مهدودة، أو لأنّها تهدّ، أي:

تكسر.

و معنى انفطار السماوات و انشقاق الأرض و خرور الجبال عند قولهم: «اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً» من وجهين:

الأوّل: أن يكون استعظاما للكلمة، و تهويلا من فظاعتها، و تصويرا لأثرها في الدين، و هدمها لأركانه و قواعده. فالمعنى: أنّ هول هذه الكلمة و عظمها بحيث لو تصوّرت بصورة محسوسة، لم تتحمّلها هذه الأجرام العظام، و تفتّتت من شدّتها.

و الثاني: أنّ

فظاعتها مجلبة لغضب اللّه، بحيث لو لا حلمه لخرّب الدنيا و بدّد قوائمه، غضبا على من تفوّه بها، فإنّها تؤثّر في هدم أركان الدين و قواعد التوحيد، الّتي هي سبب بناء العالم و علّة إيجاده و قوامه. فكأنّه قال سبحانه: كدت أفعل هذا بالسماوات و الأرض و الجبال عند وجود هذه الكلمة، غضبا منّي على من تقوّل بها لو لا حلمي و وقاري، و أنّي لا أعجل بالعقوبة، كما قال: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَ لَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً «1».

أَنْ دَعَوْا لِلرَّحْمنِ وَلَداً يحتمل النصب على العلّة ل «تكاد»، أو ل «هدّا» على

______________________________

(1) فاطر: 41.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 214

حذف اللام و إفضاء الفعل إليه. و الجرّ بإضمار اللام، أو بالإبدال من الهاء في «منه».

و الرفع على أنّه خبر محذوف، تقديره: الموجب لذلك أن دعوا، أو فاعل «هدّا» أي: هدّها دعاء الولد للرحمن.

و هو من: دعا، بمعنى: سمّى، المتعدّي إلى مفعولين. و إنّما اقتصر على المفعول الثاني ليحيط بكلّ ما دعي له ولدا. أو من: دعا، بمعنى: نسب، الّذي مطاوعه: ادّعى إلى فلان إذا انتسب إليه.

وَ ما يَنْبَغِي لِلرَّحْمنِ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً «انبغى» مطاوع: بغى إذا طلب، أي: ما يتأتّى له اتّخاذ الولد، و ما ينطلب له لو طلب مثلا، لأنّه محال غير داخل تحت الإمكان.

أمّا الولادة المعروفة فلا مقال في استحالتها. و أمّا التبنّي فلا يكون إلّا فيما هو من جنس المتبنّي، و ليس للقديم سبحانه جنس، تعالى عمّا يقول الظّالمون علوّا كبيرا.

و لعلّ ترتيب الحكم بصفة الرحمانيّة للإشعار بأنّ كلّ ما عداه نعمة و منعم عليه، فلا يجانس من هو مبدأ

النعم كلّها و مولي أصولها و فروعها، فكيف يمكن أن يتّخذه ولدا؟! ثمّ صرّح به في قوله: إِنْ كُلُّ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي: ما منهم إِلَّا آتِي الرَّحْمنِ عَبْداً إلّا و هو مملوك له يأوي إليه بالعبوديّة و الانقياد، فكيف يكون له ولد؟! لَقَدْ أَحْصاهُمْ حصرهم و أحاط بهم بعلمه، بحيث لا يخرجون عن حوزة علمه و قبضة قدرته وَ عَدَّهُمْ عَدًّا عدّ أشخاصهم و أنفاسهم و أفعالهم، فإنّ كلّ شي ء عنده بمقدار.

قال في الكشّاف: «الّذين اعتقدوا في الملائكة و عيسى و عزير عليهم السّلام، أنّهم أولاد اللّه، كانوا بين كفرين، أحدهما: القول بأنّ الرحمن يصحّ أن يكون والدا. و الثاني: إشراك الّذين زعموهم للّه أولادا في عبادته، كما يخدم الناس أبناء الملوك خدمتهم لآبائهم. فهدم اللّه الكفر الأوّل فيما تقدّم من الآيات، ثمّ عقّبه بهدم الكفر الآخر.

و المعنى: ما من معبود لهم في السماوات و الأرض- من الملائكة و من الناس- إلّا

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 215

و هو يأتي الرحمن، أي: يأوي إليه و يلتجئ إلى ربوبيّته، عبدا منقادا مطيعا خاشعا خاشيا راجيا، كما يفعل العبيد، و كما يجب عليهم، لا يدّعي لنفسه ما يدّعيه له هؤلاء الضلّال. و نحوه قوله تعالى: أُولئِكَ الَّذِينَ يَدْعُونَ يَبْتَغُونَ إِلى رَبِّهِمُ الْوَسِيلَةَ أَيُّهُمْ أَقْرَبُ وَ يَرْجُونَ رَحْمَتَهُ وَ يَخافُونَ عَذابَهُ «1» و كلّهم متقلّبون في ملكوته، مقهورون بقهره، و هو مهيمن عليهم، محيط بهم، و بجمل أمورهم و تفاصيلها و كيفيّتهم و كمّيّتهم، لا يفوته شي ء من أحوالهم» «2».

وَ كُلُّهُمْ و كلّ واحد منهم آتِيهِ يَوْمَ الْقِيامَةِ فَرْداً منفردا عن الأتباع و الأنصار، فلا يجانسه شي ء من ذلك ليتّخذه ولدا، و لا يناسبه ليشرك به.

[سورة مريم (19): الآيات 96 الى 98]

إِنَّ

الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا (96) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا (97) وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً (98)

ثمّ ذكر سبحانه أحوال المؤمنين، فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَيَجْعَلُ لَهُمُ الرَّحْمنُ وُدًّا سيحدث لهم في القلوب مودّة، من غير تعرّض منهم لأسبابها، من صداقة أو قرابة أو اصطناع بمبرّة، أو غير ذلك، و إنّما هو اختراع منه ابتداء، كرامة لأوليائه، كما قذف في قلوب أعدائهم الرعب و الهيبة، إعظاما لهم و إجلالا لمكانهم.

و ذكر سين التسويف، لأنّ السورة مكّيّة، و كان المؤمنون ممقوتين حينئذ بين

______________________________

(1) الإسراء: 57.

(2) الكشّاف 3: 46- 47.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 216

الكفرة، فوعدهم ذلك إذا دجا «1» الإسلام. أو لأنّ الموعود في القيامة حين تعرض حسناتهم على رؤوس الأشهاد، فينزع ما في صدورهم من الغلّ.

و يؤيّد الأوّل ما

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إذا أحبّ اللّه عبدا يقول لجبرائيل: أحببت فلانا فأحبّه، فيحبّه. ثمّ ينادي في أهل السماء: ألا إنّ اللّه قد أحبّ فلانا فأحبّوه، فيحبّه أهل السماء. ثمّ يضع له المحبّة في الأرض».

و عن قتادة: ما أقبل العبد إلى اللّه عزّ و جلّ، إلّا أقبل اللّه بقلوب العباد إليه.

و

في تفسير أبي حمزة الثمالي: «حدّثني أبو جعفر عليه السّلام أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لعليّ عليه السّلام: يا عليّ قل اللّهمّ اجعل لي عندك عهدا، و اجعل لي في قلوب المؤمنين ودّا.

فقال ذلك عليّ عليه السّلام، فأنزل اللّه تعالى هذه الآية». ثمّ قال: «ما من مؤمن إلّا و في قلبه محبّة

لعليّ بن أبي طالب عليه السّلام».

و هذه الرواية مرويّة أيضا عن جابر بن عبد اللّه. و يؤيّده ما صحّ

عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «لو ضربت خيشوم المؤمن بسيفي هذا على أن يبغضني ما أبغضني، و لو صببت الدنيا بجملتها على المنافق على أن يحبّني ما أحبّني، و ذلك أنّه قضي فانقضى على لسان النبيّ الأمّيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «لا يبغضك مؤمن، و لا يحبّك منافق».

فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ متعلّق بمحذوف تقديره: بلّغ هذا المنزل، أو بشّر به و أنذر، فإنّما يسّرناه بلسانك، بأن أنزلناه بلغتك. و الباء بمعنى «على». أو على أصله، لتضمّن «يسّرناه» معنى: أنزلناه بلغتك، و هو اللسان العربيّ المبين، و سهّلناه و فصّلناه لِتُبَشِّرَ بِهِ الْمُتَّقِينَ الصائرين إلى التقوى وَ تُنْذِرَ بِهِ قَوْماً لُدًّا أشدّاء في الخصومة بالباطل، آخذين في كلّ لديد، أي: في كلّ شقّ من المراء و الجدال، لفرط لجاجهم. و هو جمع الألدّ، بمعنى: شديد الخصومة. يريد أهل مكّة.

______________________________

(1) في هامش النسخة الخطّية: «دجا الإسلام، أي: قوي و وفر و كثر و ألبس كلّ شي ء. منه».

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 217

وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ تخويف للكفرة، و تجسير للرسول على إنذارهم هَلْ تُحِسُّ مِنْهُمْ مِنْ أَحَدٍ هل تشعر بأحد منهم و تراه؟ من: أحسّه إذا شعر به. و منه:

الحاسّة. أَوْ تَسْمَعُ لَهُمْ رِكْزاً صوتا خفيّا. و أصله: الخفاء. و منه: ركز الرمح إذا غيّب طرفه في الأرض. و الركاز: المال المدفون.

و المعنى: أنّهم ذهبوا فلا يرى لهم عين و لا أثر، و لا يسمع لهم صوت، و كانوا أكثر أموالا، و أعظم أجساما، و أشدّ خصاما من هؤلاء، فحكم هؤلاء

حكم أولئك بالأولى.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 219

(20) سورة طه

اشارة

مكّيّة، و هي مائة و خمس و ثلاثون آية.

في خبر أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأها أعطي يوم القيامة ثواب المهاجرين و الأنصار».

و

روى أبو هريرة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «إنّ اللّه تعالى قرأ طه و يس قبل أن يخلق آدم بألفي عام، فلمّا سمعت الملائكة القرآن قالوا: طوبى لأمّة نزل هذا عليها، و طوبى لأجواف تحمل هذا، و طوبى لألسن تتكلّم بهذا».

و

عن الحسن قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا يقرأ أهل الجنّة من القرآن إلّا طه و يس».

و

روى إسحاق بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا تدعوا قراءة طه، فإنّ اللّه تعالى يحبّها، و يحبّ من قرأها، و إن من قرأها أعطاه يوم القيامة كتابة بيمينه، و لم يحاسبه بما عمل في الإسلام، و أعطي من الأجر حتّى يرضى».

[سورة طه (20): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طه (1) ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى (2) إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشى (3) تَنْزِيلاً مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَ السَّماواتِ الْعُلى (4)

و لمّا ختم اللّه سورة مريم بذكر إنزال القرآن، و أنّه بشارة للمتّقين، و إنذار

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 220

للكافرين، افتتح هذه السورة بالقرآن، و أنّه أنزله لسعادته لا لشقاوته، فقال جلّ اسمه:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طه فخّمها ابن كثير و ابن عامر و حفص عن عاصم و قالون عن نافع و يعقوب على الأصل. و فخّم الطاء وحده أبو عمرو، لاستعلائه. و كذا ورش عن نافع. و أمالهما الباقون. و هما من أسماء الحروف.

و ما قيل: إنّ طاها في لغة عكّ بن عدنان- أخي معدّ، أبي قبيلة من

اليمن- بمعنى:

يا رجل، فإن صحّ فلعلّ أصله: يا هذا، فتصرّف عكّ فيه بأن قلبوا الياء طاء، فقالوا: في «يا» «طا» و اختصروا «هذا» على: ها.

و استشهد بقوله:

إنّ السفاهة طاها في خلائقكم لا قدّس اللّه أخلاق الملاعين

و ضعّف بجواز أن يكون قسما، كقوله: حم لا ينصرون.

و يحتمل أن يكون أصل «طه»: طأها، أمر بالوطي، و الألف مبدلة من الهمزة، و الهاء كناية عن الأرض، لما

روي عن الصادق عليه السّلام: «أنّ النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يقوم في تهجّده على إحدى رجليه حتّى تورّمت، فأمر بأن يطأ الأرض بقدميه معا».

لكن يردّ ذلك كتابتهما على صورة الحرف. و كذا التفسير ب: «يا رجل. و يجوز أنّه اكتفي بشطري الكلمتين، و عبّر عنهما باسمهما. و اللّه أعلم بصحّة هذين القولين. و الأقوال الّتي قدّمتها في أوّل سورة البقرة هي التي يعوّل عليها الألبّاء المتقنون.

ما أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقى خبر «طه» إن جعلته مبتدأ، على أنّه مأوّل بالسورة أو القرآن، و القرآن فيه واقع موقع العائد. و جواب إن جعلته مقسما به. و منادى له إن جعلته نداء. و استئناف إن كانت جملة فعليّة أو اسميّة بتقدير مبتدأ، أو طائفة من الحروف محكيّة.

و المعنى: ما أنزلنا عليك القرآن لتتعب بفرط تأسّفك على كفر قريش، إذ ما عليك إلّا أن تبلّغ و تذكّر، و لم يكتب عليك أن يؤمنوا لا محالة، بعد أن لم تفرّط في أداء الرسالة

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 221

و الموعظة الحسنة. أو بكثرة الرياضة، و كثرة التهجّد، و القيام على ساق.

قيل: إنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يصلّي الليل كلّه، و يعلّق صدره بحبل حتّى لا يغلبه النوم، فأمره اللّه أن

يخفّف على نفسه، و قال: ما أنزلناه لتنهك نفسك بالعبادة، و تذيقها المشقّة الفادحة، و ما بعثت إلّا بالحنيفيّة السهلة السمحة.

و الشقاء شائع بمعنى التعب، و منه المثل:

أشقى من رائض «1» المهر، و سيّد القوم أشقاهم.

و قيل: ردّ و تكذيب للكفرة، فإنّهم لمّا رأوا كثرة عبادته قالوا: إنّك لتشقى بترك ديننا، و إنّ القرآن أنزل عليك لتشقى به.

إِلَّا تَذْكِرَةً أي: لكن تذكيرا. و انتصابها على الاستثناء المنقطع. و لا يجوز أن يكون بدلا من محلّ «لتشقى» لاختلاف الجنسين، و لا مفعولا له ل «أنزلنا» لأنّ الفعل الواحد لا يتعدّى إلى علّتين.

و يحتمل أن يكون المعنى: إنّا أنزلنا إليك القرآن لتحتمل متاعب التبليغ، و مقاولة العتاة من أعداء الإسلام و مقاتلتهم، و غير ذلك من أنواع المشاقّ و تكاليف النبوّة، و ما أنزلنا عليك هذا المتعب الشاقّ إلّا ليكون تذكرة. و على هذا الوجه يجوز أن يكون «تذكرة» حالا و مفعولا له، أي: إلّا تذكّرا أو للتذكير.

لِمَنْ يَخْشى لمن في قلبه خشية و رقّة تتأثّر بالإنذار. أو لمن علم اللّه منه أنّه يخشى بالتخويف منه، فإنّه المنتفع به.

تَنْزِيلًا نصب بإضمار فعله، أي: نزّل تنزيلا. أو ب «يخشى» أي: لمن يخشى تنزيل اللّه. أو على المدح، أو البدل من «تذكرة» إن جعل حالا. و إن جعل مفعولا له فلا، لأنّ الشي ء لا يعلّل بنفسه و لا بنوعه. و قيل: قوله: «أنزلنا ... إلخ» حكاية لكلام جبرئيل و الملائكة النازلين معه.

مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَ السَّماواتِ الْعُلى متعلّقه إمّا «تنزيلا» نفسه، فيقع صلة له.

______________________________

(1) راض المهر: ذلّله و طوّعه و علّمه السير، فهو رائض. و المهر: ولد الفرس.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 222

و إمّا محذوف، فيقع صفة له، أي: تنزيلا

حاصلا ممّن. و وجه الالتفات من المتكلّم إلى الغائب، إمّا عادة الافتنان في الكلام، و ما يعطيه من الحسن و الروعة. و إمّا أنّ هذه الصفات إنّما تسرّدت في القرآن مع لفظ الغيبة. و إمّا أنّه قال أوّلا: أنزلنا، ففخّم بالإسناد إلى ضمير الواحد المطاع. ثمّ ثنّى بالنسبة إلى المختصّ بصفات العظمة و التمجيد، فضوعفت الفخامة من طريقين.

و هذه الصفات العظام و النعوت الفخام إلى قوله: «لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى تفخيم لشأن المنزل، لنسبته إلى من هذه أفعاله و صفاته على الترتيب الّذي هو عند العقل. فبدأ بخلق الأرض و السماوات الّتي هي أصول العالم، و قدّم الأرض لأنّها أقرب إلى الحسّ، و أظهر عند العقل من السماوات العلى. و فيه تنبيه على أنّ القرآن واجب الإيمان به و الانقياد له، من حيث إنّه كلام من هذا شأنه.

و العلى جمع العليا، تأنيث الأعلى. وصفها بهذه الصفة للدلالة على عظم قدرة من يخلق مثلها في علوّها و بعد مرتقاها، بحيث لا يصل رمي الفكر إلى هدفها.

[سورة طه (20): الآيات 5 الى 7]

الرَّحْمنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى (5) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ ما تَحْتَ الثَّرى (6) وَ إِنْ تَجْهَرْ بِالْقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَ أَخْفى (7)

ثمّ أشار إلى وجه إحداث الكائنات و تدبير أمرها، بأن قصد العرش فأجرى منه الأحكام و التقادير، و أنزل منه الأسباب على ترتيب و مقادير، حسبما اقتضته حكمته، و تعلّقت به مشيئته، فقال: الرَّحْمنُ رفعه إمّا على المدح، تقديره: هو الرحمن. و إمّا أن يكون مبتدأ مشارا بلامه إلى من خلق. و قوله: عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوى خبر آخر للمبتدأ، أو خبره الأوّل. و لمّا كان الاستواء على العرش- و هو سرير

الملك- ممّا يردف

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 223

الملك جعلوه كناية عن الملك، فقالوا: استوى فلان على العرش، يريدون: أنّه ملك و إن لم يقعد على السرير أصلا. و معنى الاستواء عليه و تحقيقه قد مرّ «1» غير مرّة.

لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ ما تَحْتَ الثَّرى ما تحت سبع الأرضين، فإنّ الثرى آخر الطبقات الترابيّة من الأرض. و عن السدّي: هو الصخرة الّتي تحت الأرض السابعة. و هذا أيضا يدلّ على كمال قدرته و إرادته.

و لمّا كانت القدرة تابعة للإرادة، و لا تنفكّ عن العلم، عقّب ذلك بإحاطة علمه تعالى بجليّات الأمور و خفيّاتها، فقال: وَ إِنْ تَجْهَرْ برفع صوتك بِالْقَوْلِ بذكر اللّه و دعائه فاعلم أنّه غنيّ عن ذلك فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ و هو ما أسررته إلى غيرك، أو ما أسررته في نفسك. و قيل: هذا نهي عن الجهر، كقوله: وَ اذْكُرْ رَبَّكَ فِي نَفْسِكَ تَضَرُّعاً وَ خِيفَةً «2». و المعنى: فلا تجهد نفسك برفع الصوت، فإنّك و إن لم تجهر علم اللّه السرّ.

وَ أَخْفى من ذلك، و هو ما أخطرته ببالك، أو ما ستسرّه فيها.

و

عن الباقر و الصادق عليهما السّلام: «إنّ السرّ ما أخفيته في نفسك، و «أخفى»: ما خطر ببالك ثمّ أنسيته».

و فيه تنبيه على أنّ شرع الذكر و الدعاء و الجهر فيهما ليس لإعلام اللّه، بل لتصوير النفس بالذكر و رسوخه فيها، و منعها عن الاشتغال بغيره، و هضمها بالتضرّع و الجوار «3».

[سورة طه (20): آية 8]

اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى (8)

ثمّ إنّه لمّا ظهر بذلك أنّه المستجمع لصفات الألوهيّة، بيّن أنّه المتفرّد بها و المتوحّد بمقتضاها، فقال: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لَهُ الْأَسْماءُ

الْحُسْنى هو تأنيث الأحسن. و فضّل أسماء اللّه تعالى على سائر الأسماء في الحسن، لدلالتها على معان هي أشرف المعاني

______________________________

(1) راجع ج 2 ص 531.

(2) الأعراف: 205.

(3) جأر يجأر جؤارا إلى اللّه: رفع صوته بالدعاء و تضرّع إليه.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 224

و أفضلها، لأنّها دالّة على التقديس و التمجيد و التعظيم و الربوبيّة، و الأفعال الّتي هي النهاية في الحسن.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «إنّ للّه سبحانه تسعة و تسعين اسما، من أحصاها دخل الجنّة».

قال الزّجاج: «تأويله: من وحّد اللّه، و ذكر هذه الأسماء الحسنى، يريد بها توحيد اللّه و إعظامه، دخل الجنّة». و

قد جاء في الحديث: «من قال: لا إله إلّا اللّه مخلصا دخل الجنّة».

فهذا لمن ذكر اللّه موحّدا له به، فكيف بمن ذكر أسماءه كلّها، يريد بها توحيده و الثناء عليه؟! و إنّما قال: «الحسنى» بلفظ التوحيد، و لم يقل: الأحاسن، لأنّ الأسماء مؤنّثة تقع عليها هذه كما تقع على الجماعة هذه، فيقال: الجماعة الحسنى، كأنّه اسم واحد للجمع. و مثل ذلك: حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ «1» و مَآرِبُ أُخْرى «2».

[سورة طه (20): الآيات 9 الى 16]

وَ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (9) إِذْ رَأى ناراً فَقالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً (10) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ يا مُوسى (11) إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (12) وَ أَنَا اخْتَرْتُكَ فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى (13)

إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدْنِي وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي (14) إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ أَكادُ أُخْفِيها لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى (15) فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها مَنْ لا يُؤْمِنُ بِها وَ اتَّبَعَ هَواهُ فَتَرْدى (16)

______________________________

(1) النمل: 60.

(2)

طه: 18.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 225

ثمّ قصّ سبحانه على نبيّه قصّة موسى، ليأتمّ به في تحمّل أعباء النبوّة و تبليغ الرسالة، و الصبر على مقاساة الشدائد، و يكون تسلية له ممّا ناله من أذى قومه، و تثبيتا له بالصبر على أمر ربّه في تأدية أحكامه، فإنّ هذه السورة من أوائل ما نزل، كما صبر موسى عليه السّلام في أذيّة بني إسرائيل بسبب تبليغه أحكام اللّه تعالى، فقال:

وَ هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى هذا ابتداء إخبار من اللّه تعالى على وجه التحقيق، إذ لم يبلغه حديث موسى، فهو كما يخبر الإنسان غيره بخبر على وجه التحقيق، فيقول:

هل سمعت بخبر فلان؟ و قيل: إنّه استفهام تقرير بمعنى الخبر، أي: و قد أتاك حديث موسى.

إِذْ رَأى ناراً ظرف للحديث، لأنّه حدث. أو لمضمر: أي: حين رأى نارا كان كيت و كيت. أو مفعول ل: اذكر.

عن ابن عبّاس: لمّا قضى موسى الأجل، و استأذن شعيبا عليه السّلام في الخروج إلى أمّه، و أخرج أهله، و فارق مدين و معه غنم له. و كان أهله على أتان، و على ظهرها جوالق فيها أثاث البيت، و كان رجلا غيورا لا يصحب الرفقة لئلّا ترى امرأته. فأضلّ الطريق في ليلة شاتية مظلمة مثلجة، و كانت ليلة الجمعة، و تفرّقت ماشيته، و لم ينقدح زنده «1»، و امرأته في الطلق، فولد له منها ابن في الظلمة. فرأى نارا من بعيد كانت عند اللّه نورا، و عند موسى نارا فَقالَ عند ذلك لِأَهْلِهِ لزوجته، و هي بنت شعيب كان تزوّجها بمدين و خدمه امْكُثُوا الزموا مكانكم. و الفرق بين المكث و الإقامة: أنّ الإقامة تدوم، و المكث لا يدوم.

و قرأ حمزة: لأهله امكثوا، هنا و

في القصص «2»، بضمّ الهاء في الوصل. و الباقون بكسرها فيه.

______________________________

(1) الزند: العود الذي يقتدح به النار. يقال: زند النار، أي: قدحها و أخرجها من الزند.

(2) القصص: 29.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 226

إِنِّي آنَسْتُ ناراً أبصرتها إبصارا بيّنا لا شبهة فيه. و منه إنسان العين، لأنّه يتبيّن به الشي ء. و الإنس، لظهورهم، كما قيل: الجنّ، لاستتار هم. و قيل: هو إبصار ما يؤنس به لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِقَبَسٍ بنار مقتبسة في رأس عود أو فتيلة أو غيرهما. أَوْ أَجِدُ عَلَى النَّارِ هُدىً مصدر بمعنى الفاعل، أي: هاديا يدلّني على الطريق، أو ذوي هدى بحذف المضاف.

و عن مجاهد: هاديا يهديني أبواب الدين، فإنّ أفكار الأنبياء مغمورة بالهمّة الدينيّة في جميع أحوالهم، لا يشغلهم عنها شاغل.

و لمّا كان الإتيان بالقبس و وجود الهدى مترقّبين متوقّعين، بنى الأمر فيهما على الرجاء و الطمع، و قال: لعليّ، و لم يقطع فيقول: إنّي آتيكم، لئلّا يعد ما ليس بمستيقن الوفاء به، بخلاف الإيناس، فإنّه كان محقّقا، و لذلك حقّقه لهم ب «إنّ» ليوطّن أنفسهم عليه.

و معنى الاستعلاء في «على النار»: أنّ أهلها مشرفون عليها، فإنّ المصطلين بها و المستمتعين بها إذا اكتنفوها قياما و قعودا كانوا مشرفين عليها. أو مستعلون المكان القريب منها، كما قال سيبويه في مررت بزيد: إنّه لصوق بمكان يقرب منه.

فَلَمَّا أَتاها أتى النار وجد نارا بيضاء تتّقد في شجرة خضراء نُودِيَ يا مُوسى إِنِّي أَنَا رَبُّكَ فتحه ابن كثير و أبو عمرو، أي: بأنّي. و كسره الباقون بإضمار القول، أو إجراء النداء مجراه. و تكرير الضمير لتوكيد الدلالة، و تحقيق المعرفة، و إماطة الشبهة.

روي: أنّه لمّا نودي: يا موسى، قال: من المتكلّم؟ قال: إنّي أنا اللّه. فوسوس

إليه إبليس: لعلّك تسمع كلام شيطان. فقال موسى: أنا عرفت أنّه كلام اللّه، بأنّي أسمعه من جميع الجهات و بجميع أعضائي.

و هو إشارة إلى أنّه تلقّى من ربّه كلامه تلقّيا روحانيّا، ثمّ تمثّل ذلك الكلام لبدنه، و انتقل إلى الحسّ المشترك، فانتقش به من غير اختصاص بعضو وجهة.

و روي: أنّه حين انتهى رأى شجرة خضراء من أسفلها إلى أعلاها، كأنّها نار بيضاء

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 227

تتّقد، و سمع تسبيح الملائكة، و رأى نورا عظيما، لم تكن الخضرة تطفئ النار، و لا النار تحرق الخضرة، فعلم أنّه لأمر عظيم، فخاف و بهت، فألقيت عليه السكينة، ثمّ نودي.

و كانت الشجرة عوسجة.

و روي: كلّما دنا أو بعد لم يختلف ما كان يسمع من الصوت.

و عن ابن إسحاق: لمّا دنا استأخرت عنه، فلمّا رأى ذلك رجع و أوجس في نفسه خيفة، فلمّا أراد الرجعة دنت منه.

قال وهب: نودي من الشجرة فقيل: يا موسى. فقال: إنّي أسمع صوتك، و لا ارى مكانك، فأين أنت؟ فقال: أنا فوقك و معك، و أمامك و خلفك، و أقرب إليك من نفسك.

فعلم أنّ ذلك لا ينبغي إلّا لربّه عزّ و جلّ، و أيقن به.

و قال ابن عبّاس: لمّا توجّه نحو النار فإذا النار في شجرة عنّاب، فوقف متعجّبا من حسن ضوء تلك النار، و شدّة خضرة تلك الشجرة، فسمع النداء: يا موسى أنا ربّك.

فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ أمره بذلك لأنّ الحفوة تواضع و أدب، و لذلك طاف السلف بالكعبة حافين. و عن السدّي: أمر بخلع النعلين لأنّهما كانتا من جلد حمار ميّت غير مدبوغ. و قيل: كانت من جلد بقرة ذكيّة، و لكنّه أمر بخلعهما ليباشر الوادي بقدميه متبرّكا به. و منهم من استعظم دخول الكعبة

بنعليه، و كان إذا ندر منه الدخول متنعّلا تصدّق.

و القرآن يدلّ على أنّ ذلك احترام للبقعة، و تعظيم لها، و تشريف لقدسها، فإنّه قال مستأنفا: إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ تعليلا للأمر باحترام البقعة. و روي أنّه خلع نعليه و ألقاهما من وراء الوادي.

و قيل: معناه: فرّغ قلبك من الأهل و المال، و من جميع ما سوى اللّه، لأنّك جئت بالبقعة المقدّسة المباركة.

طُوىً عطف بيان للوادي. و نوّنه ابن عامر و الكوفيّون بتأويل المكان. و قيل:

هو كثنى «1»، من الطيّ، مصدر ل «نودي» أي: نودي نداءين. يقال: ناديته طوى، أي:

______________________________

(1) الثنى: الأمر يعاد مرّتين.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 228

مرّتين. أو ل «المقدّس» أي: قدّس الوادي بالبركة كرّة بعد كرّة.

وَ أَنَا اخْتَرْتُكَ اصطفيتك للنبوّة. و قرأ حمزة: و إنّا اخترناك، بالجمع.

فَاسْتَمِعْ لِما يُوحى للّذي يوحى إليك، أو للوحي. و اللام تحتمل أن تتعلّق بكلّ من الفعلين.

إِنَّنِي أَنَا اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدْنِي بدل ممّا يوحى، دالّ على أنّه مقصور على تقرير التوحيد الّذي هو منتهى العلم، و الأمر بالعبادة الّتي هي كمال العمل.

وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي خصّها بالذكر و أفردها بالأمر للعلّة الّتي أناط بها إقامتها، و هو تذكّر المعبود، و شغل القلب و اللسان بذكره.

و قيل: معنى «لذكري»: لتذكرني، فإنّ ذكري أن اعبد و يصلّى لي. أو لتذكرني فيها، لاشتمال الصلاة على الأذكار. أو لأنّي ذكرتها في الكتب، و أمرت بها. أو لأن أذكرك بالثناء و المدح. أو لذكري خاصّة، لا ترائي بها، و لا تشوبها بذكر غيري، و لا تقصد بها غرضا آخر.

و قيل: لأوقات ذكري، و هي مواقيت الصلاة، كقوله: إِنَّ الصَّلاةَ كانَتْ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ كِتاباً مَوْقُوتاً «1». فاللام فيه كما في قولك: جئتك لكذا،

أي: لوقت كذا. و كذا:

لستّ مضين. و مثله قوله: قَدَّمْتُ لِحَياتِي «2».

أو لذكر صلاتي بعد نسيانها، على حذف المضاف، أي: أقمها متى ذكرت، كنت في وقتها أو لم تكن. و روي ذلك عن الباقر عليه السّلام. و يعضده ما

رواه أنس أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من نسي صلاة فليصلّها إذا ذكرها».

و

روي أيضا عنه أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من نام عن صلاة أو نسيها فليقضها إذا ذكرها، إنّ اللّه تعالى يقول: وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي

إِنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ كائنة لا محالة أَكادُ أُخْفِيها أريد أن أخفيها- أي: إخفاء وقتها- عن عبادي لئلّا تأتيهم إلّا بغتة. قال تغلب: هذا أجود الأقوال، و هو قول الأخفش

______________________________

(1) النساء: 103.

(2) الفجر: 24.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 229

و فائدة الإخفاء التهويل و التخويف، فإنّ الناس إذا لم يعلموا متى تقوم الساعة، كانوا على حذر منها كلّ وقت.

و قيل: معناه: أقرب أن أسترها، فلا أقول إنّها آتية، لفرط إرادتي إخفاءها، و لو لا ما في الإخبار بإتيانها مع تعمية وقتها من اللطف و قطع الأعذار لما أخبرت به.

قال أبو عبيدة: معناه: أكاد أظهرها، من: أخفاه إذا سلب خفاءه «1».

و قال في المجمع: «يقال: أخفيت الشي ء كتمته و أظهرته جميعا، و خفيته بلا ألف أظهرته لا غير» «2».

و يؤيّد المعنى الأخير قراءة سعيد بن جبير: أخفيها، بفتح الهمزة، من: خفاه إذا أظهره، أي: قرب إظهارها، كقوله: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ «3».

لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما تَسْعى بما تعمل من خير و شرّ. متعلّق ب «آتية»، أو ب «أخفيها» على المعنى الأخير.

فَلا يَصُدَّنَّكَ عَنْها فلا يصرفنّك عن تصديق الساعة، أو لا يمنعك عن الصلاة مَنْ لا

يُؤْمِنُ بِها نهى اللّه الكافر أن يصدّ موسى عنها. و المراد نهيه أن يصدّ عنها.

و تحقيق ذلك: أنّ صدّ الكافر مسبّب عن رخاوة الرجل في الدين ولين شكيمته، فذكر المسبّب ليدلّ على السبب، كقولهم: لا أرينّك هاهنا، فإنّ المراد نهيه عن مشاهدته و الكون بحضرته، و ذلك سبب رؤيته إيّاه، فكان ذكر المسبّب دليلا على السبب، كأنّه قيل: فكن شديد الشكيمة، صليب النفس، راسخا في الدين، حتّى لا يطمع في صدّك عمّا أنت عليه من كفر بالبعث.

وَ اتَّبَعَ هَواهُ ميل نفسه إلى اللذّات المحسوسة المخدجة «4»، فقصر نظره عن

______________________________

(1) الخفاء: الغطاء. و جمعه: أخفية.

(2) مجمع البيان 7: 4.

(3) القمر: 1.

(4) أي: الناقصة، من: خدج الشي ء: نقص.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 230

غيرها، و لم يتّبع البرهان و التدبّر في الحقّ فَتَرْدى فتهلك بالانصداد بصدّه.

و في هذا حثّ عظيم على العمل بالدليل، و زجر بليغ عن التقليد، و إنذار بأنّ الهلاك و الردى مع التقليد و أهله.

[سورة طه (20): الآيات 17 الى 35]

وَ ما تِلْكَ بِيَمِينِكَ يا مُوسى (17) قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا عَلَيْها وَ أَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي وَ لِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى (18) قالَ أَلْقِها يا مُوسى (19) فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى (20) قالَ خُذْها وَ لا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى (21)

وَ اضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ آيَةً أُخْرى (22) لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى (23) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (24) قالَ رَبِّ اشْرَحْ لِي صَدْرِي (25) وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي (26)

وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي (27) يَفْقَهُوا قَوْلِي (28) وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي (29) هارُونَ أَخِي (30) اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي (31)

وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي (32) كَيْ نُسَبِّحَكَ كَثِيراً (33) وَ نَذْكُرَكَ كَثِيراً

(34) إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً (35)

ثمّ بيّن سبحانه ما أعطى موسى من المعجزات، فقال: وَ ما تِلْكَ استفهام

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 231

يتضمّن استيقاظا لما يريه في عصاه من العجائب بِيَمِينِكَ حال من معنى الإشارة، كقوله: وَ هذا بَعْلِي شَيْخاً «1». و يجوز أن تكون «تلك» اسما موصولا، و «بيمينك» صلته، أي: ما الّتي بيمينك يا مُوسى تكريره لزيادة الاستئناس و التنبيه.

قالَ هِيَ عَصايَ أَتَوَكَّؤُا أعتمد عَلَيْها إذا عييت، أو وقفت على رأس القطيع، و عند الطفرة وَ أَهُشُّ بِها عَلى غَنَمِي و أخبط «2» الورق بها على رؤوس غنمي تأكله، من: هشّ الخبز يهشّ إذا انكسر لهشاشته «3».

وَ لِيَ فِيها مَآرِبُ أُخْرى حاجات أخر، مثل إن كان إذا سار ألقاها على عاتقة، فعلّق بها أدواته، من القوس و الكنانة «4» و الحلاب «5» و غيرها، و عرض الزندين «6» على شعبتيها، و ألقى عليها الكساء و استظلّ به، و إذا قصر الرشاء و صله بها، و إذا تعرّضت السباع لغنمه قاتل بها.

و كأنّه عليه السّلام فهم أنّ المقصود من السؤال أن يذكر حقيقتها، و ما يرى من منافعها، حتى إذا رآها بعد ذلك على خلاف تلك الحقيقة، و وجد منها خصائص اخرى خارقة للعادة، مثل أن تشتعل شعبتاه بالليل كالشمع، و تصير دلوا عند الاستقاء، و تطول بطول البئر، و إذا ظهر عدوّ حاربت عنه، و ينبع الماء بركزها، و ينضب «7» بنزعها، و تورق و تثمر

______________________________

(1) هود: 72.

(2) أي: أضرب، من: خبط الشي ء: ضربه ضربا شديدا. و هشّ ورق الشجر: خبطه بعصا ليتحاتّ و يسقط.

(3) أي: لرخاوته و لينه.

(4) جعبة من جلد أو خشب تجعل فيها السهام.

(5) الحلاب: الإناء يحلب فيه.

(6) في هامش

النسخة الخطّية: «الزند: العود الذي يقدح به النار، و هو الأعلى، و الزندة السفلى فيها ثقب، و هي للأنثى، فإذا اجتمعا قيل: زندان، و لم يقل: زندتان. منه»

(7) أي: يذهب ماؤه و يغور في الأرض.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 232

إذا اشتهى ثمرة فركزها، و كانت تقيه الهوامّ، و تحدّثه و تؤنسه، علم أنّ ذلك آيات باهرة و معجزات قاهرة، أحدثها اللّه تعالى فيها لأجله، و ليست من خواصّها. فذكر قبل ظهور هذه الأمور العجيبة منها حقيقتها و منافعها مفصّلا و مجملا، على معنى أنّها من جنس العصا، تنفع منافع أمثالها، ليطابق جوابه الغرض الّذي فهمه من كلام ربّه.

و في الكشّاف: «يجوز أن يريد عزّ و جلّ أن يعدّد المرافق الكثيرة الّتي علّقها بالعصا، و يستكثرها و يستعظمها، ثمّ يريه على عقب ذلك الآية العظيمة. كأنّه يقول له: أين أنت عن هذه المنفعة العظمى و المأربة الكبرى، المنسيّة عندها كلّ منفعة و مأربة كنت تعتدّ بها و تحتفل بشأنها؟ و نظير ذلك أن يريك الزرّاد «1» زبرة من حديد و يقول لك: ما هي؟

فتقول: زبرة حديد. ثمّ يريك بعد أيّام لبوسا مسردا فيقول لك: هي تلك الزبرة صيّرتها إلى ما ترى من عجيب الصنعة و أنيق السرد» «2».

و قيل: إنّما سأله ليبسط منه و يقلّل هيبته.

و قيل: إنّما أجمل موسى ليسأله عن تلك المآرب فيزيد في إكرامه.

و قيل: انقطع لسانه بالهيبة فأجمل.

قالَ أَلْقِها يا مُوسى فَأَلْقاها فَإِذا هِيَ حَيَّةٌ تَسْعى تمشي بسرعة و خفّة حركة.

روي أنّه لمّا ألقاها انقلبت حيّة صفراء بغلظ العصا، ثمّ تورّمت و عظمت. فلذلك سمّاه جانّا تارة نظرا إلى المبدأ، و ثعبانا مرّة باعتبار المنتهى، و حيّة اخرى باعتبار الاسم الّذي يعمّ الحالين.

و

قيل: كانت في ضخامة الثعبان و جلادة الجانّ، و لذلك قال: كأنّها جانّ.

قيل: كان لها عرف كعرف الفرس. و كان بين لحييها أربعون ذراعا.

و عن ابن عبّاس: انقلبت ثعبانا ذكرا يبتلع الصخر و الشجر، فلمّا رآها حيّة تسرع

______________________________

(1) الزرّاد: صانع الزرد، و هو الدرع. و السرد: الدرع.

(2) الكشّاف 3: 57.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 233

و تبتلع الحجر و الشجر خاف و هرب منها.

قالَ خُذْها وَ لا تَخَفْ سَنُعِيدُها سِيرَتَهَا الْأُولى هيأتها و حالتها المتقدّمة. و هي فعلة من السير. يقال: سار فلان سيرة حسنة. ثمّ اتّسع فيها، فنقلت إلى الطريقة و الهيئة.

و انتصابها على نزع الخافض، أي: سنعيدها في طريقتها الأولى، أي: في حال ما كانت عصا. أو على أن «أعاد» منقول من «عاده» بمعنى: عاد إليه. أو على تقدير فعلها، أي:

سنعيد العصا بعد ذهابها تسير سيرتها الأولى، فتنتفع بها ما كنت تنتفعه كما أنشأناها أوّلا.

قيل: لمّا قال له ربّه ذلك اطمأنّت نفسه، حتّى أدخل يده في فمها و أخذ بلحييها.

وَ اضْمُمْ يَدَكَ إِلى جَناحِكَ إلى جنبك تحت العضد. يقال لكلّ ناحيتين:

جناحان، كجناحي العسكر. استعارة من جناحي الطائر. سمّيا جناحين، لأنّه يجنحهما- أي: يميلهما- عند الطيران.

تَخْرُجْ بَيْضاءَ لها نور ساطع يضي ء بالليل و النهار، كضوء القمر و الشمس مِنْ غَيْرِ سُوءٍ صلة بيضاء، أي: ابيضّت من غير سوء، أي: من غير عاهة و قبح. كنّي به عن البرص، كما كنّي بالسوءة عن العورة. و البرص أبغض شي ء إلى طباع العرب، و لهم عنه نفرة عظيمة، و أسماعهم لاسمه مجّاجة «1»، فكان جديرا بأن يكنّى عنه.

و روي: أنّه عليه السّلام كان آدم اللون، فأخرج يده من مدرعته «2» بيضاء، لها شعاع كشعاع الشمس يغشي البصر.

آيَةً أُخْرى

معجزة ثانية. و هي حال من ضمير «تخرج» ك «بيضاء». أو من ضميرها. أو مفعول بإضمار: خذ أو دونك، حذف لدلالة الكلام عليه.

لِنُرِيَكَ مِنْ آياتِنَا الْكُبْرى بعض آياتنا. و هذا متعلّق بالمضمر، أو بما دلّ عليه «آية» أي: دلّلنا بها، أو فعلنا ذلك لنريك. و «الكبرى» صفة ل «آياتنا». أو مفعول «نريك»

______________________________

(1) أي: كارهة. يقال: هذا كلام تمجّه الأسماع، أي: تقذفه و تستكرهه.

(2) المدرعة: ثوب من كتّان كان يلبسه عظيم أحبار اليهود. أو جبّة مشقوقة المقدّم.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 234

و «من آياتنا» حال منها.

اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ بهاتين الآيتين و ادعه إلى عبادتي إِنَّهُ طَغى عصى و تكبّر في كفره.

و لمّا أمره بالذهاب إلى فرعون الطاغي، عرف أنّه كلّف أمرا عظيما و خطبا جسيما، يحتاج معه إلى احتمال ما لا يحتمله إلّا ذو قلب قويّ و صدر فسيح، فسأل ربّه أن يشرح صدره حتّى لا يضجر و لا يغتمّ، و يستقبل الشدائد بجميل الصبر، و أن يسهّل عليه أمره الّذي هو خلافة اللّه في أرضه، و ما يصحبها من مقاساة الخطوب الجليلة. قالَ رَبِّ اشْرَحْ أي: وسّع لِي صَدْرِي حتّى لا أضجر، و لا أخاف، و لا أغتمّ.

وَ يَسِّرْ لِي أَمْرِي و سهّل عليّ أداء ما كلّفتني من الرسالة، و الدخول على الطاغي، و دعائه إلى الحقّ. و فائدة «لي» إبهام المشروح و الميسّر أوّلا، ثمّ رفعه بذكر الصدر و الأمر تأكيدا و مبالغة، لأنّه تكرير للمعنى الواحد من طريقي الإجمال و التفصيل.

وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي يَفْقَهُوا قَوْلِي فإنّما يحسن التبليغ من البليغ. و كان في لسانه رتّة «1» من جمرة أدخلها فاه. و ذلك إنّ فرعون حمله يوما فأخذ بلحيته و نتفها، فغضب و

أمر بقتله. فقالت آسية: إنّه صبيّ لا يفرّق بين الجمرة و الدرّة. فأمر فرعون حتّى أحضرهما بين يديه. فأراد موسى أن يأخذ الدرّة، فصرف جبرئيل يده إلى الجمرة، فأخذها و وضعها في فيه فاحترق لسانه.

و قيل: احترقت يده، و اجتهد فرعون في علاجها فلم تبرأ. ثمّ لمّا دعاه قال: إلى أيّ ربّ تدعوني؟ قال: إلى الّذي أبرأ يدي و قد عجزت عنه.

و اختلف في زوال العقدة بكمالها. فمن قال به تمسّك بقوله: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى «2». و من لم يقل احتجّ بقوله: هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً «3» و قوله:

______________________________

(1) الرتة: العجمة و الحكلة في اللسان. يقال: تكلم كلام الحكل، أي: كلاما لا يفهم.

(2) طه: 36.

(3) القصص: 34.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 235

وَ لا يَكادُ يُبِينُ «1». و أجاب عن الأوّل بأنّه لم يسأل حلّ عقدة لسانه مطلقا، بل عقدة تمنع الإفهام، و لذلك نكّرها، و جعل «يفقهوا» جواب الأمر. و «من لساني» يحتمل أن يكون صفة «عقدة». و أن يكون صلة «احلل».

وَ اجْعَلْ لِي وَزِيراً مِنْ أَهْلِي هارُونَ أَخِي لأبي و أمّي، يعينني على ما كلّفتني به. و اشتقاق الوزير إمّا من الوزر، لأنّه يحمل عن أميره أوزاره و مؤنة. أو من الوزر، و هو الملجأ، لأنّ الأمير يعتصم برأيه و يلتجئ إليه في أموره. و منه: الموازرة، بمعنى المعاونة. و عن الأصمعي: أصله أزير، من الأزر بمعنى القوّة، فقلبت الهمزة إلى الواو.

و وجهه: أنّ فعيلا جاء بمعنى مفاعل، كقولهم: عشير و جليس و قعيد و خليل و صديق و نديم، فلمّا قلبت في موازر قلبت فيه. و حمل الشي ء على نظيره ليس بعزيز.

و مفعولا «اجعل»: وزيرا و هارون. قدّم ثانيهما عناية بأمر الوزارة.

و «لي» صلة، أو حال. أو مفعولاه «لي وزيرا»، و «هارون» عطف بيان للوزير. أو «وَزِيراً مِنْ أَهْلِي» و «لي» تبيين، كقوله: «وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ». و «أخي» على الوجوه بدل من «هارون».

أو مبتدأ خبره اشْدُدْ بِهِ أَزْرِي وَ أَشْرِكْهُ فِي أَمْرِي على لفظ الأمر. و الأزر: القوّة. يقال:

أزّره، أي: قوّاه. و المراد بالأمر الرسالة، أي: اجعله شريكي في الرسالة. و قرأهما ابن عامر بلفظ الخبر، على أنّهما جواب الأمر.

كَيْ نُسَبِّحَكَ ننزّهك عمّا لا يليق بك كَثِيراً وَ نَذْكُرَكَ و نحمدك و نثني عليك بما أوليت من نعمك كَثِيراً أي: لنتعاون على عبادتك و ذكرك، فإنّ التعاون يهيّج الرغبات، و يؤدّي إلى تكاثر الخيرات و تزايد المبرّات.

إِنَّكَ كُنْتَ بِنا بَصِيراً عالما بأحوالنا، و بأنّ التعاون و التعاضد ممّا يصلحنا، و أنّ هارون نعم المعين لي فيما أمرتني به، فإنّه أكبر منّي سنّا، و أفصح لسانا، و أتمّ طولا، و أبيض جسما، و أكثر لحما.

______________________________

(1) الزخرف: 52.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 236

[سورة طه (20): الآيات 36 الى 44]

قالَ قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى (36) وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى (37) إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ ما يُوحى (38) أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِّ فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَ عَدُوٌّ لَهُ وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي (39) إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ وَ قَتَلْتَ نَفْساً فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِّ وَ فَتَنَّاكَ فُتُوناً فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ يا مُوسى (40)

وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي (41) اذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآياتِي وَ لا تَنِيا فِي ذِكْرِي (42) اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ

إِنَّهُ طَغى (43) فَقُولا لَهُ قَوْلاً لَيِّناً لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى (44)

قالَ سبحانه إجابة له قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى أعطيت سؤلك. فعل بمعنى مفعول، كالخبز و الأكل بمعنى المخبوز و المأكول.

قال الصادق عليه السّلام: «حدّثني أبي، عن جدّي، عن أمير المؤمنين، قال: كن لما لا ترجو أرجى منك لما ترجو، فإنّ موسى بن عمران خرج يقتبس لأهله نارا، فكلّمه اللّه عزّ و جلّ، فرجع نبيّا. و خرجت ملكة سبأ لأمر، فأسلمت مع سليمان. و خرج سحرة فرعون يطلبون العزّة بفرعون، فرجعوا مؤمنين».

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 237

و لمّا أخبر سبحانه موسى بأنّه آتاه طلبته و أعطاه سؤله، عدّد عقيبه ما تقدّم ذلك من نعمه عليه و مننه لديه، فقال: وَ لَقَدْ مَنَنَّا أنعمنا عَلَيْكَ مَرَّةً أُخْرى في وقت آخر، إنعاما متواليا من صغرك إلى الوقت الّذي أعطينا سؤلك فيه.

ثمّ بيّن سبحانه تلك النعمة بقوله: إِذْ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّكَ بإلهام، كقوله: وَ أَوْحى رَبُّكَ إِلَى النَّحْلِ «1». أو في منام. أو على لسان نبيّ في وقتها، كقوله: وَ إِذْ أَوْحَيْتُ إِلَى الْحَوارِيِّينَ «2» أو على لسان ملك لا على وجه النبوّة، كما أوحى إلى مريم ما يُوحى أمرا لا يعلم إلّا بالوحي، أو ممّا ينبغي أن يوحى، لعظم شأنه، و فرط الاهتمام به، لأنّه يتضمّن مصلحة دينيّة، فوجب أن يوحى و لا يخلّ به.

ثمّ فسّر ذلك الإيحاء بقوله: أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ فإنّ «أن» هي المفسّرة و المعنى: اقذفيه، لأنّ الوحي بمعنى القول. فَاقْذِفِيهِ فِي الْيَمِ و القذف مستعمل في معنى الإلقاء و الوضع، كقوله: وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ «3». و كذلك الرمي، كقوله:

غلام رماه اللّه بالحسن يافعا «4» ... أي: حصل فيه و وضعه

فيه حال كونه غير بالغ.

و لمّا كان إلقاء اليمّ إيّاه إلى الساحل أمرا واجب الحصول، لتعلّق الإرادة به، جعل البحر كأنّه ذو تمييز مطيع أمره بالإلقاء، و أخرج الجواب مخرج الأمر، فقال: فَلْيُلْقِهِ الْيَمُّ بِالسَّاحِلِ الضمائر كلّها لموسى عليه السّلام، لأنّ رجوع بعضها إليه و بعضها إلى التابوت فيه هجنة، لما يؤدّي إليه من تنافر النظم القرآني، و إن كان المقذوف في البحر و الملقى إلى الساحل التابوت بالذات و موسى بالعرض. و القانون الّذي وقع عليه التحدّي و مراعاته

______________________________

(1) النحل: 68.

(2) المائدة: 111.

(3) الأحزاب: 26.

(4) لأسيد بن عنقاء الفزاري. و تمام البيت:

له سيمياء لا تشقّ على البصر

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 238

أهمّ ما يجب على المفسّر.

يَأْخُذْهُ عَدُوٌّ لِي وَ عَدُوٌّ لَهُ جواب «فليلقه». و تكرير «عدوّ» للمبالغة أو لأنّ الأوّل باعتبار الواقع و الثاني باعتبار المتوقّع.

روي أنّها جعلت في التابوت قطنا محلوجا، فوضعته فيه، و جصّصته و قيّرته، ثمّ ألقته في اليمّ. و كان يشرع منه إلى بستان فرعون نهر كبير، فدفعه الماء إليه، فأدّاه إلى بركة في البستان. و كان فرعون جالسا على رأس بركة مع آسية بنت مزاحم، فأمر به فأخرج، ففتح فإذا صبيّ أصبح الناس وجها، فأحبّه حبّا شديدا لا يتمالك أن يصبر عنه، كما قال:

وَ أَلْقَيْتُ عَلَيْكَ مَحَبَّةً مِنِّي أي: محبّة كائنة منّي قد ركزتها أنا في القلوب و زرعتها فيها، بحيث لا يكاد يصبر عنك من رآك، فلذلك أحبّك فرعون.

و روي أنّه كانت على وجهه مسحة جمال، و في عينيه ملاحة، لا يكاد يصبر عنه من رآه.

و يجوز أن يتعلّق «منّي» ب «ألقيت» أي: أحببتك، و من أحبّه اللّه أحبّته القلوب.

و ظاهر اللفظ على أنّ البحر ألقاه بساحله- و

هو شاطئه، لأنّ الماء يسحل «1» موسى- و قذف به ثمّة، فالتقط من الساحل، إلّا أنّه قد ألقاه اليمّ بموضع من الساحل فيه فوهة «2» نهر فرعون، ثمّ أدّاه النهر إلى حيث البركة.

وَ لِتُصْنَعَ عَلى عَيْنِي و لتربّى بمرأى منّي، و يحسن إليك و أنا مراعيك و مراقبك، كما يراعي الرجل الشي ء بعينيه إذا اعتنى به، و تقول للصانع: اصنع هذا على عيني أنظر إليك لئلّا تخالف به مرادي و بغيتي. و العطف على علّة مضمرة، مثل: ليتعطّف عليك. أو على الجملة السابقة بإضمار فعل معلّل، مثل: و لتصنع فعلت ذلك.

إِذْ تَمْشِي أُخْتُكَ ظرف ل «ألقيت» أو «لتصنع». أو بدل من «إذ أوحينا» على أنّ

______________________________

(1) أي: يقشره.

(2) الفوهة و الفوّهة من الوادي و الطريق: فمها.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 239

المراد بها وقت متّسع، كما يصحّ- و إن اتّسع الوقت و تباعد طرفاه- أن يقول لك الرجل:

لقيت فلانا سنة كذا، فتقول: و أنا لقيته في ذلك الوقت، و ربّما لقيه هو في أوّلها و أنت في آخرها.

فَتَقُولُ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى مَنْ يَكْفُلُهُ و ذلك أنّ أخته- و اسمها مريم- جاءت متعرّفة خبره، فصادفتهم يطلبون له مرضعة يقبل ثديها، و كان لا يقبل ثدي امرأة. فقالت:

هل أدلّكم على امرأة تربّيه و ترضعه؟ فقالوا: نعم. فجاءت بالأمّ، فقبل ثديها. و يروى أنّ آسية استوهبته من فرعون و تبنّته، و هي الّتي أشفقت عليه و طلبت له المراضع.

فَرَجَعْناكَ إِلى أُمِّكَ وفاء بقولنا: «إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ» كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها بلقائك وَ لا تَحْزَنَ هي بفراقك و خوف غرقك. أو أنت على فراقها و فقد إشفاقها.

وَ قَتَلْتَ نَفْساً هي نفس القبطي الّذي استغاثه عليه الاسرائيلي، فقتله و هو ابن اثنتي عشرة

سنة فَنَجَّيْناكَ مِنَ الْغَمِ من غمّ قتله خوفا من الاقتصاص، بأن نأمرك بالهجرة إلى مدين وَ فَتَنَّاكَ فُتُوناً مصدر على فعول، كالثبور و الشكور و الكفور، أي:

ابتليناك ابتلاء. أو جمع فتن أو فتنة، على ترك الاعتداد بتاء التأنيث، كحجوز و بدور، في حجزة و بدرة.

و المعنى: فتنّاك أنواعا من الفتن، فخلّصناك مرّة بعد اخرى. و هو إجمال لما ناله في سفره من الهجرة عن الوطن، و مفارقة الالّاف «1»، و المشي راجلا على حذر، و فقد الزاد، و أجر نفسه، إلى غير ذلك.

روي أنّه سأل سعيد بن جبير ابن عبّاس فقال: خلّصناك من محنة بعد محنة، فإنّه ولد في عام كان يقتل فيه الولدان. فهذه فتنة يا ابن جبير. و ألقته أمّه في البحر. و همّ فرعون بقتله. و قتل قبطيّا. و أجر نفسه عشر سنين. و ضلّ الطريق، و تفرّقت غنمه في ليلة مظلمة.

و كان ابن عبّاس يقول عند كلّ واحدة: فهذه فتنة يا ابن جبير. و الفتنة: المحنة، و كلّ ما

______________________________

(1) الالّاف جمع آلف، و هو الصديق و المؤانس.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 240

يشقّ على الإنسان، و كلّ ما يبتلي اللّه عزّ و جلّ عباده فتنة. قال: وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً «1».

فَلَبِثْتَ سِنِينَ فِي أَهْلِ مَدْيَنَ لبثت فيهم عشر سنين قضاء لأوفى الأجلين.

و مدين على ثماني مراحل من مصر. و عن وهب: أنّه لبث عند شعيب ثمانيا و عشرين سنة، منها مهر ابنته.

ثُمَّ جِئْتَ عَلى قَدَرٍ قدّرته ذلك القدر، و وقّتّه في سبق قضائي و قدري، لأن أكلّمك و أستنبؤك غير مستقدم وقته المعيّن و لا مستأخر. أو على مقدار من السنّ يوحى فيه إلى الأنبياء، و هو رأس أربعين سنة. يا

مُوسى كرّره عقيب ما هو غاية الحكاية للتنبيه على ذلك.

وَ اصْطَنَعْتُكَ لِنَفْسِي اتّخذتك صنيعتي و خالصتي. أو اصطنعتك لمحبّتي، و اختصصتك بكلامي. مثّله فيما خوّله من منزلة التكريم و التقريب و التكليم، بحال من يراه بعض الملوك- جوامع خصال فيه، و مزايا خصائص له- أهلا لئلّا يكون أحد أقرب منزلة منه إليه، و لا ألطف محلّا، فيصطنعه بالكرامة و الأثرة، و يستخلصه لنفسه، و لا يبصر و لا يسمع إلّا بعينه و أذنه، و لا يأتمن على مكنون سرّه إلّا ضميره.

اذْهَبْ أَنْتَ وَ أَخُوكَ بِآياتِي بمعجزاتي وَ لا تَنِيا و لا تفترا و لا تقصّرا، من الوني بمعنى الفتور فِي ذِكْرِي أي: لا تنسياني حيثما تقلّبتما، و اتّخذا ذكري جناحا تصيران به مستمدّين بذلك العون و التأييد منّي، معتقدين أنّ أمرا من الأمور لا يتمشّى لأحد إلّا بذكري.

و قيل: في تبليغ الرسالة و الدعاء إليّ، فإنّ الذكر يقع على سائر العبادات، و تبليغ الرسالة من أجلّها و أعظمها، فكان جديرا بأن يطلق عليه اسم الذكر.

اذْهَبا إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى جاوز الحدّ في الطغيان. خاطب موسى أوّلا

______________________________

(1) الأنبياء: 35.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 241

بالأمر وحده، و هاهنا إيّاه و أخاه، فلا تكرير. قيل: أوحى إلى هارون و هو بمصر أن يتلقّى موسى. و قيل: سمع بإقباله فاستقبله.

فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً ارفقا به في الدعاء و القول، و لا تغلظا له في ذلك.

قيل: إنّ القول الليّن هو قوله: هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى وَ أَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى «1» فإنّه دعوة في صورة مشورة، و عرض ما فيه الفوز العظيم، حذرا أن تحمله الحماقة على أن يسطو عليكما، أو احتراما لما له من حقّ التربية عليك.

و قيل: كنّياه.

و هو من ذوي الكنى الثلاث: أبو العبّاس، و أبو الوليد، و أبو مرّة.

و قيل: عداه شبابا لا يهرم بعده، و ملكا لا ينزع منه إلّا بالموت، و أن تبقى له لذّة المطعم و المشرب و المنكح إلى حين موته، و إذا مات دخل الجنّة جزاء لإيمانه.

فأعجبه ذلك، و كان لا يقطع أمرا دون هامان، و كان غائبا، فلمّا قدم هامان أخبره بالّذي دعاه إليه، و أنّه يريد أن يقبل منه. فقال هامان: قد كنت أرى أنّ لك عقلا، و أنّ لك رأيا بيّنا. أنت ربّ و تريد أن تكون مربوبا؟! و بينا أنت تعبد تريد أن تعبد؟! فقلّبه عن رأيه.

لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى متعلّق ب «اذهبا» أو «قولا» أي: باشرا الأمر على رجائكما و طمعكما أنّه يثمر و لا يخيب سعيكما، فإنّ الراجي مجتهد، و الآيس متكلّف و الفائدة في إرسالهما، و المبالغة عليهما في الاجتهاد، مع علمه بأنّه لا يؤمن، إلزام الحجّة و قطع المعذرة، كما قال في موضع آخر: وَ لَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا فَنَتَّبِعَ آياتِكَ «2». و إظهار ما حدث في تضاعيف ذلك من الآيات، و التذكّر للمتحقّق، و الخشية للمتوهّم. و لذلك قدّم الأوّل، أي: إن لم يتحقّق صدقكما و لم يتذكّر، فلا أقلّ من أن يتوهّمه فيخشى.

______________________________

(1) النازعات: 18- 19.

(2) طه: 134.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 242

و في قوله: «قَوْلًا لَيِّناً» دلالة على وجوب الرفق في الدعاء إلى اللّه، و في الأمر بالمعروف، و النهي عن المنكر، ليكون أسرع إلى القبول، و أبعد من النفور.

[سورة طه (20): الآيات 45 الى 52]

قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أَوْ أَنْ يَطْغى (45) قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما

أَسْمَعُ وَ أَرى (46) فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لا تُعَذِّبْهُمْ قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ مِنْ رَبِّكَ وَ السَّلامُ عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى (47) إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عَلى مَنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى (48) قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى (49)

قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ خَلْقَهُ ثُمَّ هَدى (50) قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى (51) قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي فِي كِتابٍ لا يَضِلُّ رَبِّي وَ لا يَنْسى (52)

و لمّا أمر اللّه تعالى موسى و هارون أن يمضيا إلى فرعون، و يدعواه إليه قالا رَبَّنا إِنَّنا نَخافُ أَنْ يَفْرُطَ عَلَيْنا أن يعجّل علينا بالعقوبة، و لا يصبر إلى إتمام الدعوة و إظهار المعجزة. من: فرط إذا تقدّم. و منه: الفارط. و فرس فرط: يسبق الخيل. أَوْ أَنْ يَطْغى أن يزداد طغيانا فيتخطّى إلى أن يقول فيك ما لا ينبغي، لجرأته و قساوته. و في المجي ء به هكذا على الإطلاق و على سبيل الرمز باب من حسن الأدب، و تحاش عن التفوّه بالعظيمة.

قالَ لا تَخافا إِنَّنِي مَعَكُما بالحفظ و النصرة، أي: إنّي ناصركما و حافظكما أَسْمَعُ وَ أَرى ما يجري بينكما و بينه من قول و فعل، فأحدث في كلّ حال ما يصرف

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 243

شرّه عنكما، و يوجب نصرتي لكما. و هذا مثل قوله: فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما «1». و يجوز أن لا يقدّر المفعول، على معنى: إنّني حافظكما سامعا مبصرا. و الحافظ إذا كان قادرا سميعا بصيرا تمّ الحفظ، و صحّت النصرة، و ذهبت المبالاة بالعدوّ.

فَأْتِياهُ فَقُولا إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ فَأَرْسِلْ فأطلق مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ و أعتقهم عن الاستعباد وَ لا تُعَذِّبْهُمْ بالتكاليف الصعبة، من الحفر و البناء

و نقل الحجارة و نظائرها، و قتل الولدان، فإنّهم كانوا في أيدي القبط يستخدمونهم و يتعبونهم في العمل، و يقتلون ذكور أولادهم في عام دون عام. و تعقيب الإتيان بذلك دليل على أنّ تخليص المؤمنين من الكفرة أهمّ من دعوتهم إلى الإيمان. و يجوز أن يكون للتدريج في الدعوة.

قَدْ جِئْناكَ بِآيَةٍ بدلالة واضحة، و معجزة لائحة مِنْ رَبِّكَ تشهد لنا بالنبوّة.

و هذه جملة مقرّرة لما تضمّنه الكلام السابق من دعوى الرسالة، فإنّ دعواها لا تثبت إلّا ببيّنتها. و إنّما وحّد الآية و كان معه آيتان، لأنّ المراد في هذا الموضع إثبات الدعوى ببرهانها، لا الإشارة إلى وحدة الحجّة، فكأنّه قال: قد جئناك بمعجزة و برهان و حجّة على ما ادّعيناه من الرسالة. و كذلك قوله: قَدْ جِئْتُكُمْ بِبَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ «2». فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ «3». أَ وَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْ ءٍ مُبِينٍ « «4»».

وَ السَّلامُ و سلام الملائكة الّذين هم خزنة الجنّة عَلى مَنِ اتَّبَعَ الْهُدى على المهتدين. أو السلامة في الدارين لهم.

و لمّا كان التهديد في أوّل الأمر أهمّ و أنجع، و بالواقع أليق و أنفع، غيّر النظم و صرّح بالوعيد، و قال تأكيدا فيه: إِنَّا قَدْ أُوحِيَ إِلَيْنا أَنَّ الْعَذابَ عذاب الدارين عَلى مَنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى على المكذّبين للرسل، و المعرضين عنهم.

______________________________

(1) القصص: 35.

(2) الأعراف: 105.

(3، 4) الشعراء: 154 و 30.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 244

فلمّا أتياه و قالا له ما أمرا به قالَ فَمَنْ رَبُّكُما يا مُوسى خاطب موسى و هارون أوّلا، و خصّ موسى بالنداء ثانيا، لأنّه الأصل و هارون وزيره و تابعه. و يحتمل أن يحمله خبثه على استدعاء كلام موسى دون كلام أخيه، لما عرف من فصاحة

هارون و رتّة لسان موسى. و يدلّ عليه قوله: أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لا يَكادُ يُبِينُ «1».

و المعنى: من أيّ جنس من الأجناس ربّكما حتّى أفهمه و أعرفه؟ فبيّن موسى أنّ اللّه تعالى ليس له جنس، و إنّما يعرف سبحانه بأفعاله.

قالَ رَبُّنَا الَّذِي أَعْطى كُلَّ شَيْ ءٍ من الأنواع خَلْقَهُ صورته و شكله الّذي يطابق المنفعة المنوطة به و كماله الممكن له، كما أعطى العين الهيئة الّتي تطابق الإبصار، و الأذن الشكل الّذي يوافق الاستماع، و كذلك الأنف و اليد و الرجل و اللسان، كلّ واحد منها مطابق لما علّق به من المنفعة. أو أعطى خليقته كلّ شي ء يحتاجون إليه و ينتفعون به.

و قدّم المفعول الثاني لأنّه المقصود بيانه.

و قيل: أعطى كلّ حيوان نظيره في الخلق و الصورة زوجا، كالناقة و البعير و الرجل و المرأة و غير ذلك، و لم يزاوج منها شيئا غير جنسه.

ثُمَّ هَدى ثمّ عرّفه كيف يرتفق بما أعطي؟ و كيف يتوصّل به إلى بقائه و كماله اختيارا أو طبعا؟ و للّه درّ هذا الجواب ما أخصره! و ما أجمعه! و ما أبينه! فإنّه مع نهاية و جازته و غاية اختصاره معرب عن الموجودات بأسرها على مراتبها، و دالّ على أنّ الغنيّ القادر بالذات المنعم على الإطلاق هو اللّه تعالى، و أنّ جميع ما عداه مفتقر إليه، منعم عليه في حدّ ذاته و صفاته و أفعاله، و لذلك بهت فرعون، و أفحم عن الدخل عليه، فلم ير إلّا صرف الكلام عنه إلى غيره.

قالَ فَما بالُ الْقُرُونِ الْأُولى سأله عن حال من تقدّم و خلا من القرون الماضية، كقوم نوح و عاد و ثمود، و نظائرهم الّذين لا

يعبدون اللّه، و عن شقاء من شقي منهم، و سعادة من سعد. و المعنى: فما حالهم بعد موتهم من السعادة و الشقاوة؟

______________________________

(1) الزخرف: 52.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 245

قالَ عِلْمُها عِنْدَ رَبِّي أجابه بأنّ هذا سؤال عن الغيب، و قد استأثر اللّه عزّ و جلّ به لا يعلمه إلّا هو، و ما أنا إلّا عبد مثلك، لا أعلم منه إلّا ما أخبرني به علّام الغيوب.

فِي كِتابٍ أي: علم أحوال القرون و أعمالهم مثبت في اللوح المحفوظ. و يجوز أن يكون هذا تمثيلا لتمكّنه في علمه بما استحفظه العالم و قيّده بالكتبة. و يؤيّده لا يَضِلُّ رَبِّي وَ لا يَنْسى و الضلال أن تخطئ الشي ء في مكانه فلم تهتد إليه، كقولك: ضللت الطريق و المنزل. و النسيان أن تذهب عنه بحيث لا يخطر ببالك. و هما محالان على العالم بالذات.

و يجوز أن يكون سؤاله دخلا على إحاطة قدرة اللّه بالأشياء كلّها، و تخصيصه أبعاضها بالصور و الخواصّ المختلفة، بأنّ ذلك يستدعي علمه بتفاصيل الأشياء و جزئيّاتها، و القرون الخالية مع كثرتهم و تمادي مدّتهم و تباعد أطراف عددهم، كيف أحاط علمه بهم و بأجزائهم و أحوالهم؟! فيكون معنى الجواب: أنّ علمه تعالى محيط بذلك كلّه، و أنّه مثبت عنده، و لا يجوز عليه الخطأ و النسيان، كما يجوزان عليك أيّها العبد الذليل و البشر الضئيل، أي: لا يضلّ كما تضلّ أنت، و لا ينسى كما تنسى يا مدّعي الربوبيّة بالجهل و الوقاحة.

و عن ابن عبّاس: معناه: لا يترك من كفر به حتّى ينتقم منه، و لا يترك من وحّده حتّى يجازيه.

[سورة طه (20): الآيات 53 الى 55]

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَ سَلَكَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا

بِهِ أَزْواجاً مِنْ نَباتٍ شَتَّى (53) كُلُوا وَ ارْعَوْا أَنْعامَكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (54) مِنْها خَلَقْناكُمْ وَ فِيها نُعِيدُكُمْ وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى (55)

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 246

ثمّ زاد في الإخبار عن اللّه تعالى، فقال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً مرفوع بأنّه صفة ل «ربّي» أو خبر لمبتدأ محذوف. أو منصوب على المدح. و المهد مصدر سمّي به ما يمهّد للصبيّ. و قرأ به الكوفيّون هنا و في الزخرف «1»، أي: كالمهد تتمهّدونها. و الباقون:

مهادا. و هو اسم ما يمهّد، كالفراش، أو جمع مهد. و لم يختلفوا في الّذي في النبأ «2».

وَ سَلَكَ و حصّل لَكُمْ فِيها سُبُلًا بين الجبال و الأودية و البراري، تسلكونها من أرض إلى أرض لتبلغوا منافعها.

وَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً مطرا فَأَخْرَجْنا بِهِ التفت من لفظ الغيبة إلى صيغة التكلّم على الحكاية لكلام اللّه عزّ و جلّ، إيذانا بأنّه مطاع تنقاد الأشياء المختلفة لأمره، و تذعن الأجناس المتفاوتة لمشيئته، لا يمتنع شي ء على إرادته. و مثله قوله تعالى: وَ هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ نَباتَ كُلِّ شَيْ ءٍ «3». أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها «4». أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ «5».

و فيه وجه تخصيص أيضا بأنّا نحن نقدر على مثل هذا، و لا يدخل تحت قدرة أحد.

أَزْواجاً أصنافا. سمّيت بذلك لازدواجها، و اقتران بعضها مع بعض مِنْ نَباتٍ بيان و صفة ل «أزواجا». و كذلك شَتَّى و يحتمل أن يكون صفة للنبات، فإنّه من حيث إنّه مصدر في الأصل يستوي فيه الواحد و الجمع. و هو

جمع شتيت، كمريض و مرضى، أي: متفرّقات و مختلفات في الصور و سائر الأغراض، من الطعوم و الألوان

______________________________

(1) الزخرف: 10.

(2) النبأ: 6.

(3) الأنعام: 99.

(4) فاطر: 27.

(5) النمل: 60.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 247

و الروائح و المنافع، يصلح بعضها للناس و بعضها للبهائم. فلذلك قال: كُلُوا وَ ارْعَوْا أَنْعامَكُمْ و هو حال من ضمير «فأخرجنا» على إرادة القول، أي: أخرجنا أصناف النبات قائلين: كلوا و ارعوا. و المعنى: آذنين في الانتفاع بها، مبيحين أن تأكلوا بعضها و تعلفوا بعضها.

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى لذوي العقول الناهية عن اتّباع الباطل و ارتكاب القبائح. جمع نهية.

مِنْها خَلَقْناكُمْ فإنّ التراب أصل خلقة أوّل آبائكم، و هو آدم عليه السّلام، و أوّل موادّ أبدانكم. و قيل: إنّ الملك لينطلق فيأخذ من تربة المكان الّذي يدفن فيه، فيبدّدها على النطفة، فيخلق من التراب و النطفة معا. وَ فِيها نُعِيدُكُمْ بالموت و تفكيك الأجزاء وَ مِنْها نُخْرِجُكُمْ تارَةً أُخْرى بتأليف أجزائكم المتفتّتة المختلطة بالتراب على الصورة السابقة، و ردّ الأرواح إليها.

و الحاصل: أنّ موسى عليه السّلام عدّد عليهم في هذه الآيات ما علق بالأرض من مرافقهم، حيث جعلها اللّه لهم فراشا و مهادا يتقلّبون عليها، و سوّى لهم فيها مسالك يتردّدون فيها كيف شاؤوا، و أنبت فيها أصناف؟؟ النبات الّتي منها أقواتهم و علوفات بهائمهم، و هي أصلهم الّذي منه تفرّعوا، و أمّهم الّتي منها ولدوا، ثمّ هي كفاتهم «1» إذا ماتوا، و من ثمّ

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «تمسّحوا بالأرض، فإنّها بكم برّة».

[سورة طه (20): الآيات 56 الى 64]

وَ لَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا كُلَّها فَكَذَّبَ وَ أَبى (56) قالَ أَ جِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا بِسِحْرِكَ يا مُوسى (57) فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ

مِثْلِهِ فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَ بَيْنَكَ مَوْعِداً لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَ لا أَنْتَ مَكاناً سُوىً (58) قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ وَ أَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى (59) فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ فَجَمَعَ كَيْدَهُ ثُمَّ أَتى (60)

قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَيُسْحِتَكُمْ بِعَذابٍ وَ قَدْ خابَ مَنِ افْتَرى (61) فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ وَ أَسَرُّوا النَّجْوى (62) قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِما وَ يَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى (63) فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا وَ قَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ مَنِ اسْتَعْلى (64)

______________________________

(1) كفات الأرض: ظهرها للأحياء، و بطنها للأموات.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 248

وَ لَقَدْ أَرَيْناهُ آياتِنا بصّرناه إيّاها، أو عرّفناه صحّتها كُلَّها تأكيد لشمول الأنواع، أو لشمول الأفراد، على أنّ المراد ب «آياتنا» آيات معهودة، و هي الآيات التسع المختصّة بموسى: العصا، و اليد، و فلق البحر، و الجراد، و الحجر، و القمّل، و الضفادع، و الدم، و نتق الجبل.

و قيل: أراد عليه السّلام آياته و ما أوتيه غيره من الأنبياء من المعجزات، فإنّه نبيّ صادق، فلا فرق بين ما يخبر عنه و بين ما يشاهد به.

فَكَذَّبَ موسى من فرط عناده وَ أَبى الإيمان و الطاعة لعتوّه، كقوله:

وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا «1».

قالَ أَ جِئْتَنا لِتُخْرِجَنا مِنْ أَرْضِنا أرض مصر بِسِحْرِكَ يا مُوسى هذا تعلّل

______________________________

(1) النمل: 14.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 249

و تحيّر، و دليل على أنّه علم كونه محقّا حتّى خاف منه على ملكه، فإنّ الساحر لا يقدر أن يخرج ملكا مثله من أرضه، و يغلبه على ملكه بالسحر.

فَلَنَأْتِيَنَّكَ بِسِحْرٍ مِثْلِهِ مثل سحرك فَاجْعَلْ بَيْنَنا وَ بَيْنَكَ مَوْعِداً وعدا، لقوله: لا نُخْلِفُهُ نَحْنُ وَ لا أَنْتَ فإنّ الإخلاف لا يلائم

الزمان و المكان مَكاناً سُوىً أي: منصفا «1» يكون النصف بيننا و النصف الآخر بينك، فتستوي مسافته إلينا و إليك. و هو من النعت. و عن مجاهد: هو من الاستواء، لأنّ المسافة من الوسط إلى الطرفين مستوية لا تفاوت فيها. و قرأ ابن عامر و حمزة و يعقوب بالضّم.

و انتصابه بفعل دلّ عليه المصدر لا به، فإنّه موصوف. و التقدير: نعد مكانا. أو بأنّه بدل من «موعدا» على تقدير: مكان موعد. فيجعل الضمير في «نخلفه» للموعد، و «مكانا» بدل من المكان المحذوف.

و على هذا يكون طباق الجواب في قوله: قالَ مَوْعِدُكُمْ يَوْمُ الزِّينَةِ من حيث المعنى، فإنّ يوم الزينة يدلّ على مكان بعينه مشتهر باجتماع الناس فيه، فبذكر الزمان علم المكان. أو بإضمار مثل: مكان موعدكم، أو وعدكم وعد يوم الزينة.

و قيل: هو يوم عاشوراء، أو يوم النيروز، أو يوم عيد كانوا يتّخذون فيه سوقا، و يتزيّنون ذلك اليوم.

وَ أَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى عطف على اليوم أو الزينة. و إنّما واعدهم ذلك اليوم ليكون علوّ كلمة اللّه، و ظهور دينه، و كبت الكافر، و زهوق الباطل، على رؤوس الأشهاد، و في المجمع الغاصّ «2»، لتقوى رغبة من رغب في اتّباع الحقّ، و يكلّ حدّ المبطلين و أشياعهم، و يكثر المحدّث بذلك الأمر المشهور في كلّ بدو و حضر، و يشيع في جميع أهل الوبر و المدر.

______________________________

(1) في هامش النسخة الخطيّة: «المنصف: الموضع الذي ينتصف فيه المسافة. منه».

(2) أي: المزدحم، من غصّ المكان بهم: امتلأ و ضاق عليهم، فهو غاصّ.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 250

زبدة التفاسير ج 4 299

و تخصيص الضحو من بين ساعات النهار، لأنّ ذلك الوقت أضوؤها و أبينها، فيرى الناس المعجزة الموسويّة و

غلبتها على الشوكة الفرعونيّة على أوضح وجه، فيكون أبلغ في الحجّة، و أبعد في الشبهة.

فَتَوَلَّى فِرْعَوْنُ انصرف و فارق موسى على هذا الوجه فَجَمَعَ كَيْدَهُ ما يكاد به، يعني: السحرة و آلاتهم و أدواتهم ثُمَّ أَتى أي: حضر الموعد.

قالَ لَهُمْ مُوسى وَيْلَكُمْ لا تَفْتَرُوا عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن تدعوا آياته سحرا فَيُسْحِتَكُمْ فيهلككم و يستأصلكم بِعَذابٍ

و قرأ حمزة و الكسائي و حفص و يعقوب برواية ورش بالضمّ، من الإسحات. و هو لغة نجد و بني تميم. و السحت لغة الحجاز. يقال. سحته اللّه و أسحته إذا استأصله و أهلكه.

وَ قَدْ خابَ خسر مَنِ افْتَرى من كذب على اللّه و نسب إليه باطلا، كما خاب فرعون، فإنّه افترى و احتال ليبقى الملك عليه فلم ينفعه.

فَتَنازَعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ أي: تنازعت السحرة في أمر موسى حين سمعوا كلامه، فقال بعضهم: ليس هذا من كلام السحرة وَ أَسَرُّوا النَّجْوى بأنّ موسى إن غلبنا اتّبعناه. و عن قتادة: إن كان ساحرا فسنغلبه، و إن كان من السماء فله أمر. و عن وهب: لمّا قال: «ويلكم ...» الآية قالوا: ما هذا بقول ساحر. و قيل: تنازعوا و اختلفوا فيما يعارضون به موسى و تشاوروا في السرّ. و قيل: الضمير لفرعون و قومه. و المعنى: أنّهم تشاوروا في السرّ، و تجاذبوا أهداب «1» القول.

و قوله: قالُوا إِنْ هذانِ لَساحِرانِ تفسير ل «أَسَرُّوا النَّجْوى أي: كانت نجواهم في تلفيق هذا الكلام خوفا من غلبتهما، و تثبيطا للناس عن اتّباعهما. و على الأوّل معناه:

قال السحرة لفرعون: إن هذان لساحران، أو قاله بعضهم لبعض.

و «هذان» اسم «إن» على لغة بني حارث بن كعب، فإنّهم جعلوا الألف للتثنية،

______________________________

(1) أي: وجوه القول، استعارة من هدب الشجرة

أي: طول أغصانها و تدلّيها، و جمعه: أهداب.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 251

و أعربوا المثنّى تقديرا، نحو الأسماء الّتي آخرها ألف، كعصا و سعدى، فلم يقلبوها في الجرّ و النصب.

و قيل: اسمها ضمير الشأن المحذوف، و «هذان لساحران» خبرها.

و قيل: «إن» بمعنى: نعم، و ما بعدها مبتدأ و خبر. و فيهما: أنّ اللام لا تدخل خبر المبتدأ.

و قرأ أبو عمرو: إنّ هذين. و هو ظاهر. و ابن كثير و حفص: إن هذان، على أنّها هي المخفّفة و اللام هي الفارقة، أو النافية و اللام بمعنى: إلّا. و يشدّد ابن كثير «هذان». و هي لغة.

يُرِيدانِ أَنْ يُخْرِجاكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بالاستيلاء عليها بِسِحْرِهِما وَ يَذْهَبا بِطَرِيقَتِكُمُ الْمُثْلى بمذهبكم الّذي هو أفضل المذاهب، بإظهار مذهبهما، و إعلاء دينهما، لقوله: إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ «1».

و قيل: أرادوا أهل طريقتكم الفضلى. و هم بنو إسرائيل، فإنّهم كانوا أرباب علم فيما بينهم، لقول موسى: أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ «2».

و قيل: الطريقة اسم لوجوه القوم و أشرافهم، من حيث إنّهم قدوة لغيرهم. و المعنى:

يريدان أن يصرفا وجوه الناس إليهما. يقال: هم طريقة قومهم، أي: قدوتهم. و يقال للواحد أيضا: هو طريقة قومه. و المثلى هم الجماعة الأفضلون، تأنيث الأمثل بمعنى الأفضل، كالفضلى في تأنيث الأفضل.

فَأَجْمِعُوا كَيْدَكُمْ فأزمعوه و اجعلوه مجمعا عليه لا يتخلّف عنه واحد منكم، كالمسألة المجمع عليها، أي: لا تدعوا من كيدكم شيئا إلّا جئتم به. و هذا قول فرعون للسحرة. و الضمير في «قالوا» إن كان للسحرة فهو قول بعضهم لبعض. و قرأ أبو عمرو:

______________________________

(1) غافر: 26.

(2) الشعراء: 17.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 252

فاجمعوا. و يعضده قوله: فَجَمَعَ كَيْدَهُ «1».

ثُمَّ ائْتُوا صَفًّا مصطفّين، لأنّه أهيب في صدر الرائين، و أنظم

لأموركم.

روي: أنّهم كانوا سبعين ألفا، مع كلّ واحد منهم حبل و عصا، و أقبلوا عليه إقبالة واحدة. وَ قَدْ أَفْلَحَ الْيَوْمَ فاز بالمطلوب مَنِ اسْتَعْلى من علا و غلب. و هو اعتراض.

[سورة طه (20): الآيات 65 الى 76]

قالُوا يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى (65) قالَ بَلْ أَلْقُوا فَإِذا حِبالُهُمْ وَ عِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى (66) فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى (67) قُلْنا لا تَخَفْ إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى (68) وَ أَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ تَلْقَفْ ما صَنَعُوا إِنَّما صَنَعُوا كَيْدُ ساحِرٍ وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُ حَيْثُ أَتى (69)

فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ سُجَّداً قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَ مُوسى (70) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ وَ لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَ أَبْقى (71) قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ عَلى ما جاءَنا مِنَ الْبَيِّناتِ وَ الَّذِي فَطَرَنا فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا (72) إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا وَ ما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ وَ اللَّهُ خَيْرٌ وَ أَبْقى (73) إِنَّهُ مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً فَإِنَّ لَهُ جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى (74)

وَ مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى (75) جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى (76)

______________________________

(1) طه: 60

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 253

و بعد ما أتوا الموعد مجتمعين قالُوا مراعاة للأدب و التواضع و خفض الجناح يا مُوسى إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَلْقى «أن» بما بعده منصوب بفعل مضمر، أو مرفوع بخبريّة مبتدأ محذوف، أي: اختر

إلقاءك أوّلا أو إلقاءنا، أو الأمر إلقاؤك أو إلقاؤنا.

قالَ بَلْ أَلْقُوا مقابلة أدب بأدب، و عدم مبالاة بسحرهم، و إسعافا إلى ما أوهموا من الميل إلى البدء، بذكرهم إيّاه أوّلا. و تغيير النظم ليكون على وجه أبلغ.

و قيل: ألهمهم ذلك و علّم موسى اختيار إلقائهم، ليبرزوا ما معهم من مكائد السحر أقصى وسعهم، ثمّ يظهر اللّه سبحانه سلطانه فيقذف بالحقّ على الباطل فيدمغه، و يسلّط المعجزة على السحر فتمحقه، و تكون آية نيّرة للناظرين، و عبرة بيّنة للمعتبرين.

فألقوا ما معهم من الحبال و العصيّ فَإِذا حِبالُهُمْ وَ عِصِيُّهُمْ يُخَيَّلُ إِلَيْهِ مِنْ سِحْرِهِمْ أَنَّها تَسْعى «إذا» للمفاجأة. و التحقيق: أنّها أيضا ظرفيّة تستدعي متعلّقا ينصبها، و جملة تضاف إليها، لكنّها خصّت بأن يكون ناصبها فعلا مخصوصا، و هو فعل المفاجأة، و الجملة ابتدائيّة. فتقدير الآية: فألقوا ففاجأ موسى وقت تخييل سعي حبالهم و عصيّهم

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 254

من سحرهم أنّها تعدو مثل عدو الحيّات. و ذلك لأنّهم لطخوها بالزئبق، فلمّا حميت الشمس طلب الزئبق الصعود في أجوافها، فاضطربت و اهتزّت، فخيّل أنّها تتحرّك.

و قرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان و روح: تخيّل بالتاء، على إسناده إلى ضمير الحبال و العصيّ، و إبدال «أنّها تسعى» بدل الاشتمال، كقولك: أعجبني زيد كرمه.

فَأَوْجَسَ فِي نَفْسِهِ خِيفَةً مُوسى إيجاس الخوف إضمار شي ء منه. و المعنى:

فأضمر فيها خوفا من مفاجأته، على ما هو مقتضى الجبلّة البشريّة عند رؤية أمر غريب و شي ء عجيب في أوّل وهلة.

و قيل: خاف أن يخالج الناس شكّ، بأن يلتبس عليهم أمره، فيتوهّموا أنّهم فعلوا مثل ما فعله، فيشكّوا فعلا يتّبعوه.

قُلْنا لا تَخَفْ ما توهّم إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى تعليل للنهي، و تقرير لغلبته، مؤكّدا بالاستئناف، و

حرف التحقيق، و تكرير الضمير، و تعريف الخبر، و لفظ العلوّ الدالّ على الغلبة الظاهرة، و صيغة التفضيل.

وَ أَلْقِ ما فِي يَمِينِكَ أيهمه و لم يقل: ألق عصاك، تحقيرا لها، أي: لا تبال بكثرة حبالهم و عصيّهم، و ألق العويد «1» الفرد الصغير الجرم الّذي في يمينك. أو تعظيما لها، أي:

لا تحتفل بكثرة هذه الأجرام و عظمها، فإنّ في يمينك ما هو أعظم منها أثرا فألقه.

تَلْقَفْ ما صَنَعُوا تبتلع ما افتعلوا و زوّروا بقدرة اللّه، على وحدته و صغره و كثرة ما فعلوا و عظمه. و أصله: تتلقّف، فحذفت إحدى التاءين. و تاء المضارعة تحتمل التأنيث، و الخطاب على إسناد الفعل إلى المسبّب.

و قرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان بالرفع، على الحال أو الاستئناف. و حفص بالجزم و التخفيف، على أنّه من: لقفته، بمعنى: تلقّفته. و البزّي بتشديد التاء.

إِنَّما صَنَعُوا أي: الّذي افتعلوا كَيْدُ ساحِرٍ قرأ حمزة و الكسائي: سحر،

______________________________

(1) العويد: مصغّر العود.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 255

بمعنى: ذي سحر. أو بتسمية الساحر سحرا على المبالغة. أو بإضافة الكيد إلى السحر للبيان، لأنّه يكون سحرا و غير سحر، كما تبيّن المائة بدرهم. و نحوه: علم فقه و علم نحو.

و إنّما وحّد الساحر، لأنّ المراد به الجنس المطلق، لا معنى العدد، فلو جمع لخيّل أنّ المقصود هو العدد. و لذلك قال: وَ لا يُفْلِحُ السَّاحِرُ أي: هذا الجنس. و تنكير الأوّل لتنكير المضاف، لا من أجل تنكيره في نفسه، كقول العجاج:

يوم ترى النفوس ما أعدّت في سعي دنيا طالما قد مدّت «1»

أي: في سعي دنيويّ. فكأنّه قيل: إن ما صنعوا كيد سحريّ.

حَيْثُ أَتى حيث كان و حيث أقبل. و قيل: معناه: لا يفوز الساحر حيث أتى بسحره،

لأنّ الحقّ يبطله.

روي: أنّه لمّا ألقى موسى عصاه صارت حيّة و طافت حول الصفوف حتّى رآها الناس كلّهم، ثمّ قصدت الحبال و العصيّ فابتلعتها كلّها على كثرتها، و لم يبق منها شي ء على وجه الأرض، ثمّ أخذها موسى فعادت عصاه كما كانت، فتحقّق عند السحرة أنّه ليس بسحر، و إنّما هو من آيات اللّه و معجزة من معجزاته.

فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ فألقاهم ذلك على وجوههم سُجَّداً ساجدين للّه توبة عمّا صنعوا، و إعتابا «2» للّه، و تعظيما لما رأوا.

قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ هارُونَ وَ مُوسى قدّم هارون لكبر سنّه، أو لرؤوس الآي. أو لأنّ فرعون ربّى موسى في صغره، فلو اقتصر على موسى أو قدّم ذكره فربما توهّم أنّ المراد فرعون و ذكر هارون على الاستتباع.

و في الكشّاف: «سبحان اللّه ما أعجب أمرهم! قد ألقوا حبالهم و عصيّهم للكفر و الجحود، ثمّ ألقوا رؤوسهم بعد ساعة للشكر و السجود، فما أعظم الفرق بين الإلقاءين!

______________________________

(1) في هامش النسخة الخطّية: «أي: أمهلت، من: مدّه اللّه في الغيّ، أمهله. منه».

(2) أي: إرضاء له. من: أعتبه، أزال عتبه، و ترك ما كان يغضب عليه لأجله و أرضاه.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 256

روي: أنّهم لم يرفعوا رؤوسهم حتّى رأوا الجنّة و النار، و رأوا ثواب أهلها. و عن عكرمة:

لمّا خرّوا سجّدا أراهم اللّه في سجودهم منازلهم الّتي يصيرون إليها في الجنّة» «1».

قالَ آمَنْتُمْ لَهُ لموسى. و اللام لتضمّن الفعل معنى الاتّباع، أي: قال فرعون للسحرة: صدّقتم و اتّبعتم لموسى. و قرأ حفص و قنبل: آمنتم له على الخبر. و الباقون على الاستفهام. قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ في الإيمان له.

إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ لعظيمكم في فنّكم، و أعلاكم و أعلمكم في صناعتكم. أو لمعلّمكم و أنتم تلامذته،

و قد يعجز التلميذ عمّا يفعله الأستاذ. يقال: قال لي كبيري كذا، أي: معلّمي و استاذي. الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ و أنتم تواطأتم على ما فعلتم. و قيل:

معناه: إنّه لرئيسكم و متقدّمكم، و أنتم أشياعه و أتباعه، ما عجزتم عن معارضته، و لكنّكم تركتم معارضته احتشاما له و احتراما. و إنّما قال ذلك ليوهم العوام أنّ ما أتوا به إنّما هو لتواطئهم على ما فعلوا ليصرفوا وجوه الناس إليهم.

فَلَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ اليد اليمنى و الرجل اليسرى، لأنّ كلّ واحد من العضوين خالف الآخر، بأنّ هذا يمين و ذاك شمال. و «من» ابتدائيّة، لأنّ القطع مبتدأ و ناشئ من مخالفة العضو العضو. و هي مع المجرور بها في حيّز النصب على الحال، أي: لأقطّعنّها مختلفات.

وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ فِي جُذُوعِ النَّخْلِ شبّه تمكّن المصلوب في الجذع بتمكّن المظروف بالظرف. و هو أوّل من صلب.

وَ لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا يريد نفسه و موسى، لقوله: «آمنتم له» فإنّ اللام مع الإيمان في كتاب اللّه لغير اللّه، و الباء معه للّه، كقوله: يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ يُؤْمِنُ لِلْمُؤْمِنِينَ «2». و فيه

______________________________

(1) الكشّاف 3: 75- 76.

(2) التوبة: 61.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 257

صلف «1» و اختيال باقتداره و قهره، و ما ألفه و ضرى «2» به من تعذيب الناس بأنواع العذاب، و توضيع لموسى و هزء به، فإنّه لم يكن قطّ من التعذيب في شي ء. و قيل: يريد ربّ موسى الّذي آمنوا به. أَشَدُّ عَذاباً وَ أَبْقى و أدوم عقابا: أنا على إيمانكم، أو موسى و ربّه على ترككم الإيمان به.

قالُوا لَنْ نُؤْثِرَكَ لن نختارك عَلى ما جاءَنا موسى به. و يجوز أن يكون الضمير فيه ل «ما». مِنَ الْبَيِّناتِ من المعجزات الواضحات

على صدق موسى و صحّة نبوّته وَ الَّذِي فَطَرَنا عطف على «ما جاءنا» أو قسم، أي: و على أنّه الّذي خلقنا، أو نقسم به على أنّا لا نختارك على ما جاء به موسى و ما ظهر لنا من الحقّ.

فَاقْضِ ما أَنْتَ قاضٍ قاضيه، أي: صانعه على إتمام و إحكام، فإنّا لا نرجع عن الإيمان إِنَّما تَقْضِي هذِهِ الْحَياةَ الدُّنْيا إنّما تصنع ما تهواه، أو تحكم بما تراه في هذه الدنيا. و هو كالتعليل لما قبله، و التمهيد لما بعده.

إِنَّا آمَنَّا بِرَبِّنا لِيَغْفِرَ لَنا خَطايانا من الكفر و المعاصي وَ ما أَكْرَهْتَنا عَلَيْهِ مِنَ السِّحْرِ من معارضة موسى.

روي أنّ السحرة- يعني: رؤوسهم- كانوا اثنين و سبعين، اثنان من القبط، و سائرهم من بني إسرائيل، و كان فرعون أكرههم على تعلّم السحر. و كذا الملوك السالفين كانوا يجبرون الرعايا على تعلّم السحر، لئلّا يخرج السحر من أيديهم.

روي أنّهم قالوا لفرعون: أرنا موسى نائما. ففعل فوجدوه تحرسه عصاه. فقالوا: ما هذا بسحر الساحر، لأنّ الساحر إذا نام بطل سحره. فأبى فرعون إلّا أن يعارضوه، فذلك إكراههم.

______________________________

(1) صلف صلفا: تمدّح بما ليس فيه، و ادّعى فوق ذلك إعجابا و تكبّرا. و الاختيال: التبختر و التكبّر.

(2) ضرى بالشي ء، أي: تعوّده و أولع به.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 258

وَ اللَّهُ خَيْرٌ وَ أَبْقى جزاء. أو خير ثوابا للمؤمن، و أبقى عقابا للكافر. و هذا جواب لقوله: «وَ لَتَعْلَمُنَّ أَيُّنا أَشَدُّ عَذاباً وَ أَبْقى .

إِنَّهُ الشأن و الأمر مَنْ يَأْتِ رَبَّهُ مُجْرِماً بأن يموت على كفره فَإِنَّ لَهُ نار جَهَنَّمَ لا يَمُوتُ فِيها فيستريح من العقاب وَ لا يَحْيى حياة مهنّأة فيها راحة.

وَ مَنْ يَأْتِهِ مُؤْمِناً قَدْ عَمِلَ الصَّالِحاتِ بأن أدّى الفرائض في

الدنيا فَأُولئِكَ لَهُمُ الدَّرَجاتُ الْعُلى جمع العليا، و هي تأنيث الأعلى، أي: المنازل الرفيعة في الجنّة، بعضها أعلى من بعض.

جَنَّاتُ عَدْنٍ إقامة. بدل «الدرجات». تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها حال، و العامل فيها معنى الإشارة أو الاستقرار وَ ذلِكَ الثواب الّذي ذكر جَزاءُ مَنْ تَزَكَّى تطهّر من أدناس الكفر و المعاصي.

قيل في هذه الآيات الثلاث: هي حكاية قول السحرة. و قيل: ابتداء كلام من اللّه، لا على وجه الحكاية.

[سورة طه (20): الآيات 77 الى 79]

وَ لَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً فِي الْبَحْرِ يَبَساً لا تَخافُ دَرَكاً وَ لا تَخْشى (77) فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ (78) وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ ما هَدى (79)

ثمّ أخبر سبحانه عن حال بني إسرائيل، فقال: وَ لَقَدْ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي أي: من مصر فَاضْرِبْ لَهُمْ طَرِيقاً أي: فاجعل لهم، من قولهم: ضرب له في ماله سهما. أو فاتّخذ، من: ضرب اللبن إذا عمله. فِي الْبَحْرِ يَبَساً مصدر وصف به.

يقال: يبس يبسا و يبسا، كسقم سقما و سقما. و من ثمّ وصف به المؤنّث فقيل: شاتنا يبس

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 259

و ناقتنا يبس، إذا جفّ لبنها. و المعنى: اجعل أو اتّخذ لهم طريقا في البحر يابسا بضربك العصا لينفلق البحر.

لا تَخافُ دَرَكاً حال من الضمير في «فاضرب». و الدرك اسم من الإدراك، أي:

حال كونك آمنا من أن يدرككم العدوّ. أو صفة ثانية، و العائد محذوف.

و قرأ حمزة: لا تخف، على أنّه جواب الأمر. و على هذا قوله: وَ لا تَخْشى استئناف، أي: و أنت لا تخشى. يعني: من شأنك أنّك آمن و لا تخشى من الغرق. أو عطف، و الألف فيه للإطلاق

من أجل الفاصلة، كقوله: وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا «1» فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا «2». أو حال بالواو.

فَأَتْبَعَهُمْ فِرْعَوْنُ بِجُنُودِهِ فأتبعهم فرعون نفسه و معه جنوده، فحذف المفعول الثاني. و قيل: «فأتبعهم» بمعنى: فاتّبعهم، و الباء للتعدية. و قيل: الباء مزيدة. و المعنى:

فاتّبعهم جنوده.

روي: أن موسى خرج ببني إسرائيل أوّل الليل، فأخبر فرعون بذلك، فاتّبع أثرهم بجنوده، و لمّا جاوز البحر موسى و قومه، و لج فرعون و جنوده فيه فَغَشِيَهُمْ مِنَ الْيَمِّ ما غَشِيَهُمْ الضمير له و لجنوده، أي: لحقهم منه ما لحقهم، و جاءهم منه ما جاءهم. و هذا من باب الاختصار، و من جوامع الكلم الّتي تستقلّ مع قلّتها بالمعاني الكثيرة، أي:

غشيهم ما سمعتم قصّته و ما لا يعرف كنهه إلّا اللّه.

وَ أَضَلَّ فِرْعَوْنُ قَوْمَهُ وَ ما هَدى أي: أضلّهم في الدين، و ما هداهم إلى الخير و الرشد و طريق النجاة. و هو تهكّم به في قوله: وَ ما أَهْدِيكُمْ إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ «3». أو أضلّهم في البحر و ما نجا.

______________________________

(1) الأحزاب: 10.

(2) الأحزاب: 67.

(3) غافر: 29.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 260

[سورة طه (20): الآيات 80 الى 82]

يا بَنِي إِسْرائِيلَ قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ وَ واعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ وَ نَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى (80) كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ وَ لا تَطْغَوْا فِيهِ فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى (81) وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى (82)

ثمّ خاطب سبحانه بني إسرائيل بعد إنجائهم من البحر، و هلاك فرعون و قومه، و عدّد نعمه عليهم، فقال: يا بَنِي إِسْرائِيلَ على إضمار القول، أي: قلنا لهم يا أولاد يعقوب. و قيل: الخطاب للّذين كانوا منهم في عهد النبيّ صلّى اللّه

عليه و آله و سلّم، منّ اللّه عليهم بما فعل بآبائهم. و الوجه هو الأوّل.

قَدْ أَنْجَيْناكُمْ مِنْ عَدُوِّكُمْ فرعون و قومه وَ واعَدْناكُمْ جانِبَ الطُّورِ الْأَيْمَنَ بمناجاة موسى، و إنزال التوراة عليه. و إنّما عدّى المواعدة إليهم، و هي لموسى أو له و للسبعين المختارين، لأنّها لابستهم، و اتّصلت بهم، حيث كانت لنبيّهم و نقبائهم، و إليهم رجعت منافعها الّتي قام بها دينهم و شرعهم.

وَ نَزَّلْنا عَلَيْكُمُ الْمَنَّ وَ السَّلْوى يعني: في التيه. و قد مرّ ذلك مفصّلا في سورة البقرة «1».

كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ لذائذه المحلّلة. و قرأ حمزة و الكسائي: أنجيتكم ... و واعدتكم ... و ما رزقتكم، على التاء. وَ لا تَطْغَوْا فِيهِ فيما رزقناكم بالكفران، و الإخلال بشكره، و التعدّي لما حدّ اللّه لكم فيه، بأن تنتفعوا به في المعاصي، و تمنعوه من حقوق الفقراء فيه، و تسرفوا في إنفاقه، و تبطروا فيه و تتكبّروا.

______________________________

(1) راجع ج 1 ص 153.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 261

فَيَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبِي فيجب عليكم عقوبتي، من: حلّ الدّين يحلّ إذا وجب أداؤه وَ مَنْ يَحْلِلْ عَلَيْهِ غَضَبِي فَقَدْ هَوى هلك. و أصله: أن يسقط من جبل فيهلك. أو سقط سقوطا لا نهوض بعده. و قيل: وقع في الهاوية. و قرأ الكسائي: فيحلّ ... و يحلل بالضمّ، من: حلّ يحلّ إذا نزل.

وَ إِنِّي لَغَفَّارٌ لِمَنْ تابَ عن الشرك وَ آمَنَ بما يجب الإيمان به وَ عَمِلَ صالِحاً ثُمَّ اهْتَدى ثمّ استقام و ثبت على الهدى حتّى يموت.

و

عن الباقر عليه السّلام: «ثمّ اهتدى إلى و لا يتنا أهل البيت عليهم السّلام، فو اللّه لو أنّ رجلا عبد اللّه عمره ما بين الركن و المقام، ثمّ مات و لم

يجي ء بولايتنا، لأكبّه اللّه في النار على وجهه».

رواه الحاكم أبو القاسم الحسكاني «1» بإسناده. و أورده العيّاشي «2» في تفسيره من عدّة طرق.

و كلمة التراخي دلّت على تباين المنزلتين، دلالتها على تباين الوقتين في:

جاءني زيد ثم عمرو. أعني: أنّ منزلة الاستقامة على الخير مباينة لمنزلة الخير نفسه، لأنّها أعلى منها و أفضل. و نحوه قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا «3».

[سورة طه (20): الآيات 83 الى 89]

وَ ما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى (83) قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى (84) قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ مِنْ بَعْدِكَ وَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُّ (85) فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ غَضْبانَ أَسِفاً قالَ يا قَوْمِ أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً أَ فَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي (86) قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا وَ لكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ فَقَذَفْناها فَكَذلِكَ أَلْقَى السَّامِرِيُّ (87)

فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلاً جَسَداً لَهُ خُوارٌ فَقالُوا هذا إِلهُكُمْ وَ إِلهُ مُوسى فَنَسِيَ (88) أَ فَلا يَرَوْنَ أَلاَّ يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلاً وَ لا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً (89)

______________________________

(1) شواهد التنزيل 1: 491 ح 518- 519 و لم يذكر ذيل الحديث.

(2) المطبوع من تفسير العيّاشي إلى آخر سورة الكهف، و لم يصل إلينا و يا للأسف بقيّة الكتاب.

(3) فصّلت: 30.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 262

روي: أنّ اللّه سبحانه واعد موسى جانب الطور الأيمن، فتعجّل موسى من بينهم- و هم السبعون الّذين اختارهم موسى- شوقا إلى ربّه، و خلّفهم ليلحقوا به. فقال اللّه سبحانه له سائلا عن سبب العجلة: وَ ما أَعْجَلَكَ عَنْ قَوْمِكَ يا مُوسى أيّ شي ء عجّل بك؟ و بأيّ سبب خلّفتهم و سبقتهم

و جئت وحدك؟ فيه إنكار، من حيث إنّ العجلة نقيصة في نفسها، مع انضمام إغفال القوم إليها، و إيهام التعظّم عليهم، فلذلك أجاب موسى عن الأمرين.

و قدّم الجواب ببسط العذر. و تمهيد العلّة في نفس ما أنكر عليه، لأنّه أهمّ.

قالَ هُمْ أُولاءِ عَلى أَثَرِي من ورائي يدركونني عن قريب، ما تقدّمتهم إلّا بخطى يسيرة لا يعتدّ بها عادة، و ليس بيني و بينهم إلّا مسافة قريبة يتقدّم بمثلها الوفد رأسهم و مقدّمهم. و عن أبي عمرو و يعقوب: إثري بالكسر. و الإثر أفصح من الأثر. هكذا في الكشّاف «1».

______________________________

(1) الكشّاف 3: 80.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 263

ثمّ اعتذر للعجلة بقوله: وَ عَجِلْتُ إِلَيْكَ رَبِّ لِتَرْضى حرصا على تعجيل رضاك، أي: لأزداد رضا إلى رضاك، فإنّ المسارعة إلى امتثال أمرك و الوفاء بعهدك توجب مزيّة مرضاتك.

قالَ فَإِنَّا قَدْ فَتَنَّا قَوْمَكَ أي: ابتليناهم و امتحنّاهم بعبادة العجل، و بما حدث فيهم من أمره، بأن شدّدنا عليهم التكليف، و ألزمناهم عند ذلك النظر ليعلموا أنّه ليس بإله مِنْ بَعْدِكَ من بعد انطلاقك وَ أَضَلَّهُمُ السَّامِرِيُ أي: دعاهم إلى الضلال فقبلوا منه، و ضلّوا عند دعائه. أضاف سبحانه الفتنة إلى نفسه و الضلال إلى السامريّ، ليدلّ على أنّ الفتنة غير الإضلال كما فسّرنا.

و قيل: المعنى: عامله بهم معاملة المختبر المبتلي، ليظهر لغيرنا المخلص منهم من المنافق، فيوالي المخلص، و يعادي المنافق.

و أراد بالقوم المفتونين الّذين خلّفهم موسى عليه السّلام مع هارون. و كانوا ستّمائة ألف، ما نجا من عبادة العجل منهم إلّا اثنا عشر ألفا.

و السامريّ منسوب إلى قبيلة من بني إسرائيل يقال لها السامرة. و قيل: السامرة قوم من اليهود يخالفونهم في بعض دينهم. و قيل: كان من أهل

باجرما «1» بالقصر، و هو موضع. و قيل: كان علجا «2» من كرمان، و اسمه موسى بن ظفر، و كان منافقا قد أظهر الإسلام، و كان من قوم يعبدون البقر.

فَرَجَعَ مُوسى إِلى قَوْمِهِ بعد ما استوفى الأربعين: ذا القعدة و عشر ذي الحجّة، و أخذ التوراة غَضْبانَ عليهم أَسِفاً حزينا، أو جزعا متلهّفا بما فعلوا. و في الكشّاف: «الأسف: الشديد الغضب. و منه

قوله عليه السّلام في موت الفجأة: رحمة للمؤمن،

______________________________

(1) باجرما: قرية من أعمال البليخ قرب الرقّة من أرض الجزيرة. معجم البلدان 1: 313.

(2) العلج: الرجل الضخم القويّ من كفّار العجم. و بعضهم يطلقه على الكافر عموما. زبدة التفاسير، ج 4، ص: 264

و أخذة أسف للكافر» «1».

قالَ يا قَوْمِ أَ لَمْ يَعِدْكُمْ رَبُّكُمْ وَعْداً حَسَناً بأن يعطيكم التوراة فيها هدى و نور، و لا وعد أحسن من ذاك و أجمل. و روي أنّها كانت ألف سورة، كلّ سورة ألف آية، يحمل أسفارها سبعون جملا. و قيل: أربعون.

أَ فَطالَ عَلَيْكُمُ الْعَهْدُ أي: الزمان. يعني: زمان مفارقته لهم. يقال: طال عهدي بك، أي: طال زماني بسبب مفارقتك.

أَمْ أَرَدْتُمْ أَنْ يَحِلَّ عَلَيْكُمْ يجب عليكم غَضَبٌ مِنْ رَبِّكُمْ بعبادة ما هو مثل في الغباوة فَأَخْلَفْتُمْ مَوْعِدِي وعدكم إيّاي بالثبات على الإيمان باللّه، و القيام على ما أمرتكم به.

قالُوا ما أَخْلَفْنا مَوْعِدَكَ بِمَلْكِنا بأن ملكنا أمرنا، أي: لو ملكنا أمرنا و خلّينا و رأينا، و لم يسأل لنا السامريّ، لما أخلفناه، و لكن غلبنا من جهة السامريّ.

و قرأ نافع و عاصم: بملكنا بالفتح. و حمزة و الكسائي بالضمّ. و تثليثها في الأصل لغات في مصدر: ملكت الشي ء.

وَ لكِنَّا حُمِّلْنا أَوْزاراً أحمالا مِنْ زِينَةِ الْقَوْمِ من حليّ القبط الّتي استعرناها منهم

حين قصدنا الخروج من مصر باسم العرس. و قيل: استعاروا لعيد كان لهم، ثمّ لم يردّوا عند الخروج مخافة أن يعلموا بخروجهم، فحملوها. و قيل: هي ما ألقاه البحر على الساحل بعد إغراقهم فأخذوه.

و قيل: سمّوها أوزارا، لأنّها آثام، فإنّ الغنائم لم تكن تحلّ بعد، أو لأنّهم كانوا مستأمنين في دار الحرب، و ليس للمستأمن أن يأخذ مال الحربيّ.

و قرأ ابن عامر و حفص و نافع و ابن كثير: حمّلنا، بضمّ الحاء و كسر الميم و التشديد، على بناء المجهول من التحميل، أي: جعلنا أن نحمل. و قرأ أبو عمرو و حمزة

______________________________

(1) الكشّاف 3: 82.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 265

و الكسائي و أبو بكر و روح: حملنا بالفتح و التخفيف.

فَقَذَفْناها ألقيناها في نار السامريّ الّتي أوقدها في الحفرة، و أمرنا أن نطرح فيها الحليّ فَكَذلِكَ فمثل ما ألقينا نحن من هذه الحليّ في النار أَلْقَى السَّامِرِيُ ما كان معه من الحليّ. و عن الجبائي: ألقى السامريّ أيضا ليوهم أنّه منهم.

و في الكشّاف: «أراهم أنّه يلقي حليّا في يده مثل ما ألقوا، و إنّما ألقى التربة الّتي أخذها من موطئ حيزوم «1» فرس جبرئيل عليه السّلام، أوحى إليه وليّه الشيطان أنّها إذا خالطت مواتا صار حيوانا. و هذه كرامة آثر اللّه روح القدس بهذه الكرامة الخاصّة. ألا ترى كيف أنشأ المسيح من غير أب عند نفخه في الدرع» «2».

و قيل: إنّ هذا الكلام مبتدأ من اللّه، حكى عنهم أنّهم ألقوا، ثمّ قال: و كذلك ألقى السامريّ.

و روي: أنّهم لمّا حسبوا أنّ العدّة قد كملت، لأنّهم حسبوا عشرين ليلة بأيّامها أربعين، قال لهم السامريّ: إنّما أخلف موسى ميقاتكم لما معكم من حليّ القوم، و هو حرام عليكم، فالرأي

أن نحفر حفيرة و نسجّر فيها نارا و نقذف كلّ ما معنا فيها، ففعلوا.

فَأَخْرَجَ لَهُمْ عِجْلًا جَسَداً من تلك الحليّ المذابة في الحفرة لَهُ خُوارٌ صوت العجل فَقالُوا يعني: السامريّ و من افتتن به أوّل ما رآه هذا إِلهُكُمْ وَ إِلهُ مُوسى فَنَسِيَ أي: فنسيه موسى هاهنا، و ذهب يطلبه عند الطور. و قيل: إنّه قول اللّه تعالى.

و المعنى: فنسي السامريّ، أي: ترك ما كان عليه من إظهار الإيمان.

أَ فَلا يَرَوْنَ يعلمون أَلَّا يَرْجِعُ إِلَيْهِمْ قَوْلًا أنّه لا يرجع إليهم كلاما، و لا يردّ

______________________________

(1) في هامش النسخة الخطّية: «حيزوم: علم لفرس جبرئيل عليه السّلام. و سبب منع الصرف التأنيث و العلميّة، لأن جبرئيل عليه السّلام نزل راكب الماذيانة. منه». و الماذيانة معرّبة: ماديان الفارسيّة، و هي بمعنى: الأنثى.

(2) الكشّاف 3: 82.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 266

عليهم جوابا. و لا يجوز أن تكون «أن» ناصبة، لأنّها لا تقع بعد أفعال اليقين. وَ لا يَمْلِكُ لَهُمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً و لا يقدر على إنفاعهم و إضرارهم، و من كان بهذه الصفة فإنّه لا يصلح للعبادة.

روي عن مقاتل: لمّا مضى من موعد موسى خمسة و ثلاثون يوما، أمر السامريّ بني إسرائيل أن يجمعوا ما استعاروه من حليّ آل فرعون، و صاغه عجلا في السادس و الثلاثين و السابع و الثامن، و دعاهم إلى عبادته في التاسع، فأجابوه، و جاءهم موسى بعد استكمال الأربعين.

[سورة طه (20): الآيات 90 الى 94]

وَ لَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ وَ إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ فَاتَّبِعُونِي وَ أَطِيعُوا أَمْرِي (90) قالُوا لَنْ نَبْرَحَ عَلَيْهِ عاكِفِينَ حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى (91) قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا (92) أَلاَّ تَتَّبِعَنِ أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي

(93) قالَ يَا بْنَ أُمَّ لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لا بِرَأْسِي إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي (94)

وَ لَقَدْ قالَ لَهُمْ هارُونُ مِنْ قَبْلُ قبل عود موسى إليهم، أو من قبل أن يقول لهم السامريّ ما قال. كأنّه أوّل ما وقع عليه بصره حين طلع من الحفرة توهّم ذلك، و بادر تحذيرهم بقوله: يا قَوْمِ إِنَّما فُتِنْتُمْ بِهِ بالعجل. يعني: أنّ اللّه شدّد عليكم التعبّد، فلا تعبدوا العجل وَ إِنَّ رَبَّكُمُ الرَّحْمنُ لا غير فَاتَّبِعُونِي وَ أَطِيعُوا أَمْرِي في الثبات على الدين.

قالُوا لَنْ نَبْرَحَ لا نزال عَلَيْهِ على العجل و عبادته عاكِفِينَ مقيمين

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 267

حَتَّى يَرْجِعَ إِلَيْنا مُوسى و هذا الجواب يؤيّد الوجه الأوّل.

فاعتزلهم هارون في اثني عشر ألفا. فلمّا رجع موسى و هو ممتلئ غيظا منهم و من عبادتهم العجل، و سمع الصياح، إذ كانوا يرقصون حول العجل و يضربون الدفوف و المزامير، فلمّا سمع موسى منهم ما سمع ألقى الألواح و أخذ يعاتب هارون قالَ يا هارُونُ ما مَنَعَكَ إِذْ رَأَيْتَهُمْ ضَلُّوا بعبادة العجل أَلَّا تَتَّبِعَنِ أن تتّبعني في الغضب للّه، و شدّة زجرهم عن الكفر، و مقاتلتهم. أو أن تأتي عقبي و تلحقني. و «لا» مزيدة، كما في قوله: ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ «1».

أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي بالصلابة في الدين، و المحاماة عليه، و إصلاحهم. يريد به قوله: اخْلُفْنِي فِي قَوْمِي وَ أَصْلِحْ وَ لا تَتَّبِعْ سَبِيلَ الْمُفْسِدِينَ «2».

هذا في صورة الاستفهام، و المراد به التقرير و الفرض، لأنّ موسى عليه السّلام كان يعلم أنّ هارون نقيّ الجيب من الذنوب، بري ء الساحة من العيوب، فلا يعصيه في أمره.

و لمّا كان موسى رجلا حديدا، شديد

الغضب للّه و لدينه، مجبولا على الحدّة و الخشونة و التصلّب في ذات اللّه، لم يتمالك حين رأى القوم يعبدون العجل- بعد رؤيتهم المعجزات و الآيات- أن ألقى الألواح، لما غلب ذهنه من الدهشة العظيمة، لفرط غضبه للّه و حميّة لدينه، و عنّف بأخيه و خليفته على قومه، فأقبل عليه إقبال العدوّ المجاهر بالعداوة، قابضا على شعر رأسه، إذ أجراه مجرى نفسه إذا غضب في القبض على شعر رأسه و وجهه، و لذلك أخذ رأس أخيه يجرّه إليه، كما أنّ من صدر من قومه و أهله شي ء قبيح مستهجن غاية القبح و الاستهجان، فعل ذلك و إن كان صديقا محبّا له غاية الصداقة و المحبّة.

قالَ يَا بْنَ أُمَ قال هارون لموسى: يا ابن أمّ. خصّ الأمّ- و إن كان من الأب و الأمّ- استعطافا و ترقيقا، ليسكن شدّة غضبه. لا تَأْخُذْ بِلِحْيَتِي وَ لا بِرَأْسِي أي: بشعر

______________________________

(1) الأعراف: 12 و 142.

(2) الأعراف: 12 و 142.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 268

رأسي. يعني: لا تقبض عليهما، و اسكن عن شدّة الغضب.

إِنِّي خَشِيتُ أَنْ تَقُولَ فَرَّقْتَ بَيْنَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي: لو قاتلت أو فارقت بعضهم ببعض لتفرّقوا فرقا. ففريق يلحقون بك معي، و فريق يقيمون مع السامريّ على عبادة العجل، و فريق يتوقّفون شاكّين في أمره. مع أنّي لم آمن إن تركتهم أن يصيروا بالخلاف إلى تسافك الدماء، و شدّة التصميم و الثبات على اتّباع السامريّ، فتقول عتابا: فرّقت بينهم.

وَ لَمْ تَرْقُبْ قَوْلِي لم تعمل بوصيّتي و لم تحفظها حين قلت: اخلفني في قومي و أصلح، فإنّ الإصلاح كان في حفظ الدهماء و حقن الدماء و المداراة لهم إلى أن ترجع إليهم، فتتدارك الأمر برأيك.

و قال القاضي النيشابوري: للشيعة

في هذا المقام مباحث مع الطائفة الضالّة بهذا الكلام «قال أهل السنّة هاهنا: إنّ الشيعة تمسّكوا

بقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنت منّي بمنزلة هارون من موسى.

ثمّ إنّ هارون ما منعته التقيّة في مثل هذا الجمع، بل صعد المنبر و صرّح بالحقّ، و دعا الناس إلى متابعته، فلو كانت أمّة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على الخطأ لكان يجب على عليّ أن يفعل ما فعل هارون من غير تقيّة و خوف.

و للشيعة أن يقولوا: إنّ هارون صرّح بالحقّ، ثمّ خاف و سكت، و لهذا عاتبه موسى بما عاتب، فاعتذر ب إِنَّ الْقَوْمَ اسْتَضْعَفُونِي وَ كادُوا يَقْتُلُونَنِي «1». و هكذا عليّ عليه السّلام امتنع أوّلا من البيعة، فلمّا آل الأمر إلى ما آل أعطاهم ما سألوا» «2». انتهى كلامه.

و ما أحسن إنصافه و مقاله، و إن ذيّله بقوله: و إنّما قلت هذا على سبيل البحث لا لأجل التعصّب.

و تفصيل هذا المجمل ذكره ابن أبي الحديد، و هو أيضا من أعيان أهل السنّة

في

______________________________

(1) الأعراف: 150.

(2) تفسير غرائب القرآن للنيسابوري 4: 567. زبدة التفاسير، ج 4، ص: 269

شرح نهج البلاغة، قائلا: «إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام لمّا أخرج من بيته، و جاؤا به إلى أبي بكر، اخرج ملبّبا يرفض رفضا. فما مرّ على ملأ إلّا قالوا: اذهب و بايع.

فمرّ على مربض غنم فوجد شياها، فقال: لو أنّ لي بعدد هذه الشياه أنصارا لأزلت ابن آكلة الأكباد عن مكانه. فلمّا وافى المسجد وجد سيوف بني أميّة مشهورة.

فقال له عمر منتهرا: إلى كم تقيم في بيتك تنتظر نزول الوحي عليك؟ مدّ يدك فبايع، و ادخل فيما دخل فيه الناس. قال: فإن لم أبايع؟ قال: تقتل

صغارا لك و ذلّا». «1»

[سورة طه (20): الآيات 95 الى 98]

قالَ فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُّ (95) قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ فَنَبَذْتُها وَ كَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي (96) قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ وَ إِنَّ لَكَ مَوْعِداً لَنْ تُخْلَفَهُ وَ انْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً لَنُحَرِّقَنَّهُ ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ فِي الْيَمِّ نَسْفاً (97) إِنَّما إِلهُكُمُ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ وَسِعَ كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً (98)

و لمّا سمع موسى عليه السّلام اعتذار هارون أقبل على السامريّ قالَ منكرا فَما خَطْبُكَ يا سامِرِيُ ما طلبك له؟ و ما الّذي حملك عليه؟ و هو مصدر: خطب الشي ء إذا طلبه.

قالَ بَصُرْتُ بِما لَمْ يَبْصُرُوا بِهِ أي: علمت ما لم يعلم بنو إسرائيل، و فطنت لما

______________________________

(1) راجع شرح النهج لابن أبي الحديد 6: 45. ففيه ما يقرب المتن هنا. و الظاهر أن جملة «لو أنّ لي- إلى- ابن آكلة الأكباد عن مكانه» زائدة من زلّة القلم أو زيادات النسّاخ، إذ لم يكن لمعاوية حينذاك شأن يذكر حتى يخاطبه عليه السّلام بهذا الكلام.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 270

لم يفطنوا له، و هو أنّ الرسول الّذي جاءك روحانيّ محض لا يمسّ أثره شيئا إلّا أحياه. أو رأيت ما لم تروه، و هو أنّ جبرئيل جاءك على فرس الحياة. و قرأ حمزة و الكسائي بالتاء، خطابا لموسى و بني إسرائيل.

و قيل: إنّما عرفه لأنّ أمّه ألقته حين ولدته خوفا من فرعون، فكان جبرئيل يغذوه حتى استقلّ.

فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ من تربة موطئه. و القبضة المرّة من القبض فأطلق على المقبوض، كضرب الأمير. و الرسول جبرئيل. و لم يسمّه لأنّه أراد أن ينبّه على الوقت، و

هو حين حلّ ميعاد الذهاب إلى الطور، فأرسل اللّه عزّ و جلّ إلى موسى جبرئيل راكب حيزوم فرس الحياة ليذهب به، فأبصره السامريّ فقال: إنّ لهذا شأنا. فقبض قبضة من تربة موطئه. فلمّا سأله موسى عن قصّته قال: قبضت من أثر فرس الرسول الذي جاء به إليك يوم حلول الميعاد. و لعلّه لم يعرف أنّه جبرئيل عليه السّلام.

فَنَبَذْتُها في الحليّ المذاب، أو في جوف العجل حتّى حيي وَ كَذلِكَ سَوَّلَتْ لِي نَفْسِي زيّنته و حسّنته إليّ.

قال الصادق عليه السّلام: «إنّ موسى قصد أن يقتل السامريّ، فأوحى اللّه تعالى إليه: لا تقتله يا موسى، فإنّه سخيّ».

فعند ذلك قالَ فَاذْهَبْ فَإِنَّ لَكَ فِي الْحَياةِ عقوبة على ما فعلته أَنْ تَقُولَ لا مِساسَ خوفا من أن يمسّك أحد فيأخذك الحمّى و من مسّك. فصار السامريّ يهيم في البرّيّة مع الوحش و السباع، و لا يمسّ أحدا، و لا يمسّه أحد. يعني: عاقبه اللّه تعالى في الدنيا بعقوبة لا شي ء أطمّ «1» منها و أوحش، فإنّه منع من مخالطة الناس منعا كلّيا، و حرّم عليهم ملاقاته و مكالمته و مبايعته و مواجهته، و كلّ ما يعايش به الناس بعضهم بعضا. و إذا اتّفق أن يماسّ أحدا- رجلا أو امرأة- حمّ الماسّ و الممسوس، فتحامى الناس و تحاموه.

______________________________

(1) أي: أعظم و أدهى، من: طمّ الأمر، إذا عظم و تفاقم. و لذا قيل للقيامة: الطامّة الكبرى.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 271

و كان يصيح: لا مساس. و صار في الناس أوحش من القاتل اللاجئ إلى الحرم، و من الوحشيّ النافر في البرّيّة. و يقال: إنّ قومه باق فيهم ذلك إلى اليوم، إن مسّ واحد من غيرهم واحدا منهم حمّ كلاهما في الوقت.

وَ إِنَّ

لَكَ مَوْعِداً في الآخرة لَنْ تُخْلَفَهُ لن يخلفك اللّه موعده الّذي وعدك على جزاء الشرك و الفساد في الأرض، ينجّزه لك في الآخرة بعد ما عاقبك بذلك في الدنيا. فأنت ممّن خسر الدنيا و الآخرة، ذلك هو الخسران المبين.

و قرأ ابن كثير و البصريّان بكسر اللام، أي: لن تخلف الواعد إيّاه، و سيأتيك لا محالة. فحذف المفعول الأوّل، لأنّ المقصود هو الموعد. و يجوز أن يكون من: أخلفت الموعد إذا وجدته خلفا.

وَ انْظُرْ إِلى إِلهِكَ الَّذِي ظَلْتَ عَلَيْهِ عاكِفاً ظللت على عبادته مقيما. فحذف اللام الأولى تخفيفا. لَنُحَرِّقَنَّهُ أي: بالنار. و هذا يدلّ على أنّه كان حيوانا: لحما و دما.

أو لنبردنّه بالمبرد «1»، من: حرق إذا برد. و هذا يدلّ على أنّه كان ذهبا و فضّة، و لم يصر حيوانا. ثُمَّ لَنَنْسِفَنَّهُ لنذرينّه رمادا أو مبرودا فِي الْيَمِّ نَسْفاً ذريّا، فلا يبقى منه شي ء. من: نسفت الريح إذا ذرت «2». و هذه عقوبة ثالثة. و هي إبطال ما افتتن «3» به و فتن، و إهدار سعيه. و المقصود من ذلك زيادة عقوبته، و إظهار غباوة المفتتنين به لمن له أدنى نظر.

ثمّ أقبل موسى عليه السّلام على قومه فقال: إِنَّما إِلهُكُمُ المستحقّ لعبادتكم اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إذ لا أحد يماثله أو يدانيه في كمال العلم و القدرة وَسِعَ كُلَّ شَيْ ءٍ عِلْماً

______________________________

(1) المبرد: آلة البرد. و برد الحديد: أخذ منه بالمبرد. و حرقه بالمبرد: برده.

(2) ذرت الريح التراب: أطارته و فرّقته.

(3) في هامش النسخة الخطّية: «افتتن الرجل: إذا اصابته فتنة، فذهب ماله أو عقله. و كذلك:

فتن. منه».

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 272

تمييز. و هو في المعنى فاعل، أي: وسع علمه كلّ ما يصحّ أن يعلم،

لا العجل الّذي يصاغ و يحرق، و إن كان حيّا في نفسه كان مثلا في الغباوة.

[سورة طه (20): الآيات 99 الى 104]

كَذلِكَ نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ وَ قَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً (99) مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً (100) خالِدِينَ فِيهِ وَ ساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلاً (101) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ وَ نَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ يَوْمَئِذٍ زُرْقاً (102) يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ عَشْراً (103)

نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ يَوْماً (104)

ثمّ قال لنبىّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كَذلِكَ مثل ذلك الاقتصاص، و نحو ما اقتصصنا عليك من قصّة موسى و فرعون نَقُصُّ عَلَيْكَ مِنْ أَنْباءِ ما قَدْ سَبَقَ من سائر أخبار الأمور الماضية، و أحوال الأمم السالفة، تبصرة لك، و زيادة في علمك، و تكثيرا لمعجزاتك، و تذكيرا للمستبصرين من أمّتك، و تأكيدا للحجّة على من عاندك و كابرك.

وَ قَدْ آتَيْناكَ مِنْ لَدُنَّا ذِكْراً التنكير للتعظيم، أي: كتابا عظيما، و قرآنا كريما مشتملا على ذكر هذه الأقاصيص و الأخبار، حقيقا بالتفكّر و الاعتبار. و قيل: ذكرا جميلا مرضيّا عظيما بين الناس، من أقبل عليه نجا و سعد في الدارين.

مَنْ أَعْرَضَ عَنْهُ عن الذكر الجامع لوجوه السعادة و النجاة. و قيل: عن اللّه.

فَإِنَّهُ يَحْمِلُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وِزْراً عقوبة ثقيلة على كفره و معاصيه. سمّاها وزرا تشبيها في ثقلها على المعاقب، و صعوبة احتمالها، بالحمل الّذي يثقل الحامل و ينقض ظهره، و يلقي عليه ضيق النفس. أو إثما عظيما، هو جزاء الوزر.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 273

خالِدِينَ فِيهِ في الوزر، أو في حمله. و الجمع فيه و التوحيد في «أعرض» للحمل على المعنى و اللفظ، فإنّ «من» مطلق

متناول للواحد و الكثير. و نحوه قوله تعالى:

وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها «1».

وَ ساءَ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ حِمْلًا أي: بئس لهم. و فيه ضمير مبهم يفسّره «حملا».

و المخصوص بالذمّ محذوف، لدلالة الوزر السابق عليه، تقديره: ساء حملا وزرهم، كما حذف في قوله تعالى: نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ «2» أي: نعم العبد أيّوب. و منه قوله تعالى:

وَ ساءَتْ مَصِيراً «3» أي: و ساءت مصيرا جهنّم. و اللام في «لهم» للبيان، كما في هَيْتَ لَكَ «4».

و لا يجوز أن يكون في «ساء» ضمير شي ء بعينه غير مبهم، و هو الوزر، و الحال أنّ حكمه حكم «بئس». و لو نقل عن ظاهره، و حمل على معنى: أحزن، كما وقع في قوله تعالى: سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا «5» بمعنى: أهمّ و أحزن، و أرجع الضمير الّذي فيه للوزر. أشكل «6» أمر اللام، و نصب «حملا»، و لم يفد مزيد معنى.

يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ بدل من «يَوْمَ الْقِيامَةِ» و قرأ أبو عمرو بالنون، على إسناد النفخ إلى الآمر به تعظيما له، أو للنافخ، لأنّ الملائكة المقرّبين و إسرافيل منهم بالمنزلة الّتي هم مخصوصون بها من ربّ العزّة، فصحّ لكرامتهم عليه و قربهم منه أن يسند ما يتولّونه إلى ذاته تعالى. و الصور قرن ينفخ فيه إسرافيل يوم القيامة لبعث الموتى.

وَ نَحْشُرُ الْمُجْرِمِينَ أي: الكافرين يَوْمَئِذٍ زُرْقاً زرق العيون. و معنى

______________________________

(1) الجنّ: 23.

(2) ص: 44.

(3) النساء: 97.

(4) يوسف: 23.

(5) الملك: 27.

(6) جواب «و لو نقل» قبل سطرين.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 274

الزرقة الخضرة في سواد العين، كعين السنّور. و صفوا بذلك لأنّ الزرقة أسوأ ألوان العين و أبغضها إلى العرب، لأنّ الروم كانوا أعدى

أعدائهم و هم زرق العيون. و لذلك قالوا في صفة العدوّ: أسود الكبد، أصهب «1» السبال، أزرق العين. و قيل: «زرقا» بمعنى: عميا، لأنّ حدقة من ذهب نور بصره تزراقّ. و قيل: عطاشا يظهر في عيونهم كالزرقة، مثل قوله:

وَ نَسُوقُ الْمُجْرِمِينَ إِلى جَهَنَّمَ وِرْداً «2».

يَتَخافَتُونَ بَيْنَهُمْ يخفضون أصواتهم مسارّة بينهم، لما يملأ صدورهم من الرعب و الهول. من الخفت، و هو خفض الصوت و إخفاؤه. إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا عَشْراً ليال عشر. يستقصرون مدّة لبثهم في الدنيا، إمّا لما يعاينون من الشدائد الّتي تذكّرهم أيّام النعمة و السرور، فيتأسّفون عليها، و يصفونها بالقصر، لأنّ أيّام السرور قصار، كقوله:

تمتّع بأيّام السرور فإنّهاقصار و أيّام الهموم طوال

و إمّا لأنّها ذهبت عنهم و تقضّت، و الذاهب و إن طالت مدّته قصير بالانتهاء. و إمّا لاستطالتهم مدّة الآخرة، و أنّها أبد سرمد، يستقصر إليها عمر الدنيا، و يستقلّ لبث أهلها فيها بالقياس إلى لبثهم في الآخرة.

نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ و هو مدّة لبثهم. ثمّ استرجح اللّه قول من يكون أشدّ رأيا و صوابا منهم في قوله تعالى: إِذْ يَقُولُ أَمْثَلُهُمْ طَرِيقَةً أو فرهم عقلا، و أصوبهم رأيا. و قيل: أكثرهم سدادا عند نفسه. إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا يَوْماً و نحوه قوله تعالى: قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ «3». و قوله:

لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها «4». و إنّما قال ذلك لأنّ اليوم الواحد و العشرة إذا قوبلا

______________________________

(1) أي: أشقر الشوارب.

(2) مريم: 86.

(3) المؤمنون: 112- 113.

(4) النازعات: 46.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 275

بيوم القيامة و ما لهم من الإقامة في النار، كان اليوم الواحد أقرب إليه.

و قيل: إنّهم قالوا ذلك بعد انقطاع

عذاب القبر عنهم، لأنّ اللّه يعذّبهم ثمّ يعيدهم.

و روي عن ابن عبّاس: يعني: من النفخة الأولى إلى الثانية، و ذلك لأنّه يكفّ عنهم العذاب فيما بين النفختين، و هو أربعون سنة.

[سورة طه (20): الآيات 105 الى 113]

وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الْجِبالِ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً (105) فَيَذَرُها قاعاً صَفْصَفاً (106) لا تَرى فِيها عِوَجاً وَ لا أَمْتاً (107) يَوْمَئِذٍ يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ لا عِوَجَ لَهُ وَ خَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ فَلا تَسْمَعُ إِلاَّ هَمْساً (108) يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلاً (109)

يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً (110) وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ وَ قَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً (111) وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلا يَخافُ ظُلْماً وَ لا هَضْماً (112) وَ كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا وَ صَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً (113)

روي: أنّ رجلا من ثقيف سأل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كيف تكون الجبال يوم القيامة مع عظمها، و ما يكون حالها؟ فنزلت: وَ يَسْئَلُونَكَ

أي: و يسألك منكروا البعث عند ذكر القيامة عَنِ الْجِبالِ ما حالها؟ فَقُلْ يَنْسِفُها رَبِّي نَسْفاً يقلعها من أماكنها، ثمّ

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 276

يجعلها كالرمل، ثمّ يرسل عليها الرياح فتفرّقها كما تذرى الحبوب.

فَيَذَرُها فيذر مقارّها، أو الأرض. و إضمارها و إن لم يجر ذكرها لدلالة الجبال عليها، كقوله تعالى: ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ «1» قاعِداً خالية ملساء صَفْصَفاً أي: أرضا مستوية ليس للجبل فيها أثر، كأنّ أجزاءها على صفّ واحد. قال في الصحاح: «الصفصف: المستوي من الأرض» «2». لا تَرى فِيها عِوَجاً اعوجاجا وَ لا أَمْتاً و لا

نتوّا يسيرا.

و اعلم أنّ هذا اللفظ له موقع حسن بديع في وصف الأرض بالاستواء و الملاسة، و نفي الإعوجاج عنها على أبلغ ما يكون. و ذلك أنّك لو عمدت إلى قطعة أرض فسوّيتها، و بالغت في التسوية على عينك و عيون البصراء من الفلّاحة «3»، و اتّفقتم على أنّه لم يبق فيها اعوجاج قطّ، ثمّ استطلعت رأي المهندس فيها، و أمرته أن يعرض استواءها على المقاييس الهندسيّة، لعثر في مواضع كثيرة منها على عوج لا يدرك بحاسّة النظر أو البصر، و لكن بالقياس الهندسي. فنفى اللّه عزّ و جلّ ذلك العوج الّذي دقّ و لطف عن الإدراك، اللّهمّ إلّا بالقياس الّذي يعرفه صاحب التقدير و الهندسة.

و لمّا كان ذلك الاعوجاج لم يدرك إلّا بالقياس دون الإحساس ألحقه بالمعاني، فقال فيه: عوجا بالكسر، لأنّه يخصّ بالمعاني، لا العوج بالفتح، لأنّه يخصّ بالأعيان.

فالأحوال الثلاثة مترتّبة، لأنّ الأوّلين باعتبار الاحساس، و الثالث باعتبار المقياس، كما ذكرنا.

و قال الحسن و المجاهد: العوج ما انخفض من الأرض، و الأمت ما ارتفع من

______________________________

(1) فاطر: 45.

(2) الصحاح 4: 1387.

(3) في هامش النسخة الخطّية: «الفلّاحة كالنسّابة، صفة الجماعة. و أصل الفلح: الشقّ. منه».

و الفلّاحة جمع الفلّاح.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 277

الروابي «1». يعني: لا ترى فيها واديا و لا رابية. و قيل: «لا ترى» استئناف مبيّن للحالين.

يَوْمَئِذٍ أي: يوم إذ نسفت، على إضافة اليوم إلى وقت النسف. و يجوز أن يكون بدلا ثانيا من «يَوْمَ الْقِيامَةِ». يَتَّبِعُونَ الدَّاعِيَ داعي اللّه إلى المحشر. قيل: هو إسرافيل يدعو الناس قائما على صخرة بيت المقدس، فيقبلون من كلّ أوب إلى صوبه.

لا عِوَجَ لَهُ لا يعوّج له مدعوّ، و لا يعدل عن ندائه، و لا يلتفتون يمينا

و لا شمالا، بل يستوون إليه من غير انحراف، متّبعين لصوته.

وَ خَشَعَتِ الْأَصْواتُ لِلرَّحْمنِ و خفضت الأصوات من شدّة الفزع لمهابته فَلا تَسْمَعُ إِلَّا هَمْساً صوتا خفيّا. و منه الحروف المهموسة. و قيل: هو من همس الإبل، و هو صوت أخفافها إذا مشت، أي: لا تسمع إلّا خفق أقدامهم و نقلها إلى المحشر.

يَوْمَئِذٍ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ استثناء من الشفاعة بتقدير مضاف، أي: إلّا شفاعة من أذن. أو من أعمّ المفاعيل، أي: لا تنفع الشفاعة شخصا من الأشخاص إلّا من اذن في أن يشفع له، فإنّ الشفاعة تنفعه. ف «من» على الأوّل مرفوع على البدليّة. و على الثاني منصوب على المفعوليّة. و «أذن» يحتمل أن يكون من الإذن، كقوله:

مَنْ ذَا الَّذِي يَشْفَعُ عِنْدَهُ إِلَّا بِإِذْنِهِ «2». أو من الأذن بمعنى الاستماع.

وَ رَضِيَ لَهُ قَوْلًا أي: و رضي لمكانه عند اللّه قوله في الشفاعة، من الأنبياء و الأولياء و الصدّيقين و الشهداء. أو رضي لأجله قول الشافع في شأنه. أو قوله لأجله و في شأنه.

يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ ما تقدّمهم من الأحوال وَ ما خَلْفَهُمْ و ما بعدهم ممّا لا يستقبلونه وَ لا يُحِيطُونَ بِهِ عِلْماً و لا يحيط علمهم بمعلوماته. و قيل: بذاته. و قيل:

الضمير لأحد الموصولين أو لمجموعهما، فإنّهم لم يعلموا جميع ذلك، و لا تفصيل ما

______________________________

(1) الروابي جمع الرابية، و هي ما ارتفع من الأرض.

(2) البقرة: 255.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 278

علموا منه.

وَ عَنَتِ الْوُجُوهُ لِلْحَيِّ الْقَيُّومِ ذلّت و خضعت له في عبادته خضوع الأسير في يد الملك القهّار. و ظاهرها يقتضي العموم.

و قيل: المراد بالوجوه الرؤساء و القادة و الملوك، أي: يذلّون و ينسلخون عن ملكهم و عزّهم.

و يجوز

أن يراد بها وجوه المجرمين، فإنّهم إذا عاينوا- يوم القيامة- الخيبة و الشقوة و سوء الحساب صارت وجوههم عانية، أي: ذليلة خاشعة مثل وجوه العناة، و هم الأسارى. و نحوه قوله تعالى: فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا «1».

وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ «2». و على هذا يكون اللام بدل الاضافة. و إنّما أسند الفعل إلى الوجوه، لأنّ أثر الذلّ يظهر عليها. و حقيقة المعنى: خضع أرباب الوجوه، و استسلموا لحكم الّذي لم يمت و لا يموت.

و يؤيّد الأخير ذكر الوعيد عقيبه بقوله: وَ قَدْ خابَ عن ثواب اللّه مَنْ حَمَلَ ظُلْماً شركا أو ظلما على العباد. و هذا استئناف لبيان ما لأجله عنت وجوههم، أو حال.

وَ مَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ يعني: بعض الطاعات وَ هُوَ مُؤْمِنٌ إذ الإيمان شرط في صحّة الطاعات و قبول الخيرات فَلا يَخافُ ظُلْماً منع ثواب مستحقّ بالوعد وَ لا هَضْماً و لا كسرا منه بنقصان، فإنّ الظلم أن تأخذ من صاحبك فوق حقّك، أو تمنع من حقّه، و الهضم أن تكسر من حقّ أخيك فلا توفيه له.

و قيل: لا يخاف أن يؤخذ بذنب لم يعمله، و لا أن تبطل حسنة عملها.

و قيل: المراد جزاء ظلم و هضم، لأنّه لم يظلم غيره، و لم يهضم حقّه.

و قرأ ابن كثير: فلا يخف على النهي. و المعنى: فليأمن من الظلم و الهضم.

______________________________

(1) الملك: 27.

(2) القيامة: 24.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 279

وَ كَذلِكَ عطف على كَذلِكَ نَقُصُ «1» أي: مثل إنزال هذه الآيات المتضمّنة للوعيد أَنْزَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا كلّه على هذه الوتيرة وَ صَرَّفْنا فِيهِ مِنَ الْوَعِيدِ كرّرنا فيه آيات الوعيد، و بيّنّاها على وجوه مختلفة و بألفاظ متفرّقة لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ المعاصي، فتصير التقوى

لهم ملكة أَوْ يُحْدِثُ لَهُمْ ذِكْراً عظة و اعتبارا يذكّرهم عقاب اللّه للأمم فيثبّطهم عن النواهي. و لهذه النكتة أسند التقوى إليهم، و الإحداث إلى القرآن.

[سورة طه (20): آية 114]

فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً (114)

و لمّا صرّف اللّه سبحانه آياته من أوامره و نواهيه و وعده و وعيده و ثوابه و عقابه على حسب أعمالهم، بيّن لهم عقيبها أمر ملكوته و كبرياء شأنه و جبروت سلطانه عليهم، فقال: فَتَعالَى اللَّهُ في ذاته و صفاته عن مماثلة المخلوقين، لا يماثل كلامه كلامهم، كما لا تماثل ذاته ذاتهم الْمَلِكُ النافذ أمره و نهيه، الحقيق بأن يرجى وعده و يخشى وعيده الْحَقُ الثابت في ملكوته و يستحقّ الملك لذاته. أو الثابت في ذاته و صفاته.

و لمّا ذكر القرآن و إنزاله، نهى على سبيل الاستطراد عن الاستعجال في تلقّي الوحي من جبرئيل، و مساوقته في القراءة حتّى يتمّ وحيه، فقال: وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مخافة نسيانه مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ أي: إذا لقّنك جبرئيل عليه السّلام ما يوحي إليك من القرآن فلا تعجل في قراءته قبل تقضّيه، بل كن مستمعا غير متكلّم حين يسمعك و يفهمك، ثم أقبل عليه بالتحفّظ بعد ذلك.

و قيل: المراد النهي عن تبليغ ما كان مجملا قبل أن يأتيه بيانه. فمعناه: لا تقرأه لأصحابك حتّى يتبيّن لك ما كان منه مجملا.

______________________________

(1) طه: 99.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 280

وَ قُلْ رَبِّ زِدْنِي عِلْماً أي: سل اللّه زيادة العلم بدل الاستعجال، فإنّ ما أوحي إليك تناله لا محالة. قيل: ما أمر اللّه رسوله بطلب الزيادة في شي ء إلّا في العلم.

روت عائشة عن النبيّ صلّى اللّه

عليه و آله و سلّم أنّه قال: «إذا أتى عليّ يوم لا أزداد فيه علما يقرّبني إلى اللّه، فلا بارك اللّه لي في طلوع شمسه».

[سورة طه (20): الآيات 115 الى 119]

وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ مِنْ قَبْلُ فَنَسِيَ وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً (115) وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ فَسَجَدُوا إِلاَّ إِبْلِيسَ أَبى (116) فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى (117) إِنَّ لَكَ أَلاَّ تَجُوعَ فِيها وَ لا تَعْرى (118) وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا فِيها وَ لا تَضْحى (119)

و لمّا ذكر تصريف الآيات، و أمر عباده بالتذكّر بها، و أن لا يتركوها و ينسوها، لئلّا يتورّطوا في المنهيّات، عقّبه بذكر قصّة آدم و نسيانه الّذي كان سببا في نقص حظّه، و فرط ندامته على فوت ما أمر به، تأكيدا أو مبالغة لهم في التزام المأمورات و اجتناب المنهيّات، فقال عطفا على قوله: «و صرّفنا فيه»: وَ لَقَدْ عَهِدْنا إِلى آدَمَ و لقد أمرناه. و يقال في أوامر الملوك و وصاياهم: تقدّم الملك إلى فلان، و أوعز إليه، و عزم عليه، و عهد إليه، إذا أمره.

و اللام جواب قسم محذوف، أي: و أقسم قسما لقد أمرنا أباهم آدم.

مِنْ قَبْلُ من قبل وجودهم، و من قبل أن نتوعّدهم، و وصّيناه أن لا يقرب الشجرة، و توعّدناه بالدخول في الظالمين إن قربها فَنَسِيَ العهد، و لم يهتمّ به، و لم يستوثق منها بعقد القلب عليها و ضبط النفس، حتّى غفل عنه، و تولّد من ذلك النسيان. أو ترك ما وصّى به من الاحتراز عن الشجرة و أكل ثمرتها، فخالف إلى ما نهي عنه، و توعّد في ارتكابه مخالفتهم، و لم يلتفت إلى الوعيد كما

لا يلتفتون إليه. كأنّه يقول: إنّ أساس

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 281

أمر بني آدم على ذلك، و عرقهم راسخ فيه.

وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً عقدا لازما، و تصميم رأي، و ثباتا على الأمر، إذ لو كان ذا عزيمة و تصلّب لم يزلّه الشيطان، و لم يستطع تغريره. و يحتمل أن يكون ذلك في بدء أمره، قبل أن يجرّب الأمور، و يذوق شريها و أريها «1».

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لو وزنت أحلام بني آدم بحلم آدم لرجح حلمه، و قد قال اللّه تعالى: «وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً».

و قيل: عزما على الذنب، لأنّه أخطأ و لم يتعمّد. و «لم نجد» إن كان من الوجود الّذي بمعنى العلم ف «له عزما» مفعولاه. و إن كان من الوجود المناقض للعدم- بمعنى:

و عدمنا له عزما- ف «له» حال من «عزما» أو متعلّق ب «نجد».

وَ إِذْ قُلْنا لِلْمَلائِكَةِ اسْجُدُوا لِآدَمَ مقدّر ب: «اذكر، أي: و اذكر وقت ما جرى عليه من معاداة إبليس، و وسوسته إليه، و تزيينه له الأكل من الشجرة، و طاعته له بعد ما تقدّمت معه النصيحة و الموعظة البليغة، و التحذير من كيده، حتّى يتبيّن لك أنّه نسي و لم يكن من أولي العزيمة و الثبات.

فَسَجَدُوا إِلَّا إِبْلِيسَ و في الكشّاف: «إن قلت: إبليس كان جنّيّا، بدليل قوله تعالى: كانَ مِنَ الْجِنِّ فَفَسَقَ عَنْ أَمْرِ رَبِّهِ «2». فمن أين تناوله الأمر و هو للملائكة خاصّة؟

قلت: كان في صحبتهم، و كان يعبد اللّه تعالى عبادتهم، فلمّا أمروا بالسجود لآدم عليه السّلام و التواضع له كرامة له، كان الجنّي الّذي معهم أجدر بأن يتواضع، كما لو قام لمقبل على المجلس علية «3» أهله

و سراتهم، كان القيام على واحد بينهم هو دونهم في المنزلة

______________________________

(1) الشري: الحنظل. و الأري: العسل. و المعنى: أن ذلك قبل أن يجرّب الأمور، و يذوق مرّها و حلوها.

(2) الكهف: 50.

(3) علية القوم: جلّتهم و أشرافهم. و السراة: السيّد الشريف.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 282

أوجب، حتى إن لم يقم عنّف و قيل له: قد قام فلان و فلان فمن أنت حتّى تترفّع عن القيام؟

فإن قلت: فكيف صحّ استثناؤه و هو جنّي من الملائكة؟

قلت: عمل على حكم التغليب في إطلاق اسم الملائكة عليهم و عليه، فأخرج الاستثناء على ذلك، كقولك: خرجوا إلّا فلانة، لامرأة بين الرجال» «1».

و مزيد تحقيق البحث في هذا المبحث قد سبق «2» في سورة البقرة.

و قوله: أَبى جملة مستأنفة لبيان ما منعه من السجود، و هو الاستكبار، كأنّه جواب قائل قال: لم لم يسجد؟ و الوجه أن لا يقدّر له مفعول، و هو السجود المدلول عليه بقوله: «فسجدوا»، و أن يكون معناه: أظهر الإباء عن المطاوعة.

فَقُلْنا يا آدَمُ إِنَّ هذا عَدُوٌّ لَكَ وَ لِزَوْجِكَ فَلا يُخْرِجَنَّكُما فلا يكوننّ سببا.

لإخراجكما. و المراد نهيهما عن أن يكونا بحيث يسبّب الشيطان إلى إخراجهما. مِنَ الْجَنَّةِ فَتَشْقى فتحرم من نعيمها. أفرده بإسناد الشقاء إليه بعد إشراكهما في الخروج، اكتفاء باستلزام شقائه شقاءها، من حيث إنّه قيّم عليها، فإنّ الرجل قيّم أهله، لقوله تعالى: الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ «3». فشقاوتها و سعادتها في ضمن شقاوته و سعادته. مع المحافظة على الفواصل. أو لأنّ المراد بالشقاء التعب في طلب المعاش و الاكتساب، و ذلك وظيفة الرجال.

و عن سعيد بن جبير: أنّه أهبط إلى آدم ثور أحمر، فكان يحرث عليه و يمسح العرق من جبينه، فذلك هو الشقاوة.

و يؤيّده قوله

مستأنفا لتذكير ما له في الجنّة بلا تعب: إِنَّ لَكَ أَلَّا تَجُوعَ فِيها في الجنّة وَ لا تَعْرى وَ أَنَّكَ لا تَظْمَؤُا لا تعطش فِيها وَ لا تَضْحى و لا يصيبك حرّ

______________________________

(1) الكشّاف 3: 91.

(2) راجع ج 1 ص 132.

(3) النساء: 34.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 283

الشمس، فإنّه ليس فيها شمس، و إنّما فيها ضياء و نور و ظلّ ممدود. يعني: أنّ لك أسباب الكفاية في الجنّة، و الأقطاب الّتي يدور عليها كفاف الإنسان، من الشبع و الريّ و الكسوة و الكنّ «1». فذكر سبحانه استجماعها له في الجنّة، و أنّه مكفيّ لا يحتاج إلى كفاية كاف، و لا إلى كسب كاسب، كما أنّ أهل الدنيا يحتاجون إلى ذلك. و ذكرها بلفظ النفي لنقائضها الّتي هي الجوع و العرى و الظمأ و الضحو، ليطرق سمعه بأسامي أصناف الشقوة الّتي حذّره منها، حتّى يتحذّر عن السبب الموقع فيها كراهة لها.

و الواو العاطفة و إن نابت عن «إنّ» لكنّها نابت من حيث إنّها نابت عن كلّ عامل، و لم يكن حرفا موضوعا للتحقيق خاصّة. فدخولها على «أن» لا من حيث إنّها حرف تحقيق، فلا يمتنع اجتماعها مع «أن» كما امتنع اجتماع «إنّ» و «أن». فلا يرد أنّ «إنّ» لا تدخل على «أن»، فلا يقال: إنّ أن زيدا منطلق، و الواو نائبة عن «إنّ» و قائمة مقامها، فلم أدخلت عليها؟

و قرأ نافع و أبو بكر: و إنّك لا تظمأ، بكسر الهمزة. و الباقون بفتحها.

[سورة طه (20): الآيات 120 الى 123]

فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ وَ مُلْكٍ لا يَبْلى (120) فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما وَ طَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى (121) ثُمَّ

اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى (122) قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَ لا يَشْقى (123)

______________________________

(1) الكنّ: البيت.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 284

فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ فأنهى إليه الوسوسة، فإنّ وسوسة الشيطان كولولة الثكلى و وعوعة الذئب و وقوقة الدجاجة، في أنّها حكايات للأصوات، و حكمها حكم:

صوّت و أجرس. فإذا قلت: وسوس له، فمعناه: لأجله. و إذا قلت: وسوس إليه، معناه:

أنهى إليه الوسوسة، كقولك: حدّث إليه، و أسرّ إليه. و كذلك الولولة و الوقوقة و الوعوعة.

قالَ يا آدَمُ هَلْ أَدُلُّكَ عَلى شَجَرَةِ الْخُلْدِ الشجرة الّتي من أكل منها خلد و لم يمت أصلا. فأضافها إلى الخلد- و هو الخلود- لأنّها سببه بزعم الشيطان. وَ مُلْكٍ لا يَبْلى لا يزول و لا يضعف.

فَأَكَلا مِنْها فَبَدَتْ لَهُما سَوْآتُهُما فظهرت لهما عوراتهما وَ طَفِقا يَخْصِفانِ عَلَيْهِما مِنْ وَرَقِ الْجَنَّةِ أخذا يلزقان الورق على سوآتهما للتستّر. و هو ورق التين.

و حكم «طفق» حكم «كاد» في وقوع الخبر فعلا مضارعا. و بينهما مسافة قصيرة، فإنّ «طفق» للشروع في أوّل الأمر، و «كاد» لمشارفته و الدنوّ منه.

قيل: كان الورق مدوّرا، فصار على هذا الشكل من تحت أصابعهما. و قيل: كان لباسهما الظفر، فلمّا أصابا الخطيئة نزع عنهما، و تركت هذه البقايا في أطراف الأصابع.

وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ بأكل الشجرة، أي: خالف ما أمره به ربّه. و المعصية مخالفة الأمر، سواء كان الأمر واجبا أو ندبا. فَغَوى أي: خاب من الثواب الّذي كان يستحقّه على الفعل المأمور به. أو خاب ممّا كان يطمع فيه بأكل الشجرة من الخلود. أو عن المأمور به. أو عن الرشد، حيث اغترّ بقول العدوّ. و في إسناد العصيان

و الغواية إليه، مع صغر زلّته الّتي هي ترك الأولى، تعظيم للزلّة، و زجر لأولاده عنها.

و عن ابن عبّاس: لا شبهة في أنّ آدم عليه السّلام لم يمتثل ما رسم اللّه له، و تخطّى فيه ساحة الطاعة- يعني: الطاعة المندوبة- و ذلك هو العصيان.

و لمّا عصى خرج فعله من أن يكون رشدا و خيرا، و كان غيّا لا محالة، لأنّ الغيّ خلاف الرشد، و لكن في قوله: «وَ عَصى آدَمُ رَبَّهُ فَغَوى بهذا الإطلاق و بهذا التصريح-

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 285

حيث لم يقل: و زلّ آدم و أخطأ، و ما أشبه ذلك ممّا يعبّر به عن الزلّات الّتي هي ارتكاب ما هو تركه أولى و أصوب- لطف بالمكلّفين، و زجر بليغ، و موعظة كافّة. و كأنّه قيل لهم:

انظروا و اعتبروا كيف نعيت على النبيّ المعصوم حبيب اللّه عزّ و جلّ و صفيّه، الّذي لا يجوز عليه اقتراف الكبيرة و الصغيرة، و زجرته عن ترك الأولى بهذه الغلطة و بهذا اللفظ الشنيع؟! فلا تتهاونوا بما يفرط منكم من السيّئات و الصغائر، فضلا عن التجسّر على التورّط في الكبائر.

ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ اصطفاه و قرّبه إليه بالتوبة عمّا صدر منه من ترك الندب. من:

جبى إليّ كذا فاجتبيته، مثل: جليت عليّ العروس فاجتليتها. و أصل الكلمة الجمع.

يقال: اجتبت الفرس نفسها، إذا اجتمعت نفسها راجعة بعد النفار. فَتابَ عَلَيْهِ رجع إليه، و قبل توبته لمّا تاب وَ هَدى إلى الثبات على التوبة، و وفّقه لحفظها، و التشبّث بأسباب التقوى. و قيل: هداه إلى الكلمات الّتي تلقّاها منه.

قالَ اهْبِطا مِنْها جَمِيعاً الخطاب لآدم و حوّاء، أو له و لإبليس. و لمّا كان آدم و حوّاء أصلي البشر، و السّببين اللّذين منهما

نشؤا و تفرّعوا، جعلا كأنّهما البشر في أنفسهما، فخوطبا مخاطبتهم، فقيل: بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ لأمر المعاش، كما عليه الناس من التجاذب و التحارب. أو لاختلال حال كلّ من النوعين بواسطة الآخر. أو الخطاب لآدم و حوّاء و إبليس. و يؤيّد الأوّل قوله: فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً كتاب و رسول فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُ في الدنيا عن طريق الدين وَ لا يَشْقى في الآخرة عن الثواب الدائم.

عن ابن عبّاس: ضمن اللّه لمن اتّبع القرآن أن لا يضلّ في الدنيا و لا يشقى في الآخرة. ثمّ تلا قوله: «فَمَنِ اتَّبَعَ هُدايَ فَلا يَضِلُّ وَ لا يَشْقى .

و المعنى: أن الشقاء في الآخرة هو عقاب من ضلّ في الدنيا عن طريق الدين، فمن اتّبع كتاب اللّه عزّ و جلّ، و امتثل أوامره، و انتهى عن نواهيه، نجا من الضلال و من عقابه.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 286

[سورة طه (20): الآيات 124 الى 127]

وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى (124) قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً (125) قالَ كَذلِكَ أَتَتْكَ آياتُنا فَنَسِيتَها وَ كَذلِكَ الْيَوْمَ تُنْسى (126) وَ كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ وَ لَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَشَدُّ وَ أَبْقى (127)

وَ مَنْ أَعْرَضَ عَنْ ذِكْرِي عن الهدى الذاكر لي، و الداعي إلى عبادتي فَإِنَّ لَهُ مَعِيشَةً ضَنْكاً ضيّقا. مصدر وصف به، و لذلك يستوي فيه المذكّر و المؤنّث. و ذلك لأنّ المعرض عن الدين مجامع همّته و مطامح نظره تكون إلى أعراض الدنيا، متهالكا مفرط الحرص على ازديادها، خائفا على انتقاصها، شحيحا على إنفاقها، بخلاف المؤمن الطالب للآخرة، فإن مع الدين التسليم و القناعة و التوكّل على اللّه و على

قسمته، فصاحبه ينفق ما رزقه بسماح و سهولة، فيعيش عيشا رافها، كما قال عزّ و جلّ: فَلَنُحْيِيَنَّهُ حَياةً طَيِّبَةً «1». مع أنّه تعالى قد يضيّق بشؤم الكفر، و يوسّع ببركة الإيمان، كما قال:

وَ ضُرِبَتْ عَلَيْهِمُ الذِّلَّةُ وَ الْمَسْكَنَةُ «2». و قال: وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ «3». وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ «4». و قال:

______________________________

(1) النحل: 97.

(2) البقرة: 61.

(3) المائدة: 66.

(4) الأعراف: 96.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 287

اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً «1». و قال: وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً «2».

و عن بعض العلماء: لا يعرض أحد عن ذكر ربّه إلّا أظلم عليه وقته، و تشوّش عليه رزقه. و عن الحسن: المعيشة الضنك هي طعام الضريع و الزقّوم في النار. و عن أبي سعيد الخدري: هو عذاب القبر.

وَ نَحْشُرُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَعْمى أعمى البصر. و هذا مثل قوله: وَ نَحْشُرُهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَلى وُجُوهِهِمْ عُمْياً وَ بُكْماً وَ صُمًّا «3».

روى معاوية بن عمّار قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن رجل لم يحجّ و له مال؟

قال: هو ممّن قال اللّه تعالى: و نحشره يوم القيمة أعمى فقلت: سبحان اللّه أعمى؟ قال:

أعماه اللّه عن طريق الحقّ».

و عن مجاهد: أعمى عن الحجّة. يعني: أنّه لا حجّة له يهتدي إليها. و الأوّل هو الوجه، لأنّه الظاهر، و لا مانع منه. و يدلّ عليه الآية المذكورة و قوله: قالَ رَبِّ لِمَ حَشَرْتَنِي أَعْمى وَ قَدْ كُنْتُ بَصِيراً و قد أمالهما حمزة و الكسائي، لأنّ الألف منقلبة

من الياء. و فرّق أبو عمرو بأنّ الأوّل رأس الآية و محلّ الوقف، فهو جدير بالتغيير.

قالَ كَذلِكَ أي: مثل ذلك فعلت أنت. ثمّ فسّره فقال: أَتَتْكَ آياتُنا واضحة نيّرة فَنَسِيتَها فلم تنظر إليها بعين المعتبر، و لم تتبصّر، و تركتها و عميت عنها، فكأنّك نسيتها وَ كَذلِكَ و مثل تركك إيّاها الْيَوْمَ تُنْسى أي: جعلناك في العمى و العذاب كالشي ء المنسيّ. يعني: نتركك في العمى و العذاب، و لا نزيل الغطاء عن عينيك.

وَ كَذلِكَ و مثل ذلك الجزاء نَجْزِي مَنْ أَسْرَفَ بالانهماك في الشهوات

______________________________

(1) نوح: 10- 11.

(2) الجنّ: 16.

(3) الإسراء: 97.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 288

المنهيّة، من الشرك و فرط الإعراض عن الآيات الناهية وَ لَمْ يُؤْمِنْ بِآياتِ رَبِّهِ و لم يصدّقها، بل كذّب بها و خالفها.

و لمّا توعّد المعرض عن ذكره بعقوبتين: المعيشة الضنك في الدنيا، و حشره أعمى في الآخرة، ختم آيات الوعيد بقوله: وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ و هو الحشر على العمى الّذي لا يزول ابدا، أو عذاب النار الدائمي، أو كلاهما أَشَدُّ وَ أَبْقى من ضنك العيش المنقضي.

أو: و لتركنا إيّاه في العمى أشدّ و أبقى من تركه لآياتنا.

[سورة طه (20): الآيات 128 الى 129]

أَ فَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى (128) وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَكانَ لِزاماً وَ أَجَلٌ مُسَمًّى (129)

أَ فَلَمْ يَهْدِ لَهُمْ مسند إلى ما دلّ عليه قوله: كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أي:

إهلاكنا إيّاهم. أو إلى الجملة، أي ألم يهد لهم هذا الكلام؟ و نظيره قوله تعالى: وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ «1» أي: تركنا عليه هذا الكلام. و يجوز أن يكون فيه ضمير

اللّه أو الرسول. و يدلّ عليه قراءته بالنون. يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ يمرّون بمساكن عاد و ثمود، و يشاهدون علامات هلاكهم حين يتّجرون إلى الشام.

إِنَّ فِي ذلِكَ في إهلاكنا إيّاهم لَآياتٍ لِأُولِي النُّهى لذوي العقول الناهية عن التغافل و التعامي. و فيه تنبيه لهم و تخويف، أي: أ فلا يخافون أن يقع بهم مثل ما وقع بهؤلاء؟! وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ و هي العدة بتأخير عذاب هذه الأمّة إلى الآخرة

______________________________

(1) الصافّات: 78- 79.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 289

لَكانَ لِزاماً لكان مثل ما نزل بعاد و ثمود لازما لهؤلاء الكفرة. و هو مصدر وصف به. أو فعال بمعنى مفعل، أي: ملزم. و هو اسم آلة سمّي به اللازم، لفرط لزومه. وَ أَجَلٌ مُسَمًّى عطف على «كلمة» أي: و لو لا العدة بتأخير العذاب، و أجل مسمّى لأعمارهم أو لعذابهم، و هو يوم القيامة أو يوم بدر، لكان العذاب لزاما. و الفصل للدلالة على استقلال كلّ منهما بنفي لزوم العذاب. و يجوز عطفه على المستكن في «كان» أي: لكان الأخذ العاجل و أجل مسمّى لازمين لهم، كما كانا لازمين لعاد و ثمود.

[سورة طه (20): الآيات 130 الى 132]

فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ غُرُوبِها وَ مِنْ آناءِ اللَّيْلِ فَسَبِّحْ وَ أَطْرافَ النَّهارِ لَعَلَّكَ تَرْضى (130) وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ أَزْواجاً مِنْهُمْ زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَ رِزْقُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ أَبْقى (131) وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ وَ اصْطَبِرْ عَلَيْها لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً نَحْنُ نَرْزُقُكَ وَ الْعاقِبَةُ لِلتَّقْوى (132)

ثمّ أمر سبحانه نبيّه بالصبر على أذاهم، فقال: فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ من تكذيبك، و أذاهم إيّاك وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ و

صلّ و أنت حامد لربّك على هدايته لك، و توفيقك لأداء الصلاة، و إعانتك عليه. أو المراد التسبيح على ظاهره، أي: نزّهه عن الشرك و سائر ما يضيفون إليه من النقائص، حامدا له على ما ميّزك بالهدى، معترفا بأنّه مولي النعم كلّها.

و يؤيّد الأوّل ظاهر قوله: قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ يعني: الفجر وَ قَبْلَ غُرُوبِها يعني: الظهر و العصر، لأنّهما واقعتان في النصف الأخير من النهار بين زوال الشمس

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 290

و غروبها. أو العصر وحده.

وَ مِنْ آناءِ اللَّيْلِ و من ساعاته. جمع إنى بالكسر و القصر، أو أناء بالفتح و المدّ.

فَسَبِّحْ فصلّ. يعني: المغرب و العشاء، فإنّ «من» للابتداء. و المعنى: إنّ أوّل الليل ابتداء وقت العشاءين. و عن ابن عبّاس رضى عنه اللّه: صلاة الليل. و «من» للتبعيض.

و إنّما قدّم زمان الليل لاختصاصه بمزيد الفضل، لأنّ القلب فيه أجمع، و النفس فيه أميل إلى الاستراحة، فالعبادة فيه على النفس أشقّ و أحمز، و للبدن أتعب و أنصب، فكانت أدخل في معنى التكليف و أفضل، كما

قال عليه السّلام: «أفضل الأعمال أحمزها».

و لذلك قال اللّه تعالى: إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلًا «1».

وَ أَطْرافَ النَّهارِ تكرير لصلاتي الصبح و المغرب، إرادة الاختصاص، كما اختصّت في قوله: حافِظُوا عَلَى الصَّلَواتِ وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى «2». و مجيئه بلفظ الجمع لأمن الإلباس، كقوله تعالى: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما «3». و قول الشاعر: ظهراهما مثل ظهور الترسين «4».

و فيه نظر، لأنّ طرفي الشي ء منه لا خارج عنه. و صلاة المغرب يقع في الليل، فكيف يكون في النهار؟ اللّهمّ إلّا أن يكون إسناد الطرف إلى وقت المغرب على سبيل التجوّز، تسمية باسم مجاوره و ملاصقه. أو يراد

بالنهار من الصبح إلى ذهاب الحمرة

______________________________

(1) المزّمّل: 6.

(2) البقرة: 238.

(3) التحريم: 4.

(4) لخطام المجاشعي، صدره: و مهمهين قذفين مرتين ظهراهما مثل ظهور الترسين

و المهمه: المفازة و الصحراء. يقال: فلاة قذف أو قذف، أي: تتقاذف بمن سلكها.

و المرت: القفر و الصحراء لا ماء فيه و لا نبات. و الترس: حيوان ناتئ الظهر. ثنّى الشاعر «ظهراهما» على الأصل، و جمع فيما بعد لأمن اللبس.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 291

المغربيّة، كما قال بعضهم.

و قيل: المراد منه الأمر بصلاة الظهر، فإنّه نهاية النصف الأوّل من النهار و بداية النصف الأخير. و جمعه باعتبار النصفين، أو لأنّ النهار جنس. أو المراد العصر، و إعادتها لأنّها الوسطى عند الأكثر. و على هذا جمعه باعتبار أنّها أوقات العصر في النصف الأخير من النهار، فيصدق على كلّ ساعة أنّها طرف. أو المراد التطوّع في أجزاء النهار. و من حمل التسبيح على الظاهر، أراد المداومة على التسبيح و التحميد على عموم الأوقات.

لَعَلَّكَ تَرْضى متعلّق ب «سبّح» أي: سبّح في هذه الأوقات طمعا أن تنال عند اللّه ما به ترضى نفسك، من الشفاعة و الدرجة الرفيعة و المرتبة العليّة. و قيل: بجميع ما وعدك اللّه به، من النصر و إعزاز الدين في الدنيا، و الشفاعة و سموّ المرتبة في العقبى.

و قرأ أبو بكر و الكسائي بالبناء للمفعول، أي: يرضيك ربّك.

روي عن أبي رافع: نزل برسول اللّه ضيف، فبعثني إلى يهوديّ، فقال: قل: إنّ رسول اللّه يقول: أقرضني كذا من الدقيق إلى هلال رجب. فأتيته فقلت له. فقال: و اللّه لا أقرضه إلّا برهن. فأتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأخبرته. فقال: و اللّه لو أسلفني لقضيته، و إنّي لأمين في السماء و

أمين في الأرض، اذهب بدرعي الحديد إليه. فأنزل اللّه تعالى على رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تسلية له عن حطام الدنيا:

وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ أي: نظر عينيك إِلى ما مَتَّعْنا بِهِ استحسانا له، و تمنّيا أن يكون لك مثله، فإنّ مدّ النظر هاهنا عبارة عن تطويله بحيث لا يكاد يردّه، استحسانا للمنظور إليه و إعجابا به، و تمنّيا أن يكون له، كما فعل نظّارة قارون حين قالوا: يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ «1» حتّى واجههم أولوا العلم و الإيمان ب وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً « «2»».

______________________________

(1، 2) القصص: 79- 80.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 292

و فيه: أنّ النظر غير الممدود معفوّ عنه، و ذلك مثل نظر من باده «1» الشي ء بالنظر ثمّ غضّ الطرف، و منه: النظرة الأولى لك لا الثانية. و لمّا كان النظر إلى الزخارف كالمركوز في الطباع، و أن من أبصر منها شيئا أحبّ أن يمدّ إليه نظره و يملأ منه عينيه، قيل: «وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ» أي: لا تفعل ما كان من عادة الطبيعة و مقتضاها.

أَزْواجاً مِنْهُمْ أصنافا من الكفرة. و يجوز أن يكون حالا من الضمير في «به»، و المفعول «منهم». كأنّه قيل: إلى الّذي متّعنا به. و هو أصناف بعضهم، أو ناسا منهم.

زَهْرَةَ الْحَياةِ الدُّنْيا منصوب بالذمّ، و هو من أنواع النصب على الاختصاص.

أو بالبدل من محلّ به، أو من أزواجا، بتقدير مضاف، أي: ذوي زهرة. أو مفعول ثان ل «متّعنا» على تضمين معنى: أعطينا و خوّلنا. و هي الزينة و البهجة.

و قرأ يعقوب بفتح الهاء. و هي لغة، كالجهرة و الجهرة. أو جمع زاهر، وصفا

لهم بأنّهم زاهر و هذه الدنيا، لتنعّمهم، و بهاء زيّهم، و صفاء ألوانهم، و تهلّل «2» وجوههم، و طراوة نظرهم ممّا يلهون و يتنعّمون، بخلاف ما عليه المؤمنون الزهّاد.

و لقد شدّد العلماء من أهل التقوى و الزهّاد في وجوب غضّ البصر عن أبنية الظلمة، و عدد الفسقة في اللباس و المراكب و غير ذلك، لأنّهم إنّما اتّخذوا هذه الأشياء لعيون النظّارة، فالناظر إليها محصّل لغرضهم، و كالمغري لهم على اتّخاذها.

لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ لنبلوهم و نختبرهم فيه، أي: لنعاملهم معاملة المختبر، بشدّة التعبّد في أداء الحقوق، و صرفه في مصرفه المأمور به.

و قيل: معناه: لنشدّد عليهم التعبّد، بأن نكلّفهم متابعتك و الطاعة لك، مع كثرة أموالهم و قلّة مالك، فيستوجبوا العذاب الأليم عند تمرّدهم و استكبارهم.

و قيل: معنى الفتنة: العذاب، أي: لنعذّبهم في الآخرة بسببه، لأنّ اللّه قد يوسّع

______________________________

(1) باده الشي ء: بغته و فاجأه.

(2) تهلّل وجه فلان: تلألأ من السرور.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 293

الرزق على بعض أهل الدنيا تعذيبا له، كما قال: سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ «1».

وَ رِزْقُ رَبِّكَ و ما ادّخر لك في الآخرة خَيْرٌ ممّا منحهم في الدنيا وَ أَبْقى فإنّه لا ينقطع. أو ما رزقك من نعمة الإسلام و النبوّة خير منه و أدوم. أو ما رزقك من الحلال الطيّب خير من أموالهم المحرّمة الخبيثة، فإنّ الغالب عليها الغصب و السرقة و الربا، و أبقى بركة.

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأن يأمر أهل بيته بالصلاة، بعد ما أمره بها، ليتعاونوا على الاستعانة بها على فقرهم، و لا يهتمّوا بأمر المعيشة، و لا يلتفتوا لفت أرباب الثروة، فقال:

وَ أْمُرْ أَهْلَكَ بِالصَّلاةِ

أي: أهل بيتك. و قيل: التابعين من أمّتك. وَ اصْطَبِرْ عَلَيْها و اصبر على فعلها، و داوم عليها.

لا نَسْئَلُكَ رِزْقاً أي: أن ترزق نفسك و لا أهلك نَحْنُ نَرْزُقُكَ و إيّاهم، فلا تهتمّ بأمر الرزق و المعيشة، و فرّغ بالك لأمر الآخرة وَ الْعاقِبَةُ المحمودة لِلتَّقْوى لذوي التقوى.

و يؤيّد أنّ الآية نزلت في أهل بيته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما

روي عن أبي سعيد الخدري: «لمّا نزلت هذه الآية كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يأتي باب فاطمة و عليّ عليهما السّلام تسعة أشهر وقت كلّ صلاة، فيقول: الصلاة رحمكم اللّه إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ «2» الآية».

و ما

روي عن أبي جعفر عليه السّلام: «أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يخصّ أهله دون الناس، ليعلم الناس أنّ لأهله عند اللّه منزلة ليست للناس، فأمرهم مع الناس عامّة، ثمّ أمرهم خاصّة».

و

روي أيضا أنّه إذا أصاب أهله فقرا أمرهم بالصلاة، و تلا هذه الآية.

______________________________

(1) الأعراف: 182- 183.

(2) الأحزاب: 33.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 294

و

عن بكر بن عبد اللّه المزني قال: كان إذا أصابت أهله خصاصة قال: قوموا فصلّوا، بهذا أمر اللّه رسوله، ثمّ يتلو هذه الآية.

و عن بعضهم: من دان «1» في عمل اللّه، كان اللّه في عمله.

و

عن عروة بن الزبير: أنّه كان إذا رأى ما عند السلاطين قرأ «وَ لا تَمُدَّنَّ عَيْنَيْكَ» الآية، ثمّ ينادي الصلاة الصلاة.

[سورة طه (20): الآيات 133 الى 135]

وَ قالُوا لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ أَ وَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى (133) وَ لَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ لَقالُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ مِنْ قَبْلِ

أَنْ نَذِلَّ وَ نَخْزى (134) قُلْ كُلٌّ مُتَرَبِّصٌ فَتَرَبَّصُوا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِّ وَ مَنِ اهْتَدى (135)

و لمّا اقترح الكفّار المعاندون على عادتهم في التعنّت آية على النبوّة، مع وضوحها عندهم بالمعجزات الباهرة، قال اللّه تعالى في عنادهم و لجاجهم:

وَ قالُوا أي: كفّار قريش لَوْ لا يَأْتِينا بِآيَةٍ مِنْ رَبِّهِ مقترحة، إنكارا لما جاء به من الآيات، أو للاعتداد به تعنّتا و عنادا. فألزمهم اللّه بإتيانه بالقرآن الّذي هو أمّ المعجزات و أعظمها و أبقاها، فقال: أَ وَ لَمْ تَأْتِهِمْ بَيِّنَةُ ما فِي الصُّحُفِ الْأُولى من التوراة و الإنجيل و سائر الكتب السماويّة، فإنّ اشتمال القرآن على زبدة ما فيها من العقائد و الأحكام الكلّيّة، مع أنّ الآتي بها أمّي لم يرها و لم يتعلّم ممّن علمها، إعجاز بيّن.

______________________________

(1) أي: أطاع و ذلّ.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 295

و فيه إشعار بأنّه كما يدلّ على نبوّته، برهان لما في سائر الكتب المنزلة، و دليل صحّته، لأنّه معجزة، و تلك ليست كذلك، بل هي مفتقرة إلى حجّة تشهد على صحّتها.

و قرأ نافع و أبو عمرو و حفص: أو لم تأتهم بالتاء. و الباقون بالياء.

و لمّا كان حقيقة المعجزة اختصاص مدّعي النبوّة بنوع من العلم أو العمل على وجه خارق للعادة، و لاخفاء على من له أدنى مسكة أنّ العلم أصل العمل، و أعلى منه قدرا، و أبقى أثرا، فالقرآن الّذي أعجزهم عن إتيان مثل آية منه، مع أنّهم أفصح فصحاء العرب و أبلغ بلغائهم، المشتمل على خلاصة العقائد الحقّة و قواعد الأحكام السنيّة التي في الكتب السالفة، مع أميّة الآتي به، أبين المعجزات و أمتن البيّنات.

و قيل: معناه: أو لم يأتهم في القرآن بيان ما في الكتب

الأولى من أنباء الأمم الّتي أهلكناهم، لمّا اقترحوا الآيات ثمّ كفروا بها، فما ذا يؤمنهم أن يكون حالهم في سؤال الآية كحال أولئك؟

وَ لَوْ أَنَّا أَهْلَكْناهُمْ بِعَذابٍ مِنْ قَبْلِهِ من قبل بعث محمد، أو البيّنة و التذكير، لأنّها في معنى البرهان. أو المراد بها نزول القرآن. لَقالُوا يوم القيامة رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولًا يدعونا إلى طاعتك، و يرشدنا إلى دينك فَنَتَّبِعَ آياتِكَ فنعمل بما فيها مِنْ قَبْلِ أَنْ نَذِلَ بالقتل و السبي في الدنيا وَ نَخْزى بدخول النار يوم القيامة. فقطعنا عذرهم بإرسال الرسل، فلم يبق لهم معذرة.

و فيه دلالة على وجوب اللطف، فإنّه إنّما بعث الرسول لكونه لطفا، و لو لم يبعثه لكان للخلق حجّة عليه سبحانه، فكان في البعثة قطع العذر و إزاحة العلّة.

ثمّ قال لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قُلْ كُلٌ أي: كلّ واحد منّا و منكم مُتَرَبِّصٌ منتظر لما يؤول إليه أمرنا و أمركم. فنحن ننتظر وعد اللّه لنا فيكم، و أنتم تتربّصون بنا الدوائر.

فَتَرَبَّصُوا أمر على وجه التهديد فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ أَصْحابُ الصِّراطِ السَّوِيِ

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 296

الدين المستقيم. و السويّ بمعنى الوسط، أي: الخيار و الجيّد، أو المستوي. وَ مَنِ اهْتَدى من الضلالة. أو من اهتدى إلى طريق الجنّة، نحن أم أنتم.

و «من» في الموضعين للاستفهام. و محلّها الرفع بالابتداء. و يجوز أن تكون الثانية موصولة، بخلاف الأولى، لعدم العائد. فتكون معطوفة على محلّ الجملة الاستفهاميّة المعلّق عنها الفعل، على أنّ العلم بمعنى المعرفة. أو على «أصحاب» أو على «الصراط» على أنّ المراد به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 297

(21) سورة الأنبياء

اشارة

مكّيّة كلّها. و هي مائة و اثنتا عشرة

آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ سورة الأنبياء حاسبه اللّه حسابا يسيرا، و صافحه و سلّم عليه كلّ نبيّ ذكر اسمه في القرآن».

و

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «من قرأ سورة الأنبياء حبّا لها كان ممّن رافق النبيّين أجمعين في جنّات النعيم، و كان مهيبا في أعين الناس حياة الدنيا».

[سورة الأنبياء (21): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ مُعْرِضُونَ (1) ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنْ رَبِّهِمْ مُحْدَثٍ إِلاَّ اسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ (2) لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ وَ أَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا هَلْ هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ أَ فَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (3)

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 298

و اعلم أنّه سبحانه لمّا ختم سورة طه بذكر الوعيد، افتتح هذه السورة بذكر القيامة، فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ. اقْتَرَبَ لِلنَّاسِ حِسابُهُمْ اقتربه بالإضافة إلى ما مضى، لأنّ ما بقي من الدنيا أقصر و أقلّ ممّا سلف منها، بدليل انبعاث خاتم النبيّين صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الموعود مبعثه في آخر الزمان. و

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «بعثت في نسم الساعة»

أي: أوّلها. و

قال أيضا: «بعثت أنا و الساعة كهاتين»

و أشار إلى إصبعيه. و

من خطبة أمير المؤمنين عليه السّلام: «ولّت الدنيا حذّاء، و لم تبق إلّا صبابة كصبابة الإناء» «1».

و إذا كانت بقيّة الشي ء- و إن كثرت في نفسها- قليلة بالإضافة إلى معظمه، كانت خليفة بأن توصف بالقلّة.

أو المراد اقترابه عند اللّه، لقوله تعالى: إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً وَ نَراهُ قَرِيباً «2».

و قوله: وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ لَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ «3». أو لأنّ كلّ

ما هو آت قريب، و إنّما البعيد ما انقرض و مضى.

و المراد اقتراب الساعة، و إذا اقتربت فقد اقترب ما فيها من الحساب و الثواب و العقاب، و غير ذلك. و نحوه: وَ اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ «4».

و اللام صلة ل «اقترب». أو تأكيد لإضافة الحساب إليهم. و أصله: اقترب حساب الناس، ثم اقترب للناس الحساب، ثمّ اقترب للناس حسابهم، كقولك: أزف «5» للحيّ رحيلهم. الأصل: أزف رحيل الحيّ، ثمّ أزف للحيّ الرحيل، ثمّ أزف للحيّ رحيلهم.

و منه قولهم: لا أبالك، لأنّ اللام مؤكّدة لمعنى الإضافة. و هذا الوجه أغرب من أن يكون للصلة.

______________________________

(1) نهج البلاغة (محمد عبده) 93. و الحذّاء: الماضية السريعة.

(2) المعارج: 6- 7.

(3) الحجّ: 47.

(4) الأنبياء: 97.

(5) أي: اقترب.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 299

و عن ابن عبّاس: أنّ المراد بالناس المشركون. و هذا من إطلاق اسم الجنس على بعضه.

و وجه اختصاصهم بالكفّار تقييدهم بقوله: وَ هُمْ فِي غَفْلَةٍ عن الحساب مُعْرِضُونَ عن التفكّر في عاقبته، و لا يتفطّنون لما ترجع إليه خاتمة أمرهم، مع اقتضاء عقولهم أنّه لا بدّ من جزاء المحسن و المسي ء. و هما خبران للضمير. و يجوز أن يكون الظرف حالا من المستكن في «معرضون». و قد تضمّنت الآية الحثّ على الاستعداد ليوم القيامة.

ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ ينبّههم عن سنة الغفلة و الجهالة. و هو طائفة نازلة من القرآن. مِنْ رَبِّهِمْ صفة ل «ذكر» أو صلة ل «يأتيهم» مُحْدَثٍ يحدث اللّه لهم آية بعد آية، و يجدّد لهم سورة بعد سورة إِلَّا اسْتَمَعُوهُ وَ هُمْ يَلْعَبُونَ يستهزؤن به و يستسخرون منه، لتناهي غفلتهم، و فرط إعراضهم عن النظر في الأمور، و التفكّر في العواقب.

و عجز الآية حال من الواو. و كذلك

لاهِيَةً قُلُوبُهُمْ أي: استمعوه جامعين بين الاستهزاء و التلهّي و الذهول عن التفكّر فيه. و يجوز أن يكون حالا من واو «يلعبون».

و تنقيح المعنى: أنّهم إذا نبّهوا عن سنة الغفلة، و فطنوا لذلك بما يتلى عليهم من الآيات و النذر، أعرضوا عن التفكّر، و سدّوا أسماعهم و نفروا. و قرّر إعراضهم عن تنبيه المنبّه و إيقاظ الموقظ، بأنّ اللّه يجدّد لهم الذكر وقتا فوقتا، و يحدث لهم آية بعد آية، و سورة بعد سورة، ليكرّر على أسماعهم التنبيه و الموعظة، لعلّهم يتّعظون. فما يزيدهم استماع الآي و السور، و ما فيها من فنون المواعظ و البصائر الّتي هي أحقّ الحقّ و أجدّ الجدّ، إلّا لعبا و تلهّيا و استهزاء و استسخارا.

وَ أَسَرُّوا النَّجْوَى ذكر التناجي بعد الإسرار- و إن لم يكن إلّا إسرارا- للمبالغة. و المعنى: بالغوا في إخفائها، أو جعلوها بحيث لا يفطن أحد لتناجيهم، و لا

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 300

زبدة التفاسير ج 4 349

يعلم أنّهم متناجون.

الَّذِينَ ظَلَمُوا بدل من واو «و أسرّوا» للإيماء بأنّهم الموسومون بالظلم الفاحش فيما أسرّوا به. أو فاعل له، و الواو لعلامة الجمع على لغة من قال: أكلوني البراغيث. أو مبتدأ و الجملة المتقدّمة خبره. و أصله: و هؤلاء أسرّوا النجوى. فوضع المظهر موضع المضمر، تسجيلا على فعلهم بأنّه ظلم. أو منصوب على الذمّ.

و قوله: هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ في موضع النصب بدلا من النجوى، أو مفعولا لقول مقدّر. كأنّهم استدلّوا بكونه بشرا على كذبه في ادّعاء الرسالة، لاعتقادهم أنّ الرسول لا يكون إلّا ملكا، و استلزموا منه أنّ ما جاء به من الخوارق- كالقرآن- سحر، فلذلك قالوا على سبيل الإنكار: أَ فَتَأْتُونَ السِّحْرَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ

أي: أ فتحضرون السحر و أنتم تشاهدون و تعاينون أنّه سحر؟! و إنّما أسرّوا بهذا الحديث و بالغوا في إخفائه، تشاورا في استنباط ما يهدم أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و يظهر فساده للناس عامّة، فينفّروهم عنه بشيئين: أحدهما: أنّه بشر.

و الآخر: أنّ ما أتى به سحر.

[سورة الأنبياء (21): الآيات 4 الى 7]

قالَ رَبِّي يَعْلَمُ الْقَوْلَ فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (4) بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ (5) ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَ فَهُمْ يُؤْمِنُونَ (6) وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلاَّ رِجالاً نُوحِي إِلَيْهِمْ فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (7)

ثم أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقوله: قالَ يا محمّد. و قرأ حمزة و الكسائي و حفص:

قال، بالإخبار عن رسوله. يعني: قال محمّد لهؤلاء الكفرة المتشاورين سرّا: رَبِّي يَعْلَمُ

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 301

الْقَوْلَ جهرا كان أو سرّا فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ

و إنّما لم يقل: يعلم السرّ، ليطابق قوله: و أسرّوا النجوى، لأنّ القول عامّ يشمل السرّ و الجهر، فكان في العلم به العلم بالسرّ و زيادة. فكان آكد في بيان الاطّلاع على نجواهم من أن يقول: يعلم السرّ، كما أنّ قوله: يعلم السرّ، آكد من أن يقول: يعلم سرّهم.

فلذلك اختير القول هاهنا، و ليطابق قوله: «وَ أَسَرُّوا النَّجْوَى» في المبالغة.

ثمّ بيّن ذلك بقوله: وَ هُوَ السَّمِيعُ لأقوالهم الْعَلِيمُ بضمائرهم و أفعالهم، فلا يخفى عليه ما يسرّون و لا ما يضمرون.

بَلْ قالُوا أَضْغاثُ أَحْلامٍ بَلِ افْتَراهُ بَلْ هُوَ شاعِرٌ إضراب لهم عن قولهم: هو سحر، إلى أنّه تخاليط أحلام خيّلت إليه في المنام. ثمّ إلى

أنّه كلام اختلقه من تلقاء نفسه.

ثمّ إلى أنّه كلام شعريّ يخيّل إلى السامع معاني لا حقيقة لها و يرغّبه فيها. و هكذا المبطل متحيّر، رجّاع، غير ثابت على قول واحد.

و الظاهر أنّ «بل» الأولى لتمام حكاية ما مضى و الابتداء بأخرى. أو للإضراب عن تحاورهم في شأن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ما ظهر عليه من الآيات، إلى تقاولهم في أمر القرآن.

و يجوز أن يكون الكلّ من اللّه، تنزيلا لأقوالهم في درج الفساد، لأنّ كونه شعرا ابعد من كونه مفترى، لأنّه مشحون بالحقائق و الحكم، و ليس فيه ما يناسب قول الشعراء.

و المفترى أبعد من كونه أحلاما، لأنّه مشتمل على مغيّبات كثيرة طابقت الواقع، و المفترى لا يكون كذلك، بخلاف الأحلام. و لأنّهم جرّبوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نيّفا و أربعين سنة، و ما سمعوا منه كذبا قطّ. و أضغاث الأحلام أبعد من كونه سحرا، لأنّه يجانسه من حيث إنّهما من الخوارق.

فَلْيَأْتِنا بِآيَةٍ كَما أُرْسِلَ الْأَوَّلُونَ أي: كما أرسل به الأولون، مثل اليد البيضاء و العصا و إبراء الأكمه و إحياء الموتى. و صحّة التشبيه من حيث إنّ الإرسال في معنى: كما

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 302

أتى الأوّلون بالآيات، لأنّ إرسال الرسل متضمّن للإتيان بالآيات. ألا ترى أنّه لا فرق بين أن تقول: أرسل محمّد، و بين قولك: أتى محمد بالمعجزة.

ثمّ بيّن علّة عدم إيتاء الآيات المقترحة بقوله: ما آمَنَتْ قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْيَةٍ من أهل قرية أَهْلَكْناها باقتراح الآيات لمّا جاءتهم أَ فَهُمْ يُؤْمِنُونَ لو جئتهم بها و هم أعتى منهم.

و فيه تنبيه على أنّ عدم الإتيان بالمقترح للإبقاء عليهم، إذ لو أتى به و لم

يؤمنوا استوجبوا عذاب الاستئصال كمن قبلهم، و قد حكم سبحانه في هذه الأمّة أن لا يعذّبهم عذاب الاستئصال.

ثمّ أجاب سبحانه عن قولهم: هَلْ هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ بقوله: وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ إِلَّا رِجالًا من بني آدم نُوحِي إِلَيْهِمْ قرأ حفص: نوحي بالنون فَسْئَلُوا أَهْلَ الذِّكْرِ أهل الكتاب، فإنّ الذكر التوراة و الإنجيل. و قيل: هم أهل العلم بأخبار من مضى، سواء كانوا من أهل الكتاب أم من غيرهم إِنْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ

أمرهم أن يستعلموا أهل الذكر حال الرسل المتقدّمة، حتّى يعلموهم أنّ رسل اللّه الموحى إليهم كانوا بشرا، و لم يكونوا ملائكة كما اعتقدوا. و الإحالة عليهم إمّا للإلزام، فإنّ المشركين كانوا يشاورونهم في أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، بل يثقون بقولهم. و أمّا لأنّ إخبار الجمّ الغفير يوجب العلم، و إن كانوا كفّارا.

و عن ابن زيد: أن أهل الذكر هم أهل القرآن. يعني: العلماء بالقرآن الّذي بيّن فيه أحوال الأنبياء و أممهم السالفة.

و

روي عن عليّ عليه السّلام أنّه قال: نحن أهل الذكر. و روي ذلك عن أبي جعفر عليه السّلام.

[سورة الأنبياء (21): الآيات 8 الى 9]

وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ ما كانُوا خالِدِينَ (8) ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ فَأَنْجَيْناهُمْ وَ مَنْ نَشاءُ وَ أَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ (9)

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 303

ثمّ نفى لما اعتقدوا من أنّ الوحي و الرسالة و النبوّة من خواصّ الملائكة الّذين لا يحتاجون إلى الطعام، و لا يليق بحالهم الموت، فقال: وَ ما جَعَلْناهُمْ جَسَداً لا يَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ ما كانُوا خالِدِينَ أي: ما أخرجناهم عن حدّ البشريّة و لوازمها بالوحي و إعطاء النبوّة.

و قيل: هذا جواب لقولهم: ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ «1» و ما كانُوا خالِدِينَ

تأكيد و تقرير له، فإنّ التعيّش بالطعام من توابع التحليل المؤدّي إلى الفناء.

و توحيد الجسد لإرادة الجنس. أو لأنّه مصدر في الأصل. أو على حذف المضاف، أي: ذوي جسد. و هو جسم ذو لون، و لذلك لا يطلق على الماء و الهواء. و منه:

الجساد للزعفران. و قيل: جسم ذو تركيب، لأنّ أصله لجمع الشي ء و اشتداده.

ثُمَّ صَدَقْناهُمُ الْوَعْدَ أي: في الوعد. مثل: وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ «2» أي:

من قومه. و المعنى: أنجزنا ما وعدناهم به من النصر و الظهور على الأعداء.

فَأَنْجَيْناهُمْ من كيد أعدائهم وَ مَنْ نَشاءُ و أنجينا المؤمنين بهم، و من في إيقائه حكمة، كمن سيؤمن هو أو أحد من ذرّيّته. و لذلك حميت العرب من عذاب الاستئصال.

وَ أَهْلَكْنَا الْمُسْرِفِينَ على أنفسهم، بتكذيبهم الأنبياء و سائر معاصيهم. و هذا تخويف لكفّار قريش.

[سورة الأنبياء (21): آية 10]

لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ كِتاباً فِيهِ ذِكْرُكُمْ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (10)

ثمّ ذكر نعمته على العباد بإنزال القران، فقال: لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ يا قريش كِتاباً يعني: القرآن فِيهِ ذِكْرُكُمْ شرفكم وصيتكم، كما قال: وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ «3». أو فيه موعظتكم و ما تحتاجون إليه من أمر دينكم و دنياكم. أو فيه مكارم

______________________________

(1) الفرقان: 7.

(2) الأعراف: 155.

(3) الزخرف: 44.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 304

الأخلاق الّتي كنتم تطلبون بها الثناء و حسن الذكر، كحسن الجوار، و الوفاء بالعهد، و صدق الحديث، و أداء الأمانة، و السخاء، و ما أشبه ذلك من الأخلاق السنيّة، و الخلال المرضيّة، و الخصال المحمودة. أَ فَلا تَعْقِلُونَ فتؤمنون.

[سورة الأنبياء (21): الآيات 11 الى 15]

وَ كَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ كانَتْ ظالِمَةً وَ أَنْشَأْنا بَعْدَها قَوْماً آخَرِينَ (11) فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ (12) لا تَرْكُضُوا وَ ارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ وَ مَساكِنِكُمْ لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ (13) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (14) فَما زالَتْ تِلْكَ دَعْواهُمْ حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً خامِدِينَ (15)

ثمّ بيّن سبحانه ما فعله بالمكذّبين، ليتخوّفوا و يجتنبوا من الكفر و المعاصي، فقال:

وَ كَمْ قَصَمْنا مِنْ قَرْيَةٍ هذا كلام وارد عن غضب شديد عظيم، لأنّ القصم أفظع الكسر، و هو الكسر الّذي يبين تلاؤم الأجزاء، بخلاف الفصم، فإنّه من غير أن يبين. و أراد بالقرية أهلها، و لذلك وصفهم بالظلم بقوله: كانَتْ ظالِمَةً فإنّها صفة لأهلها حقيقة، وصفت بها لمّا أقيمت مقامه. فالمعنى: أهلكنا قوما ظالمين. وَ أَنْشَأْنا بَعْدَها بعد إهلاك أهلها قَوْماً آخَرِينَ مكانهم.

و عن ابن عبّاس: أنّه حضور. و هي و سحول قريتان باليمن، تنسب إليهما الثياب.

في الحديث: كفّن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في ثوبين سحوليّين.

و روي: حضوريّين.

قيل: إنّ اللّه تعالى بعث إلى الحضوريّين نبيّا فقتلوه، فسلّط اللّه عليهم بختنصّر، كما سلّطه على أهل بيت المقدس، فاستأصلهم. و روي أنّه لمّا أخذتهم السيوف، و نادى مناد من السماء: يا لثارات الأنبياء، ندموا و اعترفوا بالخطإ، و ذلك حين لم ينفعهم الندم.

و صدر الآية يدلّ على كثرة القرى. و لعلّ ابن عبّاس ذكر «حضور» بأنّها إحدى

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 305

القرى الّتي أرادها اللّه بهذه الآية.

ثمّ بيّن حالهم و مقالهم حين مشاهدة العذاب بقوله: فَلَمَّا أَحَسُّوا بَأْسَنا فلمّا أدرك أهل القرى شدّة عذابنا إدراك المشاهد المحسوس. يعني: فلمّا علموا شدّة عذابنا و بطشتنا علم حسّ و مشاهدة، لم يشكّوا و أدركوا بحواسّهم. إِذا هُمْ مِنْها يَرْكُضُونَ يهربون مسرعين راكضين دوابّهم. أو مشبّهين بهم من فرط إسراعهم. و الركض ضرب الدابّة بالرجل.

فقيل لهم استهزاء: لا تَرْكُضُوا إمّا بلسان الحال، أي: إنّهم خلقاء «1» بأن يقال لهم ذلك. أو المقال، و القائل ملك أو من ثمّ من المؤمنين. وَ ارْجِعُوا إِلى ما أُتْرِفْتُمْ فِيهِ من التنعّم و التلذّذ. و الإتراف: إبطار النعمة، و هي: الترفة. وَ مَساكِنِكُمْ الّتي كانت لكم لَعَلَّكُمْ تُسْئَلُونَ

تهكّم بهم و توبيخ، أي: ارجعوا إلى نعيمكم و مساكنكم لعلّكم تسألون عن أموالكم، و عمّا جرى عليكم و نزل بأموالكم و مساكنكم، فتجيبوا السائل عن علم و مشاهدة، و تجتهدوا في دفع هذه البليّة و العقوبة عنكم. أو تعذّبون، فإنّ السؤال من مقدّمات العذاب.

أو ارجعوا و اجلسوا كما كنتم في مجالسكم، و ترتّبوا في مراتبكم، حتّى يسألكم عبيدكم و حشمكم، و من تملكون أمره و ينفذ فيه أمركم و نهيكم، و يقولوا لكم: بم تأمرون كعادة المتنعّمين؟ أو يسألكم الناس

في نوازل الخطوب، و يستشيرونكم في المهمّات و النوازل، و يستشفون بتدابيركم، و يستضيئون بآرائكم. أو يسألكم الوافدون عليكم و الطمّاع، و يستمطرون سحائب أكفّكم، و يمترون «2» أخلاف معروفكم و أياديكم. و ذلك إمّا لأنّهم كانوا أسخياء، ينفقون أموالهم رئاء الناس و طلب الثناء. أو كانوا بخلاء، فقيل لهم

______________________________

(1) جمع خليق بمعنى: جدير، أي: جدراء.

(2) أي: يستدرّون. و الخلف: حلمة ضرع الناقة. و جمعه: أخلاف.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 306

ذلك تهكّما إلى تهكّم، و توبيخا إلى توبيخ.

و لمّا رأوا العذاب، و لم يروا وجه النجاة، فلم ينفعهم الركض و الانهزام قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ لأنفسنا حيث كذّبنا رسل ربّنا. و المعنى: أنّهم اعترفوا بالذنب حين عاينوا العذاب. و الويل: الوقوع في الهلكة.

فَما زالَتْ أي: كلمة «يا ويلنا» تِلْكَ دَعْواهُمْ دعوتهم. و إنّما سمّيت دعوى، لأنّ المولول كأنّه يدعو الويل و يقول: يا ويل تعال فهذا أوانك. و كلّ من «تلك» و «دعواهم» يحتمل الاسميّة و الخبريّة.

حَتَّى جَعَلْناهُمْ حَصِيداً مثل الحصيد، و هو النبت المحصود، و لذلك لم يجمع.

فشبّههم في استئصالهم و اقتطاعهم بالمحصود، كما تقول: جعلناهم رمادا، أي: مثل الرماد. خامِدِينَ ميّتين. من: خمدت النار إذا انطفأت. و هو مع «حصيدا» بمنزلة المفعول الثاني، أي: جعلناهم جامعين لمماثلة الحصيد و الخمود، كقولك: جعلته حلوا حامضا، أي: جامعا للطعمين. فلا يقال: كيف ينصب «جعل» ثلاثة مفاعيل؟ و الحاصل:

أنّ حكم الأخيرين حكم الواحد، فيكون «جعل» متعدّيا إلى مفعولين.

[سورة الأنبياء (21): الآيات 16 الى 18]

وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (16) لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً لاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ (17) بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذا هُوَ زاهِقٌ وَ لَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا

تَصِفُونَ (18)

ثمّ بيّن أنّ الغرض من خلق أصناف الممكنات المشحونة بضروب البدائع و عجائب الصنائع، أن يستدلّوا بها على وجود صانعها، ليتخلّصوا بها من ظلمات الكفر إلى نور الإيمان، و يتعرّجوا بها من كدورات الشكوك و الأوهام إلى مدارج الإيقان، فقال:

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 307

وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ ما خلقنا هذا السقف المرفوع، و هذا المهاد الموضوع، و ما بينهما من أصناف الخلائق، منطوية على البدائع الغريبة، مشحونة بالصنائع العجيبة، للهو و اللعب، كما صنع الجبابرة سقوفهم المرفوعة و فرشهم الممهّدة للعب و اللهو، بل إنّما خلقناهما تبصرة للناظرين، و تذكرة للمعتبرين، و تسبّبا لما ينتظم به أمور العباد في المعاش و المعاد. فينبغي أن يتوسّلوا بها إلى تحصيل الكمال، و لا يغترّوا بزخارفها السريعة الزوال.

ثمّ بيّن أنّ السبب في ترك اتّخاذ اللهو و اللعب في أفعاله هو أنّ الحكمة صارفة عنه، و إلّا فهو قادر على اتّخاذه، فقال: لَوْ أَرَدْنا أَنْ نَتَّخِذَ لَهْواً ما يتلهّى به و يلعب لَاتَّخَذْناهُ مِنْ لَدُنَّا من جهة قدرتنا، لأنّا على كلّ شي ء قادرون، كقوله: رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا «1» أي: من جهة قدرتنا.

و قيل: معناه: لاتّخذناه من عندنا، ممّا يليق بحضرتنا من المجرّدات، لا من الأجسام المرفوعة، و الأجرام السفليّة المبسوطة، كعادتكم في رفع السقوف و تزويقها «2»، و تسوية الفرش و تزيينها.

و عن ابن عبّاس: اللهو الولد بلغة اليمن. و عن الحسن: الزوجة. و المعنى: لو اتّخذنا نساء و ولدا لاتّخذناه من أهل السماء، و لم نتّخذه من أهل الأرض. يريد: لو كان ذلك جائزا عليه لم يتّخذه بحيث يظهر لهم، بل يسرّ ذلك بحيث لم يطّلعوا عليه. و هذا ردّ على

النصارى و اليهود في أنّ المسيح و عزيز ابنا اللّه.

و قوله: إِنْ كُنَّا فاعِلِينَ محذوف الجواب، أي: إن كنّا فاعلين ذلك لاتّخذناه، فحذف لدلالة الجواب المتقدّم عليه.

و عن مجاهد و قتادة: معناه: ما كنّا فاعلين اللعب. ف «إن» نافية، و الجملة كالنتيجة

______________________________

(1) القصص: 57.

(2) أي: تنقيشها.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 308

للشرطيّة.

ثمّ أضرب عن اتّخاذ اللهو، و نزّه ذاته عن اللعب، و قال: سبحاننا أن نتّخذ اللهو و اللعب بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ بل من شأننا و عادتنا و موجب حكمتنا و استغنائنا عن القبيح، أن نغلب الحقّ الّذي من جملته الجدّ على الباطل الّذي من عداده اللهو، بأن نورد الأدلّة القاهرة على الباطل فَيَدْمَغُهُ فيمحقه.

استعار لذلك القذف، و هو الرمي البعيد المستلزم لصلابة المرميّ، و الدمغ الذي هو كسر الدماغ بحيث يشقّ غشاءه المؤدّي إلى زهوق الروح، تصويرا لإبطاله به و محقه، و مبالغة فيه، لأنّه جعل الحقّ كالجرم الصلب مثل الصخر، فقذف به على جرم رخو أجوف فدمغه.

ثمّ ذكر ترشيح المجاز بقوله: فَإِذا هُوَ زاهِقٌ هالك مضمحلّ. و إذا كان اللّه سبحانه يظهر الحقّ بأدلّته الواضحة و حججه النيّرة، و يبطل الباطل بهذه المثابة، فكيف يفعل الباطل و اللعب؟! وَ لَكُمُ الْوَيْلُ مِمَّا تَصِفُونَ ممّا تصفونه به ممّا لا يجوز عليه. و هو في موضع الحال. و «ما» مصدريّة أو موصولة أو موصوفة.

[سورة الأنبياء (21): الآيات 19 الى 20]

وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ مَنْ عِنْدَهُ لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ (19) يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يَفْتُرُونَ (20)

و لمّا ذكر سبحانه هلاك الكفّار، بيّن بعده أنّه ما يهلكهم إلّا بالاستحقاق، لأنّه ما خلق العباد و ما لأجلهم من السماء و الأرض و ما بينهما

إلّا للعبادة، فلمّا كفروا جازاهم بكفرهم، فقال:

وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ خلقا و ملكا و ملكا وَ مَنْ عِنْدَهُ يعني:

جنس الملائكة المكرّمين المنزّلين منه- لكرامتهم عليه و شرفهم- منزلة المقرّبين عند الملوك، على طريق التمثيل و البيان، لشرفهم و فضلهم. أو المراد به نوع من الملائكة

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 309

متعال عن التبوّء «1» في السماء و الأرض.

و هو معطوف على «مَنْ فِي السَّماواتِ». و إفراده للتعظيم. أو مبتدأ خبره لا يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِهِ لا يأنفون و لا يتعظّمون عنها وَ لا يَسْتَحْسِرُونَ و لا يعيون و لا يملّون منها.

و إنّما جي ء بالاستحسار الّذي هو مبالغة في الحسور، مع أنّ الأبلغ في وصفهم أن ينفي عنهم أدنى الحسور، تنبيها على أنّ عبادتهم بثقلها و دوامها حقيقة بأن يستحسر منها و لا يستحسرون.

يُسَبِّحُونَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ ينزّهونه و يعظّمونه في جميع أوقاتهم عن جميع ما لا يليق به لا يَفْتُرُونَ حال من الواو في «يسبّحون». و هو استئناف، أو حال من ضمير قبله «2».

[سورة الأنبياء (21): الآيات 21 الى 24]

أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ (21) لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتا فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (22) لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ (23) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ هذا ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ وَ ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَّ فَهُمْ مُعْرِضُونَ (24)

أَمِ اتَّخَذُوا آلِهَةً بل اتّخذوا. و الهمزة لإنكار اتّخاذهم، فإنّ «أم» المنقطعة الكائنة بمعنى «بل» و الهمزة قد آذنت بالإضراب عمّا قبلها و الإنكار لما بعدها، و هو اتّخاذهم آلهة مِنَ الْأَرْضِ هُمْ يُنْشِرُونَ صفة ل «آلهة» كقولك: فلان من مكّة أو من

______________________________

(1) أي: الإقامة.

(2) أي: «يسبّحون»

حال من الضمير فيما قبله من «يستحسرون» و غيره.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 310

المدينة. تريد: مكّي أو مدنيّ.

و معنى نسبتها إلى الأرض: الإيذان بأنّها الأصنام الّتي تعبد في الأرض، لأنّ الآلهة على ضربين: أرضيّة و سماويّة. و من ذلك

حديث الأمة الّتي قال لها رسول اللّه: «أين ربّك؟ فأشارت إلى السماء. فقال: إنّها مؤمنة».

لأنّه فهم منها أنّ مرادها نفي الآلهة الأرضيّة الّتي هي الأصنام، لا إثبات السماء مكانا للّه عزّ و جلّ. ففائدة قوله: «من الأرض» التحقير دون التخصيص.

و يجوز أن يراد آلهة من جنس الأرض، لأنّها إمّا أن تنحت من بعض الحجارة، أو تعمل من بعض جواهر الأرض.

ثمّ دلّ سبحانه على توحيده، فقال: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ غير اللّه. وصفت ب «إلّا» لمّا تعذّر الاستثناء، لعدم الجزم بشمول ما قبلها لما بعدها ليكون متّصلا، و لا بعدمه ليكون منفصلا. و لا يجوز الرفع على البدل، لأنّ «لو» بمنزلة «إن» في أنّ الكلام معه موجب، و البدل لا يسوغ إلّا في كلام غير موجب، كقوله تعالى: وَ لا يَلْتَفِتْ مِنْكُمْ أَحَدٌ إِلَّا امْرَأَتَكَ «1». و ذلك لأنّ أعمّ العامّ يجوز نفيه، و لا يصحّ إيجابه، لأنّه يصحّ أن يقال: ما في الدار إلّا زيد، و لا يصحّ: في الدار جميع الأشياء إلّا زيد.

و المعنى: لو كان يتولّاهما و يدبّر أمرهما آلهة شتّى غير الواحد الّذي هو فاطرهما لَفَسَدَتا لبطلتا، لما يكون بينهما من الاختلاف و التمانع، فإن توافقت على المراد تطاردت عليه القدر، و إن تخالفت تعاوقت عنه.

و فيه دلالة على أمرين: أحدهما: وجوب أن لا يكون مدبّرهما إلّا واحدا. و الثاني:

أن لا يكون ذلك الواحد إلّا إيّاه وحده، لقوله: «إلّا اللّه». و ذلك

لعلمنا أنّ الرعيّة تفسد بتدبير الملكين، لما يحدث بينهما من التغالب و التناكر و الاختلاف. و هو ظاهر.

و في هذا دليل التمانع الّذي بنى عليه المتكلّمون مسألة التوحيد.

______________________________

(1) هود: 81.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 311

و تقرير ذلك: أنّه لو كان مع اللّه سبحانه إله آخر لكانا قديمين، و القدم من أخصّ الصفات، فالاشتراك فيه يوجب التماثل، فيجب أن يكونا قادرين عالمين حيّين. و من حقّ كلّ قادرين أن يصحّ كون أحدهما مريدا لضدّ ما يريده الآخر، من إماتة و إحياء، أو تحريك و تسكين، أو إفقار و إغناء، و نحو ذلك. فإذا فرضنا ذلك فلا يخلو: إمّا أن يحصل مرادهما، و ذلك محال، لاجتماع النقيضين. و إمّا أن لا يحصل مرادهما، فينتقض كونهما قادرين. و إمّا أن يقع مراد أحدهما و لا يقع مراد الآخر، فينتقض كون من لم يقع مراده قادرا. فإذا لا يجوز أن يكون الإله إلّا واحدا.

و لو قيل: إنّهما لا يتمانعان، لأنّ ما يريده أحدهما يكون حكمة، فيريده الآخر بعينه.

و الجواب: أنّ كلامنا في صحّة التمانع، لا في وقوع التمانع. و صحّة التمانع يكفي في الدلالة، لأنّه يدلّ على أنّه لا بدّ من أن يكون أحدهما متناهي المقدور دون الآخر، فلا يجوز أن يكون إلها.

ثمّ نزّه سبحانه ذاته عن أن يكون معه إله، فقال: فَسُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعَرْشِ المحيط بجميع الأجسام، الّذي هو محلّ التدابير، و منشأ التقادير. و لهذا خصّه بالذكر.

عَمَّا يَصِفُونَ من اتّخاذ الشريك و الصاحبة و الولد.

لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ لعظمته، و قوّة سلطانه، و تفرّده بالألوهيّة و السلطنة الذاتيّة.

و إذا كانت عادة الملوك و الجبابرة أن لا يسألهم من في مملكتهم عن أفعالهم، و عمّا يوردون و يصدرون

من تدبير ملكهم، تهيّبا و إجلالا، مع جواز الخطأ و الزلل و أنواع الفساد عليهم، كان ملك الملوك و ربّ الأرباب و خالقهم و رازقهم أولى بأن لا يسأل عن أفعاله، مع ما علم و استقرّ في العقول من أنّ ما يفعله كلّه مفعول بدواعي الحكمة، و لا يجوز عليه الخطأ و لا فعل القبائح.

وَ هُمْ يُسْئَلُونَ لأنّهم مملوكون مستعبدون خطّاؤن. فما أخلقهم بأن يقال لهم:

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 312

لم فعلتم؟ في كلّ شي ء فعلوه. و يحتمل أن يكون الضمير للآلهة.

أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً كرّره استعظاما لكفرهم، و استفظاعا لأمرهم، و تبكيتا لقولهم، و إظهارا لجهلهم، أو ضمّا لإنكار ما يكون لهم سندا من النقل إلى إنكار ما يكون لهم دليلا من العقل. على معنى: أوجدوا آلهة ينشرون الموتى، فاتّخذوهم آلهة، لما وجدوا فيهم من خواصّ الألوهيّة؟ أو وجدوا في الكتب الإلهيّة الأمر بإشراكهم، فاتّخذوهم متابعة للأمر؟ و يعضد ذلك أنّه رتّب على الأوّل ما يدلّ على فساده عقلا، و على الثاني ما يدلّ على فساده نقلا.

قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ على ما وصفتم اللّه عزّ و جلّ بأنّ له شريكا، إمّا من العقل أو من النقل، فإنّه لا يصحّ القول بما لا دليل عليه، كيف و قد تطابقت الحجج على بطلانه عقلا و نقلا. و في هذا دلالة على فساد التقليد، لأنّه طالبهم بالحجّة على صحّة قولهم، فإنّ البرهان هو الدليل المؤدّي إلى العلم.

هذا أي: هذا الوحي الوارد عليّ. أو هذا الشي ء الموجود في القرآن و الكتب الثلاثة الّتي بين أظهركم، من معنى توحيد اللّه و نفي الشركاء عنه. ذِكْرُ مَنْ مَعِيَ عظة للّذين معي. يعني: أمّته. وَ ذِكْرُ مَنْ قَبْلِي و عظة للّذين قبلي.

يعني: أمم الأنبياء.

فانظروا هل تجدون في الكتب السالفة إلّا الأمر بالتوحيد و النهي عن الإشراك؟ و إضافة الذكر إليهم لأنّه عظتهم.

فلمّا توجّهت الحجّة عليهم ذمّهم سبحانه على جهلهم، فقال: بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ الْحَقَ و لا يميّزون بينه و بين الباطل فَهُمْ مُعْرِضُونَ عن التوحيد و اتّباع الرسول تقليدا و عنادا. و إنّما خصّ الأكثر منهم لأنّ فيهم من آمن.

[سورة الأنبياء (21): الآيات 25 الى 29]

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ أَنَا فَاعْبُدُونِ (25) وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ (26) لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ (27) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ لا يَشْفَعُونَ إِلاَّ لِمَنِ ارْتَضى وَ هُمْ مِنْ خَشْيَتِهِ مُشْفِقُونَ (28) وَ مَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ (29)

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 313

ثمّ قرّر ما سبق من آي التوحيد بقوله: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلهَ لا معبود على الحقيقة إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ فوجّهوا العبادة إليّ دون غيري. و هذا تعميم بعد تخصيص، فإنّ ذكر «من قبلي» من حيث إنّه خبر لاسم الاشارة مخصوص بالموجود بين أظهرهم، و هو الكتب الثلاثة.

ثمّ ردّ قول خزاعة حيث قالوا: الملائكة بنات اللّه، فقال: وَ قالُوا اتَّخَذَ الرَّحْمنُ وَلَداً سُبْحانَهُ تنزيه له عن ذلك بَلْ عِبادٌ بل هم عباد من حيث إنّهم مخلوقون، و المعبوديّة تنافي الولادة مُكْرَمُونَ مقرّبون مفضّلون على سائر العباد، لما هم عليه من أحوال و صفات ليست لغيرهم، فذلك هو الّذي غرّ منهم من زعم أنّهم أولاد اللّه، تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

لا يَسْبِقُونَهُ بِالْقَوْلِ لا يقولون

شيئا حتّى يقوله، كما هو عادة العبيد المؤدّبين.

و أصله: لا يسبق قولهم قوله، فنسب السبق إليه و إليهم، و جعل القول محلّه و أداته، تنبيها على استهجان السبق المعرض به للقائلين على اللّه ما لم يقله. و أنيبت اللام مناب الإضافة اختصارا، و احترازا عن تكرير الضمير.

وَ هُمْ بِأَمْرِهِ يَعْمَلُونَ لا يعملون قطّ ما لم يأمرهم به. يعني: كما أنّ قولهم تابع لقوله، فعملهم أيضا كذلك مبنيّ على أمره.

يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ لا تخفى عليه خافية ممّا قدّموا و أخّروا. و هو كالعلّة لما قبله، و التمهيد لما بعده. كأنّه قال: لمّا علمت الملائكة يقينا بأنّ جميع ما يأتون

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 314

و يذرون ممّا قدّموا و أخّروا بعين اللّه، و هو مجازيهم عليه، فيضبطون أنفسهم، و يراعون أحوالهم، و يحافظون أوقاتهم. و من تحفّظهم أنّهم لا يجسرون أن يشفعوا، مع أنّهم أشرف الخلائق و أعلى مرتبة منهم، كما قال: وَ لا يَشْفَعُونَ مهابة منه إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى لمن ارتضاه اللّه أن يشفع له.

وَ هُمْ مع هذا كلّه مِنْ خَشْيَتِهِ من خشيته و مهابته و عظمته مُشْفِقُونَ خائفون وجلون مرتعدون من التقصير في عبادته.

و أصل الخشية خوف مع تعظيم، و لذلك خصّ بها العلماء. و الإشفاق خوف مع اعتناء، فإن عدي ب «من» فمعنى الخوف فيه أظهر، و إن عدي ب «على» فبالعكس.

و

عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنّه رأى جبرئيل ليلة المعراج ساقطا كالحلس «1» من خشية اللّه عزّ و جلّ».

و بعد أن وصف كرامتهم عليه، و قرب منزلتهم عنده، و أثنى عليهم، و أضاف إليهم تلك الأفعال السنيّة، و الأعمال المرضيّة، عقّبها بالوعيد الشديد، و

أنذر بعذاب جهنّم من أشرك منهم، و إن كان ذلك على سبيل الفرض و التمثيل، مع إحاطة علمه بأنّه لا يكون، قصدا بذلك تفظيع أمر الشرك، و تهديد أهله، و تعظيم شأن التوحيد و أهله، فقال:

وَ مَنْ يَقُلْ مِنْهُمْ من الملائكة. أو منهم و من سائر الخلائق. إِنِّي إِلهٌ مِنْ دُونِهِ فَذلِكَ نَجْزِيهِ جَهَنَّمَ يريد به نفي البنوّة، و نفي ادّعاء ذلك عن الملائكة، و تهديد المشركين كَذلِكَ نَجْزِي الظَّالِمِينَ من ظلم بالإشراك و ادّعاء الربوبيّة.

[سورة الأنبياء (21): الآيات 30 الى 33]

أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً فَفَتَقْناهُما وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍّ أَ فَلا يُؤْمِنُونَ (30) وَ جَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ وَ جَعَلْنا فِيها فِجاجاً سُبُلاً لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (31) وَ جَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً مَحْفُوظاً وَ هُمْ عَنْ آياتِها مُعْرِضُونَ (32) وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (33)

______________________________

(1) الحلس: ما يوضع على ظهر الدابّة، أو يبسط في البيت على الأرض تحت الثياب و المتاع.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 315

ثمّ قال تقريعا للكفرة: أَ وَ لَمْ يَرَ الَّذِينَ كَفَرُوا أو لم يعلموا. و قرأ ابن كثير بغير واو. أَنَّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ كانَتا رَتْقاً ذواتي رتق، أو مرتوقتين، و هو الضمّ و الالتحام، أي: كانتا شيئا واحدا، و حقيقة متّحدة. فَفَتَقْناهُما بالتنويع و التمييز، و جعلنا كلّا منهما سبع طبقات. أو كانت السماوات واحدة، ففتقت بالتحريكات المختلفة حتّى صارت أفلاكا. و كانت الأرضون واحدة، فجعلت باختلاف كيفيّاتها و أحوالها طبقات أو أقاليم.

و قيل: كانت السماء لاصقة بالأرض لا فضاء بينهما، ففرّج.

و قيل: كانتا رتقا لا تمطر و لا تنبت، ففتقناهما بالمطر و

النبات. و هو المرويّ عنهم عليهم السّلام. فيكون المراد بالسماوات سماء الدنيا، كما نقل عن عكرمة و عطيّة و ابن زيد. و جمعها باعتبار الآفاق. أو السماوات بأسرها، على أنّ لها مدخلا مّا في الأمطار.

و الكفرة و إن لم يعلموا ذلك، فهم متمكّنون من العلم به نظرا، فإنّ تلاصق الأرض و السماء و تباينهما جائز في العقل، فلا بدّ للتباين دون التلاصق من مخصّص، و هو القديم سبحانه. و أيضا الفتق عارض مفتقر إلى مؤثّر واجب ابتداء أو بوسط. أو استفسارا من العلماء، أو مطالعة الكتب السالفة، أو القرآن الّذي هو معجزة في نفسه، فقام مقام المرئيّ المشاهد.

و إنّما قال: «كانتا» و لم يقل: «كنّ» لأنّ المراد جماعة السماوات و جماعة الأرض.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 316

وَ جَعَلْنا مِنَ الْماءِ كُلَّ شَيْ ءٍ حَيٍ و خلقنا من الماء كلّ حيوان، كقوله: وَ اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ «1». و ذلك لأنّه من أعظم موادّه، فكأنّما خلقناه من الماء، أو لفرط احتياجه إليه، و انتفاعه به بعينه، و قلّة صبره عنه. و إن كان جعل متعدّيا إلى مفعولين، فمعناه: و صيّرنا كلّ شي ء حيّ كائنا بسبب من الماء لا يحيا دونه.

و قيل: معناه: و جعلنا من الماء حياة كلّ ذي روح و نماء كلّ نام، فيدخل فيه الحيوان و النبات و الأشجار.

أَ فَلا يُؤْمِنُونَ مع ظهور الآيات.

ثمّ بيّن كمال قدرته و شمول نعمته، فقال: وَ جَعَلْنا فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ جبالا راسيات ثابتات. من: رسا إذا ثبت. أَنْ تَمِيدَ بِهِمْ كراهة أن تميل بهم و تضطرب. أو لأن لا تميد، فحذف اللام للقياس، و «لا» لأمن الإلباس، كما تزاد لذلك في نحو قوله:

لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ «2». و

هذا مذهب الكوفيّين.

وَ جَعَلْنا فِيها في الأرض، أو الرواسي فِجاجاً سُبُلًا مسالك واسعة، فإنّ الفجّ هو الطريق الواسع. و إنّما قدّم «فجاجا» و هو وصف له، كما في قوله: لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً «3» ليصير حالا، فيدلّ على أنّه حين خلقها خلقها على تلك الصفة. أو ليبدل منها «سبلا» فيدلّ ضمنا على أنّه خلقها و وسّعها للسابلة، مع ما يكون فيه من التأكيد. لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ إلى مصالحهم.

وَ جَعَلْنَا السَّماءَ سَقْفاً و خلقناها رفيعا فوق الخلق كالسقف مَحْفُوظاً عن الوقوع على الأرض بقدرته، كما قال: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أَنْ تَزُولا «4»

______________________________

(1) النور: 45.

(2) الحديد: 29.

(3) نوح: 20.

(4) فاطر: 41.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 317

الآية. أو عن الفساد و الانحلال إلى الوقت المعلوم. أو البلى و الانهدام على طول الدهر. أو عن تسمع الشياطين على سكّانه من الملائكة بالشهب الثواقب، كما قال: وَ حَفِظْناها مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ رَجِيمٍ «1».

وَ هُمْ عَنْ آياتِها عمّا وضع اللّه عزّ و جلّ فيها من الأحوال العجيبة، و عبرها الغريبة، و سائر الحالات الحادثة فيها، من الشمس و القمر و سائر النيّرات، و مسايرها طلوعا و غروبا، على النهج البديع، و الترتيب العجيب، الدالّ على وجود صانعها القديم، و وجوب وجوده، و كمال علمه و قدرته، و تناهي حكمته، الّتي يحسّ ببعضها، و يبحث عن بعضها في علم الهيئة.

مُعْرِضُونَ غير متفكّرين. و أيّ جهل أعظم من جهل من أعرض عنها، و لم يذهب به وهمه إلى تدبّرها، و الاعتبار بها، و الاستدلال على عظمة شأن من أوجدها عن العدم، و دبّرها، و نصبها هذه النصبة، و أودعها ما أودعها ممّا لا يعرف كنهه إلّا هو عزّت قدرته، و لطف علمه،

و جلّت حكمته.

وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ اللّتان هما بعض الآيات السّماويّة كُلٌّ فِي فَلَكٍ كلّ واحد منهما. و التنوين بدل من المضاف إليه. و المراد بالفلك الجنس، كقولهم: كساهم الأمير حلّة و قلّدهم سيفا، أي: كساهم و قلّدهم هذين الجنسين. يَسْبَحُونَ يسرعون على سطح الفلك إسراع السابع على سطح الماء.

و هو خبر «كلّ». و الجملة حال من «الشمس و القمر». و جاز انفرادهما بها عن الليل و النهار، لعدم الإلباس، كما تقول: رأيت زيدا و هندا متبرّجة، و نحو ذلك إذا جئت بصفة يختصّ بها بعض ما تعلّق به العامل، و منه قوله تعالى في هذه السورة: وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ نافِلَةً «2». فضمير «يسبحون» لهما. و الجمع باعتبار كثرة المطالع. و إنّما

______________________________

(1) الحجر: 17.

(2) الأنبياء: 72.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 318

جعل الضمير واو العقلاء لوصفهما بفعلهم، و هو السباحة، كما قال: وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ «1».

[سورة الأنبياء (21): الآيات 34 الى 35]

وَ ما جَعَلْنا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ أَ فَإِنْ مِتَّ فَهُمُ الْخالِدُونَ (34) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً وَ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ (35)

روي أنّ المشركين مع وضوح تلك الآيات الدالّة على وجوب صانعها و وحدانيّتها عندهم، توغّلوا في العناد و المكابرة، و لم يصدّقوا الرسول في ذلك، و كانوا يقدّرون أنّه سيموت، و يقولون: نتربّص به ريب المنون، فيشمتون بموته، فنفى اللّه عنه الشماتة بقوله:

وَ ما جَعَلْنا و ما قضينا لِبَشَرٍ مِنْ قَبْلِكَ الْخُلْدَ دوام البقاء في الدنيا. فلا أنت و لا هم إلّا عرضة للموت، فإذا كان الأمر كذلك أَ فَإِنْ مِتَ على ما يتوقّعونه و ينتظرونه فَهُمُ الْخالِدُونَ يخلدون بعدك؟ و

في معناه قول القائل:

فقل للشامتين بنا أفيقواسيلقى الشامتون كما لقينا

و المعنى: لئن متّ فإنّهم أيضا يموتون، فأيّة فائدة لهم في تمنّي موتك. و الفاء الداخلة على «إن» الشرطيّة لتعلّق الشرط بما قبله. و الهمزة لإنكاره بعد ما تقرّر ذلك.

ثم برهن عليه بقوله: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ذائقة مرارة مفارقتها جسدها وَ نَبْلُوكُمْ و نختبركم بِالشَّرِّ بما يجب فيه الصبر من البلايا وَ الْخَيْرِ و بما يجب فيه الشكر من النعم فِتْنَةً ابتلاء و اختبارا. مصدر من غير لفظه وَ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ و إلى حكمنا تردّون، فنجازيكم حسب ما يوجد منكم من الصبر و الشكر. و إنّما سمّى ذلك ابتلاء، و هو عالم بما سيكون من أعمال العاملين قبل وجودهم، لأنّه في صورة الاختبار.

______________________________

(1) يوسف: 4.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 319

و المعنى: نعاملكم معاملة المختبر بالفقر و الغنى، و بالشدّة و الرخاء، ليظهر على العالمين صبركم على ما تكرهون اللّه، و شكركم فيما تحبّون.

و فيه إيماء بأنّ المقصود من هذه الحياة الابتلاء، و التعريض للثواب و العقاب، تقريرا لما سبق.

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنّ أمير المؤمنين عليه السّلام مرض فعاده إخوانه، فقالوا: كيف تجدك يا أمير المؤمنين؟ قال: بشّر. قالوا: ما هذا كلام مثلك. فقال عليه السّلام: إنّ اللّه تعالى يقول: «و نبلوكم بالشرّ و الخير فتنة». فالخير الصحّة و الغناء، و الشرّ المرض و الفقر».

[سورة الأنبياء (21): آية 36]

وَ إِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَ هذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ وَ هُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ هُمْ كافِرُونَ (36)

و قال بعض الزهّاد: الشرّ غلبة الهوى على النفس، و الخير العصمة عن المعاصي».

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مرّ يوما على

جماعة من صناديد قريش، منهم أبو جهل، فضحك أبو جهل عليه، و قال لقرنائه على سبيل الاستهزاء به: هو نبيّ بني عبد مناف.

فنزلت: وَ إِذا رَآكَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً

ما يتّخذونك إلّا مهزوءا به، و يقولون: أَ هذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ أي: بسوء، و يقول: إنّها جمادات لا تنفع و لا تضرّ.

و إنّما أطلقه لدلالة الحال، فإنّ ذكر العدوّ لا يكون إلّا بسوء، و إن كان مطلقا، كقولك للرجل: سمعت فلانا يذكرك، فإن كان الذاكر صديقا فهو ثناء، و إن كان عدوّا فذمّ.

و منه قولهم في إبراهيم: سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ «1». و قولهم: «أَ هذَا الَّذِي يَذْكُرُ آلِهَتَكُمْ».

وَ هُمْ بِذِكْرِ الرَّحْمنِ بالتوحيد. أو بإرشاد الخلق، ببعث الرسل و إنزال الكتب رحمة عليهم. أو بالقرآن. هُمْ كافِرُونَ منكرون.

______________________________

(1) الأنبياء: 60.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 320

و المعنى: أنّهم عاكفون بهممهم على ذكر آلهتهم، و ما يجب أن لا تذكر به، من كونهم شفعاء و شهداء، و يسوؤهم أن يذكرها ذاكر بخلاف ذلك. و أمّا ذكر اللّه عزّ و جلّ، و ما يجب أن يذكر به من الوحدانيّة، فهم به كافرون، لا يصدّقون به أصلا. فهم أحقّ بأن يتّخذوا هزوا منك، فإنّك محقّ و هم مبطلون.

و تكرير الضمير للتأكيد و التخصيص، و لحيلولة الصلة بين الضمير و بين الخبر.

و الجملة في موضع الحال، أي: يتّخذونك هزوا و هم على حال هي أصل الهزء و السخريّة.

و هي الكفر باللّه.

و قيل: يعني «بذكر الرحمن» قولهم: ما نعرف الرحمن إلّا مسيلمة. و قولهم: وَ مَا الرَّحْمنُ أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا «1».

[سورة الأنبياء (21): الآيات 37 الى 40]

خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ سَأُرِيكُمْ آياتِي فَلا تَسْتَعْجِلُونِ (37) وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (38) لَوْ

يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَ لا عَنْ ظُهُورِهِمْ وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (39) بَلْ تَأْتِيهِمْ بَغْتَةً فَتَبْهَتُهُمْ فَلا يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (40)

روي عن عطاء: أنّ النضر بن الحرث و أضرابه استعجلوا العذاب عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، إنكارا و استهزاء، و يقولون: متى هذا الوعد؟ فأراد اللّه سبحانه زجرهم و نهيهم عن الاستعجال، فقدّم أوّلا ذمّ الإنسان على إفراط العجلة، و أنّ لزومها له على وجه كأنّه مطبوع عليها، فقال:

______________________________

(1) الفرقان: 60. زبدة التفاسير، ج 4، ص: 321

خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ

كأنّه قيل: ليس ببدع منكم أن تستعجلوا العذاب، فإنّ إفراط العجلة من الإنسان، و قلّة تأنّيه في الأمور، على وجه كأنّه خلق منه. و هذا كقولك:

خلق زيد من الكرم، فجعل ما لا ينفكّ عنه إلّا نادرا بمنزلة المطبوع منه، مبالغة في لزومه.

و من عجلته مبادرته إلى الكفر و استعجال الوعيد.

سَأُرِيكُمْ آياتِي نقماتي في الدنيا، كوقعة بدر، و في الآخرة عذاب النار فَلا تَسْتَعْجِلُونِ بالإتيان بها.

و على ما فسّرنا؛ لا يرد أنّ ذلك من باب تكليف ما لا يطاق، لأنّ النهي متعلّق بما هو مخلوق و مجبول في الإنسان. سلّمنا أنّه مجبول و مطبوع، لكن ذلك لا يستلزم التكليف بالمحال، لأنّه من قبيل أنّه سبحانه ركّب فيه الشهوة و أمره أن يغلبها. و لا شبهة أنّه لا يستلزم التكليف بالمحال، لأنّه أعطاه القدرة الّتي يستطيع بها قمع الشهوة و ترك العجلة.

و عن ابن عبّاس: أنّه أراد بالإنسان آدم، و أنّه حين بلغ الروح شراسيف «1» صدره، أراد أن يقوم فلم يتمكّن منه.

و روي: أنّه لمّا دخل الروح في عينه نظر إلى ثمار الجنّة، و

لمّا دخل جوفه اشتهى الطعام.

و قيل: خلقه اللّه في آخر النهار يوم الجمعة، قبل غروب الشمس. فأسرع في خلقه قبل مغيبها.

و قيل: العجل الطين، بلغة حمير. و قال شاعرهم: و النخل ينبت بين الماء و العجل «2». فالمعنى: خلق آدم من طين.

وَ يَقُولُونَ إنكارا و استبعادا مَتى هذَا الْوَعْدُ وقت وعد العذاب، أو القيامة

______________________________

(1) شراسيف جمع شرسوف، و هو طرف الضلع المشرف على البطن.

(2) صدره: النبع في الصخرة الصمّاء منبته

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 322

إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يعنون: النبيّ و أصحابه.

لَوْ يَعْلَمُ الَّذِينَ كَفَرُوا حِينَ لا يَكُفُّونَ لا يدفعون عَنْ وُجُوهِهِمُ النَّارَ وَ لا عَنْ ظُهُورِهِمْ يعني: أنّ النار تحيط بهم من جميع جوانبهم وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ جواب «لو» محذوف، و «حين» مفعول ل «يعلم» أي: لو يعلمون الوقت الّذي يستعجلون منه بقولهم: متى هذا الوعد؟ و هو وقت صعب شديد، تحيط بهم النار من ورائهم و قدّامهم، بحيث لا يقدرون على دفعها من أنفسهم، و لا يجدون ناصرا ينصرهم، لمّا كانوا بتلك الصفة من الكفر و الاستهزاء و الاستعجال، و لكن جهلهم به هو الّذي هوّنه عندهم.

و يجوز أن يترك مفعول «يعلم». و المعنى: لو كان معهم علم و لم يكونوا جاهلين لما كانوا مستعجلين. و «حين» منصوب بمضمر، أي: حين لا يكفّون عن وجوههم النار يعلمون أنّهم كانوا على الباطل، و ينتفي عنهم هذا الجهل العظيم.

و إنّما وضع الظاهر فيه موضع الضمير، للدلالة على أنّ ما أوجب لهم ذلك هو الكفر.

بَلْ تَأْتِيهِمْ العدة، أو النار، أو الساعة بَغْتَةً فجأة. مصدر أو حال.

فَتَبْهَتُهُمْ فتغلبهم. يقال للمغلوب في المحاجّة: مبهوت. و منه: فَبُهِتَ الَّذِي كَفَرَ «1» أي: غلب إبراهيم عليه السّلام الكافر. أو فتحيّرهم.

فَلا

يَسْتَطِيعُونَ رَدَّها أي: ردّ الوعد، فإنّه بمعنى النار أو العدة. أو ردّ الحين، فإنّه بمعنى الساعة، و يجوز أن يكون للنار أو للبغتة. وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ يمهلون. و فيه تذكير بإمهالهم في الدنيا.

[سورة الأنبياء (21): الآيات 41 الى 44]

وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (41) قُلْ مَنْ يَكْلَؤُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ (42) أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ وَ لا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ (43) بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَ آباءَهُمْ حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أَ فَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها أَ فَهُمُ الْغالِبُونَ (44)

______________________________

(1) البقرة: 258.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 323

ثمّ سلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن استهزائهم به بقوله: وَ لَقَدِ اسْتُهْزِئَ بِرُسُلٍ مِنْ قَبْلِكَ كما استهزأ هؤلاء بك، فلك بالأنبياء أسوة فَحاقَ بِالَّذِينَ سَخِرُوا مِنْهُمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فحلّ بهم جزاء استهزائهم. و فيه وعد له بأنّ ما يفعلون به- يعني: جزاءه- يحيق بهم، كما حاق بالمستهزئين بالأنبياء.

قُلْ يا محمد للمستهزئين مَنْ يَكْلَؤُكُمْ يحفظكم بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ مِنَ الرَّحْمنِ من بأسه و عذابه إن أراد بكم. و الاستفهام في معنى النفي، تقديره: قل لا حافظ لكم من الرحمن. و في لفظ «الرحمن» تنبيه على أن لا كالئ غير رحمته العامّة، و أنّ اندفاعه بمهلته.

بَلْ هُمْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِمْ مُعْرِضُونَ لا يخطرونه ببالهم، و لا يتفكّرون فيه، فضلا أن يخافوا بأسه، حتّى إذا رزقوا الكلاءة منه عرفوا من الكالئ، و صلحوا للسؤال عنه.

و المراد أنّه أمر رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بسؤالهم عن الكالئ.

ثمّ بيّن أنّهم لا يصلحون

لذلك، لإعراضهم عن ذكر من يكلؤهم. ثمّ أضرب عن ذلك بما في «أم» من معنى «بل»، و قال توبيخا و تقريعا: أَمْ لَهُمْ أي: بل ألهم آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ من العذاب مِنْ دُونِنا تتجاوز منعنا و حفظنا. أو من عذاب يكون من عندنا. و الإضرابان عن الأمر بالسؤال على الترتيب، فإنّه عن المعرض الغافل عن الشي ء بعيد، و عن المعتقد لنقيضه أبعد.

ثمّ استأنف إبطال ما اعتقدوه بقوله: لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَ أَنْفُسِهِمْ و منعها عن

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 324

العذاب. و لا يقدرون على دفع ما ينزل بهم عن نفوسهم. وَ لا هُمْ مِنَّا يُصْحَبُونَ و لا يصحبهم النصر و التأييد من اللّه. و من لا يقدر على نصر نفسه، و لا يصحبه نصر من اللّه، فكيف يمنع غيره و ينصره؟! ثمّ أضرب عمّا توهّموا، ببيان ما هو الداعي إلى حفظهم، و هو الاستدراج و التمتيع بما قدّر لهم من الأعمار. أو أضرب عن الدلالة على بطلانه، ببيان ما أوهمهم ذلك، فقال:

بَلْ مَتَّعْنا هؤُلاءِ وَ آباءَهُمْ أمهلناهم حَتَّى طالَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ أي: بل ما هم فيه من الحفظ و الكلاءة إنّما هو بتمتيعنا إيّاهم بالحياة الدنيا و إمهالنا، كما متّعنا غيرهم من الكفّار، و أمهلناهم حتّى طال عليهم الأمد، و امتدّت بهم أيّام الروح و الطمأنينة، فحسبوا أن لا يزالوا كذلك، لا يغلبون، و لا ينزع عنهم ثوب أمنهم و استمتاعهم، و ذلك طمع فارغ، و أمل كاذب.

ثمّ عقّبه بما يدلّ على أنّه أمل كاذب، فقال: أَ فَلا يَرَوْنَ أَنَّا نَأْتِي الْأَرْضَ أي:

يأتي أمرنا أرض الكفرة نَنْقُصُها مِنْ أَطْرافِها بتسليط المسلمين عليها، و إظهارهم على أهلها، و ردّها إلى دار الإسلام. أسند سبحانه الإتيان و النقص إلى

ذاته تعالى، تصويرا لما كان اللّه يجريه على أيدي المسلمين، و أنّ عساكرهم و سراياهم كانت تغزوا أرض المشركين، و تأتيها غالبة عليها، ناقصة من أطرافها، أرضا فأرضا، و قوما فقوما، فيأخذون قراهم و أرضهم.

أَ فَهُمُ الْغالِبُونَ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المسلمين. الهمزة للإنكار، أي: ليسوا بغالبين، و لكنّهم المغلوبون، و رسول اللّه و ناصروه هم الغالبون.

[سورة الأنبياء (21): الآيات 45 الى 47]

قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ وَ لا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ إِذا ما يُنْذَرُونَ (45) وَ لَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ مِنْ عَذابِ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (46) وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ لِيَوْمِ الْقِيامَةِ فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ إِنْ كانَ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أَتَيْنا بِها وَ كَفى بِنا حاسِبِينَ (47)

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 325

قُلْ إِنَّما أُنْذِرُكُمْ بِالْوَحْيِ بما أوحي إليّ وَ لا يَسْمَعُ الصُّمُّ الدُّعاءَ و قرأ ابن عامر: و لا تسمع، على خطاب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و اللام في «الصمّ» إشارة إلى هؤلاء المنذرين، فهي للعهد لا للجنس. و الأصل: و لا يسمعون، فوضع الظاهر موضع ضميرهم.

و سمّاهم الصمّ للدلالة على تصامّهم، و سدّهم أسماعهم إذا انذروا، و عدم انتفاعهم بما يسمعون، فهم في ذلك بمنزلة الأصمّ الّذي لا يسمع.

إِذا ما يُنْذَرُونَ منصوب ب «يسمع» أو بالدعاء. و التقييد به، لأنّ الكلام في الإنذار، أو للمبالغة في تصامّهم و تجاسرهم، أي: هم على صفة التصامّ و صدّ الأسماع من آيات الإنذار جرأة و جسارة.

وَ لَئِنْ مَسَّتْهُمْ نَفْحَةٌ أدنى شي ء. و فيه مبالغات ثلاث: ذكر المسّ، و ما في النفحة من معنى القلّة، فإنّ أصل النفخ هبوب رائحة الشي ء، و البناء الدالّ على المرّة.

مِنْ عَذابِ رَبِّكَ

من الّذي ينذرون به لَيَقُولُنَّ يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ لدعوا على أنفسهم بالويل، و اعترفوا عليها بالظلم، حتّى تصامّوا و أعرضوا.

ثمّ قال: وَ نَضَعُ الْمَوازِينَ الْقِسْطَ العدل توزن بها الأعمال. و هو ميزان له كفّتان و لسان.

يروى: «أنّ داود عليه السّلام سأل ربّه أن يريه الميزان، فلمّا رآه غشي عليه ثمّ أفاق، فقال: يا إلهي من الّذي يقدر أن يملأ كفّته حسنات؟ فقال: يا داود إنّي إذا رضيت عن عبدي ملأتها بتمرة».

و في وزن الأعمال مع أنّها أعراض قولان: أحدهما: توزن صحائف الأعمال.

و الثاني: أن تجعل في كفّة الحسنات جواهر بيض مشرقة، و في كفّة السيّئات جواهر سود

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 326

مظلمة.

و إفراد القسط لأنّه مصدر وصف به للمبالغة، كأنّها في نفسها قسط، أو على حذف المضاف، أي: ذوات القسط.

و قيل: وضع الموازين تمثيل لإرصاد الحساب السويّ، و الجزاء على حسب الأعمال بالعدل و النصفة، من غير أن يظلم عباده مثقال ذرّة. فمثّل ذلك بوضع الموازين لتوزن بها الموزونات. و مصداقه قول قتادة: إنّ معناه: نضع العدل في المجازاة بالحقّ لكلّ أحد على قدر استحقاقه، فلا يبخس المثاب بعض ما يستحقّه، و لا يفعل بالمعاقب فوق ما يستحقّه.

لِيَوْمِ الْقِيامَةِ لجزاء يوم القيامة. أو لأهله، أي: لأجلهم. أو فيه، كقولك: جئت لخمس خلون من الشهر.

فَلا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً أي: لا ينقص من إحسان محسن، و لا يزيد في إساءة مسي ء وَ إِنْ كانَ العمل أو الظلم مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ و رفع نافع «مثقال» على «كان» التامّة، كقوله: وَ إِنْ كانَ ذُو عُسْرَةٍ «1». أَتَيْنا بِها أحضرنا المثقال. و تأنيثه لإضافته إلى الحبّة، كقولهم: ذهبت بعض أصابعه. وَ كَفى بِنا حاسِبِينَ إذ لا مزيد على

علمنا و عدلنا.

[سورة الأنبياء (21): الآيات 48 الى 50]

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَ هارُونَ الْفُرْقانَ وَ ضِياءً وَ ذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ (48) الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ هُمْ مِنَ السَّاعَةِ مُشْفِقُونَ (49) وَ هذا ذِكْرٌ مُبارَكٌ أَنْزَلْناهُ أَ فَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (50)

______________________________

(1) البقرة: 280.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 327

و لمّا تقدّم ذكر الوحي بيّن عقيبه أنّ إنزال القرآن على نبيّه ليس ببدع، فقد أنزل على موسى و هارون التوراة، فقال: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسى وَ هارُونَ الْفُرْقانَ وَ ضِياءً وَ ذِكْراً لِلْمُتَّقِينَ أي: أعطيناهما الكتاب الجامع، لكونه فارقا بين الحقّ و الباطل، و ضياء يستضاء به في ظلمات الحيرة و الجهالة، و ذكرا يتّعظ به المتّقون. أو ذكر ما يحتاجون إليه من الشرائع. أو ذكر الشرف.

و عن ابن عبّاس: الفرقان: الفتح و النصر، كقوله: يَوْمَ الْفُرْقانِ «1». و عن الضحّاك: فلق البحر. و عن محمّد بن كعب: المخرج من الشبهات.

الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ صفة للمتّقين. أو مدح لهم منصوب أو مرفوع.

بِالْغَيْبِ حال من الفاعل، أو المفعول وَ هُمْ مِنَ السَّاعَةِ من القيامة و أهوالها مُشْفِقُونَ خائفون. و في تصدير الضمير، و بناء الحكم عليه، مبالغة و تعريض.

و لمّا وصف التوراة أتبعه ذكر القرآن الّذي آتاه نبيّنا، فقال: وَ هذا ذِكْرٌ يعني:

القرآن مُبارَكٌ كثير خيره، و غزير منفعته، من المواعظ و الزواجر، و الأمثال الداعية إلى مكارم الأخلاق و الأفعال أَنْزَلْناهُ على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أَ فَأَنْتُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ استفهام توبيخ، أي: فلما ذا تنكرونه و تجحدونه مع كونه معجزا؟!

[سورة الأنبياء (21): الآيات 51 الى 54]

وَ لَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ مِنْ قَبْلُ وَ كُنَّا بِهِ عالِمِينَ (51) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ (52) قالُوا وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ (53) قالَ

لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (54)

ثمّ عطف سبحانه على ما تقدّم من قصّة موسى و هارون بقصّة إبراهيم عليه السّلام، الّذي

______________________________

(1) الأنفال: 41.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 328

هو من أجداد نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و العرب كانوا يفتخرون به، لانتهاء أنسابهم إليه، فقال:

وَ لَقَدْ آتَيْنا إِبْراهِيمَ رُشْدَهُ الاهتداء لوجوه الصلاح. و قيل: هو الحجج الموصلة إلى التوحيد. و قيل: النبوّة. و إضافته إليه ليدلّ على أنّه رشد مثله، و أنّ له شأنا.

مِنْ قَبْلُ من قبل موسى و هارون، أو محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قيل: من قبل استنبائه، أو بلوغه حيث قال: إنّي وجّهت.

وَ كُنَّا بِهِ أي: بأنّه أهل لما آتيناه من الخلّة و النبوّة عالِمِينَ يعني: علمنا منه أحوالا بديعة، و أسرارا عجيبة، و صفات قد رضينا بها و نحمدها، حتّى أهّلناه لخلّتنا و مخالصتنا. و هذا كقولك في خيّر من الناس: أنا عالم بفلان. فكلامك هذا دالّ على علمك بمحاسن أوصافه و مكارم خصاله. و فيه إشارة إلى أنّ فعله تعالى باختيار و حكمة، و أنّه عالم بالجزئيّات.

إِذْ قالَ لِأَبِيهِ لعمّه الّذي بمنزلة أبيه في تربيته بعد موت أبيه. و الظرف متعلّق ب «آتينا» أو ب «رشده» أو بمحذوف، أي: اذكر من أوقات رشده وقت قوله لأبيه وَ قَوْمِهِ ما هذِهِ التَّماثِيلُ الَّتِي أَنْتُمْ لَها عاكِفُونَ فيه تحقير لشأن آلهتهم المصوّرة بصور أجسام ذوات أرواح، و توبيخ لإجلالهم لها، فإنّ التمثال صورة لا روح فيها، فلا يضرّ و لا ينفع.

و أصله الشي ء المصنوع مشبّها بخلق من خلق اللّه. من: مثّلت الشي ء بالشي ء إذا شبّهته به. و اسم ذلك الممثّل تمثال، و جمعه

تماثيل. و قيل: إنّهم جعلوها أمثلة للأجسام العلويّة.

و اللام للاختصاص، لا للتعدية، فإنّ تعدية العكوف ب «على». و المعنى: و أنتم فاعلون العكوف لها، أو واقفون لها. فلو قصد تعدية العكوف لعدّاه بصلته الّتي هي «على»، كقوله: يَعْكُفُونَ عَلى أَصْنامٍ لَهُمْ «1». أو يضمّن العكوف معنى العبادة.

روى العيّاشي بإسناده عن الأصبغ بن نباتة أنّه قال: «إنّ أمير المؤمنين عليه السّلام مرّ بقوم

______________________________

(1) الأعراف: 138. زبدة التفاسير، ج 4، ص: 329

يلعبون الشطرنج، فقال: ما هذه التماثيل الّتي أنتم لها عاكفون؟ لقد عصيتم اللّه و رسوله».

و لمّا كان الاستفهام مستلزما لسؤاله إيّاهم عمّا اقتضى عبادتها و حملهم عليها قالُوا في جواب إبراهيم حين لم يجدوا حجّة في عبادتها: وَجَدْنا آباءَنا لَها عابِدِينَ فقلّدناهم.

قالَ لَقَدْ كُنْتُمْ أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ أراد أنّ المقلّدين و المقلّدين جميعا منخرطون في سلك ضلال لا يخفى على من به أدنى مسكة، لعدم استناد الفريقين إلى دليل، بل إلى هوى متّبع، و شيطان مطاع. و التقليد إن جاز فإنّما يجوز لمن علم في الجملة أنّه على حقّ، كتقليد المقلّد المجتهد في فروع الإسلام لا في أصوله. و ما أعظم كيد الشيطان للمقلّدين حين استدرجهم إلى أن قلّدوا آباءهم في عبادة التماثيل، و عفّروا لها جباههم، و هم معتقدون أنّهم على شي ء، و جادّون في نصرة مذهبهم، و مجادلون لأهل الحقّ عن باطلهم. و كفى أهل التقليد عارا و سبّة «1» أن عبدة الأصنام منهم.

و «أنتم» من التأكيد الّذي لا يصحّ الكلام مع الإخلال به، لأنّ العطف على ضمير مستتر هو في حكم بعض الفعل ممتنع. و نحوه: اسْكُنْ أَنْتَ وَ زَوْجُكَ الْجَنَّةَ «2».

[سورة الأنبياء (21): الآيات 55 الى 58]

قالُوا أَ جِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللاَّعِبِينَ

(55) قالَ بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَّ وَ أَنَا عَلى ذلِكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ (56) وَ تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا مُدْبِرِينَ (57) فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً إِلاَّ كَبِيراً لَهُمْ لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ (58)

______________________________

(1) السبّة: العار، و من يكثر الناس سبّه.

(2) البقرة: 35.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 330

و لمّا استبعدوا أن يكون ما هم عليهم ضلالا، بقوا متعجّبين من تضليله إيّاهم، و حسبوا أنّ ما قاله إنّما قاله على وجه المزاح و المداعبة، لا على طريق الجدّ قالُوا أَ جِئْتَنا بِالْحَقِّ أَمْ أَنْتَ مِنَ اللَّاعِبِينَ أجادّ أنت فيما تقول محقّ عند نفسك، أم لاعب مازح؟

قالَ إضرابا عن كونه لاعبا بإقامة البرهان على ما ادّعاه: بَلْ رَبُّكُمْ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الَّذِي فَطَرَهُنَ الضمير للسّماوات و الأرض، أو للتماثيل. و هو أدخل في تضليلهم، و إلزام الحجّة عليهم.

وَ أَنَا عَلى ذلِكُمْ المذكور من التوحيد مِنَ الشَّاهِدِينَ المتحقّقين له، و المبرهنين عليه، فإنّ الشاهد من تحقّق الشي ء عنده و حقّقه. فشهادته على ذلك احتجاجه عليه، و تصحيحه بالحجّة، كما تصحّح الدعوى بالشهادة. كأنّه قال: و أنا أبيّن ذلك و أبرهن عليه، كما تبيّن الدعاوي بالبيّنات، لأنّي لست مثلكم فأقول ما لا أقدر على إثباته بالحجّة، كما لم تقدروا على الاحتجاج لمذهبكم، و لم تزيدوا على أنّكم وجدتم عليه آباءكم.

وَ تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ لأجتهدنّ في كسرها بَعْدَ أَنْ تُوَلُّوا عنها مُدْبِرِينَ إلى عيدكم. و إيثار التاء على الباء- مع أنّ الباء هي الأصل، فإنّ التاء بدل من الواو المبدلة منها- لما في التاء من زيادة معنى، و هو التعجّب. و ذكر الكيد لتوقّفه على نوع من الحيل، فكأنّه تعجّب من تسهّل الكيد على يده و تأتّيه، لأنّ ذلك

كان أمرا مقنوطا منه، لصعوبته و تعذّره. و لعمري أنّ مثله صعب متعذّر في كلّ زمان، خصوصا في زمن نمرود، مع عتوّه و استكباره و قوّة سلطانه، و حرصه على نصرة دينه، و لكن: إذا اللّه سنّى «1» عقد شي ء تيسّرا «2».

______________________________

(1) في هامش النسخة الخطّية: «سنّى الأمر: إذا سهّله. و سنّى العقدة إذا حلّها. منه».

(2) تمام البيت:

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 331

عن قتادة و مجاهد: إنّما قال ذلك سرّا من قومه، و لم يسمع ذلك إلّا رجل منهم فأفشاه.

فَجَعَلَهُمْ جُذاذاً قطاعا. فعال بمعنى مفعول، كالحطام. من: الجذّ، و هو القطع.

و قرأ الكسائي بالكسر. و هو لغة، أو جمع جذيذ، كخفاف و خفيف. إِلَّا كَبِيراً لَهُمْ للأصنام. يعني: كسر غيره و استبقاه.

روي أنّ آزر خرج بإبراهيم في يوم عيد لهم، فبدءوا ببيت الأصنام فدخلوه و سجدوا لها، و وضعوا بينها طعاما خرجوا به معهم، و قالوا: إلى أن نرجع بركت الآلهة على طعامنا. فذهبوا و بقي إبراهيم، فنظر إلى الأصنام، و كانت سبعين صنما مصطفّة، و ثمّ صنم عظيم مستقبل الباب، و كان من ذهب، و في عينيه جوهرتان تضيئان بالليل، فكسرها كلّها بفأس في يده، حتّى لم يبق إلّا الكبير، فعلّق الفأس في عنقه.

لَعَلَّهُمْ إِلَيْهِ يَرْجِعُونَ لأنّه عليه السّلام غلب على ظنّه أنّهم لا يرجعون إلّا إليه، لتفرّده و اشتهاره بينهم بعداوة آلهتهم، فيحاجّهم بقوله: «بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ» فيحجّهم.

و عن الكلبي: الضمير للكبير، أي: لعلّهم يرجعون إلى الكبير فيسألونه عن كاسرها، إذ من شأن المعبود أن يرجع إليه في حلّ العقد، فيبكّتهم بذلك إذا تبيّن لهم أنّه عاجز لا ينفع و لا يضرّ، و ظهر أنّهم في عبادته على جهل عظيم. أو إلى

اللّه، أي: يرجعون إلى توحيده عند تحقّقهم عجز آلهتهم.

[سورة الأنبياء (21): الآيات 59 الى 65]

قالُوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ (59) قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ (60) قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ (61) قالُوا أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ (62) قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ (63)

فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ فَقالُوا إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ (64) ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ (65)

______________________________ و أعلم علما ليس بالظنّ أنّه إذا اللّه ..........

أي: إذا سهّل اللّه صعوبة شي ء و أزالها سهل تحصيله أو دفعه.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 332

قالُوا حين رجعوا إلى معبدهم و رأوا ما رأوا مَنْ فَعَلَ هذا بِآلِهَتِنا إِنَّهُ لَمِنَ الظَّالِمِينَ لشديد الظلم، معدود في الظلمة بجرأته على الآلهة الحقيقة بالإعظام، أو إفراطه في حطمها، و تماديه في الاستهانة بها، أو بتوريط نفسه للهلاك. و «من» يحتمل الاستفهام و الموصول.

قالُوا سَمِعْنا فَتًى يَذْكُرُهُمْ يعيبهم فلعلّه فعله. و «يذكر» صفة «فتى» مصحّحة لأن يتعلّق به السمع. و هو أبلغ في نسبة الذكر إليه. يُقالُ لَهُ إِبْراهِيمُ هو إبراهيم.

و يجوز رفعه بالفعل، لأنّ المراد به الاسم لا المسمّى. و هذا أيضا صفة «فتى»، إلّا أنّه لا يحتاج السمع إليه في تعلّقه، بخلاف الأوّل.

قالُوا فَأْتُوا بِهِ عَلى أَعْيُنِ النَّاسِ في محلّ الحال، بمعنى: معاينا مشاهدا، أي:

بمرأى منهم و منظر. و «على» وارد على طريق التشبيه، أي: يثبت إتيانه في الأعين، و تتمكّن صورته فيها تمكّن الراكب على المركوب. لَعَلَّهُمْ يَشْهَدُونَ عليه بفعله، أو يحضرون عقوبتنا له.

روي: أنّ الخبر بلغ نمرود و أشراف قومه، فأمروا بإحضاره، فلمّا حضر قالُوا أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ قالَ بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ

هذا فَسْئَلُوهُمْ إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ هذا من معاريض الكلام، و لطائف هذا النوع، لا يتغلغل فيها إلّا أذهان

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 333

الراضة «1» من علماء المعاني.

و تنقيح الكلام فيه: أنّ قصد إبراهيم عليه السّلام لم يكن إلى أن ينسب العقل الصادر عنه إلى الصنم، و إنّما قصد تقريره لنفسه، و إثباته لها على أسلوب تعريضيّ يبلغ فيه غرضه من إلزام الحجّة و تبكيتهم. و هذا كما لو قال لك صاحبك و قد كتبت كتابا بخطّ رشيق- و أنت شهير بحسن الخطّ-: أ أنت كتبت هذا، و صاحبك أمّي لا يحسن الخطّ، و لا يقدر إلّا على خرمشة «2» فاسدة؟ فقلت له: بل كتبته أنت. كأنّ قصدك بهذا الجواب تقريره لك مع الاستهزاء به، لا نفيه عنك و إثباته للأمّي أو المخرمش، لأنّ إثباته- و الأمر دائر بينكما للعاجز منكما- استهزاء به و إثبات للقادر.

و لقائل أن يقول: غاضته تلك الأصنام حين أبصرها مصطفّة مرتّبة، و كان غيظ كبيرها أكبر و أشدّ، لما رأى من زيادة تعظيمهم له، فأسند الفعل إليه، لأنّه هو الّذي تسبّب لاستهانته بها و حطمه لها، و الفعل كما يسند إلى مباشره يسند إلى الحامل عليه.

و يجوز أن يكون حكاية لما يقود إلى تجويزه مذهبهم إلزاما لهم. كأنّه قال لهم: ما تنكرون أن يفعله كبيرهم؟ فإنّ من حقّ من يعبد و يدعى إلها أن يقدر على هذا و أشدّ منه.

و يحكى أنّه قال: فعله كبيرهم هذا حين غضب أن تعبد معه هذه الصغار و هو أكبر منها.

و قيل: إنّه في المعنى متعلّق بقوله: «إِنْ كانُوا يَنْطِقُونَ» و ما بينهما اعتراض. فعلّق الكلام بشرط لا يوجد، فلا يكون كذبا، كقول القائل: فلان

صادق فيما يقول إن لم يكن فوقنا سماء.

و قيل: الضمير ل «فتى» أو إبراهيم، و لذلك وقف على «فعله»، و يبتدأ فيقرأ:

«كَبِيرُهُمْ هذا فَسْئَلُوهُمْ».

______________________________

(1) أي: المهرة الخبراء في تذليل صعاب المسائل و تطويعها. جمع رائض.

(2) في هامش النسخة الخطّية: «قال الأزهري: الخرمشة إفساد الكتاب و العمل و نحوه.

منه». انظر تهذيب اللغة للأزهري 7: 646.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 334

فلمّا ألقمهم الحجر، و أخذ بمخانقهم، و حاروا عن جوابه فَرَجَعُوا إِلى أَنْفُسِهِمْ و راجعوا عقولهم فَقالُوا فقال بعضهم لبعض إِنَّكُمْ أَنْتُمُ الظَّالِمُونَ على الحقيقة بهذا السؤال، أو بعبادة من لا ينطق و لا يضرّ و لا ينفع، لا من ظلمتموه بقولكم: من فعل بهذا بآلهتنا إنّه لمن الظالمين.

ثُمَّ نُكِسُوا عَلى رُؤُسِهِمْ النكس: القلب. تقول: نكسته أي: قلبته، فجعلت أسفله أعلاه. و انتكس: انقلب.

و المعنى: استقاموا اوّلا حين رجعوا إلى أنفسهم و جاؤا بالفكرة الصالحة، ثمّ انتكسوا و انقلبوا عن تلك الحالة، فأخذوا في المجادلة بالباطل و المكابرة. فشبّه عودهم إلى الباطل بصيرورة أسفل الشي ء مستعليا على أعلاه. فقالوا جدالا: لَقَدْ عَلِمْتَ ما هؤُلاءِ يَنْطِقُونَ فكيف تأمر بسؤالها؟! أو قلبوا على رؤوسهم حقيقة، لفرط إطراقهم خجلا و انكسارا و انخزالا «1» ممّا بهتهم به إبراهيم عليه السّلام. فما أحاروا جوابا إلّا ما هو حجّة عليهم، لأنّهم نفوا عن آلهتهم القدرة على النطق، و اعترفوا بأنّها- مع تقاصر حالها عن حال الحيوان الناطق- آلهة معبودة.

[سورة الأنبياء (21): الآيات 66 الى 73]

قالَ أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لا يَضُرُّكُمْ (66) أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (67) قالُوا حَرِّقُوهُ وَ انْصُرُوا آلِهَتَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ (68) قُلْنا يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً عَلى إِبْراهِيمَ

(69) وَ أَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ (70)

وَ نَجَّيْناهُ وَ لُوطاً إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ (71) وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ نافِلَةً وَ كُلاًّ جَعَلْنا صالِحِينَ (72) وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ وَ إِقامَ الصَّلاةِ وَ إِيتاءَ الزَّكاةِ وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ (73)

______________________________

(1) أي: انقطاعا.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 335

قالَ إنكارا لعبادتهم لها، بعد اعترافهم بأنّها جمادات أَ فَتَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُكُمْ شَيْئاً وَ لا يَضُرُّكُمْ لا تنفع و لا تضرّ، بعيدة جدّا عن رتبة الألوهيّة، و تضجّرا ممّا رأى من ثباتهم على عبادتها بعد انقطاع عذرهم، و بعد وضوح الحقّ و زهوق الباطل.

أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ «أفّ» صوت إذا صوّت به علم أنّ صاحبه متضجّر. و اللام لبيان المتأفّف به، أي: لكم و لآلهتكم هذا التأفّف. أَ فَلا تَعْقِلُونَ قبح صنيعكم.

و لمّا عجزوا عن المحاجّة و غلبوا، أجمعوا رأيهم بإهلاكه قالُوا حَرِّقُوهُ فإنّ النار أهول ما يعاقب به وَ انْصُرُوا آلِهَتَكُمْ بالانتقام لها إِنْ كُنْتُمْ فاعِلِينَ ناصرين لها نصرا مؤزّرا، فاختاروا له أهول المعاقبات، و هي الإحراق بالنار، و إلّا فرّطتم في نصرتها. و لهذا عظّموا النار، و تكلّفوا في تشهير أمرها، و تفخيم شأنها، و لم يألوا جهدا في ذلك. و هكذا حال المبطل إذا قرعت شبهته بالحجّة و افتضح، لم يكن أحد أبغض إليه من المحقّ، و لم يبق له مفزع إلّا مناصبته، كما فعلت قريش برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين عجزوا عن المعارضة.

و القائل بالتحريق فيهم رجل من أكراد فارس اسمه هيون، خسف به الأرض، فهو يتجلجل «1» فيها إلى يوم القيامة.

و قيل: نمروذ.

______________________________

(1) تجلجل في الأرض أي: ساخ فيها و دخل.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 336

روي أنّهم حين همّوا بإحراقه حبسوه، ثمّ بنوا بيتا كالحظيرة بكوثى «1»، و جمعوا شهرا أصناف الخشب الصلاب، حتّى إن كانت المرأة لتمرض فتقول: إن عوفيت لأجمعنّ حطبا لإبراهيم. ثمّ أشعلوا نارا عظيمة كادت الطير تحترق في الجوّ من وهجها «2». و لمّا أرادوا أن يلقوا إبراهيم في النار لم يدروا كيف يلقونه، فجاء إبليس فدلّهم على المنجنيق، و هو أوّل منجنيق صنعت، فوضعوه فيها مقيّدا مغلولا، فرموا به فيها.

فناداه جبرئيل حين أشرف على النار: يا إبراهيم هل لك حاجة؟

فقال: أمّا إليك فلا.

فقال: فسل ربّك.

قال: حسبي من سؤالي علمه بحالي.

فببركة هذا القول قُلْنا بواسطة جبرئيل يا نارُ كُونِي بَرْداً وَ سَلاماً ذات برد و سلام عَلى إِبْراهِيمَ أي: ابردي بردا غير ضارّ.

و فيه مبالغات: جعل النار المسجّرة مسخّرة لقدرته، مأمورة مطيعة له، و إقامة:

كوني ذات برد، مقام: ابردي، ثمّ حذف المضاف و إقامة المضاف إليه مقامه.

و عن ابن عبّاس: لو لم يقل ذلك لأهلكته ببردها.

و قيل: نصب «سلاما» بفعله، أي: و سلّمنا سلاما عليه.

و عن ابن عبّاس: إنّما نجا إبراهيم بقوله: حسبي اللّه و نعم الوكيل.

و

عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «يا اللّه، يا واحد، يا أحد، يا صمد، يا من لم يلد و لم يولد، و لم يكن له كفوا أحد. فحسرت النار عنه».

روي: أنّه لما ادني إبراهيم عليه السّلام إلى حظيرة النار، جعلها اللّه روضة لم يحترق منه إلّا وثاقه «3».

______________________________

(1) كوثى: محلّة بالعراق، و محلّة بمكّة لبني عبد الدار. القاموس 1: 173.

(2) وهج النار: اتّقادها، أو حرّها من بعيد.

(3) الوثاق: ما يشدّ به من قيد و حبل و

نحوهما.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 337

و

روى الواحدي بالإسناد مرفوعا إلى أنس بن مالك، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «إنّ نمروذ الجبّار لمّا ألقى إبراهيم في النار، أتى إليه جبرئيل بقميص من الجنّة، و طنفسة «1» من الجنّة، فألبسه القميص، و أقعده على الطنفسة، و قعد معه يحدّثه» «2».

روي: أنّ نمرود اطّلع عليه من الصرح فإذا هو في روضة خضراء، و معه جليس له من الملائكة، فقال: عظيم ربّك يا إبراهيم، إنّي مقرّب إلى إلهك، فذبح أربعة آلاف بقرة، و كفّ عن إبراهيم. و كان إبراهيم إذ ذاك ابن ستّ عشرة سنة.

و انقلاب النار هواء طيّبا ليس ببدع، غير أنّه هكذا على خلاف المعتاد، فهو إذن من معجزاته.

و قيل: كانت النار بحالها، لكنّه تعالى نزع عنها طبعها الّذي طبعها عليه من الحرّ و الإحراق، و أبقاها على الإضاءة و الإشراق و الاشتعال كما كانت، و اللّه على كلّ شي ء قدير. و يجوز أن يدفع اللّه تعالى بقدرته عن جسم إبراهيم أذى حرّها، و يذيقه فيها عكس ذلك، كما يفعل بخزنة جهنّم، و كما ترى في السمندر.

وَ أَرادُوا بِهِ كَيْداً مكرا في إضراره فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ أخسر من كلّ خاسر، لمّا عاد سعيهم برهانا قاطعا على أنّهم على الباطل و إبراهيم على الحقّ، و موجبا لمزيد درجته و استحقاقهم أشدّ العذاب.

قال ابن عبّاس: إنّ اللّه تعالى سلّط على نمروذ و خيله البعوض، حتّى أخذت لحومهم، و شربت دماءهم، و وقعت واحدة في دماغه حتّى أهلكته، و ذلك معنى قوله:

«فَجَعَلْناهُمُ الْأَخْسَرِينَ».

وَ نَجَّيْناهُ من نمروذ و كيده وَ لُوطاً و هو ابن أخيه إِلَى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها لِلْعالَمِينَ بأن أمرناهما أن يذهبا من العراق إلى

الشام. و بركاته الواصلة إلى

______________________________

(1) الطنفسة: البساط و الحصير.

(2) تفسير الوسيط 3: 244.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 338

العالمين: أنّ أكثر الأنبياء بعثوا فيه، فانتشرت في العالمين شرائعهم الّتي هي مبادئ الكمالات و الخيرات الدينيّة و الدنيويّة.

و قيل: بارك اللّه فيه بكثرة الماء و الشجر و الثمر، و الخصب الغالب، و طيب عيش الغنيّ و الفقير.

و عن سفيان: أنّه خرج إلى الشام، فقيل له: إلى أيّ موضع؟ فقال: إلى بلد يملأ فيه الجراب «1» بدرهم.

و قيل: ما من ماء عذب إلّا و ينبع أصله من تحت الصخرة الّتي ببيت المقدس.

و روي: أنّه نزل بفلسطين، و لوط بالمؤتفكة، و بينهما مسيرة يوم و ليلة.

و عن ابن عبّاس: نجّاهما إلى مكّة، كما قال: إِنَّ أَوَّلَ بَيْتٍ وُضِعَ لِلنَّاسِ لَلَّذِي بِبَكَّةَ مُبارَكاً وَ هُدىً لِلْعالَمِينَ «2».

وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ نافِلَةً عطيّة محض تفضّل منّا زائدة. فهي حال منهما. أو أعطيناه يعقوب هبة زائدة، فإنّه سألنا ولدا حين قال: رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ «3». و نحن وهبناه ولدا و ولد ولد. فعلى هذا الحال تختصّ بيعقوب. و لا بأس به، للقرينة.

وَ كُلًّا يعني: الأربعة جَعَلْنا صالِحِينَ للنبوّة. أو وفّقناهم للصلاح، و حملناهم عليه، فصاروا كاملين.

وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يقتدى بهم يَهْدُونَ الناس إلى طريق الحقّ بِأَمْرِنا لهم بذلك، و إرسالنا إيّاهم، حتّى صاروا مكمّلين عبادنا.

و فيه إشارة إلى أنّ من صلح ليكون قدوة في دين اللّه عزّ و جلّ، فالهداية محتومة عليه،

______________________________

(1) الجراب: وعاء من جلد. و جمعه أجربة.

(2) آل عمران: 96.

(3) الصافّات: 100.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 339

مأمور هو بها من جهة اللّه، ليس له أن يخلّ بها، و يتثاقل عنها. و أوّل ذلك أن يهتدي بنفسه، لأنّ

الانتفاع بهداية المهتدي أعمّ، و النفوس إلى الاقتداء بالمهديّ أميل.

و لهذا قال عزّ و جلّ: وَ أَوْحَيْنا إِلَيْهِمْ فِعْلَ الْخَيْراتِ ليحثّوهم عليه، فيتمّ كمالهم بانضمام العمل إلى العلم. و عن ابن عبّاس: هي شرائع النبوّة. و أصله: أن تفعل الخيرات، ثم فعلا الخيرات، ثمّ فعل الخيرات. و كذلك قوله: وَ إِقامَ الصَّلاةِ وَ إِيتاءَ الزَّكاةِ. و هو من عطف الخاصّ على العامّ، للتفضيل. و حذفت تاء الإقامة المعوّضة من إحدى الألفين، لقيام المضاف إليه مقامها.

وَ كانُوا لَنا عابِدِينَ موحّدين مخلصين في العبادة. و لذلك قدّم الصلة.

[سورة الأنبياء (21): الآيات 74 الى 75]

وَ لُوطاً آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ (74) وَ أَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (75)

وَ لُوطاً منصوب بفعل يفسّره قوله: آتَيْناهُ حُكْماً حكمة، أو نبوّة، أو فصلا بين الخصوم وَ عِلْماً بما ينبغي علمه للأنبياء.

وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْقَرْيَةِ قرية سدوم، من أعظم القرى بالمؤتفكة الَّتِي كانَتْ تَعْمَلُ الْخَبائِثَ يعني: اللواط، و التضارط في أنديتهم، و قطع الطريق، و غير ذلك من القبائح. و أراد بالقرية أهلها، فوصفها بصفة أهلها، أو أسندها إليها على حذف المضاف و إقامتها مقامه. و يدلّ عليه قوله: إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فاسِقِينَ خارجين عن طاعة اللّه تعالى. و هو كالتعليل لقوله: «تَعْمَلُ الْخَبائِثَ».

وَ أَدْخَلْناهُ فِي رَحْمَتِنا في أهل رحمتنا و نعمتنا. أو في جنّتنا. و منه

الحديث:

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 340

«هذه- يعني: الجنّة- رحمتي أرحم بها من أشاء».

إِنَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ الّذين سبقت لهم منّا الحسنى، أي: بسبب أنّه من الصالحين الّذين أصلحوا أفعالهم، فعملوا بما هو الحسن منها دون القبيح. و قيل: أراد أنّه من النبيّين.

[سورة الأنبياء (21): الآيات 76 الى 77]

وَ نُوحاً إِذْ نادى مِنْ قَبْلُ فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَنَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَ نَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (77)

ثمّ عطف سبحانه قصّة نوح و داود على قصّة إبراهيم، لما بينهما من الشبه في تحمّل المشاقّ العظيمة و الأذى الكثيرة من الأمّة، فقال: وَ نُوحاً إِذْ نادى إذ دعى اللّه على قومه فقال: رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً «1» مِنْ قَبْلُ من قبل هؤلاء المذكورين فَاسْتَجَبْنا لَهُ دعاءه فَنَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ الغمّ الشديد الّذي يصل حرّه

إلى القلب و يقلقه. و هو الطوفان، أو أذى قومه.

وَ نَصَرْناهُ مِنَ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا من: نصرته فانتصر، بمعنى: منعته فامتنع. فهو من النصر الّذي يطاوعه الانتصار، لا من النصر الذي بمعنى الإعانة، لأنّ «من» آبية عنه. يقال: اللّهمّ انصرني منه، أي: اجعلني منتصرا منه. فالمعنى: جعلناه منتصرا منهم. و عن أبي عبيدة: «من» بمعنى «على». فعلى هذا يكون المعنى: أعنّاه عليهم، بأن نغلبه و نسلّطه عليهم بعد أن كان مغلوبا في أيديهم.

إِنَّهُمْ كانُوا قَوْمَ سَوْءٍ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ لاجتماع الأمرين: تكذيب الحقّ، و الانهماك في الشرّ فيهم، فإنّهما لم يجتمعا في قوم إلّا و أهلكهم اللّه.

______________________________

(1) نوح: 26.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 341

[سورة الأنبياء (21): الآيات 78 الى 82]

وَ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ إِذْ يَحْكُمانِ فِي الْحَرْثِ إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ وَ كُنَّا لِحُكْمِهِمْ شاهِدِينَ (78) فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ وَ كُلاًّ آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً وَ سَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ وَ الطَّيْرَ وَ كُنَّا فاعِلِينَ (79) وَ عَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ لَكُمْ لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ (80) وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً تَجْرِي بِأَمْرِهِ إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها وَ كُنَّا بِكُلِّ شَيْ ءٍ عالِمِينَ (81) وَ مِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ وَ يَعْمَلُونَ عَمَلاً دُونَ ذلِكَ وَ كُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ (82)

ثمّ عطف على قصّة نوح عليه السّلام، قصّة داود و سليمان. و وجه تخصيصهما بالذكر بعد قصّته: مزيّة علوّ رتبتهما دينا و دنيا على أنبياء بني إسرائيل، و تنبيه نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على أنّهما مع كونهما ملكين عظيمين، لا يمنع ملكهما و حشمتهما عن تبليغ الأحكام الشرعيّة و سائر وظائف العبوديّة، فينبغي أن يكون اهتمامك في أداء وظائف العبادة و تبليغ الرسالة أبلغ منهما، لقلّة

سعيك بالأمور الدينيّة، فقال:

وَ داوُدَ وَ سُلَيْمانَ أي: اذكرهما إِذْ يَحْكُمانِ و هو بدل منهما، أي: و اذكر حين يحكم داود و سليمان فِي الْحَرْثِ في الزرع. و قيل: في كرم تدلّت عناقيده. إِذْ نَفَشَتْ فِيهِ غَنَمُ الْقَوْمِ حين رعته ليلا. يقال: نفشت الغنم و الإبل، تنفش نفشا، إذا رعت ليلا بلا راع، فلا يكون النفش إلّا بالليل. وَ كُنَّا لِحُكْمِهِمْ لحكم الحاكمين و المتحاكمين إليهما شاهِدِينَ عالمين، لم يغب عنّا منه شي ء.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 342

فَفَهَّمْناها سُلَيْمانَ الضمير للحكومة أو الفتوى.

روي أنّ داود حكم بالغنم لصاحب الحرث. فقال سليمان- و هو ابن إحدى عشرة سنة-: غير هذا يا نبيّ اللّه أرفق بالفريقين.

قال: و ما ذاك؟

قال: تدفع الغنم إلى صاحب الزرع، فينتفع بألبانها و أولادها و أشعارها، و الحرث إلى صاحب الغنم، فيقوم عليه حتّى يعود كهيئة يوم أفسد، ثمّ يترادّان.

فقال داود: القضاء ما قضيت، و أمضى الحكم بذلك.

و الصحيح أنّهما جميعا حكما بالوحي، إلّا أنّ حكومة سليمان نسخت حكومة داود، لأنّ الأنبياء لا يجوز أن يحكموا بالظنّ و الاجتهاد و لهم طريق إلى العلم.

و في قوله: وَ كُلًّا آتَيْنا حُكْماً وَ عِلْماً دليل على أنّ كليهما كانا مصيبين، و يبطل قول البلخي و أضرابه من العامّة أنّه يجوز أن يكون ذلك الحكم عن اجتهاد.

و تنقيح المبحث: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا كان يوحى إليه، و له طريق إلى العلم بالحكم، فلا يجوز أن يحكم بالظنّ. على أنّ الحكم بالظنّ و الاجتهاد و القياس، قد بيّن أصحابنا في كتبهم أنّه لم يتعبّد بها في الشرع إلّا في مواضع مخصوصة. و لأنّه لو جاز للنبيّ أن يجتهد، لجاز لغيره أن يخالفه،

كما يجوز للمجتهدين أن يختلفا، و مخالفة الأنبياء عليهم السّلام تكون كفرا.

هذا و قد قال اللّه سبحانه: وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى إِنْ هُوَ إِلَّا وَحْيٌ يُوحى «1». فأخبر سبحانه أنّه إنّما ينطق عن جهة الوحي.

إن قلت: لم لا يجوز الاجتهاد للنبيّ إذا حضرت الواقعة و فقد الوحي، و كان تأخير الحكم ضررا؟ و حينئذ لا يلزم العمل بالظنّ مع إمكان العلم، إذ الفرض عدمه.

قلت: إنّ الحكم حينئذ ليس باجتهاد، لدلالة الوحي على نفي الضرر، فيكون حكما بالنصّ النوعي.

______________________________

(1) النجم: 3- 4.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 343

و اعلم أنّ حكم هذه المسألة في شرعنا ضمان مالك الماشية مع التفريط لا بدونه، تمسّكا بالروايات المأثورة عن أئمّتنا عليهم السّلام.

و قال بعض أصحابنا و الشافعي، يضمن ليلا لا نهارا، تمسّكا بقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين دخلت ناقة البراء حائطا فأفسدته:

«على أهل الأموال حفظها بالنهار، و على أهل الماشية حفظها بالليل».

و عند أبي حنيفة: لا ضمان إلّا أن يكون معها حافظ،

لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «جرح العجماء جبار «1»».

وَ سَخَّرْنا مَعَ داوُدَ الْجِبالَ يُسَبِّحْنَ يقدّسن اللّه معه، بأن يخلق اللّه فيها الكلام كما خلقه في الشجرة حين كلّم موسى. و هو حال بمعنى مسبّحات. أو استئناف لبيان وجه التسخير، كأنّ قائلا يقول: كيف سخّرهنّ؟ فقال: يسبّحن. و «مع» متعلّقة به، أو ب «سخّرنا».

و قيل: معنى التسبيح السير، يعني: يسرن معه حيث شاء. من السباحة.

و قيل: معناه: يسبّح من رآها تسير بتسيير اللّه عزّ و جلّ. فلمّا حملت على التسبيح و صفت به.

وَ الطَّيْرَ عطف على الجبال، أو مفعول معه. و قدّم الجبال على الطير، لأنّ تسخيرها و تسبيحها أعجب و أدلّ على

القدرة، و أدخل في الإعجاز، لأنّها جماد، و الطير حيوان، إلّا أنّه غير ناطق.

و روي: أنّه كان يمرّ بالجبال مسبّحا و هي تجاوبه. و كذلك الطير يسبّح معه بالغداة و العشيّ معجزة له.

وَ كُنَّا فاعِلِينَ لأمثاله، فليس ببدع منّا، و إن كان عجبا عندكم.

وَ عَلَّمْناهُ صَنْعَةَ لَبُوسٍ عمل الدرع. و هو في الأصل اللباس. قال:

______________________________

(1) العجماء: البهيمة. و الجبار: الهدر. أي: جرح البهيمة هدر، لأنّها لا تقاصّ بما فعلت.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 344 البس لكلّ حالة لبوسهاإمّا نعيمها و إمّا بوسها

قال قتادة: أوّل من صنع الدروع داود، و إنّما كانت صفائح، جعل اللّه سبحانه الحديد في يده كالعجين، فهو أوّل من سردها «1» و حلقها، فجمعت الخفّة و التحصين.

لَكُمْ متعلّق ب «علّم». أو صفة للبوس. لِتُحْصِنَكُمْ مِنْ بَأْسِكُمْ ليحرزكم و يمنعكم من وقع السلاح. و قيل للسلاح: بأسكم. و قيل: معناه: من حربكم، أي: في حالة الحرب و القتال، فإنّ البأس في اللغة هو شدّة القتال. و هذا بدل من «لكم» بدل الاشتمال، بإعادة الجارّ. و الضمير لداود، أو للبوس.

و قرأ ابن عامر و حفص بالتاء للصنعة، أو للبوس على تأويل الدرع. و في قراءة أبي بكر و رويس بالنون للّه عزّ و جلّ.

فَهَلْ أَنْتُمْ شاكِرُونَ ذلك أمر أخرجه في صورة الاستفهام للمبالغة و التقريع.

روي: أنّ سبب إلانة الحديد لداود عليه السّلام أنّه كان نبيّا ملكا، و كان يطوف في ولايته متنكّرا يتعرّف أحوال عمّاله و متصرّفيه، ليدفع المنكر إن صدر منهم. فاستقبله جبرئيل عليه السّلام ذات يوم على صورة آدميّ، فسلّم عليه. فردّ السلام، و قال: ما سيرة داود؟

فقال: نعمت السيرة لو لا خصلة فيه.

قال: و ما هي؟

فقال: إنّه يأكل من بيت مال

المسلمين.

فتنكّره و أثنى عليه، و قال: لقد أقسم داود إنّه لا يأكل من بيت مال المسلمين.

فعلم اللّه سبحانه صدقه، فألان له الحديد، كما قال: وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ «2».

و

روي: أنّ لقمان الحكيم حضره فرآه يفعل ذلك، فصبر و لم يسأله حتّى فرغ من ذلك، فقام و لبس و قال: نعمت الجنّة للحرب. فقال لقمان: الصمت حكمة، و قليل فاعله.

______________________________

(1) سرد الدرع: نسجها. و يقال لصانع الدرع: سرّاد.

(2) سبأ: 10.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 345

وَ لِسُلَيْمانَ عطف على «مَعَ داوُدَ الْجِبالَ». و يحتمل أن يكون اللام فيه دون الأوّل، لأنّ الخارق فيه عائد إلى سليمان نافع له، و في الأوّل أمر يظهر في الجبال و الطير مع داود و بالإضافة إليه الرِّيحَ عاصِفَةً شديدة الهبوب، من حيث إنّها مرّت بكرسيّه و أبعدت به في مدّة يسيرة، كما قال تعالى: غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ «1». فكانت عاصفة في عملها، مع طاعتها لسليمان، رخاء في نفسها، طيّبة كالنسيم.

و قال ابن عبّاس: كانت رخاء في وقت، و عاصفة في وقت آخر، حسب إرادته.

و ذلك قوله: رُخاءً حَيْثُ أَصابَ «2».

تَجْرِي بِأَمْرِهِ بمشيئته. حال ثانية، أو بدل من الأولى، أو حال من ضميرها.

إِلى الْأَرْضِ الَّتِي بارَكْنا فِيها إلى الشام رواحا بعد ما سارت به منه بكرة وَ كُنَّا بِكُلِّ شَيْ ءٍ عالِمِينَ فنجري الأشياء كلّها على ما تقتضيه حكمتنا و علمنا. فإنّما أعطيناه ما أعطيناه، لما علمناه من المصلحة.

قال وهب: و كان سليمان يخرج إلى مجلسه، فتعكف عليه الطير، و يقوم له الإنس و الجنّ، حتّى يجلس على سريره، و يجتمع معه جنوده، ثمّ تحمله الريح إلى حيث أراد.

وَ مِنَ الشَّياطِينِ مَنْ يَغُوصُونَ لَهُ في البحار، و يستخرجون جواهرها النفيسة. و الغوص

هو النزول إلى تحت الماء. و «من» عطف على الريح. أو مبتدأ خبره ما قبله. و هي نكرة موصوفة.

وَ يَعْمَلُونَ عَمَلًا دُونَ ذلِكَ سواه، أي: يتجاوزون ذلك إلى أعمال أخر، كبناء المدن و القصور، و اختراع الصنائع الغريبة، كقوله:

______________________________

(1) سبأ: 12.

(2) ص: 36.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 346

يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَ تَماثِيلَ «1».

وَ كُنَّا لَهُمْ حافِظِينَ أن يزيغوا عن أمره، أو يفسدوا فيما هم مسخّرون فيه، على ما هو مقتضى جبلّتهم، أو يهربوا منه و يمتنعوا عليه.

[سورة الأنبياء (21): الآيات 83 الى 84]

وَ أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ (83) فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ وَ آتَيْناهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنْ عِنْدِنا وَ ذِكْرى لِلْعابِدِينَ (84)

ثمّ عطف قصّة أيّوب على القصص السابقة، و بيّن فيها شدّة ابتلائه، تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في احتمال شدّة المتاعب، فقال: وَ أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أي: اذكر يا محمّد أيّوب حين دعا ربّه لمّا امتدّت المحنة به أَنِّي مَسَّنِيَ الضُّرُّ بأنّي نالني الضرّ، و أصابني الجهد. و الضرّ بالضمّ خاصّ بما في النفس، كمرض و هزال، و بالفتح شائع في كلّ ضرر.

وَ أَنْتَ أَرْحَمُ الرَّاحِمِينَ أي: و لا أحد أرحم منك. وصف ربّه بغاية الرحمة، بعد ما ذكر نفسه بما يوجبها. و اكتفى بذلك التعريض عن التصريح بالمطلوب- الّذي هو إزالة ما به من البلاء- لطفا في السؤال.

و كان روميّا من ولد عيص بن إسحاق بن يعقوب، استنباه اللّه، و كثر أهله و ماله.

و كان له سبعة بنين، و سبع بنات، و له أصناف البهائم، و خمسمائة فدان «2»، يتبعها خمسمائة عبد، لكلّ عبد امرأة و ولد و

نخيل. فابتلاه اللّه بهلاك أولاده، بأن انهدم عليهم البيت فهلكوا، و بذهاب أمواله، و بالمرض في بدنه ثماني عشرة سنة. و عن قتادة: ثلاث

______________________________

(1) سبأ: 13.

(2) في هامش النسخة الخطّية: «الفدان: البقر مع آلاته للحرث. و الفدادين جمعه. منه».

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 347

عشرة سنة. و عن مقاتل: سبعا و سبعة أشهر و سبع ساعات.

و روي: أنّ امرأته ماخير بنت ميشا بن يوسف، أو رحمة بنت افرائيم بن يوسف، قالت له يوما: لو دعوت اللّه؟ فقال لها: كم كانت مدّة الرخاء؟ فقالت: ثمانين سنة، فقال:

أنا أستحي من اللّه أن أدعوه، و ما بلغت مدّة بلائي مدّة رخائي.

فَاسْتَجَبْنا لَهُ فَكَشَفْنا ما بِهِ مِنْ ضُرٍّ أزلنا ما به من الأوجاع و الأمراض، و نشفيه منها، لينقطعوا إلينا، و يتوكّلوا علينا في حالة الشدّة وَ آتَيْناهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ بأن ولد له ضعف ما كان. و روي: أنّ اللّه تعالى أحيا ولده، و رزقه مثلهم، و نوافل منهم. و روي: أنّ امرأته ولدت بعد ذلك ستّة و عشرين ابنا.

و

عن ابن عبّاس و ابن مسعود: ردّ اللّه سبحانه أهله بأعيانهم و أشخاصهم، و أعطاه مثلهم معهم. و كذلك ردّ اللّه عليه أمواله و مواشيه بأعيانها، و أعطاه مثلها معها. و به قال الحسن و قتادة. و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

رَحْمَةً على أيّوب مِنْ عِنْدِنا وَ ذِكْرى لِلْعابِدِينَ و تذكرة له و لغيره من العابدين، ليصبروا كما صبر، فيثابوا كما أثيب في الدارين. أو لرحمتنا للعابدين، و ذكرنا إيّاهم بالإحسان.

[سورة الأنبياء (21): الآيات 85 الى 86]

وَ إِسْماعِيلَ وَ إِدْرِيسَ وَ ذَا الْكِفْلِ كُلٌّ مِنَ الصَّابِرِينَ (85) وَ أَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ (86)

ثمّ ذكر غيرهم من الأنبياء الصابرين على

مشاقّ التكاليف و حسن عواقبهم ببركة صبرهم، فقال: وَ إِسْماعِيلَ وَ إِدْرِيسَ وَ ذَا الْكِفْلِ يعني: إلياس. و قيل:

يوشع بن نون.

رواه ابن بابويه عن الرضا عليه السّلام في كتاب عيون أخبار الرضا عليه السّلام.

و قيل: زكريّا.

سمّي به لأنّه كان ذا حظّ من اللّه. و قيل: كفل مائة نبيّا، أي: ضمّهم إلى نفسه حتّى نجّاهم من القتل، أو تكفّل مريم. و قيل: لأنّه كان له ضعف عمل أنبياء زمانه، و ضعف

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 348

ثوابهم. و الكفل يجي ء بمعنى النصيب و الكفالة و الضعف.

و روي: خمسة من الأنبياء ذوو اسمين: إسرائيل و يعقوب، إلياس و ذو الكفل، عيسى و المسيح، يونس و ذو النون، محمّد و أحمد، صلوات اللّه و سلامه عليهم أجمعين.

و قيل: إنّ ذا الكفل نبيّ كان بعد سليمان، و كان يقضي بين الناس كقضاء داود، و لم يغضب قطّ إلّا للّه عزّ و جلّ.

و قيل: هو اليسع بن خطوب الّذي كان مع إلياس، تكفّل لملك جبّار إن هو تاب دخل الجنّة، و دفع إليه كتابا بذلك. فتاب الملك، و كان اسمه كنعان، فسمّي ذا الكفل.

و عن مجاهد: أوحى اللّه إلى اليسع أنّي أريد قبض روحك، فأعرض ملكك على بني إسرائيل، فمن يكفل لك أن يصلّي بالليل و لا يفتر، و يصوم بالنهار و لا يفطر، و يقضي بين الناس و لا يغضب، فادفع ملكك إليه، ففعل ذلك. فقام شابّ فقال: أنا أتكفّل لك هذا، فتكفّل و وفى به. فشكر اللّه ذلك له و أثنى عليه. و لذلك سمّي ذا الكفل. و العلم عند اللّه.

كُلٌ أي: كلّ هؤلاء مِنَ الصَّابِرِينَ على التكاليف الشاقّة و النوائب الشديدة.

وَ أَدْخَلْناهُمْ فِي رَحْمَتِنا أي: غمرناهم بالرحمة. و

هي نعمة الآخرة. فلو قال:

رحمناهم لما أفاد ذلك، بل أفاد أنّه فعل بهم الرحمة. و قيل: المراد بالرحمة النبوّة. إِنَّهُمْ مِنَ الصَّالِحِينَ الكاملين في الصلاح. و هم الأنبياء، فإنّ صلاحهم معصوم عن كدر الفساد.

[سورة الأنبياء (21): الآيات 87 الى 88]

وَ ذَا النُّونِ إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ فَنادى فِي الظُّلُماتِ أَنْ لا إِلهَ إِلاَّ أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ (87) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِّ وَ كَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ (88)

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 349

و بعد ذكر الأنبياء الصابرين على البلاء، بيّن قصّة يونس، و ترك ندبه الّذي هو عدم ثباته على الصبر، تنبيها للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على الإقدام بفعل الذنب، لئلّا يعاتب كما عوتب يونس، فقال:

وَ ذَا النُّونِ و اذكر يا محمّد صاحب الحوت يونس بن متّى إِذْ ذَهَبَ مُغاضِباً لقومه، لمّا برم «1» بقومه، لطول ما ذكّرهم فلم يذكروا، لفرط عنادهم، و شدّة شكيمتهم، فهاجر عنهم قبل أن يؤمر.

و قيل: و عدهم بالعذاب، فلم يأتهم لميعادهم بتوبتهم، و لم يعرف الحال، فظنّ أنّه كذبهم، و غضب من ذلك. و المغاضبة من بناء المغالبة للمبالغة، أو لأنّه أغضبهم بالمهاجرة، لخوفهم لحوق العذاب عندها.

فَظَنَّ أَنْ لَنْ نَقْدِرَ عَلَيْهِ لن نضيّق عليه، من القدر بسكون الدال. أو لن نقضي عليه بالابتلاء، من القدر بمعنى القضاء. أو لن نعمل فيه قدرتنا.

و قيل: هو من باب التمثيل. بمعنى: كانت حاله ممثّلة بحال من ظنّ أن لن نقدر عليه في مراغمته قومه، من غير انتظار لأمرنا. و ذلك لحسبانه أنّ ذلك يسوغ له، حيث لم يفعله إلّا غضبا للّه، و أنفة لدينه، و بغضا للكفر و أهله. و لكن كان الأولى به أن يصابر، و

ينتظر الإذن من اللّه في المهاجرة عنهم، فابتلي ببطن الحوت.

و من قال: إنّه خرج مغاضبا لربّه، و أنّه ظنّ أن لن يقدر اللّه على أخذه، بمعنى أنّه يعجز عنه، فقد أسند الكفر إلى الأنبياء و العياذ باللّه، فإنّ مغاضبة اللّه كفر أو كبيرة عظيمة، و تجويز العجز على اللّه سبحانه أيضا كذلك. تعالى عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا، و تبرّأ أنبياؤه عن هذه المظنّة الفاسدة.

و عن ابن عبّاس: أنّه دخل على معاوية، فقال له: لقد ضربتني أمواج القرآن البارحة فغرقت فيها، فلم أجد لنفسي خلاصا إلّا بك. قال: و ما هي يا معاوية؟ فقرأ هذه

______________________________

(1) أي: سئم و ضجر.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 350

زبدة التفاسير ج 4 399

الآية. و قال: أ يظنّ نبيّ اللّه أن لا يقدر عليه؟ قال: هذا من القدر، لا من القدرة. يعني: أن لن نضيّق عليه، كما في قوله: وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ «1».

و روي: أنّه أتى ببحر الروم، و إذا سفينة محشوّة، فركب فيها حتّى إذا توسّطت الماء ركدت لا تتقدّم و لا تتأخّر. فقال أهل السفينة: إنّ لسفينتنا شأنا.

قال يونس: قد عرفت شأنها.

قالوا له: و ما شأنها؟

قال: ركبها رجل ذو خطيئة عظيمة.

قالوا: و من هو؟

قال: لأنا، فاقذفوني من سفينتكم في البحر.

قالوا: ما نطرحك من بيننا حتّى نعذر في شأنك.

فقال لهم: فاستهموا حتّى تنظروا إلى من يقع عليه السهم.

فاقترعوا، فادحض «2» سهم يونس. ففعلوا ذلك مرارا، و خرجت القرعة عليه في كلّ مرّة. فألقى نفسه في البحر، فإذا حوت فاغر فاه «3» فالتقمه.

فَنادى فِي الظُّلُماتِ في الظلمة الشديدة المتكاثفة في بطن الحوت. و قيل:

ظلمات ثلاث: بطن الحوت، و البحر، و الليل. كذا قاله ابن عبّاس. و قيل: ابتلع

حوته حوت آخر أكبر منه، فحصل في ظلمتي بطني الحوتين.

أَنْ لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ بأنّه لا إله إلّا أنت. أو بمعنى «أي» التفسيريّة. سُبْحانَكَ أن يعجزك شي ء إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ لنفسي بالمبادرة إلى المهاجرة قبل أن تأذن لي.

______________________________

(1) الطلاق: 7.

(2) أي: أزلق، من: أدحض الرجل: أزلقها.

(3) أي: فاتح.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 351

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما من مكروب يدعو بهذا الدعاء إلّا استجيب له،

لقوله تعالى عقيب ذلك: فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ نَجَّيْناهُ مِنَ الْغَمِ بأن قذفه الحوت إلى الساحل بعد أربع ساعات كان في بطنه. و قيل: ثلاثة أيّام. و قيل: أربعين يوما. و بقاؤه في بطن الحوت في هذه المدّة معجزة له. و الغمّ غمّ الالتقام. و قيل: غمّ ترك الندب.

وَ كَذلِكَ نُنْجِي الْمُؤْمِنِينَ من الغموم إذا دعونا بالإخلاص، كما أنجينا ذا النون.

[سورة الأنبياء (21): الآيات 89 الى 90]

وَ زَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وَ أَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ (89) فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ وَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَ أَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ إِنَّهُمْ كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَ يَدْعُونَنا رَغَباً وَ رَهَباً وَ كانُوا لَنا خاشِعِينَ (90)

ثمّ قصّ على الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قصّة زكريّا، و انقطاعه إلى اللّه عمّا سواه، فقال:

وَ زَكَرِيَّا إِذْ نادى رَبَّهُ رَبِّ لا تَذَرْنِي فَرْداً وحيدا بلا ولد يرثني وَ أَنْتَ خَيْرُ الْوارِثِينَ أي: إن لم ترزقني من يرثني فلا أبالي، فإنّك خير وارث.

فَاسْتَجَبْنا لَهُ وَ وَهَبْنا لَهُ يَحْيى وَ أَصْلَحْنا لَهُ زَوْجَهُ أي: أصلحناها للولادة بعد عقرها. أو لزكريّا بتحسين خلقها، و كانت سيّئة الخلق.

إِنَّهُمْ يعني: الأنبياء المذكورين كانُوا يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ يبادرون إلى أبواب الخير وَ يَدْعُونَنا رَغَباً ذوي رغب. أو راغبين في

الثواب، راجين للإجابة.

أو في الطاعة. أو يرغبون رغبا. وَ رَهَباً ذوي رهب. أو راهبين. أو يرهبون رهبا من العقاب أو المعصية.

وَ كانُوا لَنا خاشِعِينَ ذللا لأمر اللّه. و عن ابن عبّاس: متواضعين. و عن مجاهد: الخشوع: الخوف الدائم في القلب. يعني: دائمي الوجل. و معنى الآية: إنّهم نالوا

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 352

من اللّه ما نالوا بهذه الخصال.

و في الآية دلالة على أنّ المسارعة إلى كلّ طاعة مرغّب فيها، و على أن الصلاة في أوّل الوقت أفضل.

[سورة الأنبياء (21): الآيات 91 الى 92]

وَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيها مِنْ رُوحِنا وَ جَعَلْناها وَ ابْنَها آيَةً لِلْعالَمِينَ (91) إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاعْبُدُونِ (92)

و لمّا كان عيسى و أمّه متأخّرين عن الأنبياء السابقة بالزمان، قال بعد ذكر قصصهم: وَ الَّتِي أي: اذكرها. و هي مريم بنت عمران. أَحْصَنَتْ فَرْجَها إحصانا كلّيّا من الحلال و الحرام جميعا، كما قالت: وَ لَمْ يَمْسَسْنِي بَشَرٌ وَ لَمْ أَكُ بَغِيًّا «1».

فَنَفَخْنا فِيها أي: نفخنا الروح في عيسى فيها، أي: أحييناه في جوفها. و نحو ذلك أن يقول الزمّار: نفخت في بيت فلان، أي: نفخت في المزمار في بيته. فالنفخ بمعنى الإحياء، كما في قوله: وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي «2» أي: أحييته. أو معناه: فعلنا النفخ فيها.

مِنْ رُوحِنا أي: أجرينا فيها روح المسيح، كما يجري الهواء بالنفخ. و إضافة الروح إلى نفسه على وجه الملك، أي: من الروح الّذي هو بأمرنا. أو المعنى: من جهة روحنا، و هو جبرئيل، يعني: أمرنا جبرئيل فنفخ في جيب درعها فوصل النفخ إلى جوفها.

وَ جَعَلْناها وَ ابْنَها أي: قصّتهما. أو حالهما. و لذلك وحّد قوله: آيَةً لِلْعالَمِينَ و هي ولادتها إيّاه من غير فحل، و تكلّمه

في المهد بما يوجب براءة ساحتها من العيب، فإنّ من تأمّل حالهما تحقّق كمال قدرة الصانع تعالى.

______________________________

(1) مريم: 20.

(2) الحجر: 29.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 353

إِنَّ هذِهِ أي: ملّة الإسلام الّتي جميع الأنبياء المذكورين عليها أُمَّتُكُمْ أي:

ملّتكم الّتي يجب عليكم أن تكونوا عليها. و الخطاب للناس كافّة. أُمَّةً واحِدَةً ملّة واحدة، غير مختلفة فيما بين الأنبياء، و لا مشاركة لغيرها في صحّة الاتّباع. و أصل الأمّة الجماعة الّتي على مقصد واحد. فجعلت الشريعة أمّة لاجتماعهم بها على مقصد واحد.

وَ أَنَا رَبُّكُمْ الّذي خلقكم، لا إله لكم غيري فَاعْبُدُونِ لا غير.

[سورة الأنبياء (21): الآيات 93 الى 94]

وَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ كُلٌّ إِلَيْنا راجِعُونَ (93) فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَلا كُفْرانَ لِسَعْيِهِ وَ إِنَّا لَهُ كاتِبُونَ (94)

ثمّ ذكر حال اليهود و النصارى بالاختلاف، فالتفت من الخطاب إلى الغيبة لينعى عليهم تفرّقهم في دينهم إلى المؤمنين، و يقبّح عندهم فعلهم، فقال: وَ تَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ أي: جعلوا أمر دينهم قطعا موزّعة بقبيح فعلهم.

و المعنى: ألا ترون أيّها المؤمنون إلى عظيم ما ارتكب هؤلاء في دين اللّه، و هو أنّهم جعلوا أمر دينهم فيما بينهم قطعا كما يتوزّع الجماعة الشي ء و يقسّمونه، فيصير لهذا نصيب و لذاك نصيب، تمثيلا لاختلافهم فيه و صيرورتهم فرقا و أحزابا شتّى، متبرّأ بعضهم من بعض، بالشي ء المتوزّع.

ثم توعّدهم بقوله: كُلٌ من الفرق المتحزّبة إِلَيْنا الى حكمنا في وقت لا يقدر على الحكم سوانا راجِعُونَ فنجازيهم بأعمالهم.

فَمَنْ يَعْمَلْ مِنَ الصَّالِحاتِ شيئا، مثل صلة الرحم، و معونة الضعيف، و نصر المظلوم، و التنفيس عن المكروب، و غير ذلك من أنواع الطاعات وَ هُوَ مُؤْمِنٌ باللّه و رسله، لأن هذه الأشياء لو فعلها الكافر لم ينتفع بها عند اللّه،

فهذا لقطع طمع الكفّار الثواب لهذه المذكورات فَلا كُفْرانَ فلا تضييع لِسَعْيِهِ استعير الكفران لمنع الثواب، كما استعير الشكر لإعطائه إذا قيل: إنّ اللّه شكور. و نفى نفي الجنس ليكون أبلغ

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 354

من أن يقول: فلا نكفر سعيه. وَ إِنَّا لَهُ لسعيه كاتِبُونَ مثبتون في صحيفة عمله، بأن نأمر ملائكتنا أن يكتبوا ذلك و يثبتوه، و ما نحن مثبتوه فهو غير ضائع، و يثاب عليه صاحبه.

[سورة الأنبياء (21): الآيات 95 الى 97]

وَ حَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ (95) حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَ مَأْجُوجُ وَ هُمْ مِنْ كُلِّ حَدَبٍ يَنْسِلُونَ (96) وَ اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُّ فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ (97)

ثم هدّد كفّار مكّة بأنّهم إن عذّبوا و أهلكوا، لم يرجعوا إلى الدنيا لجبران ما فات منهم من الإيمان و العمل الصالح، كغيرهم من الأمم المهلكة السابقة، فقال: وَ حَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أي: ممتنع على أهلها غير متصوّر منهم. فاستعير الحرام للممتنع وجوده.

و منه قوله عزّ و جلّ: إِنَّ اللَّهَ حَرَّمَهُما عَلَى الْكافِرِينَ «1» أي: منعهما منهم، و أبى أن يكونا لهم.

و قرأ أبو بكر و حمزة و الكسائي: و حرم، بكسر الحاء و سكون الراء. و هما لغتان، كحلال و حلّ.

أَهْلَكْناها حكمنا بإهلاكها، أو وجدناها هالكة بالعقوبة أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ «لا» مؤكّدة لمعنى الامتناع، و الجملة الاسميّة مرفوع المحلّ بالابتداء، و «حرام» خبره، أو بأنّه فاعل له سادّ مسدّ خبره. و المعنى: ممتنع عليهم البتّة رجوعهم إلى الدنيا للتوبة عن الكفر و المعاصي، و كسب الايمان و العمل الصالح.

______________________________

(1) الأعراف: 50.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 355

روى محمّد بن مسلم عن أبي جعفر عليه

السّلام أنّه قال: «كلّ قرية أهلكهم اللّه بعذاب فإنّهم لا يرجعون».

يعني: أنّ قوما عزم اللّه على إهلاكهم غير متصوّر أن يرجعوا و ينيبوا، إلى أن تقوم القيامة، فحينئذ يبعثون و يقولون: يا وَيْلَنا قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ «1».

و قيل: «لا» غير مزيدة. و المعنى: ممتنع عليهم أنّهم لا يرجعون إلى الجزاء في الآخرة. و يجوز أن يكون التقدير: و حرام عليها ذلك المذكور في الآية المتقدّمة من السعي المشكور غير المكفور، لأنّهم لا يرجعون عن الكفر. و حينئذ «حرام» مسند بضميره، و «أنّهم» مقدّر بحرف الجرّ لتعليل الحرام.

و قوله: حَتَّى إِذا فُتِحَتْ يَأْجُوجُ وَ مَأْجُوجُ متعلّق ب «حرام». أو بمحذوف دلّ عليه الكلام. أو ب «لا يرجعون» أي: يستمرّ الامتناع أو الهلاك أو عدم الرجوع إلى أن فتحت يأجوج و مأجوج، أي: سدّهما بحذف المضاف. يعني: إلى ظهور أمارة قيام الساعة، و هو فتح سدّهما. و هما قبيلتان من الإنس. روي: أنّ الناس عشرة أجزاء: تسعة منها يأجوج و مأجوج. و «حتّى» هي التي يحكى الكلام بعدها، و المحكيّ هي الجملة الشرطيّة. و قرأ ابن عامر و يعقوب: فتّحت بالتشديد.

وَ هُمْ يعني: يأجوج و مأجوج مِنْ كُلِّ حَدَبٍ مكان مرتفع من الأرض يَنْسِلُونَ يسرعون. من نسلان «2» الذئب. يعني: أنّهم يتفرّقون في الأرض، فلا ترى أمكنة إلّا و قوم منهم يصعدون منها مسرعين. و عن مجاهد: الضمير للناس كلّهم. يعني:

يخرجون كلّهم من قبورهم إلى الحشر.

وَ اقْتَرَبَ الْوَعْدُ الْحَقُ و هو القيامة فَإِذا هِيَ شاخِصَةٌ أَبْصارُ الَّذِينَ كَفَرُوا جواب الشرط. و «إذا» للمفاجأة، تسدّ مسدّ الفاء الجزائيّة، كقوله تعالى:

______________________________

(1) الأنبياء: 97.

(2) نسل في مشيه نسلانا: أسرع.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 356

إِذا هُمْ

يَقْنَطُونَ «1». فإذا جاءت الفاء معها تعاونتا على وصل الجزاء بالشرط، فيتأكّد. و لو قيل: إذا هي شاخصة، أو فهي شاخصة، كان سديدا. و الضمير للقصّة، أو مبهم يفسّره الأبصار.

يا وَيْلَنا أي: يقولون هذه الكلمة. و هو واقع موقع الحال من الموصول، تقديره: قائلين يا ويلنا. قَدْ كُنَّا فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا أي: غفلنا عن هذا اليوم و صحّة وقوعه، لاشتغالنا بأمور الدّنيا بَلْ كُنَّا ظالِمِينَ لأنفسنا بالإخلال بالنظر و التفكّر فيه.

[سورة الأنبياء (21): الآيات 98 الى 100]

إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ (98) لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً ما وَرَدُوها وَ كُلٌّ فِيها خالِدُونَ (99) لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ وَ هُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ (100)

ثمّ هدّد سبحانه مشركي مكّة، فقال خاطبا لهم: إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني: الأوثان حَصَبُ جَهَنَّمَ ما يحصب به، أي: ما يرمى به إليها و تهيج به. من:

حصبه يحصبه إذا رماه بالحصباء.

و يحتمل أن يراد بقوله: «مِنْ دُونِ اللَّهِ» الأصنام و إبليس و أعوانه، لأنّهم بطاعتهم لهم و اتّباعهم خطواتهم في حكم عبدتهم. و يصدّقه ما

روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دخل المسجد و صناديد قريش في الحطيم، و حول الكعبة ثلاثمائة و ستّون صنما، فجلس إليهم، فعرض له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم النظر بن الحارث، فكلّمه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى أسكته، ثمّ تلا عليهم إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ الآية.

فأقبل عبد اللّه بن الزبعرى فرآهم يتسارّون. فقال: فيم خوضكم؟ فأخبره الوليد بن

______________________________

(1) الروم: 36. زبدة التفاسير، ج 4، ص: 357

المغيرة بقول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فقال

عبد اللّه: أما و اللّه لو وجدته لخصمته. فدعوه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال له ابن الزّبعرى: أ أنت قلت ذلك؟

قال: نعم.

قال: قد خصمتك و ربّ الكعبة. أليس اليهود عبدوا عزيرا، و النصارى عبدوا المسيح، و بنو مليح عبدوا الملائكة؟

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: هم عبدوا الشياطين الّتي أمرتهم بذلك، فأنزل اللّه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ «1» الآية.

و

روي أنّ ابن الزبعرى قال بعد نزول هذه الآية: هذا شي ء لآلهتنا خاصّة أو لكلّ من عبد من دون اللّه؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لكلّ من عبد من دون اللّه».

فيكون قوله: «إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى بيانا للتجوّز أو التخصيص تأخّر عن الخطاب.

و الفائدة في مقارنتهم بآلهتهم أنّهم قدّروا أنّهم يشفعون لهم عند اللّه، فإذا صادفوا الأمر على عكس ما قدّروا لم يكن شي ء أبغض إليهم منهم. و لأنّهم لا يزالون لمقارنتهم في زيادة غمّ و حسرة، حيث أصابهم ما أصابهم بسببهم، و النظر إلى وجه العدوّ باب من العذاب.

و قوله: أَنْتُمْ لَها وارِدُونَ استئناف، أو بدل من «حصب». و اللّام معوّضة من «على» للاختصاص. و المعنى: أنتم أيّها المشركون مع آلهتكم مخصوصون بدخول جهنّم لَوْ كانَ هؤُلاءِ آلِهَةً كما تزعمون ما وَرَدُوها ما دخلوا النار، لأنّ المؤاخذ المعذّب لا يكون إلها وَ كُلٌ من العابد و المعبود فِيها خالِدُونَ لا خلاص لهم عنها.

لَهُمْ فِيها زَفِيرٌ صوت كصوت الحمير. و هو أنينهم، و شدّة تنفّسهم. و هو من إضافة فعل البعض إلى الكلّ للتغليب، إن أريد ب «ما تعبدون» الأصنام، فإنّه إذا كانوا هم و أصنامهم في قرن «2» واحد جاز أن يقال: لهم زفير، و

إن لم يكن الزافرين إلّا هم دون

______________________________

(1) الأنبياء: 101.

(2) القرن: حبل يقرن به البعيران.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 358

الأصنام، للتغليب، و لعدم الإلباس.

وَ هُمْ فِيها لا يَسْمَعُونَ لشدّة الهول و العذاب. و قيل: لا يسمعون ما يسرّهم و يتنعّمون به، و إنّما يسمعون صوت المعذّبين، و صوت الملائكة الّذين يعذّبونهم. و قيل:

يجعلون في توابيت من نار، فلا يسمعون شيئا، و لا يرى أحد منهم أنّ في النار أحدا يعذّب غيره. و يجوز أن يصمّهم اللّه كما يعميهم.

[سورة الأنبياء (21): الآيات 101 الى 106]

إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ (101) لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها وَ هُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ خالِدُونَ (102) لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ وَ تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (103) يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ وَعْداً عَلَيْنا إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ (104) وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أَنَّ الْأَرْضَ يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ (105)

إِنَّ فِي هذا لَبَلاغاً لِقَوْمٍ عابِدِينَ (106)

ثمّ قال اللّه تعالى ردّا لقول ابن الزبعرى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى الخصلة المفضّلة في الحسن، تأنيث الأحسن. و هي السعادة، أي: علمنا بسعادتهم، أو التوفيق للطاعة، أو البشرى بالجنّة. يعني: عزيرا و عيسى و الملائكة. أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ لأنّهم يرفعون إلى أعلى علّيّين. و قيل: الآية عامّة في كلّ من سبقت له السعادة.

لا يَسْمَعُونَ حَسِيسَها صوتها الّذي يحسّ. و هو بدل من «مبعدون»، أو حال من ضميره، سيق للمبالغة في إبعادهم عنها. وَ هُمْ فِي مَا اشْتَهَتْ أَنْفُسُهُمْ من نعيم

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 359

الجنّة خالِدُونَ دائمون في غاية التنعّم. و تقديم الظرف للاختصاص، أو الاهتمام به.

و الشهوة طلب النفس اللذّة.

لا يَحْزُنُهُمُ الْفَزَعُ الْأَكْبَرُ الخوف

الأعظم. و هو النفخة الأخيرة، لقوله: وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ «1». و عن الحسن:

الانصراف إلى النار. و عن الضحّاك: هو عذاب النار حين تطبق على أهلها. و قيل: هو أن يذبح الموت على صورة كبش أملح، و ينادى: يا أهل الجنّة خلود لا موت، و يا أهل النار خلود لا موت.

و

روى أبو سعيد الخدري عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «ثلاثة على كثبان من مسك، لا يحزنهم الفزع الأكبر، و لا يكترثون للحساب: رجل قرأ القرآن محتسبا، ثمّ أمّ به قوما محتسبا، و رجل أذّن محتسبا، و مملوك أدّى حقّ اللّه عزّ و جلّ و حقّ مواليه».

وَ تَتَلَقَّاهُمُ الْمَلائِكَةُ أي: تستقبلهم مهنّئين لهم على أبواب الجنّة، و يقولون:

هذا يَوْمُكُمُ الَّذِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ به في الدّنيا.

يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ مقدّر ب: اذكر. أو ظرف ل «لا يحزنهم» أو «تتلقّاهم». أو حال مقدّرة من العائد المحذوف من «توعدون» أعني: توعدونه. و الطيّ ضدّ النشر.

يعني: أنّ السماء نشرت مظلّة لبني آدم، فإذا انتقلوا قوّضت عنهم و طويت. كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ أي: طيّا كطيّ الصحيفة. و هي الطومار المجعول للكتابة، أي: ليكتب، أو لما يكتب فيه. و قرأ حمزة و الكسائي و حفص: للكتب، على الجمع، بمعنى المكتوبات، أي: المعاني الكثيرة المكتوبة فيه.

و قيل: السجلّ ملك يطوي كتب أعمال بني آدم إذا رفعت إليه. و

في رواية عن ابن عبّاس: كاتب كان لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و على هذا، فالكتاب اسم الصحيفة المكتوب فيها.

كَما بَدَأْنا أَوَّلَ خَلْقٍ نُعِيدُهُ «ما» كافّة، أو مصدريّة. و «أوّل» مفعول «نعيد» الّذي يفسّره «نعيده»، و الكاف متعلّق به.

و المعنى: نعيد أوّل الخلق مثل ما بدأنا، أو مثل

______________________________

(1) النمل: 87.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 360

بدئنا إيّاه. شبّه الإعادة بالإبداء في كونهما إيجادا عن العدم. و المقصود بيان صحّة الإعادة بالقياس المنصوص العلّة على الإبداء، لشمول الإمكان الذاتي المصحّح للمقدوريّة، و تناول القدرة القديمة لهما على السواء.

و يجوز أن ينتصب الكاف بفعل مضمر يفسّره «نعيده» و «ما» موصولة، أي: نعيد مثل الّذي بدأناه. و «أوّل خلق» ظرف ل «بدأنا» أي: أوّل ما خلق. أو حال من ضمير الموصول الساقط من اللفظ، الثابت في المعنى.

و «أوّل خلق» بمعنى أوّل الخلائق، كقولك: زيد أوّل رجل جاءني، تريد أوّل الرجال، و لكنّك نكّرته و وحّدته إرادة تفصيلهم رجلا رجلا.

و المراد بأوّله إيجاده عن العدم، فكما أوجده أوّلا عن عدم، يعيده ثانيا عن عدم.

و روي مرفوعا: أنّ معناه: كما بدأناهم في بطون أمّهاتهم حفاة عراق غرلا «1»، كذلك نعيدهم.

وَعْداً مقدّر بفعله تأكيدا ل «نعيده» أي: وعدناكم ذلك وعدا. أو منتصب به، لأنّه عدة بالإعادة. عَلَيْنا أي: علينا إنجازه إِنَّا كُنَّا فاعِلِينَ ذلك لا محالة.

وَ لَقَدْ كَتَبْنا فِي الزَّبُورِ في كتاب داود مِنْ بَعْدِ الذِّكْرِ أي: التوراة. و قيل:

المراد بالزبور جنس الكتب المنزلة، و بالذكر اللوح المحفوظ. أَنَّ الْأَرْضَ أرض الجنّة. و قيل: الأرض المقدّسة. يَرِثُها عِبادِيَ الصَّالِحُونَ يعني: عامّة المؤمنين المطيعين.

و قيل: أمّة موسى عليه السّلام، لقوله تعالى: الَّذِينَ كانُوا يُسْتَضْعَفُونَ مَشارِقَ الْأَرْضِ وَ مَغارِبَهَا «2»؟ و قوله: قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ اسْتَعِينُوا بِاللَّهِ وَ اصْبِرُوا إِنَّ الْأَرْضَ لِلَّهِ يُورِثُها مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ « «3»».

و قيل: المراد جميع أرض الدنيا يرثها أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالفتوح بعد إجلاء الكفّار،

______________________________

(1) غرلا

جمع أغرل، و هو الصبيّ الذي لم يختن.

(2، 3) الأعراف: 137 و 128.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 361

كما

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «زويت «1» لي الأرض فأريت مشارقها و مغاربها، و سيبلغ ملك أمّتي ما زوي لي منها».

و

قال أبو جعفر عليه السّلام: «هم أصحاب المهديّ عليه السّلام في آخر الزمان».

و يدلّ على ذلك ما

رواه الخاصّ و العامّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد، لطوّل اللّه تعالى ذلك اليوم، حتّى يبعث رجلا صالحا من أهل بيتي، يملأ الأرض عدلا و قسطا كما ملئت ظلما و جورا».

و قد أورد أحمد بن الحسين البيهقي في كتاب البعث و النشور أخبارا كثيرة في هذا المعنى. و كذا ورد من طرقنا أحاديث كثيرة في ذلك، و من أراد الاطّلاع عليها فليرجع إلى كتب أصحابنا، مثل كتاب الغيبة، و كشف الغمّة، و غيرهما من الكتب المطوّلة في هذا الباب.

إِنَّ فِي هذا فيما ذكر من الأخبار، و المواعيد الزاجرة، و المواعظ البالغة لَبَلاغاً لكفاية موصلة إلى البغية لِقَوْمٍ عابِدِينَ للّه مخلصين له. قال كعب: هم أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الّذين يصلّون الصلوات الخمس، و يصومون شهر رمضان.

[سورة الأنبياء (21): الآيات 107 الى 112]

وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ (107) قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ (108) فَإِنْ تَوَلَّوْا فَقُلْ آذَنْتُكُمْ عَلى سَواءٍ وَ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ (109) إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ وَ يَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ (110) وَ إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ (111)

قالَ رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِّ وَ رَبُّنَا الرَّحْمنُ الْمُسْتَعانُ عَلى ما

تَصِفُونَ (112)

______________________________

(1) زوى الشي ء: جمعه و قبضه.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 362

وَ ما أَرْسَلْناكَ يا محمّد إِلَّا رَحْمَةً لِلْعالَمِينَ لأنّ ما بعثت به سبب لإسعادهم، و موجب لصلاح معاشهم و معادهم. فمن تبعك فإنّه فائز سعيد في الدارين، و من لم يتّبع فإنّه شقيّ محروم حيث ضيّع نصيبه. و مثاله: أن يفجّر اللّه عينا غزيرة وسيعة، فيسقى ناس زروعهم و مواشيهم بمائها فيفلحوا، و يبقى ناس مفرّطون عن السقي فيضيعوا. فالعين المفجّرة في نفسها نعمة من اللّه و رحمة للفريقين، و لكنّ الكسلان أوقع المحنة العظيمة على نفسه، حيث حرّمها من الرحمة الجليلة.

عن ابن عبّاس: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رحمة للبرّ و الفاجر، و المؤمن و الكافر. فهو رحمة للمؤمن في الدنيا و الآخرة، و رحمة للكافر بأن عوفي ممّا أصاب الأمم من الخسف و المسخ.

و

روي: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لجبرئيل لمّا نزلت هذه الآية: «هل أصابك من هذه الرحمة شي ء؟ قال: نعم، إنّي كنت أخشى عاقبة الأمر، فآمنت بك لمّا أثنى اللّه عليّ بقوله:

ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ «1». و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّما أنا رحمة مهداة».

قُلْ إِنَّما يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ أي: ما يوحى إليّ إلّا أنّه لا إله لكم إلّا إله واحد.

و اعلم أنّ «إنّما» لقصر الحكم على شي ء، أو لقصر الشي ء على حكم، كقولك: إنّما زيد قائم، أي: لا يفعل سوى القيام، و إنّما يقوم زيد، أي: يقوم زيد لا غير. و قد اجتمع المثالان في هذه الآية، لأنّ «إِنَّما يُوحى إِلَيَّ» مع فاعله بمنزلة: إنّما يقوم زيد، و «أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ»

بمنزلة: إنّما زيد قائم. و فائدة اجتماعهما: الدلالة على أنّ المقصود الأصلي من بعثته مقصور على التوحيد، و أنّ الوحي إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مقصور على استئثار اللّه بالوحدانيّة.

و يجوز أن يكون المعنى: أن الّذي يوحى إليّ. فتكون «ما» موصولة. و في الآية

______________________________

(1) التكوير: 20.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 363

دلالة على أنّ صفة الوحدانيّة يصحّ أن تكون طريقها السمع.

فَهَلْ أَنْتُمْ مُسْلِمُونَ مخلصون العبادة للّه على مقتضى الوحي المصدّق بالحجّة.

فَإِنْ تَوَلَّوْا عن التوحيد فَقُلْ آذَنْتُكُمْ أعلمتكم ما أمرت به، أو حربي لكم.

منقول من: أذن إذا علم، و لكنّه كثر استعماله فيما يجري مجرى الإنذار. و منه قوله تعالى:

فَأْذَنُوا بِحَرْبٍ مِنَ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ «1».

عَلى سَواءٍ مستوين في الإعلام به، لم أطوه عن أحد منكم، بل أكشفه لكم كلّكم. أو مستوين أنا و أنتم في العلم بما أعلمتكم به، أو في المعاداة. أو إيذانا على سواء، لم ابيّن الحقّ لقوم دون قوم. و قيل: أعلمتكم أنّي على سواء، أي: عدل و استقامة رأي بالبرهان النيّر.

وَ إِنْ أَدْرِي ما أدري أَ قَرِيبٌ أَمْ بَعِيدٌ ما تُوعَدُونَ من غلبة المسلمين، أو الحشر، و لكنّه كائن لا محالة.

إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ مِنَ الْقَوْلِ ما تجاهرون به من الطعن في الإسلام وَ يَعْلَمُ ما تَكْتُمُونَ من الإحن و الأحقاد للمسلمين، فيجازيكم عليه.

وَ إِنْ أَدْرِي لَعَلَّهُ فِتْنَةٌ لَكُمْ و ما أدري لعلّ تأخير هذا الموعد استدراج لكم، و زيادة في افتتانكم، لينظر كيف تعملون وَ مَتاعٌ إِلى حِينٍ و تمتيع إلى أجل مقدّر تقتضيه مشيئته، ليكون ذلك حجّة عليكم، و ليقع الموعد في وقت هو فيه حكمة.

قل قرأ حفص: قال، على حكاية قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه

و آله و سلّم رَبِّ احْكُمْ بِالْحَقِ اقض بيننا و بين أهل مكّة بالعدل، المقتضي لاستعجال العذاب، و التشديد عليهم. و هذا كدعائه عليهم

بقوله: «اللّهمّ اشدد وطأتك على مضر، و اجعل سنيّهم كسنيّ يوسف».

فماتوا بجدب حتّى أكلوا العلهز «2».

______________________________

(1) البقرة: 279.

(2) العلهز: طعام من الدم و الوبر كان يتّخذ في المجاعة. القاموس 2: 184.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 364

وَ رَبُّنَا الرَّحْمنُ كثير الرّحمة على خلقه الْمُسْتَعانُ المطلوب منه المعونة عَلى ما تَصِفُونَ من أنّ الشوكة لكم، و أنّ راية الإسلام تخفق أيّاما ثمّ تسكن، و أنّ الموعد به لو كان حقّا لنزل بالمسلمين. فأجاب اللّه دعوة رسوله، و خيّب أمانيّهم، و نصر رسوله عليهم و خذلهم، فعذّبوا ببدر.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 365

(22) سورة الحجّ

اشارة

مدنيّة، و هي ثمان و سبعون آية.

في حديث أبيّ بن كعب قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من قرأ سورة الحجّ أعطي من الأجر كحجّة حجّها، و عمرة اعتمرها، بعدد من حجّ و اعتمر فيما مضى و فيما بقي».

و

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «من قرأها في كلّ ثلاثة أيّام، لم يخرج من سنته حتّى يخرج إلى بيت اللّه الحرام، و إن مات في سفره أدخل الجنّة».

و لمّا ختم سبحانه سورة الأنبياء بالتوحيد، و الإعلام بأنّ نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رحمة للعالمين، افتتح هذه السورة بخطاب المكلّفين، ليتّقوا الشرك و مخالفة دين الإسلام، فقال:

[سورة الحج (22): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ شَيْ ءٌ عَظِيمٌ (1) يَوْمَ تَرَوْنَها تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ وَ تَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها وَ تَرَى النَّاسَ سُكارى وَ ما هُمْ بِسُكارى وَ لكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ (2)

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 366

يا أَيُّهَا النَّاسُ المراد المكلّفون، لأنّ غيرهم خارجون عن دائرة الخطاب.

فكأنّه قال: يا أيّها العقلاء البالغون. اتَّقُوا رَبَّكُمْ عذاب ربّكم باجتنابكم المعصية، كما يقال: احذر الأسد، و المراد: احذر افتراسه لا عينه.

ثمّ علّل أمرهم بالتقوى بفظاعة الساعة، ليتصوّروها بعقولهم، و يعلموا أنّه لا يؤمنهم سوى التدرّع بلباس التقوى، فقال: إِنَّ زَلْزَلَةَ السَّاعَةِ أي: شدّة تحريكها للأشياء، بحيث انزعج جميع الأشياء عن مقارّها و مراكزها. و الإسناد مجازيّ. أو تحريك الأشياء فيها. فأضيفت إليها إضافة معنويّة، بتقدير «في». أو إضافة المصدر إلى الظرف على طريقة الاتّساع في الظرف، و إجرائه مجرى المفعول به، كقوله تعالى:

بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ «1» أي: مكرهم فيهما. و قيل: هي زلزلة تكون

قبيل طلوع الشمس من مغربها. و أضافها إلى الساعة لأنّها من أشراطها و آيات مجيئها. شَيْ ءٌ عَظِيمٌ هائل لا يطاق.

يَوْمَ تَرَوْنَها ترون الزلزلة أو الساعة. و الظرف متعلّق بقوله: تَذْهَلُ كُلُّ مُرْضِعَةٍ عَمَّا أَرْضَعَتْ و الذهول: الذهاب عن الأمر مع دهشة. و فيه دلالة على أنّ الزلزلة تكون في الدنيا، فإنّ الإرضاع إنّما يتصوّر في الدنيا. و عن الأكثر أنّ ذلك يوم القيامة. فيكون تصويرا لهولها، و تفخيما لما يكون من الشدائد، أي: لو كانت ثمّ مرضعة لذهلت.

و «ما» موصولة، أي: عن الّذي أرضعته. و هو الطفل. أو مصدريّة، أي: إرضاعها الولد.

و ذكر مرضعة دون مرضع، لأنّ المرضعة هي الّتي في حال الإرضاع ملقمة ثديها الصبيّ، و المرضع الّتي من شأنها أن ترضع و إن لم تباشر الإرضاع في حال وصفها به.

فقيل: مرضعة، ليدلّ على أنّ ذلك الهول إذا فوجئت به هذه و قد ألقمت الرضيع ثديها نزعته عن فيه، لما يلحقها من الدهشة.

______________________________

(1) سبأ: 33.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 367

وَ تَضَعُ كُلُّ ذاتِ حَمْلٍ حَمْلَها جنينها لشدّة هولها. وَ تَرَى النَّاسَ سُكارى على التشبيه، أي: كأنّهم سكارى من شدّة الخوف و فرط الفزع وَ ما هُمْ بِسُكارى على الحقيقة، بل يضطربون اضطراب السكران وَ لكِنَّ عَذابَ اللَّهِ شَدِيدٌ فأرهقهم هوله بحيث طيّر عقولهم، و أذهب تمييزهم.

و قرأ حمزة و الكسائي: سكرى، كعطشى و جوعى في عطشان و جوعان، إجراء للسكرى مجرى العلل.

و ذكر الرؤية أوّلا على صيغة الجمع و ثانيا على الإفراد، لأنّها أوّلا علّقت بالزلزلة، فجعل الناس جميعا رائين لها، و هي معلّقة أخيرا بكون الناس على حال السكر، فلا بدّ أن يرى أثره كلّ أحد غيره.

روي عن عمران بن الحصين و أبي سعيد

الخدري: نزلت هاتان الآيتان ليلا في غزوة بني المصطلق، و هم حيّ من خزاعة، و الناس يسيرون، فنادى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فحثّوا المطيّ حتّى كانوا حول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقرأهما عليهم، فلم ير أكثر باكيا من تلك الليلة.

فلمّا أصبحوا لم يحطّوا السرج عن الدوابّ، و لم يضربوا الخيام، و الناس من بين باك و جالس حزين متفكّر. فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أ تدرون أيّ يوم ذاك؟

قالوا: اللّه و رسوله أعلم.

قال: ذلك يوم يقول اللّه تعالى لآدم: ابعث إلى النار من ولدك. فيقول آدم: من كم و كم؟ فيقول عزّ و جلّ: من كلّ ألف تسعمائة و تسعة و تسعين إلى النار، و واحد إلى الجنّة.

فكبر ذلك على المسلمين و بكوا، و قالوا: فمن ينجو يا رسول اللّه؟

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أبشروا فإنّ معكم خليقتين يأجوج و مأجوج، ما كانتا في شي ء إلّا كثّرتاه. ما أنتم في الناس إلّا كشعرة بيضاء في الثور الأسود، أو كرقم في ذراع البكر «1»، أو كشامة «2» في جنب البعير.

______________________________

(1) البكر: الفتيّ من الإبل.

(2) الشامة: الخال، و هو أثر السواد في البدن. زبدة التفاسير، ج 4، ص: 368

ثمّ قال: إنّي لأرجو أن تكونوا أربع أهل الجنّة. فكبّروا. ثمّ قال: إنّي لأرجو أن تكونوا ثلث أهل الجنّة. فكبّروا. ثمّ قال: إنّي لأرجو أن تكونوا ثلثي أهل الجنّة، و إنّ أهل الجنّة مائة و عشرون صفّا، ثمانون منها أمّتي. ثمّ قال: و يدخل من أمّتي سبعون ألفا الجنّة بغير حساب.

و

في بعض الروايات أنّ عمر بن الخطّاب قال: يا رسول اللّه

سبعون ألفا؟

قال: نعم، و مع كلّ واحد سبعون ألفا.

فقام عكاشة بن محصن فقال: يا رسول اللّه ادع اللّه أن يجعلني منهم.

فقال: اللّهم اجعله منهم.

فقام رجل من الأنصار فقال: ادع اللّه أن يجعلني منهم.

فقال: سبقك بها عكاشة.

قال ابن عبّاس: كان الأنصاري منافقا، فلذلك لم يدع له.

[سورة الحج (22): الآيات 3 الى 4]

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ (3) كُتِبَ عَلَيْهِ أَنَّهُ مَنْ تَوَلاَّهُ فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ وَ يَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (4)

روي أنّ النضر بن الحرث كان جدلا يقول: الملائكة بنات اللّه، و القرآن أساطير الأوّلين، و اللّه غير قادر على إحياء من بلي و صار ترابا. فنزلت فيه و أضرابه:

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ فيما يجوز عليه و ما لا يجوز من الصفات و الأفعال بِغَيْرِ عِلْمٍ بلا دليل يرجع إليه، بل محض جهل و تقليد. فهو يخبط خبط عشواء، غير فارق بين الحقّ و الباطل.

وَ يَتَّبِعُ في المجادلة، أو في عامّة أحواله كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ خطوات كلّ شيطان عات «1» متجرّد عن جميع الخير، متمحّض للشرّ و الفساد. و أصله: العري.

______________________________

(1) أي: مستكبر قاسي القلب غير ليّن.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 369

كُتِبَ عَلَيْهِ على الشيطان في اللوح المحفوظ. و قيل: الضمير للمجادل.

فالمعنى: كتب على هذا المجادل الجاهل. أَنَّهُ الضمير للشأن مَنْ تَوَلَّاهُ جعله وليّا و تبعه فَأَنَّهُ يُضِلُّهُ خبر ل «من» إن كانت موصولة، أو جواب لها إن كانت شرطيّة، على تقدير: فشأنه إضلاله.

و قيل: الكتبة عليه تمثيل، أي: كأنّما كتب إضلال من يتولّاه عليه و رقم به، لظهور ذلك في حاله، فإنّ ثمرة ولايته إنّما هي أن يضلّ من تبعه عن طريق الجنّة. وَ يَهْدِيهِ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ بالحمل على

ما يؤدّي إليه.

[سورة الحج (22): الآيات 5 الى 7]

يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ الْبَعْثِ فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ مُخَلَّقَةٍ وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ لِنُبَيِّنَ لَكُمْ وَ نُقِرُّ فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْلا يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (5) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى وَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (6) وَ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ (7)

ثمّ بيّن صحّة البعث بالبرهان الباهر، فقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِنَ

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 370

الْبَعْثِ من إمكانه، و كونه مقدورا للّه تعالى. و الريب أقبح الشكّ. فَإِنَّا خَلَقْناكُمْ أي:

فمزيل ريبكم أن تنظروا في بدء خلقكم، فإنّا خلقناكم مِنْ تُرابٍ بخلق آدم منه، أو الأغذية الّتي يتكوّن منها المنّي ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ من منيّ. من النطف، و هو الصبّ. ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ قطعة من الدم جامدة ثُمَّ مِنْ مُضْغَةٍ قطعة صغيرة من اللحم. و هي في الأصل قدر ما يمضغ. مُخَلَّقَةٍ مسوّاة ملساء لا نقص فيها و لا عيب، أو تامّة، أو مصوّرة وَ غَيْرِ مُخَلَّقَةٍ و غير مسوّاة، أو ساقطة، أو غير مصوّرة. يقال: خلق العود إذا سوّاه و ملّسه. و صخرة خلقاء: إذا كانت ملساء.

و قيل: إنّ اللّه تعالى يخلق المضغ متفاوتة: منها ما هو كامل الخلقة أملس من العيوب، و منها ما هو على عكس ذلك، فيتبع

ذلك التفاوت تفاوت الناس في خلقهم و صورهم، و طولهم و قصرهم، و تمامهم و نقصانهم.

و إنّما نقلناكم من خلقة إلى خلقة و من حال إلى حال لِنُبَيِّنَ لَكُمْ بهذا التدريج قدرتنا و حكمتنا، و أنّ ما قبل التغيّر و الفساد و التكوّن مرّة قبلها اخرى. و أنّ من قدر على خلق البشر من تراب أوّلا، ثمّ من نطفة ثانيا، و لا تناسب بين الماء و التراب، و قدر على أن يجعل النطفة علقة، و بينهما تباين ظاهر، ثمّ يجعل العلقة مضغة، و المضغة عظاما، مع عدم التناسب بين كلّ منهما، قدر على إعادة ما أبدأه، بل هذا ادخل في القدرة من تلك، و أهون في القياس.

و حذف المفعول إيماء إلى أنّ أفعاله هذه يتبيّن بها من قدرته و حكمته ما لا يحيط به الذكر و البيان، و لا يكتنهه الوصف.

وَ نُقِرُّ و نبقي فِي الْأَرْحامِ ما نَشاءُ أن نقرّه و نبقيه إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو وقت الوضع ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا نصبه على الحال. و وحّده لأنّه في الأصل مصدر، كقولهم: رجل عدل و رجال عدل. أو لدلالته على الجنس. أو على تأويل كلّ واحد.

ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ أي: حال اجتماع كمال العقل و القوّة و التمييز، و تمام

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 371

الخلق. جمع شدّة، كالأنعم جمع نعمة، كأنّها شدّة في الأمور. و قيل: هو من ألفاظ الجموع الّتي لم يستعمل لها واحد، كالأسدّة بمعنى العيوب، و القتود بمعنى خشب الرجل، و غير ذلك.

وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى أي: يتوفّاه اللّه عند بلوغ الأشدّ أو قبله وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ أسوأ العمر و أحقره و أهونه. و هي حال الهرم و الخرف. لِكَيْلا

يَعْلَمَ مِنْ بَعْدِ عِلْمٍ شَيْئاً ليعود كهيئته الأولى في أوان الطفوليّة، من ضعف البنية و سخافة العقل و قلّة الفهم، أي: يصير نسّاء بحيث إذا كسب علما في شي ء زلّ عنه من ساعته، و نسي ما علمه، و أنكر ما عرفه، فلا يستفيد علما. قال عكرمة: من قرأ القرآن لم يصر بهذه الحالة.

بيّن سبحانه أنّه كما قدر على أن يرقّيه في درجات الزيادة حتّى يبلغه حدّ التمام، فهو قادر على أن يجعله حتّى ينتهي به إلى الحالة السفلى. و فيه استدلال ثان على إمكان البعث، بما يعتري الإنسان في أسنانه من الأمور المختلفة و الأحوال المتضادّة، فإنّ من قدر على ذلك قدر على نظائره.

ثمّ ذكر سبحانه دلالة ثالثة على صحّة البعث، فقال: وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً ميّتة يابسة. من: همدت النار إذا صارت رمادا. فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ هو المطر اهْتَزَّتْ تحرّكت بالنبات. و الاهتزاز شدّة الحركة في الجهات. وَ رَبَتْ و انتفخت وَ أَنْبَتَتْ مِنْ كُلِّ زَوْجٍ صنف بَهِيجٍ حسن رائق سارّ للناظر إليه. و لظهور هذه الدلالة على البعث، و كونها مشاهدة معاينة، كرّرها اللّه تعالى في كتابه.

ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من خلق الإنسان في أطوار مختلفة، و تحويله على أحوال متضادّة، و إحياء الأرض بعد موتها، مع ما في تضاعيف ذلك من أصناف الحكم البديعة، و أنواع اللطائف العجيبة. و هو مبتدأ خبره بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُ أي: بسبب أنّه الثابت الوجود في نفسه، الّذي به تتحقّق الأشياء وَ أَنَّهُ يُحْيِ الْمَوْتى و إلّا لما أحيا النطفة و الأرض الميّتة وَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ إيجادا و إفناء، لأنّ قدرته لذاته الّذي

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 372

نسبته إلى الكلّ على

سواء، فلمّا دلّت المشاهدة على قدرته على إحياء بعض الأموات، لزم اقتداره على إحياء كلّها.

وَ أَنَّ السَّاعَةَ آتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها فإن التغيّر من مقدّمات الانصرام و طلائعه وَ أَنَّ اللَّهَ يَبْعَثُ مَنْ فِي الْقُبُورِ بمقتضى وعده الّذي لا يقبل الخلف، فلا بدّ من أن يفي به.

[سورة الحج (22): الآيات 8 الى 10]

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لا هُدىً وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ (8) ثانِيَ عِطْفِهِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ وَ نُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ (9) ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (10)

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ كرّره للتأكيد، كسائر الأقاصيص، و لما نيط به من الدلالة بقوله: وَ لا هُدىً وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ على أنّه لا سند له من استدلال أو وحي، فإنّ المراد بالعلم هو العلم الضروري، و بالهدى الاستدلال و النظر الّذي يهدي إلى المعرفة، و بالكتاب المنير الوحي، أي: يجادل بظنّ و تخمين، لا بأحد هذه الثلاثة.

و قيل: الآية الأولى «1» في المقلّدين، و الثانية في المقلّدين. و عن ابن عبّاس: أنّه أبو جهل بن هشام.

و في الآية دلالة على أنّ الجدال بالعلم صواب، و بغير العلم خطأ، لأنّ الجدال بالعلم يدعو إلى اعتقاد الحقّ، و بغير العلم يدعو إلى اعتقاد الباطل.

______________________________

(1) أي: قوله تعالى: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّبِعُ كُلَّ شَيْطانٍ مَرِيدٍ.

الحجّ: 3.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 373

ثانِيَ عِطْفِهِ أي: متكبّرا، فإنّ ثني العطف «1» كناية عن الكبر و الخيلاء، كليّ الجيد و تصعير الخدّ. يقال: ثنى فلان عطفه، إذا أمال جانبيه إلى اليمين و الشمال. أو كناية عن الإعراض عن

الحقّ. فالمعنى: معرضا عن الحقّ استخفافا به. لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ علّة للجدال.

و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و رويس بفتح الياء، على أنّ إعراضه عن الهدى المتمكّن منه- بالإقبال على الجدال الباطل- خروج من الهدى إلى الضلال، و لمّا كان جداله مؤدّيا إلى الضلال، جعل كأنّه غرضه. و لمّا كان الهدى معرضا له، فتركه و أعرض عنه، و أقبل على الجدال بالباطل، جعل كالخارج من الهدى إلى الضلال.

فعلى هذا التأويل؛ لا يرد: ما كان غرضه من جداله الضلال عن سبيل اللّه، فكيف علّل به؟ و ما كان أيضا مهتديا حتّى إذا جادل خرج بالجدال من الهدى إلى الضلال.

لَهُ فِي الدُّنْيا خِزْيٌ و هو ما أصابه يوم بدر من الصغار و القتل وَ نُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ المحرق. و هو النار.

ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ على الالتفات. أو إرادة القول، أي: يقال له يوم القيامة ذلك الخزي و التعذيب بسبب ما اقترفته من الكفر و المعاصي. وَ أَنَّ اللَّهَ لَيْسَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ في تعذيبهم، لأنّ اللّه لا يعاقب ابتداء، و لا يزيد على الجزاء، بل على طريق العدالة. أو لأنّ عدله في معاقبته الفجّار، و إثابته الأبرار. و المبالغة لكثرة العبيد.

روي عن ابن عبّاس: أنّ من الأعاريب قدموا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المدينة، فكان أحدهم إذا صحّ جسمه، و نتجت فرسه مهرا «2» سريّا، و ولدت امرأته غلاما سويّا، و كثر ماله و ماشيته، قال: ما أصبت منذ دخلت في ديني هذا إلّا خيرا، و اطمأنّ به. و إن كان

______________________________

(1) العطف: جانب كلّ شي ء. و الجيد: العنق. و صعّر خدّه: أماله عن النظر إلى الناس.

يقال: مرّ ثاني

عطفه، أي: لاويا عنقه، و مائلا بخدّه عن النظر إلى الناس، متكبّرا معرضا.

(2) المهر: ولد الفرس. و السريّ: الجيّد من كلّ شي ء. زبدة التفاسير، ج 4، ص: 374

الأمر بخلافه قال: ما أصبت في هذا الدين إلّا شرّا. فنزلت:

[سورة الحج (22): الآيات 11 الى 13]

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ اطْمَأَنَّ بِهِ وَ إِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ خَسِرَ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةَ ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (11) يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَ ما لا يَنْفَعُهُ ذلِكَ هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ (12) يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ لَبِئْسَ الْمَوْلى وَ لَبِئْسَ الْعَشِيرُ (13)

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَعْبُدُ اللَّهَ عَلى حَرْفٍ على طرف من الدين، لا في وسطه و قلبه. و هذا مثل لكونهم على قلق و اضطراب في دينهم، لا على سكون و طمأنينة و ثبات فيه، كالّذي يكون على طرف من العسكر، فإن أحسّ بظفر اطمأنّ و قرّ، و إلّا انهزم و فرّ.

فَإِنْ أَصابَهُ خَيْرٌ عافية و خصب و كثرة مال اطْمَأَنَ على عبادته بِهِ بذلك الخير وَ إِنْ أَصابَتْهُ فِتْنَةٌ اختبار بسقم و قلّة مال و جدب انْقَلَبَ عَلى وَجْهِهِ انصرف إلى وجهه الّذي توجّه منه. يعني: رجع عن دينه إلى الكفر.

و

عن أبي سعيد الخدري: أنّ يهوديّا أسلم فأصابته مصائب، فتشاءم بالإسلام، فأتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: أقلني. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ الإسلام لا يقال». فنزلت هذه الآية.

خَسِرَ الدُّنْيا بذهاب عصمته، و إباحة قتله و أخذ أمواله بارتداده وَ الْآخِرَةَ بحبوط عمله و دخوله في النار أبدا. و قيل: خسر في الدنيا العزّ و الغنيمة، و في الآخرة الثواب و الجنّة. ذلِكَ

هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ إذ لا خسران مثله.

يَدْعُوا هذا المرتدّ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَضُرُّهُ وَ ما لا يَنْفَعُهُ أي: يعبد جمادا

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 375

لا يضرّ بنفسه و لا ينفع ذلِكَ الّذي فعل هُوَ الضَّلالُ الْبَعِيدُ عن المقصد. مستعار من ضلال من أبعد في التيه ضالّا.

يَدْعُوا لَمَنْ ضَرُّهُ بكونه معبودا يوجب القتل في الدنيا و العذاب في الآخرة أَقْرَبُ مِنْ نَفْعِهِ الّذي يتوقّع من عبادته. و هو الشفاعة و التوسّل بها إلى اللّه. و اللام معلّقة ل «يدعو» من حيث إنّه بمعنى يزعم، و الزعم قول مع اعتقاد. أو اللام داخلة على الجملة الواقعة مقولا، إجراء له مجرى: يقول، أي: يقول الكافر ذلك بدعاء و صراخ حين يرى استضراره به، و ذلك بعد دخوله النار بعبادة الأصنام، و اليأس من شفاعتهنّ. أو مستأنفة على أن «يدعو» تكرير للأول. كأنّه قال: يدعو من دون اللّه و يدعو. ثم قال: لمن ضرّه ... إلخ. و حينئذ «من» مبتدأ خبره لَبِئْسَ الْمَوْلى الناصر وَ لَبِئْسَ الْعَشِيرُ الصاحب المعاشر المخالط. يعني: الصنم، كقوله: فَبِئْسَ الْقَرِينُ «1».

[سورة الحج (22): الآيات 14 الى 15]

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ (14) مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ ثُمَّ لْيَقْطَعْ فَلْيَنْظُرْ هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ ما يَغِيظُ (15)

و لمّا ذكر الشاكّ في الدّين بالخسران، ذكر ثواب المؤمنين على الإيمان، فقال:

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يُرِيدُ من إثابة الموحّد الصّالح، و عقاب المشرك الطالح، لا يدفعه دافع، و لا

______________________________

(1) الزخرف: 38.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 376

يمنعه مانع.

ثم

قال: مَنْ كانَ يَظُنُّ أَنْ لَنْ يَنْصُرَهُ اللَّهُ أي: لن ينصر رسوله فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ و هذا كلام فيه اختصار. و المعنى: إن اللّه ناصر رسوله في الدنيا و الآخرة، فمن كان يظنّ من حاسديه و أعاديه أن اللّه يفعل خلاف ذلك، و يتوقّع ذلك، و يغيظه أنّه يظفر بمطلوبه فَلْيَمْدُدْ بِسَبَبٍ إِلَى السَّماءِ أي: فليستقص وسعه، و ليستفرغ مجهوده في إزالة غيظه أو جزعه، بأن يفعل كلّ ما يفعله الممتلئ غيضا أو المبالغ جزعا، حتّى يمدّ حبلا إلى سماء بيته، أي: سقفه ثُمَّ لْيَقْطَعْ ليختنق. من: قطع إذا اختنق، فإن المختنق يقطع نفسه بحبس مجاريه. و منه قيل للبهر: القطع. و هو العلّة الّتي تمنع التنفّس. أو فليمدد حبلا إلى السماء الدنيا، ثمّ ليقطع به المسافة حتى يبلغ عنانها، فيجتهد في دفع نصره. أو ليصعد إلى السماء، فليقطع الوحي أن ينزل على الرسول. و قرأ و رش و أبو عمرو و ابن عامر: ليقطع بكسر اللام على أصله.

فَلْيَنْظُرْ فليتصوّر في نفسه أنّه إن فعل ذلك هَلْ يُذْهِبَنَّ كَيْدُهُ فعله ذلك.

و سمّاه كيدا لأنّه وضعه موضع الكيد حيث لم يقدر على غيره، فهو منتهى ما يقدر عليه.

أو على سبيل الاستهزاء، لأنّه لم يكد به محسوده، بل إنّما كاد به نفسه. و المراد: ليس في يده إلّا ما ليس بمذهب. ما يَغِيظُ غيظه، أو الّذي يغيظه. و المعنى: لا يتهيّأ له إزالة ما يغيظ من أمر الرسول و نصره على أعدائه، و إن سعى به غاية سعيه و نهاية جهده.

قيل: نزلت في قوم من المسلمين استبطئوا نصر اللّه، لاستعجالهم و شدّة غيظهم على المشركين.

و قيل: المراد بالنصر الرزق، و الضمير ل «من». و المعنى: أنّ

الأرزاق بيد اللّه، لا تنال إلّا بمشيئته، و لا بدّ للعبد من الرضا بقسمته. فمن ظنّ أنّ اللّه عزّ و جلّ غير رازقه، و ليس به صبر و استسلام، فليبلغ غاية الجزع، و هو الاختناق، فإنّ ذلك لا يقلب القسمة، و لا يردّه مرزوقا.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 377

[سورة الحج (22): الآيات 16 الى 18]

وَ كَذلِكَ أَنْزَلْناهُ آياتٍ بَيِّناتٍ وَ أَنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يُرِيدُ (16) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصَّابِئِينَ وَ النَّصارى وَ الْمَجُوسَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (17) أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ وَ النُّجُومُ وَ الْجِبالُ وَ الشَّجَرُ وَ الدَّوَابُّ وَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ وَ كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ وَ مَنْ يُهِنِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ إِنَّ اللَّهَ يَفْعَلُ ما يَشاءُ (18)

ثمّ بيّن سبحانه أنّه نزّل الآيات حجّة على الخلق، فقال: وَ كَذلِكَ و مثل ذلك الإنزال أَنْزَلْناهُ أنزلنا القرآن كلّه آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات الدلالة على التوحيد و سائر أحكام الشرائع وَ أَنَّ اللَّهَ و لأنّ اللّه يَهْدِي بالقرآن مَنْ يُرِيدُ من الّذين يعلم أنّهم يؤمنون. أو يثبت الّذين آمنوا و يزيدهم هدى.

و قيل: عطف على مفعول «أنزلنا». و معناه: أنزلنا إليك أنّ اللّه يهدي إلى الدين من يريد. أو إلى النبوّة. أو إلى الثواب.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ الَّذِينَ هادُوا وَ الصَّابِئِينَ وَ النَّصارى وَ الْمَجُوسَ وَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يقضي بين المؤمنين و الكافرين بأنواعهم يَوْمَ الْقِيامَةِ بإظهار المحقّ منهم على المبطل. أو بالجزاء، فيجازي كلّا ما يليق به، و يدخله المحلّ المعدّ له. فعلى هذا،

الفصل بينهم في الأحوال و الأماكن. و إنّما أدخلت «إنّ» على كلّ واحد من جزئي الجملة لمزيد التأكيد. إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ عليم به، مراقب لأحواله.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 378

أَ لَمْ تَرَ ألم تعلم؟ الخطاب للرسول، و المراد أمّته. أو الخطاب إلى كلّ واحد من المكلّفين. أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ يتسخّر لقدرته، لا يتأنّى عن تدبيره مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ أو يدلّ بذلّته على عظمة مدبّره. و «من» يجوز أن يعمّ أولي العقل و غيرهم على التغليب. فيكون قوله: وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ وَ النُّجُومُ وَ الْجِبالُ وَ الشَّجَرُ وَ الدَّوَابُ إفرادا لها بالذكر، لشهرتها، و استبعاد ذلك منها. سمّيت مطاوعتها و ذلّتها له فيما يحدث فيها من أفعاله، و يجريها عليه من تدبيره، و تسخيره لها: سجودا له، تشبيها لمطاوعتها بإدخال أفعال المكلّف في باب الطاعة و الانقياد، و هو السجود الّذي كلّ خضوع دونه.

وَ كَثِيرٌ مِنَ النَّاسِ عطف على «يسجد» بتقدير فعل مضمر يدلّ عليه المعطوف عليه، أي: و يسجد له كثير من الناس سجود طاعة و عبادة. و لا يجوز أن يكون «يسجد» الأوّل عامله، لأنّه قد أسند على سبيل العموم إلى من في الأرض من الإنس و الجنّ أوّلا، فإسناده إلى كثير منهم آخرا مناقضة. و أيضا تخصيص الكثير يدلّ على خصوص المعنى المسند إليهم، و ما هو إلّا سجود الطاعة و العبادة. و لا يفسّر بمعنى الطاعة و العبادة في حقّ هؤلاء، و في حقّ غيرهم بمعنى الانقياد و المطاوعة، لأنّ اللفظ الواحد لا يصحّ استعماله في حالة واحدة على معنيين مختلفين.

و يجوز أن يكون رفعه على الابتداء، و خبره محذوف دلّ عليه خبر قسيمه،

نحو:

حقّ له الثواب.

وَ كَثِيرٌ حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ بكفره و إبائه عن الطاعة. و يجوز أن يجعل «و كثير» تكريرا للأوّل، مبالغة في تكثير المحقوقين بالعذاب، فيعطف «كثير» على «كثير» ثمّ يخبر عنهم بقوله: «حَقَّ عَلَيْهِ الْعَذابُ». كأنّه قيل: و كثير و كثير من الناس حقّ عليهم العذاب.

وَ مَنْ يُهِنِ اللَّهُ بأن يحكم بشقاوته، و يدخله النار لأجل عناده و عتوّه فَما لَهُ مِنْ مُكْرِمٍ يكرمه بالسعادة و بإدخال الجنّة، لأنّه لا يملك العقوبة و المثوبة سواه إِنَّ اللَّهَ

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 379

يَفْعَلُ ما يَشاءُ من الإكرام و الإنعام، و الإهانة و الانتقام، بالفريقين من المؤمنين و الكافرين.

[سورة الحج (22): الآيات 19 الى 24]

هذانِ خَصْمانِ اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ فَالَّذِينَ كَفَرُوا قُطِّعَتْ لَهُمْ ثِيابٌ مِنْ نارٍ يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ (19) يُصْهَرُ بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَ الْجُلُودُ (20) وَ لَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ (21) كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها مِنْ غَمٍّ أُعِيدُوا فِيها وَ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ (22) إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (23)

وَ هُدُوا إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ وَ هُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ (24)

روي: أنّ اليهود و المؤمنين تخاصموا، فقال اليهود: نحن أحقّ باللّه، و أقدم منكم كتابا و نبيّا. و قال المؤمنون: نحن أحقّ باللّه، آمنّا بمحمد و نبيّكم، و بما أنزل اللّه من كتاب، و أنتم تعرفون كتابنا و نبيّنا، ثمّ كفرتم به حسدا. فنزلت بعد الآيات السابقة بيانا لما أعدّه لكلّ من الفريقين:

هذانِ إشارة إلى فرقة المؤمنين و فرقة الكافرين خَصْمانِ أي: فوجان، أو فريقان مختصمان. و الخصم مصدر وصف به. اخْتَصَمُوا فِي رَبِّهِمْ في

دينه، أو في ذاته و صفاته. و التثنية باعتبار اللفظ، و الجمع باعتبار المعنى، كقوله تعالى: وَ مِنْهُمْ

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 380

مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ «1». و لو عكس و قيل: هؤلاء خصمان، لكان جائزا أيضا.

قيل: نزلت في ستّة نفر من المؤمنين و الكافرين، تبارزوا يوم بدر، و هم: حمزة بن عبد المطلّب قتل عتبة بن ربيعة، و عليّ عليه السّلام قتل الوليد بن عتبة، و عبيدة بن الحرث بن عبد المطّلب قتل شيبة بن ربيعة. رواه أبو ذرّ الغفاري و عطاء. و كان أبو ذرّ يقسم باللّه تعالى إنّها نزلت فيهم. و رواه أيضا البخاري في الصحيح «2».

فَالَّذِينَ كَفَرُوا فصل لخصومتهم. و هو المعنيّ بقوله تعالى: إِنَّ اللَّهَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ «3». قُطِّعَتْ لَهُمْ قدّرت لهم على مقادير جثثهم ثِيابٌ مِنْ نارٍ نيران تحيط بهم و تشتمل عليهم، كما تقطع الثياب الملبوسة. و يجوز أن تظاهر على كلّ واحد منهم تلك النيران، كالثياب المظاهرة على اللابس بعضها فوق بعض.

و نحوه: سَرابِيلُهُمْ مِنْ قَطِرانٍ «4». و يؤيّده ما روي عن ابن عبّاس: أنّهم حين صاروا إلى جهنّم البسوا مقطّعات النيران. و هي: الثياب القصار. و عن سعيد بن جبير:

يجعل لهم ثياب نحاس من نار. و هي أشدّ ما يكون حرّا.

يُصَبُّ مِنْ فَوْقِ رُؤُسِهِمُ الْحَمِيمُ حال من الضمير في «لهم». أو خبر ثان.

و الحميم: الماء الحارّ.

يُصْهَرُ بِهِ يذاب به. من الصهر، و هو إذابة الشي ء. ما فِي بُطُونِهِمْ وَ الْجُلُودُ أي: يؤثّر من فرط حرارته في باطنهم تأثيره في ظاهرهم، فتذاب به أحشاؤهم كما تذاب به جلودهم. عن ابن عبّاس: لو سقطت منه نقطة على جبال الدنيا

______________________________

(1) محمّد: 16.

(2) صحيح

البخاري 6: 123- 124.

(3) الحجّ: 17.

(4) إبراهيم: 50.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 381

لأذابتها. و الجملة حال من «الحميم» أو من ضمير «هم».

وَ لَهُمْ مَقامِعُ مِنْ حَدِيدٍ سياط منه يجلدون بها. جمع مقمعة و حقيقتها ما يقمع به، أي: يكفّ بعنف. و

في الحديث: «لو وضعت مقمعة منها في الأرض فاجتمع عليها الثقلان ما أقلّوها من الأرض»

أي: ما رفعوها، كأنّهم استقلّوا قواهم لرفعها من الأرض.

و عن الحسن: أنّ النار ترميهم بلهبها فترفعهم، حتّى إذا كانوا في أعلاها ضربوا بمقامع، فهووا فيها سبعين خريفا، فإذا انتهوا إلى أسفلها ضربهم زفير لهبها، فلا يستقرّون ساعة. فذلك قوله: كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها من النار مِنْ غَمٍ من غمومها.

بدل من الهاء بإعادة الجارّ. أُعِيدُوا فِيها أي: فخرجوا أعيدوا، لأنّ الإعادة لا تكون إلّا بعد الخروج وَ ذُوقُوا أي: و قيل لهم: ذوقوا عَذابَ الْحَرِيقِ أي: النار البالغة في الإحراق. هذا لأحد الخصمين.

ثمّ قال في الخصم الّذين هم المؤمنون: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ غيّر الأسلوب فيه، و أسند الإدخال إلى اللّه تعالى، و أكّده ب «إنّ»، إحمادا لحال المؤمنين، و تعظيما لشأنهم.

يُحَلَّوْنَ فِيها من: حليت المرأة، فهي حال، إذا لبست الحليّ مِنْ أَساوِرَ صفة مفعول محذوف. و هي حليّ اليد. جمع أسورة، و هي جمع سوار. مِنْ ذَهَبٍ بيان له وَ لُؤْلُؤاً عطف عليها، لا على ذهب، لأنّه لم يعهد السوار منه، إلّا أن يراد المرصّعة به. و نصبه نافع و عاصم عطفا على محلّها، أو إضمار الناصب، مثل: و يؤتون. و روي عن حفص بهمزتين. و ترك أبو بكر و السوسي عن أبي عمرو الهمزة الأولى.

وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ غيّر أسلوب الكلام

فيه، للدلالة على أنّ الحرير ثيابهم المعتادة، أو للمحافظة على هيئة الفواصل. و لمّا حرّم اللّه سبحانه لبس الحرير على الرجال في الدنيا، شوّقهم إليه في الآخرة، فأخبر أنّ لباسهم في الجنّة حرير.

وَ هُدُوا أرشدوا في الجنّة إِلَى الطَّيِّبِ مِنَ الْقَوْلِ إلى التحيّات الحسنة،

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 382

يحيّي بعضهم بعضا، و يحيّيهم اللّه و ملائكته بها. و قيل: معناه: أرشدوا إلى كلمة لا إله إلّا اللّه و الحمد للّه. و عن ابن عبّاس: هداهم اللّه و ألهمهم أن يقولوا: الحمد للّه الّذي صدقنا وعده. و قيل: إلى القول الّذي يلتذّونه و يشتهونه، أو تطيب به نفوسهم. و قيل: إلى ذكر اللّه، فهم به يتنعّمون.

وَ هُدُوا إِلى صِراطِ الْحَمِيدِ المحمود نفسه، أو عاقبته، و هو الجنّة. أو صراط المستحقّ لذاته الحمد، و هو اللّه تعالى.

[سورة الحج (22): آية 25]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ فِيهِ وَ الْبادِ وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ بِإِلْحادٍ بِظُلْمٍ نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (25)

ثمّ بيّن سبحانه الأفعال القبيحة الصادرة عن الكفرة، فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ يَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن طاعة اللّه. لا يريد به الحال و الاستقبال، و إنّما يريد استمرار الصدّ منهم، كقولهم: فلان يحسن إلى الفقراء، أي: يستمرّ وجود الإحسان في جميع أزمنته، و لذلك حسن عطفه على الماضي.

و قيل: هو حال من فاعل «كفروا» و خبر «إنّ» محذوف دلّ عليه آخر الآية، أي:

معذّبون.

وَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ عطف على «سَبِيلِ اللَّهِ» الَّذِي جَعَلْناهُ لِلنَّاسِ سَواءً الْعاكِفُ المقيم فِيهِ وَ الْبادِ الطارئ أي: الّذي وقع عليه اسم الناس، من غير فرق بين مقيم و طارى ء، و مكّيّ و آفاقي. و «سواء» خبر مقدّم،

و الجملة مفعول ثان ل «جعلناه» إن جعل «للناس» حالا من الهاء، و إلّا فحال من المستكن فيه. و نصبه حفص على أنّه

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 383

المفعول أو الحال، و «العاكف» مرتفع به، أي: جعلناه للناس مستويا العاكف فيه و البادي.

و خبر «إنّ» محذوف، لدلالة جواب الشرط عليه، تقديره: إنّ الّذين كفروا و يصدّون عن المسجد الحرام نذيقهم من عذاب أليم.

و اعلم أنّه خلاف بين علماء الأمّة أنّ المراد بالمسجد الحرام نفسه، كما هو الظاهر.

و المعنى: جعلناه للناس قبلة لصلاتهم، و منسكا لحجّهم، و العاكف و الباد سواء في حكم النسك. و كان المشركون يمنعون المسلمين عن الصلاة في المسجد الحرام و الطواف به، و يدّعون أنّهم أربابه و ولاته.

أو المراد «1» الحرم، كما قال: أَسْرى بِعَبْدِهِ لَيْلًا مِنَ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ «2» فإنّه كان الإسراء من مكّة، لأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان في بيت خديجة بنت خويلد. و قيل: في الشعب، أو في بيت أم هانئ.

و الأوّل مرويّ عن الحسن و مجاهد و الجبائي. و به قال الشافعي، و بعض أصحابنا.

و يتفرّع عليه جواز بيع مكّة و إجارتها، و عدم جواز سكنى الحاجّ في بيوتها مع عدم رضا أهلها.

و الثاني عن ابن عبّاس و ابن جبير و قتادة. و به قال أبو حنيفة، و بعض أصحابنا.

و يتفرّع على هذا تحريم بيع بيوت مكّة، و جواز سكنى الحاجّ فيها و إن لم يرض أهلها.

و يضعّف الثاني- على تقدير صحّة النقل- بأن التسمية مجاز، و الأصل في الكلام الحقيقة. و لذلك نقل عن بعض الصحابة أنّه اشترى فيها دارا. و

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما ترك لنا عقيل

من دار».

و شراء عمر دارا يسجن فيها من غير نكير.

وَ مَنْ يُرِدْ فِيهِ ترك مفعوله ليتناول كلّ متناول. كأنّه قال: و من يرد فيه مرادا مّا.

بِإِلْحادٍ بعدول عن القصد بِظُلْمٍ بغير حقّ. و هما صفتان للمفعول المحذوف أقيمتا

______________________________

(1) عطف على قوله: أن المراد بالمسجد الحرام نفسه ...، قبل ثلاثة أسطر.

(2) الإسراء: 1.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 384

مقامه. أو حالان مترادفان، أي: ملحدا عن القصد ظالما. أو الثاني بدل من الأول بإعادة الجارّ، أي: و من يرد فيه مطلوبا ظالما. أو صلة له، أي: ملحدا بسبب الظلم، كالإشراك و اقتراف الآثام. نُذِقْهُ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ في الدنيا و الآخرة. و هو جواب ل «من».

يعني: أنّ الجواب على من كان فيه أن يضبط نفسه، و يسلك طريق السداد و العدل في جميع ما يهمّ به و يقصده.

و قيل: الإلحاد في الحرم منع الناس عن عمارته. و عن سعيد بن جبير: الاحتكار.

و عن عطاء: قول الرجل في المبايعة: لا و اللّه، و بلى و اللّه.

و عن عبد اللّه بن عمر: أنّه كان له فسطاطان، أحدهما في الحلّ و الآخر في الحرم، فإذا أراد أن يعاتب أهله عاتبهم في الحلّ. فقيل له: فقال: كنّا نحدّث أنّ من الإلحاد فيه أن يقول الرجل: لا و اللّه، و بلى و اللّه.

و قيل: هو كلّ شي ء نهي عنه، حتّى شتم الخادم، لأنّ الذنوب هناك أعظم. و هذا أولى.

و قيل: نزلت الآية في الّذين صدّوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن مكّة عام الحديبيّة.

و قيل: الإلحاد هو الميل عن قانون الأدب، كالبزاق و عمل الصنائع و غيرهما.

و الظلم: ما يتجاوز فيه قواعد الشرع. و الحاصل من هذا القول أنّ الإلحاد

فعل المكروهات، و الظّلم فعل المحرّمات. و هو بناء على أنّ المراد بالمسجد نفسه.

[سورة الحج (22): الآيات 26 الى 33]

وَ إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ لِلطَّائِفِينَ وَ الْقائِمِينَ وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ (26) وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ بِالْحَجِّ يَأْتُوكَ رِجالاً وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ يَأْتِينَ مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ (27) لِيَشْهَدُوا مَنافِعَ لَهُمْ وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْبائِسَ الْفَقِيرَ (28) ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ وَ لْيَطَّوَّفُوا بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ (29) ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ فَهُوَ خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ وَ أُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلاَّ ما يُتْلى عَلَيْكُمْ فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ (30)

حُنَفاءَ لِلَّهِ غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ فِي مَكانٍ سَحِيقٍ (31) ذلِكَ وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ (32) لَكُمْ فِيها مَنافِعُ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ (33)

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 385

وَ إِذْ بَوَّأْنا لِإِبْراهِيمَ مَكانَ الْبَيْتِ و اذكر إذ جعلناه له مباءة، أي: مرجعا يرجع إليه. و قيل: اللام زائدة، «و مكان» ظرف، أي: و إذ أنزلناه فيه.

قيل: رفع البيت إلى السماء أيّام الطوفان، و كان من ياقوتة حمراء، فأعلم اللّه إبراهيم مكانه بريح أرسلها يقال لها: الخجوج «1»، فكنست ما حوله، فبناه على أسّه القديم.

أَنْ لا تُشْرِكْ بِي شَيْئاً «أن» مفسّرة ل «بوّأنا» من حيث إنّه تضمّن معنى: تعبّدنا،

______________________________

(1) في هامش النسخة الخطّية: «الخجوج: الريح الشديدة الحرّ. منه».

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 386

لأنّ التبوئة من أجل العبادة، فكأنّه قيل: تعبّدنا إبراهيم بأن قلنا

له: لا تشرك بي شيئا.

وَ طَهِّرْ بَيْتِيَ من الأوثان و الأقذار. و قرأ نافع و حفص و هشام: بيتي بفتح الياء.

لِلطَّائِفِينَ لمن يطوفون به وَ الْقائِمِينَ و يقيمون حوله وَ الرُّكَّعِ السُّجُودِ و لمن يصلّون فيه. سمّى الصلاة بهما تسمية للشي ء باسم أشرف أجزائه، فإنّهما أعظم أركانها.

وَ أَذِّنْ فِي النَّاسِ ناد فيهم بِالْحَجِ بدعوة الحجّ و الأمر به.

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صعد أبا قبيس، و وضع إصبعيه في أذنيه، فقال: «يا أيها الناس حجوا بيت ربكم» فأسمعه اللّه من أصلاب الرجال و أرحام النساء، فيما بين المشرق و المغرب، ممّن سبق في علمه أن يحجّ، كما أسمع سليمان، مع ارتفاع منزلته و كثرة جنوده حوله، صوت النملة مع خفضه. و أوّل من أجابه أهل اليمن.

و عن الحسن: الخطاب للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أمر بذلك في حجّة الوداع.

و

روي عن الصادق عليه السّلام: «أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أقام بالمدينة عشر سنين لم يحجّ، فلمّا نزلت هذه الآية أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مناديه أن يؤذّن في الناس بالحجّ، فاجتمع بالمدينة خلق كثير من الأعراب و غيرهم، و أكثر أهل الأموال من أهل المدينة، و خرج صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأربع بقين من ذي القعدة، فلمّا انتهى إلى مسجد الشجرة، و كان وقت الزوال، اغتسل و نوى حجّ القرآن بعد أن صلّى الظهرين». و القول الأوّل مرويّ عن عليّ عليه السّلام

و ابن عبّاس.

يَأْتُوكَ رِجالًا مشاة. جمع راجل، كقائم و قيام. وَ عَلى كُلِّ ضامِرٍ أي:

و ركبانا على كلّ بعير مهزول، أتعبه بعد السفر فهزله.

و

روى سعيد

بن جبير عن ابن عبّاس أنّه قال لبنيه: يا بنيّ حجّوا من مكّة مشاة حتّى ترجعوا إليها مشاة، فإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «للحاجّ الراكب بكلّ خطوة تخطوها راحلته سبعون حسنة، و للحاجّ الماشي بكلّ خطوة يخطوها سبعمائة حسنة من حسنات الحرم. قيل: و ما حسنات الحرم؟ قال: الحسنة بمائة ألف حسنة».

و

كان الحسن بن عليّ عليه السّلام يمشي في الحجّ و البدن تساق بين يديه.

و الحقّ أنّ

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 387

المشي إذا لم يضعف عن العبادة فهو أفضل.

يَأْتِينَ صفة ل «كلّ ضامر» محمولة على معناه، فإنّه في معنى الجمع مِنْ كُلِّ فَجٍّ عَمِيقٍ طريق بعيد. يقال: بئر بعيدة إذا بعد قعرها.

و

روي مرفوعا عن أنس بن مالك قال: سمعت رسول اللّه يقول: «إنّ اللّه تعالى يباهي بأهل عرفات الملائكة، يقول: يا ملائكتي انظروا إلى عبادي شعثا غبرا، أقبلوا يفدون إليّ من كلّ فجّ عميق، فأشهدكم أنّي قد أجبت دعاءهم، و شفعت رغبتهم، و وهبت مسيئهم لمحسنهم، و أعطيت محسنهم جميع ما سألوني غير التبعات الّتي بينهم. فإذا أفاض القوم إلى جمع، وقفوا و عادوا في الرغبة و الطلب إلى اللّه، يقول: يا ملائكتي عبادي وقفوا و عادوا من الرغبة و الطلب، فأشهدكم أنّي قد أجبت دعاءهم، و شفعت رغبتهم، و وهبت مسيئهم لمحسنهم، و أعطيت محسنهم جميع ما سألني، و كفلت عنهم بالتبعات الّتي بينهم».

لِيَشْهَدُوا ليحضروا مَنافِعَ لَهُمْ دينيّة و دنيويّة. و تنكيرها لأنّ المراد بها نوع من المنافع مخصوص بهذه العبادة. و

قيل: هو منافع الآخرة، من العفو و المغفرة. و هو المرويّ عن الصادق عليه السّلام.

و قيل: التجارات، ترغيبا فيها، لكون مكّة واديا غير ذي زرع، و

لو لا الترغيب لتضرّر سكّانها. و لذلك قال إبراهيم: فَاجْعَلْ أَفْئِدَةً مِنَ النَّاسِ تَهْوِي إِلَيْهِمْ «1». و لو حمل على منفعتي الدنيا و الآخرة ما كان بعيدا عن الصواب.

و تنكيرها دالّ عليه، كما فسّرنا أوّلا.

وَ يَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عند إعداد الهدايا و الضحايا و ذبحها. و قيل: كنّى بالذكر عن النحر، لأنّ ذبح المسلمين لا ينفكّ عنه، تنبيها على أنّه المقصود ممّا يتقرّب به إلى اللّه.

فِي أَيَّامٍ مَعْلُوماتٍ معدودات، هي عشر ذي الحجّة. سمّيت معلومات للحرص على علمها من أجل وقت الحجّ. و به قال أبو حنيفة.

______________________________

(1) إبراهيم: 37.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 388

و قيل: إنّها يوم النحر و الثلاثة بعده أيّام التشريق، و

الأيّام المعدودات عشر ذي الحجّة. و هو المرويّ عن الباقر عليه السّلام،

و المأثور عن ابن عبّاس، و اختاره الزجّاج. قال: لأنّ الذكر هنا يدلّ على التسمية على ما يذبح و ينحر، و هذه الأيّام تختصّ بذلك.

و

عن الصادق عليه السّلام: «هو التكبير عقيب خمس عشرة صلاة، أوّلها صلاة الظهر من يوم النحر، يقول: اللّه أكبر اللّه أكبر لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر، اللّه أكبر و للّه الحمد، اللّه أكبر على ما هدانا، و الحمد للّه على ما أبلانا. و اللّه أكبر على ما رزقنا من بهيمة الأنعام»

وفق قوله:

عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ علّق الفعل بالمرزوق، و بيّنه بالبهيمة، تحريضا على التقرّب، و تنبيها على مقتضى الذكر.

و البهيمة من الإبهام، بمعنى المبهمة من كلّ ذات أربع في البرّ و البحر. و إنّما سمّيت بالبهيمة، لأنّها لا تفصح كما يفصح الحيوان الناطق. و أصل الأنعام في الإبل. و اشتقاقها من النعمة، و هي اللين. سمّيت بذلك للين خفافها. و قد يجتمع معها البقر

و الغنم، فيسمّى الجميع أنعاما اتّساعا. و إن انفردا لم يسمّيا أنعاما. و إضافة البهيمة للبيان.

فَكُلُوا مِنْها من لحومها. أمر بذلك إباحة و إزاحة لما عليه أهل الجاهليّة من التحرّج فيه، أو ندبا إلى مواساة الفقراء و مساواتهم. و هذا في المتطوّع به دون الواجب.

وَ أَطْعِمُوا الْبائِسَ الّذي أصابه بؤس، أي: شدّة الْفَقِيرَ المحتاج الّذي أضعفه الإعسار. مشتقّ من فقار الظهر، كأنّه كسر فقاره، لفرط احتياجه. و الأمر في الإطعام للندب إن كان الذبح بغير الهدي، و إلّا فالأمران للوجوب.

ثُمَّ لْيَقْضُوا تَفَثَهُمْ ثمّ ليزيلوا وسخهم بقصّ الشارب و الأظفار، و نتف الإبط و حلق العانة عند الإحلال، فإنّ التفث بمعنى الوسخ. و عن الزجّاج: التفث كناية عن الخروج من الإحرام إلى الإحلال.

و قيل: المراد به بقيّة أعمال الحجّ بعد الذبح، من الحلق و الرمي و غيرهما من المناسك. و على هذا يكون عطف الطواف من باب عطف: جبرئيل و ميكائيل، و فاكهة

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 389

و نخل و رمّان.

وَ لْيُوفُوا نُذُورَهُمْ و ليتمّوا ما ينذرون من البرّ في حجّهم. و قيل: مواجب الحجّ. و قرأ أبو بكر بفتح الواو و تشديد الفاء.

وَ لْيَطَّوَّفُوا طواف الإفاضة الّذي به تمام التحلّل. و هو طواف الزيارة الّذي هو من أركان الحجّ، و يقع به تمام التحلّل. و قيل: طواف الصدر. و هو طواف الوداع. و روى أصحابنا أنّه طواف النساء الّذي يستباح به وطء النساء، و ذلك بعد طواف الزيارة الّذي يحلّ له كلّ شي ء إلّا النساء. و قرأ ابن عامر وحده بكسر اللام فيها. بِالْبَيْتِ الْعَتِيقِ القديم، لأنّه أوّل بيت وضع للناس. أو المعتق من تسلّط الجبابرة، فكم من جبّار سار إليه ليهدمه فمنعه اللّه.

و أمّا الحجّاج

فقيل: إنّما قصد بنقضه إخراج ابن الزبير منه، و لم يقصد التسلّط عليه، و لهذا لمّا قبضه بناه. و لمّا قصد أبرهة التسلّط عليه فعل به ما فعل. و ليس بشي ء، لأنّ إقدامه على تلك الفعلة قبيح، و مخالف لقوله تعالى: وَ مَنْ دَخَلَهُ كانَ آمِناً «1».

بل الأولى في الجواب: أنّه إنّما لم يهلكه لبركة سيّدنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإنّ هذه الأمّة معصومة من عذاب الاستئصال.

و قيل: معناه: لم يملك قطّ. و قيل: أعتق من الغرق. و قيل: بيت كريم، من قولهم:

عتاق الخيل و الطير.

ذلِكَ خبر محذوف، أي: الأمر أو الشأن ذلك. و هو و أمثاله يطلق للفصل بين كلامين. وَ مَنْ يُعَظِّمْ حُرُماتِ اللَّهِ أحكامه و سائر ما لا يحلّ هتكه. أو الحرم و ما يتعلّق بالحجّ من التكاليف. أو الكعبة و المسجد الحرام و البلد الحرام و الشهر الحرام و المحرّم، فإنّ الحرمة ما لا يحلّ هتكه، فيشمل جميع ما كلّفه اللّه تعالى بهذه الصفة من مناسك الحجّ و غيرها. و معنى تعظيمها: العلم بأنّها واجبة المراعاة و الحفظ و القيام بمراعاتها. يعني: من

______________________________

(1) آل عمران: 97.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 390

يراعي ما يجب القيام به من أحكام اللّه تعالى، و امتثل به.

فَهُوَ فالتعظيم الّذي هو القيام بأوامر اللّه و نهيه خَيْرٌ لَهُ عِنْدَ رَبِّهِ ثوابا.

و لمّا حثّ على تعظيم الحرمات، ردّ على الكفرة ما كانوا عليه، فقال: وَ أُحِلَّتْ لَكُمُ الْأَنْعامُ إِلَّا ما يُتْلى عَلَيْكُمْ إلّا المتلوّ عليكم تحريمه. و ذلك قوله في سورة المائدة:

حُرِّمَتْ عَلَيْكُمُ الْمَيْتَةُ «1». و المعنى: إنّ اللّه قد أحلّ لكم الأنعام كلّها إلّا ما استثناه في كتابه، فحافظوا على حدوده، و

إيّاكم أن تحرّموا ممّا أحلّ شيئا، كتحريم البحيرة و السائبة و غير ذلك، و أن تحلّوا ممّا حرّم اللّه، كإحلالهم أكل الموقوذة و الميتة و غير ذلك.

فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ أي: الرجس الّذي هو الأوثان، كما تجتنب الأنجاس. و هو غاية المبالغة في النهي عن تعظيمها، و التنفير عن عبادتها.

وَ اجْتَنِبُوا قَوْلَ الزُّورِ قول الكذب. تعميم بعد تخصيص، فإنّ عبادة الأوثان رأس الزور، لأنّ المشرك زاعم أنّ الوثن تحقّ له العبادة، و هو محض الكذب.

و قيل: المراد شهادة الزور، لما

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «عدلت شهادة الزور الإشراك باللّه، و تلا هذه الآية».

و الزّور من الزّور، و هو الانحراف، كما أنّ الإفك من الإفك، و هو الصرف، فإنّ الكذب مصروف عن الواقع.

و قيل: قول الزور قول أهل الجاهليّة: لبّيك لا شريك لك إلّا شريك هو لك تملكه و ما ملك.

حُنَفاءَ لِلَّهِ مخلصين له غَيْرَ مُشْرِكِينَ بِهِ و هما حالان من الواو، أي:

اجتنبوا الأوثان و قول الزور، مستقيمي الطريقة على أمر اللّه، مائلين عن سائر الأديان.

وَ مَنْ يُشْرِكْ بِاللَّهِ فَكَأَنَّما خَرَّ مِنَ السَّماءِ لأنّه سقط من أوج سماء الإيمان إلى

______________________________

(1) المائدة: 3.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 391

حضيض شقاوة الكفر فَتَخْطَفُهُ الطَّيْرُ فإنّ الأهواء المردية توزّع أفكاره. و قرأ نافع وحده: فتخطّفه، بفتح الخاء و تشديد الطاء. أصله: تختطفه. أَوْ تَهْوِي بِهِ الرِّيحُ تسقطه فِي مَكانٍ سَحِيقٍ بعيد مفرط في البعد، فإنّ الشيطان قد طوّح «1» به في الضلالة البعيدة.

و هذا التشبيه يكون من التشبيهات المفردة، لأنّه شبّه الإيمان في علوّه بالسماء، و الّذي ترك الإيمان و أشرك باللّه بالساقط من السماء، و الأهواء الّتي تتوزّع أفكاره بالطير المختطفة، و الشيطان الّذي

يطوّح به في وادي الضلالة بالريح الّتي تهوي بما عصفت به في بعض المهاوي المهلكة.

و يجوز أن يكون من التشبيهات المركّبة. فيكون المعنى: و من أشرك باللّه فقد أهلك نفسه إهلاكا يشبه بصورة حال من خرّ من السماء، فاختطفته الطير، فتفرّق مزعا «2» في حواصلها، أو عصفت به الريح حتّى هوت به في بعض المطاوح «3» البعيدة.

و «أو» للتخيير، كما في قوله: أَوْ كَصَيِّبٍ مِنَ السَّماءِ «4». أو للتنويع، فإنّ من المشركين من لا خلاص له أصلا، و منهم من يمكن خلاصه بالتوبة و لكن على بعد.

ذلِكَ أي: الأمر ذلك الّذي ذكرناه وَ مَنْ يُعَظِّمْ شَعائِرَ اللَّهِ معالم دين اللّه، و الأعلام الّتي نصبها لطاعته. و تعظيمها التزامها. و قيل: هي مناسك الحجّ كلّها. و عن ابن عبّاس و مجاهد:

هي الهدايا، لأنّها من معالم الحجّ. جمع شعيرة. و هي البدن إذا أشعرت، أي: أعلمت عليها، بأن يشقّ سنامها من الجانب الأيمن ليعلم أنّها هدي. و هذا هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

و ذهب إليه الشافعي. و هو أوفق لظاهر ما بعده.

و تعظيمها أن يختارها عظام الأجرام حسانا سمانا غالية الأثمان، و يترك

______________________________

(1) طوّح: رمى و قذف. و المطاوح: المهالك. و الواحدة: مطاحة.

(2) في هامش النسخة الخطّية: «المزعة: قطعة من اللحم. منه» و جمعها: مزع و مزع.

(3) طوّح: رمى و قذف. و المطاوح: المهالك. و الواحدة: مطاحة.

(4) البقرة: 19.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 392

المكاس «1» في شرائها.

روي: أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أهدى مائة بدنة، فيها جمل في أنفه برّة «2» من ذهب.

و كان ابن عمر يسوق البدن مجلّلة بالقباطي «3»، فيتصدّق بلحومها و بجلالها «4».

فَإِنَّها مِنْ تَقْوَى الْقُلُوبِ فإنّ تعظيمها من

أفعال ذوي تقوى القلوب. فحذفت هذه المضافات. و لا يستقيم المعنى إلّا بتقديرها، لأنّه لا بدّ من عائد من الجزاء إلى «من» ليرتبط به. و ذكر القلوب لأنّها مراكز التقوى الّتي إذا ثبت فيها و تمكّنت ظهر أثرها في سائر الأعضاء، فإنّها منشأ التقوى و الفجور، و الآمرة بهما.

لَكُمْ فِيها في الهدايا مَنافِعُ من درّها و نسلها و صوفها و ظهرها إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إلى أن تنحر، و يتصدّق بلحومها، و يؤكل منها ثُمَّ مَحِلُّها إِلَى الْبَيْتِ الْعَتِيقِ ثمّ وقت نحرها منتهية إلى البيت من الحرم، فإنّ المراد نحرها في الحرم الّذي هو في حكم البيت، لأنّ الحرم هو حريم البيت. و مثل هذا في الاتّساع قولك: بلغنا البلد. و إنّما شارفتموه، و اتّصل مسيركم بحدوده.

و «ثمّ» تحتمل التراخي في الوقت، و التراخي في الرتبة، أي: لكم فيها منافع دنيويّة إلى وقت النحر، و بعده منافع دينيّة أعظم منها. و هو على القولين الأولين إمّا متّصل بحديث الأنعام، و الضمير فيه لها. أو المراد على الأول: لكم فيها منافع دينيّة تنتفعون بها إلى أجل مسمّى هو الموت، ثم محلّها منتهية إلى البيت العتيق الّذي ترفع إليه الأعمال، أو يكون فيه ثوابها، و هو البيت المعمور أو الجنّة. و على الثّاني: لكم فيها منافع التجارات في الأسواق إلى وقت المراجعة، ثمّ وقت الخروج منها منتهية إلى الكعبة بالإحلال بطواف الزيارة. و لا يخفى أنّ المعنى الأوّل أظهر و أنسب كما قلنا،

______________________________

(1) المكاس: استحطاط الثمن و استنقاصه في البيع.

(2) أي: حلقة.

(3) القباطيّ: ثياب من كتّان، منسوبة إلى القبط. و الواحدة: القبطيّة.

(4) الجلال: للدابّة كالثوب للإنسان تصان به. و الواحدة: الجلّ.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 393

فيكون المراد بشعائر اللّه

الهدايا.

و اعلم أنّ عند أصحابنا إن كان الهدي للحجّ فمحلّه منى، و إن كان للعمرة المفردة فمحلّه مكّة قبالة الكعبة بالحزورة «1». و هذا القول ثابت بالروايات المأثورة عن أئمّتنا عليهم السّلام.

[سورة الحج (22): الآيات 34 الى 35]

وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ فَإِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَلَهُ أَسْلِمُوا وَ بَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ (34) الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ وَ الصَّابِرِينَ عَلى ما أَصابَهُمْ وَ الْمُقِيمِي الصَّلاةِ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (35)

وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ و لكلّ أهل دين جَعَلْنا مَنْسَكاً شرعنا أن ينسكوا، أي: يتعبّدوا، أو يذبحوا لوجه اللّه. و قرأ حمزة و الكسائي بالكسر، أي: موضع نسك. لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ على النسائك دون غيره، و يجعلوا نسيكتهم لوجه اللّه. و تعليل الجعل به للتنبيه على أنّ المقصود من المناسك تذكّر المعبود. عَلى ما رَزَقَهُمْ مِنْ بَهِيمَةِ الْأَنْعامِ أي: عند ذبحها. و فيه تنبيه على أنّ القربان يجب أن يكون نعما.

فَإِلهُكُمْ فمعبودكم الّذي توجّهون إليه العبادة إِلهٌ واحِدٌ لا شريك له فَلَهُ أَسْلِمُوا أخلصوا له الذكر، و لا تشوبوه بالإشراك وَ بَشِّرِ الْمُخْبِتِينَ المتواضعين، أو المخلصين، فإنّ الإخبات صفتهم. و هو من الخبت، و هو المطمئنّ من الأرض. و قيل: هم الّذين لا يظلمون، و إذا ظلموا لم ينتصروا.

______________________________

(1) الحزورة: كانت سوق مكّة، و قد دخلت في المسجد لمّا زيد فيه. معجم البلدان 2: 255.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 394

و في الآية دلالة على أنّ الذبائح غير مختصّة بهذه الأمّة، و أنّ التسمية على الذبح كانت مشروعة قبلنا.

ثمّ وصف المخبتين بقوله: الَّذِينَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ إذا خوّفوا باللّه وَجِلَتْ قُلُوبُهُمْ هيبة منه، لإشراق اشعّة جلاله على قلوبهم وَ الصَّابِرِينَ و بشّرهم عَلى ما أَصابَهُمْ

من التكاليف في طاعة اللّه، و سائر المصائب و النوائب وَ الْمُقِيمِي الصَّلاةِ في أوقاتها، كما أمر اللّه تعالى بها وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ في وجوه الخير.

[سورة الحج (22): آية 36]

وَ الْبُدْنَ جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ لَكُمْ فِيها خَيْرٌ فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها صَوافَّ فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْقانِعَ وَ الْمُعْتَرَّ كَذلِكَ سَخَّرْناها لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (36)

ثمّ عاد إلى ذكر الشعائر بقوله: وَ الْبُدْنَ جمع بدنة، كخشب و خشبة. و أصله الضمّ من: بدن بدانة. سمّيت بها الإبل، لعظم بدنها. و انتصابه بفعل يفسّره جَعَلْناها لَكُمْ مِنْ شَعائِرِ اللَّهِ من أعلام الشريعة الّتي شرعها اللّه تعالى. و إضافته إلى اسمه تعظيم لها.

و «من» متعلّقة بفعل محذوف، أي: جعلنا لكم و جعلناها من شعائر اللّه.

لَكُمْ فِيها خَيْرٌ أي: منافع دينيّة و دنيويّة، كقوله تعالى: لَكُمْ فِيها مَنافِعُ «1» فَاذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ عَلَيْها أي: في حال نحرها. قال ابن عبّاس: بأن تقول عند ذبحها:

اللّه أكبر لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر، اللّهمّ منك و إليك. صَوافَ قائمات قد صففن ايديهنّ و أرجلهنّ، و ربطت اليدان من كلّ واحد منها ما بين الرسغ «2» إلى الركبة.

______________________________

(1) الحجّ: 33.

(2) الرسغ: الموضع المستدقّ بين الحافر و موصل الوظيف من اليد و الرجل. و المفصل ما بين الساعد و الكفّ أو الساق و القدم. و مثل ذلك من الدابّة.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 395

فَإِذا وَجَبَتْ جُنُوبُها سقطت على الأرض. من: وجب الحائط وجبة إذا سقط.

و وجبت الشمس وجبة: غربت. و وجوب الجنوب فيها كناية عن تمام خروج الروح منها.

فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْقانِعَ الراضي بما عنده، و بما يعطي من غير مسألة وَ الْمُعْتَرَّ و المتعرّض للسؤال. و

عن أبي عبد

اللّه عليه السّلام أنّه قال: «القانع: الّذي يسأل فيرضى بما أعطي، و المعتر: الّذي يعتري و لا يسأل».

و الأمر في الثلاثة للوجوب في حجّ التمتّع عندنا،

لقول الصادق عليه السّلام: «إذا ذبحت و نحرت فكل و أطعم، كما قال اللّه تعالى:

فَكُلُوا مِنْها وَ أَطْعِمُوا الْقانِعَ وَ الْمُعْتَرَّ».

كَذلِكَ مثل ما وصفناه من نحرها قياما سَخَّرْناها لَكُمْ مع عظمها و قوّتها، حتّى تأخذوها منقادة، فتعقلوها و تحبسوها صافّة قوائمها، ثمّ تطعنون في لبّاتها «1».

و لو لا تسخير اللّه لم تطق، و لم تكن بأعجز من بعض الوحوش الّتي هي أصغر منها جرما و أقلّ قوّة. لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ إنعامنا عليكم بالتقرّب و الإخلاص.

[سورة الحج (22): آية 37]

لَنْ يَنالَ اللَّهَ لُحُومُها وَ لا دِماؤُها وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ عَلى ما هَداكُمْ وَ بَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ (37)

قيل: كان أهل الجاهليّة إذا ذبحوا القرابين لطخوا الكعبة بدمائها للتقرّب، فهمّ به المسلمون، فنزلت: لَنْ يَنالَ اللَّهَ لن يصيب رضاه، و لن يقع منه موقع القبول لُحُومُها المتصدّق بها وَ لا دِماؤُها المهراقة بالنحر من حيث إنّها لحوم و دماء وَ لكِنْ يَنالُهُ التَّقْوى مِنْكُمْ و لكن يصيبه ما يصحبه من تقوى قلوبكم الّتي تدعوكم إلى تعظيم أمر اللّه، و التقرّب إليه و الإخلاص له.

و تنقيح المعنى: لن يرضي المضحّون و المقرّبون ربّهم بهذه الأعمال إلّا بمراعاة نيّة

______________________________

(1) اللّبّة: المنحر و موضع القلادة من الصدر. و جمعها: لبّات.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 396

الإخلاص، و قصد الاحتفاظ بشرط التقوى في حلّ ما قرّب به، و هي امتثال أوامره و الانتهاء عن نواهيه، و إخراج ملك البدن من مال طيّب لا شبهة فيه، عن سخاء نفس، فإنّ الطبيعة شحيحة، و مخالفتها من التقوى، فإذا لم

يراعوا ذلك لم تغن عنهم التضحية.

كَذلِكَ سَخَّرَها لَكُمْ كرّره تذكيرا للنعمة، و تعليلا له بقوله: لِتُكَبِّرُوا اللَّهَ أي:

لتعرفوا عظمته باقتداره على ما لا يقدر عليه غيره، فتوحّدوه بالكبرياء. و قيل: هو التكبير عند الإحلال أو الذبح. عَلى ما هَداكُمْ أرشدكم إلى طريق تسخيرها، و كيفيّة التقرّب بها. و «ما» تحتمل المصدريّة و الخبريّة. و «على» متعلّقة ب «تكبّروا» لتضمّنه معنى الشكر. وَ بَشِّرِ الْمُحْسِنِينَ المخلصين فيما يأتونه و يذرونه.

[سورة الحج (22): الآيات 38 الى 40]

إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كَفُورٍ (38) أُذِنَ لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا وَ إِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ (39) الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ بِغَيْرِ حَقٍّ إِلاَّ أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ لَهُدِّمَتْ صَوامِعُ وَ بِيَعٌ وَ صَلَواتٌ وَ مَساجِدُ يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً وَ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (40)

ثمّ بيّن سبحانه دفع غائلة المشركين عن المؤمنين، بشارة لهم بالنصر، فقال: إِنَّ اللَّهَ يُدافِعُ عَنِ الَّذِينَ آمَنُوا يمنعهم عن شرور الكفّار و أذيّاتهم، و ينصرهم عليهم. و قرأ نافع و ابن عامر و الكوفيّون: يدافع، أي: يبالغ في الدفع مبالغة من يغالب فيه، لأنّ فعل المغالب أقوى و أبلغ.

ثمّ جعل العلّة في اختصاص المؤمنين بدفعه عنهم، و نصرته لهم، بالجملة

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 397

المستأنفة، و هي قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ خَوَّانٍ كأنّه قيل: لم خصّ المؤمنين بالنصرة و الدفع. فأجيب: إنّ اللّه لا يحبّ كلّ خوّان- أي: كثير الخيانة- في أمانة اللّه. كَفُورٍ كثير الكفران لنعمه. و هم الكفرة الّذين يخونون اللّه بالإشراك، و الرسول بالإنكار و الجحود و الكفران، و يتقرّبون إلى الأصنام بذبيحتهم و

يعظّمونها، و يكفرون نعم اللّه، فلا يرتضي فعلهم و لا ينصرهم.

ثمّ بيّن إذنه لهم في قتال الكفّار بعد تقدّم بشارتهم بالدفع عنهم، فقال: أُذِنَ أي: رخّص. و قرأ ابن كثير و ابن عامر و حمزة و الكسائي على البناء للفاعل، أي: أذن اللّه.

لِلَّذِينَ يُقاتَلُونَ المشركين. حذف المأذون فيه- و هو القتال- لدلالة «يقاتلون» عليه.

و قرأ نافع و ابن عامر و حفص بفتح التاء، أي: للّذين يقاتلهم المشركون. بِأَنَّهُمْ ظُلِمُوا بسبب كونهم مظلومين.

و هم أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. كان المشركون يؤذونهم، و لا يزال يجي ء مشجوج و مضروب إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يتظلّم إليه،

فيقول لهم: اصبروا فإنّي لم أؤمر بالقتال حتّى هاجر، فأنزلت.

و في أوّل آية نزلت في القتال بعد ما نهي عنه في نيّف «1» و سبعين آية.

ثمّ صرّح بالوعد لهم بالنصر، كما وعد بدفع أذى الكفّار عنهم، فقال: وَ إِنَّ اللَّهَ عَلى نَصْرِهِمْ لَقَدِيرٌ سيغلبهم و يقهرهم على أعدائهم.

ثمّ بيّن علّة إذن القتال، فقال: الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ يعني: مكّة بِغَيْرِ حَقٍ بغير موجب استحقّوه به. و

عن أبي جعفر عليه السّلام: «نزلت في المهاجرين، و جرت في آل محمّد الّذين أخرجوا من ديارهم و أخيفوا».

إِلَّا أَنْ يَقُولُوا رَبُّنَا اللَّهُ في محلّ الجرّ على الإبدال من «حقّ» أي: بغير موجب سوى التوحيد الّذي ينبغي أن يكون موجب الإقرار و التمكين، لا موجب الإخراج.

______________________________

(1) في هامش النسخة الخطّية: «النيّف مثقّل، في قولهم: مائة و نيّف. قال أبو زيد: كلّ ما بين عقدين نيّف. منه».

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 398

و التسيير و مثله: هَلْ تَنْقِمُونَ مِنَّا إِلَّا أَنْ آمَنَّا بِاللَّهِ «1». و هذا استثناء متّصل

على طريقة قول النابغة «2»:

و لا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم بهنّ فلول من قراع الكتائب

و قيل: منقطع.

وَ لَوْ لا دَفْعُ اللَّهِ قرأ نافع: دفاع اللّه النَّاسَ بَعْضَهُمْ بِبَعْضٍ بتسليط المؤمنين منهم على الكافرين بالمجاهدة لَهُدِّمَتْ لخرّبت باستيلاء المشركين على أهل الملل. و قرأ نافع و ابن كثير: لهدمت بالتخفيف. صَوامِعُ صوامع الرهبان وَ بِيَعٌ و بيع النصارى وَ صَلَواتٌ و كنائس اليهود. سمّيت بها لأنّها يصلّى فيها. و قيل: هي كلمة معرّبة، أصلها بالعبرانيّة: صلوتا. وَ مَساجِدُ و مساجد المسلمين يُذْكَرُ فِيهَا اسْمُ اللَّهِ كَثِيراً صفة للأربع، أو ل «مساجد» خصّت بها تفضيلا.

و المعنى: لو لا دفع اللّه ذلك لاستولى المشركون على أهل الملل المختلفة في أزمنتهم، و على متعبّداتهم فهدّموها، و لم يتركوا للنصارى بيعا، و لا لرهبانهم صوامع، و لا لليهود صلوات، و لا للمسلمين مساجد. أو لغلب المشركون في أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على المسلمين، و على أهل الكتاب الّذين في ذمّتهم، و هدّموا متعبّدات الفريقين.

وَ لَيَنْصُرَنَّ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ من ينصر دينه و أولياءه. و هو إخبار من اللّه عزّ و جلّ بظهر الغيب عمّا سيكون. و قد أنجز وعده، بأن سلّط المهاجرين و الأنصار على صناديد العرب، و أكابر أكاسرة العجم و قياصرتهم، و أورثهم أرضهم و ديارهم. إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌ على نصرهم عَزِيزٌ لا يمانعه شي ء.

______________________________

(1) المائدة: 59.

(2) ديوان النابغة (طبعة دار صادر): 11.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 399

[سورة الحج (22): آية 41]

الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ وَ لِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (41)

ثمّ وصف المهاجرين المخرجين من ديارهم بقوله: الَّذِينَ إِنْ مَكَّنَّاهُمْ فِي الْأَرْضِ لو أعطيناهم

في الدنيا كمال المكنة و الاقتدار، و التسلّط في القيام بأمور الدين أَقامُوا الصَّلاةَ وَ آتَوُا الزَّكاةَ وَ أَمَرُوا بِالْمَعْرُوفِ وَ نَهَوْا عَنِ الْمُنْكَرِ أي: و لأقدموا على أنواع طاعتنا البدنيّة و الماليّة، و أمروا عبادنا بأوامرنا، و نهوهم عمّا نهينا عنه. قيل:

الموصول مع الصلة منصوب بدل من «من ينصره». و الظاهر أنّه مجرور تابع ل «الّذين أخرجوا». و

عن الباقر عليه السّلام: «نحن هم و اللّه».

ثمّ أكّد ما وعده من إظهار أوليائه، و إعلاء كلمتهم، بقوله: وَ لِلَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ فإنّ مرجعها إلى حكمه.

[سورة الحج (22): الآيات 42 الى 45]

وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عادٌ وَ ثَمُودُ (42) وَ قَوْمُ إِبْراهِيمَ وَ قَوْمُ لُوطٍ (43) وَ أَصْحابُ مَدْيَنَ وَ كُذِّبَ مُوسى فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (44) فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها وَ هِيَ ظالِمَةٌ فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها وَ بِئْرٍ مُعَطَّلَةٍ وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ (45)

ثمّ خوّف مكذّبي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بذكر من كذّبوا أنبياءهم فأهلكوا، فقال: وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عادٌ وَ ثَمُودُ وَ قَوْمُ إِبْراهِيمَ وَ قَوْمُ لُوطٍ وَ أَصْحابُ مَدْيَنَ رسلهم و فيه أيضا تسلية لرسوله، كأنّه قال: إنّ قومك إن كذّبوك فأنت ليس بأوحديّ في التكذيب، فإنّ هؤلاء قد كذّبوا رسلهم قبل قومك، فكفاك بهم أسوة.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 400

زبدة التفاسير ج 4 449

وَ كُذِّبَ مُوسى غيّر فيه النظم، و بنى الفعل للمفعول، لأنّ قومه بنو إسرائيل و لم يكذّبوه، و إنّما كذّبه القبط. و لأنّ تكذيبه كان اشنع، لأنّ آياته كانت أعظم و أشيع.

فَأَمْلَيْتُ لِلْكافِرِينَ فأمهلتهم حتّى انصرمت آجالهم المقدّرة. يقال: أملى اللّه لفلان في العمر، إذا أخّر

عنه أجله. ثُمَّ أَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ إنكاري عليهم بتغيير النعمة محنة، و الحياة هلاكا، و العمارة خرابا. و الاستفهام للتقرير.

ثمّ بيّن كيفيّة تعذيب المكذّبين بقوله: فَكَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها بإهلاك أهلها وَ هِيَ ظالِمَةٌ أي: أهلها. في محلّ النصب على الحال. فَهِيَ خاوِيَةٌ عَلى عُرُوشِها ساقطة، من: خوى النجم إذا سقط. أو الخالي، من: خوى المنزل إذا خلا من أهله. و خوى بطن الحامل. و العرش: كلّ ما أظلّك من سقف بيت أو خيمة أو ظلّة أو كرم.

و الجملة معطوفة على «أهلكناها». و «على» إمّا متعلّق ب «خاوية». فيكون المعنى: أنّها ساقطة حيطانها على سقوفها، بأن تعطّل بنيانها فخرّت سقوفها ثم انهدمت حيطانها، فسقطت فوق السقوف. أو خالية مع بقاء عروشها و سلامتها. ف «على» تكون بمعنى مع، و إما خبر بعد خبر، كأنّه قيل: هي خالية و هي على عروشها، أي: مطلّة على عروشها، بأن سقطت إلى الأرض فصارت في قرار الحيطان، و بقيت الحيطان مائلة مشرفة عليها.

و لا يجوز أن تكون الجملة معطوفة على «وَ هِيَ ظالِمَةٌ»، لأنّها حال، و الإهلاك ليس حال خوائها. فلا محلّ لها إن نصبت «كأيّن» بمقدّر يفسّره أهلكناها، و إن رفعته بالابتداء فمحلّها الرفع.

وَ بِئْرٍ عطف على قرية، أي: و كم من بئر عامرة في البوادي، فيها الماء الغزير، و معها آلات الاستقاء مُعَطَّلَةٍ عطّلت و تركت لا يستقى منها، لهلاك أهلها وَ قَصْرٍ مَشِيدٍ مجصّص، من الشيد بمعنى الجصّ. أو مرفوع البنيان، من: شاد بمعنى: ارتفع.

و المعنى: كم من قرية أهلكناها؟ و كم بئر عطّلنا عن سقاتها؟ و كم قصر مشيد أخليناه عن

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 401

ساكنيه؟ فترك ذلك لدلالة «معطّلة» عليه.

و روي: أنّ هذه

بئر نزل عليها صالح عليه السّلام مع أربعة آلاف نفر ممّن آمن به، و نجّاهم اللّه من العذاب. و هي بحضرموت. و إنّما سمّيت بذلك، لأنّ صالحا حين حضرها مات.

و قيل: بئر في سفح جبل بحضرموت، و قصر مشرف على قلّته.

و قيل: بلدة عند البئر اسمها: حاضوراء، بناها قوم صالح، و أمّروا عليهم جلهس بن جلّاس، و أقاموا بها زمانا، ثمّ كفروا و عبدوا صنما، و أرسل اللّه إليهم حنظلة بن صفوان نبيّا فقتلوه، فأهلكهم اللّه، و عطّل بئرهم، و خرّب قصورهم.

و قيل: أصحاب الآبار ملوك البدو، و أصحاب القصور ملوك الحضر.

[سورة الحج (22): آية 46]

أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ (46)

ثمّ حثّ سبحانه على الاعتبار بمصارع من أهلكهم اللّه من الكفّار الّذين كذّبوا رسلهم، فقال: أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ أ فلم يسافروا فيها ليروا مصارع المهلكين فيعتبروا؟ و هم و إن كانوا سافروا، لكن لم يسافروا على وجه الاعتبار و التأمّل. و يحتمل أنّهم لم يسافروا، فحثّوا على السفر ليروا مصارع من أهلكهم اللّه بكفرهم، و يشاهدوا آثارهم فيعتبروا.

فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها ما يجب أن يعقل من التوحيد، بما حصل لهم من الاستبصار، و الاستدلال بما نزل على من أشرك قبلهم أَوْ آذانٌ يَسْمَعُونَ بِها ما يجب أن يسمع من الوحي و التذكير بحال من شاهدوا آثارهم.

فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ الضمير للقصّة. أو مبهم يفسّره «الأبصار». و في «تعمى» راجع إليه. و المعنى: فإنّ إبصارهم صحيحة سالمة لا عمى بها. وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ عن الاعتبار، أي: ليس الخلل في مشاعرهم، و إنّما

إيفت عقولهم باتّباع الهوى، و الانهماك في التقليد. و ذكر الصدور للتأكيد، و نفي التجوّز، كقوله:

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 402

يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ «1»، و قوله: يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ «2». و فضل التنبيه على أنّ العمى الحقيقي مكانه القلب، لا المتعارف الّذي هو البصر.

و توضيحه: أنّ الّذي قد تعورف و اعتقد أنّ العمى على الحقيقة مكانه البصر، و هو أن تصاب الحدقة بما يطمس نورها، و استعماله في القلوب استعارة و مثل. فلمّا أريد إثبات ما هو خلاف المعتقد من نسبة العمى إلى القلوب حقيقة و نفيه عن الأبصار، احتاج هذا التصوير إلى زيادة تعيين و فضل تعريف، ليتقرّر أن مكان العمى حقيقة هو القلوب في الصدور لا الإبصار، كما تقول: ليس المضاء للسيف، و لكنّه للسانك الّذي بين فكّيك.

فقولك: «الّذي بين فكّيك» تقرير لما ادّعيته للسانه و تثبيت، لأنّ محلّ المضاء هو هو لا غير.

روي: أنّه لمّا نزلت: وَ مَنْ كانَ فِي هذِهِ أَعْمى فَهُوَ فِي الْآخِرَةِ أَعْمى «3»، قال ابن أمّ مكتوم: يا رسول اللّه إنّما أنا في الدنيا أعمى، أ فأكون في الآخرة أعمى؟ فنزلت: «فَإِنَّها لا تَعْمَى الْأَبْصارُ وَ لكِنْ تَعْمَى الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ».

[سورة الحج (22): آية 47]

وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ لَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (47)

ثمّ أنكر استعجالهم بالعذاب المتوعّد به عاجلا أو آجلا، فقال: وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ المتوعّد به وَ لَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ لامتناع الخلف في خبره، فيصيبهم ما أوعدهم به و لو بعد حين، لكنّه صبور حليم لا يعجل بالعقوبة.

ثمّ بيّن تناهي صبره، و تأنّيه في أموره، فقال استقصارا للمدد الطوال: وَ إِنَّ يَوْماً عِنْدَ رَبِّكَ كَأَلْفِ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ يعني: من حلمه و

وقاره، و استقصاره المدد الطوال، أنّ

______________________________

(1) آل عمران: 167.

(2) الأنعام: 38.

(3) الإسراء: 72.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 403

يوما واحدا عنده كألف سنة عندكم.

و قيل: معناه: كيف يستعجلون بعذاب من يوم واحد من أيّام عذابه في طول ألف سنة من سنّيكم؟ من حيث إنّ اليوم الواحد لشدّة عذابه كألف سنة من سنيّ العذاب.

و قرأ ابن كثير و الكسائي و حمزة بالياء.

[سورة الحج (22): آية 48]

وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ أَمْلَيْتُ لَها وَ هِيَ ظالِمَةٌ ثُمَّ أَخَذْتُها وَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (48)

ثمّ نبّه سبحانه على أنّ الإملاء و الإهمال لا يمنعهم من العذاب، كما لا يمنع الأمم السالفة منه، فقال: وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ و كم من أهل قرية. فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه في الإعراب و رجع الضمائر و الأحكام، مبالغة في التعميم و التهويل.

و إنّما عطف الأولى بالفاء و هذه بالواو، لأنّ الأولى بدل من قوله: «فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ»، و هذه حكمها حكم ما تقدّمها من الجملتين المعطوفتين بالواو، أعني: قوله:

وَ لَنْ يُخْلِفَ اللَّهُ وَعْدَهُ و إنّ يوما عند ربّك كألف سنة لبيان أن المتوعّد به يحيق بهم لا محالة، و أنّ تأخيره لعادته تعالى. و المعنى: و كم من أهل قرية كانوا مثلكم ظالمين.

أَمْلَيْتُ لَها أنظرتهم حينا كما أمهلتكم وَ هِيَ ظالِمَةٌ و هم ظالمون مثلكم ثُمَّ أَخَذْتُها أخذتهم بالعذاب وَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ و إلى حكمي مرجع الجميع.

[سورة الحج (22): الآيات 49 الى 51]

قُلْ يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (49) فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (50) وَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (51)

ثمّ خاطب سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: قُلْ لهم يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّما أَنَا لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ أي: أوضح لكم ما أنذركم به. و الاقتصار على الإنذار مع عموم الخطاب- الّذي

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 404

يقتضي أن يقال: إنّما أنا لكم بشير و نذير، لذكر الفريقين بعده- لأنّ صدر الكلام و مساقه للمشركين، و إنّما ذكر المؤمنين و ثوابهم زيادة في غيظهم.

فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ من السيّئات وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ هي

الجنّة، فإنّها أكرم نعيم. و الكريم من كلّ نوع ما يجمع فضائله.

وَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا أي: بذلوا الجهد في إبطال آياتنا و ردّها. و أصل السعي الإسراع في المشي. مُعاجِزِينَ مسابقين. من: عاجزه إذا سابقه، لأنّ كلّ واحد منهما في طلب إعجاز الآخر عن اللحاق به، فإذا سبقه قيل: أعجزه و عجزه. و المعنى:

سعوا في معناها بالفساد، من الطعن فيها حيث سمّوها سحرا و شعرا و أساطير الأوّلين، و من تثبيط الناس عنها سابقين أو مسابقين في زعمهم، و تقديرهم طامعين أنّ كيدهم للإسلام يتمّ لهم. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو: معجزين.

أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ النار الموقدة. و قيل: اسم دركة.

[سورة الحج (22): الآيات 52 الى 55]

وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍّ إِلاَّ إِذا تَمَنَّى أَلْقَى الشَّيْطانُ فِي أُمْنِيَّتِهِ فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (52) لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (53) وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أَنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فَيُؤْمِنُوا بِهِ فَتُخْبِتَ لَهُ قُلُوبُهُمْ وَ إِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (54) وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ (55)

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 405

روي عن ابن عبّاس و غيره: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا تلا سورة و النجم و بلغ إلى قوله:

أَ فَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَ الْعُزَّى وَ مَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى «1» ألقى الشيطان في تلاوته: تلك الغرانيق «2» العلى، و إنّ شفاعتهنّ لترتجى. فسرّ بذلك المشركون. فلمّا انتهى إلى السجدة سجد المسلمون، و سجد أيضا

المشركون لمّا سمعوا من ذكر آلهتهم بما أعجبهم.

فهذا الخبر إن صحّ فمحمول على أنّه كان يتلو القرآن، فلمّا بلغ هذا الموضع، و ذكر أسماء آلهتهم، و قد علموا من عادته أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يعيبها، قال بعض الحاضرين من الكافرين:

تلك الغرانيق العلى، و ألقى ذلك في تلاوته يوهم أنّ ذلك من القرآن، فأضافه سبحانه إلى الشيطان، لأنّه إنّما حصل بإغوائه و وسوسته.

و هذا أورده المرتضى قدّس روحه في كتاب التنزيه «3». و هو قول الناصر للحقّ من أئمّة الزيديّة. و هو وجه حسن في التأويل.

فأنزل اللّه سبحانه في ذلك: وَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ وَ لا نَبِيٍ الرسول:

من بعثه اللّه بشريعة مجدّدة يدعو الناس إليها. و النبيّ يعمّه و من بعثه لتقرير شرع سابق، كأنبياء بني إسرائيل الّذين كانوا بين موسى و عيسى عليه السّلام. و لذلك شبّه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم علماء أمّته بهم، و

قال: «علماء أمّتي كأنبياء بني إسرائيل».

فالنبيّ أعمّ من الرسول. و يدلّ عليه أيضا

أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سئل عن الأنبياء، فقال: «مائة ألف و أربعة و عشرون ألفا. قيل: فكم الرسل منهم؟ قال: ثلاثمائة و ثلاثة عشر جمّا غفيرا».

و قيل: الرسول من جمع إلى المعجزة كتابا منزلا عليه. و النبيّ من لا كتاب له.

و قيل: الرسول من يأتيه الملك بالوحي. و النبيّ يقال له و لمن يوحى إليه في المنام.

______________________________

(1) النجم: 19- 20.

(2) الغرنوق: الشابّ الأبيض الجميل. و جمعه: غرانيق.

(3) تنزيه الأنبياء: 108.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 406

إِلَّا إِذا تَمَنَّى إذا تلا ما يؤدّيه إلى قومه، فإنّ التمنّي بمعنى التلاوة، كما قال حسّان بن ثابت:

تمنّى كتاب اللّه أوّل

ليلةو آخره لاقى حمام المقادر

و في رواية أخرى:

تمنّى كتاب اللّه أوّل ليلةتمنّي داود الزبور على رسل

أَلْقَى الشَّيْطانُ أي: زاد عليه بعض المشركين- الّذين هم بمنزلة الشيطان- الكلمات الباطلة و الأقوال المضلّة فِي أُمْنِيَّتِهِ في تلاوته ليوهموا أنها من جملة الوحي. و لمّا وقع ذلك منهم بغرور الشيطان أسند إليه فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فيزيله و يدحضه بما يرشده إليه من مخالفة الشيطان و ترك استماع غروره. و خرج هذا على وجه التسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا كذب المشركون عليه، و أضافوا إلى تلاوته من مدح آلهتهم ما لم يكن فيها.

و

عن مجاهد: كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا تأخّر عنه الوحي تمنّى أن ينزل عليه، فيلقي الشيطان في أمنيّته بأنّ الوحي يمكن أن ينقطع.

و على هذا، فالمعنى: إذا تمنّى بقلبه ما يتمنّاه من الأمور، وسوس إليه الشيطان و يدعوه إلى الباطل.

و قال صاحب المجمع بعد نقل الرواية المذكورة

عن ابن عبّاس: «و قد جاء في بعض الأحاديث أنّه صدر عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «تلك الغرانيق العلى، و إنّ شفاعتهنّ لترتجى»

و أراد بذلك الملائكة، فتوهّم المشركون أنّه يريد آلهتهم.

و قيل: إنّ ذلك كان قرآنا منزلا في وصف الملائكة، فلمّا ظنّ المشركون أنّ المراد به آلهتهم، نسخت تلاوته.

و قال البلخي: يجوز أن يكون النبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سمع هاتين الكلمتين من قومه و حفظهما، فلمّا قرأها ألقاها الشيطان في ذكره، فكاد أن يجريهما على لسانه، فعصمه اللّه و نبّهه، و نسخ وسواس الشيطان و أحكم آياته، بأن قرأها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم محكمة سليمة ممّا

أراد الشيطان.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 407

و يجوز أن يكون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا انتهى إلى ذكر اللّات و العزّى، قال الشيطان هاتين الكلمتين رافعا بهما صوته، فألقاهما في تلاوته في مجمع الناس، فظنّ الجهّال أنّ ذلك من قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فسجدوا عند ذلك» «1».

و هذا الوجه مردود بأنّه يخلّ بالوثوق على القرآن. و لا يندفع بقوله: «فَيَنْسَخُ اللَّهُ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ».

ثُمَّ يُحْكِمُ اللَّهُ آياتِهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ لأنّه أيضا يحتمله.

و الغرانيق: جمع غرنوق، و هو الحسن الجميل. يقال: شابّ غرنوق، إذا كان ممتلئا ريّا.

و يدلّ على أنّ الملقى أمر ظاهر عرفه المحقّ و المبطل، لا محض الوسوسة، قوله:

لِيَجْعَلَ ما يُلْقِي الشَّيْطانُ فِتْنَةً. ابتلاء و امتحانا، أي: تشديدا في التعبّد لِلَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ شكّ، و نفاق وَ الْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ المشركين. يعني: ليشدّد التكليف على الّذين في قلوبهم شكّ، و على الّذين قست قلوبهم من الكفّار، فيلزمهم التمييز بين ما يحكمه اللّه، و بين ما يلقيه الشيطان، بالأدلّة المستنبطة عن دقائق الفكر و لطائف التأمّل.

وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ يعني: هؤلاء المنافقين و المشركين. فوضع الظاهر موضع ضمير «هم» قضاء عليهم بالظلم. لَفِي شِقاقٍ بَعِيدٍ عن الحقّ، أو عن الرسول و المؤمنين.

وَ لِيَعْلَمَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ باللّه و بتوحيده و بحكمته أَنَّهُ الْحَقُ أنّ القرآن هو الحقّ مِنْ رَبِّكَ النازل من عند اللّه، و لا يجوز عليه التبديل و التغيير. أو تمكين الشيطان من الإلقاء هو الحقّ من ربّك و الحكمة.

فَيُؤْمِنُوا بِهِ فيصدّقوا به، أو يثبتوا على إيمانهم به فَتُخْبِتَ فتطمئنّ لَهُ قُلُوبُهُمْ بالانقياد و الخشية وَ إِنَّ اللَّهَ لَهادِ الَّذِينَ آمَنُوا فيما أشكل

______________________________

(1) مجمع

البيان 7: 91- 92.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 408

إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ إلى أن يتأوّلوا ما يتشابه في الدين بالتأويلات الصحيحة بوسيلة النظر الصحيح، و يطلبوا لما أشكل منه المحمل الّذي تقتضيه الأصول المحكمة و القوانين الممهّدة، لئلّا تعتريهم شبهة، و لا تخالجهم مرية، و لا تزلّ أقدامهم.

وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ في شكّ مِنْهُ من القرآن، أو الرسول، أو ممّا ألقى الشيطان في أمنيّته. يقولون: ما باله ذكرها بخير ثمّ ارتدّ عنها؟ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ القيامة، أو أشراطها، أو القيامة الصغرى، و هي الموت بَغْتَةً فجأة أَوْ يَأْتِيَهُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَقِيمٍ يوم حرب، كيوم بدر. سمّي به، لأنّ أولاد النساء يقتلون فيه، فيصرن كأنّهنّ لم يلدن. أو لأنّ المقاتلين أبناء الحرب، فإذا قتلوا صارت عقيما، فوصف اليوم بوصفها تجوّزا. أو لأنّه لا خير لهم فيه. و منه: الريح العقيم لما لم تنشئ مطرا و لم تلقح شجرا. أو لأنّه لا مثل له في عظم أمره، لقتال الملائكة فيه. أو يوم القيامة، على أنّ المراد بالساعة الموت أو أشراطها. أو على وضعه موضع ضميرها للتهويل. كأنّه قيل:

تأتيهم الساعة أو يأتيهم عذابها.

[سورة الحج (22): الآيات 56 الى 59]

الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (56) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (57) وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا أَوْ ماتُوا لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (58) لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلاً يَرْضَوْنَهُ وَ إِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ حَلِيمٌ (59)

و لمّا تقدّم ذكر القيامة بيّن صفتها، فقال: الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ التنوين فيه ينوب عن الجملة الّتي دلّت عليها الغاية، أي: الملك يوم تزول مريتهم لا يملك أحد سواه شيئا،

زبدة

التفاسير، ج 4، ص: 409

بخلاف ظاهر الحياة الدنيا يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ يفصل بين المؤمنين و الكافرين.

ثمّ بيّن تفصيل حكمه فيها بقوله: فَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ يتنعّمون فيها وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَأُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ يهينهم و يذلّهم. أدخل الفاء في الخبر الثاني دون الأوّل، لينبّه على أنّه يثيب المؤمنين زيادة على قدر عملهم بمراتب تفضّلا منه، و أنّ عقاب الكفّار مسبّب عن أعمالهم و على وفقها لا أزيد. و لذلك قال: «لهم عذاب» و لم يقل: هم في عذاب.

روي: أنّ بعض الصحابة حين رأوا الّذين استشهدوا في سبيل اللّه قالوا: يا رسول اللّه هؤلاء الّذين قتلوا قد علمنا ما أعطاهم اللّه من الخير في جنّات النعيم، و نحن نجاهد معك كما جاهدوا، فما لنا إن متنا؟ فنزلت:

وَ الَّذِينَ هاجَرُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ قُتِلُوا في الجهاد أَوْ ماتُوا في الغربة حتف أنفهم لَيَرْزُقَنَّهُمُ اللَّهُ رِزْقاً حَسَناً الجنّة و نعيمها.

فسوّى بين من قتل في الجهاد، و بين من مات حتف أنفه في الوعد، لاستوائهما في القصد و أصل العمل. و الرزق الحسن:

ما إذا رآه لا تمتدّ عينه إلى غيره. و هذا لا يقدر عليه غير اللّه تعالى، و لذلك قال: وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فإنّه يرزق بغير حساب.

لَيُدْخِلَنَّهُمْ مُدْخَلًا يَرْضَوْنَهُ هو الجنّة، فيها ما يحبّونه، فإنّ فيها ما تشتهي الأنفس و تلذّ الأعين. و المدخل يجوز أن يكون بمعنى المكان، و بمعنى المصدر.

وَ إِنَّ اللَّهَ لَعَلِيمٌ بدرجات العاملين، أو بأحوالهم و أحوال معادهم و مراتب استحقاقهم حَلِيمٌ لا يعاجل بعقوبة أعدائهم.

[سورة الحج (22): الآيات 60 الى 62]

ذلِكَ وَ مَنْ عاقَبَ بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (60)

ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (61) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ هُوَ الْباطِلُ وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (62)

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 410

ذلِكَ الأمر ذلك الّذي قصصنا عليك. روي: أنّ جماعة من مشركي مكّة لقوا قوما من المسلمين لليلتين بقيتا من المحرّم، فقالوا: إنّ أصحاب محمّد لا يقاتلون في هذا الشهر، فحملوا عليهم. فناشدهم المسلمون أن لا يقاتلوهم في الشهر الحرام، فأبوا، فأظهر اللّه المسلمين عليهم، فنزلت:

وَ مَنْ عاقَبَ أي: جازى الظالم بِمِثْلِ ما عُوقِبَ بِهِ بمثل ما ظلمه، و لم يزد في الاقتصاص. و إنّما سمّى الابتداء بالعقاب- الّذي هو الجزاء- للمزاوجة، أو لملابسته له، من حيث إنّه سبب و ذاك مسبّب عنه، كما يحملون النظير على النظير، و النقيض على النقيض للملابسة.

ثُمَّ بُغِيَ عَلَيْهِ على المجازي بمعاودة الظالم على عقوبته لَيَنْصُرَنَّهُ اللَّهُ لينصرنّ المظلوم الّذي بغي عليه لا محالة إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ للمنتصر حيث اتّبع هواه في الانتقام، و حرّم نفسه عمّا يوجبه العفو من المدح عند اللّه، و أعرض عمّا ندب إليه بقوله: وَ لَمَنْ صَبَرَ وَ غَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ «1». و لم ينظر إلى قوله: فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ « «2»». وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى «3».

و فيه تعريض بالحثّ على العفو و المغفرة، فإنّه تعالى مع كمال قدرته و علوّ شأنه لمّا كان يعفو و يغفر، فغيره بذلك أولى. و تنبيه على أنّه قادر على العقوبة، إذ لا يوصف بالعفو إلّا القادر على ضدّه.

______________________________

(1، 2) الشورى: 43 و 40.

(3) البقرة: 237.

زبدة التفاسير، ج 4، ص:

411

ذلِكَ أي: ذلك النصر بِأَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ بسبب أنّ اللّه قادر على تغليب الأمور بعضها على بعض، جار عادته على المداولة بين الأشياء المتعاندة على وفق حكمته. و من ذلك إيلاج أحد الملوين «1» في الآخر، بأن يزيد فيه ما ينقص منه، أو بتحصيل ظلمة الليل في مكان ضوء النهار بتغييب الشمس، و عكس ذلك باطلاعها. أو بسبب أنّه خالق الليل و النهار و مصرّفهما، فلا يخفى عليه ما يجري فيهما على أيدي عباده من الخير و الشرّ و البغي و الإنصاف، فيجازيهم وفق أعمالهم. وَ أَنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لما يقولون بَصِيرٌ بما يفعلون.

ذلِكَ أي: ذلك الوصف بكمال القدرة و العلم. أو الوصف بخلق الليل و النهار، و الإحاطة بما يجري فيهما، و إدراك كلّ قول و فعل. بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُ الثابت في نفسه، الواجب لذاته وحده، فإنّ وجوب وجوده و وحدته يقتضيان أن يكون مبدأ لكلّ ما يوجد سواه، عالما بذاته و بما عداه، قادرا على كلّ ما يشاء. أو الثابت الالهيّة بالذات، و لا يصلح لها إلّا من كان قادرا عالما بالذات.

وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ إلها. و قرأ ابن كثير و نافع و ابن عامر و أبو بكر بالتاء، على مخاطبة المشركين. هُوَ الْباطِلُ هو المعدوم في حدّ ذاته، أو باطل الألوهيّة وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُ على الأشياء الْكَبِيرُ عن أن يكون له شريك، و لا شي ء أعلى منه شأنا و أكبر سلطانا.

[سورة الحج (22): الآيات 63 الى 66]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (63) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ إِنَّ اللَّهَ

لَهُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (64) أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ وَ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ وَ يُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ عَلَى الْأَرْضِ إِلاَّ بِإِذْنِهِ إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (65) وَ هُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ (66)

______________________________

(1) الملوان: الليل و النهار. و الواحد: ملا.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 412

ثمّ بيّن قدرته بالدلالة الواضحة، فقال: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً استفهام تقرير، و لذا رفع قوله: فَتُصْبِحُ الْأَرْضُ مُخْضَرَّةً عطفا على «أنزل»، إذ لو نصب جوابا لدلّ على نفي الاخضرار، و المقصود إثباته بالنبات لا نفيه، كما تقول لصاحبك: ألم تر أنّي أنعمت عليك فتشكر، إن نصبته فأنت ناف لشكره شاك تفريطه فيه، و إن رفعته فأنت مثبت للشكر. و إنّما عدل عن صيغة الماضي، للدلالة على بقاء أثر المطر زمانا بعد زمان، كما تقول: أنعم عليّ فلان عام كذا، فأروح و أغدو شاكرا له. فلو قلت:

فرحت و غدوت، لم يقع ذلك الموقع.

إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ يصل علمه أو لطفه إلى كلّ ما جلّ و دقّ خَبِيرٌ بالتدابير الظاهرة و المصالح الباطنة.

لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ له التصرّف في جميع ذلك خلقا و ملكا وَ إِنَّ اللَّهَ لَهُوَ الْغَنِيُ في ذاته عن كلّ شي ء الْحَمِيدُ المستوجب للحمد بصفاته و أفعاله.

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي الْأَرْضِ من الحيوانات و الجمادات، و جعلها معدّة لمنافعكم وَ الْفُلْكَ عطف على «ما» أو على اسم «أنّ» تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِأَمْرِهِ حال منها أو خبر.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 413

وَ يُمْسِكُ السَّماءَ أَنْ تَقَعَ من أن تقع، أو كراهة أن تقع عَلَى الْأَرْضِ

بأن خلقها على صورة متداعية إلى الاستمساك إِلَّا بِإِذْنِهِ إلّا بمشيئته. و ذلك يوم القيامة.

و فيه ردّ لاستمساكها بذاتها، فإنّها مساوية لسائر الأجسام في الجسميّة، فتكون قابلة للميل الهابط كقبول غيرها.

إِنَّ اللَّهَ بِالنَّاسِ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ حيث هيّأ لهم أسباب الاستدلال، و فتح عليهم أبواب المنافع، و دفع عنهم أنواع المضارّ.

وَ هُوَ الَّذِي أَحْياكُمْ بعد أن كنتم جمادا عناصر و نطفا و علقا و مضغا ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انتهاء آجالكم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ في الآخرة للجزاء. و فيه بيان أنّ من قدر على ابتداء الإحياء، قدر على إعادتهم. إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ لجحود لما أفاض عليه من ضروب النعم مع ظهورها.

[سورة الحج (22): الآيات 67 الى 70]

لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً هُمْ ناسِكُوهُ فَلا يُنازِعُنَّكَ فِي الْأَمْرِ وَ ادْعُ إِلى رَبِّكَ إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ (67) وَ إِنْ جادَلُوكَ فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (68) اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ (69) أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّ ذلِكَ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (70)

ثمّ نهى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن أن يلتفت إلى قول الكفّار الجاحدين المعاندين، و تمكينهم من أن ينازعوه، فقال: لِكُلِّ أُمَّةٍ أهل دين جَعَلْنا مَنْسَكاً متعبّدا، أو شريعة تعبّدوا بها. و قيل: هو موضع قربان. هُمْ ناسِكُوهُ ينسكونه و يتعبّدون به. فَلا

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 414

يُنازِعُنَّكَ سائر أرباب الملل فِي الْأَمْرِ في أمر الدين، أو النسائك. يعني: لا تلتفت إلى قولهم، و لا تمكّنهم من أن يناظروك، لأنّ مناظرتهم مؤدّية إلى نزاعهم، فإنّها إنّما تنفع طالب الحقّ، و هؤلاء أهل مراء و عناد و جهالة. و هذا كقولك: لا يضاربنّك زيد، أي: لا

تضاربه. و هذا إنّما يجوز في أفعال المغالبة للتلازم.

و قيل: هذا زجر عن التعريض لرسول اللّه بالمنازعة في الدين، لأنّهم جهّال و أهل عناد، أو لأنّ أمر الإسلام أظهر من أن يقبل النزاع. و ترك واو العطف في صدر الآية، و ذكرها في نظيرها، و هو قوله: وَ لِكُلِّ أُمَّةٍ جَعَلْنا مَنْسَكاً لِيَذْكُرُوا اسْمَ اللَّهِ «1» لأنّ نظيرها وقعت مع ما يدانيها و يناسبها من الآي الواردة في أمر النسائك، فعطفت على أخواتها، بخلاف هذه الآية.

و قيل: نزلت في بديل بن ورقاء و بشر بن سفيان الخزاعيّين و غيرهما، فإنّهم قالوا للمسلمين: ما لكم تأكلون ما قتلتم، و لا تأكلون ما قتله اللّه؟ يعنون الميتة.

و قيل: معنى الآية: أنّه ليس لهم أن ينازعوك في شريعتهم، لأنّها قد نسخت شريعتك الشرائع المتقدّمة.

و فيها زيادة التثبيت لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بما يهيّج حميّته الدينيّة، و يلهب غضبه للّه و لدينه. و منه قوله تعالى: وَ لا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ ... وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ «2». فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ « «3»». و هيهات هيهات أن ترتع همّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حول ذلك الحمى، و لكنّه وارد على إرادة التهييج.

وَ ادْعُ إِلى رَبِّكَ إلى توحيده و عبادته إِنَّكَ لَعَلى هُدىً مُسْتَقِيمٍ طريق سويّ إلى الحقّ.

وَ إِنْ جادَلُوكَ خاصموك في أمر الذبيحة و غيرها من أمور الدين على سبيل

______________________________

(1) الحجّ: 34.

(2، 3) القصص: 87، 86.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 415

المراء و التعنّت، بعد ظهور الحقّ بالحجج البيّنة و الأدلّة الباهرة، فلا تجادلهم على هذا الوجه فَقُلِ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ من المجادلة الباطلة و غيرها، فيجازيكم

عليها. و هو و عيد و إنذار لكن برفق و لين.

اللَّهُ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ يفصل بين المؤمنين منكم و الكافرين بالثواب و العقاب يَوْمَ الْقِيامَةِ كما فصّل في الدنيا بالحجج و الآيات فِيما كُنْتُمْ فِيهِ تَخْتَلِفُونَ من أمر الدين.

أَ لَمْ تَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ من قليل و كثير، أي: كيف تخفى عليه أعمالهم، و قد علمت بالدليل الواضح أنّه سبحانه يعلم كلّ ما يحدث في السماء و الأرض، و لا يخفى عليه شي ء منهما؟! إِنَّ ذلِكَ ثبت فِي كِتابٍ هو اللوح، أي: كتبه فيه قبل حدوثه، فلا يهمنّك أمرهم مع علمنا به و حفظنا له.

إِنَّ ذلِكَ إنّ الإحاطة به و إثباته في اللوح، أو الحكم بينكم عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لأنّ علمه مقتضى ذاته المتعلّق بكلّ المعلومات على سواء.

[سورة الحج (22): الآيات 71 الى 72]

وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً وَ ما لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (71) وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ تَعْرِفُ فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ يَكادُونَ يَسْطُونَ بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا قُلْ أَ فَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ النَّارُ وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (72)

ثمّ بيّن تقليد عبدة الأوثان بقوله: وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لَمْ يُنَزِّلْ بِهِ سُلْطاناً ما لم يتمسّكوا في صحّة عبادته ببرهان سماويّ من جهة الوحي و السمع وَ ما

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 416

لَيْسَ لَهُمْ بِهِ عِلْمٌ و لا ألجأهم إلى عبادته علم ضروريّ، و لا حملهم عليها دليل عقلي وَ ما لِلظَّالِمِينَ و ما للذّين ارتكبوا مثل هذا الظلم مِنْ نَصِيرٍ ناصر ينصرهم و يصوّب مذهبهم، أو يدفع عنهم العذاب.

ثمّ أخبر عن شدّة عناد هؤلاء المقلّدين، فقال:

وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا من القرآن بَيِّناتٍ واضحات الدلالة على العقائد الأصوليّة الحقّة، و الأحكام الفرعيّة الإلهيّة تَعْرِفُ يا محمّد فِي وُجُوهِ الَّذِينَ كَفَرُوا الْمُنْكَرَ الفظيع من التهجّم و العبوس. أو الإنكار، كالمكرم بمعنى الإكرام، لفرط نكيرهم و غيظهم، لأباطيل أخذوها تقليدا. و هذا منتهى الجهالة، و للإشعار بذلك وضع «الّذين كفروا» موضع الضمير.

يَكادُونَ يَسْطُونَ يثبون من شدّة الغيظ و فرط الحقد، و يبطشون بِالَّذِينَ يَتْلُونَ عَلَيْهِمْ آياتِنا يقال: سطا عليه وسطا به، إذا تناوله بالبطش.

قُلْ أَ فَأُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكُمُ من غيظكم على التالين و سطوتكم عليهم. أو ممّا أصابكم من الضجر بسبب ما تلوا عليكم.

ثمّ فسّر ذلك بقوله: النَّارُ أي: هو النار. كأنّه جواب سائل قال: ما هو؟ فقيل:

النار، أي: هو النار. و يجوز أن يكون مبتدأ خبره وَعَدَهَا اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ النار. و على الأوّل استئناف كلام.

[سورة الحج (22): الآيات 73 الى 74]

يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ فَاسْتَمِعُوا لَهُ إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ ضَعُفَ الطَّالِبُ وَ الْمَطْلُوبُ (73) ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌّ عَزِيزٌ (74)

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 417

ثمّ بيّن عجز الأصنام، فقال خطابا لجميع المكلّفين: يا أَيُّهَا النَّاسُ ضُرِبَ مَثَلٌ للأصنام و عبدتها، أي: بيّن لكم حال مستغربة أو قصّة رائعة، و لذلك سمّاها مثلا فَاسْتَمِعُوا لَهُ للمثل استماع تدبّر و تفكّر.

إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني: الأصنام. و كانت ثلاثمائة و ستّين صنما حول الكعبة. و قرأ يعقوب و أبو عمرو و حفص و حمزة بالياء. و الرّاجع إلى الموصول محذوف.

لَنْ يَخْلُقُوا ذُباباً لا يقدرون على خلقه مع صغره، لأنّ

«لن» بما فيها من تأكيد النفي دالّة على أنّ خلق الذباب منهم مستحيل مناف لأحوالهم. كأنّه قال: محال أن يخلقوا الذباب. و هو من الذبّ، لأنّه يذبّ. و جمعه أذبّة و ذبّان.

وَ لَوِ اجْتَمَعُوا لَهُ هذا بجوابه المقدّر في موضع الحال جي ء به للمبالغة، أي: لا يقدرون على خلقه مجتمعين له متعاونين عليه، فكيف إذا كانوا منفردين؟! هذا من أبلغ ما أنزله اللّه في تجهيل قريش و استركاك عقولهم، و الشهادة على أنّ الشيطان قد خزمهم «1» بخزائمه، حيث وصفوا بالإلهيّة- الّتي تقتضي الاقتدار على المقدورات كلّها، و الإحاطة بالمعلومات عن آخرها- صورا و تماثيل يستحيل منها أن تقدر على أقلّ ما خلقه اللّه عزّ و جلّ، و أذلّه و أصغره و أحقره، و لو اجتمعوا لذلك و تساندوا.

وَ إِنْ يَسْلُبْهُمُ الذُّبابُ شَيْئاً أي: و أدلّ من ذلك على عجزهم و انتفاء قدرتهم، أنّ الذباب الّذي هو الخلق الأقلّ الأذلّ، لو اختطف منهم شيئا، فاجتمعوا على أن يستخلصوه منه لا يَسْتَنْقِذُوهُ مِنْهُ لا يقدرون على استنقاذه و استخلاصه منه.

قيل: كانوا يطلونها بالزعفران و رؤوسها بالعسل و يغلقون عليها الأبواب، فيدخل الذباب من الكوى فيختلسه و يأكله.

______________________________

(1) يقال: خزم أنف فلان، أي: أذلّه و تسخّره. و الخزامة: حلقة من شعر تجعل في وترة أنف البعير يشدّ فيها الزمام. و جمعها: خزائم.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 418

ضَعُفَ الطَّالِبُ وَ الْمَطْلُوبُ ضعف الذباب الّذي يطلب ما يسلب عن الصنم من العسل و الطيب، و ضعف الصنم الّذي يطلب الذباب منه السلب. أو ضعف الصنم أن يطلب الذباب ليستنقذ منه ما سلبه. و لو حقّقت وجدت الطالب أضعف بدرجات، لأنّ الذباب حيوان، و هو جماد، و هو غالب، و ذاك

مغلوب.

و قيل: معناه: ضعف عابد الصنم الّذي يطلب إليه التقرّب، و معبوده الّذي هو المطلوب إليه.

ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ ما عرفوه حقّ معرفته. أو ما عظّموه حقّ عظمته. أو ما وصفوه حقّ صفته، حيث أشركوا به، و سمّوا باسمه ما هو أبعد الأشياء عنه مناسبة.

إِنَّ اللَّهَ لَقَوِيٌ قادر على خلق الممكنات بأسرها عَزِيزٌ لا يغلبه شي ء.

و آلهتهم الّتي يعبدونها عاجزة عن أقلّها، مقهورة من أذلّها، فكيف يتّخذونها آلهة شبيهة به؟!

[سورة الحج (22): الآيات 75 الى 76]

اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً وَ مِنَ النَّاسِ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (75) يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (76)

و لمّا قرّر وحدانيّته في الألوهيّة، و نفى أن يشاركه غيره في صفاتها، بيّن أنّ له عبادا مصطفين للرسالة يتوسّل بإجابتهم، و الاقتداء بهم إلى عبادة اللّه سبحانه، تقريرا للنبوّة، و ردّا لإنكار هم أن يكون الرسول من البشر، و تزييفا لقولهم: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى «1». و الملائكة بنات اللّه تعالى، و نحو ذلك. فقال:

اللَّهُ يَصْطَفِي مِنَ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا يتوسّطون بينه و بين الأنبياء بالوحي وَ مِنَ النَّاسِ يعني: الأنبياء، يدعون سائرهم إلى الحقّ، و يبلّغون إليهم ما نزل عليهم

______________________________

(1) الزمر: 3.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 419

إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ مدرك للأشياء كلّها من المسموعات و المبصرات.

ثمّ ذكر اللّه سبحانه أنّه عالم بأحوال المكلّفين من مضى منهم و من غبر، فقال:

يَعْلَمُ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ عالم بواقعها و مترقّبها، لا يخفى عليه خافية وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ كلّها، لأنّه مالكها بالذات، لا يسال عمّا يفعل من الاصطفاء و غيره، و هم يسألون. فليس لأحد أن يعترض عليه في حكمه و تدابيره، و

اختيار رسله.

[سورة الحج (22): الآيات 77 الى 78]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (77) وَ جاهِدُوا فِي اللَّهِ حَقَّ جِهادِهِ هُوَ اجْتَباكُمْ وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ هُوَ سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ وَ فِي هذا لِيَكُونَ الرَّسُولُ شَهِيداً عَلَيْكُمْ وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ اعْتَصِمُوا بِاللَّهِ هُوَ مَوْلاكُمْ فَنِعْمَ الْمَوْلى وَ نِعْمَ النَّصِيرُ (78)

و بعد إبطال الشرك و إثبات التوحيد بالأدلّة الواضحة و الحجج الباهرة، دعا المؤمنين أوّلا إلى الصلاة الّتي هي أجلّ الطاعات و أفضلها، ثمّ بغيرها من العبادات، كالصوم و الحجّ و الزكاة، ثمّ عمّ بالحثّ على سائر الخيرات، فقال:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا ارْكَعُوا وَ اسْجُدُوا في صلاتكم. أمرهم بهما لأنّهم ما كانوا يفعلونهما أوّل الإسلام. و عبّر عن الصلاة بهما لأنّهما أعظم أركانها. قيل: المراد: اخضعوا للّه و خرّوا له سجّدا.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 420

وَ اعْبُدُوا رَبَّكُمْ بسائر ما تعبّدكم به وَ افْعَلُوا الْخَيْرَ و تحرّوا ما هو خير و أصلح فيما تأتون و تذرون، كنوافل الطاعات، و صلة الأرحام، و مكارم الأخلاق، و إغاثة الملهوف، و إعانة الضعيف لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ أي: افعلوا هذه كلّها و أنتم راجون الفلاح، غير متيقّنين له، واثقين على. أعمالكم.

و السجدة في موضعين من هذه السورة مندوبة بإجماع الإماميّة، أحدهما: في هذه الآية. و الآخر: في قوله: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَسْجُدُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ «1» الآية.

و أمّا ما

روي عن عقبة بن عامر قال: «قلت: يا رسول اللّه في سورة الحجّ سجدتان؟ قال: نعم، إن لم تسجدهما فلا تقرأهما».

و

في رواية اخرى: «فضّلت سورة الحجّ بسجدتين،

فمن لم يسجدهما فلا يقرأها».

فمحمول على تأكّد الاستحباب. و عند الشافعي أيضا مندوبة بالرواية.

و أبو حنيفة و أصحابه لا يرون فيها إلّا سجدة واحدة، لأنّهم يقولون: قرن السجود هاهنا بالركوع، فدلّ ذلك على أنّها سجدة صلاة لا سجدة تلاوة. و الحقّ الأوّل، لإجماع الطائفة الحقّة.

وَ جاهِدُوا فِي اللَّهِ و من أجله أعداء دينه الظاهرة، كأهل الكفر و الزيغ، و الباطنة كالهوى و النفس. و

عنه أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رجع من غزوة تبوك فقال: «رجعنا من الجهاد الأصغر إلى الجهاد الأكبر».

حَقَّ جِهادِهِ أي: جاهدوا جهادا في اللّه حقّا خالصا لوجهه.

فعكس و أضيف الحقّ إلى الجهاد مبالغة، كما يقال: هو حقّ عالم و جدّ عالم، أي: عالم حقّا و جدّا. و أضيف الجهاد إلى الضمير، مع أنّ القياس أن يقال: حقّ الجهاد فيه، أو حقّ جهادكم فيه، كما قال: «وَ جاهِدُوا فِي اللَّهِ» لأنّ الجهاد كان مختصّا باللّه من حيث إنّه مفعول لوجه اللّه و من أجله. أو للاتّساع، فإنّه يجوز أن يتّسع في الظرف.

______________________________

(1) الحجّ: 18.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 421

ثمّ نبّه على مقتضى الجهاد و الداعي إليه بقوله: هُوَ اجْتَباكُمْ اختاركم لدينه و لنصرته وَ ما جَعَلَ عَلَيْكُمْ فِي الدِّينِ مِنْ حَرَجٍ أي: ضيق بتكليف ما يشتدّ القيام به عليكم. و فيه إشارة إلى أنّ التكليف بالجهاد حيث شقّ عليهم لا مانع لهم عنه، و لا عذر لهم في تركه أو إلى الرخصة في إغفال بعض ما أمرهم به،

لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إذا أمرتكم بشي ء فأتوا منه ما استطعتم».

و قيل: عدم الحرج بأن جعل اللّه تعالى لهم من كلّ ذنب مخرجا، بأن رخّص لهم عند الضرورات، كالتيمّم و

القصر و أكل الميتة و غير ذلك، و فتح عليهم باب التوبة، و شرع لهم الكفّارات في حقوقه، و الأروش و الديات في حقوق العباد. و نحوه قوله تعالى:

يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ وَ لا يُرِيدُ بِكُمُ الْعُسْرَ «1». و

في الحديث: «إنّ أمّتي أمّة مرحومة».

و الحاصل: أنّ اللّه لم يضيّق عليكم أمر الدين، فلن يكلّفكم ما لا تطيقون، بل كلّف دون الوسع، فلا عذر لأحد منكم في ترك الاستعداد للآخرة.

و قوله: مِلَّةَ أَبِيكُمْ إِبْراهِيمَ منصوب على المصدر بفعل مقدّر دلّ عليه مضمون ما قبله بحذف المضاف، أي: وسّع دينكم توسعة ملّة أبيكم إبراهيم، ثمّ حذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه. أو على الإغراء و الاختصاص، أي: أعني بالدين ملّة أبيكم، كقولك: الحمد للّه الحميد.

و إنّما جعله أباهم لأنّه أبو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و هو كالأب لأمّته، من حيث إنّه سبب لحياتهم الأبديّة، و وجودهم على الوجه المعتدّ به في الآخرة أو لأنّ أكثر العرب كانوا من ذرّيّة إسماعيل، و أكثر العجم من ولد إسحاق، فغلّبوا على غيرهم.

هُوَ أي: اللّه سبحانه سَمَّاكُمُ الْمُسْلِمِينَ مِنْ قَبْلُ من قبل القرآن في الكتب المتقدّمة وَ فِي هذا و في القرآن، أي: سمّاكم بهذا الاسم الأكرم في جميع كتبه المنزلة.

______________________________

(1) البقرة: 185.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 422

أو الضمير لإبراهيم. و تسميتهم بمسلمين في القرآن و إن لم تكن منه، لكن كانت بسبب تسميته من قبل في قوله: وَ مِنْ ذُرِّيَّتِنا أُمَّةً مُسْلِمَةً لَكَ «1». و قيل: معناه: و في هذا بيان تسميته إيّاكم مسلمين.

لِيَكُونَ الرَّسُولُ متعلّق ب «سمّاكم» أي: سمّاكم المسلمين و فضّلكم ليكون رسولنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم القيامة شَهِيداً

عَلَيْكُمْ بأنّه بلّغكم، و قبلتم تبليغه مسلمين منقادين له، فتقبل شهادته لنفسه اعتمادا على عصمته. أو بطاعة من أطاع، و عصيان من عصى.

وَ تَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ بتبليغ الرسل إليهم. و مثله قوله تعالى: وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ «2».

و قيل: معناه: لتكونوا شهداء على الّذين بعدكم، بأن تبلّغوا إليهم ما بلّغه الرسول إليكم، إذ خصّكم بهذه الكرامة و الفضل و الشرف.

فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ فتقرّبوا إلى اللّه بأنواع الطاعات البدنيّة و الماليّة، و تمسّكوا بدينه وَ اعْتَصِمُوا بِاللَّهِ وثقوا به في مجامع أموركم، و لا تطلبوا الإعانة و النصرة إلّا منه هُوَ مَوْلاكُمْ ناصركم و متولّي أموركم فَنِعْمَ الْمَوْلى وَ نِعْمَ النَّصِيرُ هو، إذ لا مثل له في الولاية و النصرة، بل لا مولى و لا نصير سواه في الحقيقة.

و قيل: فنعم المولى إذ لم يمنعكم الرزق حين عصيتموه، و نعم النصير إذ أعانكم لمّا أطعتموه.

______________________________

(1) البقرة: 128.

(2) البقرة: 143.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 423

(23) سورة المؤمنون

اشارة

مكّيّة، و هي مائة و ثماني عشرة آية.

عن أبيّ بن كعب، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأ سورة المؤمنين بشّرته الملائكة يوم القيامة بالروح و الريحان، و ما تقرّ به عينه عند نزول ملك الموت».

و

عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «لقد أنزلت عليّ عشر آيات من أقامهنّ دخل الجنّة، ثمّ قرأ «قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ» حتّى ختم العشر».

و

روي: «أنّ أوّلها و آخرها من كنوز الجنّة، من عمل بثلاث آيات من أوّلها، و اتّعظ بأربع من آخرها، فقد نجا و أفلح».

و

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «من قرأ سورة المؤمنين ختم اللّه له بالسعادة، إذا كان يدمن قراءتها

في كلّ جمعة، و كان منزله في الفردوس الأعلى مع النبيّين و المرسلين».

[سورة المؤمنون (23): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ (1) الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ (2)

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة الحجّ بأمر المكلّفين بالعبادة و أفعال الخير على طريق

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 424

الإجمال، افتتح هذه السورة بتفصيل تلك الجملة و بيان تلك الأفعال، و لمّا كان المؤمنون متوقّعين من فضل اللّه، صدّر هذه السورة ببشارتهم، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ «قد» تثبت المتوقّع، كما أنّ «لمّا» تنفيه، و تدلّ على ثباته إذا دخلت على الماضي، و لذلك تقّربه من الحال. و الفلاح الظفر بالمراد. و قيل: البقاء في الخير. و يقال: أفلح إذا دخل في الفلاح، كأبشر إذا دخل في البشارة. و المؤمن لغة: المصدّق. و شرعا: الّذي صدّق بوحدانيّته و برسله و بجميع ما جاؤا به.

الَّذِينَ هُمْ فِي صَلاتِهِمْ خاشِعُونَ خائفون من اللّه خاضعون، متذلّلون له، ملزمون أبصارهم مساجدهم.

روي: أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يصلّي رافعا بصره إلى السماء، فلمّا نزلت رمى ببصره نحو مسجده. و أنّه رأى رجلا يبعث بلحيته في الصلاة، فقال: «لو خشع قلب هذا الرجل لخشعت جوارحه».

و في هذا دلالة على أنّ الخشوع في الصلاة يكون بالقلب و بالجوارح. أمّا بالقلب فهو أن يفرغ قلبه بجمع الهمّة لها و الإعراض عمّا سواها، فلا يكون فيه غير العبادة و المعبود. و أمّا الجوارح فهو أن يلتزم كلّ جارحة بما أمر به في الصلاة، و يستعمل الآداب، فيتوقّى من العبث بجسده و ثيابه، و الالتفات، و التمطّي، و التثاؤب، و التغميض، و الفرقعة، و التشبيك، و تقليب الحصى، و غير ذلك.

و نظر الحسن

البصري إلى رجل يعبث بالحصى و هو يقول: اللّهمّ زوّجني من الحور العين. فقال: بئس الخاطب أنت! تخطب و أنت تعبث.

و أضيفت الصلاة إليهم لأنّهم المنتفعون بها فقط، و هي عدّتهم و ذخيرتهم، و أمّا المصلّى له فغنيّ متعال عن الحاجة إليها و الانتفاع بها.

و عن ابن عبّاس: الخاشع في الصلاة هو الّذي لا يعرف من على يمينه، و لا من على يساره.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 425

[سورة المؤمنون (23): الآيات 3 الى 11]

وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ (3) وَ الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ (4) وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (5) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (6) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (7)

وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ (8) وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ (9) أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ (10) الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ هُمْ فِيها خالِدُونَ (11)

و لمّا وصفهم بالخشوع في الصلاة، أتبعه الوصف بالإعراض عن اللغو، ليجمع لهم الفعل و الترك الشاقّين على الأنفس، اللّذين هما قاعدتا بناء التكليف، فقال: وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ عمّا لا يعنيهم من قول أو فعل، كالهزل و اللعب مُعْرِضُونَ لما بهم من الجدّ في الطاعات ما شغلهم عنه.

و

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «هو أن يتقوّل الرجل عليك بالباطل، أو يأتيك بما ليس فيك فتعرض عنه للّه». و في رواية أخرى: «أنّه الغناء و الملاهي».

و إيثاره على: الّذين لا يلهون، لأنّه أبلغ منه من وجوه، و هي: جعل الجملة اسميّة، و بناء الحكم على الضمير، و التعبير عنه بالاسم، و تقديم الصلة عليه، و إقامة الإعراض مقام الترك ليدلّ على بعدهم عنه رأسا، مباشرة و تسبّبا، و ميلا و حضورا، فإنّ

الإعراض أبلغ من الترك لغة و عرفا.

و كذلك قوله: وَ الَّذِينَ هُمْ لِلزَّكاةِ فاعِلُونَ وصفهم بذلك بعد وصفهم بالخشوع في الصلاة، ليدلّ على أنّهم بلغوا الغاية في القيام على الطاعات البدنيّة و الماليّة، و التجنّب

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 426

عن المحرّمات، و سائر ما توجب المروءة اجتنابه. و الزكاة اسم مشترك بين عين و معنى.

فالعين: القدر الّذي يخرجه المزكّي من النصاب إلى الفقير. و المعنى: فعل المزكّي الّذي هو التزكية، فإنّه هو الّذي أراده اللّه عزّ و جلّ، لأنّ الفاعل فاعل الحدث، لا المحلّ الّذي هو موقعه. أو المراد الأوّل على تقدير مضاف، أي: لأداء الزكاة فاعلون.

وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ لا يبذلونها إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ زوجاتهم أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ سريّاتهم. و «على» صلة ل «حافظون». من قولك: احفظ عليّ عنان فرسي. على تضمينه معنى النفي، كما ضمّن قولهم: نشدتك باللّه إلّا فعلت، معنى: ما طلبت منك إلّا فعلك.

أو حال، أي: إلّا والين على أزواجهم، أو قوّامين عليهنّ. من قولك: كان فلان على فلانة، فمات عنها فخلّف عليها فلان. و منه قولهم: فلانة تحت فلان. و من ثمّ سمّيت المرأة فراشا. و المعنى: أنّهم لفروجهم حافظون في كافّة الأحوال، إلّا في حال التزوّج أو التسرّي.

أو تعلّق «على» بمحذوف يدلّ عليه «غير ملومين». كأنّه قيل: يلامون إلّا على أزواجهم، أي: يلامون على كلّ مباشر إلّا على أزواجهم أو ما ملكت أيمانهم.

و إنّما قال: «ما» و هنّ من جنس العقلاء، إجراء للمماليك مجرى غير العقلاء، إذ الملك أصل شائع فيه. و إفراد ذلك بعد تعميم قوله: «وَ الَّذِينَ هُمْ عَنِ اللَّغْوِ مُعْرِضُونَ» لأنّ المباشرة أشهى الملاهي إلى النفس و أعظمها خطرا.

فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ الضمير ل «حافظون».

أو لمن دلّ عليه الاستثناء، أي: فإن بذلوها لأزواجهم أو إمائهم، فإنّهم غير ملومين على ذلك.

و إنّما أطلق سبحانه إباحة وطء الأزواج و الإماء، و إن كانت لهنّ أحوال يحرم وطؤهنّ فيها، كحال الحيض و العدّة للجارية من زوج لها، و ما أشبه ذلك، لأنّ الغرض بالآية بيان جنس من يحلّ وطؤها، دون الأحوال الّتي لا يحلّ فيها الوطء.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 427

فَمَنِ ابْتَغى طلب وَراءَ ذلِكَ الحدّ المستثنى مع فسحته و اتّساعه. و هو إباحة أربع من الحرائر، و من الإماء ما شاء. فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ الكاملون في العدوان، المتناهون فيه.

وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ لما يؤتمنون عليه و ما يعاهدون، من جهة الحقّ، من العهود في أداء الطاعات و ترك المنكرات و المواثيق، أو الخلق، من الأمانات و عهودهم. و مثله: إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُكُمْ أَنْ تُؤَدُّوا الْأَماناتِ «1». وَ تَخُونُوا أَماناتِكُمْ «2». راعُونَ قائمون بحفظها و إصلاحها، كراعي الغنم و راعي الرعيّة.

و قرأ ابن كثير: لأمانتهم على الإفراد، لأمن الإلباس، أو لأنّها في الأصل مصدر.

وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلَواتِهِمْ يُحافِظُونَ يواظبون عليها، و يؤدّونها في أوقاتها.

و الإتيان بلفظ الفعل هاهنا لما في الصلاة من التجدّد و التكرّر، و لذلك جمعه غير حمزة و الكسائي. و ليس ذلك تكريرا لما وصفهم به أوّلا، لأنّ الخشوع في الصلاة غير المحافظة عليها. و في تصدير الأوصاف و ختمها بأمر الصلاة تعظيم لشأنها.

أُولئِكَ الجامعون لهذه الصفات هُمُ الْوارِثُونَ الأحقّاء بأن يسمّوا ورّاثا دون غيرهم.

ثمّ بيّن الوارثين بقوله: الَّذِينَ يَرِثُونَ الْفِرْدَوْسَ و في التبيين بعد الإجمال تفخيم لوراثتهم لا يخفى على المتأمّل. و هي مستعارة لاستحقاقهم الفردوس لأجل أعمالهم، مبالغة فيه.

و قيل: إنّهم يرثون من الكفّار منازلهم

فيها حيث فوّتوها على أنفسهم، لأنّه تعالى خلق لكلّ إنسان منزلا في الجنّة و منزلا في النار، لما

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «ما منكم من أحد إلّا له منزلان: منزل في الجنّة، و منزل في النار، فإن مات و دخل النار ورث

______________________________

(1) النساء: 58.

(2) الأنفال: 27. زبدة التفاسير، ج 4، ص: 428

أهل الجنّة منزله».

و قال الجبائي: معنى الوراثة هاهنا أنّ الجنّة و نعيمها يؤول إليهم من غير اكتساب، كما يؤول المال إلى الوارث من غير اكتساب. و الفردوس: هو البستان الواسع الجامع لأصناف الثمار.

هُمْ فِيها في الفردوس خالِدُونَ أنّث الضمير لأنّه اسم للجنّة، أو لطبقتها العليا.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنّ اللّه عزّ و جلّ بنى جنّة الفردوس لبنة من ذهب و لبنة من فضّة، و جعل خلالها المسك الأذفر» «1».

و

في رواية: «و لبنة من مسك مذرّى «2»، و غرس فيها من جيّد الفاكهة».

[سورة المؤمنون (23): الآيات 12 الى 16]

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ (12) ثُمَّ جَعَلْناهُ نُطْفَةً فِي قَرارٍ مَكِينٍ (13) ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ فَتَبارَكَ اللَّهُ أَحْسَنُ الْخالِقِينَ (14) ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ لَمَيِّتُونَ (15) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ (16)

ثمّ استدلّ على قدرته على إعادة الإيجاد بقدرته على الإبداء، فقال: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ أي: من خلاصة، لأنّها سلّت من بين الكدر. و الفعالة بناء

______________________________

(1) أي: الشديد الرائحة.

(2) أي: مفرّق، من: ذرّت الريح التراب: فرّقته.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 429

لقلّة، كالقلامة و القمامة. مِنْ طِينٍ متعلّق بمحذوف، لأنّه صفة ل «سلالة». أو «من» بيانيّة. أو بمعنى سلالة، لأنّها

في معنى: مسلولة، فتكون «من» ابتدائيّة كالأولى.

و المراد بالإنسان آدم عليه السّلام، خلق من صفوة سلّت من الطين. أو الجنس، فإنّهم خلقوا من سلالات جعلت نطفا بعد أدوار. قيل: المراد بالطين آدم، لأنّه خلق منه، و السلالة: نطفته.

ثُمَّ جَعَلْناهُ أي: جعلنا نسله، فحذف المضاف نُطْفَةً بأن خلقناه منها.

يعني: خلقنا جوهر الإنسان أوّلا طينا، ثمّ جعلنا جوهره بعد ذلك نطفة، أو ثمّ جعلنا السلالة نطفة. و تذكير الضمير على تأويل الجوهر، أو المسلول، أو الماء. فِي قَرارٍ مَكِينٍ مستقرّ حصين. يعني: الرحم. و صفت بالمكانة الّتي هي صفة المستقرّ فيها مبالغة، مثل: طريق سائر، و نهر جار، و ميزاب سائل.

ثُمَّ خَلَقْنَا النُّطْفَةَ عَلَقَةً بأن أحلنا النطفة البيضاء علقة حمراء فَخَلَقْنَا الْعَلَقَةَ مُضْغَةً فصيّرناها قطعة لحم فَخَلَقْنَا الْمُضْغَةَ عِظاماً بأن صلّبناها فَكَسَوْنَا الْعِظامَ لَحْماً أي: فأنبتنا اللحم عليها كاللباس ممّا بقي من المضغة، أو ممّا أنبتنا عليها ممّا يصل إليها من المائيّة. و اختلاف العواطف لتفاوت الاستحالات. و جمع العظام لاختلافها في الهيئة و الصلابة. و قرأ ابن عامر و أبو بكر على التوحيد فيهما، اكتفاء باسم الجنس عن الجمع.

ثُمَّ أَنْشَأْناهُ خَلْقاً آخَرَ خلقا مباينا للخلق الأوّل مباينة ما أبعدها، حيث نفخنا فيه الروح، و جعلناه حيوانا ناطقا سميعا بصيرا، بعد أن كان جمادا أبكم أصمّ أكمه.

و المراد مجموع صورة البدن و الرّوح و القوى، و سائر ما أودع فيه من عجائب فطرة و غرائب حكمة، لا تدرك بوصف الواصف، و لا تبلغ بشرح الشارح. و إيراد «ثمّ» لما بين الخلقين من التفاوت.

فَتَبارَكَ اللَّهُ فتعالى شأنه في قدرته و حكمته، و دام خيره أَحْسَنُ الْخالِقِينَ

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 430

المقدّرين تقديرا. فحذف المميّز لدلالة «الخالقين» عليه.

روي: أنّ

عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح كان يكتب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فنطق بذلك قبل إملائه، فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «اكتب هكذا نزلت».

و

على رواية اخرى: فلمّا بلغ إلى قوله: «خلقا آخر» خطر بباله: فتبارك اللّه أحسن الخالقين، فلمّا أملاها رسول اللّه كذلك قال عبد اللّه: إن كان محمّد نبيّا يوحى إليه فأنا نبيّ يوحى إليّ. فلحق بمكّة كافرا، ثمّ أسلم يوم الفتح.

ثُمَّ إِنَّكُمْ بَعْدَ ذلِكَ بعد ما ذكرنا من تمام الخلق لَمَيِّتُونَ لصائرون إلى الموت لا محالة، و لذلك ذكر النعت الّذي للثبوت دون اسم الفاعل.

ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ تُبْعَثُونَ للمحاسبة و المجازاة. أخبر سبحانه بذلك أنّ هذه البنية العجيبة، المبنيّة على أحسن إتقان و إحكام، تنقض بالموت لغرض صحيح، و هو البعث و الإعادة. و ليس في ذكر الحياتين نفي الثالثة الّتي هي حياة القبر، فإنّ إثبات البعث يوم القيامة لا يدلّ على نفي ما عداه، كما لو ذكرت ثلثي ما عندك و طويت ذكر ثلثه، لم يكن دليلا على أنّ الثلث ليس عندك. و أيضا الغرض ذكر هذه الأجناس الثلاثة: الإنشاء و الإماتة و الإعادة، و المطويّ ذكرها من جنس الإعادة.

[سورة المؤمنون (23): الآيات 17 الى 22]

وَ لَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ وَ ما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ غافِلِينَ (17) وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ وَ إِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ لَقادِرُونَ (18) فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ لَكُمْ فِيها فَواكِهُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ (19) وَ شَجَرَةً تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ (20) وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً نُسْقِيكُمْ مِمَّا فِي بُطُونِها وَ لَكُمْ

فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ (21)

وَ عَلَيْها وَ عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (22)

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 431

ثمّ ذكر قدرته على وجوه أخر ليستدلّ بها على قدرته على البعث، فقال: وَ لَقَدْ خَلَقْنا فَوْقَكُمْ سَبْعَ طَرائِقَ أي: سبع سماوات، لأنّها طورق بعضها فوق بعض مطارقة النعل بالنعل، و كلّ ما فوقه مثله فهو طريقة. أو لأنّها طرق الملائكة و متقلّباتهم، أو طرق الكواكب في السماوات و مسايرها.

وَ ما كُنَّا عَنِ الْخَلْقِ عن ذلك المخلوق الّذي هو السماوات غافِلِينَ مهملين أمرها، بل نحفظها عن الزوال و الاختلال بقدرتنا، حتّى تبلغ منتهى ما قدّر لها من الكمال حسبما اقتضته الحكمة و تعلّقت به المشيئة. أو ما كنّا عن خلق الناس و سائر المخلوقات غافلين، و إنّما خلقنا السماوات السّبع فوقهم ليفتح عليهم الأرزاق و البركات منها، و ينفعهم بأنواع منافعها.

وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ بتقدير يصلون إلى المنفعة العظيمة، و يسلمون معه من المضرّة. أو بمقدار ما علمنا من حاجاتهم و مصالحهم. فَأَسْكَنَّاهُ فجعلناه ثابتا مستقرّا فِي الْأَرْضِ بأن جعلنا له الأرض مسكنا جمعناه فيه لينتفع به. يريد ما يبقى من المستنقعات و الآبار و الدّحلان «1»، فإنّ اللّه أقرّ الماء فيها لينتفع الناس بها في الصيف عند انقطاع المطر.

و

روى مقاتل عن عكرمة، عن ابن عبّاس، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «إنّ اللّه تعالى أنزل من الجنّة خمسة أنهار: سيحون و هو نهر الهند، و جيحون و هو نهر بلخ، و دجلة

______________________________

(1) الدّحلان جمع الدّحل، و هو النقب الضيّق الأعلى و الواسع الأسفل، أو البئر الواسعة الجوانب الضيّقة الرأس. زبدة التفاسير، ج 4، ص: 432

و الفرات و هما نهرا العراق، و النيل و

هو نهر مصر. أنزلها اللّه من عين واحدة، و أجراها في الأرض، و جعل فيها منافع للناس في أصناف معايشهم، فذلك قوله: وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَسْكَنَّاهُ فِي الْأَرْضِ

وَ إِنَّا عَلى ذَهابٍ بِهِ على إزالته بالإفساد، أو التصعيد، أو التعميق، بحيث يتعذّر استنباطه لَقادِرُونَ كما كنّا قادرين على إنزاله. و في تنكير الذهاب إيماء إلى كثرة طرق الذهاب، و كمال اقتدار مذهبه، و مبالغة في الإيعاد به. و لذلك جعل أبلغ من قوله: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ «1». فعلى العباد أن يستعظموا النعمة في الماء، و يقيّدوها بالشكر الدائم، و يخافوا نفارها إذا لم تشكر.

و

في الحديث: «النعم و حشيّة فقيّدوها بالشكر».

و قال بعض العلماء: الشكر للنعمة الحاضرة قيد، و للمترقّبة صيد، فإذا شكرت قرّت، و إذا لم تشكر فرّت.

فَأَنْشَأْنا لَكُمْ بِهِ بالماء جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ لَكُمْ فِيها في الجنّات فَواكِهُ كَثِيرَةٌ تتفكّهون بها وَ مِنْها و من الجنّات ثمارها و زروعها تَأْكُلُونَ تغذّيا. أو ترتزقون و تحصّلون معايشكم. من قولهم: فلان يأكل من حرفة يحترفها، و من ضيعة يغتلّها، و من تجارة يتربّح بها. يعنون: أنّها طعمته و جهته الّتي منها يحصّل رزقه.

كأنّه قال: و هذه الجنّات وجوه أرزاقكم و معايشكم، منها ترتزقون و تتعيّشون.

و يجوز أن يكون الضميران للنخيل و الأعناب، أي: لكم في ثمراتها. فوصفهما بأنّ ثمرهما جامع بين أمرين: فاكهة يتفكّه بها، و طعام يؤكل رطبا و يابسا، و عنبا و تمرا و زبيبا.

وَ شَجَرَةً عطف على «جنّات». و هي الزيتون. تَخْرُجُ مِنْ طُورِ سَيْناءَ جبل موسى بين مصر و أيلة. و قيل: بفلسطين. و قد يقال له: طور سينين.

و

لا يخلو إمّا أن يكون الطور اسم الجبل، و سيناء اسم بقعة، فأضيف إليها. و إمّا أن

______________________________

(1) الملك: 30.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 433

يكون المركّب منهما علما له، كامرئ القيس و بعلبك.

و منع صرفه للتعريف و العجمة، أو التأنيث على تأويل البقعة، لا للألف، لأنّه فيعال كد يماس، من السناء بالمدّ و هو الرفعة، أو بالقصر و هو النور، أو ملحق بفعلال- كعلباء- من السين، و لا يجي ء فعلاء بألف التأنيث. بخلاف «سيناء» على قراءة الكوفيّين و الشامي و يعقوب، فإنّه فيعال ككيسان، أو فعلاء كصحراء، لا فعلال، إذ ليس في كلامهم.

و تخصيص هذه الأنواع الثلاثة لأنّها أكرم الشجر و أفضلها، و أجمعها للمنافع.

تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ أي: تنبت ملتبسة بالدهن و مستصحبة له. و يجوز أن يكون الباء صلة معدّية ل «تنبت»، كما في قولك: ذهبت بزيد.

و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و يعقوب في رواية: تنبت. و هو إمّا من: أنبت بمعنى:

نبت، كقول زهير:

رأيت ذوي الحاجات حول بيوتهم قطينا لهم حتّى إذا أنبت البقل

أي: نبت. أو تنبت زيتونها ملتبسا بالدهن.

وَ صِبْغٍ لِلْآكِلِينَ معطوف على الدهن، جار على إعرابه، و عطف أحد و صفي الشي ء على الآخر، أي: تنبت بالشي ء الجامع بين كونه دهنا يدهن به و يسرج منه، و كونه إداما يصبغ فيه الخبز، أي: يغمس فيه للائتدام. قيل: هي أوّل شجرة تنبت بعد الطوفان، و وصفها اللّه عزّ و جلّ بالبركة في قوله: يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ «1». و

قد روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «الزيت شجرة مباركة، فأتدموا به و ادّهنوا».

وَ إِنَّ لَكُمْ فِي الْأَنْعامِ لَعِبْرَةً تعتبرون بحالها، و تستدلّون بها على كمال قدرته نُسْقِيكُمْ مِمَّا

فِي بُطُونِها من الألبان أو من العلف، فإنّ اللبن يتكوّن منه. ف «من»

______________________________

(1) النور: 35.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 434

للتبعيض أو للابتداء. و قرأ نافع و ابن عامر و أبو بكر و يعقوب: نسقيكم بفتح النون. و من قرأ بضمّ النون أراد: إنّا جعلنا ما في ضروعها من اللبن سقيا لكم. و من فتح النون جعل ذلك مختصّا بالسقاة. وَ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ كَثِيرَةٌ وَ مِنْها تَأْكُلُونَ فتنتفعون بأعيانها من اللحوم و الشحوم.

وَ عَلَيْها و على الأنعام، فإنّ منها ما يحمل عليه كالإبل و البقر. و قيل: المراد الإبل، لأنّها هي المحمول عليها عندهم، أو للمناسبة للفلك، كأنّها سفائن البرّ. وَ عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ في البرّ و البحر. و على الوجه الأخير فالضمير في «عليها» كالضمير في وَ بُعُولَتُهُنَّ أَحَقُّ بِرَدِّهِنَ «1».

[سورة المؤمنون (23): الآيات 23 الى 30]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ (23) فَقالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ ما هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (24) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ فَتَرَبَّصُوا بِهِ حَتَّى حِينٍ (25) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (26) فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا وَ وَحْيِنا فَإِذا جاءَ أَمْرُنا وَ فارَ التَّنُّورُ فَاسْلُكْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ وَ أَهْلَكَ إِلاَّ مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ (27)

فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَ مَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (28) وَ قُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي مُنْزَلاً مُبارَكاً وَ أَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ (29) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ وَ

إِنْ كُنَّا لَمُبْتَلِينَ (30)

______________________________

(1) البقرة: 228.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 435

و لمّا عدّد النعم المذكورة على الكفّار، خوّفهم على كفرانها، بذكر قوم نوح و غيرهم من أمم الأنبياء، و ما حاق بهم من زوال النعم بسبب كفرانها، فقال: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ الّذي هو ربّكم و خالقكم و رازقكم، و شكر نعمته الّتي لا تحصونها واجب عليكم ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ استئناف يجري مجرى التعليل للأمر بالعبادة أَ فَلا تَتَّقُونَ أ فلا تخافون أن يزيل عنكم نعمه، فيهلككم و يعذّبكم برفضكم عبادته إلى عبادة غيره، و كفرانكم نعمه الّتي لا تحصوها؟

فَقالَ الْمَلَأُ الأشراف الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ لعوامهم ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُرِيدُ أَنْ يَتَفَضَّلَ عَلَيْكُمْ أي: يطلب الفضل عليكم و يسودكم وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ أن يرسل رسولا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً رسلا و لم يرسل بشرا آدميّا ما سَمِعْنا بِهذا إشارة إلى نوح عليه السّلام، أو إلى ما كلّمهم به من الحثّ على عبادة اللّه وحده، أي: ما سمعنا بأنّه نبيّ، أو بالّذي يدعونا إليه من عبادة اللّه و نفي إله غيره فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ و ذلك إمّا لفرط عنادهم، أو لأنّهم كانوا في فترة متطاولة.

و ما أعجب شأنهم! إنّهم لم يرضوا للنبوّة ببشر و قد رضوا به للإلهيّة، بل بأدون من البشر، و هو الجمادات، لانهماكهم في الغيّ، و تشمّرهم أن يدفعوا الحقّ بما أمكنهم. ألا تراهم كيف جنّنوه و قد علموا أنّه أرجح الناس عقلا و أوزنهم قولا! فقالوا: إِنْ هُوَ إِلَّا رَجُلٌ بِهِ جِنَّةٌ أي: به جنون، أو به جنّ يخبّلونه، و لأجله يقول: إنّي رسول اللّه فَتَرَبَّصُوا بِهِ انتظروا و اصبروا عليه حَتَّى

حِينٍ حتّى يتجلّى أمره بأن يفيق من

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 436

جنونه، و إلّا اقتلوه أو انتظروا موته فتستريحوا منه.

قالَ بعد ما يئس من إيمانهم رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ بسبب تكذيبهم إيّاي، أو انصرني بدل ما كذّبوني، كما يقال: هذا بذاك، أي: بدل ذاك و مكانه. و المعنى:

أبدلني من غمّ تكذيبهم بي سلوة النصرة عليهم. أو انصرني بإنجاز ما وعدتهم من العذاب، و هو ما كذّبوه فيه حين قال لهم: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ «1».

فَأَوْحَيْنا إِلَيْهِ أَنِ اصْنَعِ الْفُلْكَ بِأَعْيُنِنا بمرأى منّا و بحفظنا تحفظ. و ذكر الجمع للمبالغة في الحفظ، كأنّ معه من اللّه حفّاظا يكلؤونه بعيونهم، لئلّا يتعرّض له، و لا يفسد عليه مفسد عمله، أو لا تخطئ فيه. و منه قولهم: عليه من اللّه عين كالئة. وَ وَحْيِنا و أمرنا و تعليمنا كيف تصنع. روي أنّه أوحى إليه أن يصنعها على مثال جؤجؤ «2» الطائر، فصنعها كما أمر.

فَإِذا جاءَ أَمْرُنا بالركوب، أو بنزول العذاب وَ فارَ التَّنُّورُ أصله: و نوّر، قلبت الواو تاء، كما في تراث و تولج «3» و تيقور و تخمة و تكلة فَاسْلُكْ فِيها فأدخل فيها. يقال: سلك فيه و سلك غيره. و منه قوله تعالى: ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ «4». مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ من كلّ أمّتي زوجين. و هما: أمّة الذكر و أمّة الأنثى، كالجمال و النوق، و الحصن و الرّماك «5». اثْنَيْنِ واحدين مزدوجين، كالجمل و الناقة، و الحصان و الرمكة. و قرأ حفص: من كلّ بالتنوين، أي: من كلّ نوع زوجين، و «اثنين» تأكيد

______________________________

(1) الشعراء: 135.

(2) الجؤجؤ من الطائر و السفينة: الصدر.

(3) التولج: كناس الوحش أي: بيته. و أصله: الوولج. و التيقور: الوقار. و

أصله و يقور، قلبت الواو ياء. و التخمة: الداء يصيب الإنسان من الطعام الوخيم. و أصلها: الوخمة. و التكلة:

العاجز الذي يكل أمره إلى غيره و يتّكل عليه.

(4) المدّثّر: 42.

(5) الرماك جمع الرمكة، و هي الفرس تتّخذ للنسل.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 437

و زيادة بيان. و روي أنّه لم يحمل إلّا ما يلد و يبيض. وَ أَهْلَكَ و أهل بيتك، أو من آمن معك.

و قيل: إنّه قيل لنوح: إذا فار الماء من التنّور اركب أنت و من معك، فلمّا نبع الماء منه أخبرته امرأته، فركب هو و من معه.

و عن الشعبي: محلّ التنّور في مسجد الكوفة عن يمين الداخل ممّا يلي باب كندة، و كان نوح عليه السّلام عمل السفينة وسط المسجد. و قيل: عين وردة بالشام. و قيل: بالهند. و عن ابن عبّاس: التنّور وجه الأرض. و عن قتادة: أشرف موضع في الأرض، أي: أعلاه. و

عن عليّ عليه السّلام: فار التنّور: طلع الفجر.

و قيل: معناه: أن فوران التنّور كان عند تنوير الفجر.

و القول الأوّل أشهر.

إِلَّا مَنْ سَبَقَ عَلَيْهِ الْقَوْلُ مِنْهُمْ أي: القول من اللّه بإهلاكه لكفره. و إنّما جي ء ب «على» لأنّ السابق ضارّ، كما جي ء باللام حيث كان نافعا، كما في قوله: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى «1» وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ «2».

وَ لا تُخاطِبْنِي فِي الَّذِينَ ظَلَمُوا بالدعاء لهم بالإنجاء إِنَّهُمْ مُغْرَقُونَ لا محالة، لظلمهم بالإشراك، و من هذا شأنه لا يشفع له و لا يشفع فيه. و لهذا أمره بالحمد على النجاة منهم بهلاكهم بعد النهي عن الدعاء لهم بالإنجاء، فقال: فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَ مَنْ مَعَكَ عَلَى الْفُلْكِ فَقُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي نَجَّانا مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ كقوله: فَقُطِعَ دابِرُ

الْقَوْمِ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ «3».

ثمّ أمره أن يدعوه بدعاء هو أهمّ و أنفع له، فقال: وَ قُلْ رَبِّ أَنْزِلْنِي في السفينة، أو في الأرض عند خروجه منها مُنْزَلًا مُبارَكاً إنزالا مباركا، أو موضع إنزال يبارك له

______________________________

(1) الأنبياء: 101.

(2) الصافّات: 171.

(3) الأنعام: 45.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 438

فيه، و يعطيه فيه مزيد الخير في الدارين. و قرأ عاصم برواية أبي بكر: منزلا بفتح الميم و كسر الزاي، بمعنى: نزولا مباركا، أو موضع نزول. وَ أَنْتَ خَيْرُ الْمُنْزِلِينَ ثناء مطابق لدعائه. أمره بأن يشفع الدعاء بالثناء عليه مبالغة فيه، و توسّلا به إلى الإجابة.

و إنّما آثر «فَإِذَا اسْتَوَيْتَ أَنْتَ وَ مَنْ مَعَكَ» لأنّه في معنى: فإذا استويتم، لأنّه نبيّهم و إمامهم، فكان قوله قولهم، مع ما فيه من الإشعار بفضل النبوّة و إظهار كبرياء الربوبيّة، و أنّ رتبة تلك المخاطبة لا يترقّى إليها إلّا ملك أو نبيّ.

روي عن الحسن: كان في السفينة سبعة أنفس من المؤمنين و نوح ثامنهم. و قيل:

ثمانون.

إِنَّ فِي ذلِكَ في ما فعل بنوح و قومه لَآياتٍ يستدلّ بها و يعتبر أولوا الاستبصار و الاعتبار وَ إِنْ و إن الشأن و القصّة كُنَّا لَمُبْتَلِينَ لمصيبين قوم نوح ببلاء عظيم و عقاب شديد، أو مختبرين عبادنا بهذه الآيات لننظر من يعتبر و يذّكّر، كقوله تعالى: وَ لَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ «1». و «إن» هي المخفّفة، و اللام هي الفارقة.

[سورة المؤمنون (23): الآيات 31 الى 41]

ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ (31) فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولاً مِنْهُمْ أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ (32) وَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ وَ أَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ما

هذا إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَ يَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ (33) وَ لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ (34) أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُراباً وَ عِظاماً أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ (35)

هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ (36) إِنْ هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ (37) إِنْ هُوَ إِلاَّ رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً وَ ما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ (38) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بِما كَذَّبُونِ (39) قالَ عَمَّا قَلِيلٍ لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ (40)

فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ بِالْحَقِّ فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (41)

______________________________

(1) القمر: 15.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 439

ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قَرْناً آخَرِينَ هم عاد قوم هود، لأنّ صالحا مبعوث بعد نوح. و قيل: ثمود، لأنّهم أهلكوا بالصيحة.

فَأَرْسَلْنا فِيهِمْ رَسُولًا مِنْهُمْ هو هود أو صالح. و إنّما جعل القرن و إلزامه موضع الإرسال، و حقّه أن يعدّى ب «إلى» كأخواته الّتي هي: وجّه و أنفذ و بعث، ليدلّ على أنّه لم يأتهم من مكان غير مكانهم، و إنّما أوحي إليه و هو بين أظهرهم. و مثل ذلك قوله:

وَ لَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً «1». أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ «أن» مفسّرة ل «أرسلنا» أي: قلنا لهم على لسان الرسول: اعبدوا اللّه ما لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرُهُ أَ فَلا تَتَّقُونَ عذاب اللّه.

وَ قالَ الْمَلَأُ مِنْ قَوْمِهِ الَّذِينَ كَفَرُوا ذكر الواو هنا، و الفاء في قوم نوح «2»، لأنّ كلامهم لم يتّصل بكلام الرسول، بخلاف قول قوم نوح، و ما صدر في مقال قوم هود في جوابه في سورة الأعراف و سورة هود بغير واو، حيث قال:

______________________________

(1) الفرقان: 51.

(2) المؤمنون: 24.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 440

قالَ الْمَلَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَوْمِهِ إِنَّا لَنَراكَ فِي

سَفاهَةٍ «1» قالُوا يا هُودُ ما جِئْتَنا بِبَيِّنَةٍ «2»، و ها هنا مع الواو، لأنّ الّذي بغير واو على تقدير سؤال سائل قال: فما قال قومه؟ فقيل له: قالوا: كيت و كيت، و الّذي مع الواو فهو عطف لما قالوه على ما قاله. و معناه: أنّه اجتمع في الحصول هذا الحقّ و هذا الباطل، و شتّان ما بينهما.

وَ كَذَّبُوا بِلِقاءِ الْآخِرَةِ بلقاء ما فيها من الثواب و العقاب، أو بمعادهم إلى الحياة الثابتة بالبعث وَ أَتْرَفْناهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا و نعّمناهم بضروب الملاذّ، من كثرة الأموال النفيسة و الأولاد الرشيدة ما هذا إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ في الصفة و الحالة. ثمّ بيّنوا المثليّة بقولهم: يَأْكُلُ مِمَّا تَأْكُلُونَ مِنْهُ وَ يَشْرَبُ مِمَّا تَشْرَبُونَ فليس هو أولى بالرسالة منّا. و العائد إليه محذوف، أي: من الّذي تشربونه، أو تشربون منه.

و هذا الكلام منهم لإنكارهم أن يكون الرسول من جنس البشر. و لتقريرهم أنّه لا بدّ أن يكون من المماثلة قالوا تأكيدا لإنكارهم: وَ لَئِنْ أَطَعْتُمْ بَشَراً مِثْلَكُمْ فيما يأمركم به إِنَّكُمْ إِذاً لَخاسِرُونَ حيث أذللتم أنفسكم و غبنتم في آرائكم. و «إذا» جزاء للشرط، و جواب للّذين قاولوهم من قومه.

ثمّ أنكروا ما قال لهم من وقوع البعث، فقالوا: أَ يَعِدُكُمْ أَنَّكُمْ إِذا مِتُّمْ وَ كُنْتُمْ تُراباً وَ عِظاماً مجرّدة عن اللحوم و الأعصاب أَنَّكُمْ مُخْرَجُونَ من القبور، أو من العدم تارة اخرى إلى الوجود. و «أنّكم» تكرير للأوّل للتأكيد، لمّا طال الفصل بينه و بين خبره. أو «أنّكم مخرجون» مبتدأ، و خبره الظرف المقدّم.

هَيْهاتَ هَيْهاتَ اسم فعل بمعنى: بعد. و تكريره للتأكيد. و من حقّه أن يرتفع اسم بعده ليكون فاعلا له، كما ارتفع في قوله «3»: فهيهات

هيهات العقيق و أهله. و لا يجوز

______________________________

(1) الأعراف: 66.

(2) هود: 53.

(3) لجرير. و عجزه:

و هيهات خلّ بالعقيق نواصله

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 441

أن يكون قوله: لِما تُوعَدُونَ فاعله، لمكان اللام. ففاعله مقدّر، تقديره: بعد جدّا الإخراج من الأجداث. أو «ما توعدون»، و الجارّ و المجرور لبيان المستبعد.

إِنْ هِيَ إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا هذا الضمير لا يعلم ما يعنى به إلّا بما يتلوه من بيانه. و أصله: إن الحياة إلّا حياتنا الدنيا. فأقيم الضمير مقام الأولى لدلالة الثانية عليها، حذرا عن التكرّر، و إشعارا بأن تعيّنها مغن عن التصريح بها. و منه: هي النفس ما حمّلتها تتحمّل. فمعناه: لا حياة إلّا هذه الحياة الدنيا. لأنّ «إن» نافية دخلت على «هي» الّتي في معنى الحياة الدالّة على الجنس، فكانت مثل «لا» الّتي تنفي ما بعدها نفي الجنس.

نَمُوتُ وَ نَحْيا يموت بعضنا و يولد بعض، ينقرض قرن و يأتي قرن آخر، و هكذا وَ ما نَحْنُ بِمَبْعُوثِينَ بعد الموت.

ثمّ قالوا عنادا: إِنْ هُوَ ما هو إِلَّا رَجُلٌ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فيما يدّعيه من إرساله له، و فيما يعدنا من البعث وَ ما نَحْنُ لَهُ بِمُؤْمِنِينَ بمصدّقين فيما يقول.

قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عليهم، و انتقم لي منهم بِما كَذَّبُونِ بسبب تكذيبهم إيّاي.

قالَ عَمَّا قَلِيلٍ أي: عن زمان قليل. ف «قليل» صفة لزمان، كقديم و حديث في قولك: ما رأيته قديما و لا حديثا، و عن قريب. و «ما» زائدة لتوكيد قلّة المدّة. و يجوز أن تكون نكرة موصوفة. لَيُصْبِحُنَّ نادِمِينَ على التكذيب.

فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ صيحة جبرئيل، صاح عليهم صيحة هائلة تصدّعت منها قلوبهم فماتوا بِالْحَقِ بالوجه الثابت الواجب الّذي لا دافع له، لأنّهم قد استوجبوا الهلاك. أو بالعدل من اللّه، كقولك:

فلان يقضي بالحقّ، إذا كان عادلا في قضاياه. أو بالوعد الصدق. فَجَعَلْناهُمْ غُثاءً هلكى. شبّههم في دمارهم بالغثاء، و هو حميل السيل ممّا بلي و اسودّ من الأوراق و العيدان، كقولهم: سال به الوادي لمن هلك.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 442

فَبُعْداً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يحتمل الإخبار و الدعاء. و «بعدا» مصدر: بعد إذا هلك. يقال: بعد بعدا و بعدا، نحو: رشد رشدا و رشدا. و هو من المصادر الّتي تنصب بأفعال لا يستعمل إظهارها. و اللام لبيان من دعي عليه بالبعد، نحو: هَيْتَ لَكَ «1».

و «لما توعدون». و وضع الظاهر موضع ضميرهم للتعليل.

[سورة المؤمنون (23): الآيات 42 الى 44]

ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ قُرُوناً آخَرِينَ (42) ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ (43) ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ فَأَتْبَعْنا بَعْضَهُمْ بَعْضاً وَ جَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ (44)

ثُمَّ أَنْشَأْنا مِنْ بَعْدِهِمْ بعد قوم هود، أو صالح قُرُوناً آخَرِينَ يعني: قوم صالح على الأوّل، و لوط و شعيب و غيرهم. و عن ابن عبّاس: بني إسرائيل.

ما تَسْبِقُ مِنْ أُمَّةٍ أَجَلَها الوقت الّذي حدّ لهلاكها. و «من» مزيدة للاستغراق، وَ ما يَسْتَأْخِرُونَ الأجل.

ثُمَّ أَرْسَلْنا رُسُلَنا تَتْرا متواترين واحدا بعد واحد. من الوتر، و هو الفرد.

و التاء بدل من الواو، كتولج و تيقور «2». و الألف للتأنيث، على وزن فعلى، لأنّ الرسل جماعة. و قرأ أبو عمرو بالتنوين، على أنّه مصدر بمعنى المتواترة، وقع حالا.

كُلَّ ما جاءَ أُمَّةً رَسُولُها كَذَّبُوهُ إضافة الرسول مع الإرسال إلى المرسل، و مع المجي ء إلى المرسل إليهم، لأنّ الإرسال الّذي هو مبدأ الأمر منه و المجي ء الّذي هو منتهاه إليهم.

______________________________

(1) يوسف: 23.

(2) انظر الهامش (3) في ص: 436

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 443

فَأَتْبَعْنا الأمم

و القرون بَعْضَهُمْ بَعْضاً في الإهلاك وَ جَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ أي: لم نبق منهم إلّا أحاديث يسمر بها و يتعجّب منها. و هو اسم جمع للحديث.

و منه أحاديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. أو جمع أحدوثة، و هي ما يتحدّث به تلهّيا و تعجّبا، مثل الألعوبة و الأعجوبة و الأضحوكة. فَبُعْداً لِقَوْمٍ لا يُؤْمِنُونَ مرّ آنفا.

[سورة المؤمنون (23): الآيات 45 الى 49]

ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَ أَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ (45) إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِ فَاسْتَكْبَرُوا وَ كانُوا قَوْماً عالِينَ (46) فَقالُوا أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا وَ قَوْمُهُما لَنا عابِدُونَ (47) فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ (48) وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (49)

ثُمَّ أَرْسَلْنا مُوسى وَ أَخاهُ هارُونَ بِآياتِنا بالآيات التسع وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ و حجّة واضحة ملزمة للخصم. و يجوز أن يراد به العصا. و إفرادها لأنّها أوّل المعجزات و أمّها، حيث تعلّقت بها معجزات شتّى، كانقلابها حيّة، و تلقّفها ما أفكته السحرة، و انفلاق البحر، و انفجار العيون من الحجر بضربهما بها، و حراستها، و مصيرها شمعة، و شجرة خضراء مثمرة، و رشاء و دلوا. و جعلت كأنّها ليست من جنس آيات أخر، لما استبدّت به من مزيّة الفضل، فلذلك عطفت عليها، كقوله تعالى: وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ «1».

و يجوز أن يراد به المعجزات، و بالآيات الحجج. و أن يراد بهما المعجزات، فإنّها آيات النبوّة، و حجّة بيّنة على ما يدّعيه موسى.

إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ خصّ الملأ- و هم الأشراف- بالذكر، لأنّ الآخرون كانوا

______________________________

(1) البقرة: 97.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 444

أتباعا لهم فَاسْتَكْبَرُوا تجبّروا و تعظّموا عن الإيمان و المتابعة وَ كانُوا قَوْماً عالِينَ متكبّرين، كقوله: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ «1». أو متطاولين

على الناس، قاهرين بالبغي و الظلم.

فَقالُوا أَ نُؤْمِنُ لِبَشَرَيْنِ مِثْلِنا ثنّى البشر، لأنّه يطلق للواحد، كقوله: بَشَراً سَوِيًّا «2»، كما يطلق للجمع، كقوله: فَإِمَّا تَرَيِنَّ مِنَ الْبَشَرِ أَحَداً « «3»». و لم يثنّ المثل، لأنّه في حكم المصدر. و كذا يوصف به الجمع، و المذكّر، و المؤنّث. و منه قوله تعالى: إِنَّكُمْ إِذاً مِثْلُهُمْ «4». وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ «5». و يقال أيضا: هما مثلاه، و هم أمثاله. و منه قوله تعالى: إِنَّ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ عِبادٌ أَمْثالُكُمْ «6».

و اعلم أنّ هذه القصص- كما ترى- تشهد بأنّ قصارى شبه المنكرين للنبوّة قياس حال الأنبياء على أحوالهم، لما بينهم من المماثلة في الحقيقة. و فساده يظهر للمستبصر بأدنى تأمّل، فإنّ النفوس البشريّة و إن تشاركت في أصل القوى و الإدراك، لكنّها متباينة الأقدام جدّا فيهما قوّة و ضعفا، فكما ترى في جانب النقصان أغبياء لا ينفعهم التفكّر في تحصيل شي ء، ترى في طرف الكمال أغنياء عن التعلّم و التفكّر في أكثر الأشياء و أغلب الأحوال، فيدركون ما لا يدرك غيرهم، و يعلمون ما لا ينتهي إليه علمهم.

وَ قَوْمُهُما يعني: بني إسرائيل لَنا عابِدُونَ خادمون منقادون متذلّلون، على وجه كأنّهم يعبدوننا. أو لأنّ فرعون كان يدّعي الألوهيّة، فادّعى للناس عبادتهم إيّاه، و أنّ طاعتهم له عبادة على الحقيقة.

______________________________

(1) القصص: 4.

(2، 3) مريم: 17 و 26.

(4) النساء: 140.

(5) الطلاق: 12.

(6) الأعراف: 194.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 445

فَكَذَّبُوهُما فَكانُوا مِنَ الْمُهْلَكِينَ بالغرق في بحر قلزم.

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ التوراة لَعَلَّهُمْ لعلّ بني إسرائيل يَهْتَدُونَ إلى المعارف الإلهيّة، و الأحكام الشرعيّة، و المواعظ السنيّة، و الحكم الزاجرة. و لا يجوز عود الضمير إلى فرعون و قومه، لأنّ التوراة

نزلت بعد إغراقهم، كما قال اللّه تعالى:

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى «1».

[سورة المؤمنون (23): آية 50]

وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ آيَةً وَ آوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَ مَعِينٍ (50)

و لمّا كان موسى صاحب شريعة مستمرّة إلى زمن عيسى، و شريعة عيسى ناسخة لشريعته، قال بعد قصّة موسى: وَ جَعَلْنَا ابْنَ مَرْيَمَ وَ أُمَّهُ آيَةً على كمال قدرتنا، بولادتها إيّاه من غير مسيس. فالآية أمر واحد مضاف إليهما، لأنّ عيسى خلق من غير ذكر، و مريم من غير فحل. أو جعلنا ابن مريم آية، بأن تكلّم في المهد، و ظهرت منه معجزات أخر، و أمّه آية اخرى، بأن ولدت من غير مسيس، فحذفت الأولى لدلالة الثانية عليها.

وَ آوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ أرض مرتفعة. و عن كعب: أنّها أقرب الأرض إلى السماء بثمانية عشر ميلا. و هي أرض بيت المقدس، أو دمشق، أو رملة فلسطين. و عن أبي هريرة: الزموا هذه الرملة رملة فلسطين، فإنّها الربوة الّتي ذكرها اللّه عزّ و جلّ. و قيل: مصر، فإنّ قراها على الربى. و قيل: حيرة الكوفة و سوادها. و قرأ ابن عامر و عاصم بفتح الراء.

و هما لغتان.

ذاتِ قَرارٍ مستقرّ من الأرض، منبسطة مستوية. و عن قتادة: ذات ثمار و زروع و ماء. يعني: أنّه لأجل الثمار يستقرّ فيها ساكنوها. وَ مَعِينٍ و ماء ظاهر جار

______________________________

(1) القصص: 43.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 446

على وجه الأرض. فعيل من: معن الماء إذا جرى. و أصله: الإبعاد في الشي ء. أو من الماعون، و هو المنفعة، لأنّه نفّاع. أو مفعول من: عانه إذا أدركه بعينه، لأنّه لظهوره مدرك بالعيون. وصف ماءها بذلك، لأنّه الجامع لأسباب التنزّه و طيب المكان.

و

عن الباقر و

الصادق عليهما السّلام: «القرار مسجد الكوفة، و المعين الفرات».

[سورة المؤمنون (23): الآيات 51 الى 54]

يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ وَ اعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (51) وَ إِنَّ هذِهِ أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ (52) فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ بَيْنَهُمْ زُبُراً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (53) فَذَرْهُمْ فِي غَمْرَتِهِمْ حَتَّى حِينٍ (54)

و لمّا أخبر سبحانه عن إيتائه الكتاب للاهتداء، ثمّ عمّا أولاه من سابغ النعماء، خاطب الرسل بعد ذلك، فقال: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ خصّ الرسل بهذا النداء، مع أنّ غيرهم أيضا مأمورون بهذا الأمر، لأنّ أممهم أتباع لهم، و مقتفون بهم في الأعمال، فيدخلون تحت هذا النداء. و لم يخاطبوا بذلك دفعة، لأنّهم أرسلوا في أزمنة مختلفة، بل على معنى أنّ كلّا منهم خوطب به في زمانه، و ليعتقد السامع أنّ أمرا نودي له جميع الرسل و وصّوا به، حقيق أن يؤخذ به و يعمل عليه.

و فيه دلالة على أنّ إباحة الطيّبات للأنبياء شرع قديم، و احتجاج على الرهبانيّة في رفض الطيّبات. و في اتّصال هذا الكلام بقصّة عيسى تنبيه على أنّ تهيئة أسباب التنعّم لم تكن خاصّة له. و قيل: النداء لعيسى، و لفظ الجمع للتعظيم.

و عن الحسن و مجاهد و قتادة و الكلبي: أنّه سبحانه أراد بهذا النداء من الطيّبات محمّدا صلّى اللّه عليه و آله سلم، على مذهب العرب في مخاطبة الواحد مخاطبة الجمع.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 447

و الطيّبات ما يستطاب و يستلذّ به من المآكل و الفواكه. و يشهد له مجيئه عقيب قوله: «وَ آوَيْناهُما إِلى رَبْوَةٍ ذاتِ قَرارٍ وَ مَعِينٍ».

و قيل: طيّبات الرزق: حلال، و صاف، و قوام. فالحلال: ما لا يعصى اللّه فيه.

و الصافي: ما لا ينسى اللّه

فيه. و القوام ما يمسك النفس و يحفظ العقل.

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «إنّ اللّه طيّب لا يقبل إلّا طيّبا، فإنّه أمر به المرسلين، فقال: يا أَيُّهَا الرُّسُلُ كُلُوا مِنَ الطَّيِّباتِ .

و عن الحسن: أما و اللّه ما عنى به أصفركم و لا أحمركم، و لا حلوكم و لا حامضكم، و لكنّه قال: انتهوا إلى الحلال من الأكل.

وَ اعْمَلُوا صالِحاً فإنّه المقصود منكم. و النافع عند ربّكم إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ فأجازيكم عليه. هذا هو السبب الداعي إلى إصلاح العمل، فإنّ العاقل إذا عمل لمن يعلم عمله، و يجازيه على حسب ما عمل، فقد أصلح العمل.

وَ إِنَّ هذِهِ أي: و لأنّ هذه. و المعلّل به «فاتّقون». أو و اعلموا أنّ هذه. و قيل: إنّه معطوف على «ما تعملون». و قرأ ابن عامر بالتخفيف. و الكوفيّون بالكسر على الاستئناف. أُمَّتُكُمْ أُمَّةً واحِدَةً ملّتكم ملّة واحدة، أي: متّحدة في العقائد و اصول الشرائع. و مثل ذلك قوله تعالى: إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ «1»، أي: على ملّة و دين. أو هذه جماعتكم جماعة واحدة متّفقة على الإيمان و التوحيد في العبادة.

و نصب «أمّة» على الحال. وَ أَنَا رَبُّكُمْ فَاتَّقُونِ عن المعصية و مخالفة الكلمة، أي:

فلأجل هذا فاتّقون.

فَتَقَطَّعُوا أَمْرَهُمْ أمر دينهم بَيْنَهُمْ أي: جعلوه أديانا مختلفة. أو فتفرّقوا و تحزّبوا. و «أمرهم» منصوب بنزع الخافض أو التمييز. و الضمير لما دلّ عليه الأمّة من أربابها، أولها. زُبُراً قطعا. جمع الزبور الّذي بمعنى الفرقة. و هو حال من «أمرهم» أو

______________________________

(1) الزّخرف: 23.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 448

من الواو، أو مفعول ثان ل «تقطّعوا» فإنّه متضمّن معنى: جعل. و قيل: كتبا، من: زبرت الكتاب. فيكون مفعولا ثانيا،

أو حالا من «أمرهم» على تقدير مثل: كتبا مختلفة.

كُلُّ حِزْبٍ من هؤلاء المتحزّبين المتقطّعين دينهم بِما لَدَيْهِمْ من الدين فَرِحُونَ راضون بما عندهم من الأديان الباطلة، معتقدون أنّهم على الحقّ.

فَذَرْهُمْ يا محمّد فِي غَمْرَتِهِمْ في جهالتهم. شبّهها بالماء الّذي يغمر القامة، لأنّهم مغمورون فيها. أو شبّهوا باللاعبين في غمرة الماء، لما هم عليه من الباطل، كقوله:

كأنّني ضارب في غمرة لعب «1» حَتَّى حِينٍ إلى أن يقتلوا أو يموتوا فيجازوا.

[سورة المؤمنون (23): الآيات 55 الى 61]

أَ يَحْسَبُونَ أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ (55) نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ بَلْ لا يَشْعُرُونَ (56) إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (57) وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ يُؤْمِنُونَ (58) وَ الَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ (59)

وَ الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ (60) أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ وَ هُمْ لَها سابِقُونَ (61)

ثمّ سلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم، و نهاه عن الاستعجال بعذابهم، و الجزع من تأخيره، فقال: أَ يَحْسَبُونَ هؤلاء الكفرة أَنَّما نُمِدُّهُمْ بِهِ أنّ ما نجعله مددا لهم، بأن نعطيهم

______________________________

(1) لذي الرمّة. و تمامه: ليالي اللّهو يعطبيني فأتبعه كأنّني ضارب ..........

أي: اللهو يدعوني في ليال كثيرة فأتبعه، كأنّني سابح في لجّة من الماء تغمر القامة، لعب فيها.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 449

مستمرّا مِنْ مالٍ وَ بَنِينَ بيان ل «ما». و ليس خبرا له، فإنّه غير معاتب عليه، و إنّما المعاتب عليه اعتقادهم أنّ ذلك خير لهم. فخبره قوله: نُسارِعُ لَهُمْ فِي الْخَيْراتِ و الراجع محذوف، كما في قولهم: السمن منوان بدرهم، أي: يحسبون أنّ الّذي نمدّهم به نسارع به لهم فيها فيه خيرهم و إكرامهم. و الهمزة للإنكار عمّا يحسبون.

و المعنى:

أنّ هذا الإمداد ليس إلّا استدراجا لهم إلى المعاصي، و استجرارا إلى زيادة الإثم، وهم يحسبونه مسارعة لهم في الخيرات، و فيما لهم فيه نفع و إكرام، و معاجلة بالثواب قبل وقته.

بَلْ لا يَشْعُرُونَ استدراك لقوله: «أ يحسبون». يعني: بل هم كالبهائم، لا فطنة لهم و لا شعور، ليتأمّلوا أنّ ذلك استدراج لا مسارعة في الخير.

روى السكوني عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، عن أبيه، عن آبائه عليهم السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم: إنّ اللّه تعالى يقول: يحزن عبدي المؤمن إذا اقترت عليه شيئا من الدنيا، و ذلك أقرب له منّي، و يفرح إذا بسطت له الدنيا، و ذلك أبعد له منّي. ثمّ تلا هذه الآية إلى قوله:

«بل لا يشعرون». ثمّ قال: إنّ ذلك فتنة لهم».

ثمّ بيّن حال الأخيار الأبرار بعد بيان أحوال الكفّار الفجّار، فقال: إِنَّ الَّذِينَ هُمْ مِنْ خَشْيَةِ رَبِّهِمْ من خوف عذابه مُشْفِقُونَ حذرون، فيفعلون ما أمرهم به، و ينتهون عمّا نهاهم عنه.

وَ الَّذِينَ هُمْ بِآياتِ رَبِّهِمْ المنصوبة و المنزلة يُؤْمِنُونَ بتصديق مدلولها.

وَ الَّذِينَ هُمْ بِرَبِّهِمْ لا يُشْرِكُونَ شركا جليّا و لا خفيّا.

وَ الَّذِينَ يُؤْتُونَ ما آتَوْا يعطون ما أعطوه من الصدقات المفروضة و المندوبة.

و قيل: أعمال البرّ كلّها. وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ خائفة أن لا يقبل منهم، و أن لا يقع على الوجه اللائق، فيؤاخذوا به أَنَّهُمْ إِلى رَبِّهِمْ راجِعُونَ أي: لإيقانهم بأنّهم. أو لأنّهم راجعون إلى اللّه وجلت قلوبهم.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 450

زبدة التفاسير ج 4 499

أُولئِكَ يُسارِعُونَ فِي الْخَيْراتِ أي: يرغبون في الطاعات أشدّ الرغبة فيبادرونها. أو يسارعون في نيل الخيرات الدنيويّة الموعودة على الأعمال الصالحة بالمبادرة إليها، كقوله: فَآتاهُمُ اللَّهُ ثَوابَ

الدُّنْيا وَ حُسْنَ ثَوابِ الْآخِرَةِ «1». وَ آتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ «2». و هذا الوجه أحسن طباقا للآية المتقدّمة، لأنّ فيه إثبات ما نفي عن الكفّار للمؤمنين.

عن الحسن: المؤمن جمع إحسانا و شفقة، و المنافع جمع إساءة و أمنا.

وَ هُمْ لَها سابِقُونَ لأجلها فاعلون السبق. أو لأجلها سابقون الناس إلى الطاعة، أو الثواب و الجنّة. أو إيّاها سابقون، أي: ينالونها قبل الآخرة، حيث عجّلت لهم في الدنيا، كقوله: هُمْ لَها عامِلُونَ «3».

[سورة المؤمنون (23): الآيات 62 الى 70]

وَ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلاَّ وُسْعَها وَ لَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (62) بَلْ قُلُوبُهُمْ فِي غَمْرَةٍ مِنْ هذا وَ لَهُمْ أَعْمالٌ مِنْ دُونِ ذلِكَ هُمْ لَها عامِلُونَ (63) حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ بِالْعَذابِ إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ (64) لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ (65) قَدْ كانَتْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ (66)

مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ سامِراً تَهْجُرُونَ (67) أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أَمْ جاءَهُمْ ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ (68) أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ (69) أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِّ وَ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (70)

______________________________

(1) آل عمران: 148.

(2) العنكبوت: 27.

(3) المؤمنون: 63.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 451

ثمّ بيّن سبحانه أنّه لا يكلّف أحدا إلّا دون الطاقة، بعد أن أخبر عن حال الكافرين و المؤمنين، فقال: وَ لا نُكَلِّفُ نَفْساً إِلَّا وُسْعَها قدر طاقتها يعني: أنّ هذا الّذي وصف به الصالحين غير خارج عن حدّ الوسع و الطاقة، و كذلك كلّ ما كلّفه عباده.

وَ لَدَيْنا كِتابٌ يَنْطِقُ بِالْحَقِ بالصدق. لا يقرؤن منه يوم القيامة إلّا ما هو صدق و عدل، لا زيادة فيه و لا نقصان، و لا يوجد

فيه ما يخالف الواقع.

وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ لا ينقص من ثوابهم، و لا يزاد في عقابهم، و لا يؤاخذون بذنب غيرهم. فما عملوه من الأعمال غير ضائع عندنا، بل كلّ ما كلّفنا عبادنا في الدنيا مثبت في اللوح أو صحف أعمالهم، و نجازيهم على وفقه.

بَلْ ردّ لما سبق من الكلام المشتمل على الوعد و الوعيد في القرآن قُلُوبُهُمْ قلوب الكفّار فِي غَمْرَةٍ في غفلة غامرة لها مِنْ هذا من الّذي وصف به هؤلاء المؤمنون. أو من كتاب الحفظة. وَ لَهُمْ أَعْمالٌ خبيثة مِنْ دُونِ ذلِكَ متجاوزة لما وصف به المؤمنون. أو متخطّية عمّاهم عليه من الشرك. هُمْ لَها عامِلُونَ معتادون فعلها، و صارت الأعمال القبيحة و الأفعال الخبيثة دأبهم.

حَتَّى إِذا أَخَذْنا مُتْرَفِيهِمْ متنعّميهم بِالْعَذابِ يعني: القتل يوم بدر، أو الجوع حين

دعا عليهم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلم فقال: «اللّهمّ اشدد وطأتك على مضر، و اجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف». فابتلاهم اللّه بالقحط، حتّى أكلوا الجيف و الكلاب و العظام

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 452

المحترقة و القدّ «1» و الأولاد.

أو المراد عذاب الآخرة.

إِذا هُمْ يَجْأَرُونَ يضجّون و يجزعون، و يصرخون باستغاثة، لشدّة العذاب.

و الجؤار: الصراخ باستغاثة. و «إذا» للمفاجأة، أي: فاجئوا الصراخ بالاستغاثة. و هو جواب الشرط. و «حتّى» هذه هي الّتي يبتدأ بعدها الكلام. و يجوز أن يكون الجواب لا تَجْأَرُوا الْيَوْمَ فإنّه مقدّر بالقول، أي: قيل لهم: لا تجأروا.

ثمّ علّل للنهي عن الجؤار بقوله: إِنَّكُمْ مِنَّا لا تُنْصَرُونَ أي: لا تجأروا، فإنّ الجواب غير نافع لكم، إذ لا تغاثون و لا تمنعون منّا، أو من جهتنا لا يلحقكم نصر و لا معونة. و هذا إيئاس لهم من دفع العذاب عنهم.

ثمّ

بيّن علّة الإيئاس بقوله: قَدْ كانَتْ آياتِي يعني: القرآن تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ عَلى أَعْقابِكُمْ تَنْكِصُونَ تتأخّرون و تعرضون، مدبرين عن سماعها و تصديقها و العمل بها. و النكوص: الرجوع قهقرى.

مُسْتَكْبِرِينَ بِهِ الضمير للبيت العتيق. أو للحرم، فإنّهم كانوا يقولون: لا يغلب علينا أحد، لأنّا أهل الحرم. و استكبارهم بالبيت، و افتخارهم بأنّهم ولاته و قوّامه، مشهور معروف. فبهذا أغنى عن سبق ذكر مرجعه. و يجوز أن يرجع إلى آياتي، فإنّها بمعنى كتابي.

و الباء متعلّقة بالمستكبرين. و معنى استكبارهم بالقرآن تكذيبهم به استكبارا.

ضمّن «مستكبرين» معنى: مكذّبين، فعدّي تعديته. أو المعنى: مستكبرين بسببه، فإنّه يحدث لهم استماعه استكبارا و عتوّا منهم، فهم كانوا يستكبرون على المسلمين بسببه.

و يجوز أنّ تكون متعلّقة بقوله: سامِراً. و هو في الأصل مصدر بمعنى السمر، و هو التحديث في الليل، جاء على لفظ الفاعل كالعاقبة، و لهذا يطلق على الجمع.

فالسامر هم القوم الّذين يسمرون. و المعنى: يتحدّثون في الليل بذكر القرآن و الطعن فيه.

______________________________

(1) القدّ: جلد السخلة. و القدّ: السير يقدّ- أي: يقطع- من الجلد غير المدبوغ.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 453

تَهْجُرُونَ من الهجر بالفتح، إمّا بمعنى القطيعة أو الهذيان، أي: تعرضون عن القرآن، أو تهذون في شأنه. أو الهجر بالضمّ، أي: الفحش. و يؤيّد الثاني قراءة نافع:

تهجرون، من: أهجر في منطقه إذا أفحش.

روي: أنّهم كانوا يجتمعون حول البيت بالليل يسمرون، و كانت عامّة سمرهم ذكر القرآن، و تسميته سحرا و شعرا، و سبّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم.

ثمّ قال سبحانه ردّا عليهم: أَ فَلَمْ يَدَّبَّرُوا الْقَوْلَ أي: أ فلم يتدبّروا القرآن ليعلموا أنّه الحقّ من ربّهم، بإعجاز لفظه و متانة معناه و وضوح مدلوله، فيصدّقوا به، أو ليخافوا

عند تدبّر آياته أَمْ جاءَهُمْ بل أجاءهم ما لَمْ يَأْتِ آباءَهُمُ الْأَوَّلِينَ من الرسول و الكتاب، فلذلك أنكروه و استبدعوه. أو من الأمن من عذاب اللّه، فلذلك لم يخافوا كما خاف آباؤهم الأقدمون، و هم إسماعيل و أعقابه من عدنان و قحطان، فآمنوا به و كتبه و رسله و أطاعوه.

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلم: «لا تسبّوا مضر و لا ربيعة، فإنّهما كانا مسلمين. و لا تسبّوا قسّا، فإنّه كان مسلما. و لا تسبّوا الحارث بن كعب و لا أسد بن خزيمة و لا تميم بن مرّ، فإنّهم كانوا على الإسلام. و ما شككتم فيه من شي ء فلا تشكّوا في أنّ تبّعا كان مسلما».

أَمْ لَمْ يَعْرِفُوا رَسُولَهُمْ محمّدا بأمانته، و صدقه، و حسن خلقه، و كمال علمه، و وفور فضله، مع عدم تعلّمه، و اتّسامه بينهم بأنّه خير فتيان قريش، إلى غير ذلك ممّا هو صفة الأنبياء فَهُمْ لَهُ مُنْكِرُونَ دعواه لأحد هذه الوجوه، إذ لا وجه له غيرها، فإنّ إنكار الشي ء قطعا أو ظنّا إنّما يتمّ إذا ظهر امتناعه بحسب النوع أو الشخص، أو بحث عمّا يدلّ عليه أقصى ما يمكن فلم يوجد.

أَمْ يَقُولُونَ بِهِ جِنَّةٌ جنون، فلا يبالون بقوله، و قد كانوا يعلمون أنّه أرجحهم عقلا، و أدقّهم نظرا. و في هذا دلالة على جهلهم، حيث أقرّوا له بمتانة العقل و رزانة الرأي، ثمّ نسبوه إلى الجنون.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 454

بَلْ جاءَهُمْ بِالْحَقِ الدين القويم و الطريق المستقيم. و هو وحدانيّته تعالى عن الشرك و الندّ. وَ أَكْثَرُهُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ لأنّه يخالف شهواتهم و أهواءهم، و لم يوافق ما ألفوه و نشأوا عليه، و خلط بلحومهم و دمائهم من اتّباع

الباطل، و لم يمكنهم دفعه، لأنّه الحقّ الأبلج و الصراط المستقيم، فمالوا إلى البهت، و عوّلوا على كذبهم من النسبة إلى الجنون و السحر و الشعر.

و إنّما قيّد الحكم بالأكثر، لأنّه كان من الصناديد و الرؤساء من ترك الإيمان استنكافا من توبيخ قومه، بأن يقولوا: ترك دين آبائه و تديّن بالدين المستحدث، لا كراهة للحقّ.

[سورة المؤمنون (23): الآيات 71 الى 74]

وَ لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَّ بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ (71) أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً فَخَراجُ رَبِّكَ خَيْرٌ وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (72) وَ إِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (73) وَ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ لَناكِبُونَ (74)

ثمّ دلّ سبحانه على عظم شأن الحقّ بأنّ السماوات و الأرض ما قامت و لا من فيهنّ إلّا بالحقّ، فقال: وَ لَوِ اتَّبَعَ الْحَقُّ أَهْواءَهُمْ بأن كان في الواقع آلهة شتّى لَفَسَدَتِ السَّماواتُ وَ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيهِنَ كما سبق تقريره في قوله: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «1».

و قيل: لو اتّبع الحقّ أهواءهم و انقلب باطلا، لذهب ما قام به العالم، فلا يبقى له

______________________________

(1) راجع ص 310 ذيل الآية (22) من سورة الأنبياء.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 455

بعده قوام. أو لو اتّبع الحقّ الّذي جاء به محمّد- و هو الإسلام- أهواءهم، و انقلب شركا، لجاء اللّه بالقيامة، و لأهلك العالم، و لم يؤخّرها من فرط غضبه.

و عن قتادة: الحقّ هو اللّه. و معناه: لو كان اللّه إلها يتّبع أهواءهم، بأن أنزل ما يشتهونه من الشرك و المعاصي، لخرج عن الألوهيّة، و لما قدر أنّ يمسك السماوات و الأرض.

بَلْ أَتَيْناهُمْ بِذِكْرِهِمْ بالكتاب الّذي هو ذكرهم، أي: وعظهم. أوصيتهم و شرفهم و

فخرهم. أو الذكر الّذي تمنّوه بقولهم: لو أنّ عندنا ذكرا من الأوّلين لكنّا عباد اللّه المخلصين. فَهُمْ عَنْ ذِكْرِهِمْ مُعْرِضُونَ لا يلتفتون إليه، و راضون بالباطل أو بالذلّ.

أَمْ تَسْأَلُهُمْ خَرْجاً أجرا على أداء الرسالة فَخَراجُ رَبِّكَ رزقه في الدنيا، أو ثوابه في العقبى خَيْرٌ لسعته و دوامه، ففيه مندوحة لك عن عطائهم. و الخرج بإزاء الدخل، يقال لكلّ ما تخرجه إلى غيرك. و الخراج غالب في الضريبة على الأرض. و هي ما تخرجه إلى الإمام، أو إلى كلّ عامل، من زكاة الأرض و أجرتها و جعلها. ففيه إشعار بالكثرة و اللزوم، فيكون ابلغ من الخرج، فإنّ زيادة اللفظ لزيادة المعنى.

و المعنى: أم تسألهم على هدايتك لهم قليلا من عطاء الخلق؟ فإنّ الكثير من عطاء الخالق خير لوسعته.

و قرأ ابن عامر: خرجا فخرج ربّك. و حمزة و الكسائي: خراجا فخراج ربّك، للمزاوجة.

وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ تقرير لخيريّة خراجه.

وَ إِنَّكَ لَتَدْعُوهُمْ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ تشهد العقول السليمة على استقامته، لا عوج فيه يوجب اتّهامهم له.

و اعلم أنّه سبحانه ألزمهم الحجّة في هذه الآيات، و قطع معاذيرهم و عللهم، بأنّ الّذي أرسل إليهم رجل معروف أمره و حاله، مخبور سرّه و علنه، خليق بأن يجتبى مثله

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 456

للرسالة من بين ظهرانيّهم. و أنّه لم يعرض له حاجة حتّى يدّعي مثل هذه الدعوى العظيمة بباطل، و لم يجعل ذلك سلّما إلى النيل من دنياهم و استعطاء أموالهم، و لم يدعهم إلّا إلى دين الإسلام الّذي هو الصراط المستقيم. و هم لفرط شغفهم بدين آبائهم الضلّال من غير برهان، و توغّلهم في العتوّ و الاستكبار، تعلّلوا بأنّه مجنون، بعد ظهور الحقّ و ثبات التصديق من اللّه، بالمعجزات

الباهرة و الآيات النيّرة، و أعرضوا عمّا فيه حظّهم من الذكر و الشرف، و مزيّة المرتبة في الدارين.

و لمّا كان خوف الآخرة أقوى البواعث على طلب الحقّ و سلوك طريقة، قال:

وَ إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ عَنِ الصِّراطِ عن الصراط السويّ و الطريق القويم لَناكِبُونَ لعادلون عنه.

[سورة المؤمنون (23): الآيات 75 الى 77]

وَ لَوْ رَحِمْناهُمْ وَ كَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ لَلَجُّوا فِي طُغْيانِهِمْ يَعْمَهُونَ (75) وَ لَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَ ما يَتَضَرَّعُونَ (76) حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (77)

روي: أنّه لمّا أسلم ثمامة بن أثال الحنفي و لحق باليمامة، و منع الميرة من أهل مكّة، و أخذهم اللّه بالسنين إجابة لدعوة رسوله، حتّى أكلوا العلهز «1»، فجاء أبو سفيان إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلم فقال: أنشدك اللّه و الرحم أ لست تزعم أنّك بعثت رحمة للعالمين؟ فقال:

بلى. فقال: قتلت الآباء بالسيف، و الأبناء بالجوع. فنزلت:

وَ لَوْ رَحِمْناهُمْ وَ كَشَفْنا ما بِهِمْ مِنْ ضُرٍّ

يعني: القحط لَلَجُّوا لتمادوا عنادا فِي طُغْيانِهِمْ إفراطهم في الكفر، و الاستكبار عن الحقّ، و عداوة الرسول و المؤمنين

______________________________

(1) العلهز: طعام كانوا يتّخذونه من الدم و وبر البعير في سنّي المجاعة.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 457

يَعْمَهُونَ عن الهدى.

ثمّ استشهد على هذا القول بقوله: وَ لَقَدْ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ يعني: قتل صناديدهم و أسرهم يوم بدر فَمَا اسْتَكانُوا فما وجدت منهم بعد ذلك استكانة لِرَبِّهِمْ وَ ما يَتَضَرَّعُونَ و ما يقيمون على التضرّع، بل أقاموا على عتوّهم و استكبارهم. و الاستكان استفعال من الكون، بمعنى الانتقال من كون إلى كون، كالاستحالة بمعنى الانتقال من حال إلى حال، فإنّ المفتقر انتقل من كون إلى كون.

أو افتعال من السكون، أشبعت فتحته. و لم يقل: و ما تضرّعوا، أو فما يستكينون، لأنّ المعنى: محنّاهم فما وجدت منهم عقيب المحنة استكانة، و ما من عادة هؤلاء أن يستكينوا أو يتضرّعوا.

حَتَّى إِذا فَتَحْنا عَلَيْهِمْ باباً ذا عَذابٍ شَدِيدٍ يعني: الجوع، فإنّه أشدّ من الأسر و القتل إِذا هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ آيسون من كلّ خير، حتّى جاءك أعتاهم يستعطفك. أو محنّاهم بكلّ محنة من القتل و الجوع، فما رؤي منهم لين مقادة، و هم كذلك حتّى إذا عذّبوا بنار جهنّم فحينئذ يبلسون، كقوله: وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ «1». لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَ هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ «2».

[سورة المؤمنون (23): الآيات 78 الى 80]

وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (78) وَ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (79) وَ هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ لَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (80)

______________________________

(1) الروم: 12.

(2) الزّخرف: 75.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 458

ثمّ بيّن سبحانه أنّه المنعم على ما خلقه بأنواع النعم، ليتدبّروا فيها و يمتثلوا أوامره، فقال: وَ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ لتحسّوا بها ما نصب من الآيات وَ الْأَفْئِدَةَ لتتفكّروا فيها، و تستدلّوا بها، إلى غير ذلك من المنافع الدينيّة و الدنيويّة ما لا يتعلّق بغيرها، فإنّ الدلائل كلّها مبنيّة عليها، و لهذا خصّت بالذكر قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ تشكرونها شكرا قليلا، لأنّ العمدة في شكرها استعمالها فيما خلقت لأجله، و الإذعان لما نحها من غير إشراك، و من لم يعملها فيما خلقت له فهو بمنزلة عادمها. و «ما» زائدة للتأكيد.

وَ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ خلقكم و بثّكم فيها بالتناسل وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ تجمعون يوم القيامة

بعد تفرّقكم.

وَ هُوَ الَّذِي يُحْيِي يحييكم في أرحام أمّهاتكم وَ يُمِيتُ و يميتكم عند انقضاء آجالكم وَ لَهُ اخْتِلافُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ مختصّ به تعاقبهما، و لا يقدر غيره على تصريفهما. أو لأمره و قضائه تعاقبهما، أو انتقاص أحدهما و ازدياد الآخر. أَ فَلا تَعْقِلُونَ بالنظر و التأمّل أنّ الكلّ منّا، و أنّ قدرتنا تعمّ الممكنات كلّها، و أنّ البعث من جملتها.

[سورة المؤمنون (23): الآيات 81 الى 83]

بَلْ قالُوا مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ (81) قالُوا أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (82) لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَ آباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (83)

ثمّ أخبر سبحانه عن الكفّار المكذّبين بالبعث، فقال: بَلْ قالُوا أي: كفّار مكّة مِثْلَ ما قالَ الْأَوَّلُونَ آباؤهم و من دان بدينهم.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 459

قالُوا استبعادا: أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ و لم يتأمّلوا أنّهم كانوا قبل ذلك أيضا ترابا فخلقوا.

لَقَدْ وُعِدْنا نَحْنُ وَ آباؤُنا هذا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ إلّا أكاذيبهم الّتي كتبه الأوّلون ممّا لا حقيقة له. جمع أسطورة، لأنّه يستعمل فيما يتلهّى به، كالأعاجيب و الأضاحيك. و قيل: جمع أسطار جمع سطر.

[سورة المؤمنون (23): الآيات 84 الى 90]

قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (84) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (85) قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (86) سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ أَ فَلا تَتَّقُونَ (87) قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ يُجِيرُ وَ لا يُجارُ عَلَيْهِ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (88)

سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ (89) بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِّ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (90)

ثمّ احتجّ على هؤلاء المنكرين للبعث و النشور، فقال: قُلْ لِمَنِ الْأَرْضُ وَ مَنْ فِيها إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إن كنتم من أهل العلم، أو من العالمين بذلك، أي: أجيبوني عمّا استعلمتكم منه إن كان عندكم فيه علم. فيكون استهانة بهم، و تقريرا لفرط جهالتهم، حتّى جهلوا مثل هذا الجليّ الواضح، و إلزاما بما لا يمكن لمن له مسكة من العلم إنّكاره. و لذلك أخبر عن جوابهم قبل أن يجيبوا، فقال: سَيَقُولُونَ لِلَّهِ لأنّ العقل الصريح

قد اضطرّهم بأدنى نظر إلى الإقرار بأنّه خالقها.

قُلْ بعد ما قالوه أَ فَلا تَذَكَّرُونَ فتعلموا أنّ من فطر الأرض و من فيها ابتداء قدر على إيجادها ثانيا، فإن بدء الخلق ليس أهون من إعادته.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 460

ثمّ زاد في الحجّة فقال: قُلْ مَنْ رَبُّ السَّماواتِ السَّبْعِ وَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ من مالكها و المتصرّف فيها. و العرش أعظم من السماوات السبع.

سَيَقُولُونَ لِلَّهِ إيراد اللام على المعنى، لأنّ قولك: من ربّه، و لمن هو، في معنى واحد. و قرأ أبو عمرو و يعقوب بغير لام فيه و فيما بعده، على ما يقتضيه ظاهر لفظ السؤال.

قُلْ أَ فَلا تَتَّقُونَ أي: أ فلا تخافون عقابه، فلا تشركوا بعض مخلوقاته، و لا تنكروا قدرته على جميع الممكنات، و لا تعصوا رسله؟

قُلْ مَنْ بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ هو من صفات المبالغة في الملك، كالجبروت و الرهبوت. و قال مجاهد: ملكوت كلّ شي ء خزائن كلّ شي ء.

وَ هُوَ يُجِيرُ يغيث من يشاء على من يشاء، و يحرسه عنه وَ لا يُجارُ عَلَيْهِ و لا يغاث و لا يمنع منه أحد، أي: و لا يغيث أحد أحدا، و لا يمنعه منه. يقال: أجرت فلانا على فلان، إذا أغثته و منعته من المكروهات. و تعديته ب «على» لتضمين معنى النصرة.

إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ ذلك فأجيبوا.

سَيَقُولُونَ لِلَّهِ قُلْ فَأَنَّى تُسْحَرُونَ فمن أين تخدعون عن توحيده و طاعته، و يموّه عليكم، فتصرفون عن الرشد، مع ظهور الأمر و تظاهر الأدلّة؟ قال امرئ القيس «1»: و نسحر بالطعام و بالشراب ... أي: نخدع. و الخادع هو الشيطان و الهوى. بَلْ أَتَيْناهُمْ بِالْحَقِ من التوحيد و الوعد بالنشور وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ حيث أنكروا ذلك، و ادّعوا له ولدا،

و معه شريكا.

[سورة المؤمنون (23): الآيات 91 الى 95]

مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ وَ لَعَلا بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (91) عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (92) قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي ما يُوعَدُونَ (93) رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (94) وَ إِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ (95)

______________________________

(1) ديوان امرئ القيس (طبعة دار بيروت): 72. و صدره: أرانا موضعين لأمر غيب.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 461

ثمّ أكّد سبحانه ما قدّمه من أدلّة التوحيد، فقال: مَا اتَّخَذَ اللَّهُ مِنْ وَلَدٍ لتقدّسه عن مماثلة أحد وَ ما كانَ مَعَهُ مِنْ إِلهٍ يساهمه في الألوهيّة إِذاً لَذَهَبَ كُلُّ إِلهٍ بِما خَلَقَ جزاء شرط محذوف، لدلالة ما قبله عليه، أي: لو كان معه آلهة كما تقولون لذهب كلّ واحد منهم بما خلقه، أي: لانفرد كلّ واحد من الآلهة بخلقه الّذي خلقه و استبدّ به، و لرأيتم ملك كلّ واحد منهم متميّزا عن ملك الآخرين.

وَ لَعَلا و لغلب بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ و وقع بينهم التجاذب و التحارب، و ظهر التغالب، كما ترون حال ملوك الدنيا ممالكهم متمايزة و هم متغالبون، فلم يكن بيده وحده ملكوت كلّ شي ء. و اللازم باطل بالإجماع و الاستقراء، و قيام البرهان على استناد جميع الممكنات إلى واجب واحد، فما كان معه من إله. سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ من الولد و الشريك، لما سبق من الدليل على فساده.

عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ خبر مبتدأ محذوف، أي: هو عالم ما غاب و ما حضر، فلا يخفى عليه شي ء. و قد جرّ ابن كثير و ابن عامر و أبو عمرو و يعقوب و حفص على الصفة. و

هو دليل آخر على نفي الشريك، بناء على توافقهم في أنّه المنفرد بذلك. و لهذا رتّب عليه قوله: فَتَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ بالفاء.

روي: أنّه سبحانه أخبر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن له في أمّته نقمة، و لم يخبره أفي حياته أم بعد وفاته، فأمر صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقوله: قُلْ رَبِّ إِمَّا تُرِيَنِّي «ما» و النون مؤكّدتان، أي: إن كان لا بدّ من أن ترينّي ما يُوعَدُونَ من العذاب في الدنيا و الآخرة.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 462

رَبِّ فَلا تَجْعَلْنِي فِي الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ قرينا لهم في العذاب، فأخرجني من بينهم إذا أردت إحلال العذاب بهم. و هو صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إن كان معصوما من نزول العذاب عاجلا و آجلا، لكن صدور هذا القول منه لأنّه يجوز أن يسأل العبد ربّه ما علم أن يفعله، و أن يستعيذ به ممّا علم أنّه لا يفعله، هضما لنفسه، و إظهارا للعبوديّة، و تواضعا لربّه، و إخباتا له. و منه استغفاره إذا قام من مجلسه سبعين مرّة أو مائة مرّة. و قول إبراهيم عليه السّلام: وَ لا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ «1».

و تكرير النداء، و تصدير كلّ واحد من الشرط و الجزاء، حثّ على فضل تضرّع و جؤار «2».

وَ إِنَّا عَلى أَنْ نُرِيَكَ ما نَعِدُهُمْ لَقادِرُونَ لكنّا نؤخّره، علما بأنّ بعضهم أو بعض أعقابهم يؤمنون. أو لأنّا لا نعذّبهم و أنت فيهم. قيل: ردّ لإنكار هم الموعود، و استعجالهم له استهزاء به. و قيل: قد أراه، و هو قتل بدر أو فتح مكّة.

روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بإسناده عن أبي صالح، عن ابن عبّاس و جابر بن عبد اللّه أنّه

صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال في حجّة الوداع و هو بمعنى: «و لا ترجعوا بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض، و أيم اللّه لئن فعلتموها لتعرفنّي في كتيبة يضاربونكم. قال: فغمز من خلفه منكبه الأيسر، فالتفت فقال: أو عليّ. فنزلت الآيات المذكورة» «3».

[سورة المؤمنون (23): الآيات 96 الى 100]

ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ (96) وَ قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ (97) وَ أَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ (98) حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ قالَ رَبِّ ارْجِعُونِ (99) لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ كَلاَّ إِنَّها كَلِمَةٌ هُوَ قائِلُها وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (100)

______________________________

(1) الشعراء: 87.

(2) جأر يجأر جؤارا إلى اللّه: رفع صوته بالدعاء و تضرّع.

(3) شواهد التنزيل 1: 526 ح 559.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 463

ثمّ أمره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالصبر إلى أن ينقضي الأجل المضروب للعذاب، فقال: ادْفَعْ بِالَّتِي بالخصلة أو الفعلة الّتي هِيَ أَحْسَنُ السَّيِّئَةَ و هي الصفح عن إساءة المسي ء، و الإحسان في مقابلتها.

قيل: هي منسوخة بآية السيف «1». و قيل: محكمة، لأنّ المداراة محثوث عليها، لكن بحيث لم يؤدّ إلى وهن في الدين.

و قيل: ادفع باطلهم ببيان الحجج على ألطف الوجوه و أوضحها، و أقربها إلى الإجابة و القبول.

و عن ابن عبّاس: هي كلمة التوحيد، و السيّئة الشرك. و قيل: هو الأمر بالمعروف، و السيّئة المنكر. و هو أبلغ من: ادفع بالحسنة السيّئة، لما فيه من التنصيص على التفصيل.

نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَصِفُونَ أي: بما يصفونك به. أو بوصفهم إيّاك على خلاف حالك، و أقدر على جزائهم، فكل إلينا أمرهم.

وَ قُلْ رَبِّ أَعُوذُ بِكَ مِنْ هَمَزاتِ الشَّياطِينِ و نزعاتهم و وساوسهم. و أصل

الهمز:

النخس. و منه: مهماز «2» الرائض. شبّه حثّهم الناس على المعاصي بهمز الراضة للدوابّ

______________________________

(1) التوبة: 5 و 29.

(2) المهماز: عصا في رأسها حديدة تنخس بها الدابّة. و الرائض: معلّم الدوابّ و سائسها.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 464

حثّا لها على المشي. و نحو الهمز الأزّ في قوله: تَؤُزُّهُمْ أَزًّا «1». و الجمع للمرّات، أو لتنوّع الوساوس، أو لتعدّد المضاف إليه.

وَ أَعُوذُ بِكَ رَبِّ أَنْ يَحْضُرُونِ يحوموا حولي في شي ء من الأحوال. و قيل:

حال الصلاة. و عن ابن عبّاس: عند قراءة القرآن. و عن عكرمة: عند حلول الأجل. و وجه التخصيص أنّها أقوى الأحوال بأن يخاف عليه.

حَتَّى إِذا جاءَ أَحَدَهُمُ الْمَوْتُ متعلّق ب «يصفون» أي: لا يزالون على سوء الذكر إلى هذا الوقت. و ما بينهما اعتراض، لتأكيد الإغضاء عنهم بالاستعاذة باللّه من الشيطان أن يزلّه عن الحلم، و يغريه على الانتقام منهم. أو بقوله: وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ «2».

قالَ تحسّرا عند الموت على ما فرّط فيه من الإيمان و الطاعة لمّا اطّلع على حقيقة الأمر رَبِّ ارْجِعُونِ ردّوني إلى الدنيا. و الواو لتعظيم المخاطب، كقوله: فإن شئت حرّمت النساء سواكم «3» .... و قوله: ألا فارحموني يا إله محمّد «4» ... و كما قال:

قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ لا تَقْتُلُوهُ «5».

لَعَلِّي أَعْمَلُ صالِحاً فِيما تَرَكْتُ في الإيمان الّذي تركته، أي: لعلّي آتي بالإيمان و أعمل فيه، كما تقول: لعلّي أبني على أسّ. و قيل: فيما تركت من المال، أو في الدنيا. و

قال الصادق عليه السّلام: «إنّه في مانع الزكاة، يسأل الرجعة عند الموت».

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إذا عاين المؤمن الملائكة قالوا: أ نرجعك إلى الدنيا؟ فيقول:

______________________________

(1) مريم: 83.

(2) المؤمنون: 90.

(3) للعرجي. و

عجزه: و إن شئت لم أطعم نقاخا و لا بردا. و النقاخ: الماء العذب البارد. و البرد:

النوم.

(4) و عجزه:

فإن لم أكن أهلا فأنت له أهل.

(5) القصص: 9. زبدة التفاسير، ج 4، ص: 465

إلى دار الهموم و الأحزان! بل قدوما إلى اللّه. و أمّا الكافر فيقول: ربّ ارجعون».

كَلَّا ردع عن طلب الرجعة، و إنكار و استبعاد لها إِنَّها كَلِمَةٌ يعني قوله:

«رَبِّ ارْجِعُونِ» إلى آخره. و الكلمة: الطائفة من الكلام المنتظم بعضها مع بعض. هُوَ قائِلُها لا محالة، لا يسكت عنها، لتسلّط الحسرة عليه، و استيلاء الندم، و لا فائدة له في ذلك.

وَ مِنْ وَرائِهِمْ أمامهم. و الضمير للجماعة. بَرْزَخٌ حائل بينهم و بين الرجعة. و هو الزمان الّذي يكون بين الموت و البعث، فمن مات فقد وقع في البرزخ. إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ يوم القيامة. و هو إقناط كلّي عن الرجوع إلى الدنيا، لما علم أنّه لا رجعة يوم البعث إلى الدنيا، و إنّما الرجوع فيه إلى حياة تكون في الآخرة.

و في الآية دلالة على أنّ أحدا لا يموت حتّى يعرف منزلته عند اللّه تعالى، و أنّه من أهل الثواب أو العذاب.

[سورة المؤمنون (23): الآيات 101 الى 108]

فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ يَوْمَئِذٍ وَ لا يَتَساءَلُونَ (101) فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (102) وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ (103) تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ وَ هُمْ فِيها كالِحُونَ (104) أَ لَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (105)

قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَ كُنَّا قَوْماً ضالِّينَ (106) رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها فَإِنْ عُدْنا فَإِنَّا ظالِمُونَ (107) قالَ اخْسَؤُا فِيها وَ لا تُكَلِّمُونِ (108)

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 466

ثمّ بيّن سبحانه حال الفريقين يوم البعث، فقال: فَإِذا نُفِخَ

فِي الصُّورِ لقيام الساعة بالصوت الهائل العظيم. و هو شبه قرن لنفخة إسرافيل عليه السّلام. و

في الحديث: «كيف أنعم و صاحب الصور التقم الصور، أو التقمه».

و قيل: هي جمع الصورة. و المعنى: إذا أعيدت الأرواح إلى الأبدان. فَلا أَنْسابَ بَيْنَهُمْ ينفعهم، لزوال التعاطف و التراحم من فرط الحيرة و استيلاء الدهشة، بحيث يفرّ المرء من أخيه، و أمّه و أبيه، و صاحبته و بنيه. أو يفتخرون بها. يَوْمَئِذٍ كما ينتفعون اليوم بها. و يحتمل أن تقاطع الأنساب يقع بينهم حيث يتفرّقون معاقبين و مثابين، فتلغوا الأنساب و تبطل.

وَ لا يَتَساءَلُونَ و لا يسأل بعضهم بعضا عن حاله و خبره، لاشتغاله بنفسه. و هو لا يناقض قوله: يَتَعارَفُونَ بَيْنَهُمْ «1». وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ «2». لأنّه عند النفخة، و ذلك بعد المحاسبة، فإنّ يوم القيامة مقداره خمسون ألف سنة، ففيه أزمنة و أحوال مختلفة، يتساءلون و يتعارفون في بعضها، و في بعضها لا يفطنون لذلك، لشدّة الهول و الفزع. أو التناكر يكون عند النفخة الأولى، فإذا كانت الثانية قاموا من القبور فتعارفوا و تساءلوا. أو عدم التساؤل يكون في القيامة، و التساؤل بعد دخول أهل الجنّة الجنّة و أهل النار النار.

فَمَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ جمع موزون. و هي الموزونات من عقائده و أعماله.

يعني: من كانت له عقائد صحيحة و أعمال صالحة، يكون لها وزن و قدر عند اللّه. أو جمع ميزان، كمواعيد جمع ميعاد. و هو القرسطون «3» الّذي توزن به الأعمال. فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالنجاة و الدرجات.

______________________________

(1) يونس: 45.

(2) الصافّات: 27.

(3) القرسطون معرّب: كرستون. فارسيّة بمعنى الميزان الكبير، فرهنگ فارسى للدكتور معين 3: 2941.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 467

وَ مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ أي: و

من لم يكن له ما يكون له وزن. و هم الكفّار، لقوله تعالى: فَلا نُقِيمُ لَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَزْناً «1». فَأُولئِكَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ غبنوها، حيث ضيّعوا زمان استكمالها، و أبطلوا استعدادها لنيل كمالها فِي جَهَنَّمَ خالِدُونَ بدل من «خسروا أنفسهم». أو خبر ثان ل «أولئك». أو خبر مبتدأ محذوف.

تَلْفَحُ وُجُوهَهُمُ النَّارُ تحرقها. و اللفح كالنفح، إلّا أنّ اللفح أشدّ تأثيرا. وَ هُمْ فِيها كالِحُونَ من شدّة الاحتراق. و الكلوح تقلّص الشفتين عن الأسنان، كما ترى الرؤوس المشويّة.

عن مالك بن دينار: كان سبب توبة عتبة الغلام أنّه مرّ في السوق برأس أخرج من التنّور، فغشي عليه ثلاثة أيّام و لياليهنّ.

و

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «تشويه النار فتقلّص شفته العليا حتّى تبلغ وسط رأسه، و تسترخي شفته السفلى حتّى تبلغ سرّته».

أَ لَمْ تَكُنْ أي: يقال لهم: ألم تكن آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَكُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ تأنيب و تذكير لهم بما استحقّوا هذا العذاب لأجله.

قالُوا رَبَّنا غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا استعلت علينا سيّئاتنا الّتي أوجبت لنا الشقاوة. و هي: سوء العاقبة و المضرّة اللاحقة. و قرأ حمزة و الكسائي: شقاوتنا بالفتح، كالسعادة وَ كُنَّا قَوْماً ضالِّينَ عن الحقّ. و لمّا كانت سيّئاتهم الّتي شقوا بها سبب شقاوتهم سمّيت شقاوة توسّعا. و من أكبر الشقاء أن يترك عبادة اللّه إلى عبادة غيره، و يترك الأدلّة و يتّبع الهوى.

رَبَّنا أَخْرِجْنا مِنْها من النار فَإِنْ عُدْنا إلى التكذيب فَإِنَّا ظالِمُونَ لأنفسنا.

قالَ اخْسَؤُا اسكتوا سكوت هوان فِيها في النار، فإنّها ليست مقام سؤال.

______________________________

(1) الكهف: 105.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 468

يعني: ذلّوا فيها و انزجروا، كما تنزجر الكلاب إذا زجرت. من: خسأت الكلب إذا زجرته، فخسأ بنفسه. لازم

و متعدّ، فإن أصل هذه اللفظة زجر الكلاب، و إذا قيل ذلك للإنسان يكون للإهانة المستحقّة للعقوبة. وَ لا تُكَلِّمُونِ في رفع العذاب، فإنّه لا يرفع و لا يخفّف أبدا. أو لا تكلّمون رأسا.

و عن ابن عبّاس: إنّ لهم ستّ دعوات: إذا دخلوا النار قالوا ألف سنة: رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا «1».

فيجابون: حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي «2».

فينادون ألفا: رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ «3».

فيجابون: ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ « «4»».

فينادون ألفا: يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ «5».

فيجابون: إِنَّكُمْ ماكِثُونَ « «6»».

فينادون ألفا: رَبَّنا أَخِّرْنا «7» فيجابون: أَ وَ لَمْ تَكُونُوا « «8»».

فينادون ألفا: رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ صالِحاً «9».

فيجابون: أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ « «10»».

فينادون ألفا: رَبِّ ارْجِعُونِ «11».

______________________________

(1) السجدة: 12- 13.

(2) السجدة: 12- 13.

(3، 4) غافر: 11- 12.

(5، 6) الزخرف: 77.

(7، 8) إبراهيم: 44.

(9، 10) فاطر: 37.

(11) المؤمنون: 99.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 469

فيجابون: اخْسَؤُا فِيها.

و هو آخر كلام يتكلّمون به، ثمّ لا كلام بعد ذلك إلّا الشهيق و الزفير و العواء كعواء الكلاب، لا يفهمون و لا يفهمون.

[سورة المؤمنون (23): الآيات 109 الى 118]

إِنَّهُ كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (109) فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي وَ كُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ (110) إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ بِما صَبَرُوا أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ (111) قالَ كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ عَدَدَ سِنِينَ (112) قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ فَسْئَلِ الْعادِّينَ (113)

قالَ إِنْ لَبِثْتُمْ إِلاَّ قَلِيلاً لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (114) أَ فَحَسِبْتُمْ أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ (115) فَتَعالَى اللَّهُ الْمَلِكُ الْحَقُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ (116) وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ فَإِنَّما

حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (117) وَ قُلْ رَبِّ اغْفِرْ وَ ارْحَمْ وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ (118)

ثمّ بيّن علّة استحقاقهم الهوان الشديد و العذاب الأليم بقوله: إِنَّهُ إنّ الشأن كانَ فَرِيقٌ مِنْ عِبادِي يعني: المؤمنين. و قيل: هم أهل الصفّة خاصّة. يَقُولُونَ رَبَّنا آمَنَّا فَاغْفِرْ لَنا وَ ارْحَمْنا وَ أَنْتَ خَيْرُ الرَّاحِمِينَ يعني: يدعون بهذه الدعوات في الدنيا

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 470

طلبا لما عندي من الثواب.

فَاتَّخَذْتُمُوهُمْ سِخْرِيًّا هزؤا. و قرأ نافع و حمزة و الكسائي بالضمّ. و هما مصدر سخر كالسخر، إلّا أن في ياء النسبة زيادة قوّة في الفعل و مبالغة، كما قيل: الخصوصيّة في الخصوص. و عند الكوفيّين المكسور بمعنى الهزء، و المضموم من السخرة بمعنى الانقياد و العبوديّة، أي: تسخّروهم و استعبدوهم. حَتَّى أَنْسَوْكُمْ ذِكْرِي من فرط تشاغلكم بالاستهزاء بهم على تلك الصفة، أي: تركتم أن تذكروني لاشتغالكم بالسخريّة منهم.

فنسب الإنساء إلى عبادة المؤمنين و إن لم يفعلوا، لمّا كانوا السبب في ذلك. وَ كُنْتُمْ مِنْهُمْ تَضْحَكُونَ استهزاء بهم.

إِنِّي جَزَيْتُهُمُ الْيَوْمَ يعني: يوم الجزاء بِما صَبَرُوا على أذاكم أَنَّهُمْ هُمُ الْفائِزُونَ أي: فوزهم بمجامع مراداتهم مخصوصين به. و هو ثاني مفعولي «جزيتهم».

و قرأ حمزة و الكسائي بالكسر استئنافا، أي: قد فازوا حيث صبروا، فجزوا بصبرهم أحسن الجزاء قالَ أي: اللّه، أو الملك المأمور بسؤالهم، توبيخا و تبكيتا لمنكري البعث. و قرأ ابن كثير و حمزة و الكسائي: قل، على الأمر للملك، أو لبعض رؤساء أهل النار. كَمْ لَبِثْتُمْ فِي الْأَرْضِ أحياء أو أمواتا في القبور عَدَدَ سِنِينَ تمييز ل «كم».

قالُوا لَبِثْنا يَوْماً أَوْ بَعْضَ يَوْمٍ استقصارا لمدّة لبثهم في الدنيا أو القبور بالنسبة إلى خلودهم في النار. أو لأنّها كانت

أيّام سرورهم، و أيّام السرور قصار، كما أنّ أيّام المحنة مستطيلة. أو لأنّها منقضية، و المنقضي في حكم المعدوم.

فَسْئَلِ الْعادِّينَ الحسّاب الّذين يتمكّنون من عدّ أيّامها إن أردت تحقيقها، فإنّا لما نحن فيه من العذاب مشغولون عن تذكّرها و إحصائها، إلّا أنّا نستقلّها و نحسبها يوما أو بعض يوم. أو الملائكة الّذين يعدّون أعمار الناس، و يحصون أعمالهم.

و يدلّ على أنّ المراد مدّة لبثهم في القبور، ما روي عن ابن عبّاس أنّه قال: أنساهم

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 471

ما كانوا فيه من العذاب بين النفختين.

فصدّقهم اللّه في تقالهم «1» لسني لبثهم في الدنيا، و وبّخهم على غفلتهم الّتي كانوا عليها، فقال: قالَ أي: اللّه أو الملك. و قرأ الكوفيّون: قل إِنْ لَبِثْتُمْ إِلَّا قَلِيلًا لأنّ مكثكم في الدنيا أو في القبور و إن طال، فإنّه متناه قليل بالإضافة إلى طول مكثكم في عذاب جهنّم لَوْ أَنَّكُمْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ صحّة ما أخبرناكم به. أو قصر أعماركم في الدنيا، و طول مكثكم في الآخرة في العذاب، لمّا اشتغلتم بالكفر و المعاصي، و آثرتم الفاني على الباقي.

ثمّ وبّخهم على تغافلهم بقوله: أَ فَحَسِبْتُمْ معاشر الجاحدين للبعث و النشور، الظانّين دوام الدنيا أَنَّما خَلَقْناكُمْ عَبَثاً حال أو مفعول له، أي: عابثين أو للعبث، أي:

لم يدعنا إلى خلقكم إلّا حكمة اقتضت ذلك، و هي أن نتعبّدكم و نكلّفكم المشاقّ، من الطاعات و ترك المعاصي، ثمّ نرجعكم من دار التكليف إلى دار الجزاء، فنثيب المحسن و نعاقب المسي ء. و هو كالدليل على البعث. و مثل ذلك قوله: وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ «2».

وَ أَنَّكُمْ إِلَيْنا لا تُرْجَعُونَ معطوف على «أَنَّما خَلَقْناكُمْ» أو «عبثا». و قرأ حمزة و الكسائي

و يعقوب بفتح التاء و كسر الجيم.

فَتَعالَى اللَّهُ عمّا يصفه به الجهّال من الشريك و الولد و الصاحبة. أو من أن يعمل عبثا. الْمَلِكُ الْحَقُ الّذي يحقّ له الملك مطلقا، لأنّ ما عداه مملوك بالذات مالك بالعرض، و من وجه دون وجه، و في حال دون حال، و لأنّ كلّ شي ء منه و إليه. أو الثابت الّذي لا يزول هو بنفسه، و لا يزول ملكه.

لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فإنّ ما عداه عبيد له رَبُّ الْعَرْشِ الْكَرِيمِ الّذي يحيط بجميع

______________________________

(1) تقالّ الشي ء: عدّه قليلا.

(2) الذاريات: 56.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 472

الأجرام، و ينزل منه محكمات الأقضية و الأحكام. و لذلك وصفه بالكرم، و هو كثرة الخير. أو لنسبته إلى أكرم الأكرمين.

وَ مَنْ يَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ أي: يعبده لا بُرْهانَ لَهُ بِهِ صفة اخرى ل «إلها» لازمة له، نحو قوله: يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ «1». و بناء الحكم عليه، تنبيها على أنّ التديّن بما لا دليل عليه ممنوع، فضلا عمّا دلّ الدليل على خلافه. و يجوز أن يكون اعتراضا بين الشرط و الجزاء لذلك، كقولك: من أحسن إلى زيد لا أحقّ بالإحسان منه، فاللّه مثيبه.

فَإِنَّما حِسابُهُ عِنْدَ رَبِّهِ فهو مجاز له مقدار ما يستحقّه إِنَّهُ إن الشأن لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ وضع «الكافرون» موضع الضمير، لأنّ «من يدع» في معنى الجمع.

و كذلك «حسابه».

و اعلم أنّه سبحانه بدأ السورة بتقرير فلاح المؤمنين، و ختمها بنفي الفلاح عن الكافرين، فشتّان ما بين الفاتحة و الخاتمة.

و لمّا حكى اللّه سبحانه أحوال الكفّار أمر رسوله بأن يتبرّأ منهم، و أن ينقطع إليه عمّا سواه و يسترحمه، فقال: وَ قُلْ رَبِّ اغْفِرْ ذنوب عبادك وَ ارْحَمْ و أنعم على خلقك وَ أَنْتَ خَيْرُ

الرَّاحِمِينَ أفضل المنعمين، و أكثرهم نعمة، و أوسعهم فضلا.

______________________________

(1) الأنعام: 38.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 473

(24) سورة النور

اشارة

و هي أربع و ستّون آية.

عن أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ سورة النور أعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد كلّ مؤمن و مؤمنة، فيما مضى و فيما بقي».

و

روى الحاكم أبو عبد اللّه في الصحيح بالإسناد عن عائشة قالت: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا تنزلوهنّ الغرف، و لا تعلّموهنّ الكتابة، و علّموهنّ المغزل و سورة النور» «1».

يعني: النساء.

و

روى عبد اللّه بن مسكان، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «حصّنوا أموالكم و فروجكم بتلاوة سورة النور، و حصّنوا بها نساءكم، فإنّ من أدمن قراءتها في كلّ يوم أو في كلّ ليلة، لم يزن أحد من أهل بيته أبدا حتّى يموت، فإذا مات شيعه إلى قبره سبعون ألف ملك، يدعون و يستغفرون اللّه له حتّى يدخل إلى قبره».

[سورة النور (24): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سُورَةٌ أَنْزَلْناها وَ فَرَضْناها وَ أَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (1)

______________________________

(1) مستدرك الحاكم 2: 396.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 474

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة المؤمنين بأنّه لم يخلق الخلق للعبث، بل للأمر و النهي، ابتدأ هذه السورة بذكر الأوامر و النواهي و بيان الشرائع، فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سُورَةٌ أي: هذه سورة. أو فيما أوحينا إليك سورة. أَنْزَلْناها صفتها، أي: أنزلها جبرئيل بأمرنا وَ فَرَضْناها و فرضنا ما فيها من الأحكام. و أصل الفرض القطع، أي:

جعلناها واجبة مقطوعا بها. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو بتشديد الراء، لكثرة فرائضها، أو المفروض عليهم، أو للمبالغة في إيجابها.

وَ أَنْزَلْنا فِيها آياتٍ بَيِّناتٍ واضحات الدلالة على وحدانيّتنا و كمال قدرتنا، أو حدودنا و أحكامنا الّتي شرعنا فيها لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ

لكي تتّعظوا و تتّقوا بما فيها.

[سورة النور (24): الآيات 2 الى 3]

الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي فَاجْلِدُوا كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ لْيَشْهَدْ عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (2) الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلاَّ زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلاَّ زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ وَ حُرِّمَ ذلِكَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ (3)

ثمّ شرع في بيان الأحكام، و ابتدأ بحكم الزنا الّذي هو أفحش الفواحش، فقال:

الزَّانِيَةُ وَ الزَّانِي مرفوعان بالابتداء، و خبرهما محذوف عند الخليل و سيبويه، أي:

ممّا فرضنا أو أنزلنا حكمه حكم الزانية و الزاني، و هو الجلد. و يجوز أن يرفعا بالابتداء، و الخبر قوله: فَاجْلِدُوا أيّها الحكّام كُلَّ واحِدٍ مِنْهُما مِائَةَ جَلْدَةٍ. و على الأوّل جملة اخرى معطوفة على الأولى. و الثاني قول المبرّد.

و على هذا لمّا كان المبتدأ متضمّنا معنى الشرط، لأنّ اللام بمعنى اسم الموصول، كما تقول: من زنى فاجلدوه، أتى بالفاء، أي: الّتي زنت و الّذي زنى فاجلدوهما.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 475

و إنّما قدّم الزانية، لأنّ الزنا في الأغلب يكون بتعرّضها للرجل و عرض نفسها عليه، و لأنّ مفسدته تتحقّق بالإضافة إليها. و الجلد ضرب الجلد بحيث لا يتجاوز ألمه إلى اللحم، فلا يجوز التبريح «1».

و هذا الحكم مخصّص بالسنّة و الكتاب. أمّا السنّة فبالزيادة تارة، كما في حقّ البكر الذكر، فإنّه يزاد التغريب سنة،

لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «البكر بالبكر جلد مائة و تغريب عام».

و منعه أبو حنيفة. و الخبر يبطل قوله. و كذا عمل الصحابة. و قوله: إنّ الآية ناسخة، ضعيف، لأنّ عدم ذكر التغريب ليس ذكرا لعدمه، لتكون ناسخة له. و فعل الصحابة متأخّر عن الآية، فكيف يكون

التغريب منسوخا؟! و بالرجم تارة، كما في حقّ المحصن و المحصنة، فإنّ حدّهما الرجم. هذا إن قلنا بعدم ضمّ الجلد إلى الرجم، و إلّا فهو أيضا زيادة، و قيل: الضمّ في حقّ الشيخين خاصّة.

و قيل: عامّ. و هو الحقّ، لأنّ عليّا عليه السّلام جلد سراقة يوم الخميس و رجمها يوم الجمعة، و

قال: «جلدتها بكتاب اللّه، و رجمتها بسنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

و كانت سراقة شابّة، و فعله عليه السّلام حجّة.

و المراد بالمحصن من له فرج مملوك، بالعقد الدائم أو بملك اليمين، يغدو عليه و يروح. و بالمحصنة من لها فرج بالعقد الدائم، تغدو عليه و تروح. و البكر قيل: هو ما عدا المحصن. و قيل: من أملك و لم يدخل. و الطلاق رجعيّا لا ينافي الإحصان مع بقاء العدّة، بخلاف البائن.

و عندنا لا جزّ على المرأة و لا تغريب. و أمّا الكتاب فينصّف الجلد في حقّ الأمة، لقوله تعالى: فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ ما عَلَى الْمُحْصَناتِ مِنَ الْعَذابِ «2». و اختلف في العبد، فقيل: كالحرّ. و قيل: كالأمة. و هو الأقوى، للرواية المأثورة عن الأئمة عليهم السّلام.

______________________________

(1) التبريح: الشدّة و الأذى. و برّح به: أتعبه و جهده و آذاه أذى شديدا.

(2) النساء: 25.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 476

وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ رحمة و شفقة فِي دِينِ اللَّهِ في طاعته و إقامة حدّه و حفظه، فتعطّلوه أو تسامحوا فيه. و قرأ ابن كثير بفتح الهمزة «1». إِنْ كُنْتُمْ تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فإنّ الإيمان بالمبدأ و المعاد يقتضي الجدّ في طاعة اللّه، و الاجتهاد في إقامة أحكامه و حدوده. و هو من باب التّهييج في إجراء الحكم، و التشديد في أمر الزنا

و حسم مادّته، لينحفظ النسب، و تجري الأحكام الشرعيّة المترتّبة على أصولها. و لذلك

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «يا معشر الناس اتّقوا الزنا، فإنّ فيه ستّ خصال: ثلاث في الدنيا، و ثلاث في الآخرة. فأمّا اللّاتي في الدنيا: فإنّه يذهب البهاء، و يورث الفقر، و ينقص العمر. و أمّا اللّاتي في الآخرة: فإنّه يوجب السخطة، و سوء الحساب، و الخلود في النار».

و في الآية دلالة على أنّه يضرب أتمّ الضرب، فلا ينقص من الحدّ شي ء. و لا تجوز الشفاعة في إسقاطه. و

في الحديث عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «يؤتى بوال نقص من الحدّ سوطا، فيقول: رحمة لعبادك. فيقول اللّه له: أ أنت أرحم بهم منّي، فيؤمر به إلى النار.

و يؤتى بمن زاد سوطا، فيقول: لينتهوا عن معاصيك، فيؤمر به إلى النار».

وَ لْيَشْهَدْ و ليحضر عَذابَهُما طائِفَةٌ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ زيادة في التنكيل، فإنّ التفضيح قد ينكل أكثر ما ينكل التعذيب. و في تسمية الحدّ العذاب دليل على أنّه عقوبة.

و يجوز أن يسمّى عذابا، لأنّه يمنع المعاودة، كما سمّي نكالا. و قيّد الطائفة بالمؤمنين، لئلّا يكون إقامة الحدّ مانعة للكفّار من الإسلام. و لذلك كره إقامته في أرض العدوّ.

و الطائفة: الفرقة الحافّة حول الشي ء. و اختلف في كمّيتها.

فعن الباقر عليه السّلام و ابن عبّاس و الحسن و غيرهم: أقلّها واحد.

و به قال مجاهد. و قال عكرمة: اثنان. و الزهري:

ثلاثة. و في رواية اخرى عن ابن عبّاس: أربعة. لأنّ بهذا العدد يثبت هذا الحدّ. و هو قريب، لكن قول الباقر عليه السّلام أقوى. و يؤيّده أنّ الفرقة جمع أقلّه ثلاثة، و الطائفة بعضها، فيكون واحدا. فمعنى الطائفة: النفس

الّتي من شأنها أن تكون حافّة حول الشي ء. و يدلّ

______________________________

(1) أي: همزة: رأفة.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 477

عليه أيضا قوله تعالى: وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا «1» فإنّ هذا الحكم يثبت للواحد كما يثبت للجمع.

الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً وَ الزَّانِيَةُ لا يَنْكِحُها إِلَّا زانٍ أَوْ مُشْرِكٌ إذ الغالب أنّ المائل إلى الزنا لا يرغب في نكاح الصوالح، و المسافحة لا يرغب فيها الصلحاء، فإنّ المشاكلة علّة للألفة و التضامّ، و المخالفة سبب للنفرة و الافتراق.

و كان حقّ المقابلة أن يقال: و الزانية لا تنكح إلّا من هو زان أو مشرك، لكنّ المراد بيان أحوال الرجال في الرغبة فيهنّ، لأنّ الآية نزلت في ضعفة المهاجرين، لمّا همّوا أن يتزوّجوا بغايا يكرين أنفسهنّ، لينفقن عليهم من أكسابهنّ على عادة الجاهليّة، و لذلك قدّم الزاني.

و معنى الجملة الاولى: وصف الزاني بكونه غير راغب في العفائف، بل في الزواني. و معنى الثانية: وصف الزانية بكونها غير مرغوب فيها للأعفّاء، بل للزناة. و بينهما فرق.

و قال في الجامع: «و إنّما قدّمت الزانية على الزاني في الأولى، لأنّ الآية مسوقة لعقوبتهما على جنايتهما، و المرأة منها منشأ الجناية، و هي الأصل و المادّة في ذلك. ثمّ قدّم الزاني عليها في الثاني، لأنّ الآية مسوقة لذكر النكاح، و الرجل هو الأصل فيه و المخاطب، و منه مبدأ الطلب» «2».

و

عن ابن عبّاس و ابن عمر و مجاهد و قتادة و الزهري: أنّ رجلا من المسلمين استأذن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في أن يتزوّج أمّ مهزول، و هي امرأة كانت تسافح و لها راية على بابها تعرف بها، فنزلت هذه الآية.

و المراد بها النهي و إن

كان ظاهرها الخبر، و يؤيّده ما

روي عن أبي جعفر و أبي

______________________________

(1) الحجرات: 9.

(2) جوامع الجامع 2: 136. زبدة التفاسير، ج 4، ص: 478

عبد اللّه عليهما السّلام أنّهما قالا: «هم رجال و نساء كانوا على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مشهورين بالزنا، فنهى اللّه عن أولئك الرجال و النساء، و الناس اليوم على تلك المنزلة، فمن شهر بشي ء من ذلك، و أقيم عليه الحدّ، فلا تزوّجوه حتّى تعرف توبته».

و لا يجوز أن تحمل الآية على ظاهر الخبر، لأنّا نجد الزاني يتزوّج غير الزانية.

وَ حُرِّمَ ذلِكَ نكاح المشهورات بالزنا عَلَى الْمُؤْمِنِينَ لأنّه تشبّه بالفسّاق، و تعرّض للتهمة، و تسبّب لسوء المقالة و الطعن في النسب، و غير ذلك من المفاسد، و لذلك عبّر عن التنزيه بالتحريم مبالغة.

و قيل: الحرمة على ظاهرها. و قيل: الحكم مخصوص بالسبب الّذي ورد فيه.

و قيل: منسوخ بقوله: وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ «1» فإنّه يتناول المسافحات. و يؤيّده

أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سئل عن ذلك، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أوّله سفاح، و آخره نكاح، و الحرام لا يحرّم الحلال».

و قيل: المراد بالنكاح الوطء. و قوله: «ذلك» إشارة إلى الزنا.

[سورة النور (24): الآيات 4 الى 5]

وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً وَ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (4) إِلاَّ الَّذِينَ تابُوا مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)

و لمّا تقدّم ذكر حدّ الزنا عقّبه سبحانه بذكر حدّ القاذف بالزنا، فقال: وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ يقذفون العفائف من النساء بالزنا و الفجور ثُمَّ لَمْ يَأْتُوا على صحّة ما رموهنّ به من الزنا بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ

عدول يشهدون في مجلس واحد غير متفرّقين و متّفقين على أنّهم شاهدوهنّ يفعلن ذلك كالميل في المكحلة

______________________________

(1) النور: 32.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 479

فَاجْلِدُوهُمْ ثَمانِينَ جَلْدَةً سواء كانوا أحرارا أو عبيدا، رجالا أو نساء، لعموم اللفظ. و التنصيف في العبد إنّما جاز في الزنا للنصوص.

وَ لا تَقْبَلُوا لَهُمْ شَهادَةً أَبَداً ما لم يتب، لدلالة الاستثناء عليه بعد وَ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ نهى سبحانه عن قبول شهادة القاذف على التأبيد، و حكم عليهم بالفسق.

و اعلم أنّ نظم هذه الآية يقتضي أن تكون هذه الجمل الثلاث بأجمعها جزاء للشرط. فيكون التقدير: من قذف المحصنات فاجلدوهم و ردّوا شهادتهم و فسّقوهم، أي: فاجمعوا لهم الجلد و ردّ الشهادة و التفسيق. ثمّ استثنى من ذلك بقوله: إِلَّا الَّذِينَ تابُوا عن القذف مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ أَصْلَحُوا أعمالهم، بأن استمرّوا على التوبة. و في هذا دلالة على أنّ بمجرّد التوبة لا تقبل الشهادة، بل لا بدّ و أن يحصل للتائب ملكة راسخة في النفس.

فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ علّة للاستثناء، أي: يغفر لهم فلا يجلدون، و لا تردّ شهادتهم و لا يفسّقون. و الأبد اسم لزمان طويل انتهى أو لم ينته. فإذا تاب القاذف قبلت شهادته، سواء حدّ أو لم يحدّ، عند أئمّة الهدى عليهم السّلام و ابن عبّاس. و هو مذهب الشافعي.

و اعلم أنّ حدّ القذف حقّ لازم يتوقّف إقامته على المطالبة، و لا يسقط بالتوبة، إلّا مع العفو من المقذوف قبل الثبوت لا بعده، و رضاه جزء من التوبة. و حدّها إكذاب نفسه إن كان كاذبا، و التخطئة إن كان صادقا، فلا تقبل شهادته بدون ذلك.

[سورة النور (24): الآيات 6 الى 10]

وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ إِلاَّ أَنْفُسُهُمْ فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أَرْبَعُ

شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ (6) وَ الْخامِسَةُ أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ (7) وَ يَدْرَؤُا عَنْهَا الْعَذابَ أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (8) وَ الْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ (9) وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ (10)

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 480

روي: أنّه لمّا نزلت آية القذف قام عاصم بن عديّ الأنصاري و قال: يا رسول اللّه إن رأى رجل منّا مع امرأته رجلا فأخبر بما رأى، جلد ثمانين جلدة و ردّت شهادته و فسّق، و إن ضربه بالسيف قتل به، و إن سكت سكت على غيظ، و إلى أن يجي ء بأربعة شهداء فقد قضى الرجل حاجته و مضى. قال: كذلك أنزلت يا عاصم. فخرج فلم يصل إلى منزله حتّى استقبله هلال بن أميّة يسترجع. فقال: ما وراءك؟ فقال: شرّ وجدت على بطن امرأتي خولة شريك بن سحماء. فقال: هذا و اللّه سؤالي، فرجعا. فأخبر عاصم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فبعث إليها. فقال: ما يقول زوجك؟ فقالت: لا أدري أ لغيرة أدركته، أم بخلا على الطعام؟ و كان شريك نزيلهم. فنزلت:

وَ الَّذِينَ يَرْمُونَ أَزْواجَهُمْ

بالزنا وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ شُهَداءُ يشهدون لهم على صحّة ما قالوا إِلَّا أَنْفُسُهُمْ هذا بدل من «شهداء» أو صفة لهم على أن «إلّا» بمعنى: غير فَشَهادَةُ أَحَدِهِمْ أي: فالواجب شهادة أحدهم، أو فعليهم شهادة أحدهم أَرْبَعُ شَهاداتٍ نصب على المصدر بتقدير: يشهد. و لا يجوز انتصابه ب «شهادة أحدهم» لأنّ المصدر لا ينصب مصدرا. و قد رفعه حمزة و الكسائي و حفص على أنّه خبر «شهادة».

بِاللَّهِ متعلّق ب

«شهادات» لأنّها أقرب. و قيل: ب «شهادة» لتقدّمها. إِنَّهُ لَمِنَ الصَّادِقِينَ أي: فيما رماها به من الزنا. و أصله: على أنّه، فحذف الجارّ و كسرت «إنّ»، و علّق العامل عنه باللام تأكيدا.

وَ الْخامِسَةُ أي: الشهادة الخامسة أَنَّ لَعْنَتَ اللَّهِ عَلَيْهِ إِنْ كانَ مِنَ الْكاذِبِينَ في الرمي. و قرأ يعقوب و نافع بالتخفيف في «أن» و رفع اللعنة.

و توضيح المعنى: أنّ الرجل يقول أربع مرّات مرّة بعد اخرى: أشهد باللّه أنّي لمن

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 481

الصادقين فيما رميتها به من الفجور. ثمّ يقول في المرّة الخامسة: لعنة اللّه عليّ إن كنت من الكاذبين فيما رميتها به من الزنا.

و هذا لعان الرجل، و به سقط حدّ القذف عنه، و حصلت الفرقة بينهما- فرقة فسخ عندنا و عند الشافعي،

لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «المتلاعنان لا يجتمعان أبدا»،

و بتفريق الحاكم فرقة طلاق عند أبي حنيفة- و نفي الولد عنه. و ثبت حدّ الزنا على المرأة إلّا بالشهادة، لقوله:

وَ يَدْرَؤُا و يسقط عَنْهَا الْعَذابَ أي: حدّ الزنا أَنْ تَشْهَدَ أَرْبَعَ شَهاداتٍ بِاللَّهِ إِنَّهُ لَمِنَ الْكاذِبِينَ بأن تقول أربع مرّات مرّة بعد اخرى: أشهد باللّه أنّه لمن الكاذبين فيما رماني به.

وَ الْخامِسَةَ أَنَّ غَضَبَ اللَّهِ عَلَيْها إِنْ كانَ مِنَ الصَّادِقِينَ في ذلك. و رفع الخامسة بالابتداء، و ما بعدها الخبر. أو بالعطف على «أن تشهد». و نصبها حفص عطفا على «أربع».

و قرأ نافع: أن غضب اللّه، بتخفيف النون، و كسر الضاد، و فتح الباء، و رفع الهاء من اسم اللّه تعالى. و الباقون: بتشديد النون، و نصب الباء، و فتح الضاد، و جرّ الهاء.

و تخصيص الملاعنة بغضب اللّه للتغليظ عليها، لأنّها هي أصل الفجور بإطماعها الرجل، و

لذلك كانت مقدّمة في آية الجلد كما مرّ.

و إذا وقع اللعان بينهما على النهج المذكور فرّق الحاكم بينهما، و لا تحلّ له أبدا، و كان عليها العدّة من وقت اللعان.

روي أن بعد نزول آية اللعان أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هلالا و خولة باللعان، فلاعنها، ففرّق بينهما.

وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ حَكِيمٌ جواب «لو لا» محذوف، أي: لفضحكم و عاجلكم بالعقوبة. و تركه دالّ على أمر عظيم بحيث لا يكتنه. و شرائط اللعان و الأحكام المتفرّعة عليه مذكورة في كتب الفقه.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 482

[سورة النور (24): الآيات 11 الى 16]

إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ عُصْبَةٌ مِنْكُمْ لا تَحْسَبُوهُ شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ وَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ مِنْهُمْ لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ (11) لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ خَيْراً وَ قالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ (12) لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ هُمُ الْكاذِبُونَ (13) وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ لَمَسَّكُمْ فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ عَذابٌ عَظِيمٌ (14) إِذْ تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ وَ تَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ وَ تَحْسَبُونَهُ هَيِّناً وَ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ (15)

وَ لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ ما يَكُونُ لَنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا سُبْحانَكَ هذا بُهْتانٌ عَظِيمٌ (16)

روى الزهري عن عروة بن الزبير و سعيد بن المسيّب و غيرهما: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا أراد سفرا أقرع بين نسائه، فأيّتهنّ خرج سهمها خرج بها. فأقرع بينهنّ في غزوة بني المصطلق، فخرج فيها سهم

عائشة، فخرجت مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لمّا نزلوا منزلا من منازلهم خرجت عائشة لقضاء حاجة ثمّ عادت إلى الرحل، فلمست صدرها

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 483

فإذا عقد من جزع «1» ظفار قد انقطع، فرجعت، و حمل هودجها على بعيرها ظنّا منهم أنّها فيه، فلمّا عادت إلى الموضع وجدتهم قد رحلوا، فجلست كي يرجع إليها أحد. و كان صفوان بن المعطل السلمي من وراء الجيش، فلمّا وصل إلى ذلك الموضع وجدهم قد رحلوا و عرفها، فأناخ بعيره حتّى ركبته و هو يقوده حتّى أتى الجيش، و قد نزلوا في وقت الظهيرة، فاتّهمت به. فنزلت:

إِنَّ الَّذِينَ جاؤُ بِالْإِفْكِ

بأبلغ ما يكون من الكذب. و أصله الإفك، و هو الصرف، لأنّه قول مأفوك عن وجهه. و المعنى: بالكذب العظيم الّذي قلب فيه الأمر عن وجهه. و المراد ما أفك به على عائشة. عُصْبَةٌ مِنْكُمْ جماعة منكم. و هي من العشرة إلى الأربعين. و كذلك العصابة. يقال: اعصوصبوا، أي: اجتمعوا. و هم: عبد اللّه بن أبيّ رأس المنافقين، و زيد بن رفاعة، و حسّان بن ثابت، و مسطح بن أثاثة، و حمنة بنت جحش، و من ساعدهم. و هي خبر «إنّ».

و قوله: لا تَحْسَبُوهُ مستأنف، أي: لا تحسبوا غمّ الإفك شَرًّا لَكُمْ بَلْ هُوَ خَيْرٌ لَكُمْ لاكتسابكم به الثواب العظيم، و ظهور كرامتكم على اللّه بإنزال ثماني عشرة آية في براءتكم و تعظيم شأنكم، و تهويل الوعيد لمن تكلّم في ذلك و سمع به فلم تمجّه أذناه، و الثناء على من ظنّ بكم خيرا. و تضمّنت كلّ واحدة منها مسألة و فائدة بيّنة، و حكما شرعيّا، مستقلّة بما هو تعظيم شأن رسول اللّه صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم، و تسلية له، و تنزيه لعائشة، و تطهير ذيلها. و الخطاب لعائشة و صفوان، لأنّهما المقصودان بالإفك، و لمن ساءه ذلك من المؤمنين، و خاصّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ مَا اكْتَسَبَ مِنَ الْإِثْمِ لكلّ جزاء ما اكتسب بقدر ما خاض فيه مختصّا به.

______________________________

(1) في هامش النسخة الخطّية: «الجزع بالفتح الخرز اليماني، الواحدة جزعة. ظفار بوزن قطام، هي اسم مدينة. منه».

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 484

وَ الَّذِي تَوَلَّى كِبْرَهُ تحمّل معظمه. و قرأ يعقوب بالضمّ «1». و هو لغة فيه.

مِنْهُمْ من الخائضين. و هو ابن أبيّ، لأنّ معظم الشرّ كان منه، فإنّه الّذي كان يشيع ذلك بين الناس، لما روي: أنّ صفوان مرّ بهودجها عليه و هو في ملأ من قومه، فقال: من هذه؟

فقالوا: عائشة. فقال: و اللّه ما نجت منه و لا نجا منها. ثمّ قال: امرأة نبيّكم باتت مع رجل حتّى أصبحت، ثمّ جاء يقودها. و قيل: هو و حسّان و مسطح، فإنّهما شايعاه بالتصريح به.

و على هذا «الّذي» بمعنى: الّذين.

لَهُ عَذابٌ عَظِيمٌ في الآخرة أو في الدنيا، بأن جلدوا، و صار ابن أبيّ مطرودا مشهورا بالنفاق، و حسّان أعمى و أشلّ اليدين، و مسطح مكفوف البصر.

لَوْ لا هلّا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ حين سمعتم هذا الإفك من القائلين له ظَنَّ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بِأَنْفُسِهِمْ أي: بالّذين هم كأنفسهم من المؤمنين و المؤمنات خَيْراً فإنّ المؤمنين كالنفس الواحدة فيما يجري عليها من الأمور، فإذا جرى على أحدهم محنة فكأنّها جرت على جماعتهم. و هذا كقوله: فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ «2»، وَ لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ «3».

و إنّما عدل فيه من الخطاب إلى الغيبة، و عن الضمير

إلى الظاهر، مبالغة في التوبيخ، و إشعارا بأنّ الإيمان يقتضي ظنّ الخير بالمؤمنين، و الكفّ عن الطعن فيهم و ذبّ الطاعنين عنهم كما يذبونهم عن أنفسهم.

و إنّما جاز الفصل بين «لو لا» و فعله بالظرف لأنّه منزّل منزلته، من حيث إنّه لا ينفكّ عنه، و لذلك يتّسع فيه ما لا يتّسع في غيره. و فائدة تقديمه على الفعل هنا، بيان أنّه كان الواجب عليهم أن يتفادوا أوّل ما سمعوا بالإفك عن التكلّم به، فلمّا كان ذكر

______________________________

(1) أي: كبره.

(2) النور: 61.

(3) الحجرات: 11.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 485

الوقت أهمّ وجب التقديم.

وَ قالُوا هذا إِفْكٌ مُبِينٌ أي: هلّا قالوا: هذا القول كذب ظاهر، تصريحا ببراءة ساحة إخوانهم المؤمنين منهم، و تكذيبا لقاذفيهم، كما يقول المستيقن المطّلع على الحال. و الخطاب لمن سمعه فسكت و لم يصدّق و لم يكذّب.

و قيل: هو خطاب لمن أشاعه. و المعنى: هلّا إذا سمعتم هذا الحديث ظننتم بها ما تظنّون بأنفسكم لو خلوتم بها. و ذلك لأنّها كانت أمّ المؤمنين، و من خلا بأمّه فإنّه لا يطمع فيها و هي لا تطمع فيه. و هذا من الأدب الحسن الّذي قلّ القائم به و الحافظ له.

و «لو لا» هذه للتحضيض. و كذا في قوله: لَوْ لا جاؤُ عَلَيْهِ أي: هلّا جاؤا على ما قالوه من القذف بِأَرْبَعَةِ شُهَداءَ يشهدون بما قالوه فَإِذْ لَمْ يَأْتُوا بِالشُّهَداءِ فحين لم يأتوا بالشهداء فَأُولئِكَ عِنْدَ اللَّهِ أي: في حكمه هُمُ الْكاذِبُونَ هذا الكلام التحضيضي أيضا من جملة المقول تقريرا لكونه كذبا، فإنّ ما لا حجّة عليه مكذّب في حكم اللّه، و لذلك رتّب الحدّ عليه.

وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ «لو لا»

هذه لامتناع الشي ء لوجود غيره. و المعنى: لو لا أنّي قضيت أن أتفضّل عليكم في الدنيا بأنواع النعم الّتي من جملتها الإمهال للتوبة، و أن أترحّم عليكم في الآخرة بالعفو و المغفرة المقدّرين لكم لَمَسَّكُمْ عاجلا فِيما أَفَضْتُمْ فِيهِ خضتم من حديث الإفك. يقال: أفاض في الحديث و اندفع و هضب «1» و خاض. عَذابٌ عَظِيمٌ شديد لا انقطاع له، بحيث يستحقر دونه اللوم و الجلد.

ثمّ ذكر الوقت الّذي كان يصيبهم العذاب فيه لو لا فضله، فقال: إِذْ ظرف ل «مسّكم» أو «أفضتم» تَلَقَّوْنَهُ بِأَلْسِنَتِكُمْ يأخذه و يرويه بعضكم عن بعض بالسؤال

______________________________

(1) هضب القوم في الحديث: أفاضوا فيه، و ارتفعت أصواتهم.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 486

عنه. يقال: تلقّى القول و تلقّفه و تلقّنه.

وَ تَقُولُونَ بِأَفْواهِكُمْ أي: و تقولون كلاما مختصّا بالأفواه، بلا مساعدة من القلوب ما لَيْسَ لَكُمْ بِهِ عِلْمٌ لأنّه ليس تعبيرا عن علم به في قلوبكم، كقوله:

يَقُولُونَ بِأَفْواهِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ «1».

وَ تَحْسَبُونَهُ هَيِّناً سهلا لا تبعة له وَ هُوَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيمٌ في الوزر و استجرار العذاب. وصفهم بارتكاب ثلاثة آثام مترتّبة، و علّق بها مسّ العذاب العظيم: تلقّي الإفك بألسنتهم، و التحدّث بما لا علم لهم به، و استصغار هم لذلك و هو عند اللّه عظيم.

ثمّ زاد سبحانه في الإنكار عليهم، فقال: وَ لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ قُلْتُمْ هلّا قلتم حين سمعتم ذلك الحديث ما يَكُونُ لَنا ما ينبغي و ما يصحّ لنا أَنْ نَتَكَلَّمَ بِهذا بهذا القول المخصوص أو نوعه، فإنّ قذف آحاد الناس محرّم شرعا، فضلا عن تعرّض زوجة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و حرمة الحريمة.

سُبْحانَكَ ربّنا، تعجّب ممّن يقول ذلك. و أصله

أن يذكر عند كلّ متعجّب تنزيها للّه تعالى من أن يصعب عليه مثله، ثمّ كثر استعماله لكلّ متعجّب. أو تنزيه للّه من أن تكون حرمة نبيّه فاجرة، فإنّ فجورها ينفّر الناس عنه، و هذا مخلّ بالبعثة و التبليغ، بخلاف كفرها، فإنّ الأنبياء بعثوا ليدعوهم، و هم يعظّمونهم و ينقادون لما أرسلوا له، و يميلون إليهم، و يقبلون عليهم بالقلب، فيجب أن لا يكون معهم ما ينفّرهم عنهم، و لم يكن الكفر عندهم ممّا ينفرّهم، و أمّا الكشخنة «2»- و العياذ باللّه- فمن أعظم المنفّرات.

و السبحلة تكون تقريرا لما قبلها، و تمهيدا لقوله: هذا الّذي قالوه بُهْتانٌ كذب و زور عَظِيمٌ عقابه، لعظمة المبهوت عليه، فإنّ حقارة الذنوب و عظمها باعتبار متعلّقاتها.

______________________________

(1) آل عمران: 167.

(2) الكشخنة: الدياثة. و الكشخان: الّذي امرأته فاجرة.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 487

[سورة النور (24): الآيات 17 الى 20]

يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (17) وَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (18) إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ فِي الَّذِينَ آمَنُوا لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (19) وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ وَ أَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (20)

ثمّ وعظ سبحانه الّذين خاضوا في الإفك، فقال: يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ كراهة أن تعودوا، أو في أن تعودوا، من قولك: وعظت فلانا في كذا فتركه أَبَداً ما دمتم أحياء مكلّفين إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ فإنّ الإيمان يمنع عنه. و فيه تهييج لهم، و تذكير بما يوجب ترك العود، و يصرف عن القبيح.

وَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ الأوامر و النواهي الدالّة على الشرائع الجميلة، و الآداب الحسنة، و المواعظ الشافية، كي تتّعظوا و

تتأدّبوا وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بدواعي الحكم في الأحوال كلّها حَكِيمٌ في تدابيره، فلا يجوّز الكشخنة على نبيّه، و لا يقرّره عليها.

ثمّ هدّد القاذفين فقال: إِنَّ الَّذِينَ يُحِبُّونَ أَنْ تَشِيعَ الْفاحِشَةُ أن تنتشر، أي:

يشيعونها عن قصد و إرادة و محبّة لها فِي الَّذِينَ آمَنُوا بأن ينسبوها إليهم، و يقذفوهم بها لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ فِي الدُّنْيا بإقامة الحدّ عليهم وَ الْآخِرَةِ بعذاب السعير وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما في القلوب من الأسرار و الضمائر وَ أَنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ ذلك. يعني: أنّه قد علم محبّة من أحبّ الإشاعة، و ما يستحقّ عليه من شدّة العقاب.

روي: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ضرب عبد اللّه بن أبيّ و حسّانا و مسطحا. و قعد صفوان لحسّان فضربه ضربة بالسيف، و كفّ بصره.

وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ كرّر المنّة بترك المعاجلة بالعقاب الدالّة على

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 488

عظم الجريمة، و عطف قوله: وَ أَنَّ اللَّهَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ على حصول فضله و رحمته عليهم، و حذف الجواب- أعني: لعاجلكم بالعقوبة- للمبالغة العظيمة في ذلك.

[سورة النور (24): آية 21]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ وَ مَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ ما زَكى مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً وَ لكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (21)

و لمّا بيّن سبحانه أحكام قذف المحصنات و عظم أمره، و عقّب ذلك بأحكام قذف الزوجات، ثمّ عظّم بعد ذلك قذف أزواج النبيّ اللاتي هنّ أمّهات المؤمنين، نهى عن متابعة الشيطان المستلزمة لارتكاب صنوف الفحشاء و أنواع المنكرات، فقال:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّبِعُوا خُطُواتِ الشَّيْطانِ آثاره و طرقه

الّتي تؤدّي إلى مرضاته، و من جملتها إشاعة الفاحشة و غيرها. و قرأ نافع و البزّي و أبو عمرو و أبو بكر و حمزة بسكونها «1».

وَ مَنْ يَتَّبِعْ خُطُواتِ الشَّيْطانِ فَإِنَّهُ يَأْمُرُ بِالْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ هذا بيان لعلّة النهي عن اتّباعه. و الفاحشة و الفحشاء: ما أفرط قبحه. و المنكر: ما أنكره الشرع. أو ما تنكره النفوس، فتنفر عنه و لا ترتضيه.

وَ لَوْ لا فَضْلُ اللَّهِ عَلَيْكُمْ وَ رَحْمَتُهُ بتوفيق التوبة الماحية للذنوب، و شرع الحدود المكفّرة لها ما زَكى ما طهر من دنسها مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ أَبَداً آخر الدهر وَ لكِنَّ اللَّهَ يُزَكِّي يطهّر مَنْ يَشاءُ من الذنوب، بحمله على التوبة و قبولها وَ اللَّهُ سَمِيعٌ لمقالهم عَلِيمٌ بنيّاتهم و إخلاصهم.

______________________________

(1) أي: بسكون طاء: خطوات.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 489

و في الآية دلالة على أنّ اللّه سبحانه يريد من خلقه خلاف ما يريده الشيطان، لأنّه إذا ذمّ سبحانه الأمر بالفحشاء و المنكر، فخالقهما و مريدهما أولى بالذمّ، تعالى و تقدّس عن ذلك، و فيها دلالة على أنّ أحدا لا يصلح إلّا بلطفه.

[سورة النور (24): آية 22]

وَ لا يَأْتَلِ أُولُوا الْفَضْلِ مِنْكُمْ وَ السَّعَةِ أَنْ يُؤْتُوا أُولِي الْقُرْبى وَ الْمَساكِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لْيَعْفُوا وَ لْيَصْفَحُوا أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (22)

روي: أنّ مسطحا كان ابن خالة أبي بكر، و كان فقيرا من فقراء المهاجرين و من جملة البدريّين، و كان أبو بكر ينفق عليه، فلمّا خاض في الإفك الى أن لا ينفق عليه بعد، فنزلت:

وَ لا يَأْتَلِ افتعال من الأليّة بمعنى القسم، أي: لا يحلف. و قيل: من الألو.

يقال: ما ألوت جهدا، إذا لم تقصّر. فالمعنى: لا يقصّر. أُولُوا

الْفَضْلِ مِنْكُمْ أولوا التفضّل و الإحسان وَ السَّعَةِ في المال أَنْ يُؤْتُوا على أن لا يؤتوا، أو في أن يأتوا أُولِي الْقُرْبى وَ الْمَساكِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ صفات لموصوف واحد، أي:

ناسا جامعين لها، لأنّ الكلام فيمن كان كذلك، و هو مسطح. أو لموصوفات أقيمت مقامها، فيكون أعمّ.

وَ لْيَعْفُوا ما فرط منهم وَ لْيَصْفَحُوا بالإغماض عنه أَ لا تُحِبُّونَ أَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَكُمْ معاصيكم جزاء على عفوكم و صفحكم و إحسانكم إلى من أساء إليكم. و قد أجمعت الأمّة على أنّ المغفرة إنّما تكون متفرّعة على الإيمان المستمرّ إلى حين الموت.

وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ مع كمال قدرته، فتخلّقوا بأخلاقه.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 490

و

روي: أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قرأها على أبي بكر، فقال أبو بكر: بلى أحبّ أن يغفر لي، و رجع إلى مسطح بالإنفاق.

و قيل: نزلت في جماعة من الصحابة حلفوا أن لا يتصدّقوا على من تكلّم بشي ء من الإفك، و لا يواسوهم.

[سورة النور (24): الآيات 23 الى 26]

إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ الْغافِلاتِ الْمُؤْمِناتِ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (23) يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَّ وَ يَعْلَمُونَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ (25) الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ وَ الْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ وَ الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ وَ الطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ أُولئِكَ مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (26)

ثمّ أكّد النهي عن قذف المحصنات بقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَرْمُونَ الْمُحْصَناتِ العفائف الْغافِلاتِ عمّا قذفن به الْمُؤْمِناتِ باللّه و برسوله، استباحة لعرضهنّ، و طعنا في الرسول و المؤمنين، كابن أبيّ لُعِنُوا فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ ابعدوا من رحمة اللّه في الدارين. و قيل: عذّبوا في الدنيا

بالجلد و ردّ الشهادة، و في الآخرة بعذاب النار.

وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ لعظم ذنوبهم.

و قيل: هو حكم كلّ قاذف ما لم يتب. و قيل: مخصوص بمن قذف أزواج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و لذلك قال ابن عبّاس: لا توبة له. و لو فتّشت وعيدات القرآن لم تجد أغلظ

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 491

ممّا نزل في إفك عائشة.

يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ ظرف لما في «لهم» من معنى الاستقرار، لا للعذاب، لأنّه موصوف. و قرأ حمزة و الكسائي بالياء، للتقدّم و الفصل. أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ يعترفون بها بإنطاق اللّه إيّاها بغير اختيارهم، أو بظهور آثاره عليها.

و في ذلك مزيد تهويل للعذاب. و أمّا قوله: الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ «1» فإنّه يجوز أن تخرج الألسنة و يختم على الأفواه. أو يكون الختم على الأفواه في حال شهادة الأيدي و الأرجل. أو يكون الختم في وقت و الإنطاق في وقت آخر، فإنّ أوقات الساعة متطاولة.

يَوْمَئِذٍ يُوَفِّيهِمُ اللَّهُ دِينَهُمُ الْحَقَ جزاءهم الواجب الّذي مستحقّوه و أهله وَ يَعْلَمُونَ لمعاينتهم الأمر أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ الثابت بذاته الظاهر ألوهيّته، لا يشاركه في ذلك غيره، و لا يقدر على الثواب و العقاب سواه. أو ذو الحقّ البيّن، أي:

العادل الظاهر عدله، و من كان هذا شأنه لا ظلم في حكمه، و ينتقم من الظالم للمظلوم لا محالة.

ثمّ دلّ على تبرئة أهل بيت الرسالة من الإفك بقوله: الْخَبِيثاتُ لِلْخَبِيثِينَ النساء الخبيثات للرجال الخبيثين وَ الْخَبِيثُونَ لِلْخَبِيثاتِ و الرجال الخبيثون للنساء الخبيثات وَ الطَّيِّباتُ لِلطَّيِّبِينَ و النساء الطيّبات للرجال الطيّبين وَ الطَّيِّبُونَ لِلطَّيِّباتِ و الرجال الطيّبون للنساء الطيّبات، فإنّ الخبائث يتزوّجن الخباث، و بالعكس للجنسيّة. و كذلك

أهل الطيّب.

و قيل: المراد الأقوال الخبيثات و الأقوال الطيّبات. فالمعنى: الخبيثات من الكلم للخبيثين من الرجال، و الخبيثون من الرجال للخبيثات من الكلم، و الطيّبات من الكلم للطيّبين من الرجال، و الطيّبون من الرجال للطيّبات من الكلم.

______________________________

(1) يس: 65.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 492

و القول الأوّل

مرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام. قالا: «هي مثل قوله:

الزَّانِي لا يَنْكِحُ إِلَّا زانِيَةً أَوْ مُشْرِكَةً «1». إنّ أناسا همّوا أن يتزوّجوا منهنّ، فنهاهم اللّه عن ذلك، و كره ذلك لهم».

أُولئِكَ يعني: أهل بيت النبيّ، أو الرسول و عائشة و صفوان مُبَرَّؤُنَ مِمَّا يَقُولُونَ يقول الآفكون فيهم، إذ لو صدق لم تكن زوجته عليه السّلام، و لم يقرّر عليها. و قيل:

«أولئك» إشارة إلى الطيّبين، و الضمير في «يقولون» للخبيثين، أي: الطيّبون مبرّؤن ممّا يقول الخبيثون من خبيثات الكلم. لَهُمْ لهؤلاء الطيّبين من الرجال و النساء مَغْفِرَةٌ من اللّه لذنوبهم وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ عطيّة من اللّه كريمة، يعني: الجنّة.

و في الآيات مبالغات كثيرة في أمر الإفك، فإنّه سبحانه أوجز في ذلك و أشبع، و فصّل و أجمل، و أكّد و كرّر، و جاء بما لم يقع في وعيد المشركين عبدة الأوثان إلّا ما هو دونه في الفظاعة.

و عن ابن عبّاس: أنّه كان بالبصرة يوم عرفة، و كان يسأل عن تفسير القرآن، حتّى سئل عن هذه الآيات، فقال: من أذنب ذنبا ثمّ تاب منه قبلت توبته، إلّا من خاض في أمر عائشة.

و هذه منه مبالغة و تعظيم لأمر الإفك. و لقد برّأ اللّه أربعة بأربعة: برّأ يوسف عليه السّلام بلسان الشاهد: وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ أَهْلِها «2». و برّأ موسى عليه السّلام من قول اليهود بالحجر الّذي ذهب

بثوبه. و برّأ مريم عليهما السّلام بإنطاق ولدها حين نادى من حجرها: «إِنِّي عَبْدُ اللَّهِ» «3».

و برّأ عائشة بهذه الآيات العظام في كتابه المعجز المتلوّ على وجه الدهر، مثل هذه التبرئة بهذه المبالغات.

______________________________

(1) النور: 3.

(2) يوسف: 26.

(3) مريم: 30.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 493

فانظر كم بينها و بين تبرئة أولئك؟ و ما ذاك إلّا لإظهار علوّ منزلة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و التنبيه على إنافة محلّ سيّد ولد آدم، و خيرة الأوّلين و الآخرين، و حجّة اللّه على العالمين، و من أراد أن يتحقّق عظمة شأنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و تقدّم قدمه، و إحرازه لقصب السبق دون كلّ سابق، فليتلقّ ذلك من آيات الإفك، و ليتأمّل كيف غضب اللّه له في حرمته؟! و كيف بالغ في نفي التهمة عن حجابه؟!

[سورة النور (24): الآيات 27 الى 29]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (27) فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ وَ إِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا هُوَ أَزْكى لَكُمْ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ (28) لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ فِيها مَتاعٌ لَكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما تَكْتُمُونَ (29)

و لمّا كان النظر جاسوس الفواحش و مقدّمتها، نهى اللّه تعالى العباد عن الدخول في البيوت من غير إذن أهلها، لئلّا ينظروا إلى سواكنها، و تميل قلوبهم إليهنّ، فقال عقيب آيات الإفك:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ بُيُوتِكُمْ الّتي لا تسكنونها، فإنّ الآجر و المعير أيضا لا يدخلان إلّا بإذن حَتَّى تَسْتَأْنِسُوا من الاستئناس بمعنى الاستعلام، أي: حتّى تستعلموا و

تستكشفوا الحال. من: آنس الشي ء إذا أبصره ظاهرا مكشوفا، فإنّ المستأذن مستعلم للحال، مستكشف أنّه هل يراد دخوله أو يؤذن له؟ و منه قولهم:

استأنست فلم أر أحدا، أي: استعلمت و تعرّفت. أو من الاستئناس الّذي هو خلاف

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 494

الاستيحاش، فإنّ المستأذن مستوحش خائف أن لا يؤذن له، فإذا أذن له استأنس.

و يجوز أن يكون معناه: حتّى تتعرّفوا هل ثمّ إنسان؟ من الإنس.

عن أبي أيّوب الأنصاري: قلنا: «يا رسول اللّه ما الاستئناس؟ قال: يتكلّم الرجل بالتسبيحة و التحميدة و التكبيرة و يتنحنح، يؤذن أهل البيت».

وَ تُسَلِّمُوا عَلى أَهْلِها بأن تقولوا: السلام عليكم أ أدخل؟ و

عنه عليه السّلام: «التسليم أن يقول: السلام عليكم أ أدخل؟ ثلاث مرّات، فإن أذن له دخل و إلّا رجع».

روي: أنّ رجلا استأذن على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فتنحنح، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لامرأة يقال لها روضة: «قومي إلى هذا فعلّميه، و قولي له: قل: السلام عليكم أ أدخل؟ فسمعها الرجل فقال ذلك. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أدخل».

و لا يخفى أنّ الاستئذان للدخول واجب، و التسليم مستحبّ إجماعا منّا.

ذلِكُمْ أي: الاستئذان، أو التسليم خَيْرٌ لَكُمْ من أن تدخلوا بغتة. أو من تحيّة الجاهليّة، فإنّه كان الرجل منهم إذا دخل بيتا غير بيته قال: حيّيتم صباحا أو حيّيتم مساء و دخل، فربما أصاب الرجل مع امرأته في لحاف.

و

روي: أنّ رجلا قال للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أ أستأذن على أمّي؟ قال: نعم. قال: لا خادم لها غيري أ أستأذن عليها كلّما دخلت؟ قال عليه السّلام: أ تحبّ أن تراها عريانة؟ قال: لا. قال:

فاستأذن».

لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ متعلّق

بمحذوف، أي: أنزل عليكم هذا أو قيل لكم هذا، إرادة أن تذكروا و تتّعظوا و تعملوا بما هو أصلح لكم.

فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فِيها أَحَداً يأذن لكم فَلا تَدْخُلُوها حَتَّى يُؤْذَنَ لَكُمْ حتّى يأتي من يأذن لكم، فإنّ المانع من الدخول ليس الاطّلاع على العورات فقط، بل و على ما يخفيه الناس عادة عن غيرهم، مع أنّ التصرّف في ملك الغير بغير إذنه حرام.

وَ إِنْ قِيلَ لَكُمُ ارْجِعُوا فَارْجِعُوا فانصرفوا و لا تلحّوا، لما فيه من سلامة الصدور و البعد من الريبة. و استثني من ذلك ما إذا عرض في دار حريق، أو هجوم سارق،

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 495

أو ظهور منكر يجب إنكاره. هُوَ أي: الرجوع أَزْكى لَكُمْ من الإلحاح و الوقوف على الباب منتظرين، لأنّ هذا ممّا يجلب الكراهة. أو أنفع لدينكم و دنياكم. و إذا نهي عن ذلك لأدائه إلى الكراهة، وجب الانتهاء عن كلّ ما يؤدّي إليها، من قرع الباب بعنف، و التصحيح بصاحب الدار، و أمثال ذلك.

ثمّ أوعد المخاطبين بدخول بيت الغير بغير إذنه، فقال: وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ عَلِيمٌ فيعلم ما تأتون و ما تذرون ممّا خوطبتم به، فيجازيكم عليه.

ثمّ استثنى من البيوت الّتي يجب على داخلها الاستئذان ما ليس بمسكون منها، فقال: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَدْخُلُوا بُيُوتاً غَيْرَ مَسْكُونَةٍ كالربط و الخانات، و حوانيت البيّاعين، و الأرحية و الحمّامات فِيها مَتاعٌ استمتاع لَكُمْ كالاستكنان من الحرّ و البرد، و إيواء الرحال و الأمتعة، و الجلوس للمعاملة وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تُبْدُونَ وَ ما تَكْتُمُونَ هذا وعيد لمن دخل مدخلا لفساد، أو تطلّع على عورات.

[سورة النور (24): الآيات 30 الى 31]

قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ ذلِكَ أَزْكى لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما

يَصْنَعُونَ (30) وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَّ وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَّ وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ ما ظَهَرَ مِنْها وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَّ وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلاَّ لِبُعُولَتِهِنَّ أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَّ أَوْ نِسائِهِنَّ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ وَ لا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَّ وَ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (31)

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 496

ثمّ بيّن سبحانه ما يحلّ من النظر و ما لا يحلّ منه، فقال: قُلْ لِلْمُؤْمِنِينَ يَغُضُّوا مِنْ أَبْصارِهِمْ عمّا لا يحلّ لهم النظر إليه وَ يَحْفَظُوا فُرُوجَهُمْ إلّا على أزواجهم، أو ما ملكت أيمانهم. و لمّا كان المستثنى منه كالشاذّ النادر- بخلاف الغضّ- لأنّ أطلقه، و قيّد الغضّ بحرف التبعيض، دلالة على أنّ أمر النظر أوسع من حفظ الفرج، لأنّ المحارم لا بأس بالنظر إلى شعورهنّ و صدورهنّ و أعضادهنّ و ثديهنّ و أسوقهنّ و أقدامهنّ، و غير ذلك ما عدا فروجهنّ، و أمّا أمر الفروج فمضيّق على الأزواج أو ما ملكت أيمانهم.

و عن ابن زيد: كلّ ما في القرآن من حفظ الفرج فهو الزنا إلّا هذا، فإنّه أراد به الاستتار.

و أيضا

عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «حفظ الفروج عبارة عن التحفّظ من الزنا في جميع القرآن إلّا هنا، فإنّ المراد به الستر حتّى لا ينظر إليها أحد، فلا يحلّ للرجل أن ينظر إلى فرج أخيه، و لا للمرأة أن تنظر إلى فرج أختها».

و إنّما قدّم الغضّ على حفظ الفرج لكونه داعيا إلى الجماع.

ذلِكَ

أَزْكى لَهُمْ أنفع لهم أو أطهر، لما فيه من البعد عن الريبة، و القرب إلى التقوى إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما يَصْنَعُونَ لا يخفى عليه إجالة أبصارهم، و استعمال حواسّهم، و تحريك جوارحهم و ما يقصدون بها، و حفظ فروجهم، و غضّ أبصارهم، فليكونوا على حذر منه في كلّ حركة و سكون.

ثمّ أمر النساء بذلك كما أمر الرجال، فقال: وَ قُلْ لِلْمُؤْمِناتِ يَغْضُضْنَ مِنْ أَبْصارِهِنَ فلا ينظرن إلى ما لا يحلّ لهنّ النظر إليه من الرجال و النساء.

عن أمّ سلمة قالت: «كنت عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عنده ميمونة، فأقبل ابن أمّ مكتوم-

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 497

و ذلك بعد أن أمرنا بالحجاب- فدخل علينا، فقال: احتجبا. فقلنا: يا رسول اللّه! أليس أعمى لا يبصرنا؟ فقال: أ فعمياوان أنتما؟ أ لستما تبصرانه؟».

وَ يَحْفَظْنَ فُرُوجَهُنَ بالتستّر. و قيل: بالتحفّظ عن الزنا. و إنّما قدّم الغضّ على حفظ الفرج، لأنّ النظر بريد الزنا و رائد الفجور، و البلوى فيه و أشدّ و أكثر، و لا يكاد يقدر على الاحتراس منه.

وَ لا يُبْدِينَ و لا يظهرن زِينَتَهُنَ أي: الباطنة، كالخلخال و السوار «1» و القرط، و جميع ما هو مباشر للبدن، فضلا عن مواضعها الّتي هي الذراع و الساق و العضد و العنق و الرأس و الصدر و الأذن. فنهى عن إبداء الزين نفسها، ليعلم أنّ النظر إذا لم يحلّ إليها لملابستها تلك المواضع، كان النظر إلى المواقع أنفسها متمكّنا في الحظر، ثابت القدم في الحرمة، لمن لا يحلّ أن تبدي له. إِلَّا ما ظَهَرَ مِنْها عند مزاولة الأشياء كالثياب، فإنّ في سترها حرجا.

و قيل: المراد بالزينة مواقعها على حذف المضاف. و الأصحّ أنّ المراد

نفس الزينة، إذ لو أبيح النظر إليها لكان وسيلة إلى النظر إلى مواضعها.

و قيل: المستثنى هو الوجه و الكفّان، لأنّها ليست بعورة. و الصحيح أنّ هذا في الصلاة لا في النظر، فإنّ بدن الحرّة عورة لا يحلّ لغير الزوج و المحرم النظر إلى شي ء منها إلّا لضرورة، كالمعالجة و تحمّل الشهادة.

وَ لْيَضْرِبْنَ بِخُمُرِهِنَّ عَلى جُيُوبِهِنَ أي: و ليسدلن أقناعهنّ «2» على أعناقهنّ و صدورهنّ، لتسترا عن نظر الأجانب. و قرأ نافع و عاصم و أبو عمرو و هشام بضمّ الجيم على الأصل، فإنّ كسرها لأجل مناسبة الياء.

______________________________

(1) السوار: حلية كالطوق تلبسه المرأة في زندها أو معصمها. و القرط: ما يعلّق في شحمة الأذن من درّة و نحوها.

(2) جمع القناع، و هو ما تغطّي به المرأة رأسها

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 498

وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَ كرّره لبيان من يحلّ له الإبداء و من لا يحلّ له. إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ فإنّهم المقصودون بالزينة، لأنّ ذلك يحرّك شهواتهم، و يدعو إلى المباشرة المقصودة، و لهذا لهم أن ينظروا إلى جميع البدن حتّى الفرج.

روي: أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعن السلتاء من النساء و المرهاء. فالسلتاء: هي الّتي لا تختضب.

و المرهاء: هي الّتي لا تكتحل. و لعن المسوّفة و المفسّلة. فالمسوّفة: هي الّتي إذا دعاها زوجها إلى المباشرة قالت: سوف أفعل. و المفسّلة: هي الّتي إذا دعاها قالت: أنا حائض، و هي غير حائض.

أَوْ آبائِهِنَّ أَوْ آباءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ أَبْنائِهِنَّ أَوْ أَبْناءِ بُعُولَتِهِنَّ أَوْ إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي إِخْوانِهِنَّ أَوْ بَنِي أَخَواتِهِنَ و هم الّذين يحرم عليهم نكاحهنّ. و يدخل أجداد البعولة فيه و إن علوا، و أحفادهم و إن سفلوا. و إنّما يجوز إبداء الزينة الباطنة لهم لكثرة

مداخلتهم عليهنّ، و احتياجهنّ إلى مداخلتهم، و قلّة توقّع الفتنة من قبلهم، لما في الطباع من النفرة عن مماسّة القرائب. و لهم أن ينظروا منهنّ ما يبدو عند المهنة و الخدمة.

و إنّما لم يذكر الأعمام و الأخوال، لأنّهم في معنى الإخوان. و سئل عن الشعبي لم لم يذكر اللّه الأعمام و الأخوال؟ قال: لئلّا يصفوهنّ لأبنائهم. و هذا أيضا من الدلالات البليغة على وجوب الاحتياط عليهنّ في التستّر.

أَوْ نِسائِهِنَ يعني: المؤمنات، فإنّ الكافرات لا يتحرّجن عن وصفهنّ للرجال. فيكون الوصف كالنظر، إلّا إذا كنّ إماء، لعموم قوله: أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ أي: من الإماء خاصّة. فلا يجوز أن ينظر العبد إلى مولاته. و هو قول أكثر أصحابنا، و عليه الفتوى. و به قال أبو حنيفة. حتّى إنّه قال: لا يحلّ إمساك الخصيان و لا استخدامهم و بيعهم و شراؤهم. و ينبغي أن يحمل ذلك على بيعهم لأجل إدخالهم على النساء، لأنّ ما كان لأجل المحرّم فهو محرّم، كبيع العنب ليعمل خمرا.

أَوِ التَّابِعِينَ غَيْرِ أُولِي الْإِرْبَةِ مِنَ الرِّجالِ أي: غير أولي الحاجة إلى النساء.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 499

و هم الشيوخ الهمّ «1» الّذين ليس لهم حاجة إلى النساء. و هو مرويّ عن الكاظم عليه السّلام.

و قيل:

هم البله الّذين يتّبعون الناس لفضل طعامهم، و لا يعرفون شيئا من أمور النساء. و هو مرويّ عن الصادق عليه السّلام

و ابن عبّاس.

و قيل: منهم الممسوحون و المجبوبون و الخصيان. و الأصحّ أنّهم كالرجال الأجانب، للرواية.

و قرأ ابن عامر و أبو بكر: غير بالنصب على الحال.

أَوِ الطِّفْلِ الَّذِينَ لَمْ يَظْهَرُوا عَلى عَوْراتِ النِّساءِ لعدم تمييزهم. من الظهور بمعنى الاطّلاع. أو لعدم بلوغهم حدّ الشهوة. من الظهور بمعنى الغلبة. فإذا بلغوا

مبلغ الشهوة فحكمهم حكم الرجال. و الطفل جنس وضع موضع الجمع، اكتفاء بدلالة الوصف.

روي عن قتادة: أنّ في الجاهليّة كانت المرأة تضرب برجلها لتسمع قعقعة «2» الخلخال فيها، فنهاهنّ عن ذلك بقوله تعالى: وَ لا يَضْرِبْنَ بِأَرْجُلِهِنَّ لِيُعْلَمَ ما يُخْفِينَ مِنْ زِينَتِهِنَ ليتقعقع خلخالها فيعلم أنّها ذات خلخال، فإنّ ذلك يورث ميلا إلى الرجال.

و هو أبلغ من النهي عن إظهار الزينة، و أدلّ على المنع من رفع الصوت.

وَ تُوبُوا إِلَى اللَّهِ جَمِيعاً أَيُّهَا الْمُؤْمِنُونَ إذ لا يكاد يخلو أحد منكم من تفريط، سيّما في الكفّ عن الشهوات. و الخطاب للمؤمنين و المؤمنات، فغلّب التذكير.

و قيل: توبوا ممّا كنتم تفعلونه في الجاهليّة، فإنّه و إن جبّ بالإسلام، لكن يجب الندم عليه و العزم على الكفّ عنه كلّما يتذكّر.

لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ تفوزون بسعادة الدارين. و قرأ ابن عامر: «أيّه المؤمنون» و في الزخرف: يا أَيُّهَا السَّاحِرُ «3» و في الرحمن: أَيُّهَ الثَّقَلانِ «4» بضمّ الهاء في الوصل

______________________________

(1) الهمّ: الشيخ الفاني.

(2) أي: صوته.

(3) الزخرف: 49.

(4) الرحمن: 31.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 500

زبدة التفاسير ج 4 549

في الثلاثة. و وجهه: أنّها كانت مفتوحة، لوقوعها قبل الألف، فلمّا سقطت الألف لالتقاء الساكنين، اتبعت حركتها حركة ما قبلها. و الباقون بفتحها. و وقف أبو عمرو الكسائي عليهنّ بالألف. و وقف الباقون بغير الألف.

و

في الحديث أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «أيّها الناس توبوا إلى ربّكم، فإنّي أتوب إلى اللّه في كلّ يوم مائة مرّة». أورده مسلم في الصحيح «1».

و المراد بتوبته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الانقطاع إلى اللّه تعالى.

[سورة النور (24): آية 32]

وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ وَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ

فَضْلِهِ وَ اللَّهُ واسِعٌ عَلِيمٌ (32)

و لمّا نهى سبحانه عمّا عسى أن يفضي إلى السفاح المخلّ بالنصب، المقتضي للألفة و حسن التربية و مزيد الشفقة، المؤدّية إلى بقاء النوع، بعد الزجر عنه مبالغة فيه، عقّبه بأمر النكاح الحافظ له، فقال خطابا للأولياء و السادة:

وَ أَنْكِحُوا الْأَيامى مِنْكُمْ جمع الأيّم. مقلوب أيايم، كيتامى و يتايم. و هو العزب، ذكرا كان أو أنثى. يقال: آم و آمت و تأيّما إذا لم يتزوّجا، بكرين كانا أو ثيّبين.

فالمعنى: زوّجوا من تأيّم منكم.

وَ الصَّالِحِينَ مِنْ عِبادِكُمْ وَ إِمائِكُمْ أي: زوّجوا المستورين من عبيدكم و جواريكم. خصّص الصالحين لأنّ إحصان دينهم و الاهتمام بشأنهم أهمّ. و قيل: المراد الصالحون للنكاح و القيام بحقوقه. و لا يخفى أنّ هذين التفسيرين يوجبان التخصيص.

و الأولى أنّه ترغيب في الصلاح، لأنّهم إذا علموا ذلك رغبوا في الصلاح. أو من باب

______________________________

(1) صحيح مسلم 4: 2075 ح 42.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 501

تسمية الشي ء باسم ما يؤول إليه، فإنّ الفاسق إذا زوّج استغنى بالحلال عن الحرام.

و هذا الأمر للندب عندنا، للروايات المأثورة عن أئمّتنا عليهم السّلام. و قد يكون للوجوب، خوفا من العنت. و فيه فضل كثير، و ثواب جزيل. و ورد فيه أخبار كثيرة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أهل بيته عليهم السّلام. منها:

«من أحبّ فطرتي فليستنّ بسنّتي، و هي النكاح».

و

عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من كان له ما يتزوّج فلم يتزوّج، فليس منّا».

و

عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إذا تزوّج أحدكم عجّ «1» شيطانه: يا ويله عصم ابن آدم منّي ثلثي دينه».

و

عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «يا عياض لا تزوّجنّ عجوزا و

لا عاقرا، فإنّي مكاثر بكم».

و

قال عليه السّلام: «يا معشر الشباب من استطاع منكم الباءة فليتزوّج، فإنّه أغضّ للبصر، و أحصن للفرج، و من لم يستطع فعليه بالصوم، فإنّه له وجاء» «2».

و روى عطاء بن السائب، عن سعيد بن جبير، قال: لقيني ابن عبّاس في حجّة حجّها، فقال هل تزوّجت؟ قلت لا. قال: فتزوّج. قال: و لقيني في العام المقبل فقال: هل تزوّجت؟ قلت: لا. فقال: اذهب فتزوّج، فإنّ خير هذه الأمّة كان أكثرها نساء. يعني:

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و

عن أبي هريرة قال: لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد للقيت اللّه بزوجة، سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «شراركم عزّابكم».

و

عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما يمنع المرء أن يتّخذ أهلا؟ لعلّ اللّه يرزقه نسمة يثقل الأرض ب: لا إله إلّا اللّه».

و

عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما بني في الإسلام أحبّ إلى اللّه عزّ و جلّ من التزويج. و لركعتان يصلّيهما

______________________________

(1) أي: صاح و رفع صوته.

(2) الوجاء: رضّ البيضتين و دقّها، فهو كالخصاء. شبّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الصوم بوجاء البيضتين، لأنّه يكسر الشهوة. زبدة التفاسير، ج 4، ص: 502

متزوّج أفضل من رجل عزب يقوم ليله و يصوم نهاره».

و

عن أبي امامة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «أربع لعنهم اللّه من فوق عرشه، و أمّنت عليه ملائكته: الّذي يحصر نفسه و لا يتزوّج و لا يتسرّى، لئلّا يولد له. و الرجل يتشبّه بالنساء، و قد خلقه اللّه ذكرا. و المرأة تتشبّه بالرجال، و قد خلقها اللّه أنثى. و مضلّل الناس. يريد:

الّذي يهزأ بهم. يقول للمسكين:

هلمّ أعطك، فإذا جاء يقول: ليس معي شي ء. و يقول للمكفوف: اتّق الدابّة، و ليس بين يديه شي ء. و الرجل يسأل عن دار القوم، فيضلّله».

و

عن الصادق عليه السّلام: «من ترك التزوّج مخافة العيلة فقد أساء الظنّ بربّه عزّ و جلّ».

لقوله تعالى: إِنْ يَكُونُوا فُقَراءَ لا سعة لهم للتزويج يُغْنِهِمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ ردّ لما عسى أن يمنع من النكاح، أي: لا يمنعنّ فقر الخاطب أو المخطوبة من المناكحة، فإنّ في فضل اللّه غنية عن المال، فإنّه غاد و رائح.

أو وعد من اللّه تعالى بالإغناء عند التزويج،

لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «اطلبوا الغنى في هذه الآية».

لكنّه مشروط بالمشيئة، كقوله تعالى: وَ إِنْ خِفْتُمْ عَيْلَةً فَسَوْفَ يُغْنِيكُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ إِنْ شاءَ «1». و يؤيّد هذا الشرط أنّ هذه قضيّة مهملة في قوّة الجزئيّة، أي: قد يكون إذا كانوا فقراء يغنهم اللّه، لا كلّما كانوا فقراء يغنهم اللّه. فلا يرد: كان فلان غنيّا فأفقره النكاح.

وَ اللَّهُ واسِعٌ ذو سعة، لا تنفد نعمته، إذ لا تنتهي قدرته عَلِيمٌ يبسط الرزق و يقدر، على ما تقتضيه الحكمة.

[سورة النور (24): الآيات 33 الى 34]

وَ لْيَسْتَعْفِفِ الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ وَ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ فَكاتِبُوهُمْ إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً وَ آتُوهُمْ مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ عَلَى الْبِغاءِ إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَنْ يُكْرِهْهُنَّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ رَحِيمٌ (33) وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَ مَثَلاً مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ (34)

______________________________

(1) التوبة: 28.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 503

ثمّ بيّن حكم من لا يجد أسباب النكاح من المهر و النفقة، فقال:

وَ لْيَسْتَعْفِفِ و ليجتهد في العفّة و منع النفس، كأنّ المستعفف طالب من نفسه العفاف و حاملها عليه الَّذِينَ لا يَجِدُونَ نِكاحاً أسبابه. و يجوز أن يراد بالنكاح ما ينكح به من المال، أو بالوجدان التمكّن منه. حَتَّى يُغْنِيَهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ فيجدوا ما يتزوّجون به.

و فيه ترجية للمستعفّين، و تقدمة وعد بالتفضّل عليهم بالغنى، ليكون انتظار ذلك و تأميله لطفا لهم في استعفافهم، و ربطا على قلوبهم.

و لا يرد: لزوم التناقض بين هذه الآية و الّتي قبلها، فإنّه أمر في الأولى بالتزويج مع الفقر، و في الثانية أمر بالصبر عنه مع الفقر.

لأنّا نقول: إنّ الأولى وردت للنهي عن ردّ المؤمن لأجل فقره، و ترك تزويج المرأة لأجل فقرها. و الثانية وردت لأمر الفقير بالصبر على ترك النكاح حذرا من تعبه حالة الزواج. فلا تناقض حينئذ. على أنّا نقول: إنّهما مهملتان فلا تتناقضان.

و ما أحسن ما رتّب هذه الأوامر! حيث أمر أوّلا بما يعصم من الفتنة، و يبعّد من مواقعة المعصية، و هو غضّ البصر. ثمّ بالنكاح الّذي يحصّن به الدين، و يقع به الاستغناء بالحلال عن الحرام. ثمّ بالحمل على النفس الأمّارة بالسوء. ثمّ تزهيدها عن الطموح إلى الشهوة عند العجز عن النكاح إلى أن يرزق القدرة عليه.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 504

ثمّ أمر الموالي بكتابة عبادهم و إمائهم، الّتي يوجب الاستقلال بالزواج و الاستبداد بالنكاح، فقال: وَ الَّذِينَ يَبْتَغُونَ الْكِتابَ يطلبون المكاتبة، كالعتاب و المعاتبة. و هو أن يقول الرجل لمملوكه: كاتبتك على كذا إلى كذا. و إن قال: فإن عجزت فأنت رقّ، فهي مشروطة. و حكم الأولى أنّه يتحرّر منه بقدر ما يؤدّي. و حكم الثانية أنّه رقّ ما بقي عليه شي ء و

اشتقاقه من الكتاب، لأنّ السيّد كتب على نفسه عتقه إذا أدّى، فإنّ معنى «كاتبتك» كتبت لك على نفسي أن تعتق منّي إذا وفيت بالمال، و كتبت لي على نفسك أن تفي بذلك. أو كتبت عليك الوفاء بالمال، و كتبت عليّ العتق. أو لأنّه ممّا يكتب لتأجيله.

أو من الكتب بمعنى الجمع، لأنّ العوض فيه يكون منجّما بنجوم يضمّ بعضها إلى بعض غالبا.

مِمَّا مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ عبدا كان أو أمة. و الموصول بصلته مبتدأ خبره فَكاتِبُوهُمْ كقولك: زيد فاضربه، أي: زيد مقول في حقّه: اضربه. أو منصوب بفعل يفسّره «فكاتبوهم». كقولك: زيدا فاضربه. و دخلت الفاء لتضمّن معنى الشرط. و الأمر للندب عندنا و عند العامّة. إِنْ عَلِمْتُمْ فِيهِمْ خَيْراً أمانة و قدرة على أداء مال الكتابة بالاكتساب. و قد روي مثله «1» مرفوعا. و لو لم يكن العبد أمينا و لا كسبوا فهي مباحة.

روي: أنّ عبد سلمان قال له: كاتبني؟ قال: أ لك مال؟ قال: لا. قال: تطعمني أوساخ الناس، فأبى عليه.

و قيل: صلاحا في الدين، إذ الكافر لا خير فيه، و لأنّه يعطى من الزكاة، و الكافر لا يعطى منها. و لا يرد: المؤلّف قلبه، إذ إعطاؤه لغرض التقوّي به على الجهاد. و المراد بالعلم هنا الظنّ المتاخم للعلم.

وَ آتُوهُمْ أيّها الموالي مِنْ مالِ اللَّهِ الَّذِي آتاكُمْ مال الزكاة الّذي فرض اللّه

______________________________

(1) أي: ورد تفسير الخبر بالأمانة و القدرة على الأداء في خبر مرفوع.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 505

عليكم، أو غيره، فإنّه يستحبّ للمولى إعانة المولّى عليه من مال نفسه و قيل: المراد: ضعوا عنهم شيئا من نجومهم. فقيل: الربع. و قيل: الثلث. و قيل:

ليس بمقدّر.

و قال الفقهاء: السيّد إن وجب عليه الزكاة وجب عليه إعانته.

و هذا قول أكثر أصحابنا. و قال بعضهم: يجب الإيتاء مطلقا. و به قال الشافعي. و قيل: يستحبّ مطلقا.

و به قال أبو حنيفة.

و قيل: هذا الأمر غير مختصّ بالموالي، بل عامّ لكافّة المسلمين بإعانة المكاتبين و إعطائهم سهمهم من الزكاة.

و منشأ الأقوال من أصلين:

الأوّل: هل الأمر للوجوب أو الاستحباب؟ قيل: بالأوّل، لأنّه حقيقة فيه، كما قرّر في الأصول، و به قال الأكثر. و قيل: بالثاني، لأصالة البراءة، و لأنّ أصل الكتابة ليس بواجب، فلا يجب تابعه.

الثاني: هل المراد بمال اللّه هو الزكاة، لأنّه المتبادر إلى الفهم، أو المال مطلقا، لأنّ اللّه تعالى هو المالك لجميع الأشياء، و نحن المنفقون؟ قيل: بالأوّل. و قيل: بالثاني.

و اعلم أنّ من قال بوجوب الإعانة مطلقا قال: إنّ الأمر هنا للوجوب، و إنّ المال ليس هو الزكاة. و من قال بالاستحباب مطلقا قال: إنّ الأمر للندب، و المال ليس هو الزكاة. و من قال: إنّ المال هو الزكاة و الأمر للوجوب، فذلك ظاهر. و من قال: إنّ المال هو الزكاة و إنّ الأمر للندب، جعل تخصيص المكاتبة أولى، لأنّه إعانة له على فكّ رقبته.

و الحقّ أنّ الأمر حقيقة في الوجوب، فيكون مشروطا بوجوب حصول المال، و هو الزكاة، لأنّ شرط الوجوب واجب. و أمّا إذا لم تجب الزكاة بوجه استحبّ الإعطاء، لأنّه تعاون على البرّ، فيدخل تحت قوله: وَ تَعاوَنُوا عَلَى الْبِرِّ وَ التَّقْوى «1». و لأنّه فكّ

______________________________

(1) المائدة: 2.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 506

رقبة، فيدخل تحت قوله: فَكُّ رَقَبَةٍ أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ «1».

و قيل: المراد أنّه يستحبّ للموالي الإنفاق على المكاتبين بعد أن يؤدّوا و يعتقوا.

و روي: أنّه كان لعبد اللّه بن أبيّ ستّ جوار: معاذة،

و مسيكة، و اميمة، و عمرة، و أروى، و قتيلة، يكرههنّ على الزنا، و ضرب عليهنّ الضرائب، فشكت معاذة و مسيكة إلى رسول اللّه، فنزلت: وَ لا تُكْرِهُوا فَتَياتِكُمْ لا تجبروا إماءكم. جمع الفتاة، و هي الأمة. عَلَى الْبِغاءِ على الزنا. و هو مصدر البغيّ. إِنْ أَرَدْنَ تَحَصُّناً تعفّفا.

و اعلم أنّه لمّا كان الإكراه على الزنا لا يمكن إلّا مع إرادة التحصّن، كان آمر الطيّعة المواتية للبغاء لا يسمّى مكرها، و لا أمره إكراها، فقيّد الأمر بالإكراه بإرادة التحصّن. فلا يرد: أن الشرطيّة منافية للمعنى المقصود، و هو النهي عن الإكراه على الزنا مطلقا.

و في إيثار «إن» على «إذا» فائدة جليلة، و هي الإشارة إلى أنّهنّ راغبات في الزنا مائلات إلى البغاء. فكأنّه قيل لتوبيخهنّ و ردعهنّ و تعييرهنّ: هؤلاء الفتيات مائلات إلى الفجور، راغبات إلى الفواحش، فإن كان في بعضهنّ إرادة التحصّن- و ذلك نادر شاذّ- فلا تكرهوهنّ على البغاء.

لِتَبْتَغُوا عَرَضَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ مَنْ يُكْرِهْهُنَ و من يجبرهنّ على الزنا من سادتهنّ فَإِنَّ اللَّهَ مِنْ بَعْدِ إِكْراهِهِنَّ غَفُورٌ لهنّ لا للمكره، لأنّ الوزر عليه لا عليهنّ رَحِيمٌ بهنّ، فإنّ الإكراه رافع للإثم، كما

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «رفع عن أمّتي: الخطأ، و النسيان، و ما استكرهوا عليه».

و في ذكر المغفرة هاهنا، و هي في الأصل تكون فرعا على وجود الذنب، مبالغة في تعظيم حوب «2» البغاء، حتّى كان المكرهات أيضا لا تخلو عن التبعات. و يجوز أن يكون الإكراه دون ما اعتبرته الشريعة، من الإكراه بقتل، أو بما يخاف منه التلف أو ذهاب

______________________________

(1) البلد: 13- 14.

(2) الحوب و الحوب: الإثم.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 507

العضو، من ضرب عنيف أو غيره،

حتّى يسلمن من الإثم، فربما قصرن عن الحدّ الّذي يعذرن، فيكنّ آثمات.

و قيل: المراد إنّ اللّه غفور للمكرهين إنّ تابوا، و إلّا على وجه التفضّل. و الأوّل أوفق للظاهر.

وَ لَقَدْ أَنْزَلْنا إِلَيْكُمْ آياتٍ مُبَيِّناتٍ يعني: الآيات الّتي بيّنت في هذه السورة، و أوضحت فيها الأحكام و الحدود. و قرأ ابن عامر و حفص هنا و في الطلاق «1» بالكسر، من: بيّن بمعنى: تبيّن، لأنّها واضحات تصدّقها الكتب المتقدّمة و العقول السليمة. أو من:

بيّن المتعدّي، لأنّها بيّنت الأحكام و الحدود. جعل الفعل لها على المجاز.

وَ مَثَلًا مِنَ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ و مثلا من أمثال من قبلكم، أي: قصّة عجيبة مثل قصصهم. و هي قصّة عائشة، فإنّها كقصّة يوسف و مريم.

وَ مَوْعِظَةً لِلْمُتَّقِينَ و ما وعظ به في تلك الآيات لأهل التقوى، من قوله: وَ لا تَأْخُذْكُمْ بِهِما رَأْفَةٌ فِي دِينِ اللَّهِ «2». لَوْ لا إِذْ سَمِعْتُمُوهُ «3». يَعِظُكُمُ اللَّهُ أَنْ تَعُودُوا لِمِثْلِهِ أَبَداً «4». و تخصيص المتّقين لأنّهم المنتفعون بها.

و قيل: المراد بالآيات القرآن، و الصفات المذكورة صفاته.

[سورة النور (24): الآيات 35 الى 38]

اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مَثَلُ نُورِهِ كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌّ يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ يَكادُ زَيْتُها يُضِي ءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ نُورٌ عَلى نُورٍ يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (35) فِي بُيُوتٍ أَذِنَ اللَّهُ أَنْ تُرْفَعَ وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ (36) رِجالٌ لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ إِقامِ الصَّلاةِ وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ يَخافُونَ يَوْماً تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَ الْأَبْصارُ (37) لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ

أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ اللَّهُ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ (38)

______________________________

(1) الطلاق: 11.

(2) النور: 2، 12، 17.

(3) النور: 2، 12، 17.

(4) النور: 2، 12، 17.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 508

و لمّا بيّن تعالى وجوه المنافع و المصالح و علم الشرائع فيما سبق، بيّن بعده أنّ منافع أهل السماوات و الأرض منه، فقال:

اللَّهُ نُورُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي: ذو نورهما. أو منوّرهما لوجوه انتفاع العباد بالكواكب، و ما يفيض عنها من الأنوار، أو بالملائكة و الأنبياء، فإنّ النور في الأصل كيفيّة تدركها الباصرة أوّلا، و بواسطتها سائر المبصرات، كالكيفيّة الفائضة من النيّرين على الأجرام الكثيفة المحاذية لهما. و هو بهذا المعنى لا يصحّ إطلاقه على اللّه تعالى إلّا بتقدير مضاف، كقولك: زيد كرم وجود. أو على تجوّز، إمّا بمعنى: منوّر السموات و الأرض. أو مدبّرهما. من قولهم للرئيس الفائق في التدبير: نور القوم، لأنّهم يهتدون به في الأمور. أو موجدهما، فإنّ النور ظاهر بذاته مظهر لغيره. و أصل الظهور هو الوجود، كما أنّ أصل الخفاء هو العدم. و اللّه سبحانه موجود بذاته موجد لما عداه.

أو الّذي به تدرك أو يدرك أهل السماوات و الأرض، من حيث إنّه يطلق على الباصرة، لتعلّقها به، أو لمشاركتها له في توقّف الإدراك عليه، ثمّ على البصيرة، لأنّها أقوى إدراكا، فإنّها تدرك نفسها و غيرها من الكلّيّات و الجزئيّات، الموجودات

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 509

و المعدومات، و تغوص في بواطنها، و تتصرّف فيها بالتركيب و التحليل. و هذه الإدراكات ليست لذاتها، و إلّا لما فارقتها، فهي إذن من سبب يفيضها عليها، و هو اللّه سبحانه ابتداء، أو بتوسّط من الملائكة و الأنبياء، و لذلك سمّوا أنوارا.

و يقرب منه

قول ابن عبّاس: معناه: هادي من فيها إلى ما فيه مصالحهم، كالنور الّذي به يهتدى إلى المطلوب، فهم بنوره يهتدون. و إضافته إليهما للدلالة على سعة إشراقه، أو لاشتمالهما على الأنوار الحسّيّة و العقليّة.

و قيل: اللّه مزيّن السماوات بالملائكة، و مزيّن الأرض بالأنبياء و العلماء.

و

روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أن معناه: «إنّ اللّه سبحانه نشر الحقّ في السماوات و الأرض حتى يستضيئا بنور الحقّ، فأضاءت بنوره، أو نوّر قلوب أهلها به».

و قال صاحب التبيان «1»: معناه: اللّه مدلول السماوات و الأرض، فإنّ كلّ شي ء من بدائعه و صنائعه يدلّ دلالة واضحة على وجوب وجوده و علمه و حكمته.

ففي كلّ شي ء له آيةتدلّ على أنّه واحد

و إضافة النور إلى السماوات و الأرض لأحد معنيين: إمّا لأنّ المراد أهلهما، و أنّهم يستضيئون بنوره. و إمّا للدلالة على عموم إضاءته، و شيوع إشراقه.

مَثَلُ نُورِهِ صفة نوره العجيبة الشأن في الإضاءة و الإشراق، و إضافته إلى ضميره سبحانه و تعالى دليل على أنّ إطلاق النور عليه لم يكن على ظاهره.

كَمِشْكاةٍ كصفة مشكاة. و هي الكوّة في الجدار غير النافذة. و قرأ الكسائي برواية الدوري بالإمالة. فِيها مِصْباحٌ سراج ضخم ثاقب. و قيل: المشكاة الأنبوبة في وسط القنديل. و المصباح: الفتيلة المشتعلة.

الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ في قنديل من الزجاج. و فائدة اختصاص الزجاجة بالذكر أنّه أصفى الجواهر، فالمصباح فيه أضوأ.

______________________________

(1) لم نجده فيه.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 510

الزُّجاجَةُ كَأَنَّها كَوْكَبٌ دُرِّيٌ مضي ء متلألئ، كالزهرة و المشتري و المرّيخ و سهيل- و نحوها من الكواكب المشهورة- في مزيد صفائه و زهرته. منسوب إلى الدرّ، لفرط ابيضاضه و نوره و نقائه. أو فعيل، كمريق «1»، من الدرء، فإنّه يدفع الظلام بضوئه و

لمعانه، إلّا أنّه قلبت همزته ياء. و يدلّ عليه قراءة حمزة و أبي بكر على الأصل. و قرأ أبو عمرو و الكسائي: درّي ء، كشرّيب.

يُوقَدُ هذا المصباح مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ زَيْتُونَةٍ أي: ابتداء توقّد المصباح من شجرة الزيتون المتكاثر نفعه، بأن رويت ذبالته «2» بزيتها. و في إيهام الشجرة، و وصفها بالبركة، ثمّ إبدال الزيتونة عنها، تفخيم لشأنها. و قيل: بارك فيها سبعون نبيّا منهم إبراهيم عليه السّلام. و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «عليكم بهذه الشجرة زيت الزيتون، فتداووا به، فإنّه مصحّة من الباسور» «3».

و قرأ أبو بكر و حمزة و الكسائي: توقد بالتأنيث، على أنّ الفاعل الزجاجة أو المشكاة. و الباقون بالتذكير على حذف المضاف، إلّا أنّ أبا عمرو و ابن كثير قرءا: توقّد على وزن تفعّل، و الفاعل المصباح على القراءتين.

لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ أي: ليست من شجرة تطلع عليها الشمس في وقت شروقها و غروبها فقط، بل تقع عليها طول النهار، كالّتي تكون على قلّة أو صحراء واسعة، فإنّ ثمرتها تكون أنضج و زيتها أصفى. أو لا نابتة في شرق المعمورة و غربها، بل في وسطها و هو الشام، فإنّ زيتونه أجود الزيتون. أو لا في مضحى تشرق الشمس عليها دائما فتحرقها، أو في مفيأة «4» تغيب عنها دائما فتتركها نيئا، بل الظلّ و الشمس يتناوبان

______________________________

(1) المريق: العصفر. و هع صبغ أصفر اللون.

(2) الذبالة: الفتيلة.

(3) الباسور: علّة في المقعدة يسبّبها تمدّد عروق المقعدة، و يحدث فيها نزف دم. و جمعه بواسير.

(4) المفيأة: المكان الذي لا تطلع عليه الشمس.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 511

عليها، و ذلك أجود لكمامها، و أصفى لدهنها. و

في الحديث: «لا خير في شجرة و لا

نبات في مفيأة، و لا خير فيهما في مضحى».

يَكادُ زَيْتُها يُضِي ءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ تصبه أي: يكاد يضي ء بنفسه من غير نار، لتلألئه و فرط وبيصه «1» نُورٌ عَلى نُورٍ نور متضاعف، فإنّ نور المصباح زاد في إنارته صفاء الزيت، و زهرة القنديل، و ضبط المشكاة لأشعّته، فتناصر فيه المشكاة و الزجاجة و المصباح و الزيت، حتّى لم تبق ممّا يقوّي النور و يزيده إشراقا و يمدّه بإضاءة بقيّة. و ذلك أنّ المصباح إذا كان في مكان متضائق كالمشكاة، كان أضوأ له و أجمع لنوره، بخلاف المكان الواسع، فإنّ الضوء ينبثّ فيه و ينتشر، و القنديل أعون شي ء على زيادة الإنارة، و كذلك الزيت و صفاؤه.

و قد ذكر في معنى التمثيل وجوه:

الأوّل: أنّه تمثيل للهدى الّذي دلّ عليه الآيات المبيّنات، في جلاء مدلولها و ظهور ما تضمّنته من الهدى، بالمشكاة المنعوتة.

و الثاني: تشبيه للهدى، من حيث إنّه محفوف بظلمات أوهام الناس و خيالاتهم، بالمصباح. و إنّما ولي الكاف المشكاة لاشتمالها عليه.

و الثالث: تمثيل لما نوّر اللّه به قلب المؤمن من المعارف و العلوم بنور المشكاة المنبثّ فيها من مصباحها. و يؤيّده قراءة أبيّ: مثل نور المؤمن.

يعني: النور مثل ضربه اللّه للمؤمن. فالمشكاة نفسه، و الزجاجة صدره، و المصباح الإيمان، و القرآن في قلبه يوقد من شجرة مباركة، هي الإخلاص للّه وحده لا شريك له.

فهي خضراء ناعمة، كشجرة التفّ بها الشجر، فلا يصيبها إحراق الشمس و آفتها و أذيّتها على أيّ حال كانت، لا إذا طلعت، و لا إذا غربت. و كذلك المؤمن قد احترز من أن يصيبه شي ء من الفتر «2». فهو بين أربع خلل: إن أعطي شكر، و إن ابتلي صبر، و

إن حكم

______________________________

(1) الوبيص: البريق و اللمعان.

(2) الفتر: الضعف و الفتور.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 512

عدل، و إن قال صدق. فهو في سائر الناس كالرجل الحيّ يمشي بين القبور. نور على نور، كلامه نور، و علمه نور، و مدخله نور، و مخرجه نور، و مصيره إلى الجنّة نور إلى يوم القيامة.

و الرابع: أنّه مثّل القرآن في قلب المؤمن. فكما أنّ هذا المصباح يستضاء به و هو كما هو لا ينقص، فكذلك القرآن يهتدى به و يعمل به. فالمصباح هو القرآن، و الزجاجة قلب المؤمن، و المشكاة لسانه و فمه، و الشجرة المباركة شجرة الوحي: «يَكادُ زَيْتُها يُضِي ءُ» يكاد حجج القرآن تتّضح و إن لم تقرأ. و قيل: يكاد حجج اللّه على خلقه تضي ء لمن تفكّر فيها و تدبّرها و لو لم ينزل القرآن. «نُورٌ عَلى نُورٍ» يعني: أنّ القرآن نور مع سائر الأدلّة قبله، فازدادوا به نورا على نور.

و الخامس: أنّه تمثيل للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أهل بيته، لما

روي عن الرضا عليه السّلام أنّه قال: «نحن المشكاة فيها، و المصباح محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، يهدي اللّه لولايتنا من أحبّ».

و

في كتاب التوحيد لأبي جعفر بن بابويه بالإسناد عن عيسى بن راشد، عن أبي جعفر الباقر عليه السّلام في قوله: كَمِشْكاةٍ فِيها مِصْباحٌ قال: «نور العلم إلى صدر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. الْمِصْباحُ فِي زُجاجَةٍ الزجاجة صدر عليّ عليه السّلام صار علم النبيّ إلى صدر عليّ عليه السّلام، علّم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليّا. يُوقَدُ مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ قال: نور العلم. لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ قال: لا يهوديّة و لا

نصرانيّة. يَكادُ زَيْتُها يُضِي ءُ وَ لَوْ لَمْ تَمْسَسْهُ نارٌ قال: يكاد العالم من آل محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يتكلّم بالعلم قبل أن يسأل. نُورٌ عَلى نُورٍ إمام مؤيّد بنور العلم و الحكمة في أثر إمام من آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ذلك من لدن آدم إلى أن تقوم الساعة» «1».

فهؤلاء الأوصياء الّذين جعلهم اللّه خلفاء في أرضه، و حججه على خلقه، لا تخلو

______________________________

(1) التوحيد: 158.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 513

الأرض في كلّ عصر من واحد منهم.

و تحقيق هذه الجملة يقتضي أنّ الشجرة المباركة المذكورة هي دوحة التقى و الرضوان، و عترة الهدى و الإيمان، شجرة أصلها النبوّة، و فرعها الإمامة، و أغصانها التنزيل، و أوراقها التأويل، و خدمها جبرائيل و ميكائيل.

و السادس: أنّ عند أكثر المفسّرين أنّ النور الّذي أضافه اللّه سبحانه إلى نفسه و ما شبّهه به نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فكأنّه قال: اللّه منوّر السماوات و الأرض بنور وجود محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و بدنه الأطهر كالمشكاة، و قلبه المصباح، و الزجاجة صدره، ثمّ شبّهه بالكوكب الدرّيّ.

ثمّ رجع إلى قلبه المشبّه بالمصباح، فقال: يوقد هذا المصباح من شجرة مباركة يعني:

إبراهيم عليه السّلام، لأنّ أكثر الأنبياء عليهم السّلام من صلبه. و شجرة الوحي لا شرقيّة و لا غربيّة، أي: لا نصرانيّة و لا يهوديّة، لأنّ النصارى تصلّي إلى الشرق، و اليهود إلى الغرب. يكاد أعلام نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تتبيّن للناس قبل أن يتكلّم و ترى معجزته، كما أنّ ذلك الزيت يكاد زيتها يضي ء و لو لم تمسسه نار.

السابع: أنّ المشكاة إبراهيم، و

الزجاجة إسماعيل، و المصباح محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، كما سمّي سراجا منيرا في موضع آخر «1». «مِنْ شَجَرَةٍ مُبارَكَةٍ» إبراهيم، لأنّ أكثر الأنبياء من صلبه. «يَكادُ زَيْتُها يُضِي ءُ» أي: يكاد محاسن محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تظهر قبل أن يوحى إليه. «نُورٌ عَلى نُورٍ» أي: نبيّ من نسل نبيّ.

و الثامن: أنّ المشكاة عبد المطلّب، و الزجاجة عبد اللّه، و المصباح هو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

«لا شَرْقِيَّةٍ وَ لا غَرْبِيَّةٍ» بل مكّيّة، لأنّ مكّة وسط الدنيا. «نُورٌ عَلى نُورٍ» مبالغة في كثرة الأشعّة و الأنوار الإلهيّة في ذاته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و التاسع: تمثيل لما منح اللّه تعالى به عباده من القوى الدرّاكة الخمس المترتبّة،

______________________________

(1) الأحزاب: 46.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 514

الّتي منوط بها المعاش و المعاد. و هي: الحسّاسة الّتي تدرك بها المحسوسات بالحواسّ الخمس. و الخياليّة الّتي تحفظ صور تلك المحسوسات، لتعرضها على القوّة العقليّة متى شاءت. و العاقلة الّتي تدرك الحقائق الكلّيّة. و المفكّرة الّتي تؤلّف المعقولات لتستنتج منها ما لم تعلم. و القوّة القدسيّة الّتي تتجلّى فيها لوائح الغيب و أسرار الملكوت، المختصّة بالأنبياء و الأولياء، المعنيّة بقوله: وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا «1».

بالأشياء «2» الخمسة المذكورة في الآية، و هي: المشكاة، و الزجاجة، و المصباح، و الشجرة، و الزيت. فإنّ الحاسّة كالمشكاة، لأنّ محلّها كالكوى، و وجهها إلى الظاهر لا تدرك ما وراءها، و إضاءتها بالمعقولات لا بالذات. و الخياليّة كالزجاجة في قبول صور المدركات من الجوانب، و ضبطها للأنوار العقليّة، و إنارتها بما تشتمل عليه من المعقولات. و العاقلة كالمصباح، لإضاءتها بالإدراكات

الكلّيّة، و المعارف الإلهيّة.

و المفكّرة كالشجرة المباركة، لتأديتها إلى ثمرات لا نهاية لها، الزيتونة المثمرة بالزيت الّذي هو مادّة المصابيح، الّتي لا تكون شرقيّة و لا غربيّة، لتجرّدها عن اللواحق الجسمانيّة، أو لوقوعها بين الصور و المعاني، متصرّفة في القبيلين، منتفعة من الجانبين.

و القوّة القدسيّة كالزيت، فإنّها لصفائها و شدّة ذكائها تكاد تضي ء بالمعارف من غير تفكّر و لا تعلّم.

و العاشر: تمثيل للقوّة العقليّة في مراتبها بذلك، فإنّها في بدء أمرها خالية عن العلوم، مستعدّة لقبولها كالمشكاة. ثمّ تنتقش بالعلوم الضروريّة بتوسّط إحساس الجزئيّات، بحيث تتمكّن من تحصيل النظريّات، فتصير كالزجاجة متلألئة في نفسها

______________________________

(1) الشورى: 52.

(2) متعلّق بقوله: تمثيل لما منح ...، في أوّل الفقرة السابقة. وضعناه في فقرة مستقلّة، لتسهيل الأمر على المطالع.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 515

قابلة للأنوار. و ذلك التمكّن إن كان بفكر و اجتهاد فهو كالشجرة الزيتونة. و إن كان بالحدس فكالزيت. و إن كان بقوّة قدسيّة فكالّتي يكاد زيتها يضي ء، لأنّها تكاد تعلم، و لو لم تتّصل بملك الوحي و الإلهام الّذي مثله النار، من حيث إنّ العقول تشتعل عنه. ثمّ إذا حصلت لها العلوم بحيث تتمكّن من استحضارها متى شاءت كانت كالمصباح، فإذا استحضرتها كانت نورا على نور.

يَهْدِي اللَّهُ لِنُورِهِ يوفّق لهذا النور الثاقب الباهر الغالب مَنْ يَشاءُ من الّذين يتدبّرون فيه، و ينظرون بعيون عقولهم، و ينصفون من أنفسهم، و لم يذهبوا عن الجادّة الموصلة إليه يمينا و شمالا، لا الّذين لم يتدبّروا فيه، بل يعاندونه، فإنّهم لا يستحقّون التوفيق و اللطف، بل يستوجبون الخذلان و التخلية، فإنّهم كالعمي الّذين سواء عليهم جنح الليل الدامس و ضحوة النهار الشامس.

وَ يَضْرِبُ اللَّهُ الْأَمْثالَ لِلنَّاسِ تقريبا للمعقول من المحسوس، توضيحا و

بيانا وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ معقولا كان أو محسوسا، ظاهرا كان أو خفيّا. و فيه وعد و وعيد لمن تدبّرها، و لمن لم يكترث بها.

فِي بُيُوتٍ متعلّق بما قبله، أي: كمشكاة في بعض بيوت، أو توقد في بعض بيوت. فيكون تقييدا للممثّل به بما يكون تحبيرا «1» و مبالغة فيه، فإنّ قناديل المساجد تكون أعظم.

و البيوت هي المساجد، لأنّ الصفة الآتية تلائمها. و قيل: المساجد الثلاثة «2».

و التنكير للتعظيم. و لا ينافي جمع البيوت وحدة المشكاة، إذ المراد بها ماله هذا الوصف بلا اعتبار وحدة و كثرة.

______________________________

(1) تحبير الكلام: تحسينه و تزيينه.

(2) هي: المسجد الحرام، و المسجد الأقصى، و مسجد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 516

و قيل: المراد بيوت الأنبياء. و

روي ذلك مرفوعا. و هو أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا قرأ هذه الآية سئل أيّ بيوت هذه؟ «فقال: بيوت الأنبياء. فقال أبو بكر: يا رسول اللّه هذا البيت منها؟

و أشار إلى بيت عليّ عليه السّلام و فاطمة. فقال: نعم منها و أفضلها».

أو متعلّق بما بعده، و هو «يسبّح». و فيها تكرير، كما يقال: زيد في الدار جالس فيها. و لا يجوز أن يكون «في بيوت» معمول «يذكر» لأنّ ما بعد «أن» لا يعمل فيما قبله.

أو بمحذوف، مثل: سبّحوا في بيوت.

أَذِنَ اللَّهُ أي: أمر اللّه أَنْ تُرْفَعَ بالبناء، كقوله: رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها «1».

و قوله: وَ إِذْ يَرْفَعُ إِبْراهِيمُ الْقَواعِدَ «2» فإنّ الرفع هنا بمعنى البناء. و عن ابن عبّاس: هي المساجد، أمر اللّه أن تبنى. أو المراد تعظيمها، و الرفع من قدرها، كما روي عن الحسن:

ما أمر اللّه أن ترفع بالبناء، و لكن بالتعظيم. و

قوله: وَ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ أوفق له. و هو عامّ في كلّ ما يتضمّن ذكره، حتّى المذاكرة في أفعاله، و المباحثة في أحكامه. و عن ابن عبّاس: معناه أن يتلى فيها كتابه.

يُسَبِّحُ لَهُ فِيها بِالْغُدُوِّ وَ الْآصالِ* رِجالٌ ينزّهونه، أي: يصلّون له فيها بالغدوات و العشيّات. و الغدوّ مصدر أطلق للوقت، و لهذا حسن اقترانه بالآصال. و هو جمع أصيل، و هو العشيّ. و قرأ أبو بكر و ابن عامر: يسبّح بالفتح، على إسناده إلى أحد الظروف الثلاثة، أعني: له، فيها، بالغدوّ. و رفع رجال بما يدلّ عليه «يسبّح». كأنّه قيل:

من يسبّح؟ فقيل: رجال، أي: يسبّح له رجال.

لا تُلْهِيهِمْ تِجارَةٌ لا تشغلهم معاملة رابحة وَ لا بَيْعٌ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ مبالغة بالتعميم بعد التخصيص، إن أريد به مطلق المعاوضة، أو بإفراد ما هو الأهمّ من قسمي التجارة، فإنّ الربح يتحقّق بالبيع و يتوقّع بالشراء. و قيل: المراد بالتجارة الشراء، فإنّه

______________________________

(1) النازعات: 28.

(2) البقرة: 127.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 517

أصلها و مبدؤها. و قيل: الجلب، لأنّه الغالب فيها، و منه يقال: تجر في كذا إذا جلبه. و فيه إيماء بأنّهم تجّار.

وَ إِقامِ الصَّلاةِ عوّض فيه الإضافة من التاء، المعوّضة عن العين، الساقطة بالإعلال وَ إِيتاءِ الزَّكاةِ ما يجب إخراجه من المال للمستحقّين.

يَخافُونَ يَوْماً يعني: يوم القيامة مع ما هم عليه من الذكر و الطاعة تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ وَ الْأَبْصارُ تضطرب و تتغيّر من الهول و الفزع و تشخص، كقوله: وَ إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ «1». أو تتقلّب أحوالها، فتفقه القلوب ما لم تكن تفقه، و تبصر الأبصار ما لم تكن تبصر. أو تتقلّب القلوب من توقّع النجاة و خوف الهلاك، و الأبصار من

أيّ ناحية يؤخذ بهم و يؤتى كتابهم. و قيل: تتقلّب القلوب ببلوغها الحناجر، و الأبصار بالعمى بعد الإبصار.

لِيَجْزِيَهُمُ اللَّهُ متعلّق ب «يسبّح» أو «لا تلهيهم» أو «يخافون» أَحْسَنَ ما عَمِلُوا أحسن جزاء ما عملوا الموعود لهم من الجنّة وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ أشياء لم يعدهم بها على أعمالهم، و لم تخطر ببالهم.

ثمّ قرّر الزيادة، و نبّه على كمال القدرة، و نفاذ المشيئة، و سعة الإحسان، فقال:

وَ اللَّهُ يَرْزُقُ يعطي مَنْ يَشاءُ بِغَيْرِ حِسابٍ بغير مجازاة على عمل، بل تفضّلا منه سبحانه، فإنّ الثواب لا يكون إلّا بحساب، لكونه على حسب الاستحقاق، و التفضّل يكون بغير حساب.

[سورة النور (24): الآيات 39 الى 40]

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً حَتَّى إِذا جاءَهُ لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً وَ وَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ فَوَفَّاهُ حِسابَهُ وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ (39) أَوْ كَظُلُماتٍ فِي بَحْرٍ لُجِّيٍّ يَغْشاهُ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ سَحابٌ ظُلُماتٌ بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ لَمْ يَكَدْ يَراها وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً فَما لَهُ مِنْ نُورٍ (40)

______________________________

(1) الأحزاب: 10.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 518

و بعد ذكر حال المؤمنين الأبرار، بيّن حال الكافرين الفجّار، فقال: وَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَعْمالُهُمْ كَسَرابٍ بِقِيعَةٍ أي: و الّذين كفروا حالهم على ضدّ حال الّذين آمنوا، فإنّ أعمالهم الّتي يحسبونها صالحة نافعة عند اللّه منجية لهم، يجدونها لاغية مخيبة في العاقبة كالسراب، و هو ما يرى في الفلاة من لمعان الشمس عليها وقت الظهيرة، فيظنّ أنّه ماء يسرب، أي: يجري. و القيعة بمعنى القاع. و هو الأرض المستوية. و قيل: جمع القاع، كجار و جيرة.

يَحْسَبُهُ الظَّمْآنُ ماءً أي: العطشان. و تخصيصه لتشبيه الكافر به في شدّة الخيبة عند الحاجة إليه. حَتَّى إِذا

جاءَهُ إذا انتهى إلى ما توهّمه ماء أو موضعه لَمْ يَجِدْهُ شَيْئاً ممّا يظنّه و يرتجيه وَ وَجَدَ اللَّهَ عِنْدَهُ عند عمله فجازاه على كفره. أو وجد زبانيته يأخذونه، فيعتلونه «1» إلى جهنّم، فيسقونه الحميم و الغسّاق. و هم الّذين قال اللّه فيهم: عامِلَةٌ ناصِبَةٌ «2». وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً «3». وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً «4».

فَوَفَّاهُ اللّه حِسابَهُ استعراضا أو مجازاة وَ اللَّهُ سَرِيعُ الْحِسابِ لا

______________________________

(1) عتله أي: جذبه و جرّه عنيفا. يقال: عتله إلى السجن، أي: دفعه بعنف.

(2) الغاشية: 3.

(3) الكهف: 104.

(4) الفرقان: 23.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 519

يشغله حساب عن حساب، فيحاسب الجميع على أفعالهم في حالة واحدة. و

سئل أمير المؤمنين عليه السّلام: كيف يحاسبهم في حالة واحدة؟ فقال: «كما يرزقهم في حالة واحدة».

ثمّ ذكر مثلا آخر لأعمال الكفّار، فقال عطفا على «كسراب»: أَوْ كَظُلُماتٍ و «أو» للتخيير، فإنّ أعمالهم لكونها لاغية لا منفعة لها كالسراب، و لكونها خالية عن نور الحقّ كالظلمات المتراكمة فِي بَحْرٍ لُجِّيٍ عميق كثير الماء. منسوب إلى اللجّ، و هو معظم ماء البحر.

يَغْشاهُ يغشى البحر. يعني: يعلو ذلك البحر. مَوْجٌ مِنْ فَوْقِهِ مَوْجٌ أي:

أمواج مترادفة متراكمة مِنْ فَوْقِهِ من فوق الموج الثاني سَحابٌ غطّى النجوم و حجب أنوارها. و الجملة صفة اخرى للبحر. فالظلمات: ظلمة من لجّ البحر، و ظلمة الأمواج، و ظلمة السحاب.

و يحتمل أن تكون «أو» للتنويع، فإنّ أعمالهم إن كانت حسنة فكالسراب، و إن كانت قبيحة فكالظلمات. أو للتقسيم باعتبار وقتين، فإنّها كالظلمات في الدنيا، و كالسراب في الآخرة.

ظُلُماتٌ أي: هذه ظلمات بَعْضُها فَوْقَ بَعْضٍ و قرأ ابن كثير: ظلمات بالجرّ، على إبدالها من الأولى، أو بإضافة السحاب

إليها في رواية البزّيّ.

إِذا أَخْرَجَ يَدَهُ الّتي هي أقرب ما يرى إليه. و الضمير للواقع في البحر و إن لم يجر ذكره، لدلالة المعنى عليه. و كذا الضميران في قوله: لَمْ يَكَدْ يَراها أي: لم يقرب أن يراها، فضلا أن يراها. و هذا مبالغة في عدم رؤية اليد، كقوله «1»:

إذا غيّر النأي المحبّين لم يكدرسيس الهوى من حبّ ميّة يبرح

______________________________

(1) لذي الرمّة. و ميّة اسم محبوبته. و النأي: البعد. و المعنى: إن العشّاق إذا ابتعدوا عن محبوبهم زالت محبّته عنهم، و أما أنا فلا يزول حبّها عن قلبي. و رسيس الحبّ و الهوى: بقيّته و أثره.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 520

و خلاصة المعنى: أنّ الكافر كمن في هذه الظلمات، لأنّه من عمله و كلامه و اعتقاده متقلّب في ظلمات متراكمة.

و روي عن أبيّ أنّه قال: الكافر يتقلّب في خمس ظلمات: كلامه ظلمة، و عمله ظلمة، و مدخله ظلمة، و مخرجه ظلمة، و مصيره يوم القيامة إلى ظلمة، و هي النار.

ثمّ قال: وَ مَنْ لَمْ يَجْعَلِ اللَّهُ لَهُ نُوراً و من لم يولّه نور توفيقه و عصمته و لطفه.

يعني: لم يوفّقه لأسباب الهداية في ظلمة الباطل، لفرط عناده، و توغّله في عتوّه و تمرّده.

فَما لَهُ مِنْ نُورٍ بخلاف الموفّق الّذي له نور على نور.

[سورة النور (24): الآيات 41 الى 46]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الطَّيْرُ صَافَّاتٍ كُلٌّ قَدْ عَلِمَ صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ (41) وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (42) أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ

فِيها مِنْ بَرَدٍ فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَصْرِفُهُ عَنْ مَنْ يَشاءُ يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ (43) يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِأُولِي الْأَبْصارِ (44) وَ اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ مِنْ ماءٍ فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (45)

لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (46)

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 521

ثمّ ذكر سبحانه الآيات الّتي جعلها نورا للعقلاء العارفين باللّه و صفاته، فقال: أَ لَمْ تَرَ الخطاب للنبيّ، و المراد به جميع المكلّفين. و «رأى» بمعنى: علم، أي: ألم تعلم علما يشبه المشاهدة في اليقين و الوثاقة بالوحي أو الاستدلال أَنَّ اللَّهَ يُسَبِّحُ لَهُ ينزّه ذاته عن كلّ نقص و آفة مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي: أهلهما. و إيراد «من» لتغليب العقلاء. أو المراد الملائكة و الثقلان بما يدلّ عليه من المقال أو دلالة حال.

وَ الطَّيْرُ عطف على «من». تخصيص لما فيها من الصنع الظاهر و الدليل الباهر، و لذلك قيّدها بقوله: صَافَّاتٍ فإنّ إعطاء الأجرام الثقيلة ما به تقوى على الوقوف في الجوّ صافّة- أي: باسطة- أجنحتها بما فيها من القبض و البسط، حجّة قاطعة على كمال قدرة الصانع و لطف تدبيره.

كُلٌ كلّ واحد ممّا ذكر، أو من الطير قَدْ عَلِمَ أي: علم اللّه صَلاتَهُ وَ تَسْبِيحَهُ دعاءه و تنزيهه اختيارا أو طبعا، لقوله: وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِما يَفْعَلُونَ أو علم كلّ دعاء نفسه و صلاة نفسه، على تشبيه حاله في الدلالة على الحقّ و الميل إلى النفع، على وجه يخصّه، بحال من

علم ذلك. مع أنّه لا يبعد أن يلهم اللّه تعالى الطير دعاء و تسبيحا، كما ألهمها علوما دقيقة في أسباب تعيّشها، لا يكاد يهتدي إليها العقلاء.

وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فإنّه الخالق لهما، و لما فيهما من الذوات و الصفات و الأفعال، من حيث إنّها ممكنة واجبة الانتهاء إلى الواجب وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ مرجع الجميع.

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُزْجِي سَحاباً يسوقه سوقا رفيقا إلى حيث يريد. و منه البضاعة المزجاة الّتي يزجيها كلّ أحد لا يرضاها. و السحاب يكون واحدا كالعماء، و جمعا،

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 522

كالرباب جمع ربابة، بمعنى السحاب الأبيض. ثُمَّ يُؤَلِّفُ بَيْنَهُ بأن يكون قطعا رقيقة فيضمّ بعضها إلى بعض، فيجعل القطع المتفرّقة منه قطعة واحدة. و بهذا الاعتبار صحّ «بينه» و هو واحد، إذ المعنى: بين أجزائه. و قرأ نافع برواية ورش: يولّف غير مهموز.

ثُمَّ يَجْعَلُهُ رُكاماً متراكما متراكبا بعضه فوق بعض فَتَرَى الْوَدْقَ المطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ من فتوقه و مخارجه. جمع خلل، كجبال جمع جبل.

وَ يُنَزِّلُ مبتدأ مِنَ السَّماءِ أي: من الغمام، فإنّ كلّ ما علاك فهو سماء مِنْ جِبالٍ فِيها بعضها من قطع عظام تشبه الجبال في عظمها أو جمودها، كما يقال: فلان يملك جبالا من ذهب مِنْ بَرَدٍ بيان للجبال. الأولى لابتداء الغاية، و الثانية للتبعيض، و الثالثة للتبيين.

و يجوز أن تكون الأوليان للابتداء، و الأخيرة للتبعيض، واقعة موقع المفعول.

و على الأوّل مفعول «ينزّل»: «من جبال». و على الثاني محذوف، أي: ينزّل البرد مبتدأ من السماء من جبال فيها من برد.

و قيل: المراد أنّ اللّه يخلق في السماء جبال برد كما خلق في الأرض جبال حجر، فينزّلها بقدر ما يشاء.

و المشهور بين أرباب العلوم

العقليّة أنّ الأبخرة إذا تصاعدت، و لم تحلّلها حرارة، فبلغت الطبقة الباردة من الهواء، و قوي البرد هناك اجتمع و صار سحابا. فإن لم يشتدّ البرد تقاطر مطرا. و إن اشتدّ، فإن وصل إلى الأجزاء البخاريّة قبل اجتماعها نزل ثلجا، و إلّا نزل بردا. و قد يبرد الهواء بردا مفرطا، فينقبض و ينعقد سحابا، و ينزل منه المطر أو الثلج. و كلّ ذلك لا بدّ و أن يستند إلى إرادة الواجب الحكيم، لقيام الدليل على أنّها الموجبة لاختصاص الحوادث بمحالّها و أوقاتها. و إليه أشار بقوله: فَيُصِيبُ بِهِ مَنْ يَشاءُ فيهلك زرعه و ماله وَ يَصْرِفُهُ و يصرف ضرره عَنْ مَنْ يَشاءُ فيكون إصابته نقمة، و صرفه نعمة.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 523

يَكادُ سَنا بَرْقِهِ يقرب ضوء برقه يَذْهَبُ بِالْأَبْصارِ بأبصار الناظرين إليه من فرط الإضاءة و شدّة اللمعان. و ذلك أقوى دليل على كمال قدرته، من حيث إنّه توليد للضدّ من الضدّ.

يُقَلِّبُ اللَّهُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ يصرفهما بالمعاقبة بينهما، أو بنقص أحدهما و زيادة الآخر، أو بتغيير أحوالهما بالحرّ و البرد و الظلمة و النور، أو بما يعمّ ذلك.

إِنَّ فِي ذلِكَ فيما تقدّم ذكره من تسبيح من في السماوات و الأرض، و كلّ ما يطير بين السماء و الأرض، و دعائهم له، و ابتهالهم إليه. و أنّه سخّر السحاب التسخير الّذي وصفه، و ما يحدث فيه من أفعاله، حتّى ينزل المطر منه. و أنّه يقسّم رحمته بين خلقه، و يقبضها و يبسطها على ما تقتضيه حكمته. و يريهم البرق في السحاب الّذي يكاد يخطف أبصارهم ليحذروا، و ليتنبّهوا و يمتثلوا أمره. و أنّه يعاقب بين الليل و النهار، و يخالف بينهما بالطول و القصر.

لَعِبْرَةً لدلالة

واضحة على وجود الصانع القديم، و كمال قدرته، و إحاطة علمه، و نفاذ مشيئته، و تنزّهه عن الحاجة و ما يفضي إليها لِأُولِي الْأَبْصارِ لذوي البصائر و العقول، أي: لمن يرجع إلى بصيرة، فنظر و فكّر، و تبصّر و تدبّر.

وَ اللَّهُ خَلَقَ كُلَّ دَابَّةٍ حيوان يدبّ على الأرض. و قرأ حمزة و الكسائي: خالق كلّ دابّة، بالإضافة. مِنْ ماءٍ هو جزء مادّته. أو ماء مخصوص هو النطفة، فيكون تنزيلا للغالب منزلة الكلّ، إذ من الحيوانات ما يتولّد لا عن النطفة.

و قيل: «من ماء» متعلّق ب «دابّة» و ليس صلة ل «خلق».

و تنكير الماء ليدلّ على أنّه خلق كلّ دابّة من نوع من الماء مختصّ بتلك الدابّة. أو خلقها من ماء مخصوص، و هو النطفة. و لمّا كان اسم الدابّة موقعا على المميّز و غير المميّز، غلّب المميّز، فأعطى ما وراءه حكمه، كأنّ الدوابّ كلّهم مميّزون.

فَمِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى بَطْنِهِ كالحيّة و الدود. فذكر «من» و ذكّر الضمير

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 524

للتغليب. و كذا سمّي الزحف مشيا على الاستعارة، كما يقال: فلان لا يتمشّى أمره. أو للمشاكلة، لأنّه ذكر مع الماشين.

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى رِجْلَيْنِ كالإنس و الطير وَ مِنْهُمْ مَنْ يَمْشِي عَلى أَرْبَعٍ كالنعم و الوحش. و يندرج فيه ماله أكثر من أربع، كالعناكب، فإنّ اعتمادها إذا مشت على أربع. و ذكر الأجناس الثلاثة على الترتيب المذكور، لتقديم ما هو أعرف في القدرة.

يَخْلُقُ اللَّهُ ما يَشاءُ ممّا ذكر و ممّا لم يذكر، من الحيوان و غيره، بسيطا و مركّبا، على اختلاف الصور و الأعضاء و الهيئات و الحركات و الطبائع و القوى و الأفعال، مع اتّحاد العنصر بمقتضى مشيئته إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ

قَدِيرٌ فيفعل ما يشاء.

لَقَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ مُبَيِّناتٍ للحقائق بأنواع الدلائل وَ اللَّهُ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ بالتوفيق للنظر فيها، و التدبّر لمعانيها إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ هو دين الإسلام، الموصل إلى درك الحقّ و الفوز بالجنّة.

[سورة النور (24): الآيات 47 الى 50]

وَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنا ثُمَّ يَتَوَلَّى فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ (47) وَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ (48) وَ إِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُّ يَأْتُوا إِلَيْهِ مُذْعِنِينَ (49) أَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَمِ ارْتابُوا أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (50)

روي: أنّ بشر المنافق خاصم يهوديّا في أرض، فجعل اليهوديّ يجرّه إلى رسول

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 525

اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و المنافق يدعوه إلى كعب بن الأشرف و يقول: إنّ محمّدا يحيف علينا.

و

حكى البلخي أنّه كانت بين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و عثمان منازعة في أرض اشتراها من عليّ عليه السّلام، فخرجت فيها أحجار، و أراد ردّها بالعيب فلم يأخذها. فقال: بيني و بينك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فقال الحكم بن أبي العاص: إن حاكمته إلى ابن عمّه حكم له، فلا تحاكمه إليه. و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

و

في رواية اخرى: أنّ المغيرة بن وائل كان بينه و بين عليّ بن أبي طالب عليه السّلام خصومة في ماء و أرض، فقال المغيرة: أمّا محمّد فلست آتية، و لا أحاكم إليه، فإنّه يبغضني، و أنا أخاف أن يحيف عليّ. فنزلت:

وَ يَقُولُونَ آمَنَّا بِاللَّهِ

صدّقنا بتوحيد اللّه وَ بِالرَّسُولِ وَ أَطَعْنا فيما حكما ثُمَّ يَتَوَلَّى يعرض عن طاعتهما

بالامتناع عن قبول حكمه فَرِيقٌ مِنْهُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ بعد قولهم: آمنّا وَ ما أُولئِكَ بِالْمُؤْمِنِينَ إشارة إلى جميع القائلين. فيكون إعلاما من اللّه بأنّ جميعهم و إن آمنوا بلسانهم لم يؤمنوا بقلوبهم، لا الفريق المتولّي وحده.

أو إلى الفريق منهم. و سلب الإيمان عنهم لتولّيهم.

و التعريف فيه للدلالة على أنّهم ليسوا بالمؤمنين الّذين عرفتهم. و هم المخلصون في الإيمان، الثابتون عليه، الموصوفون في قوله تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا «1».

و في هذا إشارة إلى أنّ القول المجرّة لا يكون إيمانا، إذ لو كان كذلك لما صحّ النفي بعد الإثبات.

وَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أي: ليحكم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، كقولك:

أعجبني زيد و كرمه، تريد: أعجبني كرم زيد، فإنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الحاكم ظاهرا و المدعوّ إليه.

و ذكر اللّه لتعظيمه و الدلالة على أن حكمه في الحقيقة حكم اللّه.

______________________________

(1) الحجرات: 15.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 526

إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ مُعْرِضُونَ فاجأه فريق منهم الإعراض عمّا يدعون إليه، إذا كان الحقّ عليهم، لعلمهم بأنّك لا تحكم لهم. و هو بيان للتولّي، و مبالغة فيه.

وَ إِنْ يَكُنْ لَهُمُ الْحَقُ أي: الحكم، لا عليهم يَأْتُوا إِلَيْهِ إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مُذْعِنِينَ و «إليه» إمّا صلة ل «يأتوا» لأنّ «أتى» و «جاء» قد جاءا معدّيين ب «إلى». أو يتّصل ب «مذعنين» لأنّه في معنى: مسرعين في الطاعة. و هذا أحسن، لتقدّم صلته و دلالته على الاختصاص.

و المعنى: أنّهم لمعرفتهم أنّه ليس معك إلّا الحقّ المرّ و العدل البحت، يزورّون «1» عن المحاكمة إليك إذا ركبهم الحقّ، لئلّا تنتزع الحقّ

من أحداقهم بقضائك عليهم لخصومهم. و إن ثبت لهم حقّ على خصم أسرعوا إليك، و لم يرضوا إلّا بحكومتك، لتأخذ لهم ما كان لهم في ذمّة الخصم.

ثمّ قسّم الأمر في صدودهم عن حكومته إذا كان الحقّ عليهم، بين أن يكونوا مرضى القلوب منافقين، أو مرتابين في أمر نبوّته، أو خائفين الحيف في قضائه، فقال:

أَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ كفر، أو ميل إلى الظلم؟ أَمِ ارْتابُوا بأن رأوا منك تهمة، فزالت ثقتهم و يقينهم بك؟ أَمْ يَخافُونَ أَنْ يَحِيفَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ رَسُولُهُ في الحكومة؟

ثمّ أبطل ارتيابهم و خوفهم حيفه، فقال إضرابا عن هذين القسمين لتحقيق القسم الأوّل: بَلْ أُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ أي: لا يخافون أن يحيف عليهم، لمعرفتهم بحاله.

و إنّما هم ظالمون يريدون أن يظلموا من له الحقّ عليهم، و يتمّ لهم جحوده، و ذلك شي ء لا يستطيعونه في مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فمن ثمّ يأبون المحاكمة إليه.

و وجه التقسيم في الآية: أنّ امتناعهم إمّا لخلل فيهم، أو في الحاكم. و الثاني إمّا أن يكون محقّقا عندهم، أو متوقّعا. و كلاهما باطل، لأنّ منصب نبوّته و فرط أمانته يمنعه، فتعيّن الأوّل. و ظلمهم يعمّ خلل عقيدتهم، و ميل نفوسهم إلى الحيف و الفصل، لنفي ذلك

______________________________

(1) ازورّ عنه: عدل و انحرف.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 527

عن غيرهم، سيّما المدعوّ إلى حكمه.

[سورة النور (24): الآيات 51 الى 52]

إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا وَ أَطَعْنا وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (51) وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ يَخْشَ اللَّهَ وَ يَتَّقْهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ (52)

و لمّا كان من عادة اللّه أن يتبع ذكر المحقّ المبطل، و أن ينبّه

على ما ينبغي بعد إنكاره لما لا ينبغي، مدح المؤمنين الصادقين في إيمانهم، و ذمّ الكافرين الراسخين في كفرهم، فقال:

إِنَّما كانَ قَوْلَ الْمُؤْمِنِينَ إِذا دُعُوا إِلَى اللَّهِ وَ رَسُولِهِ لِيَحْكُمَ بَيْنَهُمْ أَنْ يَقُولُوا سَمِعْنا قول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ أَطَعْنا أمره، و إن كان فيما يضرّهم. و عن أبي جعفر عليه السّلام:

«أنّ المعنيّ بالآية أمير المؤمنين عليّ عليه السّلام». وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ

وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فيما يأمر. و عن ابن عبّاس: من يطع اللّه في فرائضه، و رسوله في سننه. وَ يَخْشَ اللَّهَ على ما صدر عنه من الذنوب وَ يَتَّقْهِ فيما بقي من عمره.

و قرأ يعقوب و قالون عن نافع بلا ياء. و أبو عمرو و أبو بكر بسكون الهاء. و حفص بسكون القاف. فشبّه «تقه» بكتف فخفّف. و الهاء في الوقف ساكنة بالاتّفاق. و قرأ أبو بكر و أبو عمرو و خلّاد بخلاف عنه: و يتّقه بإسكان الهاء. و قالون باختلاس كسرتها. و الباقون بصلتها.

فَأُولئِكَ هُمُ الْفائِزُونَ بالنعيم المقيم. قد جمع اللّه سبحانه في هذه الآية أسباب الفوز. و عن بعض الملوك أنّه سأل عن آية كافية، فتليت له هذه الآية.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 528

[سورة النور (24): الآيات 53 الى 57]

وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ لَيَخْرُجُنَّ قُلْ لا تُقْسِمُوا طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (53) قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّوْا فَإِنَّما عَلَيْهِ ما حُمِّلَ وَ عَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ وَ إِنْ تُطِيعُوهُ تَهْتَدُوا وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (54) وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ لَيُمَكِّنَنَّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى

لَهُمْ وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ أَمْناً يَعْبُدُونَنِي لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً وَ مَنْ كَفَرَ بَعْدَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (55) وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (56) لا تَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ مَأْواهُمُ النَّارُ وَ لَبِئْسَ الْمَصِيرُ (57)

و لمّا بيّن سبحانه كراهة الكفّار و المنافقين لحكمه، قال المنافقون للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

و اللّه لو أمرتنا بالخروج من ديارنا و أموالنا لفعلنا، فقال اللّه سبحانه:

وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ إنكار للامتناع عن حكمه جَهْدَ أَيْمانِهِمْ مستعار من: جهد نفسه إذا بلغ أقصى وسعها، لأنّهم أقسموا يجهدون أيمانهم جهدا. فحذف الفعل، و قدّم

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 529

المصدر، فوضع موضعه مضافا إلى المفعول. كقوله: فَضَرْبَ الرِّقابِ «1». و هذا المنصوب في حكم الحال، كأنّه قال: جاهدين أيمانهم.

لَئِنْ أَمَرْتَهُمْ بالخروج عن ديارهم و أموالهم لَيَخْرُجُنَ جواب ل «أقسموا» على الحكاية.

قُلْ لا تُقْسِمُوا على الكذب طاعَةٌ مَعْرُوفَةٌ أي مطلوب منكم طاعة معروفة معلومة لا يشكّ فيها و لا يرتاب، كطاعة الخلّص من المؤمنين الّذين طابق باطن أمرهم ظاهره، لا اليمين على الطاعة النفاقيّة المنكرة. أو طاعتكم طاعة معروفة. أو طاعة معروفة أمثل و أولى لكم من الإيمان الكاذبة. أو لتكن طاعة معروفة.

إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ فلا يخفى عليه سرائركم، و أنّه فاضحكم لا محالة، و مجازيكم على نفاقكم.

ثمّ أمر اللّه رسوله بتبليغ ما خاطبهم به، مبالغة في تبكيتهم، فقال: قُلْ أَطِيعُوا اللَّهَ فيما أمركم به وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فيما آتاكم به، و احذروا المخالفة فَإِنْ تَوَلَّوْا أصله: تتولّوا فحذف أحد التاءين، أي: فإن تعرضوا عن طاعة اللّه و طاعة رسوله فَإِنَّما عَلَيْهِ على محمّد ما حُمِّلَ من

التبليغ وَ عَلَيْكُمْ ما حُمِّلْتُمْ من الامتثال.

وَ إِنْ تُطِيعُوهُ في حكمه تَهْتَدُوا إلى الحقّ وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ التبليغ الموضح لما كلّفتم به و قد أدّى، و إنّما بقي عليكم ما حمّلتم، فإن لم تفعلوا و تولّيتم فقد عرّضتم نفوسكم لسخط اللّه و عذابه، و إن أطعتموه فقد أحرزتم نصيبكم من الخروج عن الضلالة إلى الهدى.

ثمّ خاطب الرسول و الأئمّة، أو الرسول و من معه، فقال: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي: وعد اللّه المؤمنين المطيعين للّه و رسوله لَيَسْتَخْلِفَنَّهُمْ فِي الْأَرْضِ ليجعلنّهم خلفاء متصرّفين في الأرض تصرّف الملوك. و هو جواب قسم

______________________________

(1) محمّد: 4.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 530

مضمر، تقديره: وعدهم اللّه و أقسم ليستخلفنّهم. أو الوعد في تحقّقه منزّل منزلة القسم، فتلقّي بما يتلقّى به القسم.

كَمَا اسْتَخْلَفَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني: بني إسرائيل استخلفهم في مصر و الشام بعد الجبابرة، و أورثهم أرضهم و أموالهم.

و قرأ أبو بكر بضمّ التاء و كسر اللام، و إذا ابتدأ ضمّ الألف. و الباقون بفتحهما. و إذا ابتدءوا كسروا الألف.

وَ لَيُمَكِّنَنَ ليثبتنّ لَهُمْ دِينَهُمُ الَّذِي ارْتَضى لَهُمْ دينهم الّذي أمرهم أن يتديّنوا به- و هو الإسلام- بالتقوية و التثبيت، و إظهاره على الدّين كلّه، كما

قال عليه السّلام: «زويت «1» لي الأرض فأريت مشارقها و مغاربها، و سيبلغ ملك أمّتي ما زوي لي منها».

و

روى المقداد عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «لا يبقى على الأرض بيت مدر و لا وبر، إلّا أدخله اللّه كلمة الإسلام، بعزّ عزيز أو ذلّ ذليل. إمّا أن يعزّهم اللّه فيجعلهم من أهلها، و إمّا أن يذلّهم فيدينون بها».

وَ لَيُبَدِّلَنَّهُمْ مِنْ بَعْدِ خَوْفِهِمْ من

الأعداء. و قرأ ابن كثير و أبو بكر بالتخفيف.

أَمْناً منهم. و ذلك

أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أصحابه مكثوا بمكّة عشر سنين خائفين، و لمّا هاجروا كانوا بالمدينة يصبحون في السلاح و يمسون فيه، حتّى قال رجل: ما يأتي علينا يوم نأمن فيه، و نضع السلاح. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا تغبرون «2» إلّا يسيرا حتّى يجلس الرجل منكم في الملأ العظيم محتبيا «3» ليس فيه حديدة. فأنجز اللّه وعده، و أظهر هم على جزيرة العرب، و افتتحوا بعد بلاد المشرق و المغرب، و مزّقوا ملك الأكاسرة، و ملكوا خزائنهم، و استولوا على الدنيا.

______________________________

(1) أي: جمعت و قبضت.

(2) أي: لا تبقون.

(3) أي: مشتملا بثوب و نحوه.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 531

و فيه دليل على صحّة نبوّة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، للإخبار عن الغيب على ما هو به.

و قيل: المراد الخوف من العذاب، و الأمن منه في الآخرة.

يَعْبُدُونَنِي حال من «الّذين» لتقييد الوعد بالثبات على التوحيد. أو استئناف ببيان المقتضي للاستخلاف و الأمن. كأنّ قائلا قال: ما لهم يستخلفون و يؤمنون؟ فقال: لا يُشْرِكُونَ بِي شَيْئاً حال من الواو في «يعبدونني» أي: غير مشركين.

روي عن عليّ بن الحسين عليه السّلام أنّه قال: «هم و اللّه شيعتنا أهل البيت، يفعل اللّه ذلك بهم على يدي رجل منّا. و هو مهديّ هذه الأمّة. و هو الّذي قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لو لم يبق من الدنيا إلّا يوم واحد لطوّل اللّه ذلك اليوم حتّى يلي رجل من عترتي، اسمه اسمي، و كنيته كنيتي، يملأ الأرض قسطا و عدلا كما ملئت

جورا و ظلما». و روي ذلك عن الباقر و الصادق عليهما السّلام.

قال النيشابوريّ في تفسيره: «قال أهل السنّة: في الآية دلالة على إمامة الخلفاء الراشدين، لأنّ قوله: «منكم» للتبعيض، و ذلك البعض يجب أن يكون من الحاضرين في وقت الخطاب. و معلوم أنّ الأئمّة الأربعة كانوا من أهل الإيمان و العمل الصّالح، و كانوا حاضرين وقتئذ، و قد حصل لهم الاستخلاف و الفتوح، فيجب أن يكونوا مرادين من الآية. و اعترض بأن قوله: «منكم» لم لا يجوز أن يكون للبيان؟ و لم لا يجوز أن يراد بالاستخلاف في الأرض هو إمكان التصرّف و التوطّن فيها، كما في حقّ بني إسرائيل؟

سلّمنا، لكن لم لا يجوز أن يراد به خلافة عليّ عليه السّلام، و الجمع للتعظيم؟ أو يراد هو و أولاده الأحد عشر بعده؟» «1».

وَ مَنْ كَفَرَ و من ارتدّ، أو كفر هذه النعم بَعْدَ ذلِكَ بعد الوعد، أو حصول الخلافة فَأُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ الكاملون في فسقهم، حيث ارتدّوا بعد وضوح مثل

______________________________

(1) تفسير غرائب القرآن 5: 209.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 532

هذه الآيات، أو كفروا تلك النعمة الجليلة.

وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ في سائر ما أمركم به. و هذا معطوف على «أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ». و ليس ببعيد أن يقع بين المعطوف و المعطوف عليه فاصل و إن طال، لأنّ حقّ المعطوف أن يكون غير المعطوف عليه. و كرّرت طاعة الرسول تأكيدا لوجوبها. و علّقت الرحمة بها بقوله: لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ كما علّق به الهدى.

لا تَحْسَبَنَ يا محمّد الَّذِينَ كَفَرُوا مُعْجِزِينَ معجزين للّه عن إدراكهم و إهلاكهم فِي الْأَرْضِ صلة «معجزين». و قرأ ابن عامر و حمزة بالياء. و فاعله ضمير راجع إلى

الرسول. أو فاعله الموصول بعده، فيكون «مُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ» مفعوليه. أو و لا يحسبونهم، فحذف المفعول الأوّل، لأنّ الفاعل و المفعولين لشي ء واحد، فاكتفي بذكر اثنين عن الثالث.

وَ مَأْواهُمُ النَّارُ عطف عليه من حيث المعنى. كأنّه قيل: الّذين كفروا ليسوا بمعجزين، و مأواهم النار، لأنّ المقصود من النهي عن الحسبان تحقيق نفي الإعجاز وَ لَبِئْسَ الْمَصِيرُ المأوى الّذي يصيرون إليه. و إنّما وصفها بذلك، و إن كانت حكمة و صوابا من فعل اللّه، لما ينال الصائر إليها من الشدائد و الآلام.

[سورة النور (24): الآيات 58 الى 60]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ وَ الَّذِينَ لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ ثَلاثَ مَرَّاتٍ مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ وَ حِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ مِنَ الظَّهِيرَةِ وَ مِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَ لا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَّ طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (58) وَ إِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (59) وَ الْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ اللاَّتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَّ غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ خَيْرٌ لَهُنَّ وَ اللَّهُ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (60)

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 533

ثمّ تمّم الأحكام السالفة بعد الفراغ عن الآيات الدالّة على وجوب الطاعة فيما سلف من الأحكام و غيرها، و الوعد عليها، و الوعيد على الإعراض عنها، فقال:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِيَسْتَأْذِنْكُمُ قال القاضي «1»: هذا الخطاب للرجال ظاهرا، و لكنّه من باب التغليب، فيدخل فيه النساء. و قال الرازي: «الحكم يثبت للنساء بقياس جليّ، لأنّهنّ في الحفظ أشدّ حالا من الرجال» «2».

الَّذِينَ مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ أي: عبيدكم

و إماؤكم، غلّب فيه العبيد. قيل:

أراد العبيد خاصّة. و هو المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.

و

روي: أنّ غلام أسماء بنت أبي مرشد دخل عليها في وقت كرهت دخوله، فأتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالت: إنّ خدمنا و غلماننا يدخلون علينا في حال نكرهها. فنزلت.

و

قيل: أرسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مدلج بن عمرو الأنصاري- و كان غلاما- وقت الظهيرة ليدعوا عمر، فدخل و هو نائم و قد انكشف عنه ثوبه. فقال عمر: لوددت أنّ اللّه عزّ و جلّ نهى آباءنا و أبناءنا و خدمنا، أن لا يدخلوا هذه الساعات علينا إلّا بإذن. ثمّ انطلق معه إلى النبيّ، فوجده قد أنزلت عليه هذه الآية.

______________________________

(1) أنوار التنزيل 4: 86.

(2) التفسير الكبير 24: 28.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 534

وَ الَّذِينَ و الصبيان الّذين لَمْ يَبْلُغُوا الْحُلُمَ مِنْكُمْ من الأحرار. فعبّر عن البلوغ بالاحتلام، لأنّه أقوى دلائله و أكثرها.

ثَلاثَ مَرَّاتٍ في اليوم و الليلة. مرّة مِنْ قَبْلِ صَلاةِ الْفَجْرِ لأنّه وقت القيام من المضاجع، و طرح ثياب النوم، و لبس ثياب اليقظة. و محلّه النصب بدلا من «ثلاث مرّات». أو الرفع خبرا لمحذوف، أي: هي من قبل صلاة الفجر. وَ حِينَ تَضَعُونَ ثِيابَكُمْ أي: ثيابكم لليقظة، للقيلولة مِنَ الظَّهِيرَةِ بيان للحين وَ مِنْ بَعْدِ صَلاةِ الْعِشاءِ لأنّه وقت التجرّد عن لباس اليقظة و الالتحاف باللحاف.

ثَلاثُ عَوْراتٍ لَكُمْ أي: هي ثلاث أوقات يختلّ فيها تستّركم و تحفّظكم. و أصل العورة: الخلل. و منها: أعور المكان، أي: اختلّ مكانه. و رجل أعور: إذا اختلّت عينه.

و قرأ أبو بكر و حمزة و الكسائي: ثلاث بالنصب، بدلا من «ثلاث مرّات».

ثمّ عذّرهم

في ترك الاستئذان وراء هذه الأوقات، فقال: لَيْسَ عَلَيْكُمْ وَ لا عَلَيْهِمْ جُناحٌ بَعْدَهُنَ بعد هذه الأوقات في ترك الاستئذان.

ثمّ استأنف الكلام لبيان وجه العذر، فقال: طَوَّافُونَ عَلَيْكُمْ أي: هم طوّافون.

يعني: أنّ بكم و بهم حاجة إلى المخالطة و المداخلة. و لمّا لم يكن الطواف مخصوصا بأحد الفريقين، بل هو شامل لهما، لم يكتف بقوله: «طوّافون» فقال بدلا منه: بَعْضُكُمْ عَلى بَعْضٍ بعضكم طائف على بعض، أو بعضكم يطوف على بعض. فحذف لدلالة «طوّافون» عليه.

كَذلِكَ مثل ذلك التبيين يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ أي: الأحكام وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بأحوالكم حَكِيمٌ فيما شرع لكم.

و اعلم أنّ الآية في الصبيان و المماليك الداخلين على أهل بيتهم و مواليهم. ثمّ قال في الأحرار البالغين: وَ إِذا بَلَغَ الْأَطْفالُ مِنْكُمُ الْحُلُمَ أي: من الأحرار فَلْيَسْتَأْذِنُوا كَمَا اسْتَأْذَنَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الأحرار الّذين بلغوا من قبلهم في الأوقات كلّها.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 535

و المعنى: أنّه يجوز دخول الأطفال على آبائهم و أمّهاتهم بدون الاستئذان، إلّا في الأحوال الثلاث، فإذا خرجوا من حدّ الطفوليّة فليستأذنوا في جميع الأوقات كالرجال الكبار.

و قال في كنز العرفان: «إنّ المراد الأطفال الأحرار، لأنّ بلوغ الأحرار يوجب رفع الحكم المذكور في تخصيص الاستئذان بالأوقات الثلاثة. و أمّا بلوغ الأرقّاء، فالحكم باق كما كان في التخصيص، لأجل بقاء السبب المذكور» «1».

كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمْ آياتِهِ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ كرّره تأكيدا و مبالغة في الأمر بالاستئذان.

و اعلم أنّ بعضهم ظنّ أنّ الآية منسوخة. و ليست كذلك. قال ابن جبير: يقولون هي منسوخة، لا و اللّه ما هي منسوخة، لكنّ الناس تهاونوا بها. و قيل: للشعبي: إنّ الناس لا يعملون بها. فقال: اللّه المستعان.

و أنا أقول: يمكن أن يقال:

إنّ ثبوت هذا الحكم في الأوقات الثلاثة المذكورة- كما دلّ عليه سبب نزول الآية- إنّما هو بسبب مظنّة انكشاف العورة، و إذا انعدم سببه- كما يكون في أكثر بلادنا- فينتفي هذا الحكم، لانتفاء المسبّب بانتفاء سببه.

ثمّ بيّن حكما آخر من هذا الباب، فقال: وَ الْقَواعِدُ مِنَ النِّساءِ العجائز اللّاتي قعدن عن الحيض و الحمل اللَّاتِي لا يَرْجُونَ نِكاحاً لا يطمعن فيه لكبرهنّ فَلَيْسَ عَلَيْهِنَّ جُناحٌ أَنْ يَضَعْنَ ثِيابَهُنَ أي: الثياب الظاهرة، كالملحفة و الجلباب الّذي فوق الخمار. و الفاء فيه لأنّ اللام في القواعد بمعنى اللّاتي، أو لوصفها بها.

غَيْرَ مُتَبَرِّجاتٍ بِزِينَةٍ غير مظهرات زينة ممّا أمرن بإخفائه في قوله تعالى:

وَ لا يُبْدِينَ زِينَتَهُنَّ إِلَّا لِبُعُولَتِهِنَ «2» بل قاصدات به التخفيف عن أنفسهنّ. و أصل

______________________________

(1) كنز العرفان 2: 225- 226.

(2) النور: 31.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 536

التبرّج التكلّف في إظهار ما يجب إخفاؤه، من قولهم: سفينة بارجة لا غطاء عليها.

و البرج: سعة العين، بحيث يرى بياضها محيطا بسوادها كلّه لا يغيب منه شي ء، إلّا أنّه خصّ بكشف المرأة زينتها و محاسنها للرجال.

و لمّا ذكر رفع الحظر الّذي يستلزم الجواز، عقّبه باستحباب التستّر بالثياب عليهنّ، بعثا منه على اختيار أفضل الأعمال و أحسنها، فقال: وَ أَنْ يَسْتَعْفِفْنَ و أن يطلبن العفّة من وضع الثياب خَيْرٌ لَهُنَ من الوضع، لأنّه أبعد من التهمة وَ اللَّهُ سَمِيعٌ لمقالتهنّ للرجال عَلِيمٌ بمقصودهنّ.

[سورة النور (24): آية 61]

لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما

مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ أَوْ صَدِيقِكُمْ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ مُبارَكَةً طَيِّبَةً كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (61)

روي: أنّ المؤمنين كانوا يذهبون بالضعفاء و ذوي العاهات إلى بيوت أزواجهم و أولادهم، و إلى بيوت أقربائهم و أصدقائهم، فيطعمونهم منها، فخافوا أن يلحقهم فيه حرج، فنزلت:

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 537

لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ لا عَلى أَنْفُسِكُمْ أَنْ تَأْكُلُوا مِنْ بُيُوتِكُمْ من البيوت الّتي فيها أزواجكم و أولادكم، فإنّ بيت الولد كبيته،

لقوله عليه السّلام: «أنت و مالك لأبيك».

و

قوله: «إنّ أطيب ما يأكل المرء من كسبه، و إنّ ولده من كسبه».

أَوْ بُيُوتِ آبائِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أُمَّهاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ إِخْوانِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخَواتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَعْمامِكُمْ أَوْ بُيُوتِ عَمَّاتِكُمْ أَوْ بُيُوتِ أَخْوالِكُمْ أَوْ بُيُوتِ خالاتِكُمْ أَوْ ما مَلَكْتُمْ مَفاتِحَهُ و هو ما يكون تحت أيديكم و تصرّفكم، من ضيعة أو ماشية، و كالة أو حفظا.

و قيل: بيوت المماليك. و ليس بشي ء، لأنّ العبد لا يملك، فماله مال السيّد. و المفاتح جمع مفتح، و هو ما يفتح به.

أَوْ صَدِيقِكُمْ أو بيوت صديقكم. و هو يقع على الواحد و الجمع، كالخليط.

قيل: إنّ ذوي العاهات كانوا يتحرّجون عن مؤاكلة الأصحّاء حذرا من استقذارهم، و قوم آخرون لا يأكلون من بيت من يدفع إليهم المفتاح، فنفى اللّه الحرج عنهم بهذه الآية.

و قيل: كانوا يخرجون إلى الغزو و يخلّفون الضعفاء في بيوتهم، و يدفعون إليهم المفاتيح، و يأذنون لهم أن يأكلوا من بيوتهم، فكانوا يتحرّجون، فبهذه الآية رفع التحرّج.

و هذا كلّه إنّما يكون إذا علم رضا صاحب البيت بإذن،

أو قرينة مقاليّة أو حاليّة، أو عدم ظهور كراهية منه، و لذلك خصّص هؤلاء، فإنّه يعتاد التبسّط بينهم. و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا يحلّ مال امرئ مسلم إلّا بطيب نفس منه». و هو مرويّ أيضا عن أئمّتنا عليهم السّلام.

و روي: أنّ الرجل من الصحابة كان يدخل دار صديقه و هو غائب، فيسأل جاريته كيسه، فيأخذ منه ما شاء، فإذا حضر مولاها فأخبرته أعتقها سرورا بذلك.

و

روي عن الصادق عليه السّلام: «أ يدخل أحدكم يده إلى كم صاحبه أو جيبه فيأخذ منه؟

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 538

قالوا: لا. قال: فلستم بأصدقاء».

و الأصل أنّه إذا تأكّدت الصداقة علم الرضا بالأكل، فيقوم العلم مقام الإذن.

و عن ابن عبّاس: أنّ الصداقة أقوى من النسب، فإنّ أهل النار لا يستغيثون بالآباء و الأمّهات، بل بالأصدقاء، فيقولون: فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ «1».

قيل: إذا كان شرط الإباحة عدم كراهة المالك، فأيّ فرق بين بيوت المذكورين و بين بيوت غيرهم؟

أجيب: الفرق أنّ في بيوت غير المذكورين يشترط العلم بالرضا، و أمّا بيوت الأقارب المذكورين فيكفي عدم العلم بالكراهة. و ما

روي عن أئمّتنا عليهم السّلام أنّهم قالوا: لا بأس بالأكل لهؤلاء من بيوت من ذكره اللّه تعالى بغير إذنهم قدر حاجتهم من غير إسراف، مشروط بالشرط المذكور.

و قيل: إنّهم كانوا يتحرّجون من المؤاكلة مع ذوي العاهات، و يقولون: إنّ الأعمى لا يبصر، فنأكل جيّد الطعام دونه، و الأعرج لا يتمكّن من الجلوس، و المريض يضعف عن الأكل. فنزلت: لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أَنْ تَأْكُلُوا جَمِيعاً أَوْ أَشْتاتاً مجتمعين أو متفرّقين.

قيل: نزلت في بني ليث بن عمرو من كنانة، كانوا يتحرّجون أن يأكل الرجل وحده. أو في قوم من

الأنصار، إذا نزل بهم ضيف لا يأكلون إلّا معه. أو في قوم تحرّجوا عن الاجتماع على الطعام و المؤاكلة، لما عسى أن يؤدّي إلى الكراهة من قبلهم. و قيل:

كان ذلك في أوّل الإسلام فنسخ.

فَإِذا دَخَلْتُمْ بُيُوتاً من هذه البيوت فَسَلِّمُوا عَلى أَنْفُسِكُمْ على أهلها الّذين هم منكم دينا و قرابة تَحِيَّةً مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثابتة بأمره، مشروعة من لدنه. و انتصابها بالمصدر، لأنّها بمعنى التسليم، كما تقول: حمدت شكرا. مُبارَكَةً لأنّها دعوة مؤمن

______________________________

(1) الشعراء: 100- 101.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 539

لمؤمن، يرجى بها من اللّه زيادة الخير و الثواب و طيب الرزق طَيِّبَةً تطيب بها نفس المستمع.

و

عن أنس أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «متى لقيت من أمّتي أحدا فسلّم عليه يطل عمرك، و إذا دخلت بيتك فسلّم عليهم يكثر خير بيتك».

كَذلِكَ يُبَيِّنُ اللَّهُ لَكُمُ الْآياتِ كرّره ثلاثا لمزيد التأكيد، و تفخيم الأحكام المختتمة به. و فصّل الأوّلين «1» بما هو المقتضي لذلك، و هذا بما هو المقصود منه، فقال:

لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ الحقّ و الخير في الأمور.

[سورة النور (24): آية 62]

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ لَمْ يَذْهَبُوا حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (62)

و لمّا تقدّم ذكر المعاشرة مع الأقرباء و المسلمين، بيّن سبحانه كيفيّة المعاشرة مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ أي: ليس الكاملون في الإيمان إلّا الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ من صميم قلوبهم.

وَ إِذا كانُوا مَعَهُ عَلى أَمْرٍ جامِعٍ أي: أمر يجمع له الناس، و يقتضي اجتماعهم

عليه، كالحروب و المشاورة في الأمور المهامّ، و غير ذلك. و وصف الأمر بالجامع على سبيل المجاز مبالغة. لَمْ يَذْهَبُوا لم ينصرفوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

______________________________

(1) النور: 58- 59.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 540

حَتَّى يَسْتَأْذِنُوهُ يستأذنوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فيأذن لهم، فإنّ ذلك كالمصداق لصحّة كمال الإيمان، و المميّز للمخلص فيه عن المنافق، فإنّ عادتهم التسلّل و الفرار.

و فيه تعظيم الجرم في الذهاب عن مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بغير إذنه. و لذلك جعل ترك ذهابهم حتّى يستأذنوه ثالث الإيمان باللّه و الإيمان برسوله، و جعلهما كالتشبيب «1» له و البساط لذكره، مع تصدير الجملة ب «إنّما»، و إيقاع المؤمنين مبتدأ مخبرا عنه بموصول أحاطت صلته بذكر المؤمنين.

ثمّ عقّبه بما يزيده توكيدا و تشديدا، حيث أعاده على أسلوب آخر أبلغ من الأوّل بقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَأْذِنُونَكَ أُولئِكَ الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ فإنّه يفيد أنّ المستأذن مؤمن لا محالة، و أنّ الذاهب بغير إذن ليس كذلك.

فَإِذَا اسْتَأْذَنُوكَ لِبَعْضِ شَأْنِهِمْ لما يعرض لهم من المهامّ فَأْذَنْ لِمَنْ شِئْتَ مِنْهُمْ و فيه أيضا مبالغة و تضييق للأمر، حيث فوّض الأمر إلى رسوله، و لم يأمره بالإذن.

وَ اسْتَغْفِرْ لَهُمُ اللَّهَ بعد الإذن، فإنّ الاستئذان و لو لعذر قصور، لأنّه تقديم لأمر الدنيا على أمر الدين إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لفرطات العباد رَحِيمٌ بالتيسير عليهم.

و اعلم أنّ الأمر الجامع لمّا كان خطبا جليلا، لا بدّ للرسول فيه من ذوي رأي و قوّة، يظاهرونه عليه و يعاونونه، و يستضي ء بآرائهم و معارفهم و تجاربهم في كفايته. فمفارقة أحدهم في مثل تلك الحال ممّا يشقّ

على قلبه، و يشتّت عليه رأيه. فمن ثمّ غلّظ عليهم، و ضيّق عليهم الأمر في الاستئذان، مع العذر المبسوط، و مساس الحاجة إليه، و أكّد زيادة تأكيد في النهي عن الذهاب، حيث جعل عدم الذهاب ثالث الإيمانين كما ذكر. ثمّ لم يأمره بالإذن، بل جعله مخيّرا بين المعذورين. ثمّ أمر رسوله بالاستغفار، و ذكر المغفرة للمعذورين الذاهبين، الدالّ على أنّهم مع الاستئذان بالذهاب كأنّهم مذنبون. و هذا الحكم

______________________________

(1) أي: الابتداء به. من: شبّ الكتاب: ابتدأ به.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 541

ثابت لمن قام مقامه من الأئمّة الهادين صلّى اللّه عليهم أجمعين.

[سورة النور (24): الآيات 63 الى 64]

لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ لِواذاً فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (63) أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ وَ يَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (64)

ثمّ عظّم و وقّر رسوله بين عباده، و لينتهوا عن رجوعهم عن الأمر الجامع بغير إذنه، فقال: لا تَجْعَلُوا دُعاءَ الرَّسُولِ بَيْنَكُمْ كَدُعاءِ بَعْضِكُمْ بَعْضاً أي: إذا احتاج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى اجتماعكم عنده لأمر فدعاكم، فلا تفرّقوا عنه إلّا بإذنه. و لا تقيسوا دعاءه إيّاكم على دعاء بعضكم بعضا، و في جواز الإعراض، و المساهلة في الإجابة، و الرجوع عن المجمع بغير إذنه، فإنّ المبادرة إلى إجابته واجبة، و المراجعة بغير إذنه محرّمة.

و قيل: معناه: لا تجعلوا نداءه و تسميته كنداء بعضكم بعضا باسمه، و رفع الصوت به، و النداء وراء الحجرات، و لكن بلقبه المعظّم له، مثل: يا نبيّ اللّه و يا رسول

اللّه، مع قصد التوقير و التواضع، و خفض الصوت. أو لا تجعلوا دعاءه ربّه كدعاء صغير كم كبير كم، يجيبه مرّة و يردّه اخرى، فإنّ دعاءه مستجاب. أو لا تجعلوا دعاءه عليكم كدعاء بعضكم على بعض، فلا تبالوا بسخطه، فإنّ دعاءه عليكم موجب السخط و الغضب.

قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الَّذِينَ يَتَسَلَّلُونَ مِنْكُمْ أي: ينسلون و يخرجون قليلا قليلا من الجماعة. و نظيره: تدرّج و تدخّل. لِواذاً ملاوذة. و هو أن يلوذ هذا بذاك و ذاك بهذا.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 542

يعني: ينسلون عن الجماعة في الخفية على سبيل الملاوذة و استتار بعضهم ببعض حتّى يخرج. أو يلوذ بمن يؤذن له فينطلق معه، كأنّه تابعه. و انتصابه على الحال، أي:

ملاوذين.

قيل: نزلت في حفر الخندق، و كان قوم يتسلّلون بغير إذن. و قيل: كانوا يتسلّلون عن الجهاد و يرجعون عنه. و قيل: عن خطبة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم الجمعة.

ثمّ حذّرهم عن مخالفة أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: فَلْيَحْذَرِ الَّذِينَ يُخالِفُونَ عَنْ أَمْرِهِ أي: يخالفون أمره بترك مقتضاه، و يذهبون سمتا خلاف سمته. و هم المنافقون.

و «عن» لتضمّنه معنى الإعراض. أو يصدّون المؤمنين عن أمره. من: خالفه عن الأمر إذا صدّ عنه. و الأصل: يخالفون المؤمنين صادّين عن أمره. و حذف المفعول، لأنّ المقصود بيان المخالف و المخالف عنه. و الضمير للّه، فإنّ الأمر له في الحقيقة، أو للرسول، فإنّه المقصود بالذكر.

أَنْ تُصِيبَهُمْ فِتْنَةٌ محنة و بليّة في الدنيا أَوْ يُصِيبَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة. عن ابن عبّاس: الفتنة القتل. و عن عطاء: هي زلازل و أهوال. و

عن الصادق عليه السّلام: «يسلّط عليهم سلطان جائر».

و استدلّ به على أنّ

الأمر للوجوب، فإنّه يدلّ على أنّ ترك مقتضى الأمر مقتض لأحد العذابين، فإنّ الأمر بالحذر عنه يدلّ على خشية المشروط بقيام المقتضي له، و ذلك يستلزم الوجوب.

أَلا إِنَّ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قَدْ يَعْلَمُ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ أيّها المكلّفون من المخالفة و الموافقة، و النفاق و الإخلاص، و ذكر «قد» ليؤكّد علمه بما هم عليه من المخالفة عن الدين و النفاق. و مرجع توكيد العلم إلى توكيد الوعيد. و ذلك أنّ «قد» إذا دخلت على المضارع كانت بمعنى «ربما» فوافقت «ربما» في خروجها إلى معنى التكثير.

و المعنى: أنّ جميع ما في السماوات و الأرض مختصّ به خلقا و ملكا و علما،

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 543

فكيف تخفى عليه أحوال المنافقين، و إن كانوا يجتهدون في سترها عن العيون و إخفائها؟! وَ يَوْمَ يُرْجَعُونَ إِلَيْهِ يوم يرجع المنافقون إليه للجزاء. و يجوز أن يكون الخطاب أيضا مخصوصا بهم على طريق الالتفات. و قرأ يعقوب بفتح الياء و كسر الجيم.

فَيُنَبِّئُهُمْ يوم القيامة بِما عَمِلُوا بما أبطنوا من سوء أعمالهم، بالتوبيخ و المجازاة عليه وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ لا تخفى عليه خافية.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 545

(25) سورة الفرقان

اشارة

مكّيّة. و هي سبع و سبعون آية بلا خلاف.

في حديث أبيّ بن كعب قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من قرأ سورة الفرقان بعث يوم القيامة و هو مؤمن بأنّ الساعة آتية لا ريب فيها، و أنّ اللّه يبعث من في القبور، و دخل الجنّة بغير حساب».

و

روى إسحاق بن عمّار، عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام قال: «يا ابن عمّار لا تدع قراءة تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ فإنّ من قرأها كلّ ليلة لم

يعذّبه اللّه أبدا و لم يحاسبه، و كان منزلته في الفردوس الأعلى».

و اعلم أنّ هذه السورة متّصلة بسورة النور اتّصال النظير بالنظير، فإن مختتم تلك السورة تضمّن أنّ للّه ما في السماوات و الأرض، و أنّه بكلّ شي ء عليم، و مفتتح هذه السورة أنّ له ملك السماوات و الأرض.

[سورة الفرقان (25): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ لِيَكُونَ لِلْعالَمِينَ نَذِيراً (1) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً (2)

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 546

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* تَبارَكَ الَّذِي نَزَّلَ الْفُرْقانَ عَلى عَبْدِهِ تكاثر خيره.

من البركة، و هي كثرة الخير. و منها: تبارك اللّه، أي: عظمت خيراته و كثرت. أو تزايد على كلّ شي ء، و تعالى عنه في صفاته و أفعاله، فإنّ البركة تتضمّن معنى الزيادة. و ترتيبه على إنزاله الفرقان، لما فيه من كثرة الخير و تزايده، أو لدلالته على تعاليه. و قيل: دام و ثبت.

من بروك الطير على الماء. و منه: البركة، لدوام الماء فيها. و هو لا يتصرّف فيه، و لا يستعمل إلّا للّه.

و الفرقان مصدر: فرق بين الشيئين، إذا فصل بينهما. سمّي به القرآن، لفصله بين الحقّ و الباطل بتقريره، أو المحقّ و المبطل بإعجازه. أو لكونه مفروقا، مفصولا بعضه عن بعض في الإنزال، كقوله: وَ قُرْآناً فَرَقْناهُ لِتَقْرَأَهُ عَلَى النَّاسِ عَلى مُكْثٍ وَ نَزَّلْناهُ تَنْزِيلًا «1».

لِيَكُونَ العبد، أو الفرقان لِلْعالَمِينَ نَذِيراً للجنّ و الإنس منذرا. أو إنذارا، كالنكير بمعنى الإنكار.

قال النيشابوري: «قالت المعتزلة: لو لم يرد الإيمان من الكلّ لم يكن الرسول نذيرا للكلّ. و عورض بنحو قوله: وَ لَقَدْ ذَرَأْنا لِجَهَنَّمَ «2».

«3» انتهى كلامه.

أقول: إنّما تتمّ المعارضة إذا كانت اللام للتعليل، و لم لا يجوز أن تكون للمال؟ كقوله: فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً «4». و هذا البحث ممّا سنح للطبيعة، و سمحت به القريحة أو ان الكتابة، و أرجو أن يكون صوابا إن شاء اللّه العزيز.

______________________________

(1) الإسراء: 106.

(2) الأعراف: 179.

(3) تفسير غرائب القرآن 5: 221.

(4) القصص: 8.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 547

الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ بدل من الأوّل. و إبدال التعليل للمبدل منه لا يستلزم الفصل بينه و بين بدله، لأنّه من تمام المبدل منه، فلا يكون كلاما أجنبيّا قادحا، لإيراد البدل بعده من معلّله. أو مدح مرفوع أو منصوب.

وَ لَمْ يَتَّخِذْ وَلَداً كزعم النصارى وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ شَرِيكٌ فِي الْمُلْكِ كقول الثنويّة.

و لمّا أثبت لذاته الملك مطلقا، و نفى ما يقوم مقامه و ما يقاومه فيه، نبّه على ما يدلّ عليه، فقال:

وَ خَلَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ أحداثه إحداثا مراعى فيه التقدير حسب إرادته، كخلقة الإنسان من موادّ مخصوصة، و صور و أشكال معيّنة فَقَدَّرَهُ تَقْدِيراً فهيّأه لما يصلح له و يراد منه من الخصائص و الأفعال، كتهيئة الإنسان للإدراك و الفهم، و النظر و التدبير، و استنباط الصنائع المتنوّعة، و مزاولة الأعمال المختلفة، إلى غير ذلك. و كذلك كلّ حيوان و جماد جاء به على الجبلّة المستوية المقدّرة بأمثله الحكمة و التدبير، فقدّره لأمر مّا و مصلحة، مطابقا لما قدّر له، غير متجاف عنه.

أو فقدّره للبقاء إلى أجل مسمّى. و قد يطلق الخلق لمجرّد الإيجاد و الإحداث، من غير نظر إلى معنى التقدير. فيكون المعنى: و أوجد كلّ شي ء فقدّره في إيجاده حتّى لا يكون متفاوتا.

و تفسير الخلق و التقدير

بهذه الوجوه جواب من قال: إنّ الخلق في معنى التقدير، فيصير المعنى: قدّر كلّ شي ء فقدّره.

[سورة الفرقان (25): الآيات 3 الى 6]

وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ وَ لا يَمْلِكُونَ لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا وَ لا نَفْعاً وَ لا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لا حَياةً وَ لا نُشُوراً (3) وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا إِلاَّ إِفْكٌ افْتَراهُ وَ أَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً وَ زُوراً (4) وَ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ اكْتَتَبَها فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً (5) قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (6)

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 548

و لمّا تضمّن الكلام إثبات التوحيد و النبوّة، أخذ في الرّد على المخالفين فيهما، فقال: وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ آلِهَةً من الأوثان لا يَخْلُقُونَ شَيْئاً وَ هُمْ يُخْلَقُونَ لأنّ عبدتهم ينحتونهم و يصوّرونهم وَ لا يَمْلِكُونَ و لا يستطيعون لِأَنْفُسِهِمْ ضَرًّا دفع ضرّ عنها وَ لا نَفْعاً و لا جلب نفع وَ لا يَمْلِكُونَ مَوْتاً وَ لا حَياةً وَ لا نُشُوراً أي: لا يقدرون على إماتة أحد و إحيائه أوّلا، و لا بعثه ثانيا.

و الحاصل: أنّهم آثروا على عبادة اللّه عبادة آلهة، لا عجز أبين من عجزهم، فإنّهم لا يقدرون على شي ء من أفعال العباد، فضلا عن أفعال اللّه سبحانه. و من كان كذلك فبمعزل عن الألوهيّة، لعرائه عن لوازمها، و اتّصافه بما ينافيها. فكيف يعبدون من لا يقدر على شي ء من ذلك، و يتركون عبادة ربّهم الّذي يملك ذلك كلّه؟! ثمّ أخبر عن تكذيبهم بالقرآن، فقال: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ هَذا هذا القرآن إِلَّا إِفْكٌ كذب مصروف عن وجهه افْتَراهُ اختلقه وَ أَعانَهُ عَلَيْهِ قَوْمٌ آخَرُونَ أي: اليهود،

فإنّهم يلقون إليه أخبار الأمم، و هو يعبّر عنها بعبارته. و قيل: جبر مولى عامر، و يسار غلام العلاء بن الحضرمي، و عداس مولى حويطب بن عبد العزّى، قاله النضر بن الحارث بن عبد الدار. و قيل: أبو فكيهة الرومي. و قد سبق ذلك في قوله تعالى: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ «1».

______________________________

(1) النحل: 103.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 549

فَقَدْ جاؤُ ظُلْماً قولا متجاوزا عن الحقّ، بجعل الكلام الّذي أعجز بفصاحته جميع فصحاء العرب، إفكا مختلقا متلقّفا من اليهود أو الروميّ العجمي. وَ زُوراً بنسبة ما هو بري ء منه إليه. و «أتى» و «جاء» يستعملان في معنى: فعل، فيعدّيان تعديته.

و لمّا تقدّم التحدّي و عجزهم عن الإتيان بمثله، اكتفى اللّه سبحانه ها هنا بهذا القدر تنبيها على ذلك.

وَ قالُوا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ ما سطره المتقدّمون، من نحو أحاديث رستم و إسفنديار. جمع أسطار، أو أسطورة كأحدوثة. اكْتَتَبَها كتبها لنفسه و أخذها، فإنّ «افتعل» قد يكون للاتّخاذ، نحو: اشترى. و مثله: استكبّ الماء و اصطبّه، إذا سكبه و صبّه لنفسه و أخذه. أو استكتبها. فَهِيَ تُمْلى عَلَيْهِ ليحفظها، فإنّه أمّي لا يقدر أن يكتب بُكْرَةً وَ أَصِيلًا طرفي النهار، أي: دائما. أو في الخفية قبل أن ينتشر الناس، و حين يأوون إلى مساكنهم.

قُلْ أَنْزَلَهُ الَّذِي يَعْلَمُ السِّرَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لأنّه أعجزكم عن آخر كم بفصاحته، و تضمّنه إخبارا عن مغيّبات مستقبلة، و أشياء مكنونة لا يعلمها إلّا من هو يعلم ما تسرّونه أنتم من الكيد لرسوله، مع علمكم أنّ ما تقولونه باطل و زور. و كذلك يعلم باطن أمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و براءته ممّا تبهتونه به. و هو يجازيكم و يجازيه على

ما علم منكم و علم منه.

إِنَّهُ كانَ غَفُوراً رَحِيماً فلذلك لا يعجل في عقوبتكم على ما تقولون، مع كمال قدرته عليها، و استحقاقكم أن يصبّ عليكم العذاب صبّا، لإسنادكم كلامه الفائق على كلّ كلام لفظا و معنى إلى أساطير الأوّلين.

[سورة الفرقان (25): الآيات 7 الى 10]

وَ قالُوا ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً (7) أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها وَ قالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلاَّ رَجُلاً مَسْحُوراً (8) انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلاً (9) تَبارَكَ الَّذِي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ خَيْراً مِنْ ذلِكَ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ يَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً (10)

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 550

زبدة التفاسير ج 4 595

وَ قالُوا و قال النضر بن الحارث و عبد اللّه بن أبيّ و نوفل بن خويلد و من تابعهم استهانة و تهكّما و استهزاء: ما لِهذَا الرَّسُولِ الّذي يزعم الرسالة يَأْكُلُ الطَّعامَ كما نأكل وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ لطلب المعاش كما نمشي، أي: إن صحّ دعواه فما باله لم يخالف حاله حالنا؟ يعنون أنّه كان يجب أن يكون ملكا مستغنيا عن الأكل و التعيّش.

و ذلك لعمههم و قصور نظرهم على المحسوسات، فإنّ تميّز الرسول عمّا عداه ليس بأمور جسمانيّة، و إنّما هو بأحوال نفسانيّة، كما أشار إليه بقوله: إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ «1».

ثمّ تحوّلوا عن اقتراحهم أن يكون ملكا إلى اقتراح أن يكون إنسانا معه ملك، فقالوا: لَوْ لا أُنْزِلَ إِلَيْهِ مَلَكٌ فَيَكُونَ مَعَهُ نَذِيراً حتّى يتساندا في الإنذار و التخويف، و لنعلم صدقه بتصديق الملك.

ثمّ تنزّلوا عنه فقالوا: أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ

أي: إن لم يكن مرفودا بملك، فليكن مرفودا بكنز يلقى إليه من السماء فيستظهر به، و لا يحتاج إلى تحصيل المعاش.

ثمّ تنزّلوا عنه أيضا فقالوا: أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ يَأْكُلُ مِنْها أي: إن لم يلق إليه كنز فلا أقلّ من أن يكون رجلا له بستان يأكل منه و يرتزق من ريعه، فيستغني عن طلب المعيشة، كما للدهاقين. و قرأ حمزة و الكسائي بالنون، و الضمير للكفّار، أي: نأكل معه من ذلك البستان، فننتفع به في دنيانا و معاشنا.

وَ قالَ الظَّالِمُونَ وضع «الظّالمون» موضع ضمير هم تسجيلا عليهم بالظلم فيما

______________________________

(1) الكهف: 110.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 551

قالوه إِنْ تَتَّبِعُونَ ما تتّبعون إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً سحر فغلب على عقله. و قيل: ذا سحر، و هو الرّئة، أي: بشرا لا ملكا، لأنّ الرئة مختصّة بجنس البشر، أي: الحيوان.

انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ أي: قالوا فيك تلك الأقوال الشاذّة، و اخترعوا لك الأحوال النادرة، من نبوّة مشتركة بين إنسان و ملك، و إلقاء كنز عليك من السّماء، و غير ذلك فَضَلُّوا عن الطريق الموصل إلى معرفة خواصّ النبيّ، و المائز بينه و بين المتنبّئ، فبقوا متحيّرين لا يجدون قولا يستقرّون عليه فَلا يَسْتَطِيعُونَ سَبِيلًا إلى القدح في نبوّتك أو إلى الرشد و الهدى.

تَبارَكَ الَّذِي تكاثر خير الّذي إِنْ شاءَ جَعَلَ لَكَ وهب لك في الدنيا خَيْراً مِنْ ذلِكَ ممّا قالوا، و إنّما أخّره إلى الآخرة لأنّه خير و أبقى جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ بدل من «خيرا» وَ يَجْعَلْ لَكَ قُصُوراً عطف على محلّ الجزاء.

و قرأ ابن كثير و ابن عامر و أبو بكر بالرفع، لأنّ الشرط إذا كان ماضيا جاز في جزائه الجزم و الرفع. و يجوز أن يكون

استئنافا بوعد ما يكون له في الآخرة.

[سورة الفرقان (25): الآيات 11 الى 16]

بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ وَ أَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً (11) إِذا رَأَتْهُمْ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً وَ زَفِيراً (12) وَ إِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً ضَيِّقاً مُقَرَّنِينَ دَعَوْا هُنالِكَ ثُبُوراً (13) لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً وَ ادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً (14) قُلْ أَ ذلِكَ خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ كانَتْ لَهُمْ جَزاءً وَ مَصِيراً (15)

لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ خالِدِينَ كانَ عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلاً (16)

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 552

بَلْ كَذَّبُوا بِالسَّاعَةِ عطف على ما حكى عنهم، أي: بل أتوا بأعجب من ذلك كلّه، و هو تكذيبهم بالساعة، فلا تعجب من تكذيبهم إيّاك. و يجوز أن يتّصل بما يليه، كأنّه قال: بل كذّبوا بالساعة فكيف يلتفتون إلى هذا الجواب؟ و كيف يصدّقون بتعجيل مثل ما وعدك في الآخرة و هم لا يؤمنون بالآخرة؟ أو لأجل تكذيبهم الساعة قصرت أنظارهم على الحطام الدنيويّة، و ظنّوا أنّ الكرامة إنّما هي بالمال، فطعنوا فيك لفقرك. أو فلذلك كذّبوك، لا لما تمحّلوا من المطاعن الفاسدة.

وَ أَعْتَدْنا لِمَنْ كَذَّبَ بِالسَّاعَةِ سَعِيراً نارا شديدة الاستعار. و قيل: هو اسم لجهنّم. فيكون صرفه باعتبار المكان.

ثمّ وصف ذلك السعير فقال: إِذا رَأَتْهُمْ إذ كانت السعير بمرأى منهم، كقولهم:

دورهم تترى، أي: تتناظر. و

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا تراءى نارهما»

أي: لا تتقارب نار المسلمين و الكافرين بحيث تكون إحداهما بمرأى من الاخرى، على المجاز. و التأنيث لأنّه بمعنى النار أو جهنّم.

مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ هو أقصى ما يمكن أن يرى منه.

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «من مسيرة سنة».

و قال السدّي و الكلبي: من مسيرة مائة سنة. و حقيقة المعنى: أنّهم يرونها من

أقصى مكان. و المعنى المجازي أبلغ، فإنّ معناه أنّها كأنّها تراهم رؤية الغضبان، كما قال: سَمِعُوا لَها تَغَيُّظاً صوت تغيّظ و غليان. شبّه صوت غليانها بصوت المغتاظ.

وَ زَفِيراً و صوت زفير. و هو صوت يسمع من جوفه. روي: أنّ جهنّم لتزفر زفرة لا يبقى نبيّ و لا ملك إلّا خرّ لوجهه. و لا يبعد من قدرة اللّه تعالى أن يخلق في النار حياة فترى و تتغيّظ و تزفر.

و قيل: إنّ ذلك لزبانيتها، فنسب إليها على حذف المضاف. و المعنى: إذا رأتهم زبانيتها تغيّظوا و زفروا على الكفّار للانتقام منهم.

وَ إِذا أُلْقُوا مِنْها مَكاناً أي: في مكان. و «منها» بيان له تقدّم عليه فصار حالا.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 553

ضَيِّقاً لزيادة العذاب، فإنّ الكرب مع الضيق، كما أن الروح مع السعة. و لذلك وصف اللّه الجنّة بأنّ عرضها كعرض السماوات و الأرض. و قرأ ابن كثير و الكسائي بسكون الياء.

و

في الحديث: «إن لكلّ مؤمن من القصور و الجنان كذا و كذا».

و لقد جمع اللّه على أهل النار أنواع التضييق و الإرهاق، حيث ألقاهم في مكان ضيّق يتراصّون «1» فيه تراصّا. كما روي عن ابن عبّاس في تفسيره: أنّه يضيّق عليهم كما يضيّق الزجّ «2» في الرمح.

مُقَرَّنِينَ قرنت أيديهم إلى أعناقهم بالسلاسل. و عن الجبائي: و يقرن مع كلّ كافر شيطانه في سلسلة، و في أرجلهم الأصفاد «3».

دَعَوْا هُنالِكَ في ذلك المكان ثُبُوراً هلاكا. أي: يتمنّون هلاكا و ينادونه، فيقولون: يا ثبوراه تعال فهذا أوانك.

فيقال لهم: لا تَدْعُوا الْيَوْمَ ثُبُوراً واحِداً إنّهم أحقّاء بأن يقال لهم ذلك، و إن لم يكن ثمّ قول وَ ادْعُوا ثُبُوراً كَثِيراً لأنّ عذابكم أنواع كثيرة، كلّ نوع منها ثبور، لشدّته و فضاعته،

كلّما نضجت جلودهم بدّلوا جلودا غيرها، فلا غاية لهلاكهم، فهم في كلّ وقت في ثبور.

قُلْ أَ ذلِكَ أي: ذلك العذاب، أو الّذي اقترحتموه من الكنز و الجنّة خَيْرٌ أَمْ جَنَّةُ الْخُلْدِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ الاستفهام و التفضيل و الترديد للتقريع و التهكّم. و الراجع إلى الموصول محذوف، أي: وعدها المتّقون. و إضافة الجنّة إلى الخلد للمدح، أو للدلالة على خلودها، أو التمييز عن جنّات الدنيا.

كانَتْ لَهُمْ في علم اللّه، أو اللوح قبل أن يريهم. أو لأنّ ما وعده اللّه في تحقّقه كالواقع. جَزاءً على أعمالهم بالوعد وَ مَصِيراً مرجعا و مستقرّا ينقلبون إليه. و هذا

______________________________

(1) أي: يتلاصقون. من: تراصّ القوم إذا تضامّوا و تلاصقوا.

(2) الزجّ: الحديدة التي في أسفل الرمح.

(3) الأصفاد جمع الصفد. و هو الوثاق، و ما يوثق به الأسير من قيد أو غلّ.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 554

كقوله: نِعْمَ الثَّوابُ وَ حَسُنَتْ مُرْتَفَقاً «1» فإنّه مدح الثواب و مكانه، كما قال: بِئْسَ الشَّرابُ وَ ساءَتْ مُرْتَفَقاً «2». فذمّ العقاب و مكانه، لأنّ النعيم لا يتمّ للمتنعّم إلّا بطيب المكان وسعته و موافقته للمراد، و كذلك العقاب يتضاعف يضيق الموضع و ظلمته، و جمعه لأسباب الكراهة. و لذلك ذكر المصير مع ذكر الجزاء.

لَهُمْ فِيها ما يَشاؤُنَ ما يشاؤنه من النعيم. و في تقديم الظرف تنبيه على أن كلّ المرادات لا تحصل إلّا في الجنّة. خالِدِينَ حال من أحد الضمائر كانَ الضمير ل «ما يشاءون»، أي: كان ذلك عَلى رَبِّكَ وَعْداً مَسْؤُلًا موعودا حقيقا بأن يسأل و يطلب. أو مسئولا سأله الناس في دعائهم: رَبَّنا وَ آتِنا ما وَعَدْتَنا عَلى رُسُلِكَ «3». أو الملائكة يقولون: رَبَّنا وَ أَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ «4». و «على» يتضمّن

معنى الوجوب، أي: واجبا على ربّك إنجازه، لامتناع الخلف في وعده.

[سورة الفرقان (25): الآيات 17 الى 19]

وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ فَيَقُولُ أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ (17) قالُوا سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ وَ لكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَ آباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ وَ كانُوا قَوْماً بُوراً (18) فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ بِما تَقُولُونَ فَما تَسْتَطِيعُونَ صَرْفاً وَ لا نَصْراً وَ مَنْ يَظْلِمْ مِنْكُمْ نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً (19)

______________________________

(1) الكهف: 31 و 29.

(2) الكهف: 31 و 29.

(3) آل عمران: 194.

(4) غافر: 8.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 555

وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ نجمعهم للجزاء. و قرأ ابن كثير و يعقوب و حفص بالياء وَ ما يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعمّ كلّ معبود سواه. و استعمال «ما» إمّا لأنّ وضعه أعمّ، و لذلك يطلق لكلّ شبح يرى و لا يعرف. أو لأنّه أريد به الوصف، كأنّه قيل: و معبودهم.

كما تقول إذا أردت السؤال عن صفة زيد: ما زيد؟ تعني: أ طويل أم قصير؟ أ فقيه أم طبيب؟ أو لتغليب الأصنام تحقيرا، أو اعتبارا لغلبة عبّادها. أو يخصّ الملائكة و عزيزا و المسيح بقرينة السؤال و الجواب. و ذكر «ما» لإرادة وصف المعبوديّة كما عرفت. أو الأصنام ينطقها اللّه تعالى، أو تتكلّم بلسان الحال، كما قيل في كلام الأيدي و الأرجل.

فَيَقُولُ أي: للمعبودين. و هو على تلوين الخطاب. و قرأ ابن عامر بالنون.

أَ أَنْتُمْ أَضْلَلْتُمْ عِبادِي هؤُلاءِ أَمْ هُمْ ضَلُّوا السَّبِيلَ ضلّوا عن سبيل الحقّ، لإخلالهم بالنظر الصحيح، و إعراضهم عن المرشد النصيح. و هو استفهام تقريع و تبكيت للعبدة.

و الفائدة في ذكر «أنتم» و «هم» و إيلائهما حرف الاستفهام، أن يعلم أنّ السؤال ليس عن

الفعل، و إنّما هو عن متولّيه، فلا بدّ من ذكره و إيلائه حرف الاستفهام، حتّى يعلم أنّه المقصود بالسؤال عنه. و تركت صلة الضلالة للمبالغة.

قالُوا سُبْحانَكَ تعجّبا ممّا قيل لهم، لأنّهم إمّا ملائكة، أو أنبياء معصومون، أو جمادات لا تقدر على شي ء. أو إشعارا بأنّهم الموسومون بتسبيحه و توحيده، فكيف يليق بهم إضلال عبيده؟ أو تنزيها للّه عن الأنداد.

ثمّ قالوا: ما كانَ يَنْبَغِي لَنا ما يصحّ لنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ للعصمة. فكيف يصحّ لنا أن ندعو غيرنا أن يتولّى أحدا دونك؟ و الأخذ هنا متعدّ إلى مفعول واحد، و هو «من أولياء». و الأصل: أن نتّخذ أولياء، فزيدت «من» لتأكيد معنى النفي.

وَ لكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَ آباءَهُمْ بأنواع النعم، فاستغرقوا في الشهوات حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ حتّى غفلوا عن ذكرك. أو التذكّر لآلائك، و التدبّر في آيات كتابك. وَ كانُوا

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 556

قَوْماً بُوراً هالكين فاسدين. مصدر وصف به، و لذلك يستوي فيه الواحد و الجمع. أو جمع بائر، كعائذ و عوذ.

و اعلم أنّ في هذه الآية دلالة على بطلان قول من يزعم أنّ اللّه سبحانه يضلّ عباده على الحقيقة، حيث يقول للمعبودين من دونه: أ أنتم أضللتم أم هم ضلّوا بأنفسهم؟

فيتبرّءون من إضلالهم، و يستعيذون به أن يكونوا مضلّين. و يقولون: بل أنت تفضّلت على هؤلاء و آبائهم، فجعلوا النعمة الّتي هي سبب الشكر سببا للكفر و نسيان الذكر، فكان ذلك سبب هلاكهم. فبرّءوا أنفسهم من الإضلال، و نزّهوه سبحانه أيضا منه، حيث أضافوا إليه التمتيع بالنعمة، و أضافوا نسيان الذكر الّذي هو سبب البوار إليهم. فشرحوا الإضلال المجازيّ الّذي نسبة اللّه إلى ذاته في قوله: يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ «1». و لو

كان هو المضلّ على الحقيقة لكان الجواب أن يقولوا: بل أنت أضللتهم بما يقولون.

ثمّ التفت إلى العبدة احتجاجا و إلزاما، فقال: فَقَدْ كَذَّبُوكُمْ أي: فقد كذّبكم المعبودون أيّها المشركون بِما تَقُولُونَ في قولكم: إنّهم آلهة، أو هؤلاء أضلّونا. و الباء بمعنى «في». أو مع المجرور بدل من الضمير، كأنّه قيل: فقد كذّبوا بما يقولون. و عن ابن كثير بالياء، أي: كذّبوكم بقولهم: «سُبْحانَكَ ما كانَ يَنْبَغِي لَنا أَنْ نَتَّخِذَ مِنْ دُونِكَ مِنْ أَوْلِياءَ».

فَما تَسْتَطِيعُونَ أي: المعبودون. و قرأ حفص بالتاء على الخطاب للعابدين.

صَرْفاً دفعا للعذاب عنكم. و قيل: لصرف التوبة. و قيل: حيلة. من قولهم: إنّه ليتصرّف، أي: يحتال. وَ لا نَصْراً فيعينكم عليه.

وَ مَنْ يَظْلِمْ على نفسه بالشرك و المعاصي مِنْكُمْ أيّها المكلّفون نُذِقْهُ عَذاباً كَبِيراً شديدا عظيما، و هو النار. و الشرط و إن عمّ كلّ من كفر و فسق، لقوله:

______________________________

(1) الرعد: 27، و غيرها.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 557

إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ «1»، و لقوله: وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ «2». لكنّه في اقتضاء الجزاء مقيّد بعدم المزاحم وفاقا، و هو التوبة إجماعا، و عفو المؤمن الفاسق عندنا.

[سورة الفرقان (25): آية 20]

وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلاَّ إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ يَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ وَ جَعَلْنا بَعْضَكُمْ لِبَعْضٍ فِتْنَةً أَ تَصْبِرُونَ وَ كانَ رَبُّكَ بَصِيراً (20)

ثمّ رجع سبحانه إلى مخاطبة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال جوابا لقولهم: «ما لِهذَا الرَّسُولِ يَأْكُلُ الطَّعامَ وَ يَمْشِي فِي الْأَسْواقِ»: وَ ما أَرْسَلْنا قَبْلَكَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ إِلَّا إِنَّهُمْ لَيَأْكُلُونَ الطَّعامَ وَ يَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ أي: إلّا رسلا إنّهم ... فحذف الموصوف لدلالة «المرسلين» عليه، و أقيمت الصفة مقامه، كقوله تعالى: وَ ما مِنَّا

إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ «3».

على معنى: و ما منّا أحد. و يجوز أن تكون حالا اكتفي فيها بالضمير.

وَ جَعَلْنا بَعْضَكُمْ أيّها الناس لِبَعْضٍ فِتْنَةً ابتلاء. و من ذلك ابتلاء الفقراء بالأغنياء، و المرسلين بالمرسل إليهم، و مناصبتهم لهم العداوة، و إيذاؤهم لهم أنواع الأذى. و هو تسلية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على ما استبدعوه من أكله الطعام، و مشيه في الأسواق، بعد ما احتجّ عليهم بسائر الرسل، أو ما عيّروه من الفقر حين قالوا: أَوْ يُلْقى إِلَيْهِ كَنْزٌ أَوْ تَكُونُ لَهُ جَنَّةٌ «4».

أَ تَصْبِرُونَ علّة للجعل. و المعنى: و جعلنا بعضكم لبعض فتنة لنعلم أيّكم يصبر. و نظيره قوله: لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا «5». أو حثّ على الصبر على ما

______________________________

(1) لقمان: 13.

(2) الحجرات: 11.

(3) الصافّات: 164.

(4) الفرقان: 8.

(5) الملك: 2.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 558

افتتنوا به. وَ كانَ رَبُّكَ بَصِيراً بمن يصبر، أو بالصواب فيما يبتلي به و غيره، فلا يضيقنّ صدرك، و لا يستخفّنّك أقاويلهم، فإنّ في صبرك عليها سعادتك و فوزك في الدارين.

و قيل: معناه: جعلناك فتنة لهم، لأنّك لو كنت غنيّا صاحب كنوز و جنان، لكان ميلهم إليك و طاعتهم لك للدنيا، أو ممزوجة بها، فبعثناك فقيرا لتكون طاعة من يطيعك خالصة لنا، من غير طمع و غرض دنيويّ.

و قيل: كان أبو جهل و أضرابه يقولون: إن أسلمنا و قد أسلم قبلنا عمّار و صهيب و بلال و فلان و فلان، و سائر موالينا و رذالنا، ترفّعوا علينا إذلالا بالسابقة، فهو افتتان بعضهم ببعض. فقال اللّه لهؤلاء: أ تصبرون على الأذى و الاستهزاء لتفوزوا بسعادة الدارين، فإنّ ربّكم عالم بأحوالكم، و مجاز لأعمالكم؟

[سورة الفرقان (25): الآيات 21 الى 23]

وَ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ

لِقاءَنا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ أَوْ نَرى رَبَّنا لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ وَ عَتَوْا عُتُوًّا كَبِيراً (21) يَوْمَ يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ وَ يَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً (22) وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً (23)

وَ قالَ الَّذِينَ لا يَرْجُونَ لا يأملون لِقاءَنا لقاء جزائنا بالخير، لكفرهم بالبعث. أو لا يخافون لقاء جزائنا بالشرّ على لغة تهامة، فإنّ الرجاء في لغتهم بمعنى الخوف، و به فسّر قوله تعالى: لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً «1». و أصل اللقاء الوصول إلى

______________________________

(1) نوح: 13.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 559

الشي ء. و فيه دلالة على أنّهم كانوا مجسّمة، فلذلك جوّزوا الرؤية على اللّه.

لَوْ لا هلّا أُنْزِلَ عَلَيْنَا الْمَلائِكَةُ فيخبرنا بصدق محمد. و قيل: فيكونوا رسلا إلينا. أَوْ نَرى رَبَّنا جهرة فيأمرنا بتصديقه و اتّباعه.

ثمّ أقسم اللّه عزّ و جلّ فقال: لَقَدِ اسْتَكْبَرُوا بهذا القول فِي أَنْفُسِهِمْ أي: أضمروا الاستكبار عن الحقّ- و هو الكفر و العناد- في قلوبهم و اعتقدوه وَ عَتَوْا و تجاوزوا الحدّ في الظلم عُتُوًّا كَبِيراً بالغا أقصى مراتبه. يعني: أنّهم لم يجسروا على هذا القول العظيم، إلّا لأنّهم بلغوا غاية الاستكبار و أقصى العتوّ، حيث عاينوا المعجزات القاهرة فأعرضوا عنها، و اقترحوا لأنفسهم الخبيثة غيرها، كما فعل قوم موسى حين قالوا: لَنْ نُؤْمِنَ لَكَ حَتَّى نَرَى اللَّهَ جَهْرَةً «1».

و اللام جواب قسم محذوف. و في الاستئناف بالجملة إشعار بالتعجّب من استكبار هم و عتوّهم من غير لفظ التعجّب. ألا ترى أنّ المعنى: ما أشدّ استكبارهم! و ما أكبر عتوّهم! ثمّ أعلم سبحانه أنّ الوقت الّذي يرون فيه الملائكة هو يوم القيامة، و أنّ اللّه تعالى قد حرّمهم البشرى في ذلك اليوم، فقال:

يَوْمَ

يَرَوْنَ الْمَلائِكَةَ يعني: يوم القيامة. و المراد ملائكة الموت، أو ملائكة العذاب. و «يوم» نصب ب: اذكر، أو بما دلّ عليه قوله: لا بُشْرى يَوْمَئِذٍ لِلْمُجْرِمِينَ فإنّه بمعنى: يمنعون البشرى، أو يعدمونها. و «يومئذ» تكرير، أو خبر. و «للمجرمين» تبيين.

أو خبر ثان. أو ظرف لما يتعلّق به اللام، أو ل «بشرى» إن قدّرت منوّنة غير مبنيّة مع «لا» فإنّها لا تعمل.

و «للمجرمين» إمّا عامّ شامل لكلّ مجرم، كافرا كان أو مؤمنا. و لا يلزم من نفي البشرى لعامّة المجرمين حينئذ، نفي البشرى بالعفو و الشفاعة في وقت آخر. و إمّا خاصّ

______________________________

(1) البقرة: 55.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 560

وضع موضع ضميرهم، تسجيلا على جرمهم، و إشعارا بما هو المانع للبشرى، و الموجب لما يقابلها.

وَ يَقُولُونَ حِجْراً مَحْجُوراً عطف على المدلول، أي: و يقول الكفرة حينئذ هذه الكلمة، استعاذة و طلبا من اللّه أن يمنع لقاء هم العذاب. و هي ممّا كانوا يقولون عند لقاء عدوّ أو هجوم نازلة. يعني: كما كانوا يقولون في الدنيا إذا لقوا من يخافون منه القتل و يفزعون: حجرا محجورا دماؤنا، قالوا تلك الكلمة عند مشاهدة العذاب.

و قال الخليل: كان الرجل يرى الرجل الّذي يخاف منه القتل في الجاهليّة في الأشهر الحرام فيقول: حجرا محجورا، أي: حرام عليك حرمتي في هذا الشهر أن تبدأ بشرّ، فإذا كان يوم القيامة رأوا الملائكة، فقالوا ذلك ظنّا منهم أنّه ينفعهم.

و قيل: هي من قول الملائكة. و معناه حينئد: حراما عليكم الجنّة و البشرى، أي: جعل اللّه ذلك حراما عليكم.

قال سيبويه في باب المصادر غير المتصرّفة المنصوبة بأفعال متروك إظهارها، نحو: معاذ اللّه، و عمرك، و حجرا محجورا. يقول الرجل للرجل: أ تفعل كذا و كذا؟

فيقول:

حجرا. و هي من: حجره إذا منعه، لأنّ المستعيذ طالب من اللّه أن يمنع المكروه، فلا يلحقه. فكان المعنى: أسأل اللّه أن يحجر ذلك حجرا، أي: يمنعه منعا. و وصفه محجورا للتأكيد، كقولهم: موت مائت.

وَ قَدِمْنا و عمدنا و قصدنا إِلى ما عَمِلُوا في كفرهم مِنْ عَمَلٍ من المكارم و المحاسن، كقرى الضيف، و صلة الرحم، و إغاثة الملهوف، و فداء الأسير، و غير ذلك فَجَعَلْناهُ هَباءً مَنْثُوراً فأحبطناه، لفقد ما هو شرط اعتباره، و هو الإيمان.

و ليس هنا قدوم و لا ما يشبه القدوم، و لكن مثّلت حال هؤلاء و أعمالهم الّتي عملوا في كفرهم من محاسنهم، بحال قوم خالفوا سلطانهم و استعصوا عليه، فقدم إلى أشيائهم، و قصد إلى ما تحت أيديهم، فمزّقها كلّ ممزّق، و أبطلها و لم يبق لها أثرا.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 561

و الهباء ما يخرج من الكوّة مع شعاع الشمس، شبيه بالغبار. من الهبوة، و هي الغبار. و في أمثالهم: أقلّ من الهباء و «منثورا» صفة للهباء. شبّه أوّلا عملهم المحبط بالهباء في حقارته و عدم نفعه. ثمّ بالمنثور منه في انتثاره بحيث لا يمكن نظمه، بل ذهب كلّ مذهب. و نحوه قوله:

كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ «1»، فإنّه لم يكف أن شبّههم بالعصف حتّى جعله مؤوفا بالأكال. أو مفعول ثالث ل «جعلناه» أي: فجعلناه جامعا لحقارة الهباء و التناثر، كقوله: كُونُوا قِرَدَةً خاسِئِينَ «2». أي: جامعين للمسخ و الخس ء «3».

[سورة الفرقان (25): الآيات 24 الى 29]

أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا وَ أَحْسَنُ مَقِيلاً (24) وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ وَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلاً (25) الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ وَ كانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً (26) وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ يَقُولُ يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ

الرَّسُولِ سَبِيلاً (27) يا وَيْلَتى لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلاً (28)

لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ بَعْدَ إِذْ جاءَنِي وَ كانَ الشَّيْطانُ لِلْإِنْسانِ خَذُولاً (29)

ثمّ ذكر سبحانه فضل أهل الجنّة على أهل النار، فقال: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا

______________________________

(1) الفيل: 5.

(2) البقرة: 65.

(3) خسأ يخسأ خسأ: طرد و أبعد.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 562

مكانا يستقرّون فيه في أكثر أوقاتهم للتجالس و التحادث وَ أَحْسَنُ مَقِيلًا مكانا يأوون إليه للاسترواح بأزواجهم و التمتّع بهنّ. تجوّزا له من مكان القيلولة، على التشبيه بالمترفين في الدنيا يعيشون على ذلك الترتيب، إذا لا نوم في الجنّة. و إنّما سمّي مكان دعتهم و استرواحهم إلى الحور مقيلا على طريق التشبيه. و في لفظ الأحسن رمز إلى ما يتزيّن به مقيلهم، من حسن الوجوه و ملاحة الصور، إلى غير ذلك من التحاسين و الزين.

و يحتمل أن يراد بهما المصدر أو الزمان، إشارة إلى أنّ مكانهم و زمانهم أطيب ما يتخيّل من الأمكنة و الأزمنة. و التفضيل إمّا لإرادة الزيادة مطلقا، أو بالإضافة إلى ما للمترفين في الدنيا.

و قال ابن عبّاس و ابن مسعود: لا ينتصف النهار من يوم القيامة حتّى يقيل أهل الجنّة في الجنّة، و أهل النار في النار. و في معناه قوله عزّ و جلّ: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ هُمْ وَ أَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ «1».

وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ أصله: تتشقّق، فحذفت التاء. و أدغمها ابن كثير و نافع و ابن عامر و يعقوب. بِالْغَمامِ بسبب طلوع الغمام منها. و هو الغمام المذكور في قوله تعالى: هَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا أَنْ يَأْتِيَهُمُ اللَّهُ فِي ظُلَلٍ مِنَ الْغَمامِ وَ الْمَلائِكَةُ «2». و المعنى:

أنّ السماء تنفتح بغمام يخرج منها. و

قيل: هو غمام أبيض دقيق مثل الضبابة، و لم يكن إلّا لبني إسرائيل في تيههم.

وَ نُزِّلَ الْمَلائِكَةُ تَنْزِيلًا في ذلك الغمام إلى الأرض بصحائف أعمال العباد.

و قرأ ابن كثير: و ننزل الملائكة.

قال ابن عبّاس: تتشقّق السماء الدنيا فينزل أهلها، و هم أكثر ممّن في الأرض من

______________________________

(1) يس: 55

(2) البقرة: 210.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 563

الجنّ و الإنس. ثمّ تتشقّق السماء الثانية فينزل أهلها، و هم أكثر ممّن في السماء الدنيا، و من الجنّ و الإنس. ثمّ كذلك حتّى تتشقّق السماء السابعة. و أهل كلّ سماء يزيدون على أهل السماء الّتي قبلها.

الْمُلْكُ يَوْمَئِذٍ يوم القيامة الْحَقُّ لِلرَّحْمنِ الثابت له، لأنّ كلّ ملك يبطل يومئذ، و لا يبقى إلّا ملكه. فهو خبر الملك، و «للرحمن» صلته، و «يومئذ» معمول «الملك» لا «الحقّ» لأنّه متأخّر. أو صفته، و الخبر «يومئذ» أو «للرحمن».

وَ كانَ يَوْماً عَلَى الْكافِرِينَ عَسِيراً شديدا. و يهون على المؤمنين، كأدنى صلاة صلّوها في دار الدنيا. و في هذا بشارة للمؤمنين، حيث خصّ تشدّد ذلك اليوم بالكافرين.

وَ يَوْمَ يَعَضُّ الظَّالِمُ عَلى يَدَيْهِ من فرط الحسرة. و عضّ اليدين و الأنامل، و السقوط في اليد، و أكل البنان، و حرق الأسنان و نحوها، كنايات عن الغيظ و الحسرة، لأنّها من روادفها، فيذكر الرادفة و يدلّ بها على المردوف، فيرتفع الكلام به في طبقة الفصاحة، و يجد السامع عنده في نفسه من الروعة و الاستحسان ما لا يجده عند لفظ المكنّي عنه. و المراد بالظالم الجنس.

و

قيل: نزلت في عقبة بن أبي معيط بن أميّة بن عبد شمس، كان يكثر مجالسة النبيّ محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقدم من سفره ذات يوم، فصنع طعاما و دعا

الناس إلى ضيافته، فدعا إليها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فأبى أن يأكل طعامه حتّى ينطق بالشهادتين، ففعل.

و كان أبيّ بن خلف صديقه فعاتبه، فقال: صبأت يا عقبة؟

فقال: لا، و لكن آلى أن لا يأكل من طعامي و هو في بيتي، فاستحييت منه فشهدت له، و الشهادة ليست في نفسي.

فقال: لا أرضى منك إلّا أن تأتيه فتطأ قفاه و تبزق في وجهه، فوجده ساجدا في دار الندوة ففعل ذلك.

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا ألقاك خارجا من مكّة إلّا علوت رأسك بالسيف. فأسر يوم بدر،

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 564

فأمر عليّا عليه السّلام بقتله. و طعن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أبيّا بأحد في المبارزة، فرجع إلى مكّة و مات.

قال الضحّاك: لمّا بزق عقبة في وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عاد بزاقه في وجهه، فأحرق خدّيه، و كان أثر ذلك فيه حتّى قتل.

يَقُولُ يوم البعث يا لَيْتَنِي اتَّخَذْتُ مَعَ الرَّسُولِ سَبِيلًا أي: تمنّى أن لو صحب الرسول و سلك معه طريقا واحدا، و هو طريق الحقّ الموصل إلى النجاة، و لم يتشعّب به طرق الضلالة و الهوى.

يا وَيْلَتى أي: ينادي ويلته- و هي هلكته- و يقول لها: تعالي فهذا أوانك لَيْتَنِي لَمْ أَتَّخِذْ فُلاناً خَلِيلًا يعني: من أضلّه. و فلان كناية عن الأعلام، كما أن أ لهن كناية عن الأجناس.

لَقَدْ أَضَلَّنِي عَنِ الذِّكْرِ عن ذكر اللّه، أو كتابه، أو موعظة الرسول، أو كلمة الشهادة بَعْدَ إِذْ جاءَنِي و تمكّنت منه وَ كانَ الشَّيْطانُ يعني: الخليل المضلّ. سمّاه شيطانا لأنّه أضلّه كما يضلّ الشيطان، ثمّ خذله و لم ينفعه في العاقبة.

أو أراد إبليس، لأنّه حمله على مخالّته و مخالفة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. أو كلّ من تشيطن من جنّ و إنس.

لِلْإِنْسانِ خَذُولًا يواليه حتّى يؤدّيه إلى الهلاك، ثمّ يتركه مخذولا و لا ينفعه. فعول من الخذلان.

و هذه الجملة الفعليّة يحتمل أن تكون حكاية كلام الظالم، و أن تكون كلام اللّه.

[سورة الفرقان (25): الآيات 30 الى 31]

وَ قالَ الرَّسُولُ يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً (30) وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ وَ كَفى بِرَبِّكَ هادِياً وَ نَصِيراً (31)

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 565

وَ قالَ الرَّسُولُ محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يومئذ، أو في الدنيا بثّا إلى اللّه يا رَبِّ إِنَّ قَوْمِي قريشا اتَّخَذُوا هذَا الْقُرْآنَ مَهْجُوراً بأن تركوه و صدّوا عنه و عن الإيمان.

و

عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من تعلّم القرآن و علّق مصحفه، و لم يتعاهده و لم ينظر فيه، جاء يوم القيامة متعلّقا به، يقول: يا ربّ العالمين عبدك هذا اتّخذني مهجورا، اقض بيني و بينه».

و قيل: هو من: هجر إذا هذى، أي: جعلوه مهجورا فيه، فحذف الجارّ.

و هو على وجهين:

أحدهما: زعمهم أنّه هذيان و باطل و أساطير الأوّلين.

و الثاني: أنّهم كانوا إذا سمعوه هجروا فيه، كقوله: لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ «1».

و يجوز أن يكون المهجور بمعنى الهجر، كالمعقول. و المعنى: اتّخذوه هجرا.

و في هذه الحكاية تعظيم للشكاية، و تخويف لقومه، لأنّ الأنبياء صلّى اللّه عليهم إذا شكوا إلى اللّه قومهم عجّل لهم العذاب و لم ينظروا.

ثمّ سلّى سبحانه رسوله، و وعده النصرة عليهم، فقال: وَ كَذلِكَ جَعَلْنا لِكُلِّ نَبِيٍّ عَدُوًّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ كما جعلناه لك، فاصبر كما صبروا. و العدوّ

يحتمل الواحد و الجمع، كقوله: فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي «2».

و ملخّص المعنى: أنّ اللّه سبحانه أمر الأنبياء أن يدعوهم إلى الإيمان باللّه تعالى، و ترك ما ألفوه من دينهم و دين آبائهم، و إلى ترك عبادة الأصنام و ذمّها، و كانت هذه أسبابا داعية إلى العداوة، فإذا أمرهم بها فقد جعلهم عدوّا لهم.

وَ كَفى بِرَبِّكَ هادِياً إلى طريق قهرهم و الانتصار منهم وَ نَصِيراً لك عليهم.

______________________________

(1) فصّلت: 26.

(2) الشعراء: 77.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 566

[سورة الفرقان (25): الآيات 32 الى 34]

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ جُمْلَةً واحِدَةً كَذلِكَ لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلاً (32) وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ إِلاَّ جِئْناكَ بِالْحَقِّ وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً (33) الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَ أَضَلُّ سَبِيلاً (34)

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوْ لا نُزِّلَ عَلَيْهِ الْقُرْآنُ أي: أنزل، كخبّر بمعنى: أخبر، لئلّا يناقض قوله: جُمْلَةً واحِدَةً دفعة واحدة، كالكتب الثلاثة.

و هذا أيضا من اعتراضاتهم و اقتراحاتهم على شرادهم عن الحقّ، و تجافيهم عن اتّباعه. و لا طائل تحته، لأنّ الإعجاز لا يختلف بنزوله جملة أو مفرّقا. و هم عجزوا عن أن يأتوا بنجم واحد من نجومه، و تحدّوا بسورة واحدة من أصغر السّور، فأبرزوا صفحة عجزهم حين لاذوا بالمناصبة و المنازعة، و فزعوا إلى المحاربة. فاقتراحهم إنزاله جملة واحدة محض شراد و عناد.

مع أنّ للتفريق فوائد. منها: ما أشار إليه بقوله: كَذلِكَ صفة مصدر محذوف.

و الإشارة إلى ما فهم من قولهم، فإنّ قولهم: لو لا أنزل عليه جملة، معناه: لم أنزل مفرّقا؟

فيكون المعنى: كذلك أنزلناه إنزالا كذلك، أي: أنزلناه على التفريق.

لِنُثَبِّتَ بِهِ فُؤادَكَ لنقوّي بتفريقه فؤادك على حفظه و فهمه، لأنّ حاله صلّى اللّه عليه و آله

و سلّم يخالف حال عيسى و موسى و داود عليهم السّلام، حيث كان أمّيّا و كانوا يكتبون، فلو ألقي إليه جملة لدهش بحفظه، فلم يكن له بدّ من التلقّن و التحفّظ على وجه النجوم. و لأنّ فيه مزيد بصيرة و غوص في المعنى. و لأنّ نزوله على حسب الوقائع و جوابات السائلين.

و لأنّه إذا نزّل منجّما و هو يتحدّى بكلّ نجم، فيعجزون عن معارضته، و زاد ذلك قوّة قلبه.

و لأنّه إذا نزّل به جبرائيل حالا بعد حال يثبت به فؤاده. و لأنّ فيه معرفة الناسخ و المنسوخ.

و غير ذلك من الفوائد.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 567

وَ رَتَّلْناهُ تَرْتِيلًا معطوف على الفعل الّذي تعلّق به «كذلك». كأنّه قال: كذلك فرقناه و رتّلناه ترتيلا، أي: قرأناه عليك شيئا فشيئا على تؤده و تمهّل، في عشرين سنة، أو ثلاث و عشرين سنة. و أصله: الترتيل في الأسنان، و هو تفليجها «1». يقال: ثغر مرتّل و رتل.

روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «يا ابن عبّاس إذا قرأت القرآن فرتّله ترتيلا. قال: و ما الترتيل؟ قال: بيّنه تبيينا، و لا تنثره نثر الدقل «2»، و لا تهذّه هذّ الشعر، قفوا عند عجائبه، و حرّكوا به القلوب، و لا يكوننّ همّ أحدكم آخر السورة».

وَ لا يَأْتُونَكَ بِمَثَلٍ بسؤال عجيب من سؤالاتهم الباطلة- كأنّه مثل في البطلان- يريدون به القدح في نبوّتك إِلَّا جِئْناكَ بِالْحَقِ أتيناك نحن بالجواب الحقّ الّذي لا محيد لهم عنه، الدافع لسؤالهم وَ أَحْسَنَ تَفْسِيراً و بما هو أحسن معنى من سؤالهم.

و لمّا كان التفسير هو التكشيف عمّا يدلّ عليه الكلام، وضع موضع: معناه، فقالوا:

تفسير هذا الكلام كيت و كيت، كما قيل: معناه كذا

و كذا.

أو لا يأتونك بحال عجيبة يقولون: هلّا كانت هذه صفتك و حالك، من مقارنة ملك بك ينذر معك، و إلقاء كنز إليك، أو كون الجنّة لك، أو إنزال القرآن عليك جملة، إلّا أعطيناك نحن من الأحوال ما يحقّ لك في حكمتنا و مشيئتنا أن تعطاه، و ما هو أحسن تكشيفا لما بعثت عليه. و لهذا ينزّل عليك القرآن منجّما، لأنّ تنزيله مفرّقا، و تحدّيهم بأن يأتوا ببعض تلك التفاريق كلّما نزل شي ء منها، أدخل في الإعجاز، و أنور للحجّة من أن ينزّل كلّه جملة.

الَّذِينَ يُحْشَرُونَ عَلى وُجُوهِهِمْ إِلى جَهَنَّمَ أي: مقلوبين، أو مسحوبين عليها.

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «يحشر الناس يوم القيامة على ثلاثة أصناف: صنف على الدوابّ، و صنف على الأقدام، و صنف على الوجوه».

و هو ذمّ مرفوع أو منصوب. أو مبتدأ خبره أُوْلئِكَ شَرٌّ مَكاناً وَ أَضَلُّ سَبِيلًا

______________________________

(1) المفلّجة من الأسنان: المنفرجة.

(2) الدقل: أردأ التمر. و الهذّ: سرعة القراءة.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 568

و المفضّل عليه هو الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على طريقة قوله تعالى: قُلْ هَلْ أُنَبِّئُكُمْ بِشَرٍّ مِنْ ذلِكَ مَثُوبَةً عِنْدَ اللَّهِ مَنْ لَعَنَهُ اللَّهُ وَ غَضِبَ عَلَيْهِ «1». كأنّه قيل: إنّما يحملهم على هذه السؤالات أنّهم يضلّلون سبيله، و يحتقرون مكانه و منزلته، و إذا سحبوا على وجوههم إلى جهنّم علموا أنّ مكانهم شرّ من مكانه، و سبيلهم أضلّ من سبيله.

و قيل: إنّه متّصل بقوله: أَصْحابُ الْجَنَّةِ يَوْمَئِذٍ خَيْرٌ مُسْتَقَرًّا «2». و وصف السبيل بالضلال من الإسناد المجازي للمبالغة.

أورد البخاري في الصحيح عن أنس: «أنّ رجلا قال: يا نبيّ اللّه كيف يحشر الكافر على وجهه يوم القيامة؟ قال: إن الّذي أمشاه على

رجليه قادر على أن يمشيه على وجهه يوم القيامة» «3».

[سورة الفرقان (25): الآيات 35 الى 39]

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ جَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً (35) فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً (36) وَ قَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ أَغْرَقْناهُمْ وَ جَعَلْناهُمْ لِلنَّاسِ آيَةً وَ أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً (37) وَ عاداً وَ ثَمُودَ وَ أَصْحابَ الرَّسِّ وَ قُرُوناً بَيْنَ ذلِكَ كَثِيراً (38) وَ كُلاًّ ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ وَ كُلاًّ تَبَّرْنا تَتْبِيراً (39)

ثمّ ذكر حديث الأنبياء و أممهم تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال:

______________________________

(1) المائدة: 60.

(2) الفرقان: 24.

(3) صحيح البخاري 6: 137.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 569

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ وَ جَعَلْنا مَعَهُ أَخاهُ هارُونَ وَزِيراً يوازره، أي: معينا يعينه في الدعوة و إعلاء الكلمة. و الوزارة لا تنافي النبوّة، فقد كان يبعث في الزمن الواحد أنبياء، و يؤمرون بأن يوازر بعضهم بعضا.

فَقُلْنَا اذْهَبا إِلَى الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا يعني: فرعون و قومه بِآياتِنا فَدَمَّرْناهُمْ تَدْمِيراً أي: فذهبا إليهم فكذّبوهما فدمّرناهم، أي: فأهلكناهم إهلاكا بأمر فيه أعجوبة.

فاقتصر على حاشيتي القصّة اكتفاء بما هو المقصود منها، و هو إلزام الحجّة ببعثة الرّسل، و استحقاق التدمير بتكذيبهم. و مثله قوله تعالى: اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ «1» أي: فضرب فانفلق.

وَ قَوْمَ نُوحٍ لَمَّا كَذَّبُوا الرُّسُلَ كذّبوا نوحا و من قبله من الرسل صريحا. أو نوحا وحده، و لكن تكذيب واحد من الرسل كتكذيب الجميع. أو كذّبوا بعثة الرسل مطلقا، كالبراهمة. أَغْرَقْناهُمْ بالطوفان وَ جَعَلْناهُمْ و جعلنا إغراقهم، أو قصّتهم لِلنَّاسِ آيَةً عبرة وَ أَعْتَدْنا لِلظَّالِمِينَ عَذاباً أَلِيماً أي: لجميع الظلمة من أمم الأنبياء. أو لجميع قوم نوح، فيكون وضعا للظاهر موضع المضمر، تظليما لهم.

وَ عاداً وَ

ثَمُودَ عطف على «هم» في «جعلناهم» وَ أَصْحابَ الرَّسِ قوم كانوا عبدة الأصنام، و أصحاب آبار و مواش، و لهم بئر غير مطويّة يسكنون عليها، و يعبدون الأصنام، فبعث اللّه إليهم شعيبا فدعاهم إلى الإسلام، فتمادوا في طغيانهم و في إبذائه، فانهارت البئر، فخسف بهم و بديارهم.

و قيل: الرّسّ قرية بفلج اليمامة، كان فيها بقايا ثمود، فبعث إليهم نبيّ فقتلوه فهلكوا.

و

عن الصادق عليه السّلام: «إنّ نساءهم كنّ سحّاقات».

و قيل: هم أصحاب حنظلة بن صفوان النبيّ، ابتلاهم اللّه بطير عظيم كان فيها من

______________________________

(1) الشعراء: 63.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 570

كلّ لون، و سمّوها عنقاء لطول عنقها، و كانت تسكن جبلهم الّذي يقال له: فتح أو دمح، و تنقضّ على صبيانهم فتخطفهم إذا أعوزها الصيد، و لذلك سمّيت مغربا. فدعا عليها حنظلة، فأصابتها الصاعقة. ثمّ إنّهم قتلوا حنظلة فأهلكوا.

و قيل: هم أصحاب الأخدود. و الرسّ: هو الأخدود «1». و قيل: الرسّ بأنطاكية، قتلوا فيها حبيبا النجّار. و قيل: قوم كذّبوا نبيّهم، و رسّوه في بئر، أي: دسّوه فيها.

وَ قُرُوناً و أهل أعصار. و قيل: القرن أربعون سنة. و قيل: سبعون. و قيل: مائة و عشرون. بَيْنَ ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر، فإنّه قد يذكر الذاكر أشياء مختلفة، ثمّ يشير إليها بذلك، أي: ذلك المذكور. و كذا يحسب الحاسب أعدادا متكاثرة، ثمّ يقول: فذلك كيت و كيت. على معنى: فذلك المحسوب أو المعدود. كَثِيراً لا يعلمها إلّا اللّه.

وَ كُلًّا ضَرَبْنا لَهُ الْأَمْثالَ بيّنّا له القصص العجيبة من قصص الأوّلين، و وصفنا لهم ما أجروا إليه من تكذيب الأنبياء إنذارا و إعذارا، فلمّا أصرّوا أهلكوا، كما قال عزّ اسمه: وَ كُلًّا تَبَّرْنا تَتْبِيراً فتتناه تفتيتا. و منه: التبر لفتات

الذهب و الفضّة و الزجاج.

و «كلّا» الأوّل منصوب بما دلّ عليه «ضربنا»، و هو: أنذرنا. و الثاني ب «تبّرنا» لأنّه فارغ له، بخلاف الأوّل.

[سورة الفرقان (25): الآيات 40 الى 42]

وَ لَقَدْ أَتَوْا عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ أَ فَلَمْ يَكُونُوا يَرَوْنَها بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً (40) وَ إِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلاَّ هُزُواً أَ هذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولاً (41) إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها وَ سَوْفَ يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلاً (42)

______________________________

(1) الأخدود: الحفرة المستطيلة.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 571

وَ لَقَدْ أَتَوْا يعني: قريشا مرّوا مرارا في متاجرهم إلى الشام عَلَى الْقَرْيَةِ الَّتِي أُمْطِرَتْ مَطَرَ السَّوْءِ يعني: سدوم عظمى قرى قوم لوط. و كانت خمسا، أهلك اللّه أربعا بأهلها، و بقيت واحدة أمطرت عليها الحجارة.

أَ فَلَمْ يَكُونُوا في مرار مرورهم يَرَوْنَها ينظرون إليها، فيتّعظون بما يشاهدون فيها من آثار عذاب اللّه بَلْ كانُوا لا يَرْجُونَ نُشُوراً بل كانوا كفرة لا يتوقّعون نشورا و لا عاقبة، فلذلك لم ينظروا و لم يتّعظوا، فمرّوا بها كما مرّت ركابهم. أو لا يأملون نشورا كما يأمله المؤمنون طمعا في الثواب. أو لا يخافونه، على اللغة التهاميّة.

وَ إِذا رَأَوْكَ إِنْ يَتَّخِذُونَكَ إِلَّا هُزُواً ما يتّخذونك إلّا موضع هزؤ، أو مهزوءا به.

يعني: يستهزؤن بك. أَ هذَا الَّذِي بَعَثَ اللَّهُ رَسُولًا محكيّ بعد قول مضمر، أي: يقولون:

أ هذا. و الهمزة و الاشارة للإنكار و الاستحقار. و إخراج بعث اللّه رسولا في معرض التسليم و الإقرار، و هم على غاية الإنكار، تهكّم و استهزاء. و لو لاه لقالوا: هذا الّذي زعم أنّه بعثه اللّه رسولا.

إِنْ كادَ إنّه كاد لَيُضِلُّنا عَنْ آلِهَتِنا ليصرفنا عن عبادتها، بفرط اجتهاده في الدعاء إلى

التوحيد، و كثرة ما يوردها ممّا يسبق إلى الذهن بأنّها حجج و معجزات لَوْ لا أَنْ صَبَرْنا عَلَيْها ثبتنا عليها و استمسكنا بعبادتها لأزالنا عن ذلك.

و حذف الجواب لدلالة الكلام السابق عليه. ف «لو لا» جار من حيث المعنى- لا من حيث اللفظ- مجرى التقييد للحكم المطلق، لأنّ صناعة النحو تقتضي أنّ كلمات الشرط تأتي بعدها جملتان: شرط و جزاء. و قد يأتي في بعض المواضع الّذي يراد به تقييد الجملة المتقدّمة محذوفا جوابها، فيقيّد بها الجملة المذكورة قبلها، و يكون جوابها محذوفا. و كما تكون كلمات الشرط بهذه الحيثيّة، فكذلك «لو لا»، فإنّ حكمها حكم كلمات الشرط في اقتضاء الجملتين، و تقدير الربط بينهما.

روي: أنّ هذا من قول أبي جهل لعنه اللّه. فقال سبحانه متوعّدا عليه: وَ سَوْفَ

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 572

يَعْلَمُونَ حِينَ يَرَوْنَ الْعَذابَ مَنْ أَضَلُّ سَبِيلًا من أخطأ طريقا عن الهدى، أنتم أم المؤمنون؟ و هو كالجواب لقولهم: «إِنْ كادَ لَيُضِلُّنا»، فإنّه يفيد نفي ما يلزمه و يكون الموجب له. و فيه وعيد و دلالة على أنّه لا يهملهم و إن أمهلهم.

[سورة الفرقان (25): الآيات 43 الى 44]

أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلاً (43) أَمْ تَحْسَبُ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ أَوْ يَعْقِلُونَ إِنْ هُمْ إِلاَّ كَالْأَنْعامِ بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلاً (44)

روي: أنّ الرجل من المشركين كان يعبد الحجر، فإذا رأى أحسن منه رمى به و أخذ يعبد الآخر، و منهم الحرث بن قيس السهمي، فعجّب اللّه سبحانه نبيّه من نهاية جهلهم، فقال:

أَ رَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ بأن أطاعه و بنى عليه دينه، و يتّبعه في كلّ ما يأتي و يذر، لا يسمع حجّة، و لا يتبصّر دليلا، و لا يصغي إلى

برهان. و إنّما قدّم المفعول الثاني للعناية به، كما تقول: علمت منطلقا زيدا، لفرط عنايتك بالمنطلق.

أَ فَأَنْتَ تَكُونُ عَلَيْهِ وَكِيلًا حفيظا قادرا على أن تمنعه عن الشرك و المعاصي.

و الاستفهام الأوّل للتقرير و التعجيب. و الثاني للإنكار، أي: كيف تستطيع أن تدعو من لا يرى معبوده إلّا الهوى إلى الهدى، و تجبره على الإسلام؟ و تسمية الحفيظ بالوكيل، لأنّ الوكيل هو الكافي للشي ء، و لا يكون كذلك إلّا و هو قادر عليه.

ثمّ قال لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أَمْ تَحْسَبُ بل تظنّ أَنَّ أَكْثَرَهُمْ يَسْمَعُونَ ما تقوله سماع طالب للإفهام أَوْ يَعْقِلُونَ ما تقوله لهم، و تقرأه عليهم، فتجدي لهم الآيات أو الحجج، فتهتمّ بشأنهم، و تطمع في إيمانهم. و هذا أشدّ ندامة ممّا قبله، حتّى حقّ بالإضراب عنه إليه. و تخصيص الأكثر لأنّه كان منهم من آمن، و منهم من عقل الحقّ و كابر استكبارا و خوفا على الرئاسة.

ثمّ شبّههم بالأنعام في عدم انتفاعهم بقرع الآيات آذانهم، و عدم تدبّرهم فيما

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 573

شاهدوا من الدلائل و المعجزات، فقال:

إِنْ هُمْ إِلَّا كَالْأَنْعامِ أي: ما هم إلّا كالبهائم الّتي تسمع النداء و لا تعقل.

ثمّ جعلهم أضلّ منها، فقال: بَلْ هُمْ أَضَلُّ سَبِيلًا من الأنعام، لأنّها تنقاد لمن يتعهّدها، و تميّز من يحسن إليها ممّن يسي ء إليها، و تطلب ما ينفعها، و تتجنّب ما يضرّها. و هم لا ينقادون لربّهم، و لا يعرفون إحسانه من إساءة الشيطان الّذي هو أعدى أعدائهم، و لا يطلبون الثواب الّذي هو أعظم المنافع، و لا يتّقون العقاب الّذي هو أشدّ المضارّ و المهالك. و لأنّها إن لم تعتقد حقّا، و لم تكتسب خيرا، لم تعتقد باطلا،

و لم تكتسب شرّا، بخلاف هؤلاء. و لأنّ جهالتها لا تضرّ بأحد، و جهالة هؤلاء تؤدّي إلى هيج الفتن، و صدّ الناس عن الحقّ. و لأنّها غير متمكّنة من طلب الكمال، فلا تقصير منها و لا ذمّ. و هؤلاء مقصّرون و مستحقّون أعظم العقاب على تقصير هم، فبينهما بون بعيد.

[سورة الفرقان (25): الآيات 45 الى 50]

أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ كَيْفَ مَدَّ الظِّلَّ وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلاً (45) ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا قَبْضاً يَسِيراً (46) وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً وَ النَّوْمَ سُباتاً وَ جَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً (47) وَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً (48) لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً وَ نُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَ أَناسِيَّ كَثِيراً (49)

وَ لَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ لِيَذَّكَّرُوا فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُوراً (50)

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 574

ثمّ نبّه سبحانه على النظر فيما يدلّ على وحدانيّته و كمال قدرته بطريق آخر، ليستوفي الإلزام عليهم، فقال:

أَ لَمْ تَرَ إِلى رَبِّكَ ألم تنظر إلى صنعه و قدرته كَيْفَ مَدَّ الظِّلَ كيف جعله منبسطا ممتدّا لينتفع به الناس؟ أو ألم تنظر إلى الظلّ كيف مدّه ربّك؟ فغيّر النظم إشعارا بأنّه المعقول من هذا الكلام، لوضوح برهانه، و هو دلالة حدوثه و تصرّفه على الوجه النافع بأسباب ممكنة، على أنّ ذلك فعل الصانع الحكيم كالمشاهد المرئي، فكيف بالمحسوس منه. أو ألم ينته علمك إلى أنّ ربّك كيف مدّ الظلّ؟ و هو ظلّ الأجرام، من نحو الجبال و الحيطان و الأشجار.

و عن ابن عبّاس و الضحّاك و سعيد بن جبير: المراد الظلّ من وقت طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. و هو أطيب الأحوال، فإنّ الظلمة

الخالصة تنفّر الطبع و تسدّ النظر، و شعاع الشمس يسخن الجوّ و يبهر البصر. و لذلك وصف به الجنّة فقال: وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ «1».

وَ لَوْ شاءَ لَجَعَلَهُ ساكِناً ثابتا، من السكنى، أي: لاصقا بأصل كلّ مظلّ، من جبل و بناء و شجرة، غير منبسط، فلم ينتفع به أحد. سمّي انبساط الظلّ و امتداده تحرّكا، و عدم ذلك سكونا، تجوّزا. أو جعله غير متقلّص، من السكون، بأن يجعل الشمس مقيمة على وضع واحد.

ثُمَّ جَعَلْنَا الشَّمْسَ عَلَيْهِ دَلِيلًا فإنّه لا يظهر للحسّ حتّى تطلع، فيقع ضوءها على بعض الأجرام. أو لا يوجد و لا يتفاوت إلّا بسبب حركتها. يعني: أنّ الناس يستدلّون بالشمس و أحوالها في مسيرها على أحوال الظلّ، من كونه ثابتا في مكان و زائلا، و متّسعا و متقلّصا. و لو لا الشمس لما عرف الظلّ، و لو لا النور لما عرفت الظلمة. فيبنون حاجتهم إلى الظلّ على حسب ذلك.

و لمّا عبّر عن إحداثه بالمدّ بمعنى التسيير، عبّر عن إزالته بالقبض إلى نفسه الّذي

______________________________

(1) الواقعة: 30.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 575

هو في معنى الكفّ، فقال:

ثُمَّ قَبَضْناهُ إِلَيْنا أي: أنزلناه بإيقاع الشمس موقعه قَبْضاً يَسِيراً قليلا قليلا حسبما ترتفع الشمس، لينتظم بذلك مصالح الكون، و يتحصّل به ما لا يحصى من منافع الخلق. و لو قبض دفعة واحدة لتعطّلت مرافق الناس بالظلّ و الشمس جميعا.

و «ثمّ» في الموضعين لبيان تفاضل الأمور الثلاثة، فإنّ الثاني أعظم من الأوّل، و الثالث أعظم منهما، تشبيها لتباعد ما بينهما في الفضل بتباعد ما بين الحوادث في الوقت.

و قيل: حدّ الظلّ حين بنى السماء كالقبّة المضروبة بلا نيّر، و دحا الأرض تحتها، فألقت القبّة ظلّها على الأرض، و لو شاء لجعله

ساكنا ثابتا على تلك الحالة. ثمّ خلق الشمس عليه دليلا، أي: سلّطها عليه و نصبها دليلا مستتبعا إيّاه، كما يستتبع الدليل المدلول، فهو يزيد بها و ينقص، و يمتدّ و يتقلّص. ثمّ نسخه بها، فقبضه قبضا سهلا يسيرا غير عسير، إلى أن تنتهي غاية نقصانه. أو يريد قبضه عند قيام الساعة بقبض أسبابه، و هي الأجرام الّتي تبقي الظلّ. فيكون قد ذكر إعدامه بإعدام أسبابه، كما ذكر إنشاءه بإنشاء أسبابه. و في قوله: «قبضناه إلينا» دلالة عليه. و كذلك في قوله: «يسيرا»، كقوله:

ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ «1».

وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِباساً شبّه ظلامه باللباس في ستره، أي: غطاء ساترا للأشياء بالظلام، كاللباس الّذي يشتمل على لابسه.

وَ النَّوْمَ سُباتاً راحة للأبدان بقطع المشاغل. و أصل السبت القطع. أو موتا، كقوله: وَ هُوَ الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ «2» لأنّه قطع الحياة. و منه: المسبوت للميّت.

وَ جَعَلَ النَّهارَ نُشُوراً ذا نشور، أي: انتشار ينتشر فيه الناس للمعاش، أو

______________________________

(1) ق: 44.

(2) الأنعام: 60.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 576

تنتشر الأرواح في اليقظة. أو بعث من النوم بعث الأموات. فيكون إشارة إلى أنّ النوم و اليقظة أنموذج للموت و النشور. و عن لقمان: «يا بنيّ كما تنام فتوقظ، كذلك تموت فتنشر».

وَ هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ و قرأ ابن كثير على التوحيد إرادة للجنس بُشْراً ناشرات للسحاب. جمع نشور «1». و قرأ ابن عامر بالسكون على التخفيف. و حمزة و الكسائي به و بفتح النون، على أنّه مصدر وصف به. و عاصم: بشرا، تخفيف بشر جمع بشور، بمعنى المبشّر.

بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ يعني: قدّام المطر وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً طَهُوراً بليغا في طهارته. بمعنى: طاهرا في نفسه مطهّرا لغيره، مزيلا للأحداث و

الأخباث. و يعضده قوله تعالى: وَ يُنَزِّلُ عَلَيْكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً لِيُطَهِّرَكُمْ «2».

و قيل: هو اسم لمال يتطهّر به، كالوضوء و الوقود و السحور، بمعنى ما يتوضّأ به و يتوقّد به و يتسحّر به. أو بمعنى الطهارة،

كقوله عليه السّلام: «لا صلاة إلّا بطهور».

و استدلّوا بالنقل و الاستعمال.

أمّا الأوّل فلما ذكره اليزيدي من أنّ الطهور بالفتح من الأسماء المتعدّية، بمعنى المطهّر غيره. و هو أحد أئمّة اللغة، و من القرّاء السبعة.

و أمّا الثاني فلأنّه مراد في الاستعمال، فيكون حقيقة. أمّا إرادته

فلقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «جعلت لي الأرض مسجدا، و ترابها طهورا».

و لو أراد الطاهر لم يكن له مزيّة. و لأنّهم يقولون: ماء طهور، و لا يقولون: ثوب طهور، فلا بدّ من فائدة تختصّ بالماء، و لا تظهر الفائدة إلّا مع إفادة التطهير لغيره، فهو من الوضع الثاني.

______________________________

(1) النشور من الرياح: الّتي تنشر السحاب. و جمعها: نشر. و قرئ: نشرا، نشرا، بشرا.

و الأخيرة هي القراءة المتّبعة في المصحف الشريف.

(2) الأنفال: 11.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 577

و قال بعض الحنفيّة: إنّ طهورا فعول يفيد المبالغة في فائدة فاعل، كما يقال:

ضروب و أكول لزيادة الضرب و الأكل، و لا يفيد شيئا مغايرا له. فعلى هذا لا يكون بمعنى المطهّر، لأنّ كونه مطهّرا مغاير لمعنى الطاهر، فلا تتناوله المبالغة. و لأنّه قد يستعمل فيما لا يفيد التطهير، كقوله تعالى: وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً «1». و قول الشاعر:

عذب الثنايا ريقهنّ طهور.

و الحقّ أنّ التعدّي في الحقيقة لمطهّر، و ألحقوا طهورا به توقيفا. و توصيف الماء به إشعار بالنعمة، و تتميم للمنّة فيما بعده، فإنّ الماء الطهور أهنأ و أنفع ممّا خالطه ما يزيل طهوريّته، و تنبيه

على أنّ ظواهرهم لمّا كانت ممّا ينبغي أن يطهّروها، فبواطنهم بذلك أولى.

لِنُحْيِيَ بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً بالنبات. و تذكير «ميتا» لأنّ البلدة في معنى البلد. و لأنّه غير جار على الفعل، كفعول و مفعال و مفعيل، و غيرها من أبنية المبالغة، فأجري مجرى الجامد.

وَ نُسْقِيَهُ مِمَّا خَلَقْنا أَنْعاماً وَ أَناسِيَّ كَثِيراً يعني: أهل البوادي الّذين يعيشون بالمطر، و لذلك نكّر الأنعام و الأناسيّ. و هو جمع إنسيّ أو إنسان. و نحوه ظرابي في ظربان. و هو دويبّة منتنة الريح. فقلبت النون ياء حين جمع.

و وصف بالكثرة، لأنّ كثيرا منهم لا يعيشون إلّا بما ينزل اللّه من رحمته و سقيا سمائه. كأنّه قال: لنحيي به بعض البلاد الميتة، و نسقيه بعض الأنعام و الأناسيّ، و ذلك البعض كثير.

و أمّا تخصيص الأنعام من بين ما خلق من الحيوان الشارب، لأنّ الطير و الوحش تبعد في طلب الماء، فلا يعوزها الشرب، بخلاف الأنعام.

______________________________

(1) الإنسان: 21.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 578

و قدّم إحياء الأرض و سقي الأنعام على سقي الأناسيّ، لأنّ حياة الأناسيّ بحياة أرضهم و حياة أنعامهم، فقدّم ما هو سبب حياتهم و تعيّشهم على سقيهم. و لأنّهم إذا ظفروا بما يكون سقيا أرضهم و مواشيهم، لم يعدموا سقياهم.

و اعلم أنّ مساق هذه الآيات كما هو للدلالة على عظم القدرة، فهو أيضا لتعداد أنواع النعمة.

وَ لَقَدْ صَرَّفْناهُ بَيْنَهُمْ صرّفنا هذا القول بين الناس في القرآن، و سائر الكتب و الصحف الّتي أنزلت على الرسل. و هو ذكر إنشاء السحاب و إنزال القطر.

و قيل: معناه: صرّفنا المطر بينهم في البلدان المختلفة، و الأوقات المتغايرة، و على الصفات المتفاوتة، من وابل «1» و طلّ و ديمة، و أمثالها في القوّة و الضعف.

و

عن ابن عبّاس: ما عام أمطر من عام، و لكنّ اللّه قسّم ذلك بين عباده على ما شاء.

و تلا هذه الآية.

و روي: أنّ الملائكة يعرفون عدد المطر و مقداره في كلّ عام. أو صرّفنا المطر في الأنهار و المنافع «2» على سعة قدرتنا.

لِيَذَّكَّرُوا ليتفكّروا و يعرفوا كمال القدرة و حقّ النعمة في ذلك، و يقوموا بشكره. أو ليعتبروا بالصرف عنهم و إليهم. و قرأ حمزة و الكسائي بسكون الذال و ضمّ الكاف مخفّفة.

فَأَبى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلَّا كُفُوراً إلّا كفران النعمة و قلّة الاكتراث لها. أو جحودها، بأن يقولوا: مطرنا بنوء «3» كذا، و لا يذكروا صنع اللّه و رحمته. و من لا يرى الأمطار إلّا من

______________________________

(1) الوابل: المطر الشديد. و الطلّ: المطر الضعيف. و الديمة: مطر يدوم في سكون بلا رعد و لا برق.

(2) المنافع جمع المنقع. و هو البحر، أو الموضع يستنقع فيه الماء.

(3) النوء: النجم، المطر. كانت العرب في الجاهليّة إذا سقط من الأنواء نجم و طلع آخر قالوا:

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 579

الأنواء كافر، بخلاف من يرى أنّها من خلق اللّه بوسائط، يجعلها اللّه دلائل و أمارات عليها، فإنّه لم يكفر بهذا الاعتقاد.

[سورة الفرقان (25): الآيات 51 الى 52]

وَ لَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً (51) فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ جاهِدْهُمْ بِهِ جِهاداً كَبِيراً (52)

ثمّ وقّر اللّه رسوله و عظّمه و كرّمه بقوله: وَ لَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً نبيّا ينذر أهلها، فيخفّ عليك أعباء النبوّة. لكن قصرنا الأمر عليك إجلالا لك، و تعظيما لشأنك، و تفضيلا لك على سائر الرسل، فقابل ذلك بالثبات و التشدّد، و التصبّر و الاجتهاد، في صدوع الدعوة و إظهار الحقّ.

فَلا تُطِعِ الْكافِرِينَ فيما يريدونك عليه. و هو تهييج

له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و للمؤمنين.

وَ جاهِدْهُمْ بِهِ بالقرآن. أو بترك طاعتهم الّذي يدلّ عليه «فلا تطع».

و المعنى: أنّهم يجتهدون في توهين أمرك و إبطال حقّك، فقابلهم بالاجتهاد في مخالفتهم و إزاحة باطلهم.

جِهاداً كَبِيراً لأنّ مجاهدة السفهاء بالحجج أكبر و أشقّ من مجاهدة الأعداء بالسيف.

و يحتمل أن يكون ضمير «به» يرجع إلى ما دلّ عليه «وَ لَوْ شِئْنا لَبَعَثْنا فِي كُلِّ قَرْيَةٍ نَذِيراً» من كونه نذير كافّة القرى. فالمعنى: لو بعثنا في كلّ قرية نذيرا لوجبت على كلّ نذير مجاهدة قريته، فاجتمعت عليك تلك المجاهدات كلّها، فكبر جهادك من أجل ذلك و عظم.

______________________________

لا بدّ من أن يكون عند ذلك مطر، فينسبون كلّ غيث يكون عند ذلك إلى النجم، فيقولون:

مطرنا بنوء الثريّا أو بنوء الدبران.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 580

[سورة الفرقان (25): الآيات 53 الى 54]

وَ هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَ جَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً وَ حِجْراً مَحْجُوراً (53) وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً (54)

ثمّ بيّن قدرة اخرى من أقداره الكاملة، فقال: وَ هُوَ الَّذِي مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ خلّاهما و أرسلهما متجاورين متلاصقين، بحيث لا يتمازجان. من: مرج دابّته إذا خلّاها.

هذا عَذْبٌ طيّب ذو حلاوة فُراتٌ قامع للعطش من فرط عذوبته، فإنّ أصله القمع وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ بليغ الملوحة.

وَ جَعَلَ بَيْنَهُما بَرْزَخاً حاجزا من قدرته، كقوله تعالى: بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها «1» و هو قدرته وَ حِجْراً مَحْجُوراً و تنافرا بعيدا، كأنّ كلّا منهما يقوله للآخر ما يقوله المتعوّذ للمتعوّذ عنه. و هي هاهنا واقعة على سبيل المجاز، كما قال: لا يَبْغِيانِ «2» أي: لا يبغي أحدهما على صاحبه بالممازجة. فانتفاء البغي ثمّة

كالتعوّذ هاهنا. فجعل كلّ واحد منهما في صورة الباغي على صاحبه، فهو يتعوّذ منه. و هي من أحسن الاستعارات، و أشهدها على البلاغة.

و قيل: معناه: حدّا محدودا. و ذلك كدجلة تدخل البحر فتشقّه، فتجري في خلاله فراسخ لا يتغيّر طعمها.

و قيل: المراد بالبحر العذاب النهر العظيم مثل النيل، و بالبحر الملح البحر الكبير، و بالبرزخ ما يحول بينهما من الأرض، فتكون القدرة في الفصل و اختلاف الصفة، مع أنّ

______________________________

(1) الرعد: 2.

(2) الرحمن: 20.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 581

مقتضى طبيعة أجزاء كلّ عنصر أن تضامّت و تلاصقت و تشابهت في الكيفيّة.

وَ هُوَ الَّذِي خَلَقَ مِنَ الْماءِ بَشَراً يعني: الماء الّذي خمّر به طينة آدم. أو جعله جزءا من مادّة البشر، لتجتمع و تسلس و تقبل الأشكال و الهيئات بسهولة. أو النطفة.

فَجَعَلَهُ نَسَباً وَ صِهْراً أي: قسّمه قسمين: ذوي نسب، أي: ذكورا ينسب إليهم. و ذوات صهر، أي: إناثا يصاهر بهنّ، و يحصل منهنّ الختونة «1»، كقوله تعالى:

فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى «2».

و قيل: النسب: الّذي لا يحلّ نكاحه. و الصهر: النسب الّذي يحل نكاحه، كبنات العمّ و الخال.

و قال ابن سيرين: نزلت في النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، زوّج فاطمة عليها السّلام عليّا عليه السّلام، فهو ابن عمّه و زوج ابنته، فكان نسبا و صهرا.

وَ كانَ رَبُّكَ قَدِيراً على ما أراد، حيث خلق من مادّة- أي: نطفة- واحدة بشرا ذا أعضاء مختلفة، و طباع متباعدة، و جعله قسمين متقابلين، و ربّما يخلق من نطفة واحدة توأمين مختلفين.

[سورة الفرقان (25): الآيات 55 الى 58]

وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَ لا يَضُرُّهُمْ وَ كانَ الْكافِرُ عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً (55)

وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (56) قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلاَّ مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (57) وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَ كَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ خَبِيراً (58)

______________________________

(1) الختونة مصدر: ختنه، أي: تزوّج إليه و صاهره. و الختن: زوج الابنة.

(2) القيامة: 39.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 582

و بعد ذكر كمال قدرته و أنواع نعمه، أخبر عن الكفّار الّذين- مع ظهور قدرته الكاملة، و صنوف نعمه المتكاثرة عندهم- يشركون به، و يرتكبون أنواع المعاصي، فقال:

وَ يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ ما لا يَنْفَعُهُمْ وَ لا يَضُرُّهُمْ من الأصنام، أو كلّ ما عبد من دون اللّه تعالى، إذ ما من مخلوق يستقلّ بالنفع و الضرّ وَ كانَ الْكافِرُ جنس الكافر.

و قيل: أبو جهل. عَلى رَبِّهِ ظَهِيراً مظاهرا للشيطان بالعداوة و الشرك. أو مظاهرا لأبناء جنسه في إطفاء نور دين اللّه.

و في الكشّاف: «الظهير و المظاهر، كالعوين و المعاون. و فعيل بمعنى مفاعل غير عزيز. و مثله: الصديق و الخليط. و يجوز أن يريد بالظهير الجماعة، كقوله:

وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ «1». و قيل. هيّنا مهينا لا وقع له عنده، كالمطرح المتروك. من قولهم: ظهرت به إذا نبذته خلف ظهرك لا تلتفت إليه، فيكون كقوله:

وَ لا يُكَلِّمُهُمُ اللَّهُ وَ لا يَنْظُرُ إِلَيْهِمْ «2». و منه: وَ اتَّخَذْتُمُوهُ وَراءَكُمْ ظِهْرِيًّا «3»» «4».

وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا مُبَشِّراً للمؤمنين وَ نَذِيراً للكافرين قُلْ لهؤلاء الكفرة ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ على تبليغ الرسالة الّذي يدلّ عليه «إِلَّا مُبَشِّراً وَ نَذِيراً» مِنْ أَجْرٍ تعطونيه إِلَّا مَنْ شاءَ إلّا فعل من شاء أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا أن يتقرّب به إليه، أي: يطلب الزلفى عنده

بالإيمان و الطاعة البدنيّة و الماليّة. فصوّر ذلك بصورة الأجر من حيث إنّه مقصود فعله. و استثناه منه قلعا لشبهة الطمع، و إظهارا لغاية الشفقة، حيث اعتدّ بإنفاعك- بالتعرّض للثواب، و التخلّص عن العقاب- أجرا وافيا مرضيّا به مقصورا عليه.

______________________________

(1) التحريم: 4.

(2) آل عمران: 77.

(3) هود: 92.

(4) الكشّاف 3: 287.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 583

و قيل: الاستثناء منقطع. و معناه: لكن من شاء أن يتّخذ إلى ربّه سبيلا فليفعل.

ثمّ أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأن يثق به، و يسند أمره إليه في استكفاء شرورهم، مع التمسّك بقاعدة التوكّل و أساس الالتجاء، و هو طاعته و عبادته و تنزيهه و تحميده، فقال:

وَ تَوَكَّلْ و فوّض أمورك عَلَى الْحَيِّ الَّذِي لا يَمُوتُ لأنّه الحقيق بأن يتوكّل عليه، دون الأحياء الّذين يموتون، فإنّهم إذا ماتوا ضاع من توكّل عليهم. و عن بعض السلف أنّه قرأها فقال: لا يصحّ لذي عقل أن يثق بعدها بمخلوق.

وَ سَبِّحْ بِحَمْدِهِ و نزّهه عن صفات النقصان، مثنيا عليه بأوصاف الكمال، طالبا لمزيد الإنعام بالشكر على سوابغه.

ثمّ أراه أن ليس إليه من أمره عباده شي ء، آمنوا أم كفروا، فقال: وَ كَفى بِهِ بِذُنُوبِ عِبادِهِ ما ظهر منها و ما بطن خَبِيراً بأحوالهم، كافيا في جزاء أعمالهم، فلا عليك إن آمنوا أو كفروا.

[سورة الفرقان (25): الآيات 59 الى 60]

الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ الرَّحْمنُ فَسْئَلْ بِهِ خَبِيراً (59) وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَ مَا الرَّحْمنُ أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا وَ زادَهُمْ نُفُوراً (60)

ثمّ ذكر أوصافه الحاثّة على التوكّل عليه بقوله: الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ يعني: في مدّة

مقدارها هذه المدّة، لأنّه لم يكن حينئذ نهار و لا ليل. و قيل: ستّة أيّام من أيّام الآخرة. و كلّ يوم ألف سنة. و الظاهر أنّها من أيّام الدنيا.

و عن مجاهد: أوّلها يوم الأحد، و آخرها الجمعة. و وجهه أن يسمّي اللّه تعالى لملائكته تلك الأيّام المقدّرة بهذه الأسماء، فلمّا خلق الشمس و أدارها و ترتّب أمر العالم على ما

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 584

هو عليه، جرت التسمية على هذه الأيّام.

و أمّا الداعي إلى هذا العدد- أعني: الستّة- دون سائر الأعداد، فلا نشكّ أنّه داعي حكمة، لعلمنا أنّه لا يقدّر تقديرا إلّا بداعي حكمة، و إن كنّا لا نطّلع عليه، و لا نهتدي إلى معرفته، فإنّ خفاء الحكمة علينا لا يقتضي نفيها، و من ذلك تقدير الملائكة الّذين هم أصحاب النار تسعة عشر، و حملة العرش ثمانية، و الشهور اثني عشر، و السماوات سبعا، و غير ذلك. و الإقرار بدواعي الحكمة في جميع أفعاله، و بأنّ ما قدّره حقّ و صواب و حكمة، هو الإيمان. و قد نصّ عليه في قوله: وَ ما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً وَ ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ يَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَ لا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ لِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا «1». و هو الجواب أيضا في أنّه لم يخلقها لحظة، و هو قادر على ذلك.

و عن سعيد بن جبير: إنّما خلقها في ستّة أيّام، و هو يقدر على أن يخلقها في لحظة، تعليما لخلقه الرفق و التثبّت.

و قيل: اجتمع خلقها يوم الجمعة، فجعله اللّه عيدا للمسلمين.

ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ

قد سبق «2» معنى الاستواء على العرش غير مرّة الرَّحْمنُ خبر «الّذي» إن جعلته مبتدأ. أو بدل من المستكن في «استوى» فَسْئَلْ بِهِ بسؤال ما ذكر. أو الباء بمعنى «عن». يعني: فاسأل عمّا ذكر من الخلق و الاستواء خَبِيراً عالما يخبرك بحقيقة، و هو اللّه تعالى، أو جبرئيل، أو من وجده في الكتب المتقدّمة، ليصدّقك فيه.

و قيل: الضمير للرحمن. و المعنى: إن أنكروا إطلاقه على اللّه تعالى، فاسأل عنه من

______________________________

(1) المدّثّر: 31.

(2) راجع ج 2 ص 531 ذيل الآية 54 من سورة الأعراف، و ج 3 ص 188 ذيل الآية 3 من سورة يونس، و ص 425 ذيل الآية 2 من سورة الرعد، و ج 4 ص 222 ذيل الآية 5 من سورة طه.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 585

يخبرك من أهل الكتاب، ليعرفوا مجي ء ما يرادفه في كتبهم.

و على هذا، يجوز أن يكون «الرحمن» مبتدأ، و الخبر ما بعده. و السؤال كما يعدّى ب «عن» لتضمّنه معنى التفتيش، يعدّى بالباء، لتضمّنه معنى الاعتناء و الاهتمام.

و قيل: إنّه صلة «خبيرا» أي: فاسأل رجلا خبيرا به.

وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اسْجُدُوا لِلرَّحْمنِ قالُوا وَ مَا الرَّحْمنُ لأنّهم ما كانوا يطلقونه على اللّه. أو لأنّهم ظنّوا أنّه أراد به غيره، فإنّهم كانوا يقولون: ما نعرف الرّحمن إلّا الّذي باليمامة، يعنون مسيلمة. و لذلك قالوا: أَ نَسْجُدُ لِما تَأْمُرُنا أي: للّذي تأمرناه. يعني:

تأمرنا بسجوده. أو لأمرك لنا من غير عرفان، على أنّها مصدريّة. و قيل: لأنّه كان معربا لم يسمعوه. و قرأ حمزة و الكسائي: يأمرنا بالياء، على أنّه قول بعضهم لبعض. وَ زادَهُمْ نُفُوراً عن الإيمان.

[سورة الفرقان (25): الآيات 61 الى 62]

تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً وَ جَعَلَ فِيها سِراجاً وَ قَمَراً مُنِيراً

(61) وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أَوْ أَرادَ شُكُوراً (62)

ثمّ مدح اللّه سبحانه نفسه بصفات الكمال و نعوت الجلال الدالّة على رحمانيّته، فقال: تَبارَكَ الَّذِي جَعَلَ فِي السَّماءِ بُرُوجاً يعني: منازل الكواكب السبعة السيّارة:

الحمل، و الثور، و الجوزاء، و السرطان، و الأسد، و السنبلة، و الميزان، و العقرب، و القوس، و الجدي، و الدلو، و الحوت. سمّيت بالبروج الّتي هي القصور العالية، لأنّها لهذه الكواكب كالمنازل لسكّانها. و اشتقاق البرج من التبرّج، لظهوره.

وَ جَعَلَ فِيها سِراجاً يعني: الشمس، لقوله تعالى: وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً «1». و قرأ حمزة و الكسائي: سرجا. و هي: الشمس و الكواكب الكبار معها.

______________________________

(1) نوح: 16.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 586

وَ قَمَراً مُنِيراً مضيئا بالليل.

وَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ خِلْفَةً أي: ذوي خلفة يخلف كلّ منهما الآخر، بأن يقوم مقامه فيما ينبغي أن يعمل فيه، أي: ذوي عقبة، بأن يعقب هذا ذاك و ذاك هذا.

و منه قوله تعالى: وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ «1» و الفعلة للحالة، كالركبة و الجلسة.

و المعنى: جعلهما للحالة الّتي يخلف عليها كلّ واحد منهما الآخر.

لِمَنْ أَرادَ أَنْ يَذَّكَّرَ أي: يتذكّر آلاء اللّه، و يتفكّر في صنعه، بأن ينظر في اختلافهما، فيعلم أن لا بدّ لانتقالهما من حال إلى حال و تغيّرهما من ناقل و مغيّر، و يستدلّ بذلك على وجود صانع حكيم، واجب بالذات، رحيم على العباد أَوْ أَرادَ شُكُوراً أن يشكر اللّه على ما فيه من النعم. أو ليكونا وقتين للمتذكّرين و الشاكرين، من فاته ورده من العبادة في أحدهما تداركه في الآخر. كما نقل عن الحسن: من فاته عمله من التذكّر و الشكر بالنهار، كان له

في الليل مستعقب، و من فاته بالليل كان له في النهار مستعقب.

و

روي ذلك عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، حيث قال: «تقضى صلاة النهار بالليل، و صلاة الليل بالنهار».

و قرأ حمزة: أن يذكر، من: ذكر، بمعنى: تذكّر، و كذلك: ليذكّروا. و وافقه الكسائي فيه.

[سورة الفرقان (25): الآيات 63 الى 67]

وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ هَوْناً وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً (63) وَ الَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِياماً (64) وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً (65) إِنَّها ساءَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً (66) وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا وَ لَمْ يَقْتُرُوا وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً (67)

______________________________

(1) البقرة: 164.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 587

وَ عِبادُ الرَّحْمنِ مبتدأ خبره أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا «1» و ما بينهما صفات لهم. و يجوز أن يكون خبره قوله: الَّذِينَ يَمْشُونَ عَلَى الْأَرْضِ و إضافتهم إلى الرحمان للتخصيص و التفضيل، فيريد أفاضل عباده. و هذا كما يقال: ابني من يطيعني، أي: ابني الّذي أنا عنه راض، و يكون توبيخا لأولاده الّذين لا يطيعونه. أو لأنّهم الراسخون في عبادته، على أنّ عباد جمع عابد، كتاجر و تجار.

هَوْناً حال، أي: هيّنين. أو صفة للمشي، أي: مشيا هيّنا. و على التقديرين مصدر وصف به. و الهون: الرفق و اللين. و المعنى: أنّهم يمشون بسكينة و تواضع، لا يضربون بأقدامهم أشرا و بطرا. و لذلك كره بعض العلماء الركوب في الأسواق، لقوله:

وَ يَمْشُونَ فِي الْأَسْواقِ «2».

و

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «هو الرجل يمشي بسجيّته الّتي جبل عليها، لا يتكلّف و لا يتبختر».

وَ إِذا خاطَبَهُمُ الْجاهِلُونَ قالُوا سَلاماً تسلّما منكم لا نجاهلكم، و متاركة لكم، لا خير بيننا

و لا شرّ، أي: نتسلّم منكم تسلّما. فأقيم السلام مقام التسلّم.

و قيل: معناه: قالوا سدادا من القول، يسلمون فيه من الإيذاء و الإثم. و يؤيّده قوله:

______________________________

(1) و هي الآية 75 في آخر هذه السورة.

(2) الفرقان: 20.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 588

وَ إِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَ قالُوا لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ «1».

و المراد بالجهل السفه و قلّة الأدب. و ليس ما قال أبو العالية: من أنّها نسخت بآية «2» القتال، بشي ء، لأنّ المراد هو الإغضاء عن السفهاء و ترك مقابلتهم في الكلام، و هو لا ينافيها.

وَ الَّذِينَ يَبِيتُونَ لِرَبِّهِمْ سُجَّداً وَ قِياماً في الصلاة. و تخصيص البيتوتة، لأنّ العبادة بالليل أحمز، و أبعد عن الرياء. و تأخير القيام للرويّ. و هو جمع قائم، أو مصدر أجري مجراه.

قيل: من قرأ شيئا من القرآن في الصلاة و إن قلّ فقد بات ساجدا و قائما.

و قيل: هما الركعتان بعد المغرب، و الركعتان بعد العشاء. و الظاهر أنّه وصف لهم بإحياء الليل أو أكثره. يقال: فلان يظلّ صائما، و يبيت قائما.

ثمّ أشعر بأنّهم مع حسن مخالطتهم مع الخلق نهارا، و اجتهادهم في عبادة الحقّ ليلا، وجلون من العذاب، متضرّعون إلى اللّه في استدفاعه عنهم، لعدم اعتدادهم بأعمالهم، و وثوقهم على استمرار أحوالهم، فقال:

وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنَا اصْرِفْ عَنَّا عَذابَ جَهَنَّمَ إِنَّ عَذابَها كانَ غَراماً لازما دائما غير مفارق. و منه: الغريم، لملازمته و عدم مفارقته.

إِنَّها ساءَتْ إنّ جهنّم بئست مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً. و في «ساءت» ضمير مبهم يفسّره «مستقرّا». و المخصوص بالذمّ ضمير محذوف، به ترتبط الجملة باسم «إنّ» أي:

بئست جهنّم موضع قرار و إقامة هي. و يجوز أن يكون «ساءت» بمعنى: أحزنت، و فيها ضمير

اسم «إنّ»، و «مستقرّا» حال أو تمييز. و الجملة تعليل للعلّة الأولى، أو تعليل ثان.

______________________________

(1) القصص: 55.

(2) التوبة: 5 و 29.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 589

و كلاهما يحتملان حكاية لقولهم، و ابتداء من اللّه.

وَ الَّذِينَ إِذا أَنْفَقُوا لَمْ يُسْرِفُوا لم يجاوزوا حدّ الكرم وَ لَمْ يَقْتُرُوا و لم يضيّقوا تضييق الشحيح.

و قيل: الإسراف هو الإنفاق في المحارم، و أمّا في القرب فلا إسراف. و سمع رجل رجلا يقول: لا خير في الإسراف، فقال: لا إسراف في الخير. و التقتير منع الواجب.

و

روي عن معاذ أنّه قال: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن ذلك، فقال: «من أعطي في غير حقّ فقد أسرف، و من منع عن حقّ فقد قتر».

و قرأ ابن كثير و أبو عمرو بفتح الياء و كسر التاء. و نافع و ابن عامر: و لم يقتروا، من:

أقتر بمعنى: قتر.

وَ كانَ بَيْنَ ذلِكَ قَواماً وسطا عدلا. سمّي به لاستقامة الطرفين و اعتدالهما، كما سمّي سواء لاستوائهما. و القوام من العيش ما أقامك و أغناك. و هو خبر ثان، أو حال مؤكّدة. و يجوز أن يكون خبرا، و «بين ذلك» ظرف لغو. و أجاز الفرّاء أن يكون «بين ذلك» اسم «كان» لكنّه مبنيّ، لإضافته إلى غير متمكّن. و هو ضعيف، لأنّه بمعنى القوام، فيكون كالإخبار بالشي ء عن نفسه.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أربعة لا يستجاب لهم دعوة: رجل فاتح فاه جالس في بيته يقول: يا ربّ ارزقني. فيقول له: ألم آمرك بالطلب؟ و رجل كانت له امرأة يدعو عليها، يقول: يا ربّ أرحني منها. فيقول: ألم أجعل أمرها بيدك؟ و رجل كان له مال فأفسده، فيقول: يا ربّ ارزقني.

فيقول: ألم آمرك بالاقتصاد؟ و رجل كان له مال فأدانه بغير بيّنة.

فيقول: ألم آمرك بالشهادة؟».

[سورة الفرقان (25): الآيات 68 الى 71]

وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ لا يَزْنُونَ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً (68) يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً (69) إِلاَّ مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلاً صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (70) وَ مَنْ تابَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ مَتاباً (71)

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 590

عن ابن مسعود: «قلت: يا رسول اللّه أيّ الذنب أعظم؟ قال: أن تجعل للّه ندّا و هو خلقك. قلت: ثمّ أيّ؟ قال: أن تقتل ولدك خشية أن يأكل معك. قلت: ثمّ أيّ؟ قال: إن تزاني حليلة جارك».

فصدّقه اللّه بذلك فقال:

وَ الَّذِينَ لا يَدْعُونَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا يجعلون للّه سبحانه شريكا، بل إنّما يوجّهون عبادتهم إليه وحده وَ لا يَقْتُلُونَ النَّفْسَ الَّتِي حَرَّمَ اللَّهُ أي: حرّمها، بمعنى حرّم قتلها إِلَّا بِالْحَقِ متعلّق بهذا القتل المحذوف، أو ب «لا يقتلون». وَ لا يَزْنُونَ

نفى هذه المقبّحات العظام- الّتي هي أمّ المعاصي- عن الموصوفين بأصول الطاعات، الّتي هي الخلال العظيمة في الدين، إظهارا لكمال إيمانهم، و إشعارا بأنّ الأجر المذكور موعود للجامع بين ذلك، و تعريضا للكفرة بأضداده. و لذلك عقّبه بالوعيد تهديدا لهم، فقال: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ يَلْقَ أَثاماً أي: جزاء إثم، على حذف المضاف، بوزن الوبال و النكال و معناهما. عن مجاهد و عكرمة: أنّ أثاما اسم واد في جهنّم.

يُضاعَفْ لَهُ الْعَذابُ يَوْمَ الْقِيامَةِ بدل من «يلق» لأنّه في معناه. و قرأ أبو بكر بالرفع على

الاستئناف أو الحال. و كذلك وَ يَخْلُدْ فِيهِ مُهاناً و يدوم في العذاب مستحقّا به.

و قرأ ابن كثير و يعقوب: يضعّف بالتشديد و الجزم. و ابن عامر بالرفع فيهما مع التشديد.

و تضعيف العذاب لارتكابهم الشرك و المعاصي، فيعذّبون على الشرك و على

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 591

المعاصي، فتضاعف العقوبة لمضاعفة المعاقب عليه. و ملخّص المعنى: أنّهم يستحقّون على كلّ معصية منها عقوبة، فيضاعف عليه العذاب.

إِلَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ عَمَلًا صالِحاً فَأُوْلئِكَ يُبَدِّلُ اللَّهُ سَيِّئاتِهِمْ حَسَناتٍ بأن يمحو سوابق معاصيهم بالتوبة، أو بدونها تفضّلا، و يثبت مكانها الحسنات: الإيمان، و الطاعة، و التقوى. أو يبدّل ملكة المعصية في النفس بملكة الطاعة. و قيل: بأن يوفّقه لأضداد ما سلف منه. أو بأن يثبت له بدل كلّ عقاب ثوابا.

وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً ساترا لمعاصي عباده رَحِيماً منعما عليهم بالرحمة و الفضل، فلذلك يعفو عن السيّئات، و يثيب على الحسنات.

وَ مَنْ تابَ عن المعاصي، بأن يتركها و يندم عليها وَ عَمِلَ صالِحاً بأن يتلافى به ما فرط. أو خرج عن المعاصي، و دخل في الطاعة. فَإِنَّهُ يَتُوبُ إِلَى اللَّهِ يرجع إلى امتثال أمره بذلك مَتاباً رجوعا مرضيّا عند اللّه، ماحيا للعقاب، محصّلا للثواب. أو فإنّه يرجع بالتوبة إلى ثواب اللّه مرجعا حسنا، و أيّ مرجع. و هذا تعميم بعد تخصيص.

[سورة الفرقان (25): الآيات 72 الى 74]

وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ مَرُّوا كِراماً (72) وَ الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَ عُمْياناً (73) وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً (74)

ثمّ عاد سبحانه إلى وصف عباده المخلصين، فقال: وَ الَّذِينَ لا يَشْهَدُونَ الزُّورَ أي: لا

يحضرون محاضر الكذب و الفسق، و لا يقربونها تنزّها عن مخالطة الشرّ و أهله، و صيانة لدينهم عمّا يثلمه، لأنّ مشاهدة الباطل في حكم الشركة فيه. و لذلك قيل في

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 592

النظّارة إلى كلّ ما لم يسوّغه الشرع: هم شركاء فاعليه في الإثم، لأنّ حضورهم و نظرهم دليل الرضا به، و سبب الزيادة فيه، لأنّ استحسان النظّارة و رغبتهم في النظر إليه يبعث مزيّة رغبة الفاعل فيه. و

في مواعظ عيسى بن مريم عليه السّلام: «إيّاكم و مجالسة الخطّائين».

و

روي عن الصادقين عليهما السّلام: «الزور هو الغناء».

و قيل: الشرك. و عن الزجّاج: الزور في اللغة الكذب، و لا كذب فوق الشرك باللّه. و قيل: الزور أعياد أهل الذمّة. و قيل: المراد شهادة الزور، على حذف المضاف. و أصل الزور تمويه الباطل بما يوهم أنّه حقّ.

وَ إِذا مَرُّوا بِاللَّغْوِ بأهل اللغو و المشتغلين به. و هو ما يجب أن يلغى و يطرح.

مَرُّوا كِراماً مكرمين أنفسهم عن الوقوف عليه و الخوض فيه، معرضين عنه. و من ذلك: الإغضاء عن الفواحش، و الصفح عن الذنوب، و الكناية عمّا يستهجن التصريح به.

كما روي عن أبي جعفر عليه السّلام أنّ المعنى: إذا أرادوا ذكر الفرج كنّوا عنه. و أصل اللغو هو الفعل الّذي لا فائدة فيه.

وَ الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ بالوعظ أو القراءة لَمْ يَخِرُّوا عَلَيْها صُمًّا وَ عُمْياناً لم يقعوا عليها غير واعين لها، و لا متبصّرين بما فيها، كمن لا يسمع و لا يبصر، بل أكبّوا عليها، حرصا على استماعها، و أقبلوا على المذكّر بها، و هم في إكبابهم عليها سامعون بآذان واعية، مبصرون بعيون راعية. فالمراد من النفي: نفي الحال دون الفعل، كما تقول: لا

يلقاني زيد مسلّما، فإنّ المراد هو نفي السلام لا اللقاء. و قيل: الهاء للمعاصي المدلول عليها باللغو. عن الحسن: كم من قارئ يقرؤها فخرّ عليها أصمّ و أعمى.

وَ الَّذِينَ يَقُولُونَ رَبَّنا هَبْ لَنا مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيَّاتِنا قُرَّةَ أَعْيُنٍ ما تقرّبه عيوننا بتوفيقك إيّاهم للطاعة و حيازة الفضائل و الفواضل، فإنّ المؤمن إذا شاركه أهله في طاعة اللّه سرّ بهم قلبه، و قرّت بهم عينه، لما يرى من مساعدتهم له في الدين، و توقّع لحوقهم به في الجنّة.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 593

و «من» ابتدائيّة، أي: هب لنا من جهتهم. أو بيانيّة، كقولك: رأيت منك أسدا، أي:

أنت أسد. كأنّه قيل: هب لنا قرّة أعين، ثمّ بيّنت القرّة بقوله: «مِنْ أَزْواجِنا وَ ذُرِّيَّاتِنا».

و قرأ ابن عامر و الحرميّان و حفص و يعقوب: و ذرّيّاتنا، و هم الأزواج و الأعقاب.

و تنكير الأعين لإرادة تنكير القرّة تعظيما، كأنّه قال: هب لنا منهم سرورا عظيما و فرحا كثيرا. و إنّما قال: أعين، دون عيون، لتقليلها، لأنّ المراد أعين المتّقين، و هي قليلة بالإضافة إلى عيون غيرهم. قال اللّه تعالى: وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ «1».

وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً أي: أئمّة يقتدون بنا في أمر الدين، بإفاضة العلم و التوفيق للعمل. و توحيده للدلالة على الجنس، و عدم اللبس، كقوله: ثُمَّ نُخْرِجُكُمْ طِفْلًا «2». أو لأنّه مصدر في أصله. أو لأنّ المراد: و اجعل كلّ واحد منّا. أو لأنّهم كنفس واحدة، لاتّحاد طريقتهم و اتّفاق كلمتهم. و فيه تنبيه على استحباب طلب الرئاسة في الدين، و الرغبة فيها. و قيل: جمع آمّ. كصائم و صيام. و المراد: قاصدين لهم، مقتدين بهم.

عن الصادق عليه السّلام في قوله: «وَ اجْعَلْنا لِلْمُتَّقِينَ إِماماً»: إيّانا

عنى. و روي عنه أيضا أنّه قال: «هذه فينا».

[سورة الفرقان (25): الآيات 75 الى 77]

أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ بِما صَبَرُوا وَ يُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَ سَلاماً (75) خالِدِينَ فِيها حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً (76) قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي لَوْ لا دُعاؤُكُمْ فَقَدْ كَذَّبْتُمْ فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً (77)

______________________________

(1) سبأ: 13.

(2) الحجّ: 5.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 594

و لمّا وصف عبادة العباد، و عدّد صالحاتهم و حسناتهم، أثنى عليهم من أجلها، و وعدهم الترفّع من درجاتهم في الجنّة و الخلود فيها، فقال:

أُوْلئِكَ يُجْزَوْنَ الْغُرْفَةَ أعلى مواضع الجنّة. و هي اسم جنس أريد به الجمع، كقوله تعالى: وَ هُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ «1». و قيل: هي من أسماء الجنّة. بِما صَبَرُوا بصبرهم على المشاقّ من مضض «2» الطاعات، و رفض الشهوات، و تحمّل المجاهدات، من أذى الكفّار، و مقاساة الفقر، و سائر مشاقّ الدين. و إطلاقه لأجل الشياع في كلّ مصبور عليه.

وَ يُلَقَّوْنَ فِيها تَحِيَّةً وَ سَلاماً دعاء بالتعمير و بالسلامة، أي: يحيّيهم الملائكة و يسلّمون عليهم. أو يحيّي بعضهم بعضا و يسلّم. أو يعطون التبقية و التخليد مع السلامة عن كلّ آفة. و قرأ حمزة و الكسائي و أبو بكر: و يلقون، من: لقي.

خالِدِينَ فِيها لا يموتون فيها و لا يخرجون حَسُنَتْ مُسْتَقَرًّا وَ مُقاماً موضع استقرار و موضع إقامة. و هذا مقابل «ساءَتْ مُسْتَقَرًّا» معنى، و مثله إعرابا.

قُلْ ما يَعْبَؤُا بِكُمْ رَبِّي ما يصنع بكم. من: عبأت الجيش إذا هيّأته. أو لا يعتدّ بكم. لَوْ لا دُعاؤُكُمْ لو لا عبادتكم، فإنّ شرف الإنسان و كرامته بالمعرفة و الطاعة، و إلّا فهو و سائر الحيوانات سواء. و قيل: معناه: ما يصنع بعذابكم لو لا دعاؤكم معه آلهة.

و «ما» إن جعلت استفهاميّة فمحلّها النصب

على المصدر. كأنّه قيل: أيّ عب ء يعبأ بكم لو لا دعاؤكم؟ يعني: أنّكم لا تستأهلون شيئا من العب ء بكم لو لا عبادتكم. و فيه دلالة على أنّ من لا يعبد اللّه و لا يطيعه فلا وزن له عند اللّه.

و قيل: معناه: لو لا دعاؤكم له إذا مسّكم ضرّ أو أصابكم سوء، رغبة إليه و خضوعا له.

______________________________

(1) سبأ: 37.

(2) المضض: الألم و الوجع.

زبدة التفاسير، ج 4، ص: 595

روى العيّاشي بإسناده عن بريد بن معاوية العجلي، قال: قلت لأبي جعفر عليه السّلام: «كثرة القراءة أفضل أم كثرة الدعاء؟ فقال: كثرة الدعاء أفضل. و قرأ هذه الآية».

فَقَدْ كَذَّبْتُمْ بما أخبرتكم به حيث خالفتموه. و قيل: فقد قصّرتم في العبادة. من قولهم: كذّب القتال إذا لم يبالغ فيه. فَسَوْفَ يَكُونُ لِزاماً يكون جزاء التكذيب لازما يحيق بكم لا محالة. أو العذاب لازما بكم حين تكبّون في النار. و إنّما أضمر اسم «كان» غير منطوق به، بعد ما علم أنّه ممّا توعّد به من غير ذكر، للتهويل، و التنبيه على أنّه ممّا لا يكتنهه الوصف. و قيل: المراد قتل يوم بدر، و أنّه لوزم بين القتلى لزاما.

الجزء الخامس

(26) سورة الشعراء

اشارة

مكيّة. و هي مائتان و سبع و عشرون آية.

أبيّ بن كعب قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأ سورة الشعراء كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بنوح و كذّب به، و هود و شعيب و صالح و إبراهيم، و بعدد من كذّب بعيسى، و صدّق بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

و

عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أعطيت السورة الّتي يذكر فيها البقرة من الذكر

الأوّل، و أعطيت طه و طواسين من ألواح موسى، و أعطيت فواتح القرآن و خواتيم السورة الّتي يذكر فيها البقرة من تحت العرش، و أعطيت المفصّلة نافلة».

و

روى أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ الطواسين الثلاث في ليلة الجمعة كان من أولياء اللّه، و في جواره و كنفه، و لم يصيبه في الدنيا بؤس أبدا، و أعطي في الآخرة من الأجر الجنّة حتّى يرضى، و فوق رضاه، و زوّجه اللّه مائة حوراء من الحور العين».

[سورة الشعراء (26): الآيات 1 الى 9]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) لَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ أَلاَّ يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (3) إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ (4)

وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلاَّ كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ (5) فَقَدْ كَذَّبُوا فَسَيَأْتِيهِمْ أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (6) أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (7) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (8) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (9)

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 6

و اعلم أنّ اللّه سبحانه لمّا ذكر في مختتم سورة الفرقان تكذيبهم بالكتاب، ذكر في مفتتح هذه السورة وصف الكتاب، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم قد مرّ غير مرّة أنّه روي عن ابن عبّاس:

أنّ الحروف المقطّعة في أوائل السور إشارة إلى مفاتيح أسماء اللّه تعالى. فهاهنا:

الطاء إشارة إلى الطاهر، و السين إلى السلام، و الميم إلى نحو المالك. و قال القرطي:

أقسم اللّه بطوله، و سنائه، و ملكه.

و

روي عن محمّد بن الحنفيّة، عن عليّ عليه السّلام، عن النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا نزلت طسم قال: «الطاء طور سيناء،

و السين الاسكندريّة، و الميم مكّة».

و قيل: الطاء شجرة طوبى، و السين سدرة المنتهى، و الميم محمّد المصطفى.

و باقي الوجوه في الحروف المقطّعة مذكورة في صدر سورة البقرة.

و قرأ حمزة و الكسائي و أبو بكر بالإمالة المحضة، و نافع بين بين، كراهة العود إلى الياء المهروب منها. و أظهر نونه حمزة، لأنّه في الأصل منفصل عمّا بعده.

تِلْكَ إشارة إلى السورة، أو القرآن. و تأنيثه باعتبار الخبر. آياتُ الْكِتابِ

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 7

الْمُبِينِ الظاهر إعجازه، و صحّة أنّه من عند اللّه، على ما سبق في أوّل البقرة.

لَعَلَّكَ باخِعٌ أي: قاتل نَفْسَكَ و أصل البخع أن يبلغ بالذبح الباخع، و هو عرق مستبطن الفقار، و ذلك أقصى حدّ الذبح. و «لعلّ» للإشفاق، أي: أشفق على نفسك أن تقتلها حسرة. أَلَّا يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ لئلّا يؤمنوا، أو خيفة أن لا يؤمنوا. و إنّما قال ذلك سبحانه تسلية لنبيّه، و تخفيفا عنه بعض ما كان يصيبه من الاغتمام.

ثمّ قال: إِنْ نَشَأْ نُنَزِّلْ عَلَيْهِمْ مِنَ السَّماءِ آيَةً دلالة و علامة يلجئهم إلى الإيمان، و يقسرهم عليه فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ منقادين. و أصله: فظلّوا لها خاضعين، فأقحمت الأعناق لبيان موضع الخضوع، و ترك الخبر على أصله، حيث لم يقل: خاضعة أو خاضعات.

و قيل: لمّا وصفت الأعناق بالخضوع الّذي هو من صفات العقلاء أجريت مجراهم، كقوله: إِنِّي رَأَيْتُ أَحَدَ عَشَرَ كَوْكَباً وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ «1».

و قيل: المراد بها الرؤساء و مقدّموهم. و شبّهوا بالأعناق، كما قيل لهم: هم الرؤوس و النواصي و الصدور.

و قيل: الجماعات. من قولهم: جاءنا عنق من الناس، لفوج منهم.

و الجملة معطوفة على «ننزّل». و نظيره عطف «و أكن» على فَأَصَّدَّقَ «2».

لأنّه لو قيل:

أنزلنا بدله، لكان صحيحا.

عن ابن عبّاس: نزلت هذه الآية فينا و في بني اميّة. قال: ستكون لنا عليهم الدولة، فتذلّ لنا أعناقهم بعد صعوبة، و يلحقهم هوان بعد عزّة.

______________________________

(1) يوسف: 4.

(2) المنافقون: 10.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 8

وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ موعظة، أو طائفة من القرآن مِنَ الرَّحْمنِ بوحيه إلى نبيّه مُحْدَثٍ مجدّد إنزاله، لتكرير التذكير، و تنويع التقرير. يعني: و ما يجدّد لهم اللّه بوحيه من أنواع الموعظة و التذكير الّتي في القرآن إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ إلّا جدّدوا إعراضا عنه، و إصرارا على ما كانوا عليه من الكفر.

فَقَدْ كَذَّبُوا أي: بالذكر بعد إعراضهم، و أمعنوا في تكذيبه، بحيث أدّى إلى الاستهزاء به فَسَيَأْتِيهِمْ إذا مسّهم عذاب اللّه يوم بدر أو يوم القيامة أَنْبؤُا ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من أنّه كان حقّا أم باطلا، و كان حقيقا بأن يصدّق و يعظم قدره، أو يكذّب فيستخفّ أمره.

و اعلم أنّه خولف بين الألفاظ، أعني: الإعراض و التكذيب و الاستهزاء، لاختلاف الأغراض. كأنّه قيل: حين أعرضوا عن الذكر فقد كذّبوا به، و حين كذّبوا به فقد خفّ عندهم قدره، و صار عرضة للاستهزاء و السخريّة، لأنّ من كان قابلا للحقّ مقبلا عليه كان مصدّقا به لا محالة، و لم يظنّ به التكذيب، و من كان مصدّقا به كان موقّرا له.

أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الْأَرْضِ أو لم ينظروا إلى عجائبها كَمْ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ صنف كَرِيمٍ محمود كثير المنفعة. و هو صفة لكلّ ما يحمد و يرضى. و منه يقال: وجه كريم إذا رضي في حسنه و جماله، و كتاب كريم مرضيّ في معانيه و فوائده.

و ها هنا وصف الزوج بالكريم يحتمل معنيين:

أحدهما: أنّ النبات

على نوعين: نافع، و ضارّ. فذكر كثرة ما أنبت في الأرض من جميع أصناف النبات النافع، و خلّى ذكر الضارّ.

و الثاني: أن يعمّ جميع النبات، نافعه و ضارّه، و يصفهما جميعا بالكرم، و ينبّه على أنّه ما أنبت شيئا إلّا و فيه فائدة، لأنّ الحكيم لا يفعل فعلا إلّا لغرض صحيح،

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 9

و حكمة بالغة، و إن غفل عنها الغافلون، و لم يتوصّل إلى معرفتها العاقلون.

و فائدة الجمع بين «كم» و «كلّ»: أنّ «كلّ» للدلالة على الإحاطة بأزواج النبات على سبيل التفصيل، و «كم» على أنّ هذا المحيط متكاثر مفرط الكثرة. فهذا معنى الجمع بينهما، و به نبّه على كمال قدرته.

و عن الشعبي: الناس نبات الأرض، كما قال سبحانه: وَ اللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً «1». فمن دخل الجنّة فهو كريم، و من دخل النار فهو لئيم.

إِنَّ فِي ذلِكَ أي: في إنبات تلك الأصناف، أو في كلّ واحد من تلك الأزواج لَآيَةً على أنّ منبتها تامّ القدرة و الحكمة، سابغ النعمة و الرحمة، مقتدر على إحياء الأموات وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ في علم اللّه مُؤْمِنِينَ بأمثال هذه الآيات العظام.

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الغالب القادر على الانتقام من الكفرة الرَّحِيمُ حيث أمهلهم. أو العزيز في انتقامه ممّن كفر، الرحيم لمن تاب و آمن.

[سورة الشعراء (26): الآيات 10 الى 14]

وَ إِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى أَنِ ائْتِ الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10) قَوْمَ فِرْعَوْنَ أَ لا يَتَّقُونَ (11) قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (12) وَ يَضِيقُ صَدْرِي وَ لا يَنْطَلِقُ لِسانِي فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ (13) وَ لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (14)

ثمّ ذكر سبحانه أقاصيص رسله تسلية للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و تحريضا له على

______________________________

(1)

نوح: 17.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 10

الصبر، ثقة بنزول النصر. و ابتدأ بقصّة موسى و فرعون، لطولها و شهرتها بين معاصري نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من اليهود، فقال:

وَ إِذْ نادى رَبُّكَ مُوسى مقدّر ب: اذكر. أو ظرف لما بعده. أَنِ ائْتِ أي:

ائت، أو بأن ائت الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ بالكفر، و استعباد بني إسرائيل، و ذبح أولادهم.

قَوْمَ فِرْعَوْنَ بدل من الأوّل. أو عطف بيان له. و يجوز أن يكون الاقتصار على القوم للعلم بأنّ فرعون كان أولى بذلك. أَ لا يَتَّقُونَ و يصرفون عن أنفسهم عقوبة اللّه بطاعته. و التقوى مجانبة القبائح بفعل المحاسن. و هذا استئناف أتبعه عزّ و جل إرساله إليهم، للإنذار و التسجيل عليهم بالظلم، تعجيبا لموسى عليه السّلام من إفراطهم في الظلم و اجترائهم عليه.

قالَ رَبِّ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ بالرسالة، و لا يقبلوها منّي. و الخوف انزعاج النفس بتوقّع الضرّ. و نقيضه الأمن. و هو سكون النفس إلى خلوص النفع.

وَ يَضِيقُ صَدْرِي بتكذيبهم إيّاي. عطف على خبر «إنّ». و كذا قوله: وَ لا يَنْطَلِقُ لِسانِي بأن لا ينبعث بالكلام، للعقدة الّتي كانت في لسانه. و قد مرّ «1» بيانها. فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ ليعاونني، كما يقال: إذا نزلت بنا نازلة أرسلنا إليك، أي: لتعيننا.

و معنى الكلام: فأرسل إلى هارون جبرئيل، و اجعله نبيّا، و آزرني «2» به، و اشدد به عضدي.

و هذا كلام مختصر، و قد بسطه في غير هذا الموضع. و قد أحسن في الاختصار حيث قال: «فَأَرْسِلْ إِلى هارُونَ» فجاء بما يتضمّن معنى الاستنباء.

______________________________

(1) راجع ج 4 ص 234 ذيل الآية (27) من سورة طه.

(2) آزره مؤازرة: عاونه.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 11

و إنّما طلب المعاونة حرصا على القيام

بالطاعة. و رتّب استدعاء ضمّ أخيه إليه و إشراكه له في الأمر على الأمور الثلاثة: خوف التكذيب، و ضيق القلب انفعالا عنه، و ازدياد الحبسة في اللسان بانقباض الروح إلى باطن القلب عند ضيقه بحيث لا ينطلق، لأنّها إذا اجتمعت مسّت الحاجة إلى معين يقوّي قلبه و ينوب منابه متى تعتريه حبسة، حتى لا تختلّ دعوته، و لا تنقطع حجّته، و ليس ذلك تعلّلا منه و توقّفا في تلقّي الأمر، بل طلبا لما يكون معونة على امتثاله و تمهيد عذره فيه.

و قرأ يعقوب: و يضيق ... و لا ينطلق، بالنصب عطفا على «يكذّبون». و الفرق بين القراءتين معنى: أن الرفع يفيد أن فيه ثلاث علل: خوف التكذيب، و ضيق الصدر، و امتناع انطلاق اللسان. و النصب على أن خوفه متعلّق بهذه الثلاثة. و فيه:

أنّ الخوف إنّما يلحق الإنسان لأمر سيقع، و عدم انطلاق اللسان كان واقعا، فكيف جاز تعليق الخوف به؟ و أجيب: بأنّه قد علّق الخوف بتكذيبهم و بما يحصل له بسببه، من ضيق الصدر و الحبسة في اللسان زائدة على ما كان به.

وَ لَهُمْ عَلَيَّ ذَنْبٌ أي: تبعة ذنب. فحذف المضاف، أو سمّي باسمه. و المراد قتل القبطي. و هو خبّاز فرعون، و اسمه فاتون، أي: لهم عليّ دعوى ذنب. فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ به قبل أداء رسالتك. و هو أيضا ليس تعلّلا، و إنّما هو استدفاع للبليّة المتوقّعة، كما أنّ ذلك استمداد و استظهار في أمر الدعوة.

[سورة الشعراء (26): الآيات 15 الى 22]

قالَ كَلاَّ فَاذْهَبا بِآياتِنا إِنَّا مَعَكُمْ مُسْتَمِعُونَ (15) فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (16) أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ (17) قالَ أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً وَ لَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ (18) وَ

فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ وَ أَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (19)

قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ (20) فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ لَمَّا خِفْتُكُمْ فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ (21) وَ تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ (22)

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 12

فأجاب اللّه تعالى هاتين الطلبتين بقوله: قالَ كَلَّا ردعا عن الخوف.

و المعنى: فارتدع يا موسى عمّا تظنّ، لأنّهم لن يقتلوك به، فإنّي لا أسلّطهم عليك.

فَاذْهَبا بِآياتِنا الخطاب على تغليب الحاضر. و هو معطوف على الفعل الّذي يدلّ عليه «كلّا». كأنّه قيل: ارتدع يا موسى عمّا تظنّ. فاذهب أنت و الّذي طلبته، و هو هارون. يعني: ضممناه إليك في الإرسال. إِنَّا مَعَكُمْ يعني: موسى و هارون و فرعون مُسْتَمِعُونَ سامعون لما يجري بينكما و بينه، فأظهر كما عليه. و هو خبر ثان. أو الخبر وحده، و «معكم» ظرف لغو.

قيل: مثّل اللّه سبحانه نفسه بمن حضر مجادلة قوم استماعا لما يجري بينهم، و ترقّبا لإمداد أوليائه منهم، مبالغة في الوعد بإعانته. و لذلك تجوّز بالاستماع الّذي هو بمعنى الإصغاء للسمع الّذي هو مطلق إدراك الحروف و الأصوات، فإنّ اللّه سبحانه يوصف على الحقيقة بأنّه سمع و سامع لا مستمع، لانتفاء آلة السمع اللازم للإصغاء.

فَأْتِيا فِرْعَوْنَ فَقُولا إِنَّا رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ أرسلنا اللّه إليك لندعوك إلى عبادته، و ترك الإشراك به. و أفرد الرسول، لأنّه مصدر وصف به، فإنّه مشترك بين المرسل و الرسالة. و لذلك ثنّى تارة، كما في قوله: إِنَّا رَسُولا رَبِّكَ «1»، و أفرد أخرى، كما هاهنا. أو لاتّحادهما، للأخوّة. أو لوحدة المرسل و المرسل به. أو لأنّه

______________________________

(1) طه: 47.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 13

أراد كلّ واحد منّا.

أَنْ أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ أي:

أرسل، لتضمّن الرسول معنى الإرسال المتضمّن معنى القول، كما في المناداة و نحوها. و معنى هذا الإرسال التخلية و الإطلاق، كما يقال: أرسل البازي. و المراد: أمرك اللّه بأن خلّهم و أرسلهم يذهبوا معنا إلى فلسطين. و كانت مسكنهما.

روي: أنّهما انطلقا إلى باب فرعون، فلم يؤذن لهما سنة، حتّى قال البوّاب:

إنّ هاهنا إنسانا يزعم أنّه رسول ربّ العالمين. فقال: ائذن له لعلّنا نضحك منه.

فأذنا، فدخلا فأدّيا إليه الرسالة. فعرف موسى.

قالَ أي: فرعون لموسى بعد ما أتياه و قالا له ذلك أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينا في منازلنا وَلِيداً طفلا. سمّي به لقربه من الولادة. و التربية تنشئة الشي ء حالا بعد حال. وَ لَبِثْتَ فِينا مِنْ عُمُرِكَ سِنِينَ إنّما قال ذلك امتنانا عليه بإحسانه إليه.

عن ابن عبّاس: لبث فيهم ثماني عشرة سنة. و قيل: أربعين. و قيل: ثلاثين سنة. ثمّ خرج إلى مدين عشر سنين، ثمّ عاد إليهم يدعوهم إلى اللّه ثلاثين، ثمّ بقي بعد الغرق خمسين.

وَ فَعَلْتَ فَعْلَتَكَ الَّتِي فَعَلْتَ المراد بالفعلة قتل القبطي بوكزة واحدة. وبّخه به معظّما إيّاه، بعد ما عدّد عليه نعمته، من تربيته و تبليغه مبلغ الرجال. وَ أَنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ بنعمتي و حقّ تربيتي حتّى عمدت إلى قتل خواصّي. قيل: و كز القبطي و هو ابن اثنتي عشرة سنة، و فرّ منهم على أثرها. و اللّه أعلم بصحيح ذلك.

و عن السدّي و الحسن: معناه: و أنت من الكافرين بإلهك، إذ كنت معنا على ديننا الّذي تعيب و تقول الآن: إنّه كفر. و قد افترى عليه، أو جهل أمره، لأنّه كان يعايشهم بالتقيّة، فإنّ اللّه عزّ و جل عاصم من يريد أن يستنبئه من كلّ كبيرة و صغيرة، فما بال الكفر؟!

زبدة التفاسير،

ج 5، ص: 14

و هو حال من إحدى التاءين. و يجوز أن يكون حكما مبتدأ عليه، بأنّه من الكافرين بإلهيّته، أو بنعمته، لمّا عاد عليه بالمخالفة. أو من الّذين كانوا يكفرون في دينهم.

قالَ فَعَلْتُها إِذاً وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ أي: الذاهبين عن أنّ الوكزة تفضي إلى قتله، لأنّه قصد به التأديب، و قد يسمّى الذاهب عن الشي ء أنّه ضالّ عليه. و يجوز أن يريد: أنّي ضللت عن فعل المندوب إليه من الكفّ عن القتل في تلك الحالة، فأفوز بمنزلة الثواب.

و قيل: معناه: الذاهبين عن طريق الصواب، لأنّي ما تعمّدته، و إنّما وقع منّي خطأ، كمن رمى طائرا فيصيب إنسانا.

و قيل: من الضالّين عن النبوّة، أي: لم يوح إليّ تحريم قتله.

و قيل: الناسين، من قوله: أَنْ تَضِلَّ إِحْداهُما فَتُذَكِّرَ إِحْداهُمَا الْأُخْرى «1».

و بهذا القول كذّب موسى فرعون، و دفع الوصف بالكفر عن نفسه، بأن وضع الضالّين موضع الكافرين.

فَفَرَرْتُ مِنْكُمْ منك و من ملئك المؤتمرين بقتلي لَمَّا خِفْتُكُمْ أي: ذهبت من بينكم إلى مدين، حذرا على نفسي أن يقتلوني قودا عن القبطي فَوَهَبَ لِي رَبِّي حُكْماً علما بما تدعو إليه الحكمة. و هو الّذي وهبه اللّه تعالى لموسى من التوراة، و العلم بالحلال و الحرام و سائر الأحكام. و قيل: نبوّة. و صرّح به بقوله: وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُرْسَلِينَ

ردّ بذلك ما وبّخه به قدحا في نبوّته. ثمّ أنكر امتنانه عليه بالتربية، و أبى أن يسمّي نعمته نعمة، بأن بيّن أنّ حقيقة إنعامه عليه تعبيد بني إسرائيل، فقال: وَ تِلْكَ نِعْمَةٌ تَمُنُّها عَلَيَّ أَنْ عَبَّدْتَ بَنِي إِسْرائِيلَ أي: و تلك التربية نعمة تمنّها عليّ بها

______________________________

(1) البقرة: 282.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 15

ظاهرا، و هي في الحقيقة تعبيدك بني إسرائيل،

و قصدك بذبح أبنائهم، فإنّه السبب في وقوعي إليك، و حصولي في تربيتك. و لو كنت لم تستعبد بني إسرائيل، و لم تقتل أبناءهم، لكانت امّي مستغنية عن قذفي في اليمّ. فكأنّك تمنّ عليّ بما كان بلاؤك سببا له. فعلى التحقيق امتنانك عليّ تعبيدك قومي، أي: اتّخاذك إيّاهم عبيدا، و تذليلك إيّاهم، فلا يكون حقيقة إنعامك و امتنانك عليّ.

و محلّ «أن عبّدت» الرفع على أنّه خبر محذوف، أو بدل من «نعمة». أو الجرّ بإضمار الباء. أو النصب بحذفها.

و قيل: «تلك» إشارة إلى خصلة شنعاء مبهمة، و «أن عبّدت» عطف بيانها.

و المعنى: تعبيدك بني إسرائيل نعمة تمنّها عليّ.

و إنّما وحّد الخطاب في «تمنّها» و جمع فيما قبله، لأنّ المنّة كانت منه وحده، و الخوف و الفرار منه و من ملئه، كما فسّرنا به.

[سورة الشعراء (26): الآيات 23 الى 28]

قالَ فِرْعَوْنُ وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ (23) قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (24) قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ أَ لا تَسْتَمِعُونَ (25) قالَ رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (26) قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ (27)

قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ ما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ (28)

و لمّا سمع فرعون جواب ما طعن به فيه شرع في الاعتراض على دعواه، فبدأ بالاستفسار عن حقيقة المرسل، كما حكاه اللّه تعالى عن ذلك بقوله: قالَ فِرْعَوْنُ وَ ما رَبُّ الْعالَمِينَ أيّ شي ء هو من الأشياء التي شوهدت و عرفت

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 16

أجناسها.

قالَ رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ منشئهما و مبدعهما وَ ما بَيْنَهُمَا و ما بين الجنسين من سائر الممكنات الجسمانيّة و العرضيّة. عرّفه ببيان أظهر خواصّه و آثاره، و أنّه ليس بشي ء ممّا شوهد و عرف من الأجرام

و الأعراض، و إنّما هو شي ء مخالف لجميع الأشياء، ليس كمثله شي ء.

إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ الأشياء محقّقين لها، علمتم أنّ هذه الأجرام المحسوسة ممكنة، لتغيّر أحوالها، فلا بدّ لها من مبدئ واجب لذاته، و ذلك المبدئ لا بدّ و أن يكون مبدئا لسائر الممكنات. و لا يمكن تعريفه إلّا بلوازمه الخارجيّة، لامتناع التعريف بنفسه و بما هو داخل فيه، لاستحالة التركيب في ذاته.

فلمّا أجاب موسى بما أجاب، تعجّب فرعون و قومه من جوابه، حيث نسب الربوبيّة إلى غيره قالَ لِمَنْ حَوْلَهُ من أشراف قومه. قيل: كانوا خمسمائة رجل عليهم الأساور. أَ لا تَسْتَمِعُونَ جوابه؟ سألته عن حقيقته و هو يذكر أفعاله. أو يزعم أنّه ربّ السماوات، و هي واجب التحرّك بذواتها، كما هو مذهب الدهريّة، أو غير معلوم افتقارها إلى مؤثّر.

قالَ رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ عدولا إلى ما لا يمكن أن يتوهّم فيه مثله، و يشكّ في افتقاره إلى مصوّر حكيم، و يكون أقرب إلى الناظر، و أوضح عند التأمّل.

قالَ إِنَّ رَسُولَكُمُ الَّذِي أُرْسِلَ إِلَيْكُمْ لَمَجْنُونٌ أسأله عن شي ء، و يجيبني عن آخر. و سمّاه رسولا على السخريّة.

قالَ رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ وَ ما بَيْنَهُما تشاهدون كلّ يوم أنّه يأتي بالشمس من المشرق، و يحرّكها على مدار غير مدار اليوم الّذي قبله، حتّى يبلغها إلى المغرب، على وجه نافع ينتظم به أمور الكائنات إِنْ كُنْتُمْ تَعْقِلُونَ إن كان لكم عقل علمتم أن لا جواب لكم فوق ذلك.

فعمّم موسى أوّلا في أفعاله تعالى. ثمّ خصّص من العامّ للبيان أنفسهم

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 17

و آباءهم، لأنّ أقرب المنظور فيه من العاقل نفسه و من ولد منه، و ما شاهد و عاين من الدلائل على الصانع، و

الناقل من هيئة إلى هيئة و حال إلى حال، من وقت ميلاده إلى وقت وفاته. ثمّ خصّص المشرق و المغرب، لأن طلوع الشمس من أحد الخافقين و غروبها في الآخر، على تقدير مستقيم في فصول السنة، و حساب مستو، من أظهر ما استدلّ به. و لظهوره انتقل إلى الاحتجاج به خليل اللّه عن الاحتجاج بالإحياء و الإماتة على نمرود بن كنعان، فبهت الّذي كفر.

[سورة الشعراء (26): الآيات 29 الى 42]

قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ (29) قالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْ ءٍ مُبِينٍ (30) قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (31) فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ (32) وَ نَزَعَ يَدَهُ فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ لِلنَّاظِرِينَ (33)

قالَ لِلْمَلَإِ حَوْلَهُ إِنَّ هذا لَساحِرٌ عَلِيمٌ (34) يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ فَما ذا تَأْمُرُونَ (35) قالُوا أَرْجِهْ وَ أَخاهُ وَ ابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (36) يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ (37) فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (38)

وَ قِيلَ لِلنَّاسِ هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ (39) لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (40) فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَ إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ (41) قالَ نَعَمْ وَ إِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ (42)

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 18

و لمّا كان عادة المعاند المحجوج العدول عن المحاجّة إلى التهديد بعد الانقطاع و الإلزام قالَ لَئِنِ اتَّخَذْتَ إِلهَاً غَيْرِي لَأَجْعَلَنَّكَ مِنَ الْمَسْجُونِينَ قيل: كان دهريّا اعتقد أنّ من ملك قطرا، أو تولّى أمره بقوّة طالعه، استحقّ العبادة من أهله.

و اللام في «المسجونين» للعهد، أي: ممّن عرفت حالهم في سجوني، فإنّه كان يطرحهم في هوّة بعيدة العمق، لا يبصرون فيها و لا يسمعون، فكان ذلك أشدّ من القتل، و لذلك آثر هذا القول على:

لأسجنّنك.

و لمّا توعّده بالسجن قالَ موسى عليه السّلام: أَ وَ لَوْ جِئْتُكَ بِشَيْ ءٍ مُبِينٍ الواو للحال، دخلت عليها همزة الاستفهام بعد حذف الفعل. و المعنى: أ تفعل ذلك بي و لو جئت بشي ء مبين؟ أي جائيا بشي ء ظاهر أو مظهر يبين صدق دعواي. يعني:

المعجزة، فإنّها الجامعة بين الدلالة على وجود الصانع و حكمته، و الدلالة على صدق مدّعي نبوّته.

قالَ فَأْتِ بِهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في أنّ لك بيّنة. أو في دعواك أتيت به، فإنّ مدّعي النّبوة لا بدّ له من حجّة. فحذف الجزاء، لأن الأمر بالإتيان به يدلّ عليه.

فَأَلْقى عَصاهُ فَإِذا هِيَ ثُعْبانٌ مُبِينٌ ظاهر ثعبانيّته. و اشتقاق الثعبان من:

ثعبت الماء فانثعب، إذا فجّرته فانفجر.

روي: أنّها انقلبت حيّة ارتفعت في السماء قدر ميل، ثمّ انحطّت مقبلة إلى فرعون، و جعلت تقول: يا موسى مرني بما شئت، و يقول فرعون: أسألك بالّذي أرسلك إلّا أخذتها، فأخذها فعادت عصا.

و قيل: إنّ فرعون لمّا رأى هذه الآية قال: فهل غيرها؟ قال موسى: نعم وَ نَزَعَ يَدَهُ و أخرج يده من كمّه أو جيبه فَإِذا هِيَ بَيْضاءُ بياضا مفرط اللمعان و الشعاع كالشمس لِلنَّاظِرِينَ إليها بحيث يكاد يغشي الأبصار، و يسدّ الأفق، لفرط أشعّته.

قالَ لِلْمَلَإِ للأشراف من قومه مستقرّين حَوْلَهُ فهو ظرف وقع موقع

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 19

الحال. فهو منصوب بنصبين: نصب في اللفظ، و هو ما يقدّر في الظرف. و نصب في المحلّ، و هو النصب على الحال. إِنَّ هذا يعني: موسى لَساحِرٌ عَلِيمٌ فائق في علم السحر و الحيل.

و لمّا بهره سلطان المعجزة زلّ عنه ذكر دعوى الإلهيّة، و حطّ عن منكبيه كبرياء الربوبيّة، و ارتعدت فرائضه، و انتفخ سحره «1»، لفرط خوفه من استيلاء

موسى على ملكه، و بلغت به الاستكانة لقومه الّذين هم بزعمه عبيده و هو إلههم، أن طفق يؤامرهم و يعترف لهم بما حذر منه من غلبة موسى على ملكه و أرضه، فقال:

يُرِيدُ أَنْ يُخْرِجَكُمْ مِنْ أَرْضِكُمْ بِسِحْرِهِ يتغلّب عليها فَما ذا تَأْمُرُونَ في شأنه. من المؤامرة، و هي المشاورة. أو من الأمر الّذي هو ضدّ النهي. جعل العبيد آمرين و ربّهم مأمورا، لما استولى عليه من فرط الدهش و الحيرة.

قالُوا أَرْجِهْ وَ أَخاهُ أخّر أمرهما. و قيل: احبسهما. وَ ابْعَثْ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ شرطا «2» يحشرون السحرة من جميع البلدان.

يَأْتُوكَ بِكُلِّ سَحَّارٍ عَلِيمٍ يفضّلون عليه في فنّ السحر. أمالها ابن عامر و الكسائي.

فَجُمِعَ السَّحَرَةُ لِمِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ لما وقّت به من ساعات يوم معين.

و هو وقت الضحى من يوم الزينة. و الميقات: ما حدّد من زمان أو مكان. و منه:

مواقيت الإحرام.

وَ قِيلَ لِلنَّاسِ أي: لأهل مصر هَلْ أَنْتُمْ مُجْتَمِعُونَ فيه استبطاء لهم في الاجتماع حثّا على مبادرتهم إليه، كما يقول الرجل لغلامه: هل أنت منطلق؟ إذا أراد أن يحثّه على الانطلاق.

لَعَلَّنا نَتَّبِعُ السَّحَرَةَ أي: نتّبعهم في دينهم إِنْ كانُوا هُمُ الْغالِبِينَ إن

______________________________

(1) السحر: الرئة. يقال للجبان: قد انتفخ سحره، كأنّ الخوف ملأ جوفه فانتفخ سحره

(2) الشرط: الحرس و أعوان الولاة و واحدها: شرطي.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 20

غلبوا موسى، و لا نتّبع موسى في دينه. و ليس غرضهم اتّباع السحرة، بل إنّما الغرض الكلّي أن لا يتّبعوا موسى، فساقوا الكلام مساق الكناية، لأنّهم إذا اتّبعوهم لم يكونوا متّبعين لموسى.

فَلَمَّا جاءَ السَّحَرَةُ حضروا بين يدي فرعون قالُوا لِفِرْعَوْنَ أَ إِنَّ لَنا لَأَجْراً إِنْ كُنَّا نَحْنُ الْغالِبِينَ لموسى و أخيه.

قالَ نَعَمْ لكم على ذلك الأجر الجزيل

وَ إِنَّكُمْ إِذاً مع ما لكم من الأجر لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ التزم لهم الأجر و القربة عنده زيادة عليه إن غلبوا.

و لمّا كان قوله: «أَ إِنَّ لَنا لَأَجْراً» في معنى جزاء الشرط، لدلالته عليه، و كان قوله: «وَ إِنَّكُمْ إِذاً لَمِنَ الْمُقَرَّبِينَ» معطوفا عليه، و مدخلا في حكمه، دخلت «إذا» قارّة في مكانها الّذي تقتضيه من الجواب و الجزاء.

[سورة الشعراء (26): الآيات 43 الى 51]

قالَ لَهُمْ مُوسى أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ (43) فَأَلْقَوْا حِبالَهُمْ وَ عِصِيَّهُمْ وَ قالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ (44) فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ ما يَأْفِكُونَ (45) فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ (46) قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ (47)

رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ (48) قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ (49) قالُوا لا ضَيْرَ إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ (50) إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا أَنْ كُنَّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ (51)

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 21

قالَ لَهُمْ مُوسى بعد ما لقالوا له: إِمَّا أَنْ تُلْقِيَ وَ إِمَّا أَنْ نَكُونَ نَحْنُ الْمُلْقِينَ «1» أَلْقُوا ما أَنْتُمْ مُلْقُونَ لم يرد به أمرهم بالسحر و التمويه، بل الإذن في تقديم ما هم فاعلوه لا محالة، توسّلا به إلى إظهار الحقّ.

فَأَلْقَوْا فطرحوا حِبالَهُمْ وَ عِصِيَّهُمْ وَ قالُوا بِعِزَّةِ فِرْعَوْنَ بعلوّ منزلته و فرط قوّته إِنَّا لَنَحْنُ الْغالِبُونَ أقسموا بعزّته على أنّ الغلبة لهم، لفرط اعتقادهم في أنفسهم، أو لإتيانهم بأقصى ما يمكن أن يؤتى به من السحر.

هذا من أقسام الجاهليّة. و في الإسلام لا يصحّ الحلف إلّا باللّه تعالى، أو ببعض أسمائه و صفاته. و في الحديث: «لا تحلفوا إلّا باللّه، و لا تحلفوا باللّه إلّا و

أنتم صادقون».

فَأَلْقى مُوسى عَصاهُ فَإِذا هِيَ تَلْقَفُ تبتلع. و قرأ حفص: تلقف بالتخفيف.

ما يَأْفِكُونَ ما يقلبونه عن وجهه و حقيقته بتمويههم و تزويرهم، فيخيّلون حبالهم و عصيّهم أنّها حيّات تسعى. أو إفكهم، تسمية للمأفوك به مبالغة.

فَأُلْقِيَ السَّحَرَةُ ساجِدِينَ لما بهرهم ما أظهره موسى عليه السّلام، من قلب العصا حيّة، و تلقّفها جميع ما أتعبوا به نفوسهم فيه، و علموا أنّ مثله لا يتأتّى بالسحر، و لا يقدر عليه أحد من البشر، بل من عند اللّه الخالق للقوى و القدر.

و فيه دليل على أنّ منتهى السحر تمويه و تزوير، يخيّل شيئا لا حقيقة له. و أن التبحّر في كلّ فنّ نافع.

و إنّما بدّل الخرور بالإلقاء ليشاكل ما قبله، و يدلّ على أنّهم لمّا رأوا ما رأوا، لم يتمالكوا أن رموا بأنفسهم إلى الأرض ساجدين، بل كأنّهم أخذوا فطرحوا على وجوههم. و فاعل الإلقاء هو اللّه عزّ و جل بما خوّلهم من التوفيق، أو معاينة المعجزة الباهرة.

______________________________

(1) الأعراف: 115.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 22

روي: أنّهم قالوا قبل إلقاء الحبال و العصيّ: إن يك ما جاء به موسى سحرا فلن يغلب، و إن كان من عند اللّه فلن يخفى علينا. فلمّا قذف عصاه، فتلقّفت ما أتوا به، علموا أنّه من اللّه.

قالُوا آمَنَّا بِرَبِّ الْعالَمِينَ بدل من «ألقي» بدل الاشتمال. أو حال بإضمار «قد». رَبِّ مُوسى وَ هارُونَ عطف بيان ل «ربّ العالمين». و إتيانهم به لدفع توهّم أنّ غرضهم بربّ العالمين فرعون، لأنّه لعنه اللّه كان يدّعي الربوبيّة، فأرادوا أن يعزلوه. و للإشعار على أنّ الموجب لإيمانهم ما أجراه على أيديهما. عن عكرمة:

أصبحوا كفرة سحرة، و أمسوا مؤمنين شهداء.

قالَ آمَنْتُمْ لَهُ قَبْلَ أَنْ آذَنَ لَكُمْ في تصديقه إِنَّهُ لَكَبِيرُكُمُ

أستادكم الَّذِي عَلَّمَكُمُ السِّحْرَ فعلّمكم شيئا دون شي ء، فلذلك غلبكم. أو فواعدكم على ذلك، و تواطأتم عليه. أراد به التلبيس على قومه، كي لا يعتقدوا أنّهم آمنوا عن بصيرة و ظهور حقّ. و قرأ حمزة و الكسائي و أبو بكر و روح: أ آمنتم بهمزتين.

فَلَسَوْفَ تَعْلَمُونَ وبال ما فعلتم. ثمّ فسّر ذلك التهديد بقوله: لَأُقَطِّعَنَّ أَيْدِيَكُمْ وَ أَرْجُلَكُمْ مِنْ خِلافٍ قطع اليد من جانب و الرجل من الجانب الآخر، كقطع اليد اليمنى و الرجل اليسرى وَ لَأُصَلِّبَنَّكُمْ أَجْمَعِينَ مع ذلك على الجذوع، و لا أترك أحدا منكم لا تناله هذه العقوبة. قيل: إنّ أوّل من قطع الأيدي و الأرجل فرعون.

قالُوا في جوابه لا ضَيْرَ أي: لا ضرر، فإنّ الضير و الضور و الضرّ و الضرر واحد. أرادوا: لا ضرر علينا فيما تتوعّدنا به من القتل. إِنَّا إِلى رَبِّنا مُنْقَلِبُونَ بالقتل، فإنّ الصبر عليه محّاء للذنوب، موجب للثواب و القرب من اللّه، أو بسبب من أسباب الموت، و قتلك أهونها و أرجاها، فإنّ ألمه ساعة عن قريب ينقضي، فنصل إلى جنّات النعيم مؤبّدين فيها. و عن الحسن: لم يصل فرعون إلى

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 23

قتل واحد منهم و لا قطعه.

إِنَّا نَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لَنا رَبُّنا خَطايانا من السحر و غيره أَنْ كُنَّا لأن كنّا أَوَّلَ الْمُؤْمِنِينَ من أتباع فرعون، لأنّ بني إسرائيل كانوا آمنوا به. أو أوّل من آمن من أهل هذا المشهد عند تلك المعجزة.

[سورة الشعراء (26): الآيات 52 الى 56]

وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (52) فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ (53) إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ (54) وَ إِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ (55) وَ إِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ (56)

وَ أَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنْ أَسْرِ بِعِبادِي و ذلك

بعد سنين أقام بين أظهرهم، يدعوهم إلى الحقّ، و يظهر لهم الآيات، فلم يزيدوا إلّا عتوّا و فسادا. و قرأ ابن كثير و نافع: أن أسر، بكسر النون و وصل الألف، من: سرى. إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ يتّبعكم فرعون و جنوده. و هو علّة الأمر بالإسراء، أي: أسر بهم حتّى إذا اتّبعوكم مصبحين كنتم متقدّمين عليهم، بحيث لا يدركونكم قبل وصولكم إلى البحر، بل يكونون على أثركم حتّى تلجون في البحر، فيدخلون مدخلكم من طريق البحر، فأطبقه عليهم فأغرقهم.

روي: أنّه مات في تلك الليلة في كلّ بيت من بيوتهم ولد، فاشتغلوا بموتاهم، فأوحى اللّه تعالى إلى موسى: أن اجمع بني إسرائيل، كلّ أربعة أبيات في بيت، ثمّ اذبحوا الجداء «1» و اضربوا بدمائها على أبوابكم، فإنّي سآمر الملائكة أن لا يدخلوا بيتا على بابه دم، و سآمرهم بقتل أبكار القبط. و اخبزوا خبزا فطيرا، فإنّه

______________________________

(1) الجداء جمع الجدي، و هو ولد المعز في السنة الأولى.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 24

أسرع لكم. ثمّ أسر عبادي حتّى تنتهي إلى البحر، فيأتيك أمري.

فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ حين أخبر بسراهم فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ العساكر ليتبعوهم. فاجتمع حين خرج من مصر في أثر بني إسرائيل ألف ألف و خمسمائة ألف ملك مسوّر «1». مع كلّ ملك ألف. و كانت مقدّمته سبعمائة ألف، كلّ رجل على حصان، و على رأسه بيضة.

و عن ابن عبّاس: خرج فرعون في ألف ألف حصان سوى الإناث. فلذلك استقلّ قوم موسى و قال: إِنَّ هؤُلاءِ لَشِرْذِمَةٌ قَلِيلُونَ عددا. روي أنّهم كانوا ستّمائة و سبعين ألفا. و قلّتهم بالإضافة إلى جنود فرعون. و الشرذمة: الطائفة القليلة.

و منها: ثوب شراذم، لما بلي و تقطّع قطعا. ذكرهم بالاسم الدالّ على القلّة، ثمّ جعلهم

قليلا بالوصف، ثمّ جمع القليل، فجعل كلّ سبط منهم قليلا، و اختار جمع السلامة الّذي هو للقلّة. و يجوز أن يريد بالقلّة الذلّة، و لا يريد قلّة العدد. و المعنى:

أنّهم لا يبالى بهم، و لا يتوقّع غلبتهم و علوّهم.

وَ إِنَّهُمْ لَنا لَغائِظُونَ لفاعلون ما يغيظنا و يغضبنا، لمخالفتهم إيّانا في الدين، و خروجهم من أرضنا على كره منّا، و ذهابهم بالحليّ الّذي استعاروها، و خلوصهم من استعبادنا وَ إِنَّا لَجَمِيعٌ حاذِرُونَ نحن قوم مجتمعون من عادتنا الحذر و استعمال الحزم في الأمور، فإذا خرج علينا خارج سارعنا إلى حسم فساده. و هذه معاذير اعتذر بها إلى أهل المدائن، لئلّا يظنّ به ما يكسر من قهره و سلطانه.

و قرأ ابن عامر و الكوفيّون: حاذرون. و الأوّل «2» للثبات، و الثّاني للتجدّد.

و قيل: الحاذر: الكامل في السلاح. و هو أيضا من الحذر، لأنّ ذلك إنّما يفعل

______________________________

(1) ملك مسوّر: مسوّد قدير.

(2) أي: قراءة: حذرون.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 25

حذرا.

[سورة الشعراء (26): الآيات 57 الى 68]

فَأَخْرَجْناهُمْ مِنْ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (57) وَ كُنُوزٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ (58) كَذلِكَ وَ أَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ (59) فَأَتْبَعُوهُمْ مُشْرِقِينَ (60) فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ (61)

قالَ كَلاَّ إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ (62) فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ فَانْفَلَقَ فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ (63) وَ أَزْلَفْنا ثَمَّ الْآخَرِينَ (64) وَ أَنْجَيْنا مُوسى وَ مَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ (65) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (66)

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (67) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (68)

ثمّ أخبر سبحانه عن كيفيّة إهلاكهم و إخراجهم من مساكنهم النفيسة بقوله:

فَأَخْرَجْناهُمْ بأن ألهمنا في قلوبهم داعية الخروج بهذا السبب، فحملتهم عليه مِنْ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ* وَ

كُنُوزٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ يعني: المنازل الحسنة و المجالس السنيّة.

و قيل: مجالس الأمراء. و عن الضحاك المنابر. و قيل: السرّ في الحجال «1».

كَذلِكَ نصب على المصدر، أي: أخرجناهم خروجا مثل ذلك الإخراج الّذي وصفنا. أو صفة «مقام» أي: مثل ذلك المقام الّذي كان لهم. أو الأمر كذلك، على أنّه خبر المحذوف. وَ أَوْرَثْناها بَنِي إِسْرائِيلَ و ذلك أنّ اللّه سبحانه و تعالى ردّ بني إسرائيل إلى مصر، بعد ما أغرق فرعون و قومه، و أعطاهم جميع ما كان

______________________________

(1) السرّ: الجماع. و الحجال جمع حجلة، و هي بيت يزيّن للعروس.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 26

لفرعون و قومه من الأموال و العقار و المساكن و الديار.

فَأَتْبَعُوهُمْ يعني: قوم فرعون أدركوا موسى و أصحابه و لحقوهم مُشْرِقِينَ داخلين وقت شروق الشمس. من: شرقت الشمس شروقا إذا طلعت.

فَلَمَّا تَراءَا الْجَمْعانِ تقاربا بحيث يرى كلّ منهما الآخر قالَ أَصْحابُ مُوسى إِنَّا لَمُدْرَكُونَ لملحقون. يعني: سيدركنا جمع فرعون، و لا طاقة لنا بهم.

قالَ موسى: ثقة بنصر اللّه تعالى كَلَّا لن يدركونا، و لا يكون ما تظنّون، فانتهوا عن هذا القول، فإنّ اللّه وعدكم الخلاص منهم إِنَّ مَعِي رَبِّي بنصره و حفظه سَيَهْدِينِ سيرشدني إلى طريق النجاة. و عن السدّي: سيكفيني.

روي: أنّ مؤمن آل فرعون كان بين يدي موسى، فقال: أين أمرت؟ فهذا البحر أمامك، و قد غشيك آل فرعون! فقال: أمرت بالبحر، و لعلّي أؤمر بما أصنع.

فَأَوْحَيْنا إِلى مُوسى أَنِ اضْرِبْ بِعَصاكَ الْبَحْرَ و هو نهر النيل ما بين أيلة و مصر. و قيل: هو بحر قلزم ما بين اليمن و مكّة إلى مصر. فضربه موسى بعصاه.

فَانْفَلَقَ فانشقّ البحر، و ظهر فيه اثنا عشر فرقا، بأن قام الماء عن يمين الطريق

و يساره كالجبل العظيم. و ذلك قوله: فَكانَ كُلُّ فِرْقٍ كَالطَّوْدِ الْعَظِيمِ كالجبل المنيف الثابت في مقرّه. فدخلوا في شعابها، كلّ سبط في شعب. و الفرق: الجزء المتفرّق. و الفرق المصدر.

روي: أنّ موسى عليه السّلام قال عند ذلك: يا من كان قبل كلّ شي ء، و المكوّن لكلّ شي ء، و الكائن بعد كلّ شي ء.

وَ أَزْلَفْنا و قرّبنا ثَمَّ الْآخَرِينَ فرعون و قومه، حتّى دخلوا على أثرهم مداخلهم وَ أَنْجَيْنا مُوسى وَ مَنْ مَعَهُ أَجْمَعِينَ بحفظ البحر على تلك الهيئة إلى أن عبروا ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ بإطباقه عليهم.

إِنَّ فِي ذلِكَ في فرق البحر، و إنجاء موسى و قومه، و إغراق فرعون

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 27

و جنوده لَآيَةً و أيّة آية وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ و ما تنبّه عليها أكثرهم، إذ لم يؤمن بها أحد ممّن بقي في مصر من القبط. و بنو إسرائيل- إلّا حبيب النجّار و آسية امرأة فرعون- بعد ما نجوا سألوا بقرة يعبدونها، و اتّخذوا العجل و قالوا: لن نؤمن لك حتّى نرى اللّه جهرة. فلا تستوحش يا محمّد من قعود قومك عن الحقّ الّذي تأتيهم به و تدلّهم عليه، فقد جروا على عادة أسلافهم في إنكار الحقّ و قبول الباطل.

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ المنتقم من أعدائه الرَّحِيمُ بأوليائه.

[سورة الشعراء (26): الآيات 69 الى 82]

وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ نَبَأَ إِبْراهِيمَ (69) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما تَعْبُدُونَ (70) قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ (71) قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ إِذْ تَدْعُونَ (72) أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ أَوْ يَضُرُّونَ (73)

قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (74) قالَ أَ فَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (75) أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ (76) فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي إِلاَّ رَبَّ الْعالَمِينَ (77) الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ (78)

وَ

الَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ (79) وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ (80) وَ الَّذِي يُمِيتُنِي ثُمَّ يُحْيِينِ (81) وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ (82)

وَ اتْلُ عَلَيْهِمْ على مشركي قريش نَبَأَ إِبْراهِيمَ خبره، فإنّه شجرة الأنبياء، و به افتخار العرب. و فيه تسلية لك، و عظة لقومك.

إِذْ قالَ لِأَبِيهِ لعمّه الّذي بمنزلة أبيه في تربيته، أو جدّ أمّه وَ قَوْمِهِ على وجه الإنكار عليهم ما تَعْبُدُونَ كان إبراهيم يعلم أنّهم عبدة أصنام، و لكنّه سألهم

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 28

ليريهم أن ما يعبدونه لا يستحقّ العبادة في شي ء، كما تقول للتاجر: ما مالك؟ و أنت تعلم أنّ ماله الرقيق، ثمّ تقول: الرقيق جمال و ليس بمال.

قالُوا نَعْبُدُ أَصْناماً فَنَظَلُّ لَها عاكِفِينَ مقيمين على عبادتها. و حقّ الجواب أن يقتصروا على قولهم: «أصناما» فحسب، لأنّ «ما تعبدون» سؤال عن المعبود فقط، لكن أطالوا الجواب بشرح أحوالهم معه، إظهارا لما في نفوسهم من الابتهاج و الافتخار. و إنّما قالوا: نظلّ، لأنّهم كانوا يعبدونها بالنهار دون الليل. و قيل: «نظلّ» بمعنى: ندوم.

قالَ هَلْ يَسْمَعُونَكُمْ يسمعون دعاءكم؟ فحذف ذلك لدلالة قوله: إِذْ تَدْعُونَ عليه. و معناه: هل يستجيبون دعاءكم إذا دعوتموهم؟ و مجيئه مضارعا مع «إذ» على حكاية الحال الماضية استحضارا لها. و معناه: استحضروا الأحوال الماضية الّتي كنتم تدعونها فيها، و قولوا: هل سمعوا؟ و هو أبلغ في التبكيت.

أَوْ يَنْفَعُونَكُمْ إذا عبدتموهم أَوْ يَضُرُّونَ إن تركتم عبادتهم. و في هذا بيان أنّ الدّين إنّما يثبت بالحجّة، و لو لا ذلك لم يحاجّهم إبراهيم عليه السّلام هذا الحجاج.

قالُوا بَلْ وَجَدْنا آباءَنا كَذلِكَ يَفْعَلُونَ أضربوا عن أن يكون لهم سمع، أو يتوقّع منهم ضرّ أو نفع، و

التجؤا إلى التقليد.

قالَ إبراهيم منكرا عليهم التقليد أَ فَرَأَيْتُمْ ما كُنْتُمْ الّذي كنتم تَعْبُدُونَ* أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمُ الْأَقْدَمُونَ فإنّ التقدّم و الأوّليّة لا يكون برهانا على الصحّة، و لا ينقلب به الباطل حقّا. و إنّما دخل لفظ «كان» لأنّه جمع بين الحال و الماضي.

فَإِنَّهُمْ عَدُوٌّ لِي يريد أنّهم أعداء لعابديهم، من حيث إنّهم يتضرّرون من جهتهم فوق ما يتضرّر الرجل من جهة عدوّه. أو أنّ المغري بعبادتهم أعدى أعدائهم، و هو الشيطان. لكنّه صوّر الأمر في نفسه، على معنى: أنّي فكّرت في أمري فرأيت عبادتي لها عبادة للعدوّ الّذي هو الشيطان، فاجتنبتها و آثرت عبادة

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 29

من الخير كلّه منه. و أراهم بهذا القول أنّه نصيحة نصح بها نفسه، تعريضا لهم، فإنّه أنفع في النصح من التصريح، و إشعارا بأنّها نصيحة بدأ بها نفسه، فيكون أدعى إلى القبول.

و إنّما جمع الأصنام جمع العقلاء، لما وصفها بالعداوة التي لا تكون إلّا من العقلاء. أو المراد عبّاد الأصنام مع الأصنام عدوّ لي، لأنّه غلّب ما يعقل. و إفراد العدوّ لأنّه في الأصل مصدر.

إِلَّا رَبَّ الْعالَمِينَ استثناء منقطع، كأنّه قال: لكن ربّ العالمين. أو متّصل على أنّ الضمير لكلّ معبود عبدوه، و كان من آبائهم من عبد اللّه.

الَّذِي خَلَقَنِي فَهُوَ يَهْدِينِ لأنّه يهدي كلّ مخلوق لما خلق له من امور المعاش و المعاد، كما قال: وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى «1» هداية مدرّجة من مبدأ إيجاده إلى منتهى أجله، يتمكّن بها من جلب المنافع و دفع المضارّ. مبدؤها بالنسبة إلى الإنسان هداية الجنين إلى امتصاص دم الطمث من الرحم، و بعد الخروج إلى معرفة الثدي عند الولادة، و إلى كيفيّة الارتضاع، و غير ذلك من هدايات المعاش.

ثمّ هداه بتوفيق في المعرفة و الطاعة إلى طريق الجنّة و التنعّم بلذائذها.

و الفاء للسببيّة إن جعل الموصول مبتدأ، و للعطف إن جعل صفة «ربّ العالمين». فيكون اختلاف النظم لتقدّم الخلق و استمرار الهداية.

و قوله: وَ الَّذِي هُوَ يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ على الأوّل مبتدأ محذوف الخبر، لدلالة ما قبله عليه. و كذا اللّذان بعده. و تكرير الموصول على الوجهين للدلالة على أنّ كلّ واحدة من الصلات مستقلّة باقتضاء أنّه هو المعبود دون ما سواه. و المعنى:

هو يرزقني بما أتغذّى به.

وَ إِذا مَرِضْتُ فَهُوَ يَشْفِينِ عطف على «يُطْعِمُنِي وَ يَسْقِينِ» لأنّه من

______________________________

(1) الأعلى: 3.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 30

روادفهما، من حيث إنّ الصحّة و المرض في الأغلب يتبعان المأكول و المشروب.

و إنّما لم ينسب المرض إليه، بأن قال: أمرضني، لأنّ مقصوده تعديد النعم.

و لا ينتقض بإسناد الإماتة إليه بعده، لأنّ الموت من حيث إنّه لا يحسّ به لا ضرر فيه، و إنّما الضرر في مقدّماته، و هي المرض. ثمّ إنّه لأهل الكمال وصلة إلى نيل الحياة الأبديّة و السعادة السرمديّة، الّتي تستحقر دونها الحياة الدنيويّة، و خلاص من أنواع المحن و البليّات. و لأنّ المرض في غالب الأمر إنّما يحدث بإفراط من الإنسان في مطاعمه و مشاربه، و من ثمّ قال الحكماء: لو قيل لأكثر الموتى: ما سبب آجالكم؟ لقالوا: التخم «1». و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الحمية «2» رأس كلّ دواء، و البطنة رأس كلّ داء».

أو لما بين الأركان و الأخلاط من التنافي و التنافر، و الصحّة إنّما تحصل باستحفاظ اجتماعها و الاعتدال المخصوص عليها قهرا، و ذلك بقدرة العزيز الحكيم. و المعنى: فهو يفعل بي ما يصحّ عنده بدني.

وَ الَّذِي

يُمِيتُنِي بعد أن كنت حيّا ثُمَّ يُحْيِينِ يوم القيامة بعد أن أكون ميّتا.

وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ ذكر ذلك انقطاعا إلى اللّه، و هضما لنفسه، و تواضعا منه، و تعليما للامّة أن يجتنبوا المعاصي، و يكونوا على حذر منها، و يطلبوا المغفرة ممّا يفرط منهم، فإنّ الأنبياء صلّى اللّه عليهم معصومون منزّهون من الخطايا و الآثام، لما برهن في علم الكلام، و انعقد إجماع الطائفة الحقّة- و هم الإماميّة- عليه، و نقل عن أئمّتنا عليهم السّلام. فاستغفارهم إنّما هو محمول على تواضعهم لربّهم، و هضمهم لأنفسهم، و تعليمهم لأمّتهم. و علّق المغفرة بيوم الدين،

______________________________

(1) التخم جمع التخمة. و هي: الداء يصيب الإنسان من الطعام الوخيم.

(2) الحمية: الاسم من: حمى المريض إذا منعه عمّا يضرّه. و البطنة: الامتلاء المفرط من الأكل.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 31

لأنّ أثرها يتبيّن يومئذ، و الآن خفيّ لا يعلم.

و قيل: أراد إبراهيم عليه السّلام أن يغفر اللّه لأجله خطيئة من يشفّعه فيه، فأضافه إلى نفسه، كقوله سبحانه لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ «1».

و إنّما حذف الياءات لأنّها رؤوس الآيات.

و هذا الكلام من إبراهيم عليه السّلام إنّما صدر على وجه الاحتجاج على قومه، و الإخبار بأنّه لا يصلح للإلهيّة إلّا من فعل هذه الأفعال.

[سورة الشعراء (26): الآيات 83 الى 89]

رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ (83) وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ (84) وَ اجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ (85) وَ اغْفِرْ لِأَبِي إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ (86) وَ لا تُخْزِنِي يَوْمَ يُبْعَثُونَ (87)

يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ (88) إِلاَّ مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (89)

ثمّ حكى

اللّه سبحانه عن نبيّه أنّه سأله و قال: رَبِّ هَبْ لِي حُكْماً كمالا في العلم و العمل أستعدّ به لخلافة الحقّ و رئاسة الخلق. و قيل: نبوّة، لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذو حكمة و ذو حكم بين عباد اللّه. وَ أَلْحِقْنِي بِالصَّالِحِينَ أي: وفّقني للكمال في العمل، لأنتظم به في عداد الكاملين في الصلاح، الّذين لا يشوب صلاحهم كبير ذنب و لا صغيره. أو اجمع بيني و بينهم في الجنّة. و في هذا دلالة على عظم شأن الصلاح، و هو الاستقامة على ما أمر اللّه به و دعاه إليه.

وَ اجْعَلْ لِي لِسانَ صِدْقٍ فِي الْآخِرِينَ أي: ثناء حسنا في آخر الأمم، و ذكرا

______________________________

(1) الفتح: 2.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 32

جميلا، و حسن صيت، و قبولا عامّا في الّذين يأتون بعدي إلى يوم القيامة. فأجاب اللّه تعالى دعاءه، فما من أمّة من الأمم إلّا و يثنون عليه، و محبّون له. و العرب تضع اللسان موضع القول على الاستعارة، لأنّ القول يكون بها، و كذلك يسمّون اللغة لسانا.

و قيل: معناه: و اجعل لي ولد صدق في آخر الأمم من ذرّيّتي، يجدّد أصل ديني، و يدعو الناس إلى ما كنت أدعوهم إليه من التوحيد، و هو محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

وَ اجْعَلْنِي مِنْ وَرَثَةِ جَنَّةِ النَّعِيمِ من الّذين يرثون الفردوس في الآخرة.

و قد مرّ «1» معنى الوراثة فيها.

وَ اغْفِرْ لِأَبِي لوليّ نعمتي و تربيتي بالهداية إِنَّهُ كانَ مِنَ الضَّالِّينَ الذاهبين عن الصواب في اعتقاده. و وصفه بأنّه ضالّ يدلّ على أنّه كان كافرا كفر جهل لا كفر عناد. و قد ذكرنا الوجه في استغفار إبراهيم لأبيه في سورة التوبة «2».

وَ لا

تُخْزِنِي و لا تفضحني و لا تعيّرني بتقصيري في أوامرك. و اشتقاقه إمّا من الخزي، و هو الهوان. أو من الخزاية، و هي الحياء. يَوْمَ يُبْعَثُونَ الضمير للعباد، لأنّهم معلومون، أي: يوم يحشر الخلائق كلّهم. و هذا الدعاء كان منه أيضا على وجه الانقطاع إلى اللّه، لما بيّنّا أنّ القبيح لا يجوز وقوعه من الأنبياء.

ثمّ فسّر ذلك اليوم بقوله: يَوْمَ لا يَنْفَعُ مالٌ وَ لا بَنُونَ أي: لا ينفعان أحدا، إذ لا يتهيّأ لذي مال أن يفتدي من شدائد ذلك اليوم بماله، و لا يتحمّل من صاحب البنين بنوه شيئا من معاصيه.

إِلَّا مَنْ أَتَى اللَّهَ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ أي: لا ينفعان أحدا إلّا مخلصا سليم القلب عن الكفر و ميل المعاصي. أو لا ينفعان إلّا مال من هذا شأنه و بنوه، حيث أنفق ماله في

______________________________

(1) راجع ج 4 ص 194، ذيل الآية 63 من سورة مريم.

(2) راجع ج 4 ص 144 و 173، ذيل الآية 80 و 113.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 33

سبيل الخير، و أرشد بنيه إلى الحقّ، و حثّهم على البرّ، و قصد بهم أن يكونوا عبادا للّه مطيعين، شفعاء له يوم الدين.

و قيل: الاستثناء من قبيل قوله: تحيّة بينهم ضرب وجيع «1». و بيانه أن يقال لك: هل لزيد مال و بنون؟ فتقول: ماله و بنوه سلامة قلبه. تريد نفي المال و البنين عنه، و إثبات سلامة القلب له بدلا عن ذلك.

و إن شئت حملت الكلام على المعنى، و جعلت المال و البنين في معنى الغنى.

كأنّه قيل: يوم لا ينفع غنى إلّا غنى من أتى اللّه بقلب سليم، لأنّ غنى الرجل في دينه بسلامة قلبه، كما أنّ غناه في دنياه بماله و بنيه.

و

لك أن تجعل الاستثناء منقطعا. و المعنى: أنّ المال و البنين لا ينفعان، و لكن سلامة القلب عن الكفر و المعاصي و سائر آفاته ينفع صاحبه.

و قيل: معناه: إلّا من أتى اللّه بقلب سليم من فتنة المال و البنين.

و قيل: القلب السليم الّذي سلم و سلّم و أسلم و سالم و استسلم.

و

عن الصادق عليه السّلام: «هو القلب الّذي سلم من حبّ الدنيا».

و إنّما خصّ القلب بالسلامة، لأنّه إذا سلم سلمت سائر الجوارح من الفساد، من حيث إنّ الفساد بالجارحة لا يكون إلّا عن قصد بالقلب الفاسد.

و ما أحسن ما رتّب إبراهيم عليه السّلام كلامه مع المشركين، حين سألهم أوّلا عمّا يعبدون سؤال مقرّر لا مستفهم. ثمّ أقبل على آلهتهم فأبطل أمرها، بأنّها لا تضرّ و لا تنفع، و لا تبصر و لا تسمع، على تقليدهم آباءهم الأقدمين. فأخرجه من أن يكون شبهة، فضلا عن أن يكون حجّة.

ثمّ صوّر المسألة في نفسه دونهم، حتّى تخلّص منها إلى ذكر اللّه عزّ و جل، فعظّم شأنه، و عدّد نعمته من لدن خلقه و إنشائه إلى حين وفاته، مع ما يرجى في الآخرة

______________________________

(1) لعمرو بن معد يكرب. و صدره: و خيل قد دلفت لها بخيل.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 34

من رحمته.

ثمّ أتبع ذلك أن دعاه بدعوات المخلصين، و ابتهل إليه ابتهال الأوّابين. ثمّ وصله بذكر يوم القيامة و ثواب اللّه و عقابه، و ما يدفع إليه المشركون يومئذ من الحسرة و الندامة على ما كانوا فيه من الضلال، و تمنّي الكرّة إلى الدنيا ليؤمنوا و يطيعوا.

[سورة الشعراء (26): الآيات 90 الى 104]

وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ (90) وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ (91) وَ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ (92) مِنْ دُونِ اللَّهِ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ أَوْ

يَنْتَصِرُونَ (93) فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَ الْغاوُونَ (94)

وَ جُنُودُ إِبْلِيسَ أَجْمَعُونَ (95) قالُوا وَ هُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ (96) تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (97) إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (98) وَ ما أَضَلَّنا إِلاَّ الْمُجْرِمُونَ (99)

فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ (100) وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ (101) فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (102) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (103) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (104)

وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ قرّبت من موقعهم بحيث يرونها من الموقف،

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 35

فيغتبطون بمكانهم، و يتبجّحون «1» بأنّهم المحشورون إليها.

وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِلْغاوِينَ أظهرت و كشفت للأشقياء، فيرونها مكشوفة، و يتحسّرون على أنّهم المسوقون إليها، فيجمع عليهم الغموم كلّها و الحسرات. و في اختلاف الفعلين ترجيح لجانب الوعد.

وَ قِيلَ لَهُمْ في ذلك اليوم على وجه التوبيخ على إشراكهم أَيْنَ ما كُنْتُمْ تَعْبُدُونَ* مِنْ دُونِ اللَّهِ أين آلهتكم الّذين تزعمون أنّهم شفعاؤكم؟ هَلْ يَنْصُرُونَكُمْ بدفع العذاب عنكم أَوْ يَنْتَصِرُونَ بدفعه عن أنفسهم، لأنّهم و آلهتهم يدخلون النار، كما قال: فَكُبْكِبُوا فِيها هُمْ وَ الْغاوُونَ أي: طرحت فيها الآلهة و عبدتهم. و الكبكبة: تكرير الكبّ لتكرير معناه، كأنّ من ألقي في النار يكبّ مرّة بعد اخرى حتّى يستقرّ في قعرها.

وَ جُنُودُ إِبْلِيسَ و كبكب معهم متّبعوه من عصاة الثقلين أو شياطينه أَجْمَعُونَ تأكيد للجنود، أو للضمير و ما عطف عليه.

قالُوا وَ هُمْ فِيها يَخْتَصِمُونَ* تَاللَّهِ إِنْ كُنَّا مخفّفة عن الثقيلة، أي: إنّا كنّا لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ على أنّ اللّه ينطق الأصنام فتخاصم العبدة. و يؤيّده الخطاب في قوله تعالى: إِذْ نُسَوِّيكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ أي: في استحقاق العبادة.

و يجوز أن تكون الضمائر للعبدة كما في «قالوا». و

الخطاب للمبالغة في التحسّر و الندامة. و المعنى: أنّهم مع تخاصمهم في مبدأ ضلالهم، معترفون بانهماكهم في الضلالة، متحسّرون عليها.

وَ ما أَضَلَّنا إِلَّا الْمُجْرِمُونَ و هم رؤساؤهم و كبراؤهم الّذين اقتدوا بهم.

فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ كما نرى المؤمنين لهم شفعاء من الملائكة و النبيّين.

يعني: ما لنا شفيع من الأباعد.

______________________________

(1) أي: يتفاخرون.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 36

وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ ذي قرابة يهمّه أمرنا. كما نرى للمؤمنين أصدقاء من النبيّين و الأوصياء، لأنّه لا يتصادق في الآخرة إلّا المؤمنون، و أمّا أهل النار فبينهم التعادي و التباغض. قال اللّه تعالى: الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ «1». أو فما لنا من شافعين و لا صديق من الّذين كنّا نعدّهم شفعاء و أصدقاء. أو وقعنا في مهلكة لا يخلّصنا منها شافع و لا صديق.

و جمع الشافع و وحدة الصديق لكثرة الشفعاء و قلّة الصديق. أو لإطلاق الصديق على الجمع، لأنّه في الأصل مصدر، كالحنين و الصهيل. و الحميم من الاحتمام، و هو الاهتمام. و هو الّذي يهمّه ما يهمّك. أو من الحامّة بمعنى الخاصّة.

و هو الصديق الخاصّ.

و

عن الصادق عليه السّلام: «و اللّه لنشفعنّ لشيعتنا- قالها ثلاثا- حتّى يقول عدوّنا:

«فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ».

و

عن جابر بن عبد اللّه، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ الرجل يقول في الجنّة: ما فعل صديقي فلان؟ و صديقه في الجحيم، فيقول اللّه سبحانه: أخرجوا له صديقه إلى الجنّة. فيقول من بقي في النار: «فَما لَنا مِنْ شافِعِينَ وَ لا صَدِيقٍ حَمِيمٍ».

و

عن أبان بن تغلب قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «إنّ المؤمن ليشفع يوم القيامة لأهل بيته، فيشفع فيهم حتّى يبقى خادمه، فيقول

و يرفع سبّابتيه: يا ربّ خويدمي كان يقيني الحرّ و البرد، فيشفع فيه».

و

في خبر آخر عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إنّ المؤمن ليشفع لجاره و ماله حسنة، فيقول: يا ربّ جاري، كان يكفّ عنّي الأذى، فيشفع فيه. و إنّ أدنى المؤمنين شفاعة يشفع لثلاثين إنسانا».

فَلَوْ أَنَّ لَنا كَرَّةً تمنّ للرجعة إلى الدنيا. و أقيم فيه «لو» مقام

______________________________

(1) الزخرف: 67.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 37

«ليت» لتلاقيهما في معنى التقدير. أو شرط حذف جوابه. فَنَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ جواب التمنّي. أو عطف على «كرّة» أي: لو أنّ لنا أن نكرّ فنكون من المؤمنين لفعلنا كذا و كذا.

إِنَّ فِي ذلِكَ فيما ذكر من قصّة إبراهيم عليه السّلام لَآيَةً لحجّة و عظة لمن أراد أن يستبصر بها و يعتبر، فإنّها جاءت على أنظم ترتيب و أحسن تقرير، يتفطّن المتأمّل فيها لغزارة علمه، لما فيها من الإشارة إلى أصول العلوم الدينيّة، و التنبيه على دلائلها، و حسن دعوته للقوم، و حسن مخالقته معهم، و كمال إشفاقه عليهم.

و تصوّر الأمر في نفسه، و إطلاق الوعد و الوعيد على سبيل الحكاية تعريضا و إيقاظا لهم، ليكون أدعى لهم إلى الاستماع و القبول.

وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ أكثر قومه مُؤْمِنِينَ به.

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ القادر على تعجيل الانتقام الرَّحِيمُ بالإمهال، لكي يؤمنوا هم أو أحد من ذرّيّتهم.

[سورة الشعراء (26): الآيات 105 الى 122]

كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ (105) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ أَ لا تَتَّقُونَ (106) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (107) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (108) وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (109)

فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (110) قالُوا أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ (111) قالَ وَ ما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ

(112) إِنْ حِسابُهُمْ إِلاَّ عَلى رَبِّي لَوْ تَشْعُرُونَ (113) وَ ما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ (114)

إِنْ أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (115) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ (116) قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ (117) فَافْتَحْ بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ فَتْحاً وَ نَجِّنِي وَ مَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (118) فَأَنْجَيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (119)

ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ الْباقِينَ (120) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (121) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (122)

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 38

كَذَّبَتْ قَوْمُ نُوحٍ الْمُرْسَلِينَ لأنّ من كذّب رسولا واحدا من رسل اللّه فقد كذّب الجماعة، لأنّ كلّ رسول يأمر بتصديق جميع الرسل. و

قال أبو جعفر عليه السّلام: «يعني بالمرسلين نوحا و الأنبياء الّذين كانوا بينه و بين آدم عليه السّلام».

و القوم: مؤنّثة، و لذلك تصغّر على قويمة.

إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ نُوحٌ لأنّه كان منهم. من قول العرب: يا أخا بني تميم، يريدون: يا واحدا منهم. أَ لا تَتَّقُونَ عذاب اللّه، فتتركوا عبادة غيره.

إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ مشهور بالأمانة فيكم فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ فيما آمركم به من التوحيد و الطاعة للّه.

وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ على ما أنا عليه من الدعاء و النصح مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ كرّره ليؤكّده عليهم، و يقدّره في نفوسهم، و ينبّه على دلالة كلّ واحد من أمانته و حسم طمعه على وجوب طاعته فيما يدعوهم إليه، فكيف إذا اجتمعا؟! قالُوا أَ نُؤْمِنُ لَكَ وَ اتَّبَعَكَ الْأَرْذَلُونَ الأقلّون مالا و جاها. جمع الأرذل على

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 39

الصحّة، و على التكسير في قوله: الَّذِينَ هُمْ أَراذِلُنا «1». و الرذالة: الخسّة و الدّناءة.

و

قرأ يعقوب: و أتباعك. و هو جمع تابع، كشاهد و أشهاد. أو تبع، كبطل و أبطال. و الواو للحال.

و إنّما استرذلوهم لاتّضاع نسبهم، و قلّة نصيبهم من الدنيا. و قيل: كانوا من أهل الصناعات الدنيئة، كالحياكة و الحجامة. و هكذا كانت قريش تقول في أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و ما زالت أتباع الأنبياء كذلك، حتّى صارت من سماتهم و أماراتهم. ألا ترى إلى هرقل ملك الروم حين سأل أبا سفيان عن أتباع رسول اللّه، فلمّا قال: ضعفاء الناس و أراذلهم، قال: ما زالت أتباع الأنبياء كذلك.

و كان من سخافة عقل الكفرة، و قصور رأيهم على الحطام الدنيويّة، أن جعلوا اتّباع المقلّين فيها مانعا عن اتّباعهم و إيمانهم بما يدعوهم إليه، و دليلا على بطلانه.

و أشاروا بذلك إلى أنّ اتّباعهم ليس عن نظر و بصيرة، و إنّما هو لتوقّع مال و رفعة.

فلذلك قالَ وَ ما عِلْمِي بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أنّهم عملوه خالصا، أو طمعا في طعمة.

و ما عليّ إلّا اعتبار الظاهر، دون التفتيش عن أسرارهم، و الشقّ عن قلوبهم.

إِنْ حِسابُهُمْ ما حسابهم على بواطنهم إِلَّا عَلى رَبِّي فإنّه المطّلع عليها.

و ما أنا إلّا منذر، لا محاسب و لا مجاز. لَوْ تَشْعُرُونَ لعلمتم ذلك. و لكنّكم تجهلون، فتقولون ما لا تعلمون. قصد بذلك ردّ اعتقادهم، و إنكار أن يسمّى المؤمن رذلا، و إن كان أفقر الناس و أوضعهم نسبا، فإنّ الغنى غنى الدين، و النسب نسب التقوى.

وَ ما أَنَا بِطارِدِ الْمُؤْمِنِينَ جواب لما أوهم قولهم من استدعاء طردهم.

و المعنى: ليس من شأني أن أتّبع شهواتكم، و أطيب نفوسكم، بطرد المؤمنين الّذين صحّ إيمانهم طمعا في إيمانكم.

______________________________

(1) هود: 27.

زبدة التفاسير، ج 5، ص:

40

و قوله تعالى: إِنْ أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ مُبِينٌ كالعلّة له، أي: ما أنا إلّا رجل مبعوث لإنذار المكلّفين عن الكفر و المعاصي، سواء كانوا أعزّاء أو أذلّاء، فكيف يليق بي طرد الفقراء لاستتباع الأغنياء؟ أو ما عليّ إلّا إنذاركم إنذارا بيّنا بالبرهان الواضح، الّذي يتميّز به الحقّ من الباطل، فلا عليّ أن أطردهم لاسترضائكم.

قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ لئن لم ترجع عمّا تقول يا نُوحُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمَرْجُومِينَ من المضروبين بالحجارة، أو من المشتومين.

قالَ رَبِّ إِنَّ قَوْمِي كَذَّبُونِ في وحيك و رسالتك. و هذا إظهار لما يدعو عليهم لأجله، و هو تكذيب الحقّ، لا تخويفهم له و استخفافهم عليه.

فَافْتَحْ بَيْنِي وَ بَيْنَهُمْ فَتْحاً من الفتاحة، و هي الحكومة. و الفتّاح: الحاكم، لأنّه يفتح المستغلق. كما سمّي فيصل، لأنّه يفصل بين الخصومات. وَ نَجِّنِي وَ مَنْ مَعِيَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ من العذاب النازل على الكفرة، و من شؤم عملهم.

فَأَنْجَيْناهُ وَ مَنْ مَعَهُ فِي الْفُلْكِ في السفينة الْمَشْحُونِ المملوء. يقال:

شحنت السفينة ملأتها. و شحنت البلد بالخيل ملأته. و الفلك هنا واحد. و جمع في قوله تعالى: وَ تَرَى الْفُلْكَ مَواخِرَ فِيهِ «1». فالواحد على وزن قفل، و الجمع على وزن اسد.

ثُمَّ أَغْرَقْنا بَعْدُ إنجائه حينئذ و من معه الْباقِينَ الخارجين عن السفينة، الكافرين به.

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً شاعت و تواترت وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ في إهلاك قوم نوح بالغرق الرَّحِيمُ في إنجائه نوحا و من معه في الفلك.

______________________________

(1) النحل: 14.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 41

[سورة الشعراء (26): الآيات 123 الى 140]

كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ هُودٌ أَ لا تَتَّقُونَ (124) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (125) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (126) وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ

إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (127)

أَ تَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ آيَةً تَعْبَثُونَ (128) وَ تَتَّخِذُونَ مَصانِعَ لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ (129) وَ إِذا بَطَشْتُمْ بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ (130) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (131) وَ اتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ (132)

أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَ بَنِينَ (133) وَ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (134) إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (135) قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَ وَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ (136) إِنْ هذا إِلاَّ خُلُقُ الْأَوَّلِينَ (137)

وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (138) فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (139) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (140)

كَذَّبَتْ عادٌ الْمُرْسَلِينَ تأنيثه باعتبار القبيلة. و هو في الأصل اسم أبيهم.

إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ في النسب هُودٌ أَ لا تَتَّقُونَ باجتناب معاصيه إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ* وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ صدّرت القصص بها لتدلّ على أنّ البعثة مقصورة على الدعاء إلى معرفة

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 42

الحقّ، و الطاعة فيما يقرّب المدعوّ إلى ثوابه، و يبعّده عن عقابه. و كان الأنبياء متّفقين على مثل ذلك، مبرّئين عن المطامع الدينيّة و الأغراض الدنيويّة.

أَ تَبْنُونَ بِكُلِّ رِيعٍ بكلّ مكان مرتفع. و منه: ريع الأرض لارتفاعها.

آيَةً علما للمارّة تَعْبَثُونَ ببنائها، إذ كانوا يهتدون بالنجوم في أسفارهم، فاتّخذوا في طرقهم أعلاما طوالا لا يحتاجون إليها.

و قيل: كانوا يبنون بالمواضع المرتفعة ليشرفوا على المارّة، فيعبثوا بهم. و عن مجاهد: بنوا بكلّ ريع بروجا للحمام عبثا.

و قيل: كانوا يبنون أبنية لا يحتاجون إليها للسكنى. فجعل بناء ما يستغنون عنه عبثا. أو قصورا يفتخرون بها.

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لكلّ بناء يبنى و بال

على صاحبه يوم القيامة، إلّا ما لا بدّ منه».

وَ تَتَّخِذُونَ مَصانِعَ مأخذا للماء تحت الأرض. و قيل: قصورا مشيّدة و حصونا. لَعَلَّكُمْ تَخْلُدُونَ ترجون الخلود في الدنيا. أو تشبه حالكم حال من يخلد، فإنّ هذه الأبنية بناء من يطمع في الخلود.

وَ إِذا بَطَشْتُمْ أخذتم بسوط أو سيف بَطَشْتُمْ جَبَّارِينَ متسلّطين، ظالمين، بلا رأفة و لا قصد تأديب. و قيل: قتّالين على الغضب بغير حقّ. و قال الحسن: مبادرين تعجيل العذاب، لا تتفكّرون في العواقب.

فَاتَّقُوا اللَّهَ بترك هذه الأشياء وَ أَطِيعُونِ فيما أمركم اللّه.

وَ اتَّقُوا الَّذِي أَمَدَّكُمْ بِما تَعْلَمُونَ كرّر الاتّقاء مرتّبا على إمداد اللّه إيّاهم بما أعطاهم ما يعلمون من أنواع الخير، و يعرفونه من أنواع النعم، تعليلا و تنبيها على الوعد عليه بدوام الإمداد، و الوعيد على تركه بالانقطاع. و الإمداد في الأصل إتباع الثاني ما قبله شيئا بعد شي ء على انتظام.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 43

ثمّ فصّل بعض تلك النعم، كما فصّل بعض مساويهم المدلول عليها إجمالا بالإنكار في «ألا تتّقون» مبالغة في الإيقاظ و الحثّ على التقوى، فقال:

أَمَدَّكُمْ بِأَنْعامٍ وَ بَنِينَ قرنها بالبنين، لأنّهم الّذين يعينونهم على حفظها و القيام عليها وَ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ

ثمّ أوعدهم فقال: إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ إن عصيتموني عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ في الدنيا و الآخرة، فإنّه كما قدر على الإنعام قدر على الانتقام. و وصف اليوم بالعظيم، لما فيه من الأهوال العظيمة.

قالُوا سَواءٌ عَلَيْنا أَ وَعَظْتَ أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ أنهيتنا أم لم تكن من الناهين لنا. و المعنى: لا نقبل ما تدعونا إليه على كلّ حال، وعظت أم سكتّ، فإنّ حصول الوعظ منك و ارتفاعه مستويان عندنا. و لو علم أنّه قيل: أوعظت أم لم تعظ،

لكان أخصر. لكن لم يكن فيه مبالغة، كما كانت في قوله: «أَمْ لَمْ تَكُنْ مِنَ الْواعِظِينَ» لأنّ المعنى: سواء علينا أفعلت هذا الفعل الّذي هو الوعظ، أم لم تكن أصلا من أهله و مباشريه. فهو أبلغ في قلّة اعتدادهم بوعظه من قوله: أم لم تعظ.

إِنْ هذا ما هذا الّذي جئتنا به إِلَّا خُلُقُ الْأَوَّلِينَ إلّا اختلاق الأوّلين، أي:

كذبهم، كما قالوا: أساطير الأوّلين. أو ما خلقنا هذا إلّا خلق القرون الخالية، نحيا و نموت كما حيوا و ماتوا، و لا بعث و لا حساب.

و قرأ نافع و ابن عامر و عاصم و حمزة: خلق بضمّتين، بمعنى العادة، أي ما هذا الّذي جئت به إلّا عادة الأوّلين، كانوا يلفّقون مثله و يسطّرونه. أو ما هذا الّذي نحن عليه من الدّين إلّا خلق الأوّلين و عادتهم، و نحن بهم مقتدون. أو ما هذا الّذي نحن عليه من الحياة و الموت إلّا عادة قديمة، لم يزل الناس عليها في قديم الدهر.

وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ على ما نحن عليه فَكَذَّبُوهُ فَأَهْلَكْناهُمْ بسبب التكذيب بريح صرصر إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 44

الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ قد مرّ «1» تفسيره.

[سورة الشعراء (26): الآيات 141 الى 159]

كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ (141) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَ لا تَتَّقُونَ (142) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (143) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (144) وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (145)

أَ تُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ (146) فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (147) وَ زُرُوعٍ وَ نَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ (148) وَ تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ (149) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (150)

وَ لا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ (151) الَّذِينَ يُفْسِدُونَ

فِي الْأَرْضِ وَ لا يُصْلِحُونَ (152) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (153) ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (154) قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَ لَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (155)

وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ (156) فَعَقَرُوها فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ (157) فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (158) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (159)

______________________________

(1) راجع ص 40: ذيل الآية 121- 122.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 45

كَذَّبَتْ ثَمُودُ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ صالِحٌ أَ لا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ* وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ قد سبق «1» تفسير ذلك أيضا.

أَ تُتْرَكُونَ فِي ما هاهُنا آمِنِينَ إنكار لأن يتركوا مخلّدين في نعيمهم لا يزالون عنه. أو تذكير بالنعمة في تخلية اللّه إيّاهم و ما يتنعّمون. «فيما هاهنا» أي: الّذي استقرّ في هذا المكان من النعيم، حال كونهم مع أمن و دعة.

و المعنى: أ تظنّون أنّكم تتركون فيما أعطاكم اللّه من الخير في هذه الدنيا، آمنين من الموت و العذاب؟! بل لا يبقى عليكم، و سيزول عنكم.

ثمّ فسّره بقوله: فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ* وَ زُرُوعٍ وَ نَخْلٍ طَلْعُها هَضِيمٌ لطيف ليّن، للطف التمر. أو لأنّ النخل أنثى، و طلع إناث النخل ألطف. و هو ما يطلع منها كنصل السيف في جوفه شماريخ «2» القنو. أو متدلّ «3» منكسر من كثرة الحمل.

و قيل: الهضيم: الليّن النضيج. و قيل: هو الّذي إذا مسّ تفتّت. و قيل: هو الّذي ليس فيه نوى.

و إفراد النخل لفضله على سائر أشجار الجنّات. أو لأنّ المراد بالجنّات غير النخل من الأشجار،

لأنّ اللفظ يصلح لذلك، ثمّ يعطف عليها النخل.

وَ تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً فارِهِينَ بطرين، أو حاذقين. من الفراهة، و هي

______________________________

(1) راجع ص 41: ذيل الآية 123- 127.

(2) شماريخ جمع شمراخ، و هو العذق- أي: الغصن له شعب- عليه بسر أو عنب. و القنو: من النخل كالعنقود من العنب.

(3) عطف على قوله: «لطيف ليّن» قبل سطرين.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 46

النشاط، فإنّ الحاذق يعمل بنشاط و طيب قلب. و قرأ نافع و ابن كثير و أبو عمرو:

فرهين. و هو أبلغ.

فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ* وَ لا تُطِيعُوا أَمْرَ الْمُسْرِفِينَ ثمّ وصفهم بالوصف الموضح لإسرافهم بقوله. و استعير طاعة الآمر المطاع لامتثال الأمر و ارتسامه، أو جعل الأمر مطاعا على المجاز الحكمي، و المراد الآمر.

و منه قولهم: لك عليّ إمرة مطاعة، و قوله تعالى: وَ أَطِيعُوا أَمْرِي «1».

و حقيقة المعنى: أطيعوني فيما آمركم به، و لا تطيعوا رؤساءكم المتجاوزين عن الحقّ.

الَّذِينَ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لا يُصْلِحُونَ عطفه على «يفسدون» دلالة على خلوص فسادهم. يعني: أنّ حالهم ليس كحال بعض المفسدين مخلوطة ببعض الصلاح، بل موصوفون بمحض الفساد و الفساد المحض. و هم سبعة رهط من ثمود الّذين عقروا الناقة.

قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ الّذين سحروا كثيرا مرّة بعد اخرى حتّى غلب على عقلهم، فصاروا لا يدرون ما يقولون. او من ذوي السّحر، و هو الرئة، أي: من الأناسيّ الّذين يحتاجون إلى الطعام و الشراب. فيكون ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا تأكيدا له.

فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعوة النبوّة. روي: أنّهم قالوا:

نريد ناقة عشراء «2»، تخرج من هذه الصخرة، فتلد سقبا. فقعد صالح يتفكّر، فقال له جبرئيل: صلّ ركعتين، و سل ربّك الناقة. ففعل، فخرجت الناقة

و بركت بين

______________________________

(1) طه: 90.

(2) العشراء: الناقة التي مضى لحملها عشرة أشهر. و السقب: الذكر من ولد الناقة.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 47

أيديهم، و نتجت سقبا مثلها في العظم. و عن أبي موسى: رأيت مصدرها فإذا هو ستّون ذراعا.

قالَ بعد خروج الناقة من الصخرة، كما اقترحوا المعجزة تدلّ على صدقة هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ نصيب من الماء، كالسقي و ألقيت، للحظّ من السقي و القوت وَ لَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ فاقتصروا على شربكم، و لا تزاحموها في شربها.

و عن قتادة: إذا كان يوم شربها شربت ماءهم كلّه، و لهم شرب يوم لا تشرب فيه الماء.

و

روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «أوّل عين نبعت في الأرض هي الّتي فجّرها اللّه لصالح، فقال: «لَها شِرْبٌ وَ لَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ».

وَ لا تَمَسُّوها بِسُوءٍ كضرب و عقر، و غير ذلك فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ عظم اليوم لعظم ما يحلّ فيه. و هو أبلغ من تعظيم العذاب، لأنّ الوقت إذا عظم بسببه كان موقعه من العظم أشدّ.

فَعَقَرُوها أسند العقر إلى كلّهم، لأنّ عاقرها إنّما عقرها برضاهم، و لذلك أخذوا جميعا.

روي: أنّ عاقرها قال: لا أعقرها حتّى ترضوا أجمعين. فكانوا يدخلون على المرأة في خدرها فيقولون: أ ترضين؟ فتقول: نعم. و كذا صبيانهم.

روي: أنّ مسطعا ألجأها إلى مضيق في شعب، فرماها بسهم فأصاب رجلها فسقطت، ثمّ ضربها قدار.

فَأَصْبَحُوا نادِمِينَ على عقرها خوفا من حلول العذاب، لا توبة، أو عند معاينة العذاب، و لذلك لم ينفعهم. قال اللّه تعالى: وَ لَيْسَتِ التَّوْبَةُ لِلَّذِينَ يَعْمَلُونَ

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 48

السَّيِّئاتِ «1» الآية.

فَأَخَذَهُمُ الْعَذابُ اللام إشارة إلى عذاب يوم عظيم إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَ إِنَّ

رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ مرّ تفسير هاتين الآيتين مرارا.

[سورة الشعراء (26): الآيات 160 الى 175]

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ (160) إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَ لا تَتَّقُونَ (161) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (162) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (163) وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (164)

أَ تَأْتُونَ الذُّكْرانَ مِنَ الْعالَمِينَ (165) وَ تَذَرُونَ ما خَلَقَ لَكُمْ رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ (166) قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ (167) قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ (168) رَبِّ نَجِّنِي وَ أَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ (169)

فَنَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ (170) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (171) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (172) وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (173) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (174)

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (175)

______________________________

(1) النساء: 18.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 49

كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ الْمُرْسَلِينَ* إِذْ قالَ لَهُمْ أَخُوهُمْ لُوطٌ أَ لا تَتَّقُونَ* إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ* فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ* وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ* أَ تَأْتُونَ الذُّكْرانَ أ تصيبون الذكور مِنَ الْعالَمِينَ من أولاد آدم، مع كثرتهم و غلبة إناثهم على ذكورهم. أو أ تأتون من بين من عداكم من العالمين الذكران، لا يشارككم فيه غيركم. يعني: أنّكم يا قوم لوط وحدكم مختصّون بهذه الفاحشة. فالمراد بالعالمين على الأوّل الناس، و على الثاني كلّ من ينكح.

وَ تَذَرُونَ و تتركون ما خَلَقَ لَكُمْ لأجل استمتاعكم رَبُّكُمْ مِنْ أَزْواجِكُمْ بيان ل «ما» إن أريد به جنس الإناث. أو للتبعيض إن أريد به العضو المباح منهنّ. فيكون تعريضا بأنّهم كانوا يفعلون مثل ذلك بنسائهم أيضا.

بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ عادُونَ متجاوزون عن حدّ

الشهوة، حيث زادوا على سائر الناس، بل الحيوان. أو مفرطون في المعاصي، و هذا من جملة ذاك. أو أحقّاء بأن توصفوا بالعدوان، لارتكابكم هذه الجريمة العظيمة.

قالُوا لَئِنْ لَمْ تَنْتَهِ يا لُوطُ عن نهينا، أو تقبيح أفعالنا، أو عمّا تدّعيه، و لم تمتنع عن دعوتنا لَتَكُونَنَّ مِنَ الْمُخْرَجِينَ من جملة من أخرجناه من بين أظهرنا، و طردناه من بلدنا. و لعلّهم كانوا يخرجون من أخرجوه على عنف و أسوأ حال.

قالَ إِنِّي لِعَمَلِكُمْ مِنَ الْقالِينَ من المبغضين غاية البغض، أقف عن الإنكار عليه بالإيعاد. من القلى بمعنى البغض الشديد. كأنّه بغض يقلي الفؤاد و الكبد. و هو أبلغ من أن يقول: إنّي لعملكم قال، لدلالته على أنّه معدود في زمرتهم، مشهور بأنّه من جملتهم. كما تقول: فلان من العلماء. فيكون أبلغ من قولك: فلان عالم، لأنّك تشهد له بكونه معدودا في زمرتهم، و معروفة مساهمته لهم

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 50

في العلم. و في هذا دليل على عظم المعصية.

رَبِّ نَجِّنِي وَ أَهْلِي مِمَّا يَعْمَلُونَ أي: من سوء عملهم و وخامة عاقبته من نزول العذاب.

فَنَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ أهل بيته و المتّبعين له على دينه، عن العقاب الأليم، بإخراجهم من بينهم وقت حلول العذاب بهم.

إِلَّا عَجُوزاً هي امرأة لوط فِي الْغابِرِينَ أي: مقدّرة مفروضة في الباقين في العذاب، إذ أصابها حجر في الطريق فأهلكها، لأنّها كانت مائلة إلى القوم، راضية بفعلهم، دالّة أهل الفساد على أضيافه. و قيل: كائنة فيمن بقي في القرية، فإنّها لم تخرج مع لوط.

ثُمَّ دَمَّرْنَا أهلكنا الْآخَرِينَ بانقلاب بلادهم عليهم وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً قيل: أمطر اللّه حجارة على قومه الّذين لم يكونوا في بلادهم، بل كانوا خارجين منها، غائبين عنها حين انقلبت البلاد

على أهل بلده فأهلكتهم. و عن ابن زيد: لم يرض اللّه بانقلاب بلدهم حتّى أتبعه مطرا من حجارة.

فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ بئس و اشتدّ مطر الكافرين. و لا يجوز أن يكون اللام للعهد الدّال على قوم بأعيانهم، بل إنّما هو للجنس، ليصحّ وقوع المضاف إليه فاعل «ساء». و المخصوص بالذمّ محذوف، و هو: مطرهم.

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ

[سورة الشعراء (26): الآيات 176 الى 191]

كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ (176) إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَ لا تَتَّقُونَ (177) إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (178) فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (179) وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ (180)

أَوْفُوا الْكَيْلَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ (181) وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ (182) وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (183) وَ اتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ (184) قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ (185)

وَ ما أَنْتَ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَ إِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ (186) فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (187) قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ (188) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (189) إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ (190)

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (191)

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 51

ثمّ أخبر عن قوم شعيب، فقال: كَذَّبَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ الْمُرْسَلِينَ الأيكة:

غيضة «1» تنبت ناعم الشجر. يريد غيضة بقرب مدين تسكنها طائفة، فبعث اللّه إليهم شعيبا، كما بعثه إلى مدين. و كان أجنبيّا منهم، فلذلك لم يقل: إذ قال لهم أخوهم شعيب، كما في المواضع المتقدّمة، بل قال: إِذْ قالَ لَهُمْ شُعَيْبٌ أَ لا تَتَّقُونَ و

في الحديث:

«إنّ شعيبا أخا مدين، أرسل إليهم و إلى أصحاب الأيكة».

و قيل: الأيكة شجر ملتفّ. و كان شجرهم الدوم «2». و هو المقل.

______________________________

(1) الغيضة: مجتمع الشجر في مغيض الماء- أي: مجتمعه و مدخله- الأجمة.

(2) الدوم: جنس شجر من فصيلة النخليّات، يستخرج من ثماره نوع من الدبس. يعرف أيضا بشجرة المقل.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 52

و قرأ ابن كثير و نافع و ابن عامر بحذف الهمزة، و إلقاء حركتها على اللام، على وزن ليلة. و نصب التاء على أنّها غير منصرفة، لأنّها اسم بلدتهم. و إنّما كتبت هاهنا و في سورة ص «1» بغير ألف اتباعا لخطّ المصحف، فإنّها وجدت مكتوبة في هاتين السورتين على حكم لفظ اللافظ.

إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ وَ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلى رَبِّ الْعالَمِينَ و قد مرّ تفسيرها قبل.

و إنّما حكى اللّه سبحانه دعوة كلّ نبيّ بصيغة واحدة و لفظ واحد، إشعارا بأنّ الحقّ الّذي يأتي به الرسل و يدعون إليه واحد، من اتّقاء اللّه تعالى، و اجتناب معاصيه، و الإخلاص في عبادته و طاعة رسله. و أنّ الأنبياء لا يكونون إلّا أمناء اللّه في عباده، فإنّه لا يجوز على واحد منهم أن يأخذ الأجرة على رسالته، لما في ذلك من التنفير عن قبولهم.

ثمّ قال: أَوْفُوا الْكَيْلَ أتمّوه وافيا غير ناقص وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُخْسِرِينَ الناقصين حقوق الناس بالتطفيف.

وَ زِنُوا بِالْقِسْطاسِ الْمُسْتَقِيمِ بالميزان السويّ. قيل: هو عربيّ من القسط، و هو العدل، على وزن فعلاس، بزيادة الألف و السين، أو فعلاع بتكرير العين. أو على وزن فعلال من الرباعي. و قيل: هو روميّ، بمعنى العدل أيضا. و قرأ حمزة و الكسائي و حفص بكسر

القاف.

وَ لا تَبْخَسُوا النَّاسَ أَشْياءَهُمْ و لا تنقصوا شيئا من حقوقهم. من: بخسته إذا نقصته. و البخس عامّ في كلّ حقّ ثبت لأحد أن لا يهضم، و في كلّ ملك أن لا يغصب عليه مالكه، و لا يتحيّف منه، و لا يتصرّف فيه إلّا بإذنه تصرّفا شرعيّا.

وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ بالقتل و الغارة و قطع الطريق. و كانوا يفعلون

______________________________

(1) ص: 13.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 53

ذلك مع تولّيهم أنواع الفساد، فنهوا عن ذلك. و العثيّ بمعنى أشدّ الفساد. يقال: عثا في الأرض يعثو، و عثى يعثى، و عاث يعيث.

وَ اتَّقُوا الَّذِي خَلَقَكُمْ وَ الْجِبِلَّةَ الْأَوَّلِينَ و ذوي الخليقة الأوّلين. يعني: من تقدّمهم من الخلائق. و هو كقولك: خلق الأوّلين.

قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ* وَ ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا أتوا بالواو للدلالة على أنّه جامع بين وصفين متنافيين للرسالة، و هما: التسحير و البشريّة، مبالغة في تكذيبه. يعني: أنّ الرسول لا يجوز أن يكون مسحّرا، و لا يجوز أن يكون بشرا.

وَ إِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ و إنّا نظنّك كاذبا في دعواك.

و اعلم أنّ «إن» المخفّفة من الثقيلة و لامها تفرّقتا على فعل الظنّ و ثاني مفعوليه، لأنّهما في الأصل يتفرّقان على المبتدأ و الخبر، كقولك: إن زيد لمنطلق.

فلمّا كان باب «كان» و باب «ظننت» من جنس باب المبتدأ و الخبر، قالوا أيضا في البابين: إن كان زيد لنا عما، «وَ إِنْ نَظُنُّكَ لَمِنَ الْكاذِبِينَ».

فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ أي: قطعا من السحاب. جمع الكسفة، نحو القطع جمع القطعة. و قرأ حفص بفتح السين. إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في دعواك. و ما كان طلبهم ذلك إلّا لتصميمهم على الجحود و التكذيب، و لو كان

فيهم أدنى ميل إلى التصديق لما أخطروه ببالهم، فضلا أن يطلبوه. و ذكر «إن» مشعر بإضمار الشرط. و المعنى: إن كنت صادقا أنّك نبيّ فادع اللّه أن يسقط علينا كسفا من السماء.

قالَ رَبِّي أَعْلَمُ بِما تَعْمَلُونَ و بما تستوجبون عليه من العقاب. فإن أراد أن يعاقبكم بإسقاط كسف من السماء فعل، و إن أراد عذابا آخر فإليه الحكم و المشيئة.

فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَهُمْ عَذابُ يَوْمِ الظُّلَّةِ على نحو ما اقترحوا، بأن سلّط اللّه

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 54

عليهم الحرّ الشديد سبعة أيّام حتّى أخذ بأنفاسهم، لا ينفعهم ظلّ و لا سرب «1»، فاضطرّوا إلى أن خرجوا إلى البرّيّة، فأظلّتهم سحابة وجدوا لها بردا و نسيما، فاجتمعوا تحتها، فأمطرت عليهم نارا فاحترقوا.

و روي: أنّ شعيبا بعث إلى أمّتين: أصحاب مدين، و أصحاب الأيكة.

فأهلكت مدين بصيحة جبرئيل، و أصحاب الأيكة بعذاب يوم الظلّة.

إِنَّهُ كانَ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ* إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً وَ ما كانَ أَكْثَرُهُمْ مُؤْمِنِينَ* وَ إِنَّ رَبَّكَ لَهُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ في نفي الإيمان عن أكثر كلّ أمّة من أمم الأنبياء السابقة، إيماء بأنّه لو آمن أكثرهم أو شطرهم لما أخذوا بالعذاب.

[سورة الشعراء (26): الآيات 192 الى 203]

وَ إِنَّهُ لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ (192) نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ (193) عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ (194) بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ (195) وَ إِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ (196)

أَ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ (197) وَ لَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ (198) فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ (199) كَذلِكَ سَلَكْناهُ فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ (200) لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ (201)

فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (202) فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ (203)

______________________________

(1) السرب: الحفير تحت الأرض.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 55

و اعلم

أنّ هذا آخر القصص السبع المذكورة على سبيل الاختصار، تسلية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و تهديدا للمكذّبين به. ثمّ قرّر حقّية تلك القصص بقوله: وَ إِنَّهُ و إنّ هذا التنزيل. يعني: ما نزل من هذه القصص. لَتَنْزِيلُ رَبِّ الْعالَمِينَ لمنزل نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ* عَلى قَلْبِكَ

و قرأ ابن عامر و أبو بكر و حمزة و الكسائي بتشديد الزاي، و نصب «الرّوح الأمين». و على القراءتين الباء للتعدية. فعلى القراءة الأولى معناه: نزل القرآن الروح الأمين. و على الثانية معناه: جعل اللّه الروح الأمين نازلا به على قلبك.

و الروح الأمين جبرئيل عليه السّلام، فإنّه عليه السّلام أمين اللّه على وحيه، و يحيي به الدين، أو يحيي به الأرواح بما ينزل من البركات. أو لأنّ جسمه روحانيّ.

و القلب إن أراد به الروح فذاك. و إن أراد به العضو، فتخيصه لأنّ المعاني الروحانيّة إنّما تنزل أوّلا على الروح، ثمّ تنتقل منه إلى القلب، لما بينهما من التعلّق، ثمّ تتصعّد منه إلى الدماغ، فينتقش بها لوح المتخيّلة.

و المعنى: حفّظك و فهّمك إيّاه، و أثبته في قلبك إثبات ما لا ينسى، كقوله تعالى: سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى «1».

لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ عمّا يؤدّي إلى عذاب من فعل أو ترك. و فيه تنبيه على إعجاز القرآن و نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإنّ الإخبار عن هذه القصص ممّن لم يتعلّم لا يكون إلّا وحيا من اللّه عزّ و جلّ.

بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ واضح المعنى. و هو إمّا متعلّق بالمنذرين. و معناه:

لتكوننّ ممّن أنذروا بلغة العرب. و هم خمسة: هود، و صالح، و شعيب، و إسماعيل، و محمّد صلّى اللّه عليهم. أو متعلّق ب «نزل».

وَ

إِنَّهُ و إنّ القرآن- يعني: ذكره، أو معناه- مثبت لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ لفي

______________________________

(1) الأعلى: 6.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 56

الكتب المتقدّمة السماويّة.

و قيل: الضمير لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و كذلك ضمير «يعلمه» في قوله: أَ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ آيَةً على صحّة القرآن، أو نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أَنْ يَعْلَمَهُ عُلَماءُ بَنِي إِسْرائِيلَ أن يعرفوه بنعته المذكور في كتبهم.

و قرأ ابن عامر: تكن بالتاء، و آية بالرفع على أنّها الاسم، و الخبر «لهم»، و «أن يعلمه» بدل. أو الفاعل، و «أن يعلمه» بدل، و «لهم» حال. و على قراءة غيره نصبت على أنّها خبر «يكن»، و «أن يعلمه» اسمه.

و علماؤهم: عبد اللّه بن سلام و أصحابه، كما قال اللّه تعالى: وَ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ «1».

و عن عطيّة: هم خمسة: عبد اللّه بن سلام، و ابن يامين، و ثعلبة، و أسد، و أسيد.

و خطّ: علمؤا بالواو قبل الألف، على لغة من عدل الألف إلى الواو. و على هذه اللغة كتبت: الصلوة و الزكوة و الربوا.

وَ لَوْ نَزَّلْناهُ عَلى بَعْضِ الْأَعْجَمِينَ كما هو زيادة في إعجازه. أو بلغة الأعجمين. و هو جمع الأعجمي، و هو الّذي لا يفصح، و في لسانه عجمة. و لمّا كان من يتكلّم بلسان غير لسانهم بحيث لا يفهمون كلامه، فشبّهوه بمن لا يفصح و لا يبين أصلا. و قالوا لكلّ ذي صوت من البهائم و الطيور و غيرها: أعجم.

فَقَرَأَهُ عَلَيْهِمْ ما كانُوا بِهِ مُؤْمِنِينَ لفرط عنادهم و استكبارهم. أو لعدم فهمهم، و استنكافهم من اتّباع العجم.

كَذلِكَ سَلَكْناهُ أي: كما أنزلنا

القرآن عربيّا مبينا، أدخلناه و أوقعناه فِي قُلُوبِ الْمُجْرِمِينَ الكافرين، بأن قرأه رسولنا عليهم، فعرفوا معانيه و إعجازه.

لا يُؤْمِنُونَ بِهِ عنادا و جحودا حَتَّى يَرَوُا يعاينوا الْعَذابَ الْأَلِيمَ

______________________________

(1) القصص: 53.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 57

فيلجئهم إلى الإيمان فَيَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فجأة في الدنيا و الآخرة وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بإتيانه فَيَقُولُوا هَلْ نَحْنُ مُنْظَرُونَ تحسّرا و تأسّفا.

[سورة الشعراء (26): الآيات 204 الى 209]

أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (204) أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ (205) ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ (206) ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ (207) وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلاَّ لَها مُنْذِرُونَ (208)

ذِكْرى وَ ما كُنَّا ظالِمِينَ (209)

روي عن مقاتل: لمّا أوعدهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالعذاب استعجلوه تكذيبا له، فقال سبحانه توبيخا لهم: أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ أشرا و بطرا و استهزاء، و اتّكالا على الأمل الطويل. فيقولون: أمطر علينا حجارة، فأتنا بما تعدنا، و حالهم عند نزول العذاب طلب النظرة. يعني: كيف يستعجل العذاب من هو معرّض لعذاب لإيجاب في دفعه، و لا ينظر و لا يمهل طرفة عين؟! أَ فَرَأَيْتَ إِنْ مَتَّعْناهُمْ سِنِينَ أعمارا طوالا في سلامة و أمن ثُمَّ جاءَهُمْ ما كانُوا يُوعَدُونَ* ما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يُمَتَّعُونَ لم يغن عنهم تمتّعهم المتطاول في دفع العذاب و تخفيفه. يعني: هب أنّ الأمر كما يعتقدون من تمتيعهم و تعميرهم، فإذا لحقهم الوعيد بعد ذلك ما ينفعهم حينئذ ما مضى من طول أعمارهم و طيب معاشهم.

وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا لَها مُنْذِرُونَ رسل أنذروا أهلها إلزاما للحجّة. و إنّما عزلت الواو عن الجملة بعد «إلّا»، و لم تعزل في قوله: وَ ما أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ إِلَّا وَ لَها كِتابٌ مَعْلُومٌ «1». لأنّ الأصل

عزل الواو، لأنّ الجملة صفة ل «قرية». و إذا زيدت

______________________________

(1) الحجر: 4.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 58

فلتأكيد وصل الصفة بالموصوف، كما في قوله: سَبْعَةٌ وَ ثامِنُهُمْ كَلْبُهُمْ «1».

ذِكْرى تذكرة. و محلّها النصب على العلّة أو المصدر، لأنّها في معنى الإنذار، كأنّه قيل: مذكّرون تذكرة. أو الرفع على أنّها صفة «منذرون» بإضمار:

ذووا. أو جعلوا ذكرى، لإمعانهم في التذكرة و إطنابهم فيها. أو خبر محذوف، أي:

هذه ذكرى. و الجملة اعتراضيّة. و يجوز أن تكون «ذكرى» متعلّقة ب «أهلكنا» مفعولا له. و المعنى: و ما أهلكنا من أهل قرية ظالمة إلّا بعد ما ألزمناهم الحجّة بإرسال المنذرين إليهم، ليكون إهلاكهم تذكرة و عبرة لغيرهم. وَ ما كُنَّا ظالِمِينَ فنهلك غير الظالمين، أو قبل الإنذار.

[سورة الشعراء (26): الآيات 210 الى 220]

وَ ما تَنَزَّلَتْ بِهِ الشَّياطِينُ (210) وَ ما يَنْبَغِي لَهُمْ وَ ما يَسْتَطِيعُونَ (211) إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لَمَعْزُولُونَ (212) فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ (213) وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ (214)

وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (215) فَإِنْ عَصَوْكَ فَقُلْ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ (216) وَ تَوَكَّلْ عَلَى الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (217) الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ (218) وَ تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ (219)

إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (220)

روي: أنّ الكفّار كانوا يقولون: إنّما يتنزّل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من جنس ما يتنزّل به الشياطين على الكهنة. فكذّبهم اللّه بقوله: وَ ما تَنَزَّلَتْ بِهِ بالقرآن

______________________________

(1) الكهف: 22.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 59

الشَّياطِينُ كما يزعمه بعض المشركين وَ ما يَنْبَغِي لَهُمْ و ما يصحّ للشياطين أن يتنزّلوا به وَ ما يَسْتَطِيعُونَ ذلك، و لا يقدرون عليه، لأنّ اللّه تعالى يحرس المعجزة عن أن يموّه بها المبطل.

إِنَّهُمْ عَنِ السَّمْعِ لكلام الملائكة

لَمَعْزُولُونَ لمصروفون مرجومون بالشهب، لأنّه مشروط بمشاركة في صفاء الذات، و قبول فيضان الحقّ، و الانتقاش بالصور الملكوتيّة، و نفوسهم خبيثة ظلمانيّة شرّيرة بالذات، لا تقبل ذلك. و القرآن مشتمل على حقائق و مغيّبات لا يمكن تلقّيها إلّا من الملائكة.

فَلا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَتَكُونَ مِنَ الْمُعَذَّبِينَ بسبب ذلك. قد علم عزّ اسمه أنّ ذلك لا يكون، و لكنّه أراد أن يحرّك نبيّه و يهيّجه، لازدياد الإخلاص و التقوى.

و فيه تنبيه لسائر المكلّفين، كما قال: وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ «1». فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ «2». لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ «3».

وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ رهطك الأدنين، بالإفصاح من غير تليين بالقول، الأقرب منهم فالأقرب. و إنّما خصّهم بالذكر تنبيها على أنّه ينذر غيرهم، و أنّه لا يداهنهم لأجل القرابة، ليقطع طمع الأجانب عن المداهنة في الدين.

و قيل: إنّه عليه السّلام أمر بأن يبدأ بهم في الإنذار و الدعاء إلى اللّه، ثمّ بالّذين يلونهم، كما قال: قاتِلُوا الَّذِينَ يَلُونَكُمْ مِنَ الْكُفَّارِ «4». لأنّ ذلك هو الّذي يقتضيه حسن الترتيب.

و قيل: إنّما خصّهم لأنّه يمكنه أن يجمعهم ثمّ ينذرهم. و قد فعل ذلك صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،

______________________________

(1) الحاقّة: 44.

(2) يونس: 94.

(3) الزمر: 65.

(4) التوبة: 123.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 60

زبدة التفاسير ج 5 119

و اشتهرت القصّة بذلك عند الخاصّ و العامّ.

و

في الخبر المأثور عن البراء بن عازب أنّه قال: لمّا نزلت هذه الآية جمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بني عبد المطّلب، و هم يومئذ أربعون رجلا، الرجل منهم يأكل المسنّة «1» و يشرب العسّ. «2» فأمر عليّا عليه السّلام برجل شاة فأدمها «3»، ثمّ

قال: ادنوا بسم اللّه. فدنا القوم عشرة عشرة، فأكلوا حتّى صدروا «4». ثمّ دعا بعقب من لبن، فجرع منه جرعة، ثمّ قال لهم: اشربوا بسم اللّه. فشربوا حتّى رووا. فبدرهم أبو لهب فقال:

هذا ما سحركم به الرجل. فسكت صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يومئذ و لم يتكلّم. ثمّ دعاهم من الغد على مثل ذلك من الطعام و الشراب.

ثمّ أنذرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا بني عبد المطّلب إنّي أنا النذير إليكم من اللّه عزّ و جلّ و البشير، فأسلموا و أطيعوني تهتدوا.

ثمّ قال: من يؤاخيني و يوازرني، و يكون وليّي و وصيّي بعدي و خليفتي في أهلي، و يقضي ديني؟ فسكت القوم. فأعادها ثلاثا، كلّ ذلك يسكت القوم، و يقول عليّ عليه السّلام: أنا. فقال في المرّة الثالثة: أنت. فقام القوم و هم يقولون لأبي طالب: أطع ابنك فقد أمّر عليك. أورد ذلك كلّه الثعلبي في تفسيره.

و

روي عن أبي رافع هذه القصّة، و أنّه جمعهم في الشعب، فصنع لهم رجل شاة، فأكلوا حتّى تضلّعوا «5»، و سقاهم عسّا فشربوا كلّهم حتى رووا.

ثمّ قال: إنّ اللّه تعالى أمرني أن أنذر عشيرتي الأقربين، و أنتم عشيرتي

______________________________

(1) المسنّة: البقرة إذا دخلت في السنة الثالثة.

(2) العسّ: القدح أو الإناء الكبير.

(3) أي: خلطها بالإدام.

(4) أي: رجعوا عنه. و القعب: القدح الضخم الغليظ.

(5) تضلّع: امتلأ شبعا أو ريّا. زبدة التفاسير، ج 5، ص: 61

و رهطي، و إنّ اللّه لم يبعث نبيّا إلّا جعل له أخا و وزيرا و وارثا و وصيّا و خليفة في أهله، فأيّكم يقوم فيبايعني على أنّه أخي و وارثي و وزيري و وصيّي، و يكون منّي بمنزلة هارون من

موسى إلّا أنّه لا نبيّ بعدي؟ فسكت القوم. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ليقومنّ قائمكم، أو ليكوننّ في غيركم ثمّ لتندمنّ.

ثمّ أعاد الكلام ثلاث مرّات. فقام عليّ عليه السّلام فبايعه و أجابه. ثمّ قال: ادن منّي.

فدنا منه، ففتح فاه و مجّ «1» في فيه من ريقه، و تفل بين كتفيه و ثدييه.

فقال أبو لهب: بئس ما حبوت به ابن عمّك أن أجابك، فملأت فاه و وجهه بزاقا.

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ملأته حكمة و علما.

و

عن ابن عبّاس قال: لمّا نزلت الآية صعد رسول اللّه على الصفا، فقال: يا صباحاه. فاجتمعت إليه قريش، فقالوا: مالك؟ قال: أ رأيتكم إن أخبرتكم أنّ العدوّ مصبحكم أو ممسيكم، ما كنتم تصدّقونني؟ قالوا: بلى. قال: فإنّي نذير لكم بين يدي عذاب شديد. قال أبو لهب: تبّا لك أ لهذا دعوتنا جميعا؟ فأنزل اللّه عزّ و جلّ تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَ إلى آخر السورة.

و

روي: أنّه لمّا نزلت صعد الصفا و ناداهم فخذا فخذا حتّى اجتمعوا إليه، فقال: «لو أخبرتكم أنّ بسفح هذا الجبل خيلا أ كنتم مصدّقيّ؟ قالوا: نعم. قال: فإنّي لكم نذير بين يدي عذاب شديد».

وَ اخْفِضْ جَناحَكَ لِمَنِ اتَّبَعَكَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ليّن جانبك لهم. و هذا مستعار من: خفض الطائر إذا أراد أن ينحطّ، فإنّ الطائر إذا أراد أن ينحطّ كسر جناحه و خفضه، و إذا أراد أن ينهض للطيران رفع جناحه. فجعل خفض جناحه عند

______________________________

(1) أي: رمى و قذف.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 62

الانحطاط مثلا في التواضع و لين الجانب.

و «من» للتبيين، لأنّ من اتّبع أعمّ ممّن اتّبع لدين أو غيره. أو للتبعيض، على أنّ المراد من المؤمنين المشارفون للإيمان، أو

المصدّقون باللسان، فإنّ المؤمنين المصدّقين بألسنتهم صنفان: صنف صدّق و اتّبع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيما جاء به، و صنف ما وجد منه إلّا التصديق فحسب، و هم المنافقون و الفاسقون، و هما لا يخفض لهما الجناح.

فَإِنْ عَصَوْكَ و لم يتّبعوك فيما تدعوهم إليه فَقُلْ إِنِّي بَرِي ءٌ مِمَّا تَعْمَلُونَ ممّا تعملونه. أو من أعمالكم القبيحة، من الشرك و غيره.

وَ تَوَكَّلْ و فوّض أمرك عَلَى الْعَزِيزِ الّذي يقدر على قهر أعدائه الرَّحِيمِ الّذي يقدر على نصر أوليائه، يكفك شرّ من يعصيك منهم و من غيرهم. و التوكّل: عبارة عن تفويض الرجل أمره إلى من يملك أمره، و يقدر على نفعه و ضرّه.

و قرأ نافع و ابن عامر: فتوكّل، على الإبدال من جواب الشرط.

الَّذِي يَراكَ حِينَ تَقُومُ إلى التهجّد. أو إلى الصلاة بالناس جماعة. أو تقوم للإنذار و أداء الرسالة. وَ تَقَلُّبَكَ فِي السَّاجِدِينَ في المصلّين، و تردّدك في تصفّح أحوال المتهجّدين. كما روي: أنّه لمّا نسخ فرض قيام الليل، طاف صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تلك الليلة ببيوت أصحابه لينظر ما يصنعون، حرصا على كثرة طاعاتهم، فوجدها كبيوت الزنابير لمّا سمع منها من دندنتهم «1» بذكر اللّه و تلاوة القرآن.

و قيل: معناه:

تصرّفك فيما بين المصلّين بالقيام و الركوع و السجود إذا أممتهم.

______________________________

(1) دندن الرجل: نغّم و لم يفهم منه كلام. زبدة التفاسير، ج 5، ص: 63

أو تقلّبك في أصلاب الموحّدين، حتّى أخرجك نبيّا من صلب أبيك، من نكاح غير سفاح، من لدن آدم عليه السّلام.

و هو المرويّ عن أئمّة الهدى عليهم السّلام.

قال النيشابوري: «قد احتجّ بالآية علماء الشيعة في مذهبهم أنّ آباء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

لا يكونون كفّارا. قالوا: أراد: تقلّب روحه من ساجد إلى ساجد، كما في الحديث المعتمد عليه عندهم: «لم أزل أنتقل من أصلاب الطاهرين إلى أرحام الطاهرات». و ناقشهم أهل السنّة في التأويل المذكور، و في صحّة الحديث.

و الأصوب عندي أن لا نشتغل بمعنى أمثال هذه الدعوى، و نسرح إلى بقعة الإمكان. على أنّه لا يلزم من عدم الدليل عدم المدلول» «1». انتهى كلامه، و ما أنصفه.

إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لما تقوله الْعَلِيمُ بما تنويه.

[سورة الشعراء (26): الآيات 221 الى 223]

هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ (221) تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (222) يُلْقُونَ السَّمْعَ وَ أَكْثَرُهُمْ كاذِبُونَ (223)

و لمّا أخبر اللّه سبحانه أنّ القرآن ليس ممّا تتنزّل به الشياطين، و أنّه وحي من اللّه، عقّبه بذكر من تنزّل عليه الشياطين، فقال:

هَلْ أُنَبِّئُكُمْ عَلى مَنْ تَنَزَّلُ الشَّياطِينُ* تَنَزَّلُ عَلى كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ أي: يتنزّل على كلّ كذّاب فاجر، كثير الإثم، عامل بالمعاصي. و هم الكهنة. و قيل: طليحة و مسيلمة. و أنت لست بكذّاب و لا أثيم، فلا تتنزّل عليك الشياطين، بل تتنزّل عليك الملائكة.

و إنّما دخل حرف الجرّ على «من» المتضمّنة لمعنى الاستفهام، و الاستفهام له

______________________________

(1) تفسير غرائب القرآن 5: 288.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 64

صدر الكلام، كقولك: أعلى زيد مررت؟ و لا تقول: على أزيد مررت؟ لأنّ «من» دالّ على معنيين معا: معنى الاسم، و معنى الحرف. و أصله: أمن، فحذف حرف الاستفهام، و استمرّ الاستعمال على حذفه، كما حذف من «هل» و الأصل: أهل.

فإذا دخل حرف الجرّ على «من» فقدّر الهمزة قبل حرف الجرّ، كأنّك تقول: أعلى من تنزّل الشياطين؟ كما تقول: أعلى زيد مررت؟

يُلْقُونَ السَّمْعَ يلقي الشياطين ما يسمعونه من الملأ الأعلى إلى أوليائهم، و هم الكهنة و

الكذّابون، و يخلطون به كثيرا من الأكاذيب، و يوحونه إليهم وَ أَكْثَرُهُمْ و أكثر الشياطين الأفّاكين الآثمين يلقون السمع إلى الشياطين، فيتلقّون وحيهم إليهم كاذِبُونَ فيما يلقون إلى الكهنة، لأنّهم يسمعونهم ما لم يسمعوا، أي: لا على نحو ما تكلّمت به الملائكة، لشرارتهم، أو لقصور فهمهم أو ضبطهم أو أفهامهم. أو أكثر الأفّاكين كاذبون، يفترون على الشياطين ما لم يوحوا إليهم.

و

في الحديث: «الكلمة يتخطّفها الجنّي فيقرّها في أذن وليّه، فيزيد فيها أكثر من مائة كذبة».

و القرّ: الصبّ.

قال الحسن: هم الّذين يسترقون السمع من الملائكة فيلقون إلى الكهنة.

و هذا قبل أن يوحى إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و بعد ذلك فمن يستمع الآن يجد له شهابا رصدا.

و قيل: المراد بالأكثر الكلّ، لقوله: «كُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ». و الأظهر أنّ الأكثريّة باعتبار أقوالهم، على معنى أنّ هؤلاء قلّ من يصدق منهم فيما يحكي عن الجنّي.

و الحاصل: أنّ اللّه سبحانه بيّن أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يصلح أن تتنزّل الشياطين عليه من وجهين:

أحدهما: أنّه إنّما يكون تنزّلهم على كلّ شرّير كذّاب كثير الإثم، فإنّ اتّصال الإنسان بالغائبات لما بينهما من التناسب و التوادّ، و حال محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 65

على خلاف ذلك.

و ثانيهما: أنّ الأفّاكين يلقون السمع إلى الشياطين، فيتلقّون منهم ظنونا و أمارات، لنقصان علمهم، فيضمّون إليها على حسب تخيّلاتهم أشياء لا يطابق أكثرها الواقع. و لا كذلك محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإنّه أخبر عن مغيّبات كثيرة لا تحصى، و قد طابق كلّها.

و اعلم أنّ محلّ «يلقون» يجوز أن يكون نصبا على الحاليّة، أيّ: تنزّل ملقين السمع.

أو جرّا صفة ل «كلّ أفّاك» لأنّه في معنى الجمع. و يحتمل أن لا يكون له محلّ من الإعراب، بأن يكون كلاما مستأنفا، كأنّ قائلا قال: لم تنزّل على الأفّاكين؟

فقيل: يلقون السمع ... إلخ.

[سورة الشعراء (26): الآيات 224 الى 227]

وَ الشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ الْغاوُونَ (224) أَ لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ (225) وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ (226) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ ذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً وَ انْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ (227)

روي: أنّ شعراء المشركين من قريش، مثل عبد اللّه بن الزبعري السهمي، و أبو سفيان بن الحرث بن عبد المطّلب، و هبيرة بن أبي وهب المخزومي، و مسافع بن عبد مناف الجمحي، و أبو عزّة عمرو بن عبد اللّه، و من ثقيف أميّة بن أبي الصلت، تكلّموا بالكذب و الباطل، و قالوا: نحن نقول مثل ما قال محمّد. و كانوا يهجونه و أصحابه في الشعر. و اجتمع إليهم غواة من قومهم، يستمعون أشعارهم، و يروون عنهم أهاجيهم، فنزلت:

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 66

وَ الشُّعَراءُ يَتَّبِعُهُمُ على أباطيلهم، و أكاذيبهم، و فضول كلامهم، و ما هم عليه من الهجاء. و قرأ نافع: يتبعهم بالتخفيف. الْغاوُونَ السفهاء و الشطّار «1».

و قيل: الشياطين. و أتباع محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليسوا كذلك. و هذا استئناف يبطل كونه شاعرا.

و قرّره بقوله: أَ- لَمْ تَرَ أَنَّهُمْ فِي كُلِّ وادٍ يَهِيمُونَ في كلّ فنّ من الكذب يتكلّمون، و في كلّ لغو يخوضون، فيمدحون و يذمّون بالباطل.

و المعنى: أنّهم لما يغلب عليهم من الهوى كالهائم على وجهه في كلّ واد يعنّ له، فيخوضون في كلّ فنّ من الكلام و المعاني الّتي تعنّ

لهم. فالوادي مثل لفنون كلامهم. و هيمانهم فيه قولهم على الجهل بما يقولون من لغو و باطل، و غلوّ في مدح و ذمّ، فإنّ أكثر مقدّماتهم خيالات لا حقيقة لها، و أغلب كلامهم في النسيب «2» بالحرم، و الغزل و الابتهار، و تمزيق الأعراض، و القدح في الأنساب، و الوعد الكاذب، و الافتخار بالباطل، و مدح من لا يستحقّه، و الإطراء فيه، حتّى يفضّلوا أجبن الناس على أشجعهم، و أشحّهم على أسخاهم، و يبهتوا «3» البري ء، و يفسّقوا التقيّ. و إليه أشار بقوله: وَ أَنَّهُمْ يَقُولُونَ ما لا يَفْعَلُونَ

و لمّا كان إعجاز القرآن من جهة المعنى و اللفظ، و قد قدحوا في المعنى بأنّه ممّا تنزّلت به الشياطين، و في اللفظ بأنّه من جنس كلام الشعراء، تكلّم في القسمين، و بيّن منافاة القرآن لهما، و مضادّة حال الرسول لحال أربابهما.

روى العيّاشي بالإسناد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «هم قوم تعلّموا و تفقّهوا بغير

______________________________

(1) الشطّار جمع الشاطر، و هو المتّصف بالدهاء و الخباثة.

(2) نسب نسيبا الشاعر بالمرأة: شبّب بها في شعره و تغزّل. و الحرم: النساء. و الابتهار: القذف بالبهتان، و دعوى الشي ء كذبا.

(3) أي: يتّهموا. زبدة التفاسير، ج 5، ص: 67

علم، فضلّوا و أضلّوا».

و في تفسير عليّ بن إبراهيم: «إنّهم الّذين يغيّرون دين اللّه تعالى، و يخالفون أمره» «1».

و قيل: هم القصّاص الّذين يكذبون في قصصهم، و يقولون ما يخطر ببالهم.

ثمّ استثنى الشعراء الصالحين المؤمنين منهم، الّذين يكثرون ذكر اللّه في الشعر، فقال:

إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ ذَكَرُوا اللَّهَ كَثِيراً أي: كانت أشعارهم في التوحيد و الثناء على اللّه و الرسول و آله، و الحثّ على طاعته، و الحكمة و الموعظة

و الزهد، و الآداب الحسنة، و مدح المؤمنين على طاعة اللّه.

وَ انْتَصَرُوا مِنْ بَعْدِ ما ظُلِمُوا بأن هجوا الكفّار الهاجين مكافحة لهجائهم المسلمين، و ردءا «2» و انتصارا ممّا يهجونهم، من غير اعتداء و لا زيادة على ما هو جواب، لقوله تعالى: فَمَنِ اعْتَدى عَلَيْكُمْ فَاعْتَدُوا عَلَيْهِ بِمِثْلِ مَا اعْتَدى عَلَيْكُمْ «3».

قيل: المراد بالمستثنين: عبد اللّه بن رواحة، و حسّان بن ثابت، و الكعبين:

كعب بن مالك، و كعب بن زهير، و الّذين كانوا ينافحون «4» عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و يكافحون عنه، و يكافحون هجاة قريش.

و

عن كعب بن مالك: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال له: «اهجهم، فو الّذي نفسي بيده هو أشدّ عليهم من وقع النبل».

روى البخاري و مسلم في الصحيحين أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يقول لحسّان:

______________________________

(1) تفسير عليّ بن إبراهيم 2: 125.

(2) الردء: الناصر و العون.

(3) البقرة: 194.

(4) نافح عن فلان: دافع عنه. زبدة التفاسير، ج 5، ص: 68

«اهجهم و روح القدس معك» «1».

وَ سَيَعْلَمُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ أيّ منصرف ينصرفون، و مرجع يرجعون؟! لأنّ منصرفهم إلى النار. و فيه تهديد شديد بما لا شي ء أهيب منه و أهول، و لا أنكى لقلوب المتأمّلين، و لا أصدع لأكباد المتدبّرين. و ذلك لما في «سيعلم» من الوعيد البليغ، و في «الّذين ظلموا» من الإطلاق و التعميم، و في «أَيَّ مُنْقَلَبٍ يَنْقَلِبُونَ»- أي: بعد الموت- من الإبهام و التهويل.

______________________________

(1) صحيح البخاري 8: 45، صحيح مسلم 4: 1933 ح 153.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 69

(27) سورة النمل

اشارة

و هي ثلاث و تسعون آية.

عن أبيّ بن كعب قال: «قال رسول اللّه صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم: من قرأ طس سليمان كان له من الأجر عشر حسنات بعدد من صدّق بسليمان و كذّب به، و هود و شعيب و صالح و إبراهيم، و يخرج من قبره و هو ينادي لا إله إلّا اللّه».

[سورة النمل (27): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طس تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ وَ كِتابٍ مُبِينٍ (1) هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ (2) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (3) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ (4)

أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ وَ هُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ (5)

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة الشعراء بذكر القرآن، افتتح هذه السورة بذكره أيضا، فقال:

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 70

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* طس سبق «1» تفسيره، و قراءته بالتفخيم و الإمالة تِلْكَ آياتُ الْقُرْآنِ إشارة إلى آي السورة وَ كِتابٍ مُبِينٍ إمّا اللوح.

و إبانته من حيث إنّه خطّ فيه ما هو كائن، فهو يبيّنه للناظرين فيه. و تأخيره باعتبار تعلّق علمنا به. و تقديمه في الحجر «2» باعتبار الوجود. و إمّا السورة أو القرآن.

و إبانتهما لما أودع فيهما من الحكم و الأحكام، أو لوضوح إعجازهما. و عطفه على القرآن كعطف إحدى الصفتين على الاخرى. و تنكيره للتعظيم، كقوله: فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ «3».

و قرأ نافع: و كتاب بالرفع، على حذف المضاف و إقامة المضاف إليه مقامه.

هُدىً وَ بُشْرى لِلْمُؤْمِنِينَ حالان من الآيات، أي: هادية من الضلالة إلى الحقّ بالبيان الأتمّ و البرهان الأكمل، و مبشّرة لهم بالجنّة و الثواب. أو بدلان من الآيات. أو خبران آخران، أي: جمعت أنّها آيات، و أنّها هدى و بشرى. أو خبران لمحذوف، أي: هي هدى

و بشرى.

ثمّ وصف المؤمنين بقوله: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ بحدودها و واجباتها، و يداومون على أوقاتها وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ و يخرجون ما يجب عليهم من الزكاة في أموالهم إلى من يستحقّها. و تخصيصهما بالذكر لمزيد شرفهما على سائر الأعمال البدنيّة و الماليّة.

وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ أي: البعث و الجزاء هُمْ يُوقِنُونَ لا يشكّون فيه. أو من جملة الصلة، و الواو للحال أو للعطف. و تغيير النظم للدلالة على قوّة يقينهم و ثباته، و أنّهم الأوحدون فيه. أو جملة اعتراضيّة، كأنّه قيل: و هؤلاء الّذين يؤمنون

______________________________

(1) في أوّل سورة الشعراء، راجع ص: 6.

(2) الحجر: 1.

(3) القمر: 55.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 71

و يعلمون الصالحات هم الموقنون بالآخرة. و يدلّ عليه أنّه عقد جملة ابتدائيّة اسميّة، و كرّر فيها المبتدأ الّذي هو «هم»، فإنّهما يدلّان على الثبات و الاختصاص.

و المعنى: و ما يوقن بالآخرة حقّ الإيقان إلّا هؤلاء الجامعون بين الإيمان و العمل الصالح، فإنّ تحمّل المشاقّ إنّما يكون لخوف العاقبة، و الوثوق على المحاسبة.

ثمّ وصف من خالفهم، فقال: إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ أي: أعمالهم القبيحة. و الفرق بين إسناد هذا التزيين إلى اللّه تعالى، و إلى الشيطان في قوله تعالى: وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ «1» أنّ إسناده إلى الشيطان حقيقة، و إلى اللّه مجاز. و له طريقان في علم البيان. أحدهما: أن يكون من المجاز الّذي يسمّى الاستعارة. و الثاني: أن يكون من المجاز الحكمي.

فالطريق الأوّل: أنّه لمّا متّعهم بطول العمر و سعة الرزق، و جعلوا إنعام اللّه بذلك عليهم و إحسانه إليهم ذريعة إلى اتّباع شهواتهم و بطرهم، و إيثارهم الروح و الترفّه، و نفارهم عمّا يلزمهم فيه من التكاليف الصعبة و

المشاقّ المتعبة، فكأنّه زيّن لهم بذلك أعمالهم. و إليه أشارت الملائكة في قولهم: وَ لكِنْ مَتَّعْتَهُمْ وَ آباءَهُمْ حَتَّى نَسُوا الذِّكْرَ «2».

و الطريق الثاني: أنّ إمهاله الشيطان، و تخليته حتّى يزيّن لهم، ملابسة ظاهرة للتزيين، فأسند إليه، لأنّ المجاز الحكمي يصحّحه بعض الملابسات.

و عن الحسن: أي أعمال الخير الّتي وجب عليهم أن يعملوها، زيّنّاها لهم بتعريض المثوبات عليها.

فَهُمْ يَعْمَهُونَ عنها، لا يدركون ما يتبعها من ضرّ أو نفع. و يقرب منه قوله:

______________________________

(1) العنكبوت: 38.

(2) الفرقان: 18.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 72

وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى «1». و العمه: التحيّر و التردّد، كما يكون حال الضالّ عن الطريق. و عن بعض الأعراب: أنّه دخل السوق و ما أبصرها قطّ، فقال: رأيت الناس عمهين. أراد: متردّدين في أعمالهم و أشغالهم.

أُوْلئِكَ الَّذِينَ لَهُمْ سُوءُ الْعَذابِ أي: شدّة العذاب و صعوبته، كالقتل و الأسر يوم بدر وَ هُمْ فِي الْآخِرَةِ هُمُ الْأَخْسَرُونَ أشدّ الناس خسرانا، لفوات المثوبة، و استحقاق العقوبة.

[سورة النمل (27): الآيات 6 الى 14]

وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ (6) إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ قَبَسٍ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (7) فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَ مَنْ حَوْلَها وَ سُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (8) يا مُوسى إِنَّهُ أَنَا اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9) وَ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى لا تَخَفْ إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ (10)

إِلاَّ مَنْ ظَلَمَ ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بَعْدَ سُوءٍ فَإِنِّي غَفُورٌ رَحِيمٌ (11) وَ أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ فِي تِسْعِ آياتٍ إِلى فِرْعَوْنَ وَ قَوْمِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (12)

فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (13) وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ ظُلْماً وَ عُلُوًّا فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ (14)

______________________________

(1) فصّلت: 17.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 73

وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ لتؤتاه مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ أي: من عند أيّ حكيم و أيّ عليم. و هذا معنى مجيئهما نكرتين. و الجمع بينهما- مع أنّ العلم داخل في الحكمة- لعموم العلم، و دلالة الحكمة على إتقان الفعل، و الإشعار بأنّ علوم القرآن منها ما هي حكمة، كالعقائد و الشرائع، و منها ما ليس كذلك، كالقصص و الإخبار عن المغيّبات.

و هذه الآية بساط و تمهيد لما يريد أن يسوق بعدها من أقاصيص الأنبياء، و ما في ذلك من لطائف حكمته و دقائق علمه. و من ذلك قصّة موسى، فإنّ فيها من الحكم العجيبة و اللطائف الغريبة مزيّة فضل بالنسبة إلى أقاصيص اخرى، و لهذا قدّمها فقال:

إِذْ قالَ مُوسى لِأَهْلِهِ إِنِّي آنَسْتُ ناراً منصوب بمضمر، و هو: اذكر. كأنّه قال على أثر ذلك: خذ من آثار حكمته و علمه، و اذكر قصّة موسى حين قال لأهله: إنّي أبصرت و رأيت نارا. و منه اشتقاق الإنس، لأنّهم مرئيّون. و قيل: آنست أي:

أحسست بالشي ء من جهة يؤنس بها، و ما أنست به فقد أحسست به مع سكون نفسك إليه. و يجوز أن ينصب ب «عليم».

و روي: أنّه لم يكن مع موسى عليه السّلام غير امرأته، و قد كنّى اللّه عنها بالأهل، فتبع ذلك ورود الخطاب على لفظ الجمع، لأنّها قائمة مقام جماعة في الأنس بها و السكون إليها في الأمكنة الموحشة، فقال:

سَآتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أي: ما يخبر به عن حال الطريق، لأنّه كان قد ضلّه.

و ذكر السين للدلالة

على بعد المسافة، و الوعد بالإتيان و إن أبطأ. أَوْ آتِيكُمْ بِشِهابٍ

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 74

قَبَسٍ أي: شعلة نار مقبوسة، فإنّ الشهاب شعلة نور كالعمود من النار، و كلّ نور يمتدّ مثل العمود يسمّى شهابا. و إضافته إلى القبس لأنّه قد يكون قبسا و غير قبس.

و نوّنه الكوفيّون و يعقوب على أنّ القبس بدل منه أو وصف له، لأنّه بمعنى المقبوس.

و هاتان العدتان على سبيل الظنّ، و لذلك عبّر عنهما بصيغة الترجّي في طه «1» و الترديد هنا، للدلالة على أنّه إن لم يظفر بهما لم يعدم أحدهما: إمّا هداية الطريق، و إمّا اقتباس النار، ثقة بعادة اللّه تعالى أنّه لا يكاد يجمع حرمانين على عبده.

لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ رجاء أن تستدفئوا بها. و ذلك لأنّهم كانوا قد أصابهم البرد الشديد. و الصلاء: النار العظيمة.

فَلَمَّا جاءَها نُودِيَ أَنْ بُورِكَ أي: بورك، فإنّ النداء فيه معنى القول، كأنّه قال: قيل له بورك. أو بأن بورك، على أنّها مصدريّة، أو مخفّفة من الثقيلة، و الضمير ضمير الشأن. و التخفيف و إن اقتضى التعويض ب «لا» أو «قد» أو السين أو سوف، لكنّه دعاء و هو يخالف غيره في أحكام كثيرة.

مَنْ فِي النَّارِ من في مكان النار. و هو البقعة المباركة في قوله تعالى:

نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ «2». وَ مَنْ حَوْلَها و من حول مكانها. و الظاهر أنّه عامّ في كلّ من في تلك الأرض و في ذلك الوادي و حواليهما من ارض الشام الموسومة بالبركات، لكونها مبعث الأنبياء، و كفاتهم «3» أحياء و أمواتا، و خصوصا تلك البقعة الّتي كلّم اللّه تعالى فيها موسى عليه السّلام.

______________________________

(1) طه: 10.

(2) القصص: 30.

(3) كفات الأرض: ظهرها للأحياء،

و بطنها للأموات.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 75

و قيل: المراد موسى و الملائكة الحاضرون فيها، لهم زجل «1» بالتسبيح و التقديس.

و تصدير الخطاب بذلك بشارة بأنّه قد قضي له أمر عظيم فيها، و هو تكليم اللّه إيّاه، و استنباؤه له، و إظهار المعجزات عليه. و ربّ خير يتجدّد في بعض البقاع، فينشر اللّه بركة ذلك الخير في أقاصيها، و يبثّ آثار يمنه في أباعدها، فكيف بمثل ذلك الأمر العظيم الّذي جرى في تلك البقعة؟! عن وهب: أنّ موسى لمّا رأى النار وقف قريبا منها، فرآها تخرج من فرع شجرة خضراء شديدة الخضرة، لا تزداد النار إلّا اشتعالا، و لا تزداد الشجرة إلّا خضرة و حسنا، فلم تكن النار بحرارتها تحرق الشجرة، و لا الشجرة برطوبتها تطفئ النار. فعجب منها، و أهوى إليها بضغث في يده ليقتبس منها، فمالت إليه، فخافها فتأخّر عنها، ثمّ لم تزل تطمعه و يطمع فيها إلى أن نودي: «أَنْ بُورِكَ مَنْ فِي النَّارِ وَ مَنْ حَوْلَها».

وَ سُبْحانَ اللَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ من تمام ما نودي به، تنزيها له عمّا لا يليق بصفاته، تعالى عن أن يكون جسما يحتاج إلى جهة، أو عرضا يحتاج إلى محلّ، أو ممّن يتكلّم بآلة، لئلّا يتوهّم من سماع كلامه تشبيها، و لتعجيب موسى من عظمة ذلك الأمر. أو تعجّب من موسى لما دهاه من عظمته.

يا مُوسى إِنَّهُ الضمير للشأن. و قوله: أَنَا اللَّهُ جملة مفسّرة له. أو ضمير للمتكلّم، و «أنا» خبره، أي: من يكلّمك أنا، و «اللّه» بيان له. الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ صفتان للّه ممهّدتان لما أراد أن يظهره على يده من المعجزة. يريد: أنا القويّ القادر على ما يبعد من الأوهام، كقلب العصا حيّة، الفاعل كلّ ما

أفعله بحكمة و تدبير.

______________________________

(1) الزجل: الصوت.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 76

وَ أَلْقِ عَصاكَ عطف على «بورك» أي: نودي أن بورك من في النار، و أن ألق عصاك. فكلاهما تفسير ل «نودي». و المعنى: قيل له: بورك من في النار، و قيل له: ألق عصاك. و يدلّ عليه قوله: وَ أَنْ أَلْقِ عَصاكَ «1» بعد قوله: أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ « «2»» بتكرير «أن». كما تقول: كتبت إليه أن حجّ و أن اعتمر.

فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ فألقى موسى عصاه فصارت حيّة تتحرّك باضطراب كَأَنَّها جَانٌ حيّة خفيفة سريعة وَلَّى مُدْبِراً رجع إلى ورائه وَ لَمْ يُعَقِّبْ و لم يرجع. من: عقّب المقاتل إذا كرّ بعد الفرّ.

قال المفسّرون: لم يلتفت و لم يقف. و إنّما رعب لظنّه أنّ ذلك لأمر أريد به، فسكّنه و نهاه عن الخوف، و قال: يا مُوسى لا تَخَفْ ثقة برحمتي إِنِّي لا يَخافُ لَدَيَّ الْمُرْسَلُونَ أي: إنّك مرسل، و المرسل لا يخاف، لأنّه لا يفعل قبيحا، و لا يخلّ بواجب فيخاف العقاب على ذلك.

و لمّا أطلق نفي الخوف عن الرسل، كان ذلك مظنّة لطروّ الشبهة، من نفي الخوف عن كلّهم مطلقا، فاستدرك بقوله: إِلَّا مَنْ ظَلَمَ لكن من نقص من ثوابه بترك الأولى، كالّذي صدر من آدم و يونس و داود و سليمان، و من موسى بوكزة القبطي ثُمَّ بَدَّلَ حُسْناً بالإنابة و الانقطاع إلى اللّه بَعْدَ سُوءٍ بعد ترك الأولى.

فَإِنِّي غَفُورٌ أستر ترك ندبه رَحِيمٌ أعطيه ثواب فعل الندب و إن لم يفعله.

و كأنّه أراد منه التعريض بما وجد من موسى من الوكزة. و هو من التعريضات الّتي يلطف مأخذها. و سمّاه ظلما كما قال موسى: رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ

لِي «3».

و يجوز أن يكون المعنى: لكن من ظلم نفسه بفعل القبيح من غير المرسلين- لأنّ الأنبياء لا يقع منهم ظلم، لكونهم معصومين من الذنوب و القبائح- ثمّ بدّله

______________________________

(1، 2) القصص: 31- 30.

(3) القصص: 16.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 77

حسنا بالتوبة عن المعاصي، فإنّي غفور ساتر لذنبه، رحيم قابل لتوبته.

وَ أَدْخِلْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ لأنّه كان بمدرعة صوف لا كمّ لها. و قيل: الجيب القميص، لأنّه يجاب، أي: يقطع. تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ من غير آفة، كبرص فِي تِسْعِ آياتٍ كلام مستأنف. و حرف الجرّ فيه يتعلّق بمحذوف.

و المعنى: اذهب في تسع آيات، و قوله: إِلى فِرْعَوْنَ وَ قَوْمِهِ متعلّق به.

و يجوز أن يكون المعنى: و ألق عصاك. و أدخل يدك في جملة تسع آيات و عدادهنّ، أو معها، على أنّ التسع هي: الفلق، و الطوفان، و الجراد، و القمّل، و الضفادع، و الدم، و الطمسة، و الجدب في بواديهم، و النقصان في مزارعهم. و لمن عدّ العصا و اليد من التسع، أن يعدّ الأخيرين واحدا، و لا يعدّ الفلق، لأنّه لم يبعث به إلى فرعون. و على هذين الوجهين يتعلّق «إِلى فِرْعَوْنَ وَ قَوْمِهِ» بنحو: مبعوثا أو مرسلا.

إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ خارجين عن طاعة اللّه إلى أقبح وجوه الكفر.

و هذا تعليل للإرسال.

فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا بأن جاءهم موسى بها مُبْصِرَةً بيّنة غاية التبيين.

فأطلق اسم الفاعل للمفعول، إشعارا بأنّها لفرط اجتلائها للأبصار بحيث تكاد تبصر نفسها لو كانت ممّا يبصر. أو ذات تبصّر، من حيث إنّها تهدي، و العمى لا تهتدي فضلا عن أن تهدي غيرها. و منه قولهم: كلمة عيناء، و كلمة عوراء، لأنّ الكلمة الحسنة ترشد، و السيّئة تغوي. أو مبصرة كلّ من

نظر إليها و تأمّل فيها. و مثل ذلك قوله: وَ آتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً «1». قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ واضح سحريّته.

وَ جَحَدُوا بِها أي: أنكروها و كذّبوها، و لم يقرّوا أنّها من عند اللّه وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ أي: و قد استيقنتها، لأنّ الواو للحال. و المعنى: جحدوها

______________________________

(1) الإسراء: 59.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 78

بألسنتهم مستيقنين إيّاها، عارفين عالمين بقلوبهم أنّها صدق و حقّ من عند اللّه.

و الاستيقان أبلغ من الإيقان.

ظُلْماً على أنفسهم، أو على بني إسرائيل وَ عُلُوًّا و ترفّعا و تكبّرا عن أن يؤمنوا بما جاء به موسى. و انتصابهما على العلّة. و أيّ ظلم أفحش من ظلم من اعتقد و استيقن أنّها آيات بيّنة واضحة جاءت من عند اللّه، ثمّ كابر بتسميتها سحرا بيّنا مكشوفا لا شبهة فيه؟! فَانْظُرْ يا محمّد، أو أيّها السامع كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُفْسِدِينَ في الأرض بالمعاصي. و هو الإغراق في الدنيا، و الإحراق في الآخرة.

[سورة النمل (27): الآيات 15 الى 19]

وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً وَ قالا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ (15) وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ وَ قالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ (16) وَ حُشِرَ لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ وَ الطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (17) حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ لا يَحْطِمَنَّكُمْ سُلَيْمانُ وَ جُنُودُهُ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (18) فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً مِنْ قَوْلِها وَ قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ (19)

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 79

ثمّ عطف على قصّة

موسى قصّة داود و سليمان، الّتي هي أخت قصّة موسى في مزيّة تضمّن العلم و الحكمة و الفضل من بين سائر الأقاصيص، فقال:

وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ وَ سُلَيْمانَ عِلْماً طائفة من العلم. و هو علم الحكم و الشرائع. أو علما أيّ علم. و هو العلم بالقضاء بين الخلق، و بكلام الطير و الدوابّ، و بتدابير الملك، و إلانة الحديد، و تسخير الشياطين و الجنّ و الإنس.

وَ قالا الْحَمْدُ لِلَّهِ عطفه بالواو دون الفاء- كما هو مقتضى الظاهر من المقام، لترتّب الحمد على النعمة- إشعارا بأنّ ما قالاه بعض ما أتيا به في مقابلة هذه النعمة. فكأنّه قال: و لقد آتيناهما علما فعملا به، و عرفا حقّ النعمة فيه و الفضيلة، و قالا: الحمد للّه الَّذِي فَضَّلَنا عَلى كَثِيرٍ مِنْ عِبادِهِ الْمُؤْمِنِينَ يعني: من لم يؤت علما، أو مثل علمهما.

و فيه دليل على فضل العلم، و شرف أهله، و إنافة محلّه، و تقدّم حملته، و أنّ نعمة العلم من أجلّ النعم، و أجزل القسم، حيث شكرا على العلم، و جعلاه أساس الفضل، و لم يعتبرا دونه ممّا أوتيا من الملك الذي لم يؤت غيرهما. و تحريض للعالم على أن يحمد اللّه على ما آتاه من فضله، و أن يتواضع و يعتقد أنّه و إن فضّل على كثير فقد فضّل عليه كثير.

وَ وَرِثَ سُلَيْمانُ داوُدَ النبوّة، أو العلم، أو الملك، فإنّه قام مقامه في ذلك دون سائر بنيه، و كانوا تسعة عشر وَ قالَ يا أَيُّهَا النَّاسُ عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ تشهيرا لنعمة اللّه، و تنويها بها، و اعترافا بمكانها، و دعاء للناس إلى التصديق بذكر المعجزة الّتي هي منطق الطير، و غير

ذلك من عظائم ما أوتيه.

و إنّما قال: «علّمنا»، مع أنّ ظاهره من كلام المتكبّرين، لوجهين: أحدهما:

أنّه يريد نفسه و أباه. و الثاني: أنّ هذه النون يقال لها: نون الواحد المطاع، و كان ملكا مطاعا، فكلّم أهل طاعته على صفته و حاله الّتي كان عليها. و ليس التكبّر من

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 80

لوازم ذلك، و قد يتعلّق بتجمّل الملك و تفخّمه و إظهار سياسته مصالح، فيعود تكلّف ذلك واجبا.

و النطق و المنطق في المتعارف: كلّ لفظ يعبّر به عمّا في الضمير، مفردا كان أو مركّبا، مفيدا أو غير مفيد. و قد يطلق لكلّ ما يصوّت به على التشبيه أو التبع، كقولهم: نطقت الحمامة. و منه: الناطق و الصامت للحيوان و الجماد، فإنّ الأصوات الحيوانيّة من حيث إنّها تابعة للتخيّلات منزّلة منزلة العبارات، سيّما و فيها ما يتفاوت باختلاف الأغراض، بحيث يفهم ما هو من جنسه.

و لعلّ سليمان عليه السّلام مهما سمع صوت حيوان، علم بقوّته القدسيّة التخيّل الّذي صوّته، و الغرض الّذي توخّاه به. و من ذلك ما حكي أنّه مرّ على بلبل في شجرة يحرّك رأسه و يميل ذنبه، فقال لأصحابه: أ تدرون ما يقول؟ قالوا: اللّه و نبيّه أعلم.

قال: يقول: أكلت نصف تمرة، فعلى الدنيا العفاء.

و صاحت فاختة، فأخبر أنّها تقول: ليت الخلق لم يخلقوا.

و صاح طاووس، فقال: يقول: كلّ حيّ ميّت، و كلّ جديد بال.

و صاح خطّاف، فقال: يقول: قدّموا خيرا تجدوه.

و صاحت رخمة، فقال: تقول: سبحان ربّي الأعلى مل ء سمائه و أرضه.

و صاح قمريّ، فأخبر أنّه يقول: سبحان ربّي الأعلى.

و قال: الحدأ يقول: كلّ شي ء هالك إلّا اللّه. و القطاة تقول: من سكت سلم.

و الببّغاء تقول: ويل لمن الدّنيا همّه. و

الديك يقول: اذكروا اللّه يا غافلين. و النسر يقول: يا ابن آدم عش ما شئت آخرك الموت. و العقاب يقول: في البعد من الناس أنس، و الضفدع يقول: سبحان ربّي القدّوس.

و أراد بقوله: «مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ» كثرة ما أوتي، كما تقول: فلان يقصده كلّ أحد، تريد كثرة قصّاده. و فلان يعلم كلّ شي ء، تريد غزارة علمه و استكثاره منه. و مثله

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 81

قوله: وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ «1». و المراد: أوتينا من كلّ شي ء يؤتى الأنبياء و الملوك.

روى الواحدي بالإسناد عن محمّد بن جعفر بن محمّد، عن أبيه، قال: اعطي سليمان بن داود ملك مشارق الأرض و مغاربها، فملك سبعمائة سنة و ستّة أشهر.

ملك أهل الدنيا كلّهم، من الجنّ و الإنس و الشياطين، و الدوابّ و الطير و السباع.

و اعطي علم كلّ شي ء، و منطق كلّ شي ء. و في زمانه صنعت الصنائع المعجبة الّتي سمع بها الناس، و ذلك قوله: «عُلِّمْنا مَنْطِقَ الطَّيْرِ».

إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَضْلُ الْمُبِينُ أي: فضل لا يخفى على أحد. و هذا قول صادر منه على سبيل الشكر و المحمدة، كما

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنا سيّد ولد آدم و لا فخر»

أي: أقول هذا القول شكرا، و لا أقوله فخرا. و يحتمل أن يكون من قول اللّه سبحانه، على وجه الإخبار بأنّ ما ذكره هو الفضل المبين.

وَ حُشِرَ و جمع لِسُلَيْمانَ جُنُودُهُ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ وَ الطَّيْرِ فَهُمْ يُوزَعُونَ يحبس أوّلهم على آخرهم، أي: توقف سلاف «2» العسكر حتّى تلحقهم التوالي، فيكونوا مجتمعين لا يتخلّف منهم أحد. عن ابن عبّاس. و معنى ذلك: أنّ كلّ صنف من جنوده وزعة «3» ترد أوّلهم

على آخرهم، ليتلاحقوا و لا يتفرّقوا.

روي: أنّ معسكره عليه السّلام كان مائة فرسخ في مائة، خمسة و عشرون للجنّ، و خمسة و عشرون للإنس، و خمسة و عشرون للطير، و خمسة و عشرون للوحش.

و كان له ألف بيت من قوارير على الخشب، فيها ثلاثمائة منكوحة، و سبعمائة سريّة. و قد نسجت له الجنّ بساطا من ذهب و إبريسم، فرسخا في فرسخ. و كان

______________________________

(1) النمل: 23.

(2) سلاف العسكر: مقدّمته.

(3) الوزعة: أعوان الملك و شرطه، الولاة المانعون من محارم اللّه تعالى.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 82

يوضع منبره في وسطه، و هو من ذهب، فيقعد عليه و حوله ستّمائة ألف كرسي من ذهب و فضّة. فيقعد الأنبياء على كراسيّ الذهب، و العلماء على كراسيّ الفضّة، و حولهم الناس، و حول الناس الجنّ و الشياطين. و تظلّه الطير بأجنحتها حتّى لا تقع عليه الشمس. و ترفع ريح الصبا البساط فتسير به مسيرة شهر من الصباح إلى الرواح، و من الرواح إلى الصباح.

و يروى أنّه كان يأمر الريح العاصف تحمله، و يأمر الرخاء تسيّره. فأوحى اللّه إليه و هو يسير بين السماء و الأرض: أنّي قد زدت في ملك، لا يتكلّم أحد بشي ء إلّا ألقته الريح في سمعك. فيحكى أنّه مرّ بحرّاث فقال: لقد أوتي آل داود ملكا عظيما. فألقته الريح في أذنه، فنزل و مشى إلى الحرّاث، و قال: إنّما مشيت إليك لئلّا تتمنّى ما لا تقدر عليه. ثمّ قال: لتسبيحة واحدة يقبلها اللّه تعالى، خير ممّا أوتي آل داود. فركب على الريح و رجع إلى معسكره، و أخذ في السير مع جنوده.

حَتَّى إِذا أَتَوْا عَلى وادِ النَّمْلِ هو واد في الشام كثير النمل. و تعدية الفعل ب «على»

إمّا لأنّ إتيانهم من فوق، أو لأنّ المراد قطع الوادي و بلوغ آخره. من قولهم:

أتى على الشي ء، إذا أنفده و بلغ آخره. كأنّهم أرادوا أن ينزلوا منقطع الوادي.

قالَتْ نَمْلَةٌ يا أَيُّهَا النَّمْلُ ادْخُلُوا مَساكِنَكُمْ حين رأتهم متوجّهين إلى الوادي، أي: صاحتهم بصوت خلق اللّه لها. و لمّا كان صوتها مفهوما لسليمان عبّر عنه بالقول. و لمّا صاحت بهذه الصيحة نبّهت بها ما بحضرتها من النمال أيضا. و كانوا مقولا لهم كما في أولي العقل، فشبّه ذلك بمخاطبة العقلاء و مناصحتهم، و أجروا مجراهم في إسناد القول و ضمير العقلاء. مع أنّه لا يمتنع أن خلق اللّه فيها العقل و النطق.

و قيل: كانت رئيسة النمل، اسمها طاخية، مأخوذة من ليلة طخياء، أي:

سوداء. و قيل: اسمها منذرة. و روي: أنّها كانت عرجاء، تمشي على ثلاث قوائم،

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 83

فأمرت رعاياها بالدخول إلى مساكنهم.

ثمّ ثبّت سبب الدخول بقولها: لا يَحْطِمَنَّكُمْ لا يكسرنّكم سُلَيْمانُ وَ جُنُودُهُ ظاهره نهي لهم عن الحطم، و المراد نهيها عن التوقّف بحيث يحطمونها، كقولهم: لا أرينّك هاهنا. فهو استئناف مبيّن للأمر، أو بدل منه لا جواب له، فإنّ النون لا تدخله في السعة. وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بأنّهم يحطمونكم، إذ لو شعروا لم يفعلوا. و قيل: استئناف، أي: فهم سليمان و القوم لا يشعرون.

و قال في المجمع: «و هذا يدلّ على أنّ سليمان و جنوده كانوا ركبانا و مشاة على الأرض، و لم تحملهم الريح، لأنّ الريح لو حملتهم بين السماء و الأرض، لما خافت النمل أن يطأها بأرجلهم. و لعلّ هذه القصّة كانت قبل تسخير اللّه الريح لسليمان عليه السّلام» «1».

و قال في الكشّاف: «و روي أنّ النملة أحسّت بصوت الجنود و

لا تعلم أنّهم في الهواء، فأمر سليمان الريح فوقفت بجنوده حتّى دخل النمل مساكنه» «2». انتهى كلامه.

إن قيل: كيف عرفت النملة سليمان و جنوده حتّى قالت ما قالت؟

قلنا: إذا كانت مأمورة بطاعته، فلا بدّ أن يخلق لها من الفهم ما تعرف به أمور طاعته. و لا يمتنع أن يكون لها من الفهم ما يستدرك به ذلك. و قد علمنا أنّه تشقّ ما تجمع من الحبوب بنصفين، مخافة أن يصيبها الندى فتنبت. و تكسر الكزبرة أربع قطع، لعلمها أنّ الكزبرة إذا شقّت بنصفين تنبت. فمن هداها إلى هذا فإنّه يهديها إلى تمييز ما يحطمها ممّا لا يحطمها.

و روي: أنّ الريح ألقت في سمع سليمان هذه المقالة من ثلاثة أميال.

______________________________

(1) مجمع البيان 7: 215.

(2) الكشّاف 3: 358.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 84

فَتَبَسَّمَ ضاحِكاً شارعا في الضحك و آخذا فيه مِنْ قَوْلِها يعني: أنّه قد تجاوز حدّ التبسّم إلى الضحك. و كذلك ضحك الأنبياء. و ذلك لتعجّبه من حذرها، و اهتدائها إلى مصالحها. أو لسروره بما خصّه تعالى به، من إدراكه همسها، و فهمه غرضها، و إحاطته بقصدها. و من دلالة قولها على ظهور رحمته و رحمة جنوده و شفقتهم، و على شهرة حاله و حالهم في باب العدل، حيث بلغ في الظهور مبلغا عرفته النملة، حيث قالت: «وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ». يعني: أنّهم لو شعروا لم يفعلوا، و لذلك سأل توفيق شكره.

وَ قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ اجعلني أزع شكر نعمتك عندي، أي:

أكفّه و أرتبطه لا ينفلت عنّي، بحيث لا أنفكّ عنه الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَ من تعليم منطق النمل و سائر الطيور. أدرج فيه ذكر و والديه تكثيرا للنعمة أو تعميما لها، فإنّ النعمة

على الوالدين نعمة على الولد، و النعمة عليه يرجع نفعها إليهما، سيّما الدينيّة، لأنّه إذا كان تقيّا نفعهما بدعائه و شفاعته، و بدعاء المؤمنين لهما كلّما دعوا له، و قالوا: رضي اللّه عنك و عن والديك.

وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً أي: وفّقني لأن أعمل صالحا في المستقبل تَرْضاهُ إتماما للشكر، و استدامة للنعمة وَ أَدْخِلْنِي بِرَحْمَتِكَ فِي عِبادِكَ الصَّالِحِينَ في عدادهم في الجنّة.

قال ابن عبّاس: يعني: إبراهيم و إسماعيل و إسحاق و يعقوب و من بعدهم من النبيّين، أي: اثبت اسمي مع أسمائهم، و احشرني في زمرتهم.

روي: أنّ نمال سليمان كأمثال الذئاب و الكلاب.

[سورة النمل (27): الآيات 20 الى 26]

وَ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ (20) لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (21) فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ فَقالَ أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ وَ جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ بِنَبَإٍ يَقِينٍ (22) إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ لَها عَرْشٌ عَظِيمٌ (23) وَجَدْتُها وَ قَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ (24)

أَلاَّ يَسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْ ءَ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَ ما تُعْلِنُونَ (25) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ (26)

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 85

و لمّا بيّن قصّة النمل أخبر عن قصّة الهدهد، فقال: وَ تَفَقَّدَ الطَّيْرَ و تعرّفها فلم يجد فيها الهدهد فَقالَ ما لِيَ لا أَرَى الْهُدْهُدَ أَمْ كانَ مِنَ الْغائِبِينَ «أم» منقطعة، فإنّه لمّا نظر إلى مكان الهدهد فلم يره، ظنّ أنّه حاضر و لا يراه لساتر أو غيره، فقال: مالي لا أراه. ثمّ احتاط فلاح له أنّه غائب، فأضرب

عن ذلك و أخذ يقول:

أهو غائب؟ كأنّه يسأل عن صحّة ما لاح له. و نحوه قولهم: إنّها لإبل أم شاء.

و الكلام من باب صنعة القلب. و الأصل: ما للهدهد لا أراه؟ كقولهم: مالي أراك كئيبا؟ أي: مالك كئيبا؟

روي: أنّ سليمان عليه السّلام حين تمّ له بناء بيت المقدس تجهّز للحجّ بجنوده، فوافى الحرم و أقام به ما شاء. و كان يقرّب كلّ يوم طول مقامه بخمسة آلاف ناقة، و خمسة آلاف بقرة، و عشرين ألف شاة. ثمّ عزم على السير إلى اليمن، فخرج من مكّة صباحا يؤمّ سهيلا، فوافى صنعاء وقت الزوال- و ذلك مسيرة شهر- فرأى أرضا حسناء أعجبته خضرتها، ليتغدّى و يصلّي، فلم يجدوا الماء. و كان الهدهد

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 86

قناقنه «1»، أي: دليله العالم البصير بالماء تحت الأرض ليحفر القنى «2». و الجمع القناقن بالفتح. و كان يرى الماء من تحت الأرض كما يرى الماء في الزجاجة، فيجي ء الشياطين فيسلخونها كما يسلخ الإهاب، و يستخرجون الماء.

روى العيّاشي بالإسناد قال: «قال أبو حنيفة لأبي عبد اللّه عليه السّلام: كيف تفقّد سليمان الهدهد من بين الطير؟ قال: لأنّ الهدهد يرى الماء في بطن الأرض، كما يرى أحدكم الدهن في القارورة. فنظر أبو حنيفة إلى أصحابه و ضحك. قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: ما يضحكك؟ قال: ظفرت بك. قال: و كيف ذاك؟ قال: الّذي يرى الماء في بطن الأرض، لا يرى الفخّ في التراب حتّى يؤخذ بعنقه؟ قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: يا نعمان أما علمت أنّه إذا نزل القدر أغشي البصر؟».

فلمّا تفقّد سليمان الهدهد و لم يجده، أو عده على غيبته، فقال: لَأُعَذِّبَنَّهُ عَذاباً شَدِيداً لأؤدّبنّه تأديبا بليغا ليعتبر به أبناء

جنسه. و قيل: كان عذاب سليمان للطير أن ينتف ريشه و يشمّسه، أو يلقى للنمل تأكله، أو يودعه القفص، أو يفرّق بينه و بين إلفه، أو يلزمه صحبة الأضداد. و عن بعضهم: أضيق السجون معاشرة الأضداد. أو يلزمه خدمة أقرانه. على اختلاف الأقوال للمفسّرين و المؤرّخين.

أَوْ لَأَذْبَحَنَّهُ لأقطّعنّ حلقه عقوبة على عصيانه أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ بحجّة تبين عذره. و الحلف في الحقيقة على أحد الأوّلين، لأنّهما فعله. و أمّا حلفه على فعل الهدهد الّذي هو غير متيقّن لسليمان، لأجل الإتيان ب «أو» في الحكم، فكأنّه قال: ليكوننّ أحد الأمور الثلاثة. يعني: إن كان الإتيان بالسلطان لم يكن تعذيب و لا ذبح، و إن لم يكن كان أحدهما. و ليس في هذا ادّعاء دراية أنّ

______________________________

(1) القناقن: المهندس الّذي يعرف وجود الماء تحت الأرض. و الجمع: قناقن. و ليس هذا بعربيّ الأصل.

(2) القنى جمع القناة.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 87

الهدهد يأتي بسلطان مبين و إيقان منه. على أنّه يجوز أن يتعقّب حلفه بالفعلين وحي من اللّه بأنّه سيأتيه بسلطان مبين. فثلّث بقوله: «أَوْ لَيَأْتِيَنِّي بِسُلْطانٍ مُبِينٍ» عن دراية و إيقان.

و قرأ ابن كثير: أو ليأتينّني بنونين، الأولى مفتوحة مشدّدة.

و اعلم أنّ اللّه كان أباح له التعذيب لما رأى فيه من المصلحة، كما أباح ذبح البهائم و الطيور للأكل و غيره من المنافع. فإذا سخّر له الطير، و لم يتمّ ما سخّر له من أجله إلّا بالتأديب و السياسة، جاز أن يباح له ما يستصلح به.

فَمَكَثَ غَيْرَ بَعِيدٍ زمانا غير مديد، يريد به الدلالة على سرعة رجوعه خوفا منه. و قرأ عاصم بفتح الكاف.

روي: أنّ سليمان حين نزل حلّق «1» الهدهد فرأى هدهدا واقعا، فانحطّ إليه فوصف

له ملك سليمان و ما سخّر له من كلّ شي ء، و ذكر له صاحبه ملك بلقيس، و أنّ تحت يدها اثني عشر ألف قائد، تحت كلّ قائد مائة ألف، و ذهب معه لينظر، فما رجع إلّا بعد العصر.

و روي: أنّه وقعت نفحة من الشمس على رأس سليمان، فنظر فإذا موضع الهدهد خال، فدعا عرّيف الطير و هو النسر، فسأله عنه، فلم يجد عنده علمه. ثمّ قال لسيّد الطير و هو العقاب: عليّ به. فارتفعت فنظرت، فإذا هو مقبل فقصدته.

فناشدها اللّه و قال: بحقّ الّذي قوّاك و أقدرك عليّ إلّا رحمتيني. فتركته و قالت:

ثكلتك أمّك، إنّ نبيّ اللّه قد حلف ليعذّبنّك. قال: و ما استثنى؟ قالت: بلى أو ليأتينّي بعذر مبين. فلمّا قرب من سليمان أرخى ذنبه و جناحيه يجرّها على الأرض تواضعا له. فلمّا دنا منه أخذ برأسه فمدّه إليه. فقال: يا نبيّ اللّه اذكر وقوفك بين يدي اللّه تعالى. فارتعد سليمان و عفا عنه.

______________________________

(1) حلّق الطائر: ارتفع في طيرانه و استدار كالحلقة.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 88

ثمّ سأله عن غيبته فَقالَ في جوابه أَحَطْتُ بِما لَمْ تُحِطْ بِهِ يعني: حال سبأ. و معنى الإحاطة بالشي ء علما: أن يعلم من جميع جهاته، بحيث لا يخفى منه معلوم، تشبيها بالسور المحيط.

و في مخاطبته إيّاه بذلك تنبيه له على أنّ في أدنى خلق اللّه و أضعفه من أحاط علما بما لم يحط به، لتتحاقر إليه نفسه، و يتصاغر لديه علمه، و يكون لطفا له في ترك الإعجاب الّذي هو فتنة العلماء، و أعظم بها فتنة.

و فيه دليل على أنّه يجوز أن يكون في زمن الأنبياء من يعرف ما لا يعرفونه.

و لا يقدح ذلك في النّبوة. و أنّ النبيّ

صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّما هو أعلم من أمّته في علوم الشريعة.

و منه

قول نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنتم أعلم بأمور دنياكم».

و كذا الامام.

فما قال صاحب الكشّاف من أنّ «فيه دليلا على بطلان قول الرافضة: إنّ الامام لا يخفى عليه شي ء، و لا يكون في زمانه أحد أعلم منه» «1». محض افتراء، و افتراء محض، صادر عن خبث الاعتقاد، و بيّن العناد على الإماميّة.

وَ جِئْتُكَ مِنْ سَبَإٍ قرأ ابن كثير برواية البزّي و أبو عمرو غير منصرف، على تأويل القبيلة أو البلدة. قال في الكشّاف: «إنّ سبأ في الأصل هو سبأ بن يشخب بن يعرب بن قحطان. فمن جعله اسما للقبيلة لم يصرف، و من جعله اسما للحيّ أو الأب الأكبر صرف. ثمّ سمّيت مدينة مأرب بسبإ، و بينها و بين صنعاء مسيرة ثلاثة أيّام» «2». بِنَبَإٍ يَقِينٍ بخبر محقّق.

ثمّ فسّر النبأ فقال: إِنِّي وَجَدْتُ امْرَأَةً تَمْلِكُهُمْ يعني: بلقيس بنت شراحيل بن مالك بن الريّان. و كان أبوها ملك أرض اليمن كلّها، و قد ولده أربعون ملكا، و لم يكن له ولد غيرها، فغلبت على الملك. و الضمير لسبأ، أو لأهلها.

______________________________

(1) الكشّاف 3: 359.

(2) الكشّاف 3: 359- 360.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 89

وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ يحتاج إليه الملوك وَ لَها عَرْشٌ عَظِيمٌ عظمه بالنسبة إلى حالها، أو إلى عروش أمثالها، لا إلى عرش سليمان. و يجوز أن لا يكون لسليمان عليه السّلام مثله، و إن عظمت مملكته في كلّ شي ء، كما يكون لبعض أمراء الأطراف شي ء لا يكون مثله للملك الّذي يملك عليهم أمرهم و يستخدمهم.

و عن ابن عبّاس: كان ثلاثين ذراعا في ثلاثين، عرضا و سمكا.

و

في الكشّاف «1»: ثمانين ذراعا في ثمانين من ذهب و فضّة، مكلّلا بالجواهر.

و كان سمكه من ياقوت أحمر و أخضر و درّ و زمرّد، و عليه سبعة أبيات، على كلّ بيت باب مغلق.

و في المجمع: «كان مقدّم عرشها من ذهب مرصّع بالياقوت الأحمر و الزمرّد الأخضر، و مؤخّره من فضّة مكلّل بألوان الجواهر» «2».

و بون بعيد بين قوله: وَ أُوتِينا مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ «3» في سليمان، «وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ» في بلقيس، لأنّ سليمان عطف قوله على ما هو معجزة من اللّه، و هو تعليم منطق الطير، فرجع أوّلا إلى ما اوتي من النبوّة و الحكمة و أسباب الدين، ثمّ إلى الملك و أسباب الدنيا، و عطفه الهدهد على الملك، فلم يرد إلّا ما أوتيت من أسباب الدنيا اللائقة بحالها، فبين القولين كمال مباعدة.

و كانت هي و قومها مجوسا يعبدون الشمس، كما قال: وَجَدْتُها وَ قَوْمَها يَسْجُدُونَ لِلشَّمْسِ أي: يعبدونها مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ من عبادة الشمس و غيرها، من مقابح أحوالهم، و قبائح أفعالهم فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ حصرهم عن سبيل الحقّ و الصواب فَهُمْ لا يَهْتَدُونَ

______________________________

(1) الكشّاف 3: 360.

(2) مجمع البيان 7: 218.

(3) النمل: 16.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 90

و اعلم أنّ خفاء حال بلقيس على سليمان، و كانت المسافة بين محطّه و بين بلدها قريبة، و هي مسيرة ثلاثة أيّام بين صنعاء و مأرب، لمصلحة أراد اللّه تعالى فيها، كما أخفى سبحانه مكان يوسف على يعقوب.

و تهدّي الهدهد إلى معرفة اللّه، و إلى وجوب السجود له، و إنكار سجودهم للشمس، و إضافته إلى الشيطان و تزيينه، لما ألهمه اللّه ذلك، كما ألهمه و غيره من الطيور و سائر

الحيوان المعارف اللطيفة الّتي لا يكاد العقلاء الرجاح العقول يهتدون لها. خصوصا في زمن نبيّ سخّرت له الطيور و علم منطقها، و جعل ذلك معجزة له.

أَلَّا يَسْجُدُوا لِلَّهِ أي: فصدّهم عن السبيل لأن لا يسجدوا، أو زيّن لهم لأن لا يسجدوا، بحذف الجارّ، على أنّه بدل من «أعمالهم». أو لا يهتدون إلى أن يسجدوا، بزيادة «1» «لا».

و قرأ الكسائي و يعقوب: ألا بالتخفيف، على أنّها للتنبيه، و «يا» للنداء، و مناداه محذوف، أي: ألا يا قوم اسجدوا. و على الأوّل يكون ذمّا على تركه. و على الثاني صحّ أن يكون استئنافا من اللّه أو من سليمان، و الوقف على «لا يهتدون».

و كان أمرا بالسجود. و على الوجهين: السجدة عند قراءتها مستحبّة عندنا و عند الشافعيّة، و واجبة عند الحنفيّة.

الَّذِي يُخْرِجُ الْخَبْ ءَ مصدر بمعنى المفعول. و إظهاره إخراجه، أي: الّذي يظهر ما خفي. فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ ما تُخْفُونَ وَ ما تُعْلِنُونَ وصف له تعالى بما يوجب اختصاصه باستحقاق السجود، من التفرّد بكمال القدرة و العلم، حثّا على سجوده، و ردّا على من يسجد لغيره.

و إخراج الخب ء يعمّ إشراق الكواكب، و إنزال الأمطار، و إنبات النبات، بل الإنشاء، فإنّه إخراج ما في الشي ء بالقوّة إلى الفعل، و الإبداع، فإنّه إخراج ما في

______________________________

(1) أي: على أن تكون «لا» زائدة.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 91

الإمكان إلى الوجوب، و ما في العدم إلى الوجود، و معلوم أنّه يختصّ بالواجب لذاته.

و قرأ حفص و الكسائي: ما تُخْفُونَ وَ ما تُعْلِنُونَ بالخطاب.

اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ رَبُّ الْعَرْشِ الْعَظِيمِ الّذي هو أوّل الأجرام و أعظمها، و المحيط بجملتها. فبين العظيمين «1» بون عظيم.

[سورة النمل (27): الآيات 27 الى 35]

قالَ سَنَنْظُرُ أَ صَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ

مِنَ الْكاذِبِينَ (27) اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ (28) قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ (29) إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ وَ إِنَّهُ بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (30) أَلاَّ تَعْلُوا عَلَيَّ وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ (31)

قالَتْ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً حَتَّى تَشْهَدُونِ (32) قالُوا نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ وَ أُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ وَ الْأَمْرُ إِلَيْكِ فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ (33) قالَتْ إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوها وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها أَذِلَّةً وَ كَذلِكَ يَفْعَلُونَ (34) وَ إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ بِهَدِيَّةٍ فَناظِرَةٌ بِمَ يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ (35)

و لمّا سمع سليمان عليه السّلام ما اعتذر به الهدهد في تأخّره قالَ عند ذلك

______________________________

(1) أي: بين عرش بلقيس العظيم، و بين عرش اللّه تعالى العظيم.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 92

سَنَنْظُرُ سنتعرّف، من النظر بمعنى التأمّل أَ صَدَقْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْكاذِبِينَ أي:

أم كذبت. و التغيير للمبالغة، لأنّه إذا كان معروفا بالانخراط في سلك الكاذبين كان كاذبا، و لمحافظة الفواصل.

ثمّ كتب سليمان كتابا منطوقه: بسم اللّه الرّحمن الرّحيم، من عبد اللّه سليمان بن داود إلى بلقيس ملكة سبأ: السلام على من اتّبع الهدى. أمّا بعد، فلا تعلوا عليّ و أتوني مسلمين. و كانت كتب الأنبياء جملا لا يطيلون و لا يكثرون. و طبع الكتاب بالمسك، و ختمه بخاتمه، و دفعه إليه فقال: اذْهَبْ بِكِتابِي هذا فَأَلْقِهْ إِلَيْهِمْ ثُمَّ تَوَلَّ عَنْهُمْ تنحّ عنهم إلى مكان قريب تتوارى فيه فَانْظُرْ ما ذا يَرْجِعُونَ ماذا يرجع بعضهم إلى بعض من القول؟

و إيراد لفظ الجمع لأجل أنّ الهدهد قال: وجدتها و قومها يسجدون للشمس، فقال: فألقه إلى الّذين هذا دينهم، اهتماما منه

بأمر الدين، و اشتغالا به عن غيره.

روي: أنّ الهدهد وضع الكتاب في منقاره، و مضى به إلى سبأ، و دخل على بلقيس من كوّة بيتها مستقبلة للشمس، تقع الشمس عند ما تطلع فيها، فإذا نظرت إليها سجدت. فجاء الهدهد إلى هذه الكوّة فسدّها بجناحه، فارتفعت الشمس و لم تعلم، فقامت تنظر، فرمى الكتاب إليها.

و قيل: كانت راقدة في قصرها، و كانت إذا رقدت غلّقت الأبواب و وضعت المفاتيح تحت رأسها، فدخل من كوّة و طرح الكتاب على نحرها و هي مستلقية، و قيل: نقرها فانتبهت فزعة.

و قيل: أتاها و القادة و الجنود حواليها، فرفرف ساعة و الناس ينظرون حتّى رفعت رأسها، فألقى الكتاب في حجرها، و كانت قارئة كاتبة عربيّة، فلمّا رأت الخاتم ارتعدت و خضعت، فتوجّهت إلى قومها.

قالَتْ لهم يا أَيُّهَا الْمَلَأُ إِنِّي أُلْقِيَ إِلَيَّ كِتابٌ كَرِيمٌ لكرم مضمونه أو

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 93

مرسله. أو لأنّه كان مختوما. و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «كرم الكتاب ختمه».

أو لغرابة شأنه، إذ كانت مستلقية في بيت مغلّقة الأبواب كما مرّ، فدخله من كوّة و ألقاه على نحرها.

إِنَّهُ مِنْ سُلَيْمانَ استئناف، كأنّه قيل لها: ممّن هو؟ فقال: إنّه- اي: إنّ الكتاب، أو العنوان- من سليمان وَ إِنَّهُ أي: و إن المكتوب أو المضمون بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ أَلَّا تَعْلُوا عَلَيَ «أن» مفسّرة بمعنى «أي»، على ما قاله سيبويه في نحو قوله: وَ انْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا «1» أي: امشوا. أو مصدريّة، فتكون بصلتها خبر محذوف، أي: هو أو المقصود أن لا تعلوا. أو بدل من «كتاب».

و المعنى: لا ترفعوا و لا تتكبّروا عليّ وَ أْتُونِي مُسْلِمِينَ منقادين مطيعين لأمري، أو مؤمنين.

و هذا كلام

في غاية الوجازة مع كمال الدلالة على المقصود، لاشتماله على البسملة الدالّة على ذات الصانع و صفاته صريحا أو التزاما، و النهي عن الترفّع الّذي هو أمّ الرذائل، و الأمر بالإسلام الجامع لأمّهات الفضائل. و ليس الأمر فيه بالانقياد قبل إقامة الحجّة على رسالته، حتّى يكون استدعاء للتقليد، فإنّ إلقاء الكتاب إليها على تلك الحالة من أعظم الدلالة.

روي: أنّ أوّل من استفتح ب «بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ» سليمان، و لا تعرفه هي و لا قومها.

و لمّا وقفت بلقيس على كتاب سليمان قالَتْ لأشراف قومها يا أَيُّهَا الْمَلَأُ أَفْتُونِي فِي أَمْرِي أجيبوني في أمري، و أشيروا عليّ بما تستصوبون فيه.

و الفتيا و الفتوى: الجواب في الحادثة، و الحكم بما هو صواب. مشتقّتان على طريق الاستعارة من الفتى في السنّ. و المراد هاهنا: الإشارة عليها بما عندهم من الرأي

______________________________

(1) ص: 6.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 94

و التدبير فيها.

ما كُنْتُ قاطِعَةً أَمْراً ما أبتّ أمرا حَتَّى تَشْهَدُونِ إلّا بمحضركم.

استعطفتهم نفوسهم ليمالؤها على الإجابة.

قيل: كان أهل مشورتها ثلاثمائة و ثلاثة عشر رجلا، كلّ واحد على عشرة آلاف. و لهذا قالُوا مائلين إلى القتال نَحْنُ أُولُوا قُوَّةٍ أي: أصحاب قدرة و أهل عدد وَ أُولُوا بَأْسٍ شَدِيدٍ أي: أصحاب شجاعة شديدة، و أبناء حرب، لا أبناء رأي و مشورة، و أنت ذات الرأي و التدبير وَ الْأَمْرُ إِلَيْكِ مفوّض إليك في القتال و تركه فَانْظُرِي ما ذا تَأْمُرِينَ أي: ما الّذي تأمريننا به من المقاتلة و المصالحة، لنمتثلك فيه و نطيع رأيك.

قالَتْ مجيبة لهم عن التعريض بالقتال إِنَّ الْمُلُوكَ إِذا دَخَلُوا قَرْيَةً عنوة و قهرا أَفْسَدُوها أهلكوها و خرّبوها. تزييف لما أحسّت منهم من الميل إلى المقاتلة بادّعائهم القوى الذاتيّة

و العرضيّة، و إشعار بأنّها ترى الصلح مخافة أن يتخطّى سليمان خططهم، فيسرع إلى إفساد ما يصادفه من أموالهم و عماراتهم. ثمّ إنّ الحرب سجال لا تدرى عاقبتها.

وَ جَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِها كبراءها و أشرافها أَذِلَّةً بنهب أموالهم، و تخريب ديارهم، إلى غير ذلك من الإهانة و الأسر وَ كَذلِكَ يَفْعَلُونَ تأكيد لما وصفت من حالهم، و تقرير بأنّ ذلك من عاداتهم الثابتة المستمرّة. أو تصديق لها من اللّه عزّ و جلّ، أي: و كما قالت هي.

ثمّ بيّنت ما ترى تقديمه في المصالحة، و قالت: وَ إِنِّي مُرْسِلَةٌ إِلَيْهِمْ إلى سليمان و قومه بِهَدِيَّةٍ أي: مرسلة رسلا بهديّة أصانعه «1» بها عن ملكي فَناظِرَةٌ فمنتظرة بِمَ بأيّ حال يَرْجِعُ الْمُرْسَلُونَ من قبول حتّى أعمل

______________________________

(1) صانعه مصانعة: داهنه، و داراه، و رشاه.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 95

بحسب ذلك، فإنّها عرفت عادة الملوك في حسن موقع الهدايا عندهم، و كان غرضها أن يتبيّن لها بذلك أنّه نبيّ أو ملك، فإن قبل الهديّة تبيّن أنّه ملك، و عندها ما يرضيه، و إن ردّها تبيّن أنّه نبيّ.

عن ابن عبّاس: أنّها أهدت إليه وصفاء «1» و وصائف، ألبستهم لباسا واحدا حتّى لا يعرف ذكر من أنثى.

و عن مجاهد: أهدت مائتي غلام، و مائتي جارية، ألبست الغلمان لباس الجواري، و ألبست الجواري ألبسة الغلمان.

و عن ثابت البناني: أهدت له صفائح الذهب في أوعية الديباج، فلمّا بلغ ذلك سليمان أمر الجنّ فموّهوا له الآجر بالذهب، ثمّ أمر به فألقي في الطريق. فلمّا جاؤا رأوه ملقى في الطريق في كلّ مكان، فلمّا رأوا ذلك صغر في أعينهم ما جاؤا به.

و قيل: إنّها عمدت إلى خمسمائة غلام و خمسمائة جارية، فألبست الجواري الأقبية و المناطق،

و ألبست الغلمان في سواعدهم أساور من ذهب، و في أعناقهم أطواقا من ذهب، و في آذانهم أقراطا مرصّعات بأنواع الجواهر. و حملت الجواري على خمسمائة رمكة «2»، و الغلمان على خمسمائة برذون، على كلّ فرس لجام و سرج من ذهب مرصّع بالجواهر.

و بعثت إليه خمسمائة لبنة من ذهب، و خمسمائة لبنة من فضّة، و تاجا مكلّلا بالدرّ و الياقوت المرتفع. و عمدت إلى حقّة «3»، فجعلت فيها درّة يتيمة غير مثقوبة، و خرزة جزعيّة «4» مثقوبة، معوجّة الثقب.

______________________________

(1) وصفاء جمع الوصيف، و هو الغلام دون المراهق. و تأنيثه: الوصيفة. و جمعها: الوصائف.

(2) الرمكة: إناث الخيل، و الفرس تتّخذ للنسل. و البرذون: دابّة الحمل الثقيلة.

(3) الحقّة: الوعاء الصغير.

(4) الجزعة: خرز فيه سواد و بياض.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 96

و دعت رجلا من أشراف قومها اسمه المنذر بن عمرو، و ضمّت إليه رجالا من قومها، أصحاب رأي و عقل، و كتبت إليه كتابا بنسخة الهديّة، قالت فيها: إن كنت نبيّا فميّز بين الوصفاء و الوصائف، و أخبر بما في الحقّة قبل أن تفتحها، و اثقب الدرّة ثقبا مستويا، و أدخل الخرزة خيطا من غير علاج إنس و لا جانّ.

و قالت للرسول: انظر إليه إن دخلت عليه، فإن نظر إليك نظرة غضب فاعلم أنّه ملك، فلا يهولنّك أمره، فإنّا أعزّ منه. و إن نظر إليك نظر لطف فاعلم أنّه نبيّ مرسل.

فانطلق الرسول بالهدايا، و أقبل الهدهد مسرعا إلى سليمان، فأخبره الخبر، فأمر سليمان الجنّ أن يضربوا لبنات الذهب، و لبنات الفضّة، ففعلوا ثمّ أمرهم أن يفرشوا من موضعه الّذي هو فيه سبعة فراسخ، ميدانا واحدا بلبنات الذهب و الفضّة، و أن يجعلوا حول الميدان حائطا شرفه «1» من

الذهب و الفضّة، ففعلوا. ثمّ أمر الجنّ أن يحضروا أحسن الدوابّ في البرّ و البحر، و ربطوها عن يمين الميدان و يساره. و أمر بإحضار أولاد الجنّ، و هم خلق كثير، فأقيموا عن اليمين و اليسار.

ثمّ قعد سليمان في مجلسه على سريره، فوضع له أربعة آلاف كرسيّ عن يمينه، و مثلها عن يساره. و أمر الشياطين أن يصطفّوا صفوفا فراسخ. و أمر الإنس فاصطفّوا فراسخ عن يمينه، و مثلها عن يساره. و أمر الوحوش و السباع و الهوامّ و الطير، فاصطفّوا فراسخ عن يمينه و يساره.

فلمّا دنا القوم من الميدان، و نظروا إلى ملك سليمان بهتوا، و رأوا الدوابّ تروث على اللبن، فتقاصرت إليهم أنفسهم، و رموا بما معهم من الهدايا.

______________________________

(1) الشرفة من القصر: ما أشرف من بنائه. و جمعها: شرف.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 97

[سورة النمل (27): الآيات 36 الى 44]

فَلَمَّا جاءَ سُلَيْمانَ قالَ أَ تُمِدُّونَنِ بِمالٍ فَما آتانِيَ اللَّهُ خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ (36) ارْجِعْ إِلَيْهِمْ فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ بِها وَ لَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها أَذِلَّةً وَ هُمْ صاغِرُونَ (37) قالَ يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ (38) قالَ عِفْرِيتٌ مِنَ الْجِنِّ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ وَ إِنِّي عَلَيْهِ لَقَوِيٌّ أَمِينٌ (39) قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ قالَ هذا مِنْ فَضْلِ رَبِّي لِيَبْلُوَنِي أَ أَشْكُرُ أَمْ أَكْفُرُ وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌّ كَرِيمٌ (40)

قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها نَنْظُرْ أَ تَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ (41) فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَ هكَذا عَرْشُكِ قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ وَ أُوتِينَا

الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِها وَ كُنَّا مُسْلِمِينَ (42) وَ صَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ (43) قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ فَلَمَّا رَأَتْهُ حَسِبَتْهُ لُجَّةً وَ كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها قالَ إِنَّهُ صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مِنْ قَوارِيرَ قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي وَ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (44)

فَلَمَّا جاءَ رسول بلقيس و من معه سُلَيْمانَ وقفوا بين يدي سليمان،

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 98

فنظر إليهم نظرا حسنا بوجه طلق، و قال: ما وراءكم؟ فأخبره رئيس القوم بما جاؤا له قالَ أَ تُمِدُّونَنِ أ تزيدونني بِمالٍ و الاستفهام للإنكار، أي: لا أحتاج إلى أموالكم. و قرأ يعقوب و حمزة: تمدّونّي بالإدغام. فَما آتانِيَ اللَّهُ من الملك العظيم الّذي لا مزيد عليه خَيْرٌ مِمَّا آتاكُمْ من الدنيا و أموالها بَلْ أَنْتُمْ بِهَدِيَّتِكُمْ تَفْرَحُونَ إذا أهدى بعضكم إلى بعض، لأنّكم لا تعلمون إلّا ظاهرا من الحياة الدنيا، فتفرحون بما يهدى إليكم، حبّا لزيادة أموالكم، أو بما تهدونه، افتخارا على أمثالكم.

و الهديّة: اسم المهدى، كما أنّ العطيّة اسم المعطى. فتضاف إلى المهدي و المهدى إليه. تقول: هذه هديّة فلان، تريد: هي الّتي أهداها، أو أهديت إليه.

و المعنى: أنّ ما عندي خير ممّا عندكم، و ذلك أنّ اللّه آتاني الدين الّذي فيه الحظّ الأوفر، و الغنى الأوسع، و آتاني من الدنيا ما لا يستزاد عليه، فكيف يرضى مثلي بأن يمدّ بمال و يصانع به؟! و الإضراب عن إنكار الإمداد بالمال عليه و تقليله إلى بيان ما حملهم عليه، هو قياس حاله على حالهم في قصور الهمّة بالدنيا و الزيادة فيها.

فأعطاه الرسول كتاب الملكة. فنظر فيه و قال: أين الحقّة؟ فأتي بها فحرّكها، و جاءه جبرئيل فأخبره بما

في الحقّة. فقال: إنّ فيها درّة يتيمة غير مثقوبة، و جزعة مثقوبة معوجّة الثقب.

فقال الرسول: صدقت، فاثقب الدرّة، و أدخل الخيط في الخرزة.

فأرسل سليمان إلى الأرضة، فجاءت فأخذت شعرة في فيها، فنفذت فيها حتّى خرجت من الجانب الآخر. فجعل رزقها في الشجرة.

ثمّ قال: من لهذه الخرزة يسلكها الخيط؟ فقالت دودة بيضاء: أنالها يا رسول اللّه. فأخذت الدودة الخيط في فيها، و دخلت الثقب حتّى خرجت من الجانب

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 99

الآخر. فجعل رزقها في الفواكه.

ثمّ ميّز بين الجواري و الغلمان، بأن أمرهم أن يغسلوا وجوههم و أيديهم.

فكانت الجارية تأخذ الماء من الآنية بإحدى يديها، ثمّ تجعله على اليد الاخرى، ثمّ تضرب به الوجه. و الغلام كما يأخذ من الآنية يضرب به وجهه. و كانت الجارية تصبّ على باطن ساعدها، و الغلام على ظهر الساعد. و كانت الجارية تصبّ الماء صبّا، و كان الغلام يحدر الماء على يده حدرا. فميّز بينهما بذلك.

هذا كلّه مرويّ عن وهب و غيره.

و قيل: إنّها أنفذت مع هداياها عصا كان يتوارثها ملوك حمير، و قالت: أريد أن تعرّفني رأسها من أسفلها. و بقدح ماء، و قالت: تملأها ماء رواء «1»، ليس من الأرض، و لا من السماء. فأرسل سليمان العصا إلى الهواء، و قال: أيّ الرأسين سبق إلى الأرض فهو أسفلها. و أمر بالخيل فأجريت حتّى عرقت، و ملأ القدح من عرقها، و قال: ليس هذا من ماء الأرض، و لا من ماء السماء.

ثمّ ردّ الهديّة، و قال للرسول: ارْجِعْ إِلَيْهِمْ إلى بلقيس و قومها. و قيل:

الخطاب للهدهد محمّلا كتابا آخر. فَلَنَأْتِيَنَّهُمْ بِجُنُودٍ لا قِبَلَ لَهُمْ لا طاقة لهم بِها بمقاومتها، و لا قدرة لهم على مقابلتها، فإنّ حقيقة القبل:

المقاومة و المقابلة، أي: لا يقدرون أن يقابلوهم وَ لَنُخْرِجَنَّهُمْ مِنْها من سبأ أَذِلَّةً بذهاب ما كانوا فيه من العزّ وَ هُمْ صاغِرُونَ مهانون أسراء.

فلمّا ردّ سليمان عليه السّلام الهديّة، و ميّز بين الغلمان و الجواري إلى غير ذلك، و رجع الرسول إلى بلقيس، و قال ما شاهد، عرفت أنّه نبيّ مرسل، و أنّه ليس كالملوك الّذين يغترّون بالمال، و أنّها لا تقاومه. فتجهزّت للمسير إليه، و جعل عرشها في آخر سبعة أبيات، بعضها في بعض، في آخر قصر من قصور سبعة لها،

______________________________

(1) الرّواء: الماء الكثير العذب المروي.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 100

و غلّقت الأبواب، و وكّلت به حرسا يحفظونه. فخرجت من اليمن مع جنودها مقبلة إليه، فأخبر جبرئيل باستيثاقها عرشها و توجّهها إليه، فأراد أن يريها بعض ما خصّه اللّه من عجائب الأمور و غرائبها، لتوكيد تصديقها، و مزيد إيقانها بنبوّته، ف قالَ لأماثل جنده، و أشراف عسكره: يا أَيُّهَا الْمَلَؤُا أَيُّكُمْ يَأْتِينِي بِعَرْشِها قَبْلَ أَنْ يَأْتُونِي مُسْلِمِينَ منقادين لأمري، أو مؤمنين.

و عن قتادة: أراد أن يأخذه قبل أن تسلم، لعلمه أنّها إذا أسلمت لم يحلّ له أخذ مالها.

قالَ عِفْرِيتٌ خبيث مارد مِنَ الْجِنِ من عفاريته. و هذا بيان له، لأنّه يطلق على الرجل الخبيث المنكر المعفر «1» أقرانه، و على الشيطان الخبيث المارد.

و كان اسمه ذكوان، أو صخرا. أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ تَقُومَ مِنْ مَقامِكَ مجلسك للحكومة. و كان يجلس إلى نصف النهار. وَ إِنِّي عَلَيْهِ على حمله لَقَوِيٌ قادر على الإتيان به في هذه المدّة أَمِينٌ آت به كما هو، لا أختزل «2» منه شيئا و لا أبدّله.

فقال سليمان: أريد أسرع من ذلك. فعند ذلك قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ و

هو آصف بن برخيا. و كان وزير سليمان و كاتبه و ابن أخته. و كان صدّيقا يعرف اسم اللّه الأعظم الّذي إذا دعي به أجاب.

و عن الحسن: أنّ ذلك الاسم اللّه و الرحمن.

و عن مجاهد: هو يا حيّ يا قيّوم. و بالعبرانيّة: آهيا شراهيا. و قيل: هو يا ذا الجلال و الإكرام.

و عن الزهري: أنّه قال: يا إلهنا و إله كلّ شي ء، إلها واحدا لا إله إلّا أنت.

______________________________

(1) أي: الذي يصرع أقرانه.

(2) أي: لا اقتطع منه.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 101

و عن مجاهد: إنّ الّذي عنده علم من الكتاب كان رجلا من الإنس، يعلم اسم اللّه الأعظم، اسمه بلخيا.

و عن قتادة: اسمه أسطوم. و قيل: هو الخضر.

و قيل: إنّ الّذي عنده علم من الكتاب جبرئيل عليه السّلام، أذن اللّه له في طاعة سليمان، و أن يأتيه بالعرش الّذي طلبه.

و قيل: ملك أيّده اللّه به. و قيل: سليمان نفسه. فيكون التعبير عنه بذلك للدلالة على شرف العلم.

و

روى الثعلبي «1» بإسناده مرفوعا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: إنّ الّذي أتى بعرش بلقيس كان عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.

و أمّا الكتاب المعرّف في الآية، فقيل: إنّه اللوح المحفوظ. و قيل: المراد به جنس كتب اللّه المنزلة على أنبيائه، أو علم الوحي و الشرائع، و ليس المراد به كتابا بعينه.

و على القول بأنّ قائل هذا القول سليمان يكون الخطاب في قوله: أَنَا آتِيكَ بِهِ قَبْلَ أَنْ يَرْتَدَّ إِلَيْكَ طَرْفُكَ للعفريت. كأنّه استبطأه فقال له ذلك. و «آتيك» في الموضعين صالح للفعليّة و الاسميّة.

و الطرف: تحريك الأجفان للنظر، فوضع موضع النظر. و لمّا كان الناظر يوصف بإرسال الطرف، وصف بردّ الطرف، و وصف

الطرف بالارتداد. و المعنى:

أنّك ترسل طرفك إلى شي ء، فقبل أن تردّه أبصرت العرش بين يديك. و هذا غاية في الإسراع و مثل فيه.

و عن قتادة: معناه: قبل أن يصل إليك من كان منك على قدر مدّ البصر.

______________________________

(1) لم يتيسّر لنا مراجعة تفسير الثعلبي. و لم ينقله الطبرسي عنه في المجمع، مع أنه ينقل عنه كثيرا.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 102

و قيل: قبل أن يبلغ طرفك مداه و غايته و يرجع إليك.

قال سعيد بن جبير: قال لسليمان: انظر إلى السماء، فما طرف حتّى جاء به فوضعه بين يديه. و المعنى: حتّى يعود إليك طرفك بعد مدّه إلى السماء.

و عن مجاهد: ارتداد الطرف إدامة النظر حتّى يرتدّ طرفه خاسئا. يعني: أنّ سليمان مدّ بصره إلى أقصاه و هو يديم النظر.

قال الكلبي: قد خرّ آصف ساجدا، و دعا باسم اللّه الأعظم، فغار عرشها تحت الأرض بمأرب، ثمّ نبغ «1» عند مجلس سليمان بالشام بقدرة اللّه سبحانه.

و

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنّ الأرض طويت له، فخرج منها العرش بين يدي سليمان».

فَلَمَّا رَآهُ مُسْتَقِرًّا عِنْدَهُ حاصلا بين يديه قالَ تلقّيا للنعمة بالشكر على شاكلة أبناء جنسه، من أنبياء اللّه و المخلصين من عباده، الّذين يتلقّون النعمة القادمة بحسن الشكر، كما يشيّعون النعمة المودعة بجميل الصبر.

هذا أي: هذا التمكّن من إحضار العرش في مدّة ارتداد الطرف من مسيرة شهرين مِنْ فَضْلِ رَبِّي تفضّل به عليّ، و إحسانه لديّ، لأنّ تيسير ذلك و تسخيره- مع صعوبته و تعذّره- معجزة له عليه السّلام، و دلالة على علوّ قدره و جلالته، و شرف منزلته عند اللّه تعالى.

لِيَبْلُوَنِي يختبرني أَ أَشْكُرُ بأن أراه فضلا من اللّه، بلا حول منّي و لا قوّة، و أقوم بحقّه

أَمْ أَكْفُرُ بأن أجد نفسي في البين، أو أقصّر في أداء مواجبه.

و محلّها النصب على البدل من الياء.

وَ مَنْ شَكَرَ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لأنّه به يستجلب لها دوام النعمة و مزيدها، و يحطّ عنها عب ء الواجب، و يحفظها عن وصمة الكفران، و ترتبط به النعمة،

______________________________

(1) أي: ظهر.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 103

و يستمدّ المزيد. و قيل: الشكر قيد للنعمة الموجودة، و صيد للنعمة المفقودة.

وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ رَبِّي غَنِيٌ عن شكره، غير محتاج إليه كَرِيمٌ بالإنعام عليه ثانيا، فإنّه متفضّل على جميع عباده، شاكرهم و كافرهم، عاصيهم و مطيعهم، لا يمنعه كفرهم و عصيانهم من الإفضال عليهم، و الإحسان إليهم.

روى العيّاشي في تفسيره بالإسناد، قال: «التقى موسى بن محمد بن عليّ بن موسى و يحيى بن أكثم، فسأله عن مسائل. قال: فدخلت على أخي عليّ بن محمّد عليه السّلام بعد أن دار بيني و بينه من المواعظ، حتّى انتهيت إلى طاعته، فقلت له:

جعلت فداك إنّ ابن أكثم سألني عن مسائل افتيه فيها؟

فضحك ثمّ قال: فهل أفتيته فيها؟

قلت: لا.

قال: و لم؟

قلت: لم أعرفها.

قال: و ما هي؟

قلت: قال: أخبرني عن سليمان أ كان محتاجا إلى علم آصف بن برخيا؟! ثمّ ذكر المسائل الأخر.

قال: أكتب يا أخي: بسم اللّه الرّحمن الرّحيم، سألت عن قول اللّه في كتابه:

«قالَ الَّذِي عِنْدَهُ عِلْمٌ مِنَ الْكِتابِ» فهو آصف بن برخيا، و لم يعجز سليمان عن معرفة ما عرف آصف، لكنّه عليه السّلام أحبّ أن تعرف أمّته من الجنّ و الإنس أنّه الحجّة من بعده، و ذلك من علم سليمان، أودعه آصف بأمر اللّه، ففهّمه اللّه ذلك، لئلّا يختلف في إمامته و دلالته، كما فهّم سليمان في حياة داود، ليعرف إمامته و نبوّته من

بعده، لتأكيد الحجّة على الخلق».

روي أنّ الجنّ خافوا أن يتزوّجها سليمان، فتفضي إليه بأسرارهم، لأنّها

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 104

كانت بنت جنّيّة.

و قيل: خافوا أن يولد له منها ولد تجتمع له فطنة الجنّ و الإنس، فيخرجون من ملك سليمان إلى ملك من هو أشدّ و أفظع، فقالوا له: إنّها سخيفة العقل ضعيفة الرأي، و هي شعراء الساقين، و رجلها كحافر الحمار. فاختبر سليمان أوّلا عقلها.

و لهذا قالَ نَكِّرُوا لَها عَرْشَها اجعلوه متنكّرا بتغيير هيئته و شكله، كما يتنكّر الرجل للناس لئلّا يعرفوه.

قال ابن عبّاس: فنزع ما كان على العرش من الفصوص و الجواهر.

و عن مجاهد: غيّر ما كان أحمر فجعله أخضر، و ما كان أخضر فجعله أحمر.

و عن عكرمة: زيد فيه شي ء، و نقص منه شي ء. و روي: جعل مقدّمه مؤخّره، و أعلاه أسفله.

نَنْظُرْ جواب الأمر أَ تَهْتَدِي أَمْ تَكُونُ مِنَ الَّذِينَ لا يَهْتَدُونَ إلى معرفته، أو إلى الجواب الصواب إذا سئلت عنه. و قيل: إلى الإيمان باللّه و رسوله إذا رأت تلك المعجزة البيّنة، من تقدّم عرشها، و قد خلّفته و أغلقت عليه الأبواب، موكّلة عليها الحرّاس.

فَلَمَّا جاءَتْ قِيلَ أَ هكَذا أمثل هذا عَرْشُكِ أورد كاف التشبيه و اسم الإشارة لئلّا يكون تلقينا، و ليكون زيادة في امتحان عقلها قالَتْ كَأَنَّهُ هُوَ لم تقل: هو هو، لاحتمال أن يكون مثله. و ذلك من كمال عقلها، و رزانة رأيها، حيث لم تقع في المحتمل.

و عن عكرمة: كانت بلقيس حكيمة، قالت في نفسها: إن قلت: هو، خشيت أن اكذّب، و إن قلت: لا، خشيت أن أكذب، فقالت: كأنّه هو. فقيل لها: فإنّه عرشك، فما أغنى عنك إغلاق الأبواب!! فقالت: وَ أُوتِينَا الْعِلْمَ بكمال قدرة اللّه و صحّة

نبوّتك مِنْ قَبْلِها من

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 105

قبل هذه الحالة، أو المعجزة، بما قد تقدّم من الآيات عند وفدة المنذر وَ كُنَّا مُسْلِمِينَ طائعين لأمر سليمان.

و قيل: هو من كلام سليمان و قومه، عطفوه على جوابها، لما فيه من الدلالة على إيمانها باللّه و رسوله، حيث جوّزت أن يكون ذلك عرشها تجويزا غالبا، و علمت أن إحضاره من المعجزات الّتي لا يقدر عليها غير اللّه، و لا تظهر إلّا على يد الأنبياء عليهم السّلام، أي: و أوتينا العلم باللّه و قدرته، و صحّة ما جاء به من عند اللّه قبل مجيئها طائعة، أو قبل علمها بصحّة الإسلام، و كنّا مخلصين للّه بالتوحيد، منقادين لحكمه، و لم نزل على دين الإسلام. و يكون غرضهم فيه التحدّث بما أنعم اللّه عليهم من التقدّم في ذلك، شكرا للّه.

وَ صَدَّها ما كانَتْ تَعْبُدُ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: و منعها عبادتها الشمس عن التقدّم إلى الإسلام قبل ذلك. أو صدّها اللّه عن عبادتها بالتوفيق للإيمان، أو سليمان عمّا كانت تعبد، أي: عن عبادتها، بتقدير حذف الجارّ و إيصال الفعل. و على الأوّل مرفوع المحلّ بالفاعليّة.

ثمّ استأنف الكلام و قال: إِنَّها كانَتْ مِنْ قَوْمٍ كافِرِينَ من قوم يعبدون الشمس، قد نشأت فيما بينهم، فلم تعرف إلّا عبادة الشمس.

و لمّا اختبر سليمان رزانة عقلها و رجاحة فطانتها، أراد أن يعرف ما قالت الجنّ من أنّها شعراء الساقين، و رجلها كحافر الحمار، فأمر قبل قدومها فبني له على طريقها قصر صحنه من زجاج أبيض، و أجرى من تحته الماء، و ألقى فيه من دوابّ البحر السمك و غيره، ليتعرّف ساقها و رجلها حين تكشف عنهما، إذ تدخل فيه ظنّا منها أنّه ماء.

و لمّا تمّ القصر على الطريق المذكور، أمر أن يوضع سريره في صدره، فجلس عليه، و عكف عليه الطير و الجنّ و الإنس.

و لمّا جاءت بلقيس قِيلَ لَهَا ادْخُلِي الصَّرْحَ القصر. و قيل: عرصة الدار.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 106

فَلَمَّا رَأَتْهُ رأت بلقيس الصرح حَسِبَتْهُ لُجَّةً و هي معظم الماء وَ كَشَفَتْ عَنْ ساقَيْها لدخول الماء.

و عن ابن كثير: سأقيها بالهمز، حملا على جمعيه: سئوق و أسؤق.

و قيل: إنّها لمّا رأت الصرح قالت: ما وجد ابن داود عذابا يقتلني به إلّا الغرق، و أنفت أن تجبن فلا تدخل، و لم يكن من عادتهم لبس الخفاف.

فلمّا كشفت عن ساقيها رأى سليمان رجلها، فإذا هي أحسن الناس ساقا و قلما إلّا أنّها شعراء قالَ لها إِنَّهُ إنّ ما تظنّينه ماء صَرْحٌ مُمَرَّدٌ مملّس مِنْ قَوارِيرَ من زجاج، و ليس بماء.

و لمّا رأت سرير سليمان و الصرح قالَتْ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي بالكفر الّذي كنت عليه، من عبادة الشمس.

و قيل: حسبت أنّ سليمان يغرقها في اللجّة، فقالت: ظلمت نفسي بسوء ظنّي بسليمان وَ أَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمانَ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ فيما أمر به عباده، فحسن إسلامها.

قيل: إنّها جلست عند سليمان، فدعاها إلى الإسلام، و كانت قد رأت الآيات الباهرة و المعجزات الظاهرة، فأجابته و أسلمت.

و روي أن سليمان لمّا رأى ساقها شعراء أساءه ذلك، فاستشار الجنّ فيه، فعملوا الحمّامات، و طبخوا له النورة و الزرنيخ، و كان أوّل ما صنعت له النورة، فتزوّجها.

و قال بعض المؤرّخين: إنّه تزوّجها و أقرّها على ملكها، و أمر الجنّ فبنوا لها سيلحين «1» و غمدان، و كان يزورها في الشهر مرّة، فيقيم عندها ثلاثة أيّام، و ولدت له.

______________________________

(1) سيلحين أو سيلحون: قرية باليمن. و

غمدان: قصر باليمن.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 107

و قيل: بل زوّجها ذا تبّع «1» ملك همدان، و سلّطه على اليمن، و أمر زوبعة أمير جنّ اليمن أن يطيعه، فبنى له المصانع «2»، و لم يزل أميرا حتّى مات سليمان.

[سورة النمل (27): الآيات 45 الى 53]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ (45) قالَ يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ قَبْلَ الْحَسَنَةِ لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (46) قالُوا اطَّيَّرْنا بِكَ وَ بِمَنْ مَعَكَ قالَ طائِرُكُمْ عِنْدَ اللَّهِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تُفْتَنُونَ (47) وَ كانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لا يُصْلِحُونَ (48) قالُوا تَقاسَمُوا بِاللَّهِ لَنُبَيِّتَنَّهُ وَ أَهْلَهُ ثُمَّ لَنَقُولَنَّ لِوَلِيِّهِ ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ وَ إِنَّا لَصادِقُونَ (49)

وَ مَكَرُوا مَكْراً وَ مَكَرْنا مَكْراً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (50) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ وَ قَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ (51) فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ خاوِيَةً بِما ظَلَمُوا إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (52) وَ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ (53)

و لمّا ذكر سبحانه قصّة سليمان، بيّن قصّة صالح بعد ذلك، فقال عطفا عليها:

______________________________

(1) التبّع: لقب ملوك اليمن. و جمعه: التبابعة.

(2) أي: الحصون.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 108

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا إِلى ثَمُودَ أَخاهُمْ في النسب صالِحاً أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ بأن اعبدوه فَإِذا هُمْ فَرِيقانِ يَخْتَصِمُونَ ففاجؤا التفرّق و الاختصام، فآمن فريق و كفر فريق، و يقول كلّ فريق: الحقّ معي. و الواو لمجموع الفريقين.

قالَ للفريق المكذّب يا قَوْمِ لِمَ تَسْتَعْجِلُونَ بِالسَّيِّئَةِ بالعقوبة الّتي تسوء صاحبها، فتقولون: آتنا بما تعدنا من العذاب «1» قَبْلَ الْحَسَنَةِ قبل التوبة، فتؤخّرونها إلى نزول العذاب، فإنّهم كانوا يقولون لجهلهم: إنّ العقوبة الّتي يعدها صالح، إن وقعت على زعمه

و صدق إيعاده تبنا حينئذ و استغفرنا، زاعمين أنّ التوبة من الشرك مقبولة في ذلك الوقت، و إن لم تقع فنحن على ما نحن عليه.

فخاطبهم صالح على حسب قولهم و اعتقادهم. ثمّ قال لهم: لَوْ لا تَسْتَغْفِرُونَ اللَّهَ هلّا تطلبون مغفرته من الشرك، بأن تؤمنوا باللّه وحده قبل نزول العذاب لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ بقبولها، فإنّها لا تقبل حين نزول العقوبة، فهذا تنبيه لهم على الخطأ فيما قالوه، و تجهيل فيما اعتقدوه.

روي: أنّ الرجل منهم كان يخرج مسافرا، فيمرّ بطائر فيزجره، فإن مرّ سانحا «2» تيمّن، و إن مرّ بارحا تشاءم. و لهذا قالُوا اطَّيَّرْنا أي: تشاء منا بِكَ وَ بِمَنْ مَعَكَ إذ تتابعت علينا الشدائد من القحط و غير ذلك، أو وقع بيننا الافتراق مذ اخترعتم دينكم. فلمّا نسبوا الخير و الشرّ إلى الطائر، استعير لما كان سببهما من قدر اللّه و قسمته، أو من عمل العبد الّذي هو السبب في الرحمة و النقمة.

و لمّا قالوا: اطّيّرنا بكم قالَ صالح مطابقا لكلامهم: طائِرُكُمْ أي:

سببكم الّذي جاء منه شرّكم عِنْدَ اللَّهِ و هو قدره. و منه قول العرب: طائر اللّه لا طائرك، أي: قدر اللّه الغالب الّذي ينسب إليه الخير و الشرّ، لا طائرك الّذي تتشاءم

______________________________

(1) إشارة إلى الآية (77) من سورة الأعراف: وَ قالُوا يا صالِحُ ائْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الْمُرْسَلِينَ

(2) السانح: الّذي يأتي من جانب اليمين، و يقابله البارح، و هو الّذي يأتي من جانب اليسار.

و العرب تتيمّن بالسانح، و تتشاءم بالبارح.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 109

به و تتيمّن. أو عملكم المكتوب عنده الّذي كان سبب نزول النقمة. و منه قوله:

طائِرُكُمْ مَعَكُمْ «1». وَ كُلَّ إِنسانٍ أَلْزَمْناهُ طائِرَهُ فِي عُنُقِهِ «2».

بَلْ أَنْتُمْ

قَوْمٌ تُفْتَنُونَ تختبرون بتعاقب السرّاء و الضرّاء. و الإضراب من بيان طائرهم الّذي هو مبدأ ما يحيق بهم إلى ذكر ما هو الداعي إليه.

وَ كانَ فِي الْمَدِينَةِ تِسْعَةُ رَهْطٍ أي: تسعة أنفس. و إنّما وقع تمييزا للتسعة باعتبار المعنى. و الفرق بينه و بين النفر: أنّه من الثلاثة أو السبعة إلى العشرة، و النفر من الثلاثة إلى التسعة.

و أسماؤهم على رواية ابن عبّاس: قدار بن سالف، و مصدع، و دهمي، و دهيم، و دعمي، و دعيم، و أسلم، و قتال، و صداف. و على رواية وهب: الهذيل بن عبد ربّ، و غنم بن غنم، و رباب بن مهرج، و مصدع بن مهرج، و عمير بن كردبة، و عاصم بن مخرمة، و سبيط بن صدقة، و سمعان بن صفي، و قدار بن سالف.

يُفْسِدُونَ فِي الْأَرْضِ وَ لا يُصْلِحُونَ أي: شأنهم الإفساد الخالص عن شوب الصلاح. و هم الّذين سعوا في عقر الناقة، و كانوا عتاة قوم صالح، و كانوا من أبناء أشرافهم.

قالُوا أي: قال بعضهم لبعض: تَقاسَمُوا بِاللَّهِ أمر مقول، أو خبر وقع في محلّ الحال بإضمار «قد» أي: قالوا متقاسمين لَنُبَيِّتَنَّهُ وَ أَهْلَهُ لنباغتنّ صالحا و أهله ليلا، من البيات، بمعنى مباغتة العدوّ ليلا. و قرأ حمزة و الكسائي بالتاء، على خطاب بعضهم لبعض.

ثُمَّ لَنَقُولَنَ فيه القراءتان المذكورتان لِوَلِيِّهِ لوليّ دمه ما شَهِدْنا مَهْلِكَ أَهْلِهِ فضلا أن تولّينا إهلاكهم. و هو يحتمل المصدر و المكان و الزمان. و كذا «مهلك» في قراءة حفص، فإنّ مفعل قد جاء مصدرا، كمرجع. و قرأ أبو بكر بالفتح،

______________________________

(1) يس: 19.

(2) الإسراء: 13.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 110

فيكون مصدرا.

وَ إِنَّا لَصادِقُونَ و نحلف إنّا لصادقون. أو و الحال إنّا لصادقون فيما

ذكرنا، لأنّ الشاهد للشي ء غير المباشر له عرفا. أو لأنّا ما شهدنا مهلكهم وحده، بل مهلكه و مهلكهم، كقولك: ما رأيت رجلا بل رجلين.

وَ مَكَرُوا مَكْراً بهذه المواضعة وَ مَكَرْنا مَكْراً بأن جعلناها سببا لهلاكهم جزاء مكرهم وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بمكر اللّه بهم، فإنّهم دخلوا على صالح شاهري سيوفهم ليقتلوه، فأنزل اللّه سبحانه الملائكة مل ء دار صالح، فدمغوهم بالحجارة، يرون الحجارة و لا يرون راميا، فهلكوا، و سلم صالح من مكرهم، و هو ما أخفوه من تدبير الفتك به و أهله. و لمّا كان مكر اللّه من حيث لا يشعرون، شبّه هلاكه بمكر الماكر على سبيل الاستعارة.

روي: أنّه كان لصالح مسجد في الحجر في شعب يصلّي فيه، فقالوا: زعم صالح أنّه يفرغ منّا إلى ثلاث، فنحن نفرغ منه و من أهله قبل الثلاث، فخرجوا إلى الشعب و قالوا: إذا جاء يصلّي قتلناه، ثمّ رجعنا إلى أهله فقتلناهم. فبعث اللّه صخرة من الهضب حيالهم، فطبّقت عليهم فم الشعب.

و قيل: إنّ اللّه سبحانه أمر صالحا بالخروج من بينهم، ثمّ استأصلهم بالعذاب.

و عن مقاتل: نزلوا في سفح جبل ينتظر بعضهم بعضا ليأتوا صالحا، فخرّ عليهم الجبل فهلكوا ثمّة، و هلك الباقون في أماكنهم، كما أشار بقوله: فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ مَكْرِهِمْ أَنَّا دَمَّرْناهُمْ أهلكناهم بالعذاب المذكور وَ قَوْمَهُمْ أَجْمَعِينَ بالصيحة.

و «كان» إن جعلت ناقصة فخبرها «كيف»، و «انّا دمّرناهم» استئناف. و إن جعلت تامّة ف «كيف» حال. و قرأ الكوفيّون و يعقوب: أنّا بالفتح، على أنّه خبر محذوف، أو بدل من اسم «كان»، أو خبر له، و «كيف» حال.

فَتِلْكَ بُيُوتُهُمْ أي: فانظر إليها خاوِيَةً خالية، من: خوى البطن إذا خلا. أو ساقطة منهدمة، من: خوى النجم إذا

سقط. و هي حال عمل فيها معنى

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 111

الإشارة. بِما ظَلَمُوا بسبب ظلمهم. و هو الشرك و الإفساد في الأرض. إِنَّ فِي ذلِكَ في إهلاكهم لَآيَةً لعبرة لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ فيتّعظون. و في هذه الآية دلالة على أنّ الظلم يعقّب خراب الدور.

و روي عن ابن عبّاس أنّه قال: أجد في كتاب اللّه أنّ الظلم يخرّب البيوت، و تلا هذه الآية.

و قيل: إنّ هذه البيوت بوادي القرى، بين المدينة و الشام.

وَ أَنْجَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا صالحا و من معه وَ كانُوا يَتَّقُونَ الكفر و المعاصي، و لذلك خصّوا بالنجاة. قالوا: إنّهم أربعة آلاف خرج بهم صالح إلى حضر موت، و لمّا دخلها حضره الموت فمات.

[سورة النمل (27): الآيات 54 الى 59]

وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ (54) أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً مِنْ دُونِ النِّساءِ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ (55) فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ (56) فَأَنْجَيْناهُ وَ أَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها مِنَ الْغابِرِينَ (57) وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ (58)

قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ وَ سَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ (59)

ثمّ ذكر سبحانه قصّة لوط، عاطفا بها على ما تقدّم، فقال: وَ لُوطاً أي:

أرسلنا لوطا، لدلالة وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا «1» عليه. أو اذكر. إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ ظرف على

______________________________

(1) النمل: 45.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 112

الأوّل، و بدل على الثاني أَ تَأْتُونَ الْفاحِشَةَ وَ أَنْتُمْ تُبْصِرُونَ من بصر القلب، أي:

تعلمون أنّها فاحشة لم تسبقوا إليها، و أنّ اللّه إنّما خلق الأنثى للذكر، فهي مضادّة للّه في حكمته و حكمه. و علمكم بذلك أعظم لذنوبكم، و أدخل في القبح و السماجة، فيكون

أفحش. أو تبصرون آثار العصاة قبلكم، و ما نزل بهم، و اقتراف القبائح من العالم بقبحها أقبح. أو يبصرها بعضكم من بعض، لأنّهم كانوا في ناديهم يرتكبونها معلنين بها.

أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ شَهْوَةً بيان لإتيانهم الفاحشة. و تعليله بالشهوة للدلالة على قبحه، و التنبيه على أنّ الحكمة في المواقعة طلب النسل لا قضاء الوطر. مِنْ دُونِ النِّساءِ اللّاتي خلقن لذلك بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ تَجْهَلُونَ تفعلون فعل من يجهل قبحها مع علمكم بذلك. أو تجهلون العاقبة. أو أراد بالجهل أن يكون كمن كان سفيها لا يميّز بين الحسن و القبيح. و التاء فيه لكون الموصوف به في معنى المخاطب.

فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا أَخْرِجُوا آلَ لُوطٍ كلّهم مِنْ قَرْيَتِكُمْ إِنَّهُمْ أُناسٌ يَتَطَهَّرُونَ يتنزّهون عن إتيان الرجال في أدبارهم، أو عن الأقذار، فينكرون هذا العمل القذر، و يغيظنا إنكارهم. أو يعدّون فعلنا قذرا. و عن ابن عبّاس: هو استهزاء منهم.

فَأَنْجَيْناهُ وَ أَهْلَهُ إِلَّا امْرَأَتَهُ قَدَّرْناها جعلناها مِنَ الْغابِرِينَ قدّرنا كونها من الباقين في العذاب.

وَ أَمْطَرْنا عَلَيْهِمْ مَطَراً و هو الحجارة فَساءَ مَطَرُ الْمُنْذَرِينَ الّذين أبلغهم لوط النذارة، و أعلمهم بموضع المخافة ليتّقوها فخالفوها.

و اعلم أنّ اللّه سبحانه لمّا قصّ قصص الأنبياء على رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، الدالّة على كمال قدرته و عظم شأنه، و ما خصّ به رسله من الآيات الكبرى، و الانتصار من الأعداء، أمره بتحميده و السلام على المصطفين من عباده، شكرا على ما أنعم

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 113

عليهم، و على ما علّمه من أحوالهم، و عرّفه فضلهم، فقال:

قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ شكرا على ما أنعم، بأن وفّقنا للإيمان و النصرة على الفجرة، و على هلاك الأمم الكفرة وَ

سَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى اصطفاهم اللّه و اجتباهم على بريّته. و هم الأنبياء.

و عن ابن عبّاس: هم أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و عن الحسن: هم أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و معنى السلام عليهم أنّهم سلموا ممّا عذّب اللّه به الكفّار، و عن عليّ بن إبراهيم «1»: هم آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و قيل: هو خطاب بأن يحمده على هلاك كفرة قومه، و يسلّم على من اصطفاه بالعصمة عن الفواحش و النجاة من الهلاك.

و قيل: هو متّصل بما قبله، و أمر بالتحميد على الهالكين من كفّار الأمم، و الصلاة على الأنبياء و أشياعهم الناجين.

و فيه تعليم حسن، و توقيف على أدب جميل، و بعث على التيمّن بالذكرين، و التبرّك بهما، و الاستظهار بمكانهما على قبول ما يلقى إلى السامعين و إصغائهم إليه.

و لقد توارث العلماء و الخطباء و الوعّاظ كابرا عن كابر هذا الأدب، فحمدوا اللّه عزّ و جلّ و صلّوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أمام كلّ علم مفاد، و قبل كلّ عظة و تذكرة، و في مفتتح كلّ خطبة. و تبعهم المترسّلون، فأجروا عليه أوائل كتبهم في الفتوح و التهاني، و غير ذلك من الحوادث الّتي لها شأن.

ثمّ قال سبحانه مخاطبا للمشركين: آللَّهُ خَيْرٌ أَمَّا يُشْرِكُونَ يا أهل مكّة! ءاللّه خير لمن عبده، أم الأصنام لعابديها؟! و هذا إلزام للحجّة على المشركين بعد ذكر هلاك الكفّار، و تهكّم بهم، و تسفيه لرأيهم، إذ من المعلوم أن لا خير فيما أشركوه أصلا، حتّى يوازن بينه و بين من هو مبدأ كلّ خير و مالكه.

______________________________

(1) تفسير

عليّ بن إبراهيم 2: 129.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 114

و المعنى: أنّ اللّه تعالى نجّى من عبده من الهلاك، و الأصنام لم تغن شيئا عن عابديها عند نزول العذاب. و إنّما قال ذلك لأنّهم توهّموا في عبادة الأصنام خيرا.

و قرأ أبو عمرو و عاصم و يعقوب بالياء. و

عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه كان إذا قرأها يقول: «بل اللّه خير و أبقى، و أجلّ و أكرم».

[سورة النمل (27): الآيات 60 الى 64]

أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ ذاتَ بَهْجَةٍ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ (60) أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً وَ جَعَلَ خِلالَها أَنْهاراً وَ جَعَلَ لَها رَواسِيَ وَ جَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ حاجِزاً أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (61) أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ وَ يَكْشِفُ السُّوءَ وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (62) أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ وَ مَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ تَعالَى اللَّهُ عَمَّا يُشْرِكُونَ (63) أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (64)

ثمّ عدّد سبحانه نعمه الشاملة لعبيده، و منافعه الّتي هي من آثار رحمته المخصوصة، الدالّة على وحدانيّته و فردانيّته، و قال: أَمَّنْ خَلَقَ بل من خلق

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 115

السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ الّتي هي أصول الكائنات و مبادئ المنافع وَ أَنْزَلَ لَكُمْ لأجلكم مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا بِهِ حَدائِقَ بساتين. من الإحداق، و هو الإحاطة.

عدل به عن الغيبة إلى التكلّم، لتأكيد

اختصاص الفعل بذاته، و الإيذان بأنّ إنبات الحدائق البهيّة، المتباعدة الطباع، المختلفة الأنواع و الألوان، و الطعوم و الروائح و الأشكال، مع حسنها و بهجتها، بماء واحد، لا يقدر عليه إلّا هو وحده. ألا ترى كيف رشح معنى الاختصاص بقوله: «ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها».

ذاتَ بَهْجَةٍ أي: ذات منظر حسن، لأنّ الناظر يبتهج به. و لم يقل: ذوات بهجة، لأنّه أراد جماعة حدائق ذات بهجة، كما قال: النساء ذهبت. و لو أريد تأنيث الأعيان لقال: ذوات.

ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُنْبِتُوا شَجَرَها أي: لم تكونوا تقدرون على إنبات شجر الحدائق أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ أ غيره يقرن به، و يجعل له شريكا، و هو المنفرد بالخلق و التكوين؟! بَلْ هُمْ قَوْمٌ يَعْدِلُونَ عن الحقّ الّذي هو التوحيد.

أَمَّنْ جَعَلَ الْأَرْضَ قَراراً بدل من «أَمَّنْ خَلَقَ السَّماواتِ». و جعلها قرارا:

بإبداء بعضها من الماء و تسويتها، بحيث يتأتّى استقرار الإنسان و الدوابّ عليها.

وَ جَعَلَ خِلالَها وسطها أَنْهاراً جارية، ينبت بها الزرع، و يحيا بها الخلق.

وَ جَعَلَ لَها رَواسِيَ جبالا ثوابت، تتكوّن فيها المعادن، و تنبع من حضيضها المنابع.

وَ جَعَلَ بَيْنَ الْبَحْرَيْنِ العذب و المالح، أو خليجي فارس و الروم حاجِزاً مانعا من قدرته، بين العذب و الملح، فلا يختلط أحدهما بالآخر.

أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ توحيد ربّهم و كمال قدرته و سلطانه، فيشركون به.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 116

أَمَّنْ يُجِيبُ الْمُضْطَرَّ إِذا دَعاهُ المضطرّ: هو الّذي أحوجته شدّة ما به إلى اللجأ إلى اللّه. من الاضطرار، و هو افتعال من الضرورة، و هي الحالة المحوجة إلى اللجأ. و اللام فيه للجنس مطلقا، يصلح لكلّه و لبعضه، لا للاستغراق، فلا يلزم منه إجابة كلّ مضطرّ، بل الّذي

يكون إجابة دعائه مصلحة. و إنّما خصّ المضطرّ، و إن كان قد يجيب غير المضطرّ، لأنّ رغبته أقوى، و سؤاله أخضع.

وَ يَكْشِفُ السُّوءَ و يدفع عن الإنسان ما يسوءه وَ يَجْعَلُكُمْ خُلَفاءَ الْأَرْضِ أي: خلفاء في الأرض، بأن ورّثكم سكناها و التصرّف فيها قرنا بعد قرن، فيهلك قرنا، و ينشئ قرنا. أو أراد بالخلافة الملك و التسلّط.

أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ الّذي أعطاكم هذه النعم العامّة و الخاصّة؟! قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ أي: تذكّرون آلاءه تذكّرا قليلا. و «ما» مزيدة. و المراد بالقلّة العدم، فإنّها قد تستعمل في معنى النفي، أو الحقارة المزيحة للفائدة.

و قرأ أبو عمرو و روح بالياء. و حمزة و الكسائي و حفص بالتاء و تخفيف الذال.

أَمَّنْ يَهْدِيكُمْ بالنجوم في السماء، و العلامات في الأرض فِي ظُلُماتِ الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ أي: ظلمات الليالي. و إضافتها إلى البرّ و البحر للملابسة. أو مشبّهات الطرق. يقال: طريقة ظلماء و عمياء للّتي لا منار بها. وَ مَنْ يُرْسِلُ الرِّياحَ بُشْراً بَيْنَ يَدَيْ رَحْمَتِهِ يعني: المطر.

أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ يقدر على مثل ذلك تَعالَى اللَّهُ القادر الخالق عَمَّا يُشْرِكُونَ عن مشاركة العاجز المخلوق، كما يزعمه المشركون.

أَمَّنْ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ و قد أزيح إنكار الكفرة للإعادة بالحجج الباهرة و البراهين عليها، فهم محجوجون بها، و لم يبق لهم عذر في الإنكار وَ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ بإنزال الأمطار وَ الْأَرْضِ بإخراج النبات و الثمار، أو بأسباب زبدة التفاسير ج 5 149

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 117

سماويّة و أرضيّة.

أَ إِلهٌ مَعَ اللَّهِ يقدر على مثل ذلك قُلْ هاتُوا بُرْهانَكُمْ حجّتكم على أنّ غيره يقدر على شي ء من ذلك إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في إشراككم، فإنّ كمال القدرة من لوازم الألوهيّة، فإذا

لم يقدروا على إقامة البرهان على ذلك فاعلموا أنّه لا إله معي، و لا يستحقّ العبادة سواي.

[سورة النمل (27): الآيات 65 الى 66]

قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلاَّ اللَّهُ وَ ما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ (65) بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها بَلْ هُمْ مِنْها عَمُونَ (66)

و لمّا بيّن اختصاصه بالقدرة التامّة الفائقة العامّة، أتبعه ما هو كاللازم له، و هو التفرّد بعلم الغيب، فقال: قُلْ لا يَعْلَمُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ الْغَيْبَ إِلَّا اللَّهُ الاستثناء منقطع. و رفع المستثنى على اللغة التميميّة.

و في اختيار المذهب التميمي على الحجازي نكتة سريّة «1»، حيث أخرج المستثنى مخرج قوله: إلّا اليعافير، بعد قوله «2»: ليس بها أنيس، ليئول المعنى إلى قولك: إن كان اللّه ممّن في السماوات و الأرض، ففيهما من يعلم الغيب، مبالغة في نفي العلم عنهم. يعني: أنّ علمهم الغيب في استحالته كاستحالة أن يكون اللّه منهم،

______________________________

(1) لعلّها بزنة فعيلة، فتكون بمعنى: شريفة، من: سرا سروا: كان سريّا، أي: صاحب مروءة و سخاء و شرف.

(2) أي: في قول الشاعر: و بلدة ليس بها أنيس إلّا اليعافير و إلّا العيس زبدة التفاسير، ج 5، ص: 118

كما أنّ معنى ما في البيت: إن كانت اليعافير أنيسا ففيها أنيس، بتّا للقول بخلوّها عن الأنيس.

أو متّصل «1»، على أنّ المراد ممّن في السماوات و الأرض من تعلّق علمه بهما، و اطّلع عليهما اطّلاع الحاضر فيهما، فإنّه يعمّ اللّه تعالى و أولي العلم من خلقه.

و هو موصول أو موصوف.

وَ ما يَشْعُرُونَ أَيَّانَ يُبْعَثُونَ متى يحشرون؟ مركّبة من «أيّ» و «آن».

و الضمير ل «من». و قيل: للكفرة.

قيل: نزلت هذه الآية في المشركين، حين سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و

آله و سلّم عن وقت الساعة.

و لمّا ذكر أنّ العباد لا يعلمون الغيب، و لا يشعرون بالبعث الكائن و وقته الّذي يكون فيه، و كان هذا بيانا لعجزهم، و وصفا لقصور علمهم، وصل به الكلام الآخر، و هو قوله: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ دلالة على أنّ عندهم عجزا أبلغ منه، و هو أنّهم يقولون للكائن الّذي لا بدّ أن يكون- و هو وقت جزاء أعمالهم-: لا يكون، مع أنّ عندهم أسباب معرفة كونه و استحكام العلم به.

و يحتمل أن يكون وصفهم باستحكام العلم تهكّما بهم، كما تقول لأجهل الناس: ما أعلمك! على سبيل الهزؤ.

و قيل: «أدرك» بمعنى: انتهى و اضمحلّ، من قولهم: أدركت الثمرة، لأن تلك غايتها الّتي عندها تعدم.

ثمّ أكّد عدم علمهم رأسا بالإضراب الثاني و الثالث، و هو قوله: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْها كمن تحيّر في الأمر لا يجد عليه دليلا بَلْ هُمْ مِنْها عن معرفتها عَمُونَ من عمى القلب، لزعمهم التدبّر و التفكّر. يعني: أنّهم شكّوا و عموا عن

______________________________

(1) عطف على قوله: الاستثناء منقطع، قبل سبعة أسطر.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 119

إثباته الّذي الطريق إلى علمه مسلوك، فضلا أن يعرفوا وقت كونه الّذي لا طريق إلى معرفته. و هذا و إن اختصّ بالمشركين ممّن في السماوات و الأرض، نسب إلى جميعهم، كما يسند فعل البعض إلى الكلّ.

و قرأ نافع و ابن عامر و حمزة و الكسائي و حفص: بل ادّراك، بمعنى: تتابع حتّى استحكم، أو تتابع حتّى انقطع، من: تدارك بنو فلان إذا تتابعوا في الهلاك.

و أبو بكر: ادّرك. و أصلهما: تفاعل و افتعل.

و الإضرابات الثلاث إنّما هي لتنزيل أحوالهم، فإنّه وصفهم أوّلا بأنّهم لا يشعرون وقت البعث، ثمّ بأنّهم

لا يعلمون أنّ القيامة كائنة، ثمّ بأنّهم يخبطون في شكّ و مرية فلا يزيلونه، ثمّ بما هو أسوأ حالا، و هو العمى، و أن يكون مثل البهيمة، قد عكف همّه على بطنه و فرجه، لا يخطر بباله حقّا و لا باطلا، و لا يفكّر في عاقبة.

و قد جعل الآخرة مبدأ عماهم و منشأه، فلذلك عدّاه ب «من» دون «عن» لأنّ الكفر بالعاقبة و الجزاء هو الّذي جعلهم كالبهائم لا يتدبّرون و لا يتبصّرون.

و قيل: إنّ الآية إخبار عن ثلاث طوائف: طائفة أقرّت بالبعث، و طائفة شكّت فيه، و طائفة نفته، كما قال: فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ «1».

[سورة النمل (27): الآيات 67 الى 75]

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَ إِذا كُنَّا تُراباً وَ آباؤُنا أَ إِنَّا لَمُخْرَجُونَ (67) لَقَدْ وُعِدْنا هذا نَحْنُ وَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ إِنْ هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (68) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ (69) وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ وَ لا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ مِمَّا يَمْكُرُونَ (70) وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (71)

قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ (72) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ (73) وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ ما يُعْلِنُونَ (74) وَ ما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (75)

______________________________

(1) ق: 5.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 120

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا بإنكارهم البعث أَ إِذا كُنَّا تُراباً وَ آباؤُنا أَ إِنَّا لَمُخْرَجُونَ هذا كالبيان لعمههم. و العامل في «إذا» ما دلّ عليه «أ إنّا لمخرجون» و هو: نخرج، لا «مخرجون» لأنّ كلّا من الهمزة و «إن» و اللام مانعة من العمل فيما قبلها، فكيف إذا

اجتمعن؟ و تكرير الهمزة للمبالغة في الإنكار. و المراد بالإخراج الإخراج من الأجداث، أو من حال الفناء إلى حال الحياة.

و قرأ نافع: إذا كنّا، بهمزة واحدة مكسورة. و ابن عامر و الكسائي: إنّنا لمخرجون، بنونين على الخبر.

لَقَدْ وُعِدْنا هذا أي: هذا البعث نَحْنُ في ما مضى وَ آباؤُنا مِنْ قَبْلُ من قبل وعد محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و تقديم «هذا» على «نحن» لأنّ المقصود بالذكر هو البعث، و حيث أخّر فالمقصود به المبعوث. إِنْ هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أحاديثهم و أكاذيبهم الّتي كتبوها.

ثمّ هدّدهم على التكذيب، و خوّفهم بأن ينزل بهم مثل ما نزل بالمكذّبين قبلهم، فقال: قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُجْرِمِينَ أي:

الكافرين. و التعبير عنهم بوصف الإجرام، ليكون لطفا بالمؤمنين في ترك الجرائم و تخوّف عاقبتها. و لم تلحق علامة التأنيث بفعل العاقبة، لأنّ تأنيثها غير حقيقيّ،

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 121

و لأنّ المعنى: كيف كان آخر أمرهم؟ و هو أنّ اللّه أهلكهم، و خرّب ديارهم.

وَ لا تَحْزَنْ عَلَيْهِمْ على تكذيبهم و إعراضهم وَ لا تَكُنْ فِي ضَيْقٍ في حرج صدر. و قرأ ابن كثير بكسر الضاد. و هما لغتان. يقال: ضاق الشي ء ضيقا و ضيقا. مِمَّا يَمْكُرُونَ من مكرهم و كيدهم لك، و لا تبال بذلك، فإنّ اللّه يعصمك من الناس.

وَ يَقُولُونَ استبعادا و استنكارا مَتى هذَا الْوَعْدُ العذاب الموعود إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ بأنّه يكون.

قُلْ عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ تبعكم و لحقكم. و اللام مزيدة للتأكيد، كالباء في وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ «1». أو الفعل مضمّن معنى فعل يتعدّى باللام، مثل: دنا لكم و أزف «2» لكم بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ حلوله، و هو عذاب يوم

بدر.

و «عسى» و «لعلّ» و «سوف» في مواعيد الملوك كالجزم بها، و إنّما يطلقونه إظهارا لوقارهم، و أنّهم لا يعجّلون بالانتقام، و إشعارا بأنّ الرمز منهم كالتصريح من غيرهم، و تنبيها على وثوقهم بأن عدوّهم لا يفوتهم، و عليه جرى وعد اللّه و وعيده، فإنّه مالك الملوك.

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ بتأخير عقوبتهم على المعاصي، و عدم المعاجلة بها. و الفضل و الفاضلة: الإفضال، و جمعها فضول و فواضل. وَ لَكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَشْكُرُونَ لا يعرفون حقّ النعمة فيه، فلا يشكرونه، بل بجهلهم يستعجلون وقوع العذاب. و هم قريش.

وَ إِنَّ رَبَّكَ لَيَعْلَمُ ما تُكِنُ ما تخفيه صُدُورُهُمْ وَ ما يُعْلِنُونَ من عداوتك، فيجازيهم عليه.

______________________________

(1) البقرة: 195.

(2) أي: اقترب.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 122

وَ ما مِنْ غائِبَةٍ فِي السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أي: خافية فيهما. و هما من الصفات الغالبة، و التاء فيهما للمبالغة، كما في الراوية، كأنّه قال: و ما من شي ء شديد الغيبوبة و الخفاء. أو اسمان لما يغيب و يخفى، كالتاء في عاقبة و عافية و نظائرهما، كالنطيحة و الذبيحة، في أنّها أسماء غير صفات. إِلَّا ثبت فِي كِتابٍ مُبِينٍ بيّن، أو مبيّن ما فيه لمن يطالعه من الملائكة. و المراد اللوح، أو القضاء على الاستعارة.

[سورة النمل (27): الآيات 76 الى 85]

إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ يَقُصُّ عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (76) وَ إِنَّهُ لَهُدىً وَ رَحْمَةٌ لِلْمُؤْمِنِينَ (77) إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بِحُكْمِهِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (78) فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ (79) إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (80)

وَ ما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (81) وَ

إِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ تُكَلِّمُهُمْ أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا لا يُوقِنُونَ (82) وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا فَهُمْ يُوزَعُونَ (83) حَتَّى إِذا جاؤُ قالَ أَ كَذَّبْتُمْ بِآياتِي وَ لَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (84) وَ وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ بِما ظَلَمُوا فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ (85)

ثمّ ذكر سبحانه من الحجج ما يقوّي قلب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: إِنَّ هذَا الْقُرْآنَ

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 123

يَقُصُ يخبر عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَكْثَرَ الَّذِي هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ كالتشبيه و التنزيه، و أحوال الجنّة و النار، و عزير و المسيح و مريم، و النبيّ المبشّر به في التوراة، حيث قال بعضهم: هو يوشع، و قال بعضهم: لا بل هو منتظر لم يأت بعد، و غير ذلك من الأحكام. و كان ذلك معجزة لنبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، إذ كان لا يدرس كتبهم و لا يقرؤها، ثمّ أخبرهم بما فيها.

و قال: وَ إِنَّهُ و إنّ القرآن لَهُدىً لدلالة على الحقّ وَ رَحْمَةٌ و نعمة لِلْمُؤْمِنِينَ من بني إسرائيل و من غيرهم، فإنّهم هم المنتفعون به.

إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ بين المختلفين من بني إسرائيل و غيرهم يوم القيامة بِحُكْمِهِ بما يحكم به، و هو العدل، فإنّه لا يقضي إلّا به. فسمّى المحكوم به حكما. أو أراد بحكمته. و أشار بذلك إلى شيئين؛ أحدهما: أنّ الحكم له، فلا ينفذ حكم غيره، فيوصل إلى كلّ ذي حقّ حقّه. و الآخر: أنّه وعد المظلوم بالانتصاف من الظالم.

وَ هُوَ الْعَزِيزُ القادر الغالب على ما يشاء، لا يمتنع عليه شي ء، فلا يردّ قضاؤه الْعَلِيمُ بالمحقّ و المبطل،

فيجازي كلّا بحسب عمله.

و في هذه الآية تسلية للمحقّين الّذين خولفوا في أمور الدين، و أنّ أمرهم يئول إلى أن يحكم بينهم ربّ العالمين.

ثمّ أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالتوكّل عليه، و قلّة المبالاة بأعداء الدين، فقال: فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ و لا تبال بمعاداتهم. ثمّ علّل التوكّل بأنّه على الحقّ الأبلج الّذي لا يتعلّق به الشكّ و الظنّ إِنَّكَ عَلَى الْحَقِّ الْمُبِينِ و صاحب الحقّ حقيق بالوثوق بحفظ اللّه و نصرته.

ثمّ بيّن علّة اخرى للأمر بالتوكّل، فقال: إِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى فاقطع طمعك عن مشايعتهم و معاضدتهم رأسا. و إنّما شبّهوا بالموتى لعدم انتفاعهم باستماع

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 124

ما يتلى عليهم، كما شبّهوا بالصمّ في قوله تعالى: وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ فإنّ إسماعهم في هذه الحالة أبعد، فإنّ الأصمّ إذا تباعد عن الداعي- بأن يولّي عنه مدبرا- كان أبعد عن إدراك صوته. و قرأ ابن كثير: و لا يسمع الصّمّ.

وَ ما أَنْتَ بِهادِي الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ حيث الهداية لا تحصل إلّا بالبصر.

فجعل سبحانه المصمّم على الجهل كالميّت تارة في أنّه لا يقبل الهدى، و اخرى.

كالأصمّ في أنّه لا يسمع الدعاء، و اخرى كالعمي في أنّه لا يبصر الحقّ.

إِنْ تُسْمِعُ أي: ما يجدي إسماعك إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا إلّا الّذين علم اللّه أنّهم يؤمنون بآياته، أي: يصدّقون بها فَهُمْ مُسْلِمُونَ من قوله: «بَلى مَنْ أَسْلَمَ وَجْهَهُ لِلَّهِ» «1» يعني: جعله سالما للّه خالصا له.

ثمّ هدّدهم بقوله: وَ إِذا وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ يعني: إذا دنا وقوع الساعة و ظهور أشراطه، و هو ما وعدوا به من البعث و العذاب، و عند ذلك يرتفع التكليف، و لا تقبل التوبة

أَخْرَجْنا لَهُمْ دَابَّةً مِنَ الْأَرْضِ و هي الجسّاسة.

و عن ابن عبّاس: أنّ طولها ستّون ذراعا، و لها أربع قوائم و زغب و ريش و جناحان، لا يفوتها هارب، و لا يدركها طالب.

و عن ابن جريج في وصفها: لها رأس ثور، و عين خنزير، و أذن فيل، و قرن أيّل، و عنق نعامة، و صدر أسد، و لون نمر، و خاصرة هرّة، و ذنب كبش، و خفّ بعير، و ما بين مفصليها اثنا عشر ذراعا بذراع آدم عليه السّلام.

و روي: لا تخرج إلّا رأسها، و رأسها يبلغ أعنان السماء، أو يبلغ السحاب.

و عن أبي هريرة: فيها من كلّ لون، و ما بين قرنيها فرسخ للراكب.

و عن الحسن: لا يتمّ خروجها إلّا بعد ثلاثة أيّام.

و

عن عليّ عليه السّلام: أنّها تخرج ثلاثة أيّام، و الناس ينظرون، فلا يخرج إلّا ثلثها.

______________________________

(1) البقرة: 112.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 125

و

روى محمّد بن كعب القرظي قال: سئل عليّ عليه السّلام عن الدابّة، فقال: أما و اللّه ما لها ذنب، و إنّ لها للحية. و في هذا إشارة إلى أنّها من الإنس.

و عن وهب أنّه قال: وجهها وجه رجل، و سائر خلقها خلق الطير.

و

روي أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سئل: من أين تخرج الدابّة؟ فقال: من أعظم المساجد حرمة على اللّه، يعني: مسجد الحرام.

و روي: أنّها تخرج ثلاث خرجات: تخرج بأقصى اليمن ثمّ تتكمّن، ثمّ تخرج بالبادية ثمّ تتكمّن دهرا طويلا، فبينا الناس في أعظم المساجد حرمة و أكرمها على اللّه تعالى، فما يهولهم إلّا خروجها من بين الركن حذاء دار بني مخزوم، عن يمين الخارج من المسجد، فقوم يهربون، و قوم يقفون نظّارة.

و قيل: تخرج من الصفا ف تُكَلِّمُهُمْ

بالعربيّة بلسان ذلق «1»، فتقول: أَنَّ النَّاسَ كانُوا بِآياتِنا و هي خروجها و سائر أحوالها، فإنّها من آيات اللّه تعالى.

و قيل: القرآن. لا يُوقِنُونَ لا يتيقّنون. و هو حكاية معنى قولها. أو حكاية لقول اللّه. أو علّة خروجها، أو تكلّمها، على حذف الجارّ. و قرأ غير الكوفيّين: إنّ النّاس بالكسر، على الاستئناف.

عن السدّي: تكلّمهم ببطلان الأديان كلّها سوى دين الإسلام. و قيل: تقول:

ألا لعنة اللّه على الظالمين.

و عن ابن عمر: تستقبل المغرب فتصرخ صرخة تنفذه، ثمّ تستقبل المشرق، ثمّ الشام، ثمّ اليمن، فتفعل مثل ذلك.

و روي: بينا عيسى عليه السّلام يطوف بالبيت و معه المسلمون، إذ تضطرب الأرض تحتهم تحرّك القنديل، و ينشقّ الصفا ممّا يلي المسعى، فتخرج الدابّة من الصفا، و معها عصا موسى و خاتم سلمان، فتضرب المؤمن في مسجده أو فيما بين عينيه

______________________________

(1) أي: طلق بليغ فصيح.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 126

بعصا موسى، فتنكت نكتة بيضاء، فتفشو تلك النكتة في وجهه حتّى يضي ء لها وجهه، أو فتترك وجهه كأنّه كوكب درّيّ، و تكتب بين عينيه: مؤمن. و تنكت الكافر بالخاتم في أنفه، فتفشو النكتة حتّى يسودّ لها وجهه، و تكتب بين عينيه: كافر.

حتّى يقال: يا مؤمن، يا كافر.

و روي: فتجلو وجه المؤمن بالعصا، و تحطم أنف الكافر بالخاتم، ثمّ تقول لهم: يا فلان أنت من أهل الجنّة، و يا فلان أنت من أهل النار.

وَ يَوْمَ نَحْشُرُ مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ فَوْجاً يعني: يوم القيامة مِمَّنْ يُكَذِّبُ بِآياتِنا بيان للفوج، أي: فوجا مكذّبين. و «من» الأولى للتبعيض، لأنّ أمّة كلّ نبيّ و أهل كلّ قرن شامل للمصدّقين و المكذّبين. فَهُمْ يُوزَعُونَ يحبس أوّلهم على آخرهم، ليتلاحقوا و يجتمعوا فيكبكبوا في النار. و هو عبارة

عن كثرة عددهم و تباعد أطرافهم، كما وصفت جنود سليمان عليه السّلام بذلك. و كذلك قوله: «فوجا» فإنّ الفوج الجماعة الكثيرة.

و عن ابن عبّاس: أبو جهل، و الوليد بن المغيرة، و شيبة بن ربيعة، يساقون بين يدي أهل مكّة. و كذلك يحشر قادة سائر الأمم بين أيديهم إلى النار.

حَتَّى إِذا جاؤُ إلى المحشر قالَ أي: قال اللّه تعالى أَ كَذَّبْتُمْ بِآياتِي أي: المعجزات الدالّة على صحّة ديني وَ لَمْ تُحِيطُوا بِها عِلْماً الواو للحال، أي:

أ كذّبتم بها بادئ الرأي، غير ناظرين فيها نظرا يؤدّي إلى إحاطة العلم بكنهها، و أنّها حقيقة بالتصديق أو بالتكذيب؟ أو للعطف، أي: أجحدتموها، و مع جحودكم لم تلقوا أذهانكم لتحقّقها، فإنّ المكتوب إليه قد يجحد أن يكون الكتاب من عند من كتبه، و لا يدع مع ذلك أن يقرأه و يتفهّم مضامينه، و يحيط بمعانيه.

أَمَّا ذا كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي: أم أيّ شي ء كنتم تعملونه بعد ذلك؟ و هو للتبكيت، إذ لم يفعلوا غير التكذيب، فلا يقدرون أن يقولوا: فعلنا غير ذلك، لشهرة

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 127

أنّهم ما يفعلون غير التكذيب، و لا يشتغلون بغيره. و مثاله: أن تقول لراعيك- و قد عرفت أنّه يأكل نعمك و يفسدها-: أ تأكل نعمي و تفسدها؟ مع علمك أنّه لا يعمل بها إلّا الأكل و الإفساد، لتبهته و تعلمه علمك بأنّه لا يجي ء منه إلّا أكلها و إفسادها، و أنّه لا يقدر أن يدّعي حفظها و إصلاحها، لما شهر من خلاف ذلك.

و الكفّار يخاطبون بهذا القول قبل كبّهم في النار، ثمّ يكبّون فيها. و ذلك قوله:

وَ وَقَعَ الْقَوْلُ عَلَيْهِمْ و وجب عليهم، و حلّ بهم العذاب الموعود، و هو كبّهم في النار بِما ظَلَمُوا

بسبب ظلمهم، و هو التكذيب بآيات اللّه فَهُمْ لا يَنْطِقُونَ باعتذار، لشغلهم بالعذاب، و عظم هول ما يشاهدونه. و مثل ذلك قوله: هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ «1».

[سورة النمل (27): الآيات 86 الى 90]

أَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ وَ النَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (86) وَ يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ وَ كُلٌّ أَتَوْهُ داخِرِينَ (87) وَ تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ صُنْعَ اللَّهِ الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ (88) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ (89) وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ هَلْ تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (90)

______________________________

(1) المرسلات: 35.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 128

ثمّ بيّن سبحانه قدرته على الإعادة و البعث بما احتجّ به على الكفّار، فقال:

أَ لَمْ يَرَوْا ليتحقّق لهم التوحيد، و يرشدهم إلى تجويز الحشر و بعثة الرسل أَنَّا جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِيَسْكُنُوا فِيهِ عن التعب و الحركات وَ النَّهارَ مُبْصِراً لتقلّبهم فيه في المكاسب، فإنّ تعاقب النور و الظلمة على وجه مخصوص غير متعيّن بذاته، لا يكون إلّا بقدرة قاهرة. و أنّ من قدر على إبدال الظلمة بالنور في مادّة واحدة، قدر على إبدال الموت بالحياة في موادّ الأبدان. و أنّ من جعل النهار ليبصروا فيه سببا من أسباب معاشهم، لعلّه لا يخلّ بما هو مناط جميع مصالحهم في معاشهم و معادهم.

و اعلم أنّ أصل الكلام في قوله: «وَ النَّهارَ مُبْصِراً»: ليبصروا فيه، بقرينة التقابل، فبولغ فيه بجعل الإبصار حالا من أحواله المجعول عليها، بحيث لا ينفكّ عنها.

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لدلالتها على

أنّ من قدر على خلق الليل و النهار لانتفاع العباد، لقدر على إعادة الموتى و بعثهم يوم المعاد، لإثابتهم و تعذيبهم على وفق الأعمال.

وَ يَوْمَ يُنْفَخُ و اذكر يوم ينفخ إسرافيل بأمر اللّه فِي الصُّورِ و هو قرن ينفخ فيه شبه البوق. و عن الحسن و قتادة: المراد صور الخلق، جمع صورة، كصوفة و صوف، أي: يوم تنفخ الأرواح في الصور. و الأوّل قد ورد في الحديث. و قيل: إنّه تمثيل لانبعاث الموتى بانبعاث الجيش إذا نفخ في البوق.

فَفَزِعَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ من الهول. و عبّر عنه بالماضي لتحقّق وقوعه، فإنّ الفعل الماضي يدلّ على وجود الفعل، و كونه مقطوعا به، و أنّه كائن لا محالة. إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ أن لا يفزع، بأن يثبت اللّه قلبه، من الملائكة.

قيل: هم: جبرئيل، و ميكائيل، و إسرافيل، و عزرائيل، صلوات اللّه عليهم.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 129

و قيل: الحور، و الخزنة، و حملة العرش. و قيل: الشهداء. و عن جابر: منهم موسى، لأنّه صعق مرّة.

و مثله قوله تعالى: وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ «1».

و قيل: هي ثلاث نفخات: الأولى: نفخة الفزع. و الثانية: نفخة الصعق. و الثالثة: نفخة القيام لربّ العالمين.

وَ كُلٌ من الأحياء الّذين ماتوا ثمّ أحيوا أَتَوْهُ حاضرون الموقف بعد النفخة الثانية. أو راجعون إلى أمره، منقادون له. و قرأ حمزة و حفص: أتوه على الفعل. داخِرِينَ صاغرين أذلّاء.

وَ تَرَى الْجِبالَ تَحْسَبُها جامِدَةً ثابتة في مكانها. من: جمد في مكانه إذا لم يبرح. يعني: إذا نظر الناظر إليها حسبها واقفة في مكان واحد. وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ أي: يمرّ مرّا حثيثا كما يمرّ السحاب

في السرعة. و ذلك لأنّ الأجرام الكبار إذا تحرّكت في سمت واحد، فلا تكاد تتبيّن حركتها.

صُنْعَ اللَّهِ من المصادر المؤكّدة لنفسها. و هو لمضمون الجملة المتقدّمة، كقوله: وَعْدَ اللَّهِ «2». تقديره: صنع اللّه صنعا. الَّذِي أَتْقَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ خلق كلّ شي ء على وجه الإتقان و الإحكام و الاتّساق و التسوية. و من ذلك المجازاة على وفق الأعمال يوم المعاد على ما ينبغي.

إِنَّهُ خَبِيرٌ بِما تَفْعَلُونَ عالم بظواهر الأفعال و بواطنها، فيجازيكم عليها إثابة و عقابا. كما قال: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها إذ ثبت له الباقي بالفاني، و سبعمائة بواحدة.

______________________________

(1) الزمر: 68.

(2) النساء: 122، و غيرها.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 130

و عن ابن عبّاس: أي: فمنها يصل الخير إليه. و المعنى: فله من تلك الحسنة من جهتها خير يوم القيامة. و هو الثواب و الأمان من العقاب. ف «خير» هاهنا اسم، و ليس بالّذي هو بمعنى الأفضل.

و المراد بالحسنة: كلّ فعل حسن في نظر الشرع، فلا يكون ذلك إلّا بعد تحقّق الإيمان.

و عن ابن عبّاس و قتادة: أنّها كلمة الشهادة، فإنّها أمّ الحسنات و رأسها.

و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و هشام: يفعلون بالياء. و الباقون بالتاء.

وَ هُمْ مِنْ فَزَعٍ يَوْمَئِذٍ آمِنُونَ يعني به خوف عذاب يوم القيامة. و قرأ الكوفيّون بالتنوين، لأنّ المراد فزع واحد من أفزاع ذلك اليوم. و نافع: يومئذ بفتح الميم مع الإضافة، لأنّه أضيف إلى غير متمكّن. و الباقون بكسرها. و «آمن» يتعدّى بالجارّ و بنفسه، كقوله تعالى: أَ فَأَمِنُوا مَكْرَ اللَّهِ «1».

عن الكلبي: إذا أطبقت النار على أهلها فزعوا فزعة لم يفزعوا مثلها، و أهل الجنّة آمنون من ذلك الفزع.

و قال في الكشّاف: «الفرق بين الفزعين: أن الأوّل

ما لا يخلو منه أحد عند الإحساس بشدّة تقع و هول يفجأ، من رعب و هيبة، و إن كان المحسن يأمن لحاق الضرر به، كما يدخل الرجل على الملك بصدر هيّاب «2» و قلب وجّاب، و إن كانت ساعة إعزاز و تكرمة و إحسان و تولية. و أمّا الثاني: فالخوف من العذاب» «3».

وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ قيل: بالشرك، فإنّه أمّ السيّئات و رأسها. كذا روي عن ابن عبّاس و أكثر المفسّرين. و عند غيرهم: المراد كلّ معصية كبيرة.

______________________________

(1) الأعراف: 99.

(2) هياب أي: خائف. و قلب وجاب: كثير الخفوق و الاضطراب.

(3) الكشاف 3: 388.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 131

فَكُبَّتْ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ أي: فكبّوا فيها على وجوههم منكوسين.

و يجوز أن يراد بالوجوه أنفسهم، كما أريدت بالأيدي في قوله: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ «1». فعبّر عن الجملة بالوجه، كما عبّر عنها بالرأس و الرقبة و الأيدي.

هَلْ تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ على الالتفات، أي: هذا جزاء فعلكم، و ليس بظلم. أو بإضمار القول، أي: قيل لهم ذلك.

روى السيّد أبو الحمد مهدي بن نزار الحسيني، قال: حدّثنا الحاكم أبو القاسم عبيد اللّه بن عبد اللّه الحسكاني، قال: أخبرنا أحمد بن عبد اللّه بن أحمد، قال:

أخبرنا محمّد بن أحمد بن محمّد، قال: حدّثنا عبد العزيز بن يحيى بن أحمد، قال:

حدّثني محمّد بن عبد الرحمن بن الفضل، قال: حدّثني جعفر بن الحسين، قال:

حدّثني أبي، قال: حدّثني محمّد بن زيد عن أبيه، قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: «دخل أبو عبد اللّه الجدلي على أمير المؤمنين عليه السّلام، فقال عليه السّلام له: يا أبا عبد اللّه ألا أخبرك بقول اللّه تعالى: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ- إلى قوله- تَعْمَلُونَ قال: بلى جعلت فداك.

قال: الحسنة حبّنا أهل البيت، و السيّئة بغضنا» «2».

و

حدّثنا السيّد أبو الحمد، قال: حدّثنا الحاكم أبو القاسم، قال: أخبرنا أبو عثمان سعيد بن محمّد الحميري، قال: حدّثنا جدّي أحمد بن إسحاق الحميري، قال: حدّثنا جعفر بن سهل، قال: حدّثنا أبو زرعة و عثمان بن عبد اللّه القرشي، قالا:

حدّثنا ابن لهيعة، عن أبي الزبير، عن جابر، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا عليّ، لو أنّ أمّتي صاموا حتّى صاروا كالأوتاد، و صلّوا حتّى صاروا كالحنايا «3»، ثمّ أبغضوك، لأكبّهم اللّه على مناخرهم في النار» «4».

______________________________

(1) البقرة: 195.

(2) شواهد التنزيل 1: 548 ح 581.

(3) الحنايا جمع الحنيّة. و هي: القوس، أو ما كان منحنيا مثله.

(4) شواهد التنزيل 1: 549 ح 583.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 132

[سورة النمل (27): الآيات 91 الى 93]

إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ الَّذِي حَرَّمَها وَ لَهُ كُلُّ شَيْ ءٍ وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (91) وَ أَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ فَمَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ (92) وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ سَيُرِيكُمْ آياتِهِ فَتَعْرِفُونَها وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ (93)

و لمّا بيّن المبدأ و المعاد، و شرح أحوال القيامة، أمر رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يقول لهم: إِنَّما أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ رَبَّ هذِهِ الْبَلْدَةِ يعني: مكّة الَّذِي حَرَّمَها إشعارا بأنّه قد أتمّ الدعوة، و قد كملت، و ما عليه بعد إلّا الاشتغال بشأنه، و الاستغراق في عبادة ربّه. و تخصيص مكّة بهذه الإضافة تشريف لها، و تعظيم لشأنها. و معنى «حرّمها».

جعلها ممنوعا أن يقصد الظلمة إلى تخريبها. أو جعلها حرما آمنا، يحرم فيها ما يحلّ في غيرها، لا ينفر صيدها،

و لا يختلى «1» خلاها، و لا يقتصّ فيها.

وَ لَهُ كُلُّ شَيْ ءٍ خلقا و ملكا وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ المنقادين، أو الثابتين على ملّة الإسلام.

وَ أَنْ أَتْلُوَا الْقُرْآنَ و أن أواظب على تلاوته، لتنكشف لي حقائقه في تلاوته شيئا فشيئا. أو أتّبعه.

فَمَنِ اهْتَدى باتّباعه إيّاي فيما فيه فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ فإنّ المنافع العاجلة و الفوائد الآجلة عائدة إليه.

وَ مَنْ ضَلَ عنه بمخالفتي فَقُلْ إِنَّما أَنَا مِنَ الْمُنْذِرِينَ فلا عليّ من وبال ضلاله شي ء، إذ ما على الرسول إلّا البلاغ، و قد بلّغت.

______________________________

(1) اختلى العشب: جزّه و قطعه. و الخلى: العشب و الحشيش.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 133

ثمّ أمره أن يحمد اللّه على ما خوّله من نعمة النبوّة الّتي لا توازيها نعمة، و أن يهدّد أعداءه بما سيريهم اللّه من آياته الّتي تلجئهم إلى المعرفة، فقال:

وَ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على نعمة النبوّة. أو على ما علّمني و وفّقني للعمل به.

سَيُرِيكُمْ آياتِهِ القاهرة في الدنيا، كوقعة بدر، و خروج دابّة الأرض. و عن الكلبي: هو الدخان و انشقاق القمر. أو في الآخرة. و قيل: هو كقوله: سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ «1» الآية. فَتَعْرِفُونَها أنّها آيات اللّه، و لكن حين لا تنفعكم المعرفة.

وَ ما رَبُّكَ بِغافِلٍ عَمَّا تَعْمَلُونَ فلا تحسبوا أنّ تأخير عذابكم لغفلته عن أعمالكم، لتنزّه ذاته المتعالي عنها، بل لمصلحة تقتضيه.

______________________________

(1) فصّلت: 53.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 135

(28) سورة القصص

اشارة

مكّيّة. و هي ثمان و ثمانون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ طسم القصص كان له من الأجر عشر حسنات، بعدد من صدّق بموسى و كذّب به، و لم يبق ملك في السّماوات و الأرض إلّا

شهد له يوم القيامة أنّه كان صادقا أنّ كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ «1»».

[سورة القصص (28): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

طسم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) نَتْلُوا عَلَيْكَ مِنْ نَبَإِ مُوسى وَ فِرْعَوْنَ بِالْحَقِّ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (3) إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا فِي الْأَرْضِ وَ جَعَلَ أَهْلَها شِيَعاً يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ وَ يَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ (4)

وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ (5) وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما مِنْهُمْ ما كانُوا يَحْذَرُونَ (6)

______________________________

(1) القصص: 88.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 136

و اعلم أنّ اللّه سبحانه لمّا أمر في خاتمة سورة النمل بتلاوة القرآن، بيّن في هذه السورة أنّ القرآن من طسم، و أنّه يتلو فيها عليهم من نبأ موسى و فرعون، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ طسم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْمُبِينِ البيّن الظاهر. أو الّذي بيّن الرشد من الغيّ.

نَتْلُوا عَلَيْكَ نقرأ بواسطة جبرئيل. و يجوز أن يكون بمعنى: ننزّله مجازا.

مِنْ نَبَإِ مُوسى وَ فِرْعَوْنَ مفعول «نتلو». و «من» للتبعيض، أي: نتلو بعض نبئهما.

بِالْحَقِ محقّين. أو ملتبسا بالصدق و الحقيقة. لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لمن سبق في علمنا أنّه يؤمن، لأنّ التلاوة إنّما تنفع هؤلاء دون غيرهم.

ثمّ استأنف ما يبيّن ذلك البعض، فقال: إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا بغى و طغى ظلما فِي الْأَرْضِ أرض مصر وَ جَعَلَ أَهْلَها من السبط و القبط شِيَعاً فرقا يشيعونه و يطيعونه فيما يريد، لا يملك أحد منهم أن يلوي عنقه عن حكمه. أو يشيع بعضهم بعضا في طاعته. أو أصنافا في استخدامه، يتسخّر صنفا في الحرث، و صنفا في الحفر، و صنفا في البناء،

و غير ذلك. أو فرقا مختلفة، قد أغرى بينهم العداوة كي لا يتّفقوا عليه.

يَسْتَضْعِفُ طائِفَةً مِنْهُمْ و هم بنو إسرائيل. و الجملة حال من فاعل «جعل». أو صفة ل «شيعا». أو استئناف. و قوله: يُذَبِّحُ أَبْناءَهُمْ أي: يقتلهم

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 137

وَ يَسْتَحْيِي نِساءَهُمْ أي: يستبقيهنّ بدل «1»، منها. و سبب ذبح الأبناء: أنّ كاهنا قال له: يولد مولود في بني إسرائيل يذهب ملكك على يده. و ذلك من غاية حمقه، فإنّه إن صدق الكاهن لم يندفع بالقتل، و إن كذب فما وجه القتل؟

و قال السدّي: رأى فرعون في منامه أنّ نارا أقبلت من بيت المقدس حتّى اشتملت على بيوت مصر، فأحرقت القبط، و تركت بني إسرائيل. فسأل علماء قومه، فقالوا له: يخرج من هذا البلد رجل يكون هلاك ملكك على يده.

إِنَّهُ كانَ مِنَ الْمُفْسِدِينَ فلذلك اجترأ على قتل خلق كثير من أولاد الأنبياء و الأولياء لتخيّل فاسد.

وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَ أن نتفضّل عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ بإنقاذهم من شدّة عذابه و نقمته. و هذا حكاية حال ماضية، معطوفة على «إِنَّ فِرْعَوْنَ عَلا» من حيث إنّهما واقعان تفسيرا للنبأ. أو حال من «يستضعف» أي: يستضعفهم فرعون، و نحن نريد أن نمنّ عليهم. و لا يلزم من مقارنة الإرادة للاستضعاف مقارنة المراد له، لجواز أن يكون تعلّق الإرادة به تعلّقا استقباليّا. مع أنّ منّة اللّه بخلاصهم لمّا كانت قريبة الوقوع منه، جاز أن تجري مجرى المقارن. فلا يرد منه أنّه كيف يجتمع استضعافهم، و إرادة اللّه المنّة عليهم؟ و إذا أراد اللّه شيئا كان، و لم يتوقّف إلى وقت آخر.

وَ نَجْعَلَهُمْ أَئِمَّةً مقدّمين في أمر الدين و الدنيا، يطأ الناس أعقابهم، و يقتفون آثارهم.

و هذا التفسير جامع ما نقل عن ابن عبّاس: أنّ معناه: قادة يقتدى بهم في الخير. و عن مجاهد: دعاة إلى الخير. و عن قتادة: ولاة، كقوله: وَ جَعَلَكُمْ مُلُوكاً «2».

______________________________

(1) خبر لقوله: و قوله، قبل سطر، أي: قوله تعالى: «يذبّح ...» بدل من جملة: «يستضعف ...».

(2) المائدة: 20.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 138

وَ نَجْعَلَهُمُ الْوارِثِينَ يرثون فرعون و قومه، ملكهم و كلّ ما كان لهم.

وَ نُمَكِّنَ لَهُمْ فِي الْأَرْضِ أرض مصر و الشام. و أصل التمكين أن تجعل للشي ء مكانا يتمكّن فيه و يقعد عليه أو يرقد، ثمّ استعير للتسليط و تنفيذ الأمر على الإطلاق.

وَ نُرِيَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وزيره الأعظم وَ جُنُودَهُما مِنْهُمْ من بني إسرائيل ما كانُوا يَحْذَرُونَ من ذهاب ملكهم، و هلاكهم على يد مولود منهم.

و قرأ حمزة و الكسائي: و يرى بالياء، و «فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما» بالرفع.

قال الضحّاك: عاش فرعون أربعمائة سنة. و كان قصيرا دميما «1». و هو أوّل من خضب بالسواد. و عاش موسى عليه السّلام مائة و عشرين سنة.

و

قد صحّت الرواية عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «و الّذي فلق الحبّة، و برأ النسمة، لتعطفنّ الدنيا علينا بعد شماسها «2»، عطف الضروس على ولدها. و تلا عقيب ذلك: «وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ» الآية».

و

روى العيّاشي بالإسناد عن أبي الصبّاح الكناني، قال: «نظر أبو جعفر عليه السّلام إلى أبي عبد اللّه عليه السّلام، فقال: هذا و اللّه من الّذين قال اللّه: «وَ نُرِيدُ أَنْ نَمُنَّ عَلَى الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا فِي الْأَرْضِ» الآية».

و

قال سيّد العابدين عليّ بن الحسين عليهما السّلام: «و الّذي بعث محمّدا بالحقّ بشيرا و نذيرا، إنّ الأبرار منّا أهل البيت و

شيعتهم بمنزلة موسى و شيعته، و إنّ عدوّنا و أشياعه بمنزلة فرعون و أشياعه».

ثمّ بيّن سبحانه كيف دبّر في إهلاك فرعون و قومه، منبّها بذلك على كمال

______________________________

(1) الدميم: الحقير القبيح المنظر.

(2) شمس يشمس شماسا: امتنع و أبى، و أبدى عداوته. و الناقة الضروس: السيّئة الخلق، تعضّ حالبها.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 139

قدرته و حكمته، فقال:

[سورة القصص (28): الآيات 7 الى 10]

وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى أَنْ أَرْضِعِيهِ فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِّ وَ لا تَخافِي وَ لا تَحْزَنِي إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ (7) فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ (8) وَ قالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ لا تَقْتُلُوهُ عَسى أَنْ يَنْفَعَنا أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (9) وَ أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (10)

وَ أَوْحَيْنا إِلى أُمِّ مُوسى و ألهمناها و قذفنا في قلبها. و عن الجبائي: كان هذا الوحي رؤيا منام. أَنْ أَرْضِعِيهِ ما أمكنك إخفاؤه فَإِذا خِفْتِ عَلَيْهِ من أن يأخذه بعض العيون المبثوثة من قبل فرعون في تطلّب الولدان و يقتلوه فَأَلْقِيهِ فِي الْيَمِ في البحر. يريد نيل مصر.

وَ لا تَخافِي عليه من ضياعه و وقوعه في يد بعض العيون وَ لا تَحْزَنِي أي: لفراقه، فإنّ الخوف غمّ يلحق الإنسان لمتوقّع، و الحزن غمّ يلحقه لواقع، و هو الفراق هاهنا. فنهيت عنهما جميعا، و أومنت بالوحي إليها، و وعدت ما يسلّيها، و يطمئن قلبها، و يملؤها غبطة و سرورا بهذا القول.

إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ سالما عن قريب بحيث تأمنين عليه وَ جاعِلُوهُ مِنَ الْمُرْسَلِينَ

زبدة التفاسير،

ج 5، ص: 140

و في هذه الآية أمران و نهيان، و خبران و بشارتان. و حكي أنّ بعضهم سمع بدويّة تنشد أبياتا فقال لها: ما أفصحك! فقالت: الفصاحة للّه تعالى، و ذكرت هذه الآية و ما فيها.

قيل: إنّه ذبح في طلب موسى تسعون ألف وليد.

و روي: أنّها لمّا ضربها الطلق دعت قابلة من الموكّلات بحبالى بني إسرائيل مصافية لها، فقالت لها: لينفعني حبّك اليوم، فعالجتها. فلمّا وقع موسى على الأرض هالها نور بين عينيه، و ارتعش كلّ مفصل منها، و دخل حبّه في قلبها. ثمّ قالت: ما جئتك إلّا لأقبل مولودك، و أخبر فرعون، و لكنّي وجدت لابنك حبّا ما وجدت مثله، فاحفظيه.

فلمّا خرجت جاء عيون فرعون، فلفّته في خرقة و وضعته في تنّور مسجور، لأنّها لم تعلم ما تصنع، لما طاش من عقلها. فطلبوا فلم يلقوا شيئا، و رأو أمّ موسى لم يتغيّر لها لون، و لم يظهر لها لبن، فخرجوا من عندها. و هي لا تدري مكانه، فسمعت بكاءه من التنّور، فانطلقت إليه، و قد جعل اللّه النار عليه بردا و سلاما.

فأرضعته ثلاثة أشهر، خيفة من الناس عليه.

ثمّ ألحّ فرعون في طلب المواليد، و اجتهد العيون في تفحّصها. فخافت على ابنها، فانطلقت إلى نجّار من قوم فرعون، فاشترت منه تابوتا: فقال النجّار: ما تصنعين بهذا التابوت؟ قالت: إنّ لي ابنا أخبؤه «1» في التابوت. و كرهت الكذب.

فلمّا اشترت التابوت و حملته، انطلق النجّار إلى الذبّاحين ليخبرهم بأمر امّ موسى، فلم يطق الكلام. فرجع و أخذ في النجر، فانطلق لسانه. فرجع ثانيا، فلمّا انتهى إليهم اعتقل لسانه. هكذا ثلاث مرّات، فعلم أنّ ذلك أمر إلهيّ.

______________________________

(1) خبأ الشي ء: ستره و أخفاه.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 141

ثمّ طليت

امّ موسى داخل التابوت بالقار «1»، فوضعت موسى فيه و ألقته في النّيل، و النيل جاء بالتابوت إلى موضع فيه فرعون و امرأته على النيل.

فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ أي: أصابوه و أخذوه من غير طلب لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا وَ حَزَناً. و قرأ حمزة و الكسائي: و حزنا. و هما لغتان، كالعدم و العدم. تعليل لالتقاطهم إيّاه بما هو عاقبته و مؤدّاه، تشبيها له بالغرض الحامل عليه. فمعنى التعليل فيها ورد على طريق المجاز دون الحقيقة، فإنّه لم يكن داعيهم إلى الالتقاط أن يكون لهم عدوّا و حزنا، و لكنّ المحبّة و التبنّي، إلّا أنّه لمّا كان ذلك نتيجة التقاطهم و ثمرته، شبّه بالداعي الّذي يفعل الفاعل الفعل لأجله، كالإكرام الّذي هو نتيجة المجي ء، و التأدّب الّذي هو ثمرة الضرب، في قولك: جئتك لتكرمني، و ضربته ليتأدّب. و تحريره: أنّ هذه اللام حكمها حكم الأسد، حيث استعيرت لما يشبه التعليل، كما يستعار الأسد لمن يشبه الأسد.

إِنَّ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ جُنُودَهُما كانُوا خاطِئِينَ في كلّ شي ء. فليس الخطأ ببدع منهم في أن قتلوا ألوفا لأجله، ثمّ أخذوه يربّونه ليكبر و يفعل بهم ما كانوا يحذرون. و الجملة معترضة لتأكيد خطئهم.

و قيل: المعنى: كانوا مذنبين، فعاقبهم اللّه تعالى بأن ربّى عدوّهم على أيديهم.

فتكون الجملة لبيان الموجب لما ابتلوا به.

روي: أنّهم حين التقطوا التابوت عالجوا فتحه فلم يقدروا عليه، فعالجوا كسره فأعياهم. فدنت آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، فرأت في جوف التابوت نورا، فعالجته ففتحته، فإذا بصبّي نوره بين عينيه، و هو يمصّ إبهامه لبنا، فألقى اللّه في قلبها محبّة موسى. و كانت لفرعون بنت برصاء من آسية، و قالت له الأطبّاء: لا تبرأ إلّا من قبل البحر، يوجد

فيه شبه إنسان دواؤها ريقه. فلطخت البرصاء برصها

______________________________

(1) القار و القير: مادّة سوداء تطلى بها السفن.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 142

بريقه فبرئت. و قيل: لمّا نظرت إلى وجهه برئت، فقالت: إنّ هذه لنسمة مباركة.

فهذا أحد ما عطفهم عليه. فقال الغواة من قومه: هو الصبيّ الّذي نحذر منه، فأذن لنا في قتله. فهمّ بذلك وَ قالَتِ امْرَأَتُ فِرْعَوْنَ لفرعون بعد أن سمعت هذا القول من الغواة، و فهمت همّه بقتله قُرَّتُ عَيْنٍ لِي وَ لَكَ هو قرّة عين لنا، لما شاهدنا منه، من نور بين عينيه، و ارتضاعه من إبهامه لبنا، و برء البرصاء بريقه.

و

في الحديث: «إنّ فرعون قال لامرأته عند هذا القول: لك لا لي. و لو قال:

هو لي، كما قال: هو لك، لهداه اللّه كما هداها».

و كانت آسية امرأة من بني إسرائيل استنكحها فرعون. و هي من خيار النساء، و من بنات الأنبياء. و كانت امّا للمؤمنين، ترحمهم و تتصدّق عليهم، و يدخلون عليها.

و روي: أنّ فرعون لمّا نظر إلى موسى غاظه ذلك، و قال: كيف أخطأ هذا الغلام الذبح؟ قالت آسية و هي قاعدة إلى جنبه: هذا الوليد أكبر من ابن سنة، و إنّما أمرت أن يذبح الولد لهذه السنة.

لا تَقْتُلُوهُ خطاب بلفظ الجمع للتعظيم. أو خطاب لفرعون و المأمورين بقتله. عَسى أَنْ يَنْفَعَنا فإنّ فيه مخايل اليمن و دلائل النفع أَوْ نَتَّخِذَهُ وَلَداً أو نتبنّاه، فإنّه أهل للتبنّي وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ حال من الملتقطين في قوله: «فَالْتَقَطَهُ آلُ فِرْعَوْنَ». أو من القائلة و المقول له، أي: و هم لا يشعرون أنّهم على الخطأ في التقاطه، أو في طمع النفع منه و التبنّي له.

وَ أَصْبَحَ فُؤادُ أُمِّ مُوسى فارِغاً صفرا من العقل، لما

دهمها من فرط الخوف و الجزع و الدهش، حين سمعت بوقوعه في يد فرعون، كقوله: وَ أَفْئِدَتُهُمْ هَواءٌ «1» أي: خلاء لا عقول فيها. و ذلك أنّ القلوب مراكز العقول، ألا ترى إلى

______________________________

(1) إبراهيم: 43.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 143

قوله تعالى: فَتَكُونَ لَهُمْ قُلُوبٌ يَعْقِلُونَ بِها «1».

و عن ابن عبّاس: معناه: خاليا من كلّ شي ء إلّا من ذكر موسى، أي: صار فارغا له.

و عن الحسن: فارغا من الوحي الّذي أوحي إليها بنسيانها، فإنّها نسيت ما وعدها اللّه تعالى به.

إِنْ كادَتْ لَتُبْدِي بِهِ إنّها كادت لتظهر بموسى، أي: بأمره و قصّته من فرط الضجر، أو الفرح لتبنّيه لَوْ لا أَنْ رَبَطْنا عَلى قَلْبِها بإلهام الصبر و الثبات، كما يربط على الشي ء المنفلت ليقرّ و يطمئنّ. أو لو لا أنّا طمأنّا قلبها، و سكّنّا قلقه الّذي حدث به من شدّة الفرح و الابتهاج، كادت لتبدي بأنّه ولدها، لأنّها لم تملك نفسها فرحا و سرورا بما سمعت من تبنّي فرعون إيّاه. فحذف جواب «لولا» لدلالة ما قبله عليه.

و قوله: لِتَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ علّة الربط، أي: فعل ذلك ليكون من المصدّقين بوعد اللّه، و هو قوله: «إِنَّا رَادُّوهُ إِلَيْكِ». أو من الواثقين بحفظه، لا بتبنّي فرعون و تعطّفه.

[سورة القصص (28): الآيات 11 الى 13]

وَ قالَتْ لِأُخْتِهِ قُصِّيهِ فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (11) وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ مِنْ قَبْلُ فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ وَ هُمْ لَهُ ناصِحُونَ (12) فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها وَ لا تَحْزَنَ وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (13)

______________________________

(1) الحجّ: 46.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 144

ثمّ ذكر سبحانه لطف صنعه في تسخيره لفرعون، حتّى تولّى تربية موسى عليه

السّلام، فقال: وَ قالَتْ امّ موسى لِأُخْتِهِ مريم. و عن الضحّاك: كلثمة.

قُصِّيهِ اتّبعي اثره، و تتبّعي خبره. فذهبت فوجدت آل فرعون أخرجوا التابوت و أخرجوا موسى. فَبَصُرَتْ بِهِ عَنْ جُنُبٍ عن جنابة، بمعنى: عن بعد وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ أنّها تقصّ، أو أنّها أخته. و إنّما كرّر هذا القول، تنبيها على أنّ فرعون لو كان إلها لكان يشعر بهذه الأمور.

وَ حَرَّمْنا عَلَيْهِ الْمَراضِعَ التحريم هنا استعارة للمنع، لأنّ من حرّم عليه الشي ء فقد منعه. فالمعنى: و منعناه أن يرتضع من ثدي المرضعات. جمع مرضع.

و هي المرأة الّتي ترضع. أو جمع مرضع. و هو الرضاع، أو موضعه، يعني: الثدي.

مِنْ قَبْلُ من قبل قصصها اثره.

فَقالَتْ هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى أَهْلِ بَيْتٍ يَكْفُلُونَهُ لَكُمْ لأجلكم. وَ هُمْ لَهُ ناصِحُونَ لا يقصّرون في إرضاعه و تربيته. و النصح إخلاص العمل من شائبة الفساد.

روي: أنّها لمّا قالت: «وَ هُمْ لَهُ ناصِحُونَ» قال هامان: إنّها لتعرفه و تعرف أهله، خذوها حتّى تخبر بحاله.

فقالت: إنّما أردت: و هم للملك ناصحون. فأمسكوا عنها.

فأمرها فرعون بأن تأتي بمن يكفله. فانطلقت إلى امّها فأخبرتها بأمرهم.

فأتت بها، و موسى على يد فرعون يبكي لطلب الرضاع، و هو يعلّله شفقة عليه.

فلمّا وجد ريح امّه استأنس و التقم ثديها.

فقال لها: من أنت منه، فقد أبى كلّ ثدي إلّا ثديك؟

فقالت: إنّي امرأة طيّبة الريح، طيّبة اللبن، لا أوتى بصبي إلّا قبلني.

فدفعه إليها، و أجرى عليها. فرجعت به إلى بيتها من يومها.

فأنجز اللّه وعده في الردّ. و هو قوله تعالى: فَرَدَدْناهُ إِلى أُمِّهِ كَيْ تَقَرَّ عَيْنُها

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 145

بولدها وَ لا تَحْزَنَ بفراقه وَ لِتَعْلَمَ أَنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌ علم مشاهدة، فعند ذلك ثبت و استقرّ في علمها أن سيكون

نبيّا وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ أنّ وعد اللّه حقّ فيرتابون فيه. أو أنّ الغرض الأصلي من الردّ علمها بذلك، و ما سواه- من قرّة العين، و ذهاب الحزن- تبع له.

و فيه شبه تعريض بما فرط منها حين سمعت بوقوعه في يد فرعون، فجزعت و أصبح فؤادها فارغا.

[سورة القصص (28): الآيات 14 الى 19]

وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ اسْتَوى آتَيْناهُ حُكْماً وَ عِلْماً وَ كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (14) وَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ هذا مِنْ شِيعَتِهِ وَ هذا مِنْ عَدُوِّهِ فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ إِنَّهُ عَدُوٌّ مُضِلٌّ مُبِينٌ (15) قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي فَاغْفِرْ لِي فَغَفَرَ لَهُ إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (16) قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ (17) فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ خائِفاً يَتَرَقَّبُ فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ (18)

فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما قالَ يا مُوسى أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ إِنْ تُرِيدُ إِلاَّ أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ وَ ما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ (19)

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 146

وَ لَمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ مبلغه الّذي لا يزيد عليه نشؤه. و ذلك من ثلاثين إلى أربعين سنة، فإنّ العقل يكمل حينئذ. و روي: أنّه لم يبعث نبيّ إلّا على رأس الأربعين. وَ اسْتَوى و اعتدل قدّه، و تمّ استحكام عقله، بحيث لا يزاد عليه آتَيْناهُ حُكْماً نبوّة وَ عِلْماً بالدين، من أحكام التوراة، و سنن الأنبياء و حكمهم. أو علم الحكماء و العلماء و سمتهم قبل استنبائه، فلا يقول و لا يفعل

ما يستجهل فيه. و هذا أوفق لنظم القصّة، لأنّ استنباءه بعد الهجرة في المراجعة.

وَ كَذلِكَ مثل ذلك الّذي فعلنا بموسى و امّه نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ على إحسانهم.

وَ دَخَلَ الْمَدِينَةَ دخل مصرا آتيا من قصر فرعون. و قيل: مدينة منف «1» من أرض مصر. أو اسكندريّة. أو عين شمس من نواحيها. عَلى حِينِ غَفْلَةٍ مِنْ أَهْلِها في وقت لا يعتاد دخولها، و لا يتوقّعونه فيه. و قيل: كان ذلك بين العشاءين. و قيل:

وقت القيلولة. و قيل: يوم عيد لهم، و هم مشتغلون فيه بلهوهم.

و قيل: لمّا شبّ و عقل أخذ يتكلّم بالحقّ و ينكر عليهم، فأخافوه، فلا يدخل قرية إلّا على تغفّل.

و عن السدّي: أنّه كان موسى حين كبر يركب في مواكب فرعون، فلمّا جاء ذات يوم قيل له: إنّ فرعون قد ركب، فركب في أثره، فلمّا كان وقت القائلة دخل المدينة ليقيل.

و عن ابن إسحاق: إنّ بني إسرائيل كانوا يجتمعون إلى موسى، و يسمعون كلامه، و لمّا بلغ أشدّه خالف قوم فرعون، فاشتهر ذلك منه، فأخافوه، فكان لا يدخل مصر إلّا خائفا، فدخلها على حين غفلة.

______________________________

(1) كذا في النسخة الخطّيّة، و لعلّها منوف. و في معجم البلدان (5/ 216): منوف: من قرى مصر القديمة.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 147

و عن ابن زيد: إنّ فرعون أصرّ بإخراجه من البلد، فلم يدخل إلّا الآن.

فَوَجَدَ فِيها رَجُلَيْنِ يَقْتَتِلانِ يختصمان في أمر الدنيا. و عن الجبائي: في أمر الدين. هذا مِنْ شِيعَتِهِ ممّن شايعه على دينه من بني إسرائيل. و قيل: هو السامريّ. وَ هذا مِنْ عَدُوِّهِ ممّن خالفه في الدين، من القبط. و هو فاتون. و كان يتسخّر الإسرائيليّ لحمل الحطب إلى مطبخ فرعون. و الإشارة على سبيل الحكاية.

فَاسْتَغاثَهُ استنصره

الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ فسأله أن يغيثه بالإعانة. و لذلك عدّي ب «على».

روى أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «ليهنئكم «1» الاسم. قال، قلت:

و ما الاسم؟ قال: الشيعة. أما سمعت اللّه سبحانه يقول: فَاسْتَغاثَهُ الَّذِي مِنْ شِيعَتِهِ عَلَى الَّذِي مِنْ عَدُوِّهِ .

فَوَكَزَهُ مُوسى فضرب القبطيّ في صدره بجمع كفّه، حين قبضها بأطراف الأصابع لتخليص من قصد إليه.

فَقَضى عَلَيْهِ فقتله. و أصله: فأنهى حياته. من قوله تعالى: وَ قَضَيْنا إِلَيْهِ ذلِكَ الْأَمْرَ «2» أي: أنهيناه إليه، و أبلغناه ذلك. يقال: قضيت عليه و قضيته، إذا فرغت منه و أتممته. و المراد: أنّ تخليص السبطي من يد القبطي أدّى إلى قتل القبطي. و لا شبهة أنّ كلّ ألم يقع على الظالم على سبيل المدافعة، من غير أن يكون مقصودا لذاته، فهو حسن غير موصوف بالقبح.

قالَ هذا مِنْ عَمَلِ الشَّيْطانِ أي: بسببه، حتّى هيّج غضبي، بحيث سلب عنّي اختياري، فضربته بالوكزة الشديدة فقتل.

و قيل: إنّ موسى لم يؤمر بقتل الكفّار يومئذ، لأنّ الحال كانت مقتضية للكفّ

______________________________

(1) أي: ليسرّكم. و العرب تقول: ليهنئك الولد. و معناه: ليسرّك.

(2) الحجر: 66.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 148

عن القتال. و هو عند فرط الغضب لأجل العصبيّة الدينيّة ذهل عن هذا، فأسند ذهوله عنه إلى الشيطان.

و ذكر علم الهدى قدّس سرّه في توجيهه وجهين:

«أحدهما: أنّه أراد أن تزيين قتلي له، و تركي لما ندبت إليه من تأخيره، و تفويتي ما استحقّه عليه من الثواب، من عمل الشيطان.

و الآخر: أنّه يريد أنّ عمل المقتول من عمل الشيطان. يبيّن موسى عليه السّلام بذلك أنّه مخالف للّه، و مستحقّ للقتل» «1».

ثمّ ذمّ الشيطان بقوله: إِنَّهُ عَدُوٌّ لبني آدم مُضِلٌّ مُبِينٌ

ظاهر الإضلال و العداوة.

ثمّ حكى سبحانه أنّ موسى حين قتل القبطيّ ندم على ترك فعل الندب، فقال: قالَ رَبِّ إِنِّي ظَلَمْتُ نَفْسِي بقتله، فإنّهم لو علموا بذلك لقتلوني فَاغْفِرْ لِي فاقبل منّي الانقطاع إليك، و القربة و الطاعة إليك، و لا تحرمني عن الثواب الّذي يترتّب على فعل الندب. كما قال المرتضى قدّس سرّه: «إنّما قاله على سبيل الانقطاع إلى اللّه تعالى، و الاعتراف بالتقصير عن حقوق نعمه، أو من حيث إنّه حرّم نفسه الثواب المستحقّ بفعل الندب» «2». أو المعنى: فاسترني عن نظر أعدائي، كيلا يقتلوني لأجل إعانتي أولياءك، فإنّ الغفران بمعنى الستر.

فَغَفَرَ لَهُ فقبل منه هذا الانقطاع، و أعطاه ثواب فعل الندب، أو صرف عنه كيد الأعداء إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ لعباده الرَّحِيمُ بهم، المنعم عليهم.

قالَ رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَ قسم محذوف الجواب، أي: أقسم بإنعامك عليّ بالمغفرة و غيرها، لأتوبنّ عن ترك الندب فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ معينا

______________________________

(1) تنزيه الأنبياء: 68.

(2) تنزيه الأنبياء: 68.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 149

و مظاهرا للمشركين. أو استعطاف، كأنّه قال: ربّ اعصمني عن الأعداء، أو قبل انقطاعي إليك، بحقّ ما أنعمت عليّ من المغفرة، فلن أكون إن عصمتني ظهيرا للمجرمين.

و قيل: معناه: بما أنعمت عليّ من القوّة، فلن استعملها إلّا في مظاهرة أوليائك و أهل طاعتك، و لا أدع قبطيّا يغلب أحدا من بني إسرائيل.

و في هذا دلالة على أنّ مظاهرة المجرمين جرم و معصية، و مظاهرة المؤمنين طاعة. و إنّما ظاهر موسى من كان ظاهر الإيمان، و خالف و نازع من كان ظاهر الكفر.

و عن عطاء بن أبي رباح: أنّ رجلا قال له: إنّ أخي يكتب لفلان، و لا يزيد على كتبه دخله و خرجه، فإن أخذ منه

أجرا كان له غنى، و إن لم يأخذ اشتدّ فقره و فقر عياله. فقال عطاء: أما سمعت قول الرجل الصالح: «رَبِّ بِما أَنْعَمْتَ عَلَيَّ فَلَنْ أَكُونَ ظَهِيراً لِلْمُجْرِمِينَ».

و في الحديث: «ينادي مناد يوم القيامة: أين الظلمة و أشباه الظلمة و أعوان الظلمة؟ حتّى من لاق لهم دواة، أو برى «1» لهم قلما، فيجمعون في تابوت من حديد فيرمى به في جهنّم».

فَأَصْبَحَ فِي الْمَدِينَةِ في اليوم الثاني خائِفاً من قتل القبطي يَتَرَقَّبُ يترصّد الاستقادة منه. و عن ابن عبّاس: ينتظر ما يقال فيه من قتل القبطي. يعني: أنّه خاف من فرعون و قومه أن يكونوا عرفوا أنّه هو الّذي قتل القبطي، فكان يتجسّس في شأنه.

فَإِذَا الَّذِي اسْتَنْصَرَهُ بِالْأَمْسِ يَسْتَصْرِخُهُ يستغيثه. مشتقّ من الصراخ. قال ابن عبّاس: لمّا فشا أمر القتل قيل لفرعون: إنّ بني إسرائيل قتلوا منّا رجلا. قال:

______________________________

(1) برى القلم: نحته.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 150

زبدة التفاسير ج 5 205

أ تعرفون قاتله؟ و من يشهد عليه؟ قالوا: لا. فأمرهم بطلبه. فبينا هم يطوفون إذ مرّ موسى من الغد، و أتى ذلك الإسرائيلي يطلب نصرته و يستغيث به.

قالَ لَهُ مُوسى إِنَّكَ لَغَوِيٌّ مُبِينٌ بيّن الغواية، لأنّك تسبّبت لقتل رجل و تقاتل آخر، فإنّ من خاصم آل فرعون مع كثرتهم فإنّه غويّ، أي: خائب فيما يطلبه، عادل عن الصواب فيما يقصده.

فَلَمَّا أَنْ أَرادَ أَنْ يَبْطِشَ أن يأخذ بشدّة بِالَّذِي هُوَ عَدُوٌّ لَهُما لموسى و الإسرائيلي. يعني: القبطي، فإنّه لم يكن على دينهما، و لأنّ القبط كانوا أعداء بني إسرائيل. قالَ يا مُوسى أَ تُرِيدُ أَنْ تَقْتُلَنِي كَما قَتَلْتَ نَفْساً بِالْأَمْسِ

عن ابن عبّاس و أكثر المفسّرين: أنّ قائل هذا القول الاسرائيلي، لأنّه لمّا سمّاه غويّا ظنّ أن

يبطش به.

و عن الحسن: أنّه القبطي، لأنّه قد اشتهر أمر القتل بالأمس، و أنّه قتله بعض بني إسرائيل، فيؤدّي ذهنه إلى أنّه أراد أن يبطش به. أو اشتهر أنّ الّذي قتل القبطيّ بالأمس لهذا الإسرائيلي.

إِنْ تُرِيدُ ما تريد إِلَّا أَنْ تَكُونَ جَبَّاراً فِي الْأَرْضِ تطاول على الناس، و تفعل ما تريد من الضرب و القتل ظلما و عدوانا، و لا تدفع بالّتي هي أحسن، و لا تنظر في العواقب. و قيل: المتعظّم الّذي لا يتواضع لأمر اللّه.

وَ ما تُرِيدُ أَنْ تَكُونَ مِنَ الْمُصْلِحِينَ بين الناس، فتدفع التخاصم بالّتي هي أحسن.

[سورة القصص (28): الآيات 20 الى 24]

وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ يَسْعى قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ يَأْتَمِرُونَ بِكَ لِيَقْتُلُوكَ فَاخْرُجْ إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ (20) فَخَرَجَ مِنْها خائِفاً يَتَرَقَّبُ قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (21) وَ لَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ قالَ عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ (22) وَ لَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وَجَدَ عَلَيْهِ أُمَّةً مِنَ النَّاسِ يَسْقُونَ وَ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ قالَ ما خَطْبُكُما قالَتا لا نَسْقِي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ وَ أَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ (23) فَسَقى لَهُما ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِّ فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ فَقِيرٌ (24)

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 151

و لمّا قال هذا انتشر الحديث، و ارتقى إلى فرعون و ملئه، و همّوا بقتله، فخرج مؤمن آل فرعون. و هو حزقيل ابن عمّ فرعون. و قيل: اسمه شمعون. و قيل:

سمعان. فأتاه ليخبره كما قال: وَ جاءَ رَجُلٌ مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ من آخر مصر يَسْعى يسرع في المشي حتّى سبقهم إلى موسى. و هذا صفة ل «رجل». أو حال منه، إذا جعل «مِنْ أَقْصَى الْمَدِينَةِ» صفة له، لأنّ تخصيصه بها

يلحقه بالمعارف. و إذا جعل صلة ل «جاء» لم يجز إلّا الوصف.

قالَ يا مُوسى إِنَّ الْمَلَأَ الأشراف من آل فرعون يَأْتَمِرُونَ بِكَ يتشاورون بسببك لِيَقْتُلُوكَ و إنّما سمّى التشاور ائتمارا، لأنّ كلّا من المتشاورين يأمر الآخر و يأتمر. فَاخْرُجْ من أرض مصر إِنِّي لَكَ مِنَ النَّاصِحِينَ في هذا.

و اللام للبيان. و ليس صلة للناصحين، لأنّ معمول الصلة لا يتقدّم الموصول.

ثمّ بيّن سبحانه خروج موسى من مصر إلى مدين، فقال: فَخَرَجَ مِنْها من مدينة فرعون خائِفاً يَتَرَقَّبُ لحوق طالب في الطريق قالَ رَبِّ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ خلّصني منهم، و احفظني من لحوقهم.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 152

روي: أنّ موسى عليه السّلام خرج بغير زاد و لا ماء و لا حذاء، و كان لا يأكل إلّا من حشيش الصحراء، فما وصل مدين حتّى سقط خفّ قدمه.

وَ لَمَّا تَوَجَّهَ تِلْقاءَ مَدْيَنَ صرف وجهه إلى جهتها. و هي قرية شعيب عليه السّلام.

سمّيت باسم مدين بن إبراهيم، و لم تكن في سلطان فرعون. و كان بينها و بين مصر مسيرة ثمانية أيّام.

و عن ابن عبّاس: خرج موسى متوجّها نحو مدين، و ليس له علم بالطريق إلّا حسن ظنّه بربّه، و لهذا قالَ توكّلا على اللّه عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي يرشدني سَواءَ السَّبِيلِ الطريق السويّ، أي: وسطه المؤدّي إلى مدين.

روي: أنّه عنّ له ثلاث طرق، فأخذ في أوسطها، فإنّ الأخذ يمينا و شمالا تباعد عن طريق الصواب. و لهذا قال: سواء الطريق. قيل: جاء الطلّاب عقيبه، فأخذوا في الآخرين.

و روي: أنّه جاء ملك على فرس بيده عنزة، فانطلق به إلى مدين.

وَ لَمَّا وَرَدَ ماءَ مَدْيَنَ وصل إليه. و هو بئر كانوا يسقون منها. وَجَدَ عَلَيْهِ وجد فوق شفيرها و مستقاها أُمَّةً

جماعة كثيرة مِنَ النَّاسِ من أناس مختلفين يَسْقُونَ مواشيهم وَ وَجَدَ مِنْ دُونِهِمُ في مكان أسفل من مكانهم امْرَأَتَيْنِ تَذُودانِ تمنعان أغنامهما عن الماء، لئلّا تختلط بأغنامهم. أو لأنّ على الماء من هو أقوى منهما، فلا يتمكّنان من السقي، فينتظران خلوّ مكان السقي عنهم. أو لكراهتهما المزاحمة على الماء. أو تذودان عن وجوههما نظر الناظر، لتستّرهما.

قالَ ما خَطْبُكُما ما شأنكما تذودان؟ و حقيقته: ما مخطوبكما؟ أي:

مطلوبكما من الذياد. كما سمّي المشؤن شأنا في قولك: ما شأنك؟ يقال: شأنت شأنه، أي: قصدت قصده.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 153

قالَتا إنّا امرأتان ضعيفتان مستورتان، لا نقدر على مساجلة «1» الرجال و مزاحمتهم، و ما لنا رجل يقوم بذلك، فلأجل ذلك لا نَسْقِي أي: نؤخّر السقي حَتَّى يُصْدِرَ الرِّعاءُ تصرف الرعاة مواشيهم عن الماء. و حذف المفعول، لأنّ الغرض هو بيان ما يدلّ على عفّتهما، و يدعوه إلى السقي لهما. و الرعاء: اسم جمع، كالرخال للأناثى من أولاد الضأن. و الجمع الرعاء بالكسر. و قرأ أبو عمرو و ابن عامر: يصدر، أي: ينصرف.

وَ أَبُونا شَيْخٌ كَبِيرٌ كبير السنّ، قد أضعفه الكبر، فلا يستطيع أن يخرج للسقي، فيرسلنا اضطرارا. و فيه تعريض للطلب من موسى أن يعينهما على السقي.

و قيل: إنّما قالتا ذلك اعتذارا إلى موسى في الخروج بغير محرم.

فَسَقى لَهُما مواشيهما رحمة عليهما.

و روي: أنّ الرعاة كانوا يضعون على رأس البئر حجرا، لا يقلّه إلّا سبعة رجال- و قيل: عشرة، و قيل: أربعون، و قيل: مائة- فأقلّه وحده، مع ما كان به من الوصب و الجوع و جراحة القدم.

و روي: أنّه سألهم دلوا من ماء، فأعطوه دلوهم و قالوا: استق بها لو أمكنك.

و كانت لا ينزعها إلّا أربعون. فاستقى بها،

و صبّها في الحوض، و دعا بالبركة، و روّى غنمهما و أصدرهما. و روي: أنّه دفعهم عن الماء حتّى سقى لهما.

و قيل: كانت بئرا اخرى عليها الصخرة، فرفعها فاستقى منها. و إنّما فعل هذا رغبة في المعروف، و إغاثة للملهوف. ثُمَّ تَوَلَّى إِلَى الظِّلِ ظلّ شجرة، فجلس تحتها من شدّة الحرّ و هو جائع فَقالَ رَبِّ إِنِّي لِما لأيّ شي ء أَنْزَلْتَ إِلَيَّ مِنْ خَيْرٍ

______________________________

(1) السجل: الدلو إذا كان فيه ماء. و ساجله مساجلة: باراه و فاخره و عارضه في قول أو عمل.

و المعنى: لا نقدر على معارضة الرجال و مزاحمتهم.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 154

قليل أو كثير فَقِيرٌ محتاج. عدّي «فقير» ب «إلى»، إلّا أنّه عدّي هاهنا باللام، لأنّه ضمّن معنى: سائل و طالب.

و

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «و اللّه ما سأله إلّا خبزا يأكله، لأنّه كان يأكل بقلة الأرض، و لقد كانت خضرة البقلة ترى من شفيف «1» صفاق بطنه، لهزاله، و تشذّب لحمه».

و عن ابن عبّاس: ما سأل نبيّ اللّه إلّا خبزا يقيم به صلبه.

و قيل: معناه: إنّي فقير من الدنيا، لأجل ما أنزلت إليّ من خير الدارين، و هو النجاة من الظالمين، لأنّه كان عند فرعون في ملك و ثروة، فقال ذلك رضا بالبدل السنيّ، و فرحا به، و شكرا له. و كان الظلّ ظلّ شجرة.

و روي: أنّهما لمّا رجعتا إلى أبيهما قبل الناس، و أغنامهما حفّل «2» بطان، قال لهما: ما أعجلكما؟ قالتا: وجدنا رجلا صالحا رحمنا فسقى لنا. فقال:

[سورة القصص (28): الآيات 25 الى 28]

فَجاءَتْهُ إِحْداهُما تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا فَلَمَّا جاءَهُ وَ قَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (25) قالَتْ إِحْداهُما يا أَبَتِ

اسْتَأْجِرْهُ إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُّ الْأَمِينُ (26) قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي ثَمانِيَ حِجَجٍ فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً فَمِنْ عِنْدِكَ وَ ما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (27) قالَ ذلِكَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ قَضَيْتُ فَلا عُدْوانَ عَلَيَّ وَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ وَكِيلٌ (28)

______________________________

(1) الشفيف: ما رقّ فظهر ما وراءه. و الصفاق: الجلد الأسفل الذي يمسك البطن. و تشذّب لحمه: تفرّق.

(2) الحفّل جمع حافل. يقال: ضرع حافل، أي: ممتلئ لبنا. و البطان من: بطن يبطن بطنا، إذا عظم بطنه من الشبع.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 155

فَجاءَتْهُ إِحْداهُما و هي كبراهما على رواية وهب. و اسمها صفوراء أو صفراء. و الأصحّ أنّها صغراهما، و اسمها صفيراء. تَمْشِي عَلَى اسْتِحْياءٍ في موضع الحال، أي: مستحية متخفّرة، أي: شديدة الحياء. و قيل: قد استترت بكمّ درعها.

قالَتْ إِنَّ أَبِي يَدْعُوكَ لِيَجْزِيَكَ ليكافئك أَجْرَ ما سَقَيْتَ لَنا جزاء سقيك غنمنا.

و روي: أنّ موسى أجابها ليتبرّك برؤية الشيخ، و يستظهر بمعرفته، لا طمعا في الأجر، لما نقل أنّه لمّا جاءه و أخبره قصّته، و عرّفه أنّه من بيت النبوّة من أولاد يعقوب، قدّم إليه طعاما فامتنع عنه، و قال: إنّا أهل بيت لا نبيع ديننا بالدنيا. قال شعيب: هذه عادتنا مع كلّ من ينزل بنا، و أنّ من فعل معروفا و أهدي بشي ء لم يحرم أخذه.

فَلَمَّا جاءَهُ وَ قَصَّ عَلَيْهِ الْقَصَصَ هو مصدر كالعلل، سمّي به المقصوص.

و المعنى: حدّث شعيبا ما حدث من قتل القبطي، و أنّهم يطلبونه ليقتلوه قصاصا.

قالَ لا تَخَفْ نَجَوْتَ مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ يريد: فرعون و قومه. فلا سلطان له بأرضنا، و لسنا في مملكته.

زبدة التفاسير،

ج 5، ص: 156

قالَتْ إِحْداهُما يعني: الّتي استدعته يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ اتّخذه أجيرا لرعي الغنم. ثمّ بيّنت علّة جامعة و دليلا واضحا على أنّه حقيق بالاستئجار، فقالت: إِنَّ خَيْرَ مَنِ اسْتَأْجَرْتَ الْقَوِيُ في العمل الْأَمِينُ فيما استودع. فجعل «خير» اسما، و «القويّ الأمين» خبرا، دون العكس، مبالغة و عناية. و ذكر الفعل بلفظ الماضي، للدلالة على أنّه امرؤ مجرّب معروف.

روي: أنّ شعيبا قال لها: و ما أعلمك بقوّته و أمانته؟ قالت: أمّا قوّته فلأنّه رفع الحجر العظيم الّذي لا يرفعه إلّا جماعة كثيرة. و أمّا أمانته فإنّه أطرق رأسه حتّى بلّغته رسالتك. و قال لي في الطريق: امشي خلفي فأنا أكره أن تصيب الريح ثيابك، فتصف لي عجزك.

و لمّا ذكرت من حاله ما ذكرت، زاده ذلك رغبة فيه قالَ إِنِّي أُرِيدُ أَنْ أُنْكِحَكَ إِحْدَى ابْنَتَيَّ هاتَيْنِ عَلى أَنْ تَأْجُرَنِي من: أجرته إذا كنت له أجيرا، كقولك: أبوته إذا كنت له أبا، أي: تكون لي أجيرا ثَمانِيَ حِجَجٍ في ثماني سنين. أو من: أجرته كذا إذا أثبته إيّاه. و حينئذ «ثماني حجج» كان مفعولا به على حذف مضاف، أي:

على أن تثيبني رعية ثماني حجج. و منه تعزية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «آجركم اللّه و رحمكم» أي: يثيبكم أجركم و جزاءكم. و منه: المأجور بمعنى المثاب.

يعني: على أن تجعل جزائي و ثوابي إيّاك، على أن أنكحك إحدى ابنتيّ، أن ترعى لي ثماني سنين. و لم يلزم منه أنه زوّجه إحدى ابنتيه من غير تعيين، كما هو المتبادر من الآية، لأنّ ذلك لم يكن عقدا للنكاح، بل مواعدة. و لو كان عقدا لقال:

قد أنكحتك، و لم يقل: إنّي أريد أن أنكحك. فالمعنى: أنّ شعيبا

بعد تلك المواعدة عيّن إحدى ابنتيه، و كانت هي الصغرى على الأصحّ، فزوّجها من موسى باستئجار المدّة المذكورة.

و لمّا منع أبو حنيفة أن يتزوّج امرأة بأن يخدمها سنة مثلا، بل لا بدّ عنده من

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 157

تسليم ما هو مال، لم يجعل هذا الاستئجار مهرا، بل شرط ذلك في النكاح، و جعل المهر شيئا آخر ماليّا.

و الأوّل أصحّ و أوفق لظاهر الآية، و موافق لمذهبنا و مذهب الشافعي. مع أنّه يمكن اختلاف الشرائع في ذلك.

فَإِنْ أَتْمَمْتَ عَشْراً عمل عشر حجج فَمِنْ عِنْدِكَ فإتمامه من عندك تفضّلا، لا من عندي إلزاما عليك. يعني: لا ألزمكه، و لا أحتّمه عليك، و لكنّك إن فعلته فهو منك تفضّل و تبرّع، و إلّا فلا عليك. كما قال: وَ ما أُرِيدُ أَنْ أَشُقَّ عَلَيْكَ بإلزام إتمام الأجلين و إيجابه عليك. أو المناقشة في استيفاء الأعمال و إتمام العشرة.

و قيل: معناه: أن أكلّفك خدمة سوى رعي الغنم، لأنّه خارج عن الشرط.

و اشتقاق المشقّة من الشقّ، فإنّ ما يصعب عليك يشقّ عليك اعتقادك في إطاقته، و رأيك في مزاولته باثنين، تقول تارة: أطيقه، و تارة لا أطيقه.

سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّالِحِينَ في حسن المعاملة، و لين الجانب، و الوفاء بالمعاهدة. و المراد باشتراط مشيئة اللّه فيما وعد من الصلاح: الاتّكال على توفيقه فيه و معونته، لا أنّه يستعمل الصلاح إن شاء اللّه، و إن شاء استعمل خلافه.

قالَ أي: قال موسى لشعيب ذلِكَ الّذي عاهدتني فيه بَيْنِي وَ بَيْنَكَ قائم بيننا لا نخرج عنه أَيَّمَا الْأَجَلَيْنِ «ما» زائدة، أي: أيّ أجل من الأجلين:

أطولهما الّذي هو العشر، أو أقصر هما الّذي هو الثمان قَضَيْتُ وفيتك إيّاه، و أتممت و فرغت منه

فَلا عُدْوانَ عَلَيَ لا يعتدي عليّ في طلب الزيادة عليه. و لمّا كان المعنى: كما أنّي إن طولبت بالزيادة على العشر كان عدوانا لا شكّ فيه، فكذلك إن طولبت بالزيادة على الثمان. فلا يقال: تصوّر العدوان إنّما هو في أحد الأجلين الّذي هو الأقصر، و هو المطالبة بتتمّة العشر، فما معنى تعليق العدوان بهما جميعا؟

و الحاصل: أنّ موسى عليه السّلام أراد بذلك تقرير الخيار، و أنّه ثابت مستقرّ، و أنّ الأجلين على السواء: إمّا هذا و إمّا هذا، من غير تفاوت بينهما في القضاء. و أمّا

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 158

التتمّة فموكولة إلى رأيي، إن شئت أتيت بها، و إلّا لم أجبر عليها.

و قيل: معناه: فلا أكون معتديا بترك الزيادة عليه، كقولك: لا إثم عليّ، و لا تبعة عليّ. و هو أبلغ في إثبات الخيرة.

روى الواحدي بالإسناد عن ابن عبّاس قال: «سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أيّ الأجلين قضى موسى؟ قال: أوفاهما و أبطأهما» «1».

و

بالإسناد عن أبي ذرّ قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا سئلت أيّ الأجلين قضى موسى؟ فقل: خيرهما و أبرّهما، و إن سئلت أيّ المرأتين تزوّج؟ فقل: الصغرى منهما. و هي الّتي جاءت فقالت: يا أَبَتِ اسْتَأْجِرْهُ «2».

و كذلك

روى الحسين بن سعيد، عن صفوان، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سئل أيّتها الّتي قالت: إنّ أبي يدعوك؟ قال: الّتي تزوّج بها. قال: فأيّ الأجلين قضى؟

قال: أوفاهما و أبعدهما عشر سنين. ثمّ قيل: فدخل بها قبل أن يمضي الشرط أو بعد انقضائه؟ قال: قبل أن ينقضي. قيل له: فالرجل يتزوّج المرأة و يشترط لأبيها إجارة شهرين، أ يجوز له أن يدخل

بها قبل انقضاء الشهر؟ قال: إنّ موسى علم أنّه سيتمّ له شرطه. قيل: كيف؟ قال: إنّه علم سيبقى حتّى يفي».

وَ اللَّهُ عَلى ما نَقُولُ من المشارطة وَكِيلٌ الّذي وكل إليه الأمر. و لمّا استعمل في موضع الشاهد و المهيمن و المقيت «3» عدّي ب «على». و المعنى: و اللّه على ما نقول شاهد حفيظ.

روي: لمّا زوّجها شعيب من موسى، أمر أن يعطى موسى عصا يدفع السباع عن غنمه بها، فأعطي العصا.

______________________________

(1) تفسير الوسيط 3: 397، و فيه: أوفاهما و أطيبهما.

(2) تفسير الوسيط 3: 397- 398.

(3) المقيت: الحافظ للشي ء، و الشاهد له، و المقتدر، كالّذي يعطي كلّ أحد قوته. من: قات يقوت قوتا.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 159

و قيل: إنّ شعيبا كانت عنده عصيّ الأنبياء عليهم السّلام، فقال لموسى عليه السّلام بالليل:

ادخل ذلك البيت فخذ عصا من تلك العصيّ. فأخذ عصا هبط بها آدم عليه السّلام من الجنّة، و لم يزل الأنبياء يتوارثونها حتّى وقعت إلى شعيب، فمسّها و كان مكفوفا، فضنّ بها.

فقال: غيرها، أي: خذ غيرها. فما وقع في يده إلّا هي سبع مرّات، فعلم أنّ له شأنا.

و قيل: أخذها جبرئيل بعد موت آدم، فكانت معه حتّى لقي بها موسى ليلا.

و قيل: أودعها في يد شعيب ملك في صورة رجل، فدفعها إلى موسى. ثمّ ندم، لأنّها وديعة، فتبعه ليستردّها، فضنّا بها، و رضيا أن يحكم بينهما أوّل طالع.

فأتاهما الملك فقال: ألقياها فمن رفعها فهي له. فعالجها الشيخ فلم يطقها، و رفعها موسى.

و عن الحسن: ما كانت إلّا عصا من شجر اعترضها اعتراضا. و عن الكلبي:

من شجرة العوسج.

و

روى عبد اللّه بن سنان قال: سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: «كانت عصا موسى قضيب آس من الجنّة،

أتاه به جبرئيل لمّا توجّه تلقاء مدين».

و روي: أنّ شعيبا لمّا أرسل موسى إلى المرعى مع الأغنام، قال له: إذا بلغت مفرق الطريق فلا تأخذ على يمينك، فإنّ الكلأ و إن كان بها أكثر، إلّا أنّ فيها تنّينا، أخشاه عليك و على الغنم. فأخذت الغنم ذات اليمين، و لم يقدر على كفّها. فمشى على أثرها فإذا عشب و ريف لم ير مثله، فنام فإذا بالتنّين قد أقبل، فحاربته العصا حتّى قتلته و عادت إلى جنب موسى، فلمّا أبصرها دامية و التنّين مقتولا ارتاح لذلك. و لمّا رجع إلى شعيب مسّ الغنم، فوجدها ملأى البطون غزيرة اللبن. فأخبره موسى، ففرح و علم أنّ لموسى و العصا شأنا. و قال له: إنّي وهبت لك من نتاج غنمي هذا العام كلّ أدرع «1» و درعا. فأوحي إليه في المنام: أن اضرب بعصاك

______________________________

(1) درع الفرس و غيره: اسودّ رأسه، و ابيضّ سائره. فهو أدرع. و الأنثى: درعاء.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 160

مستقى الغنم، ففعل. ثمّ سقى فما أخطأت واحدة إلّا وضعت أدرع و درعاء. فوفى له بشرطه.

[سورة القصص (28): الآيات 29 الى 35]

فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ وَ سارَ بِأَهْلِهِ آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ أَوْ جَذْوَةٍ مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ (29) فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (30) وَ أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌّ وَلَّى مُدْبِراً وَ لَمْ يُعَقِّبْ يا مُوسى أَقْبِلْ وَ لا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ (31) اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ وَ اضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ مِنَ الرَّهْبِ فَذانِكَ بُرْهانانِ مِنْ

رَبِّكَ إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (32) قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ (33)

وَ أَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً يُصَدِّقُنِي إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ (34) قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ وَ نَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما بِآياتِنا أَنْتُما وَ مَنِ اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ (35)

فَلَمَّا قَضى مُوسَى الْأَجَلَ و هو أقصى الأجلين، و مكث عند شعيب عشرا

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 161

أخر، ثمّ استأذنه في العود إلى مصر ليزور و والديه و أخاه، فأذن له.

وَ سارَ بِأَهْلِهِ فأخذ على غير الطريق مخافة ملوك الشام، و امرأته في شهرها. فسار في البرّيّة غير عارف بالطريق، فألجأه المصير إلى جانب الطور الأيمن، في ليلة شديدة البرودة، و أخذ امرأته الطلق، و ضلّ الطريق، و تفرّقت ماشيته، و أصابه المطر، فبقي لا يدري أين يتوجّه، فبينا هو كذلك آنَسَ مِنْ جانِبِ الطُّورِ ناراً أبصرها من الجهة الّتي تلي الطور.

قالَ لِأَهْلِهِ امْكُثُوا إِنِّي آنَسْتُ ناراً لَعَلِّي آتِيكُمْ مِنْها بِخَبَرٍ بخبر الطريق أَوْ جَذْوَةٍ عود غليظ، سواء كان في رأسه نار أو لم يكن. و لهذا بيّنه بقوله: مِنَ النَّارِ لَعَلَّكُمْ تَصْطَلُونَ تستدفئون بها. و قرأ عاصم بفتح الجيم، و حمزة بالضمّ، و غيرهما بالكسر. و كلّها لغات.

فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ أتاه النداء مبتدأ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ من الجانب الأيمن للوادي فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ متّصل بالشاطئ، أو صلة ل «نودي». و هي البقعة الّتي قال اللّه تعالى فيها لموسى: فَاخْلَعْ نَعْلَيْكَ إِنَّكَ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً «1».

و إنّما كانت مباركة، لأنّها معدن الوحي و الرسالة و كلام اللّه تعالى. أو لكثرة الأشجار و الأنهار و الثمار و النعم بها. و الأوّل أصحّ.

مِنَ الشَّجَرَةِ بدل

من «شاطئ» بدل الاشتمال، لأنّها كانت نابتة على الشاطئ.

أَنْ يا مُوسى أي: يا موسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ هذا و إن خالف ما في طه «2» و النمل «3» لفظا، فهو طبقه في المقصود، أي: موجد الكلام لك هو اللّه مالك

______________________________

(1) طه: 12.

(2) طه: 11- 12.

(3) النمل: 8- 9.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 162

العالمين، و خالق الخلائق أجمعين، تعالى و تقدّس عن أن يحلّ في محلّ، أو يكون في مكان، لأنّه ليس بعرض و لا جسم.

وَ أَنْ أَلْقِ عَصاكَ فألقاها من يده، فصارت ثعبانا عظيما و اهتزّت فَلَمَّا رَآها تَهْتَزُّ كَأَنَّها جَانٌ في فرط السرعة مع عظم الجثّة، فاغرة فاها، ابتلعت كلّ ما أصابت من حجر و شجر وَلَّى مُدْبِراً منهزما من الخوف وَ لَمْ يُعَقِّبْ و لم يرجع إلى ذلك الموضع. فنودي يا مُوسى أَقْبِلْ وَ لا تَخَفْ إِنَّكَ مِنَ الْآمِنِينَ عن المخاوف، فإنّه لا يخاف لديّ المرسلون.

كرّر هذه القصّة في السور تقريرا للحجّة على أهل الكتاب، و استمالة بهم إلى الحقّ. و من أحبّ شيئا أحبّ ذكره. و القوم كانوا يدّعون محبّة موسى، و كلّ من ادّعى اتّباع سيّده مال إلى من ذكره بالفضل. على أنّ كلّ موضع من مواضع التكرار لا تخلو من زيادة فائدة.

اسْلُكْ يَدَكَ فِي جَيْبِكَ أي: أدخلها فيه تَخْرُجْ بَيْضاءَ مِنْ غَيْرِ سُوءٍ أي:

من غير عيب، كالبرص.

روي: أنّه لمّا قلب اللّه العصا حيّة، فزع موسى و اضطرب فاتّقاها ببسط يديه، كما يفعل الخائف من الشي ء. فقيل له: إنّ اتّقاءك ببسط يدك فيه غضاضة «1» عند الأعداء، فإذا ألقيتها فتنقلب حيّة لا تفزع وَ اضْمُمْ إِلَيْكَ جَناحَكَ يديك المبسوطتين تتّقي بهما الحيّة كالخائف الفزع، بإدخال اليمنى تحت عضد اليسرى

و بالعكس.

مِنَ الرَّهْبِ من أجل الرهب، أي: إذا عراك الخوف فافعل ذلك تجلّدا و ضبطا لنفسك، فإنّك آمن من ضررها. أو بإدخالهما في الجيب. فيكون التكرير لاختلاف الغرضين. و ذلك لأنّ الغرض في أحدهما خروج اليد بيضاء، و في الثاني

______________________________

(1) أى: ذلّة و منقصة.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 163

إخفاء الرهب و إظهار الجرأة على وجه العدوّ. و تسمية اليد بالجناح باعتبار أنّ يدي الإنسان بمنزلة جناحي الطائر.

و يجوز أن يراد بالضمّ التجلّد و الثبات و ضبط النفس عند انقلاب العصا حيّة، حتّى لا يضطرب و لا يرهب. استعارة من حال الطائر، فإنّه إذا خاف نشر جناحيه، و إذا أمن و اطمأنّ ضمّهما إليه.

و قرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي و أبو بكر بضمّ الراء و سكون الهاء. و قرأ حفص بالفتح و السكون. و قرئ بضمّهما. و الكلّ لغات.

فَذانِكَ إشارة إلى العصا و اليد. و شدّده ابن كثير و أبو عمرو و رويس.

بُرْهانانِ حجّتان بيّنتان باهرتان. و البرهان فعلان، لقولهم: أبره الرجل، إذا جاء بالبرهان. و بره الرجل، إذا ابيضّ. و يقال: برهان و برهرهة، بتكرير العين و اللام معا، للمرأة البيضاء. و نظيره تسميتهم إيّاها سلطانا، من السليط و هو الزيت، لإنارتها.

و قيل: فعلان من قولهم: برهن.

مِنْ رَبِّكَ على صدق نبوّتك و رسالتك إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ خارجين من طاعة اللّه إلى أعظم المعاصي، و هو الشرك. فكانوا أحقّاء بأن يرسل إليهم.

قالَ رَبِّ إِنِّي قَتَلْتُ مِنْهُمْ نَفْساً فَأَخافُ أَنْ يَقْتُلُونِ بتلك النفس.

وَ أَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً و إنّما قال ذلك لعقدة كانت في لسانه.

و قد مضى «1» ذكر سببها و إزالتها بدعائه، و التوفيق بينه و بين

هذا القول.

فَأَرْسِلْهُ مَعِي رِدْءاً معينا على تبليغ رسالتك. يقال: ردأه إذا أعانه. و في الأصل اسم مايعان به. فعل بمعنى مفعول، كالدف ء. و قرأ نافع: ردا بالتخفيف.

يُصَدِّقُنِي بتلخيص الحقّ، و تقرير الحجّة، و تزييف الشبهة. و قرأ عاصم

______________________________

(1) راجع ج 4 ص 235، ذيل الآية 27 من سورة طه، و ج 5 ص 10، ذيل الآية 13 من سورة الشعراء.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 164

و حمزة: يصدّقني «1» بالرفع، على أنّه صفة. و على التقديرين، ليس الغرض بتصديقه أن يقول له: صدقت، أو يقول للناس: صدق موسى، فإنّ سحبان و باقلا «2» يستويان فيه، بل إنّما هو أن يلخّص بلسانه الحقّ، و يبسط القول فيه، و يجادل به الكفّار، فذلك جار مجرى التصديق المفيد، كما يصدّق القول بالبرهان. ألا ترى إلى قوله:

«وَ أَخِي هارُونُ هُوَ أَفْصَحُ مِنِّي لِساناً».

و قيل: المراد تصديق القوم لتقريره و توضيحه، و لكنّه أسند إليه إسناد الفعل إلى السبب. و الدليل عليه قوله: إِنِّي أَخافُ أَنْ يُكَذِّبُونِ و لساني لا يطاوعني عند المحاجّة.

قالَ سَنَشُدُّ عَضُدَكَ بِأَخِيكَ سنقوّيك به، فإنّ قوّة الشخص بشدّة اليد على مزاولة الأمور. و لذلك يعبّر عنها باليد، و شدّتها بشدّة العضد، فإنّ العضد قوام اليد، و بشدّتها تشتدّ اليد. و من هاهنا يقال في دعاء الخير: شدّ اللّه عضدك، و في ضدّه:

فتّ «3» اللّه في عضدك.

وَ نَجْعَلُ لَكُما سُلْطاناً غلبة و تسلّطا، أو حجّة واضحة فَلا يَصِلُونَ إِلَيْكُما إلى الإضرار بكما باستيلاء أو حجاج بِآياتِنا متعلّق بمحذوف، أي:

اذهبا بآياتنا. أو ب «نجعل» أي: نسلّطكما بها. أو بمعنى «لا يصلون»، أي: تمتنعون منهم بها. أو قسم جوابه «لا يصلون». أو بيان ل «الغالبون» في قوله: أَنْتُما وَ مَنِ

اتَّبَعَكُمَا الْغالِبُونَ لا صلة، لامتناع تقدّم الصلة على الموصول. أو صلة له، على أنّ اللام فيه للتعريف، لا بمعنى الّذي. و لو تأخّر لم يكن إلّا صلة.

______________________________

(1) و في قراءة اخرى: يصدّقني، بالجزم جوابا ل: فأرسله.

(2) اسمان لرجلين يضرب بهما المثل، فسحبان مثل في الفصاحة، و باقل مثل في العيّ و البلاهة.

(3) أي: كسر قوّتك، و فرّق عنك أعوانك.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 165

[سورة القصص (28): الآيات 36 الى 42]

فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُفْتَرىً وَ ما سَمِعْنا بِهذا فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ (36) وَ قالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ وَ مَنْ تَكُونُ لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ (37) وَ قالَ فِرْعَوْنُ يا أَيُّهَا الْمَلَأُ ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ عَلَى الطِّينِ فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ (38) وَ اسْتَكْبَرَ هُوَ وَ جُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ (39) فَأَخَذْناهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ (40)

وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ (41) وَ أَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ (42)

روي عن أبي جعفر عليه السّلام في حديث طويل قال: «فلمّا رجع موسى عليه السّلام إلى امرأته قالت: من أين جئت؟ قال: من عند ربّ تلك النار، أمرني أن أعود إلى فرعون، فتوجّه مع أهله إلى مصر.

ثمّ قال عليه السّلام: فو اللّه لكأنّي أنظر إليه طويل الباع، ذو شعر، آدم «1»، عليه جبّة

______________________________

(1) أدم أدما: اسمرّ. و الآدم: الأسمر. زبدة التفاسير، ج 5، ص: 166

من صوف، عصاه في كفّه، مربوط

حقوه بشريط «1»، نعله من جلد حمار، شراكها من ليف.

فقيل لفرعون: إنّ على الباب فتى يزعم أنّه رسول ربّ العالمين.

فقال فرعون لصاحب الأسد: خلّ سلاسلها. و كان إذا غضب على رجل خلّاها فقطعته. فخلّاها. فقرع موسى الباب الأوّل، و كانت تسعة أبواب. فلمّا قرع الباب الأوّل انفتحت له الأبواب التسعة. فلمّا دخل جعلن يبصبصن «2» تحت رجله، كأنّهنّ جراء.

فلمّا رآه فرعون بعيدا قال لجلسائه استهزاء و سخريّة: أرأيتم مثل هذا قطّ.

فلمّا قرب منه عرفه، فقال: أَ لَمْ نُرَبِّكَ فِينا وَلِيداً إلى قوله: وَ أَنَا مِنَ الضَّالِّينَ «3».

فقال فرعون لرجل من أصحابه: قم فخذ بيده. و قال للآخر: اضرب عنقه.

فضرب جبرئيل بالسيف حتّى قتل ستّة من أصحابه. فقال: خلّوا عنه.

قال: فأخرج يده فإذا هي بيضاء قد حال شعاعها بينه و بين وجهه. و ألقى العصا فإذا هي حيّة، فالتقمت الإيوان «4» بلحييها. فدعاه أن يا موسى أقلني إلى غد.

ثمّ كان من أمره ما كان، كما قال جلّت عزّته:

فَلَمَّا جاءَهُمْ مُوسى بِآياتِنا بَيِّناتٍ بمعجزات ظاهرات الدلالة على صدق موسى قالُوا ما هذا إِلَّا سِحْرٌ مُفْتَرىً تختلقه، لم يفعل قبله مثله. أو سحر تعمله

______________________________

(1) الشريط: خوص مفتول يشدّ به السرير و نحوه.

(2) بصبص الجرو: فتح عينيه. و بصبص الكلب: حرّك ذنبه. و الجراء: أولاد السباع، كالكلب و الأسد. و الواحدة: جرو.

(3) الشعراء: 18- 20.

(4) الإيوان: المكان المتّسع من البيت يحيط به ثلاثة حيطان و اللحيان: جانبا الفم.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 167

أنت، ثمّ تفتريه على اللّه. أو سحر موصوف بالافتراء كسائر أنواع السحر، و ليس بمعجزة من عند اللّه.

وَ ما سَمِعْنا بِهذا يعنون السحر فِي آبائِنَا الْأَوَّلِينَ حال منصوبة عن «هذا»، أي: كائنا في أيّامهم.

يريدون: ما حدّثنا بكونه

فيهم. و لا يخلو من أن يكونوا كاذبين في ذلك، و قد سمعوا و علموا بنحوه.

أو يريدوا أنّهم لم يسمعوا بمثله في فظاعته. أو ما كان الكهّان يخبرون أنّه يظهر أحد بهذه الطريقة. و هذا دليل على أنّهم حجّوا و بهتوا.

أو يعنون ادّعاء النبوّة، مع اشتهار قصّة نوح و هود و صالح، و غيرهم من النبيّين الّذين دعوا إلى توحيد اللّه و إخلاص عبادته. و ذلك لأحد أمرين: إمّا للفترة الّتي دخلت بين الوقتين و الزمان الطويل. و إمّا لأنّ آباءهم ما صدّقوا بشي ء من ذلك، و لا دانوا به. فيكون المعنى: ما سمعنا بآبائنا أنّهم صدّقوا الرسل فيما جاؤا به.

وَ قالَ مُوسى رَبِّي أَعْلَمُ بِمَنْ جاءَ بِالْهُدى مِنْ عِنْدِهِ بحال من أهّله للفلاح الأعظم، حيث جعله نبيّا، و بعثه بالهدى، و وعده حسن العقبى، يعني: نفسه. و لو كان كما تزعمون كاذبا ساحرا مفتريا، لما أهلّه لذلك، لأنّه غنيّ حكيم، لا يرسل الكاذبين، و لا ينبئ الساحرين، لأنّهم المبطلون الظالمون.

و قرأ ابن كثير: قال، بغير واو، لأنّه قال ما قاله جوابا لمقالهم. و وجه العطف:

أنّ المراد حكاية القولين، ليوازن الناظر بينهما، فيميّز صحيحهما من الفاسد.

وَ مَنْ تَكُونُ و أعلم بمن تكون لَهُ عاقِبَةُ الدَّارِ العاقبة المحمودة، فإنّ المراد بالدار الدنيا و عاقبتها الأصليّة هي الجنّة. و الدليل عليه قوله عزّ و جلّ: أُولئِكَ لَهُمْ عُقْبَى الدَّارِ جَنَّاتُ عَدْنٍ «1». و قوله: وَ سَيَعْلَمُ الْكُفَّارُ لِمَنْ عُقْبَى الدَّارِ « «2»». فخلقت

______________________________

(1، 2) الرعد: 22- 23 و 24.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 168

الدنيا مجازا إلى الآخرة. و المقصود منها بالذات هو الثواب، و أمّا العقاب فإنّما قصد بالعرض، لأنّ عاقبة الشرّ لا اعتداد بها عند اللّه،

لأنّها من نتائج تحريف الفجّار الّذي هو خلاف ما وضع اللّه الآخرة له. فكان العاقبة الأصليّة إنّما هي عاقبة الخير، و لهذا اختصّت خاتمتها بالخير بهذه التسمية، دون خاتمتها بالشرّ.

و قرأ حمزة و الكسائي: يكون بالياء، لأنّ تأنيث العاقبة غير حقيقيّ.

إِنَّهُ لا يُفْلِحُ الظَّالِمُونَ لا يفوزون بالهدى في الدنيا، و حسن العاقبة في العقبى.

وَ قالَ فِرْعَوْنُ منكرا لما أتى به موسى من آيات اللّه لمّا أعياه الجواب، و عجز عن محاجّته يا أَيُّهَا الْمَلَأُ يريد أشراف قومه ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي نفى علمه بإله غيره، دون وجوده، إذ لم يكن عنده ما يقتضي الجزم بعدمه. و لذلك أمر ببناء الصرح ليصعد إليه و يتطّلع على الحال، فقال: فَأَوْقِدْ لِي يا هامانُ فأجّج النار عَلَى الطِّينِ و اتّخذ الآجرّ.

عن قتادة: أنّه أوّل من اتّخذ الآجرّ. و لذا لم يقل: اطبخ لي الآجرّ، بل أمره باتّخاذه على وجه يتضمّن تعليم الصنعة. و أمر هامان- و هو وزيره و رديفه- بالإيقاد على الطين، منادى باسمه ب «يا» في وسط الكلام، دليل التعظّم و التجبّر.

فَاجْعَلْ لِي صَرْحاً قصرا و بناء عاليا لَعَلِّي أَطَّلِعُ إِلى إِلهِ مُوسى أي:

أصعد إليه، و أشرف عليه، و أقف على حاله. و هذا تلبيس من فرعون، و إيهام على العوام أنّ الّذي يدعو إليه موسى يجري مجراه في الحاجة إلى المكان و الجهة. أو توهّم هو أنّه لو كان إله غيره لكان جسما في السماء، يمكن الترقّي إليه.

ثمّ قال: وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ مِنَ الْكاذِبِينَ في ادّعائه إلها غيري، و أنّه رسوله.

و يجوز أن يكون مراده بنفي علمه بإله غيره نفي وجوده. و معناه: ما لكم من إله غيري، كما قال عزّ و علا:

قُلْ أَ تُنَبِّئُونَ اللَّهَ بِما لا يَعْلَمُ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 169

الْأَرْضِ «1» فإنّ معناه: بما ليس فيهنّ. و ذلك لأنّ العلم تابع للمعلوم، لا يتعلّق به إلّا على ما هو عليه، فإذا كان الشي ء معدوما لم يتعلّق به موجود. و من ثمّ كان انتفاء العلم بوجوده، لا انتفاء وجوده. و عبّر عن انتفاء وجوده بانتفاء العلم بوجوده.

و على هذا يكون «لأظنّه» بمعنى: لأعلمه. و يكون بناء الصرح مناقضة لما ادّعاه من العلم و اليقين، و قد خفيت على قومه، لغباوتهم و فرط جهلهم. أو لم تخف عليهم، لكن كلّ واحد كان يخاف على نفسه من سوطه و سيفه.

روي: أنّه لمّا أمر ببناء الصرح، جمع هامان العمّال حتّى اجتمع خمسون ألف بنّاء، سوى الأتباع و الأجراء. و أمر بطبخ الآجرّ و الجصّ، و نجر الخشب، و ضرب المسامير. فشيّدوه حتّى بلغ ما لم يبلغه بنيان أحد من الخلق. و كان الباني لا يقدر أن يقوم على رأسه يبني، فبعث اللّه جبرئيل عند غروب الشمس، فضربه بجناحه فقطّعه ثلاث قطع، وقعت قطعة على عسكر فرعون فقتلت ألف ألف رجل، و وقعت قطعة في البحر، و قطعة في المغرب، و لم يبق أحد من عمّاله إلّا قد هلك.

و يروى في هذه القصّة: أنّ فرعون ارتقى فوقه فرمى بنشّابة «2» نحو السماء، فأراد اللّه أن يفتنهم، فردّت إليه و هي ملطوخة بالدم. فقال: قد قتلت إله موسى.

فلأجل تلك الكلمة بعث اللّه جبرئيل لهدمه على الطريق المذكور.

وَ اسْتَكْبَرَ هُوَ وَ جُنُودُهُ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ بغير استحقاق، فإنّ الاستكبار بالحقّ إنّما هو للّه عزّ و جلّ، و هو المتكبّر على الحقيقة، أي: المتبالغ في

كبرياء الشأن.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيما حكى عن ربّه: «الكبرياء ردائي، و العظمة إزاري، فمن نازعني واحدا منهما ألقيته في النار».

و كلّ مستكبر سواه فاستكباره بغير الحقّ.

______________________________

(1) يونس: 18.

(2) النشّابة: السهم.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 170

و ملخّص المعنى: أنّ فرعون و جنوده رفعوا أنفسهم في الأرض فوق مقدارها بالباطل و الظلم، و أنفوا و تعظّموا عن قبول الحقّ في اتّباع موسى.

وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ إِلَيْنا لا يُرْجَعُونَ بالنشور.

و قرأ نافع و حمزة و الكسائي بفتح الياء و كسر الجيم.

فَأَخَذْناهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ فطرحناهم في البحر، كما مرّ بيانه.

و فيه فخامة و تعظيم لشأن الآخذ، و استحقار للمأخوذين. كأنّه أخذهم و إن كانوا الكثر الكثير و الجمّ الغفير، و طرحهم في اليمّ، كما أخذ آخذ بحصيات في كفّه فطرحهنّ في البحر. و نظيره: وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ «1». و ما هي إلّا تصويرات و تمثيلات لاقتداره، و أنّ كلّ مقدور و إن عظم و جلّ فهو مستصغر إلى جنب قدرته.

فَانْظُرْ يا محمّد، أي: تفكّر و تدبّر و انظر بعين قلبك كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الظَّالِمِينَ كيف أخرجناهم من ديارهم و أغرقناهم، و حذّر قومك عن مثلها.

وَ جَعَلْناهُمْ أَئِمَّةً قدوة للضلال بالتخلية و منع الألطاف الصارفة عنه، حتّى صمّموا على الكفر، و صاروا أئمّة فيه، دعاة إلى الكفر و سوء عاقبته. أو بالتسمية و الدعوة، كقوله: وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً «2». و المعنى:

دعوناهم أئمّة.

يَدْعُونَ إِلَى النَّارِ دعاة على وجه الاستمرار إلى موجباتها من الكفر و المعاصي، كما يدعى خلفاء الحقّ أئمّة دعاة إلى الجنّة. و من

ذلك قولك: جعله بخيلا و فاسقا، إذا دعاه و قال: إنّه بخيل و فاسق.

وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ لا يُنْصَرُونَ بدفع العذاب عنهم، كما ينصر الأئمّة الدعاة إلى الجنّة.

وَ أَتْبَعْناهُمْ فِي هذِهِ الدُّنْيا لَعْنَةً طردا عن الرحمة. أو لعن اللاعنين، بأن

______________________________

(1) الزمر: 67.

(2) الزخرف: 19.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 171

يلعنهم الملائكة و المؤمنون. وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ هُمْ مِنَ الْمَقْبُوحِينَ من المطرودين، أو ممّن قبح وجوههم.

[سورة القصص (28): الآيات 43 الى 50]

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى بَصائِرَ لِلنَّاسِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةً لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (43) وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الْغَرْبِيِّ إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ وَ ما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ (44) وَ لكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ الْعُمُرُ وَ ما كُنْتَ ثاوِياً فِي أَهْلِ مَدْيَنَ تَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَ لكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (45) وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا وَ لكِنْ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (46) وَ لَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ إِلَيْنا رَسُولاً فَنَتَّبِعَ آياتِكَ وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (47)

فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا لَوْ لا أُوتِيَ مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ قالُوا سِحْرانِ تَظاهَرا وَ قالُوا إِنَّا بِكُلٍّ كافِرُونَ (48) قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (49) فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (50)

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 172

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى أقوام نوح و هود و

صالح و لوط بَصائِرَ لِلنَّاسِ أنوارا لقلوبهم، أي: حججا ساطعة و براهين نيّرة، تتبصّر بها الحقائق، و تميّز بين الحقّ و الباطل. و نصبه على الحال. و البصيرة: نور القلب الّذي يستبصر به، كما أنّ البصر نور العين الّذي تبصر به.

وَ هُدىً و إرشادا إلى الشرائع الّتي هي سبل اللّه وَ رَحْمَةً لأنّهم لو عملوا بها نالوا رحمة اللّه لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ ليكونوا على حال يرجى منهم التذكّر و الاتّعاظ، أو إرادة أن يتذكّروا مشبّهين الإرادة بالترجّي، فاستعير لها.

عن أبي سعيد الخدريّ، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «ما أهلك اللّه قوما، و لا قرنا، و لا أمّة، و لا أهل قرية، بعذاب من السماء، منذ أنزل التوراة على وجه الأرض، غير أهل القرية الّذين مسخوا قردة، ألم تر أنّ اللّه تعالى قال: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ مِنْ بَعْدِ ما أَهْلَكْنَا الْقُرُونَ الْأُولى الآية».

وَ ما كُنْتَ ما كنت حاضرا يا محمّد بِجانِبِ الْغَرْبِيِ يريد الطور أو الوادي، فإنّه كان في شقّ الغرب. و هو المكان الّذي وقع فيه ميقات موسى، و كتب اللّه له في الألواح. إِذْ قَضَيْنا إِلى مُوسَى الْأَمْرَ إذ أوحينا إليه- الأمر، أو عهدنا إليه، و أحكمنا الأمر الّذي أردناه من الرسالة إلى فرعون و قومه.

وَ ما كُنْتَ مِنَ الشَّاهِدِينَ للوحي إليه، أو على الوحي إليه و هم النقباء السبعون المختارون للميقات- حتّى تقف من جهة المشاهدة على ما جرى من أمر موسى عليه السّلام في ميقاته، و كتبة التوراة له في الألواح، و غير ذلك، فتخبر قومك به عن مشاهدة و عيان.

و المراد الدلالة على أنّ إخباره عن ذلك من قبيل الإخبار عن المغيّبات الّتي لا تعرف

إلّا بالوحي، و لذلك استدرك عنه بقوله: وَ لكِنَّا أَنْشَأْنا قُرُوناً أي: و لكنّا أوحينا إليك، لأنّا أنشأنا قرونا مختلفة بعد موسى فَتَطاوَلَ عَلَيْهِمُ على القرن

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 173

الّذي أنت فيهم المر أمد انقطاع الوحي عنهم. فحرّمت الأخبار، و تغيّرت الشرائع، و اندرست العلوم. فوجب إرسالك إليهم، فأرسلناك و علّمناك قصّة موسى عليه السّلام، و غيرها من قصص الأنبياء. كأنّه قال: و ما كنت شاهدا لموسى و ما جرى عليه، و لكنّا أوحيناه إليك. فذكر سبب الوحي- الّذي هو إطالة الفترة- و أقامه مقام مسبّبه، على عادة اللّه في اختصاراته.

وَ ما كُنْتَ ثاوِياً مقيما فِي أَهْلِ مَدْيَنَ و هم شعيب و المؤمنون به تَتْلُوا عَلَيْهِمْ تقرأ عليهم تعلّما منهم. قال مقاتل: معناه: لم تشهد أهل مدين، فتقرأ على أهل مكّة آياتِنا الّتي فيها قصّتهم وَ لكِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ و لكنّا أرسلناك، و أخبرناك بها، و علّمناكها. فيدلّ ذلك على صحّة نبوّتك.

وَ ما كُنْتَ بِجانِبِ الطُّورِ إِذْ نادَيْنا قيل: المراد به وقت ما أعطاه التوراة، و بالأوّل حينما استنبأه، لأنّهما المذكوران في القصّة. و قيل: بالعكس.

وَ لكِنْ علّمناك رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً متعلّق بالفعل المحذوف ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لوقوعهم في فترة بينك و بين عيسى. و هي خمسمائة و خمسون سنة. أو بينك و بين إسماعيل، على أنّ دعوة موسى و عيسى كانت مختصّة ببني إسرائيل و ما حواليهم. لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ لكي يتّعظوا و يتفكّروا و يعتبروا، فيتنزّهوا عن المعاصي.

و في هذا دلالة على وجوب فعل اللطف، فإنّ الإنذار و الدعوة لطف من اللّه تعالى مقرّب منه.

وَ لَوْ لا أَنْ تُصِيبَهُمْ مُصِيبَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَيَقُولُوا رَبَّنا لَوْ لا أَرْسَلْتَ

إِلَيْنا رَسُولًا «لولا» الأولى امتناعيّة، و جوابها محذوف، و هو: ما أرسلناك. و الثانية تحضيضيّة. و الفاء الأولى للعطف، و الأخرى جواب «لولا»، لكونها في حكم الأمر، من قبل أنّ الأمر باعث على الفعل، و الباعث و المحضّض من واد واحد.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 174

و المعنى: لو لا قولهم إذا أصابتهم عقوبة بسبب كفرهم و معاصيهم: ربّنا هلّا أرسلت إلينا رسولا يبلّغنا آياتك فَنَتَّبِعَ آياتِكَ يعني: الرسول المصدّق بنوع من المعجزات وَ نَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ من المصدّقين، لمّا أرسلناك، أي: إنّما أرسلناك قطعا لعذرهم، و إلزاما للحجّة عليهم. و هو في معنى قوله: لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ «1».

إن قيل: كيف استقام هذا المعنى و قد جعلت العقوبة هي السبب في الإرسال لا القول، لدخول حرف الامتناع عليها لا على القول؟

أجيب: أنّ القول هو المقصود بأن يكون سببا لإرسال الرسل، لكن العقوبة لمّا كانت هي السبب للقول، و كان وجوده بوجودها، جعلت العقوبة كأنّها سبب الإرسال بواسطة القول، فأدخلت عليها «لولا»، و جي ء بالقول معطوفا عليها بالفاء المعطية معنى السببيّة، المنبّهة على أنّ القول هو المقصود بأن يكون سببا، و أنّه لا يصدر عنهم حتّى تلجئهم العقوبة، فيؤول معناه إلى ما فسّرناه.

فَلَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ مِنْ عِنْدِنا و هو الرسول المصدّق بالكتاب المعجز مع سائر المعجزات، و قطعت معاذيرهم، و سدّ طريق احتجاجهم قالُوا اقتراحا و تعنّتا لَوْ لا أُوتِيَ هل أوتي محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مِثْلَ ما أُوتِيَ مُوسى من نزول الكتاب جملة واحدة، و اليد، و العصا، و فلق البحر، و غيرها من الآيات.

فاحتجّ عليهم بقوله: أَ وَ لَمْ يَكْفُرُوا يعني: أبناء جنسهم، و من مذهبهم مذهبهم

و عنادهم عنادهم. و هم الكفرة في زمن موسى. بِما أُوتِيَ مُوسى مِنْ قَبْلُ من قبل وجودك و نزول القرآن.

قالُوا سِحْرانِ أي: موسى و هارون. و عن ابن عبّاس: موسى

______________________________

(1) النساء: 165.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 175

و محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. تَظاهَرا تعاونا بإظهار تلك الخوارق، أو بتوافق الكتابين.

و قرأ الكوفيّون: سحران، بمعنى ذوا سحر. أو جعلهما سحرين مبالغة في وصفهما. أو المراد التوراة و القرآن.

وَ قالُوا إِنَّا بِكُلٍ أي: بكلّ منهما، أو بكلّ الأنبياء كافِرُونَ

قُلْ فَأْتُوا بِكِتابٍ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ هُوَ أَهْدى مِنْهُما ممّا أنزل على موسى و عليّ.

و إضمارهما على قراءة «ساحران» لدلالة المعنى. و هو يؤيّد أنّ المراد بالساحرين موسى و محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

أَتَّبِعْهُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ إنّا ساحران مختلقان. و هذا من الشروط الّتي يراد بها الإلزام و التبكيت. و المجي ء بحرف الشكّ للتهكّم بهم، فإنّ امتناع الإتيان بكتاب أهدى من الكتابين، أمر معلوم متحقّق لا مجال فيه للشكّ.

ثمّ قال لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: فَإِنْ لَمْ يَسْتَجِيبُوا لَكَ دعاءك إلى الإتيان بكتاب أهدى. فحذف المفعول للعلم به. و لأنّ فعل الاستجابة يعدّى بنفسه إلى الدعاء، فيقال: استجاب اللّه دعاءه، و باللام إلى الداعي، فإذا عدّي إليه حذف الدعاء غالبا، فلا يكاد يقال: استجاب له دعاءه.

فَاعْلَمْ أَنَّما يَتَّبِعُونَ أَهْواءَهُمْ أي: الزموا، و لم تبق لهم حجّة إلّا اتّباع الهوى، إذ لو اتّبعوا حجّة لأتوا بها.

ثمّ قال: وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنِ اتَّبَعَ هَواهُ استفهام بمعنى النفي بِغَيْرِ هُدىً مِنَ اللَّهِ في موضع الحال للتأكيد أو التقييد، فإنّ هوى النفس قد يوافق الحقّ.

و المعنى: مطبوعا على قلبه، ممنوع الألطاف.

إِنَّ اللَّهَ

لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الّذين ظلموا أنفسهم بالانهماك في اتّباع الهوى، فخلّاهم و أنفسهم. و قيل: معناه: لا يحكم بهدايتهم، أو لا يهديهم إلى طريق الجنّة.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 176

[سورة القصص (28): الآيات 51 الى 56]

وَ لَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (51) الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ (52) وَ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ مُسْلِمِينَ (53) أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ بِما صَبَرُوا وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (54) وَ إِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ أَعْرَضُوا عَنْهُ وَ قالُوا لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ سَلامٌ عَلَيْكُمْ لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ (55)

إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (56)

ثمّ بيّن سبحانه صفة القرآن، فقال: وَ لَقَدْ وَصَّلْنا لَهُمُ الْقَوْلَ أتبعنا في الإنزال بعضه بعضا متّصلا، وعدا و وعيدا، و قصصا و عبرا، و مواعظ و نصائح. أو في النظم، بأن أنزلنا عليهم إنزالا متّصلا بعضه في أثر بعض، تقريرا للدعوة بالحجّة، كقوله: وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ ذِكْرٍ مِنَ الرَّحْمنِ مُحْدَثٍ إِلَّا كانُوا عَنْهُ مُعْرِضِينَ «1».

لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ إرادة أن يتذكّروا فيؤمنوا و يطيعوا.

الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ التوراة و الإنجيل مِنْ قَبْلِهِ قبل القرآن هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ نزلت في مؤمني أهل الكتاب. و عن رفاعة بن قرظة: نزلت في عشرة أنا أحدهم. و قيل: في أربعين من أهل الإنجيل، اثنان و ثلاثون جاؤا مع جعفر رضي اللّه عنه من الحبشة، و ثمانية من الشام.

______________________________

(1) الشعراء: 5.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 177

وَ إِذا يُتْلى أي: القرآن عَلَيْهِمْ قالُوا آمَنَّا بِهِ أي: بأنّه كلام اللّه إِنَّهُ الْحَقُّ مِنْ رَبِّنا استئناف تعليلا للإيمان به، لأنّ كونه حقّا من

اللّه حقيق بأن يؤمن به.

إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلِهِ من قبل وجوده و نزوله مُسْلِمِينَ كائنين على دين الإسلام. استئناف آخر بيانا لقوله: «آمنّا به»، لأنّه يحتمل أن يكون إيمانا قريب العهد و بعيده، فأخبروا أنّ إيمانهم به متقادم، لأنّ آباءهم القدماء ذكروه في الكتب المتقدّمة، و كونهم على دين الإسلام قبل نزول القرآن، أو تلاوته عليهم.

أُولئِكَ يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ مرّة على إيمانهم بكتابهم، و مرّة على إيمانهم بالقرآن. بِما صَبَرُوا بصبرهم و ثباتهم على الإيمانين. أو على الإيمان بالقرآن قبل النزول و بعده. أو على أذى المشركين و أهل الكتاب.

وَ يَدْرَؤُنَ بِالْحَسَنَةِ السَّيِّئَةَ و يدفعون بالطاعة المعصية المتقدّمة،

لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أتبع الحسنة السيّئة تمحها».

أو بالحسن من الكلام الكلام القبيح الّذي يسمعونه من الكفّار. و يؤيّد هذا القول ما

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّ معناه: يدفعون بالحلم جهل الجهلاء، و بالمداراة مع الكفرة أذاهم عن أنفسهم.

وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ في سبيل الخير.

وَ إِذا سَمِعُوا اللَّغْوَ السفه من الناس، و القبيح من القول أَعْرَضُوا عَنْهُ تكرّما و تحلّما، و لم يقابلوه بمثله وَ قالُوا للّاغين لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا نسأل نحن عن أعمالكم، و لا تسألون عن أعمالنا، بل كلّ منّا يجازى على عمله.

سَلامٌ عَلَيْكُمْ متاركة لهم و توديعا. أو دعاء لهم بالسلامة عمّا هم فيه.

و المعنى: أمان منّا لكم أن نقابل لغوكم بمثله. و هي كلمة حلم. لا نَبْتَغِي الْجاهِلِينَ لا نطلب صحبتهم، و لا نريد مجالستهم، و إنّما نبتغي الحكماء و العلماء.

و قيل: معناه: لا نريد أن نكون من أهل الجهل أو السفه.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 178

و لمّا تقدّم ذكر الرسول و القرآن، و أنّه أنزل

هدى للخلق، بيّن سبحانه أنّه ليس عليه الاهتداء، و إنّما عليه البلاغ و الأداء، فقال:

إِنَّكَ لا تَهْدِي مَنْ أَحْبَبْتَ هدايته، أي: لا تقدر أن تدخل في الإسلام كلّ من أحببت أن يدخل فيه من قومك و غيرهم، لأنّك عبد لا تعلم المطبوع على قلبه من غيره. و هم الّذين لا تنفع الألطاف فيهم، لأنّهم رسخوا في الكفر، و صمّموا عليه عنادا و لجاجا، و إنكارا و استكبارا، مع أنّهم عارفون بحقيقة الإسلام. و قيل: من أحببته لقرابته.

و المراد بالهداية هنا اللطف الّذي يختار العبد عنده الإيمان، فإنّه لا يقدر عليه إلّا اللّه تعالى.

و قيل: المراد بها الإجبار على الاهتداء، أي: أنت لا تقدر على ذلك.

وَ لكِنَّ اللَّهَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ يدخل في الإسلام من يشاء. و هم الّذين علم أنّهم غير مطبوع على قلوبهم، و أنّ الألطاف تنفعهم، فيقرن بهم ألطافه حتّى تدعوهم إلى القبول. و هم الّذين استعدّوا له، و استرشدوا الحقّ. قيل:

يهدي به من يشاء على وجه الإجبار. وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ بالمستعدّين لذلك.

و اعلم أنّ أهل السنّة قالوا: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يحبّ إسلام أبي طالب، فنزلت هذه الآية. و كان يكره إسلام وحشي قاتل حمزة، فنزل فيه قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ «1». فلم يسلم أبو طالب، و أسلم وحشي.

و هذا كلام ضعيف، و قول ركيك، لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يجوز أن يخالف اللّه سبحانه في إرادته، كما لا يجوز أن يخالفه في أوامره و نواهيه. و إذا كان اللّه تعالى

______________________________

(1) الزمر: 53.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 179

على ما زعم القوم، لم

يرد إيمان أبي طالب، بل أراد كفره، و أراد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إيمانه، فقد حصل غاية الخلاف بين إرادتي المرسل و المرسل.

فكأنّه سبحانه يقول على مقتضى اعتقادهم: إنّك يا محمّد تريد إيمانه، و لا أريد إيمانه، و لا أخلق فيه الإيمان، مع تكفّله بنصرتك، و بذل مجهوده في إعانتك و الذبّ عنك، و محبّته لك، و نعمته عليك. و تكره أنت إيمان وحشي، لقتله عمّك حمزة، و أنا أريد إيمانه، و أخلق في قلبه الإيمان.

و أيضا

قالوا: إنّ أبا طالب قال عند موته: يا معشر بني هاشم أطيعوا محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و صدّقوه تفلحوا و ترشدوا.

فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا عمّ تأمرهم بالنصيحة لأنفسهم، و تدعها لنفسك؟

قال: فما تريد يا ابن أخي؟

قال: أريد منك كلمة واحدة، فإنّك في آخر يوم من أيّام الدنيا، أن تقول: لا إله إلّا اللّه، أشهد لك بها عند اللّه.

قال: يا ابن أخي قد علمت أنّك لصادق، و لكنّي أكره أن يقال: خرع «1» عند الموت. و لولا أن تكون عليك و على بني إسرائيل غضاضة و مسبّة بعدي لقلتها، و لأقررت بها عينك عند الفراق، لما أرى من شدّة وجدك و نصيحتك، و لكنّي سوف أموت على ملّة الأشياخ: عبد المطّلب و هاشم و عبد مناف.

و نحن ذكرنا في سورة الأنعام «2» أنّ أهل البيت عليهم السّلام قد أجمعوا على أنّ أبا طالب مات مسلما، و تظاهرت الروايات بذلك عنهم. و أوردنا هناك طرفا من أشعاره الدالّة على تصديقه للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و توحيده، فإنّ استيفاء جميعه لا تتّسع له الطوامير.

______________________________

(1)

خرع الرجل: ضعف رأيه بعد قوّة.

(2) راجع ج 2 ص 376.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 180

[سورة القصص (28): الآيات 57 الى 59]

وَ قالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ مِنْ أَرْضِنا أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ حَرَماً آمِناً يُجْبى إِلَيْهِ ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (57) وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ بَطِرَتْ مَعِيشَتَها فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ إِلاَّ قَلِيلاً وَ كُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ (58) وَ ما كانَ رَبُّكَ مُهْلِكَ الْقُرى حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا وَ ما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلاَّ وَ أَهْلُها ظالِمُونَ (59)

روي: أنّ الحرث بن عثمان بن نوفل بن عبد مناف و أضرابه قالوا: نحن نعلم أنّك على الحقّ، و لكنّا نخاف إن اتّبعناك و خالفنا العرب بذلك- و إنّما نحن أكلة رأس، أي: قليلون- أن يتخطّفونا من أرضنا، فنزلت:

وَ قالُوا إِنْ نَتَّبِعِ الْهُدى مَعَكَ نُتَخَطَّفْ نستلب مِنْ أَرْضِنا و نخرج منها.

يعنون أرض مكّة و الحرم.

فردّ اللّه تعالى عليهم بقوله: أَ وَ لَمْ نُمَكِّنْ لَهُمْ نجعل مكانهم حَرَماً آمِناً ذا أمن بحرمة البيت الّذي فيه يتناحر العرب حوله، و هم آمنون في حرمهم. و إسناد أمن إلى أهل الحرم حقيقة، و إلى الحرم مجاز.

يُجْبى إِلَيْهِ يحمل إليه و يجمع فيه. من: جبيت الماء في الحوض، أي:

جمعته. و قرأ نافع و يعقوب في رواية بالتاء. ثَمَراتُ كُلِّ شَيْ ءٍ من كلّ أوب.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 181

و معنى الكلّيّة: الكثرة، كقوله: وَ أُوتِيَتْ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ «1». رِزْقاً مِنْ لَدُنَّا فإذا خوّلهم اللّه ما خوّلهم من الأمن و الرزق بحرمة البيت و هم كفرة، فكيف يعرّضهم للخوف و التخطّف، إذا ضمّوا إلى حرمة البيت حرمة التوحيد؟! وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ

جهلة لا يتفطّنون له، و لا يتفكّرون ليعلموا ذلك.

و قيل: إنّه متعلّق بقوله: «من لدنّا» أي: قليل منهم يتدبّرون، فيعلمون أنّ ذلك رزق من عند اللّه، إذ لو علموا لما خافوا غيره.

و انتصاب «رزقا» على المصدر من معنى: يجبى. كأنّه قيل: و يرزق ثمرات كلّ شي ء رزقا. أو حال من الثمرات، بمعنى مرزوقا، لتخصّصها بالإضافة، كما تنتصب عن النكرة المتخصّصة بالصفة. أو مفعول له.

ثمّ خوّفهم من سوء عاقبة قوم كانوا في مثل حالهم، من إنعام اللّه عليهم بالرقود في ظلال الأمن و خفض العيش، فغمطوا «2» النعمة، و قابلوها بالأشر و البطر، فقال:

وَ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَرْيَةٍ من أهل قرية بَطِرَتْ مَعِيشَتَها بأن أعرضوا عن الشكر و تكبّروا. يعني: أعطيناهم المعيشة الواسعة، فلم يعرفوا حقّ النعمة و كفروا، فأهلكناهم.

و انتصابها إمّا بحذف الجارّ و إيصال الفعل، كقوله تعالى: وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ «3». و إمّا على الظرف بنفسها، بدون حذف الجارّ، كقولك: زيد ظنّي مقيم «4».

______________________________

(1) النمل: 23.

(2) غمط النعمة: لم يشكرها. و الأشر و البطر: شدّة المرح، و الاستخفاف بالنعمة، و صرفها إلى غير وجهها طغيانا.

(3) الأعراف: 155.

(4) أي: في ظنّي.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 182

أو بتقدير حذف المضاف، أي: أيّام معيشتها. و إمّا بتضمين «بطرت» معنى: كفرت و غمطت. و البطر سوء احتمال الغنى، و هو أن لا يحفظ حقّ اللّه فيه.

فَتِلْكَ مَساكِنُهُمْ إشارة إلى ما يعرفونه من ديار عاد و ثمود و قوم لوط، أي:

صارت مساكنهم خاوية خالية عن أهلها، و هي قريبة منكم، فإنّ ديار عاد إنّما كانت بالأحقاف، و هو موضع بين اليمن و الشام، و ديار ثمود بوادي «1» القرى، و ديار قوم لوط بسدوم، و كانوا هم يمرّون بهذه

المواضع في تجاراتهم.

لَمْ تُسْكَنْ مِنْ بَعْدِهِمْ من السكنى إِلَّا قَلِيلًا زمانا قليلا، إذ لا يسكنها إلّا المارّة يوما أو بعض يوم. أو من شؤم معاصي المهلكين، لم يبق من سكنها من أعقابهم إلّا قليلا. وَ كُنَّا نَحْنُ الْوارِثِينَ المالكين لتلك المساكن من ساكنيها، أي:

تركناها على حال لا يسكنها أحد يتصرّف فيها.

وَ ما كانَ رَبُّكَ و ما كانت عادته مُهْلِكَ الْقُرى في كلّ وقت حَتَّى يَبْعَثَ فِي أُمِّها في القرية الّتي هي أصلها، و القرى الّتي ما سواها من توابعها، لأنّ أهلها تكون أفطن و أنبل. رَسُولًا يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِنا لإلزام الحجّة و قطع المعذرة، مع علمه أنّهم لا يؤمنون. أو و ما كان في حكم اللّه و سابق قضائه، أن يهلك القرى في الأرض حتّى يبعث في أمّ القرى- يعني: مكّة- رسولا، و هو محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

وَ ما كُنَّا مُهْلِكِي الْقُرى إِلَّا وَ أَهْلُها ظالِمُونَ لنفوسهم، بتكذيب الرسل، و العتوّ في الكفر.

و هذا بيان لعدله و تقدّسه عن الظلم، حيث أخبر بأنّه لا يهلكهم إلّا إذا استحقّوا الإهلاك بظلمهم، و لا يهلكهم مع كونهم ظالمين إلّا بعد تأكيد الحجّة و الإلزام ببعثة الرسل، و لا يجعل علمه بأحوالهم حجّة عليهم. و نزّه ذاته أن يهلكهم

______________________________

(1) وادي القرى: واد بين المدينة و الشام، من أعمال المدينة، كثير القرى. و سدوم: بلدة من أعمال حلب، و من مدائن قوم لوط.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 183

و هم غير ظالمين، كما قال: وَ ما كانَ رَبُّكَ لِيُهْلِكَ الْقُرى بِظُلْمٍ وَ أَهْلُها مُصْلِحُونَ «1».

فنصّ في قوله: «بظلم» أنّه لو أهلكهم و هم مصلحون لكان ذلك ظلما منه، و أنّ حاله في غناه و حكمته منافية

للظلم، دلّ على ذلك بحرف النفي مع لامه، كما قال:

وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُضِيعَ إِيمانَكُمْ «2».

[سورة القصص (28): الآيات 60 الى 67]

وَ ما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ زِينَتُها وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقى أَ فَلا تَعْقِلُونَ (60) أَ فَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً فَهُوَ لاقِيهِ كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (61) وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (62) قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ (63) وَ قِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ فَدَعَوْهُمْ فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ وَ رَأَوُا الْعَذابَ لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ (64)

وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ (65) فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ يَوْمَئِذٍ فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ (66) فَأَمَّا مَنْ تابَ وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ (67)

______________________________

(1) هود: 117.

(2) البقرة: 143.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 184

و لمّا كانت الرغبة المفرطة في الزخارف الدنيويّة الفانية، و التعلّق التامّ بها، مانعة عن التوجّه إلى اللّه، و إلى الأحكام الدينيّة، و التزوّد للآخرة، و موجبة للحرمان عن الوصول إلى الدرجات الباقية، و المراتب السرمديّة، رغّب اللّه تعالى عنها العباد بقوله:

وَ ما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ و أيّ شي ء أصبتموه من أسباب الدنيا فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ زِينَتُها فإنّما هو تمتّع و زينة تتمتّعون و تتزيّنون به أيّاما قلائل، و هي مدّة الحياة المنقضية، و مع ذلك متضمّن للتبعيض و أنواع الكدورات.

وَ ما عِنْدَ اللَّهِ و هو ثوابه الأبدي خَيْرٌ في نفسه من ذلك، لأنّه خالص عن شوب التنغّص، و بهجة كاملة. وَ أَبْقى لأنّه أبديّ أَ فَلا تَعْقِلُونَ فتستبدلون الّذي هو أدنى بالّذي هو خير. و

قرأ أبو عمرو بالياء. و هو أبلغ في الموعظة.

و عن ابن عبّاس: إنّ اللّه تعالى خلق الدنيا و جعل أهلها ثلاثة أصناف:

المؤمن، و المنافق، و الكافر. فالمؤمن يتزوّد، و المنافق يتزيّن، و الكافر يتمتّع.

و لمّا كانت الآية الّتي تلي هذه الآية كالنتيجة لها رتّبت عليها بالفاء، فقال:

أَ فَمَنْ وَعَدْناهُ وَعْداً حَسَناً أي: وعدا بالجنّة الّتي هي أحسن المحاسن و أنفع المنافع، فإنّ حسن الوعد بحسن الموعود فَهُوَ لاقِيهِ فهو مدركه لا محالة، لامتناع الخلف في وعده. و لذلك عطفه بالفاء المعطية معنى السببيّة.

كَمَنْ مَتَّعْناهُ مَتاعَ الْحَياةِ الدُّنْيا الّذي هو مشوب بالآلام، مكدّر بالمتاعب، مستعقب بالتحسّر على الانقطاع ثُمَّ هُوَ يَوْمَ الْقِيامَةِ مِنَ الْمُحْضَرِينَ للحساب، أو العذاب. و نحوه: لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ «1». فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ «2». و «ثمّ» للتراخي في الزمان أو الرتبة.

و قرأ نافع و ابن عامر في رواية و الكسائي: ثمّ هو بسكون الهاء، تشبيها

______________________________

(1) الصافّات: 57 و 127.

(2) الصافّات: 57 و 127.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 185

للمنفصل بالمتّصل.

قيل: نزلت في رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أبي جهل. و عن السدّي: نزلت في عليّ عليه السّلام و أبي جهل. و قيل: في عمّار بن ياسر و الوليد بن المغيرة. و الأولى أن يكون عامّا فيمن كان بهذه الصفة.

وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ ينادي اللّه المشركين. عطف على «يَوْمَ الْقِيامَةِ». أو منصوب ب: اذكر. فَيَقُولُ تقريعا و تبكيتا أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ أي: تزعمونهم شركائي. فحذف المفعولان لدلالة الكلام عليهما. و يجوز حذف المفعولين في باب «ظننت»، و لا يصحّ الاقتصار على أحدهما.

قالَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ بثبوت مقتضاه و حصول مؤدّاه. و هو قوله:

لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ

«1». و غيره من آيات الوعيد. و هم الشياطين، أو أئمّة الكفر و رؤوس الشرك.

رَبَّنا هؤُلاءِ الَّذِينَ أَغْوَيْنا الّذين أضللناهم عن الدين. فحذف الراجع إلى الموصول. يعنون: أتباعهم. أَغْوَيْناهُمْ كَما غَوَيْنا أي: أغويناهم فغووا غيّا مثل ما غوينا. و هو استئناف للدلالة على أنّهم غووا باختيارهم، فإنّهم لم يفعلوا بهم إلّا وسوسة و تسويلا، لا قسرا و إلجاء. فلا فرق إذن بين غيّنا و غيّهم، و إن كان تسويلنا داعيا لهم إلى الكفر، فقد كان في مقابلته دعاء اللّه لهم إلى الإيمان، بما وضع فيهم من أدلّة العقل، و ما بعث إليهم و أنزل عليهم من الرسل و الكتب المشحونة بالوعد و الوعيد، و المواعظ و الزواجر. و ناهيك بذلك صارفا عن الكفر، و داعيا إلى الإيمان.

و يجوز أن يكون «الّذين» صفة ل «هؤلاء»، و «أغويناهم» خبره، لأجل ما اتّصل به، فأفاده زيادة على الصفة. و هو و إن كان فضلة لكنّه صار من اللوازم.

تَبَرَّأْنا إِلَيْكَ منهم و ممّا اختاروه من الكفر هوى منهم. و هو تقرير للجملة

______________________________

(1) هود: 119.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 186

المتقدّمة، و لذلك خلت عن العاطف. و كذا قوله: ما كانُوا إِيَّانا يَعْبُدُونَ أي: لم يكونوا يعبدوننا، و إنّما كانوا يعبدون أهواءهم. و قيل: «ما» مصدريّة متّصلة ب «تبرّأنا» أي: تبرّأنا من عبادتهم إيّانا.

وَ قِيلَ ادْعُوا شُرَكاءَكُمْ و يقال للأتباع: أدعوا الّذين عبدتموهم من دون اللّه، و زعمتم أنّهم شركائي، لينصروكم و يدفعوا عنكم العذاب.

فَدَعَوْهُمْ من فرط الحيرة فَلَمْ يَسْتَجِيبُوا لَهُمْ لعجزهم عن الإجابة و النصرة وَ رَأَوُا الْعَذابَ لازما بهم لَوْ أَنَّهُمْ كانُوا يَهْتَدُونَ لوجه من الحيل يدفعون به العذاب. أو إلى الحقّ- و هو الإيمان- لمّا رأوا العذاب. و قيل:

«لو» للتمنّي، أي: تمنّوا أنّهم كانوا مهتدين.

وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ ما ذا أَجَبْتُمُ الْمُرْسَلِينَ عطف على الأوّل، فإنّه تعالى يسأل أوّلا عن إشراكهم به، ثمّ عن تكذيبهم الأنبياء. فإنّ اللّه سبحانه حكى أوّلا ما يوبّخهم به من اتّخاذهم له شركاء. ثمّ ما يقوله الشيطان أو أئمّتهم عند توبيخهم، لأنّهم إذا وبّخوا بعبادة الآلهة، اعتذروا بأنّ الشياطين هم الّذين استغووهم و زيّنوا لهم عبادتها. ثمّ ما يشبه الشماتة بهم، من استغاثتهم آلهتهم، و خذلانهم لهم، و عجزهم عن نصرتهم. ثمّ ما يبكّتون به، من الاحتجاج عليهم بإرسال الرسل و إزاحة العلل.

فَعَمِيَتْ عَلَيْهِمُ الْأَنْباءُ فخفيت عليهم الأخبار عمّا أجابوا به رسلهم يَوْمَئِذٍ يوم القيامة. فصارت الأنباء كالعمى عليهم جميعا، لا تهتدي إليهم.

و أصل الكلام: فعموا عن الأنباء، أي: صاروا كالعمي، لانسداد طرق الأخبار عليهم، كما ينسدّ طرق الأرض على العمي، لكنّه عكس مبالغة. و تعدية الفعل ب «على» لتضمّنه معنى الخفاء. و سمّيت حججهم أنباء، لأنّها أخبار يخبر بها، فهم لا يحتجّون و لا ينطقون بحجّة.

و إذا كانت الرسل يتتعتعون في الجواب عن مثل ذلك من الهول، و يفوّضون

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 187

إلى علم اللّه تعالى، كما قال اللّه سبحانه: يَوْمَ يَجْمَعُ اللَّهُ الرُّسُلَ فَيَقُولُ ما ذا أُجِبْتُمْ قالُوا لا عِلْمَ لَنا إِنَّكَ أَنْتَ عَلَّامُ الْغُيُوبِ «1» فما ظنّك بالضّلال من أممهم؟! فَهُمْ لا يَتَساءَلُونَ لا يسأل بعضهم بعضا عن الجواب، لفرط الدهشة. أو لعلمه بأنّه مثله في عدم علمه بالجواب.

ثمّ ذكر سبحانه أحوال التائبين منهم بقوله: فَأَمَّا مَنْ تابَ من الشرك وَ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً أي: جمع بين الإيمان و العمل الصالح فَعَسى أَنْ يَكُونَ مِنَ الْمُفْلِحِينَ عند اللّه. و «عسى» تحقيق على عادة

الكرام، أو ترجّ من التائب، بمعنى:

فليتوقّع أن يفلح.

[سورة القصص (28): الآيات 68 الى 70]

وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ سُبْحانَ اللَّهِ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (68) وَ رَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ ما يُعْلِنُونَ (69) وَ هُوَ اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَ الْآخِرَةِ وَ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (70)

و لمّا كان المفلح مختار اللّه تعالى ذكر عقيبه: أنّ الاختيار إلى اللّه سبحانه، و الخلق و الحكم له، لكونه قادرا عالما على الكمال، فقال:

وَ رَبُّكَ يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ يَخْتارُ لا موجب عليه، و لا مانع له ما كانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ أي: التخيّر، كالطيرة بمعنى التطيّر، أي: ليس لأحد من خلقه أن يختار عليه. فهذا بيان لقوله: «و يختار»، و لهذا خلا عن العاطف. و المعنى: أنّ الخيرة للّه في أفعاله، و هو أعلم بوجوه الحكمة فيها، فكيف يجوز لأحد أن يختار عليه.

و قيل: السبب فيه قول الوليد بن المغيرة:

______________________________

(1) المائدة: 109.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 188

لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ «1». يعني: لا يبعث اللّه الرسل باختيار المرسل إليهم.

و قيل: «ما» موصولة مفعول ل «يختار»، و الراجع إليه محذوف. و المعنى:

و يختار الّذي كان لهم فيه الخير و الصلاح.

سُبْحانَ اللَّهِ تنزيه للّه أن ينازعه أحد، أو يزاحم اختياره اختيار وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ عن إشراكهم، أو مشاركة ما يشركونه به.

ثمّ برهن على صحّة اختياره، و فساد اختيار غيره عليه، بقوله: وَ رَبُّكَ يَعْلَمُ ما تُكِنُّ صُدُورُهُمْ وَ ما يُعْلِنُونَ أي: ما يخفونه و ما يظهرونه، فإليه الاختيار، و لا اختيار لغيره عليه.

و قيل: معناه: يعلم ما تخفي صدورهم من عداوة رسول اللّه، و ما

يظهرون من الطعن فيه، كقولهم: هلّا اختير عليه غيره في النبوّة.

وَ هُوَ اللَّهُ المستحقّ للعبادة. ثمّ قرّر ذلك بقوله: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لا أحد يستحقّها إلّا هو. و مثل ذلك قولك: الكعبة القبلة، لا قبلة إلّا هي.

لَهُ الْحَمْدُ فِي الْأُولى وَ الْآخِرَةِ لأنّه المولي للنعم كلّها، عاجلها و آجلها.

يحمده المؤمنون في الآخرة ابتهاجا بفضله، و التذاذا بحمده. و هو قولهم: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ «2». الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ «3». كما يحمدونه في الدنيا تكليفا و تأدية لأداء شكره.

وَ لَهُ الْحُكْمُ القضاء النافذ بين عباده، بما يميّز به الحقّ من الباطل. قال ابن عبّاس: يحكم لأهل طاعته بالمغفرة و الفضل، و لأهل معصيته بالشقاء و الويل.

وَ إِلَيْهِ و إلى جزائه و حكمه تُرْجَعُونَ يوم النشور.

______________________________

(1) الزخرف: 31.

(2) فاطر: 34.

(3) الزمر: 74.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 189

[سورة القصص (28): الآيات 71 الى 75]

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ أَ فَلا تَسْمَعُونَ (71) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ أَ فَلا تُبْصِرُونَ (72) وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (73) وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ (74) وَ نَزَعْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً فَقُلْنا هاتُوا بُرْهانَكُمْ فَعَلِمُوا أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (75)

ثمّ بيّن سبحانه ما يدلّ على كمال قدرته الدالّ على توحيده، فقال لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

قُلْ يا محمّد لأهل مكّة الّذين يعبدون آلهة غيري، تنبيها على خطئهم:

أَ رَأَيْتُمْ أخبروني

إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ اللَّيْلَ سَرْمَداً دائما لا يكون معه نهار.

و اشتقاقه من السرد، و هو المتابعة. و الميم مزيدة، على وزن فعمل، كميم دلامص من الدلاص «1». إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بإسكان الشمس تحت الأرض، أو تحريكها حول الأفق الغائر.

مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِضِياءٍ كضياء النهار تبصرون فيه. كان حقّه: هل إله، فذكر ب «من» على زعمهم أنّ غيره آلهة. و عن ابن كثير: بضئاء بهمزتين. أَ فَلا تَسْمَعُونَ

______________________________

(1) الدلاص: اللين البراق.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 190

ما يبيّنه اللّه تعالى من أدلّة توحيده، سماع تدبّر و استبصار.

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ جَعَلَ اللَّهُ عَلَيْكُمُ النَّهارَ سَرْمَداً إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بإسكانها في وسط السماء، أو تحريكها على مدار فوق الأفق مَنْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يَأْتِيكُمْ بِلَيْلٍ تَسْكُنُونَ فِيهِ استراحة من متاعب الأشغال.

و لعلّه لم يصف الضياء بما يقابله- و هو: تتصرّفون فيه- لأنّ الضوء نعمة في ذاته مقصود بنفسه، و لا كذلك اللّيل. و لأنّ منافع الضوء متكاثرة، ليس التصرّف في المعاش وحده، و الظلّام ليس بتلك المنزلة. و لذلك قرن بالضياء «أَ فَلا تَسْمَعُونَ» و بالليل أَ فَلا تُبْصِرُونَ لأنّ استفادة العقل من السمع أكثر من استفادته من البصر، فإنّ السمع يدرك ما لا يدرك البصر، من ذكر منافعه، و وصف فوائده.

وَ مِنْ رَحْمَتِهِ جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ في الليل وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ في النهار بأنواع المكاسب وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ و لكي تعرفوا نعمة اللّه في ذلك فتشكروه عليها.

و لمّا بيّن توحيده بالأدلّة المذكورة، كرّر النداء للمشركين ب «أين شركائي» تقريعا بعد تقريع، و تبكيتا بعد تبكيت، للإشعار بأنّه لا شي ء أجلب لغضب اللّه تعالى من الإشراك، كما لا شي ء أدخل

في مرضاته من توحيده، فقال:

وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ فَيَقُولُ أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ قيل: النداء الأوّل «1» لتقرير إقرارهم على أنفسهم بالغيّ الّذي كانوا عليه و فساد رأيهم. و الثاني للتعجيز عن إقامة البرهان على ما طولبوا به بحضرة الأشهاد، و إنّما كان محض تشهّ و هوى.

وَ نَزَعْنا و أخرجنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ شَهِيداً و هو نبيّهم يشهد عليهم، فإنّ أنبياء الأمم شهداء عليهم، يشهدون بما كانوا عليه فَقُلْنا للأمم

______________________________

(1) في الآية: 62 من هذه السورة.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 191

هاتُوا بُرْهانَكُمْ حجّتكم على صحّة ما كنتم تدينون به، من الشرك و مخالفة الرسول.

فَعَلِمُوا حينئذ أَنَّ الْحَقَّ لِلَّهِ في الألوهيّة، لا يشاركه فيها أحد، لا لهم و لشياطينهم. فلزمتهم الحجّة، لأنّ المشهود عليه إذا لم يأت بمخلص عن بيّنة الخصم، توجّهت القضيّة عليه و لزمه الحكم.

وَ ضَلَّ عَنْهُمْ و غاب عنهم غيبة الشي ء الضائع ما كانُوا يَفْتَرُونَ من الباطل و الكذب.

[سورة القصص (28): الآيات 76 الى 78]

إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فَبَغى عَلَيْهِمْ وَ آتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ ما إِنَّ مَفاتِحَهُ لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ لا تَفْرَحْ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ (76) وَ ابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ الدَّارَ الْآخِرَةَ وَ لا تَنْسَ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا وَ أَحْسِنْ كَما أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ وَ لا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ (77) قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي أَ وَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَ أَكْثَرُ جَمْعاً وَ لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ (78)

و لمّا قال سبحانه: وَ ما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ زِينَتُها وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَ

أَبْقى «1» أكّد ذلك بما أوتي قارون من النعم الفانية الّتي بها خسف في الأرض، و حرم من النعم الباقية، فقال:

______________________________

(1) القصص: 60.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 192

إِنَّ قارُونَ كانَ مِنْ قَوْمِ مُوسى فإنّه كان ابن عمّه يصهر بن قاهث بن لاوي بن يعقوب. و كان موسى بن عمران بن قاهث. و قيل: كان موسى ابن أخيه. فقارون كان عمّه. و

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: هو ابن خالته.

و هذا منقول عن عطا، عن ابن عبّاس. و كان يسمّى المنوّر، لحسن صورته. و كان أقرأ بني إسرائيل للتوراة، و لكنّه نافق كما نافق السامريّ.

فَبَغى عَلَيْهِمْ فطلب الفضل عليهم، و أن يكونوا تحت أمره. أو تكبّر عليهم، أو ظلمهم.

قيل: و ذلك حين ملّكه فرعون على بني إسرائيل، أو حسدهم، لما روي أنّه قال لموسى عليه السّلام: لك الرّسالة، و لهارون الحبورة «1»، و أنا في غير شي ء، إلى متى أصبر؟ قال موسى عليه السّلام: هذا صنع اللّه. قال: و اللّه لا أصدّقك حتّى تأتي بآية. فأمر رؤساء بني إسرائيل أن يجي ء كلّ واحد بعصاه، فحزمها «2» و ألقاها في القبّة الّتي كان الوحي ينزل عليه فيها. و كانوا يحرسون عصيّهم بالليل، فأصبحوا و إذا بعصا هارون تهتزّ، و لها ورق أخضر، و كانت من شجر اللوز. فقال قارون: ما هو بأعجب ممّا تصنع من السحر.

وَ آتَيْناهُ مِنَ الْكُنُوزِ من الأموال المدّخرة ما أي: الّذي إِنَّ مَفاتِحَهُ مفاتيح صناديقه، جمع مفتح بالكسر. و هو ما يفتح به الأبواب. و قيل: خزائنه.

و قياس واحدها: المفتح بالفتح. لَتَنُوأُ بِالْعُصْبَةِ أُولِي الْقُوَّةِ خبر «إنّ»، و الجملة صلة «ما»، و هو ثاني مفعولي «آتى». و «تنوء» من: ناء به الحمل، إذا أثقله

حتّى أماله. و العصبة و العصابة الجماعة الكثيرة. يقال: اعصوصبوا إذا اجتمعوا.

قيل: كانت تحمل مفاتيح خزائنه ستّون بغلا، لكلّ خزانة مفتاح، و لا يزيد

______________________________

(1) الحبورة: الإمامة. مأخوذة من الحبر، بمعنى: الرئيس في الدين.

(2) أي: شدّها.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 193

المفتاح على أصبع، و كانت من جلود. و قال أبو رزين: يكفي الكوفة مفتاح، أي:

كنز واحد من كنوزه.

إِذْ قالَ لَهُ قَوْمُهُ منصوب ب «تنوء» لا تَفْرَحْ لا تبطر و لا تمرح. و الفرح بالدنيا مذموم مطلقا، لأنّه نتيجة حبّها و الرضا بها، و الذهول عن ذهابها، فإنّ العلم بأنّ ما فيها من اللذّة مفارقة لا محالة يوجب الترح «1»، كما قال «2»:

أشدّ الغمّ عندي في سرورتيقّن عنه صاحبه انتقالا

و لذلك قال سبحانه: وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ «3».

و لمّا كانت محبّة الدنيا و ما فيها مانعة من محبّة اللّه تعالى قال عزّ و جلّ: إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْفَرِحِينَ أي: بزخارف الدنيا.

وَ ابْتَغِ فِيما آتاكَ اللَّهُ و اطلب فيما أعطاك اللّه من الغنى الدَّارَ الْآخِرَةَ بأن تصرفه فيما يوجبها لك من وجوه البرّ و سبيل الخير، فإنّ المقصود منه أن يكون وصلة إليها.

وَ لا تَنْسَ و لا تترك ترك المنسيّ نَصِيبَكَ مِنَ الدُّنْيا و هو أن تحصّل بها آخرتك، فإنّ حقيقة نصيب الإنسان من الدنيا الّذي يعمل به للآخرة. و

روي في معناه عن عليّ عليه السّلام: «لا تنس قوّتك و شبابك و نشاطك و غناك أن تطلب بها الآخرة».

قيل: معناه خذ منها ما يكفيك و يصلحك. فإن كان قتورا شحيحا فقيل له: كل و اشرب و استمتع بما آتاك اللّه من الوجه الّذي أباحه اللّه لك، فإنّ ذلك غير محظور عليك.

وَ أَحْسِنْ إلى عباد اللّه كَما

أَحْسَنَ اللَّهُ إِلَيْكَ فيما أنعم عليك. و قيل:

______________________________

(1) التّرح: الحزن و الهمّ.

(2) لأبي الطيب. انظر ديوانه (طبعة دار صادر): 140.

(3) الحديد: 23.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 194

أحسن بالشكر و الطاعة، كما أحسن إليك بالإنعام.

وَ لا تَبْغِ الْفَسادَ فِي الْأَرْضِ نهي له عمّا كان عليه من الظلم و البغي إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ الْمُفْسِدِينَ لسوء أفعالهم. قيل: إنّ القائل بذلك موسى عليه السّلام.

قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ أعطيت هذا المال الكثير عَلى عِلْمٍ عِنْدِي على استحقاق و استيجاب، لما فيّ من العلم الّذي فضّلت به على الناس، و استوجبت به التفوّق عليهم بالجاه و المال.

و «على علم» في موضع الحال. و «عندي» صفة له، أو متعلّق ب «أوتيته»، كقولك: الأمر عندي كذا، أي: في ظنّي و اعتقادي. و هو علم التوراة، فإنّه كان أعلم بني إسرائيل بالتوراة بعد موسى و هارون و يوشع و كالب عليهم السّلام. و قيل: العلم بكنوز يوسف عليه السّلام.

و عن سعيد بن المسيّب: كان موسى عليه السّلام يعلم علم الكيمياء، فأفاد يوشع بن نون ثلثه، و كالب بن يوفنّا ثلثه، و قارون ثلثه، فخدعهما قارون حتّى أضاف علمهما إلى علمه، فكان يأخذ الرصاص و النحاس فيجعلهما ذهبا.

و قيل: علّم اللّه موسى الكيمياء، فعلّمه موسى أخته، فعلّمته أخته قارون.

و قيل: هو بصّره بأنواع التجارة و الدهقنة، و سائر المكاسب.

ثمّ قال سبحانه على وجه التوبيخ: أَ وَ لَمْ يَعْلَمْ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَهْلَكَ مِنْ قَبْلِهِ مِنَ الْقُرُونِ مَنْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُ قُوَّةً وَ أَكْثَرُ جَمْعاً أي: قد قرأ قارون في التوراة، و سمع من موسى و حفّاظ التواريخ، أن اللّه تعالى قد أهلك القرون الخالية الّذين هم أقوى منه، و أغنى و أكثر جماعة و عددا،

أو أكثر جمعا للمال، كقوم عاد و ثمود و قوم لوط.

و قيل: هذا ردّ لعلمه بذلك، لأنّه لمّا قال: «أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي» فترفّع بالعلم و تعظّم به، قيل: أ عنده مثل ذلك العلم الّذي ادّعاه، و رأى نفسه به مستوجبة لكلّ نعمة، و لم يعلم هذا العلم النافع، حتّى يقي به نفسه مصارع الهالكين؟

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 195

و لمّا ذكر قارون من أهلك من قبله من القرون الّذين كانوا أقوى منه و أغنى، أكّد ذلك بقوله:

وَ لا يُسْئَلُ عَنْ ذُنُوبِهِمُ الْمُجْرِمُونَ سؤال استعلام، فإنّه تعالى مطّلع عليها، فلا يحتاج إلى سؤالهم عنها. أو سؤال معاتبة، فإنّهم يعذّبون بها بغتة.

و ملخّص المعنى: أنّ اللّه تعالى مطّلع على ذنوب المجرمين كلّهم، فيعاقبهم عليها لا محالة. و هذا كقوله: فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌ «1». و أمّا قوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ «2» فإنّما هو سؤال توبيخ و تقريع.

[سورة القصص (28): الآيات 79 الى 82]

فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (79) وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَيْلَكُمْ ثَوابُ اللَّهِ خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً وَ لا يُلَقَّاها إِلاَّ الصَّابِرُونَ (80) فَخَسَفْنا بِهِ وَ بِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ ما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ (81) وَ أَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ بِالْأَمْسِ يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا لَخَسَفَ بِنا وَيْكَأَنَّهُ لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ (82)

فَخَرَجَ عَلى قَوْمِهِ فِي زِينَتِهِ روي: أنّه خرج على بغلة شهباء عليه

______________________________

(1) الرحمن: 39.

(2) الحجر: 92.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 196

الأرجوان «1»، و

عليها سرج من ذهب، و معه أربعة آلاف على زيّه. و قيل: عليهم و على خيولهم الديباج الأحمر، و عن يمينه ثلاثمائة غلام، و عن يساره ثلاثمائة جارية بيض، عليهنّ الحليّ و الديباج. و قيل: في تسعين ألفا عليهم المعصفرات «2»، و هو أوّل يوم رؤي فيه المعصفر. و قال الحسن: خرج عليهم في الحمرة و الصفرة.

قالَ الَّذِينَ يُرِيدُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا على ما هو عادة الناس من الرغبة يا لَيْتَ لَنا مِثْلَ ما أُوتِيَ قارُونُ تمنّوا مثله الّذي يسمّى الغبطة، لا عينه، حذرا عن الحسد الّذي يتمنّى الرجل أن يكون نعمة صاحبه له دونه إِنَّهُ لَذُو حَظٍّ نصيب وافر من أمر الدنيا عَظِيمٍ و الحظّ- لغة-: الجدّ. و هو البخت و الدولة. و صفوه بأنّه مجدود مبخوت. يقال: فلان ذو حظّ، و حظيظ، و محظوظ.

وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ بأحوال الآخرة من المؤمنين المصدّقين بوعد اللّه للمتمنّين وَيْلَكُمْ أصله الدعاء بالهلاك، ثمّ استعمل في الزجر و الردع و البعث على ترك ما لا يرتضى، كما استعمل: لا أبالك، في الحثّ على الفعل. و أصله الدعاء على الرجل المتّهم في النسب من جانب الأب. ثَوابُ اللَّهِ في الآخرة خَيْرٌ لِمَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً ممّا أوتي قارون، بل من الدنيا و ما فيها.

وَ لا يُلَقَّاها الضمير فيه للكلمة الّتي تكلّم بها العلماء. أو للثواب، فإنّه بمعنى المثوبة أو الجنّة. أو للإيمان و العمل الصالح، فإنّهما في معنى السيرة و الطريقة إِلَّا الصَّابِرُونَ على الطاعات، و عن المعاصي.

روي: أنّ قارون كان يؤذي موسى عليه السّلام في كلّ وقت، و هو يداريه للقرابة الّتي بينهما، حتّى نزلت آية الزكاة، فصالحه عن كلّ ألف دينار على دينار، و عن

كلّ ألف درهم على درهم. فحسبه فاستكثره، فشحّت به نفسه. فجمع بني إسرائيل و قال: إنّ

______________________________

(1) الأرجوان: قطيفة حمراء. و الأرجوان: صبغ أحمر. و هو معرّب: أرغوان الفارسيّة.

(2) المعصفر: الثوب المصبوغ بالعصفر. و هو صبغ أصفر اللون.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 197

موسى يريد أن يأخذ أموالكم.

فقالوا: أنت كبيرنا و سيّدنا، فمر بما شئت.

قال: نرشو فلانة البغيّ حتّى ترمي موسى بنفسها، فتفضحه بين يدي بني إسرائيل ليرفضوه. فجعل لها ألف دينار. و قيل: طشتا من ذهب مملوءة ذهبا. و قيل:

حكّمها في ماله. و قيل: أعطاها خريطتين عليهما خاتمه.

و قالت: يا ويلتي قد عملت كلّ فاحشة، فما بقي إلّا أن افتري على نبيّ اللّه! فلمّا كان يوم عيد قام موسى خطيبا فقال: يا بني إسرائيل من سرق قطعناه، و من افترى جلدناه، و من زنا و هو غير محصن جلدناه، و إن أحصن رجمناه.

فقال قارون: و إن كنت أنت؟

قال: و إن كنت أنا.

قال: فإنّ بني إسرائيل يزعمون أنّك فجرت بفلانة.

فأحضرت. فناشدها موسى بالّذي فلق البحر و أنزل التوراة أن تصدق.

فتداركها اللّه فقالت: كذبوا، بل جعل لي قارون جعلا على أن أقذفك بنفسي.

فخرّ موسى ساجدا يبكي، و قال: يا ربّ إن كنت رسولك فاغضب لي.

فأوحي إليه: أن مر الأرض بما شئت، فإنّها مطيعة لك.

فقال: يا بني إسرائيل إنّ اللّه بعثني إلى قارون كما بعثني إلى فرعون، فمن كان معه فليلزم مكانه، و من كان معي فليعتزل. فاعتزلوا جميعا غير رجلين. ثمّ قال: يا أرض خذيهم، فأخذتهم إلى الركب. ثمّ قال: خذيهم، فأخذتهم إلى الأوساط. ثمّ قال: خذيهم، فأخذتهم إلى الأعناق. و قارون و أصحابه يتضرّعون إلى موسى، و يناشدونه باللّه و الرحم، و موسى لا يلتفت إليهم، لشدّة

غضبه. ثمّ قال: خذيهم، فانطبقت عليهم.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 198

و أوحى اللّه إلى موسى: ما أفظّك! استغاثوا بك مرارا فلم ترحمهم. أما و عزّتي لو إيّاي دعوا مرّة واحدة لوجدوني قريبا مجيبا.

فأصبحت بنو إسرائيل يتناجون بينهم: إنّما دعا موسى على قارون ليستبدّ بداره و كنوزه. فدعا اللّه حتّى خسف بداره و أمواله، كما قال اللّه سبحانه:

فَخَسَفْنا بِهِ وَ بِدارِهِ الْأَرْضَ فَما كانَ لَهُ مِنْ فِئَةٍ أعوان. مشتقّة من: فأوت رأسه، إذا ميّلته. يَنْصُرُونَهُ مِنْ دُونِ اللَّهِ فيدفعون عنه عذاب اللّه وَ ما كانَ مِنَ المُنْتَصِرِينَ من المنتقمين من موسى. أو الممتنعين من عذاب اللّه. من قولهم:

نصره من عدوّه فانتصر، إذا منعه منه فامتنع.

وَ أَصْبَحَ الَّذِينَ تَمَنَّوْا مَكانَهُ منزلته من الدنيا بِالْأَمْسِ منذ زمان قريب، حين خرج عليهم في زينته يَقُولُونَ وَيْكَأَنَّ اللَّهَ هذه كلمة تندّم و تنبّه على الخطأ.

مركّبة عند البصريّين من «وي» للتعجّب، و «كأنّ» للتشبيه، و الضمير للشأن.

و المعنى: أنّ القوم تنبّهوا على خطئهم في تمنّيهم منزلة قارون و تندّموا، ثمّ قالوا: كأنّ اللّه، أي: ما أشبه الأمر أنّ اللّه يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لمن يشاء منهم، أي: بمقتضى مشيئته و حكمته، لا لكرامة تقتضي البسط، و لا لهوان يوجب القبض.

و عند الكوفيّين مشتقّة من «ويك» بمعنى: ويلك، و أنّ تقديره: ويك اعلم أنّ اللّه يبسط ... إلخ.

لَوْ لا أَنْ مَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا أنعم اللّه علينا بنعمه، فلم يعطنا مثل ما أعطى قارون لَخَسَفَ بِنا لأجله. و قرأ حفص بفتح الخاء و السين.

وَيْكَأَنَّهُ و ما أشبه الحال بأنّه لا يُفْلِحُ الْكافِرُونَ لا يفوز بثواب اللّه، و لا ينجو من عقابه، الجاحدون لنعمة اللّه. أو المكذّبون برسله، و بما وعدوا

لهم من ثواب الآخرة.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 199

[سورة القصص (28): الآيات 83 الى 84]

تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ وَ لا فَساداً وَ الْعاقِبَةُ لِلْمُتَّقِينَ (83) مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (84)

تِلْكَ الدَّارُ الْآخِرَةُ إشارة تعظيم و تفخيم لشأنها، كأنّه قال: تلك الّتي سمعت خبرها و بلغك وصفها. و الدار صفة، و الخبر نَجْعَلُها لِلَّذِينَ لا يُرِيدُونَ عُلُوًّا فِي الْأَرْضِ غلبة و قهرا وَ لا فَساداً ظلما على الناس، كما أراد فرعون و قارون وَ الْعاقِبَةُ المحمودة لِلْمُتَّقِينَ للّذين يجتنبون عمّا لا يرضاه اللّه. علّق الوعد بترك إرادة العلوّ و الفساد، و لم يقل: لا تعلو و لا تفسدوا، كما علّق الوعيد بالركون في قوله: وَ لا تَرْكَنُوا إِلَى الَّذِينَ ظَلَمُوا «1».

و روي عن عليّ عليه السّلام: «أنّ الرجل ليعجبه أن يكون شراك نعله أجود من شراك نعل صاحبه، فيدخل تحتها».

و عن الفضيل أنّه قرأها ثمّ قال: ذهبت الأماني هاهنا.

ثمّ أكّد ذلك بقوله: مَنْ جاءَ بِالْحَسَنَةِ فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها ذاتا و قدرا و وصفا وَ مَنْ جاءَ بِالسَّيِّئَةِ فَلا يُجْزَى الَّذِينَ عَمِلُوا السَّيِّئاتِ وضع فيه الظاهر موضع الضمير، تهجينا لحالهم، و زيادة تبغيض للسيّئة إلى قلوب السامعين إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي: إلّا مثل ما كانوا يعملون. فحذف المثل، و أقيم «ما كانُوا يَعْمَلُونَ» مقامه، مبالغة في المماثلة.

و هذا من فضله العظيم، و كرمه الواسع، أن لا يجزي السيّئة إلّا بمثلها،

______________________________

(1) هود: 113.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 200

و يجزي الحسنة بعشر أمثالها و بسبعمائة. و هو معنى قوله: «فَلَهُ خَيْرٌ مِنْها».

[سورة القصص (28): الآيات 85 الى 88]

إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ قُلْ رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى وَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ

(85) وَ ما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ إِلاَّ رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ (86) وَ لا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ وَ ادْعُ إِلى رَبِّكَ وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ (87) وَ لا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلاَّ وَجْهَهُ لَهُ الْحُكْمُ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (88)

و لمّا حكم بأنّ العاقبة الحسنى للمتّقين، و أكّد ذلك بوعد المحسنين و وعيد المسيئين، وعد رسوله بالعاقبة المحمودة، فقال:

إِنَّ الَّذِي فَرَضَ عَلَيْكَ الْقُرْآنَ أوجب عليك تلاوته، و تبليغه، و العمل بما فيه لَرادُّكَ إِلى مَعادٍ أيّ معاد، أي: معاد ليس لغيرك من البشر. و تنكير المعاد لذلك.

و هو المقام المحمود الّذي وعدك أن يبعثك فيه.

و قيل: المراد به مكّة، فإنّ اللّه سبحانه ردّه إليها يوم الفتح. و وجه تنكيره: أنّها كانت في ذلك اليوم معادا له شأن، و مرجعا له اعتداد، لغلبة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليها، و قهره لأهلها، و لظهور عزّ الإسلام و أهله، و ذلّ الشرك و حزبه. و لمّا كانت السورة مكّيّة، فكأنّ اللّه وعده و هو بمكّة في أذى من أهلها: أنّه يجعله مهاجرا منها، ثمّ يعيده إليها ظاهرا ظافرا.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 201

و روي: أنّه لمّا بلغ جحفة في مهاجره اشتاق إلى مولده و مولد آبائه و حرمهم.

فنزل جبرئيل فقال له: أ تشتاق إلى مكّة؟ قال: نعم. فأوحي هذه الآية إليه.

و لمّا وعد اللّه رسوله الردّ إلى معاد، قال تقريرا لهذا الوعد: قُلْ للمشركين:

رَبِّي أَعْلَمُ مَنْ جاءَ بِالْهُدى و ما يستحقّه من الثواب و النصر في معاده. يعني: به نفسه. و «من» منتصب بفعل

يفسّره «أعلم». وَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ و ما يستحقّه من العذاب و الإضلال. يعني به المشركين.

و قرّر الوعد إلى معاد بقوله: وَ ما كُنْتَ تَرْجُوا أَنْ يُلْقى إِلَيْكَ الْكِتابُ أي:

سيردّك إلى معادك، كما ألقى إليك الكتاب و ما كنت ترجوه إِلَّا رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ و لكن ألقاه رحمة منه. و يجوز أن يكون استثناء متّصلا محمولا على المعنى. كأنّه قال: و ما ألقي إليك الكتاب إلّا رحمة.

فَلا تَكُونَنَّ ظَهِيراً لِلْكافِرِينَ بمداراتهم، و التحمّل عنهم، و الإجابة إلى طلبتهم.

وَ لا يَصُدُّنَّكَ عَنْ آياتِ اللَّهِ عن قراءتها و العمل بها بَعْدَ إِذْ أُنْزِلَتْ إِلَيْكَ بعد وقت إنزاله إليك وَ ادْعُ أمّتك إِلى رَبِّكَ إلى عبادته و توحيده وَ لا تَكُونَنَّ مِنَ الْمُشْرِكِينَ بمساعدتهم.

و هذا للتهييج و قطع أطماع المشركين عن مساعدته لهم. و كذا قوله: وَ لا تَدْعُ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كُلُّ شَيْ ءٍ هالِكٌ إِلَّا وَجْهَهُ إلّا ذاته، فإنّ ما عداه ممكن هالك في حدّ ذاته، زائل معدوم لَهُ الْحُكْمُ القضاء النافذ في الخلق وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ للجزاء بالحقّ.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 203

(29) سورة العنكبوت

اشارة

و هي تسع و ستّون آية بالإجماع.

عن أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ سورة العنكبوت كان له من الأجر عشر حسنات، بعدد كلّ المؤمنين و المنافقين».

و

روى أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة العنكبوت و الروم في شهر رمضان ليلة ثلاث و عشرين، فهو و اللّه يا أبا محمّد من أهل الجنّة، لا أستثني فيه أبدا، و لا أخاف أن يكتب اللّه عليّ في يميني إثما، و إنّ لهاتين السورتين من اللّه مكانا».

[سورة العنكبوت (29): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (1) أَ حَسِبَ النَّاسُ أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ (2) وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ (3) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ أَنْ يَسْبِقُونا ساءَ ما يَحْكُمُونَ (4)

مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ لَآتٍ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (5)

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 204

و اعلم أنّ اللّه سبحانه لمّا ختم سورة القصص بذكر الوعد و الوعيد، افتتح هذه السورة بذكر تكليف العبيد، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم أَ حَسِبَ النَّاسُ الهمزة للإنكار و التوبيخ. و لا يتعلّق بمعاني المفردات، بل بمضامين الجمل، للدلالة على جهة ثبوتها، و لذلك اقتضى مفعولين متلازمين، أو ما يسدّ مسدّهما، كقوله تعالى: أَنْ يُتْرَكُوا أَنْ يَقُولُوا آمَنَّا وَ هُمْ لا يُفْتَنُونَ فإنّ معناه: أحسبوا تركهم غير مفتونين لقولهم: آمنّا. فالترك أوّل مفعولي «حسب». و «لقولهم آمنا» المفعول الثاني. و أمّا «غير مفتونين» فمن تتمّة الترك الّذي بمعنى التصيير، كقوله «1»: فتركته جزر السباع ينشنه.

ألا ترى أنّك قبل المجي ء بالحسبان تقدر أن تقول: تركهم غير مفتونين، لقولهم:

آمنّا، على تقدير: حاصل و مستقرّ قبل اللام. كما تقول: خروجه لمخافة الشرّ، و ضربه للتأديب. و قد كان التأديب و المخافة في قولك: خرجت مخافة الشرّ و ضربته تأديبا، تعليلين. و تقول أيضا: حسبت خروجه لمخافة الشرّ، و ظننت ضربه للتأديب. فتجعلهما مفعولين، كما جعلتهما مبتدأ و خبرا.

و الفتنة: الامتحان بمشاقّ التكاليف، كالمهاجرة، و مجاهدة الأعداء، و رفض الشهوات، و و وظائف الطاعات، و أنواع المصائب في الأنفس و الأموال، ليتميّز المخلص من المنافق، و الثابت في الدين من المضطرب فيه، و لينالوا بالصبر عليها إلى الدرجات، فإنّ مجرّد الإيمان و إن كان عن خلوص، لا يقتضي غير الخلاص من الخلود في العذاب.

و معنى الآية: أحسب الّذين أجروا كلمتي الشهادتين على ألسنتهم، و أظهروا القول بالإيمان، أنّهم يتركون بذلك غير ممتحنين، بل يمتحنهم اللّه بضروب المحن

______________________________

(1) لعنترة بن شدّاد، و عجزه: يقضمن حسن بنانه و المعصم، انظر ديوانه (طبعة دار بيروت):

26.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 205

في الأنفس و الأموال، حتّى يبلو صبرهم، و ثبات أقدامهم، و صحّة عقائدهم، و نصوح نيّاتهم، ليتميّز المخلص من غير المخلص، و الراسخ في الدين من المضطرب، و المتمكّن من العابد على حرف، كما قال تعالى: لَتُبْلَوُنَّ فِي أَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ وَ لَتَسْمَعُنَّ مِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ مِنَ الَّذِينَ أَشْرَكُوا أَذىً كَثِيراً وَ إِنْ تَصْبِرُوا وَ تَتَّقُوا فَإِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ «1».

و روي: أنّها نزلت في ناس من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد جزعوا من أذى المشركين.

و قيل: في عمّار بن ياسر. و كان يعذّب في اللّه.

و قيل: في ناس أسلموا بمكّة، فكتب إليهم المهاجرون: لا يقبل منكم إسلامكم

حتّى تهاجروا. فخرجوا، فتبعهم المشركون فردّوهم. فلمّا نزلت كتبوا بها إليهم، فخرجوا فأتبعهم المشركون فقاتلوهم، فمنهم من قتل، و منهم من نجا.

ثمّ سلّى المؤمنين ليتحمّلوا صنوف المصائب و فنون النوائب، بقوله: وَ لَقَدْ فَتَنَّا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ متّصل ب «أحسب» كقولك: ألا يمتحن فلان و قد امتحن من هو خير منه. أو ب «لا يفتنون». و المعنى: أنّ أتباع الأنبياء قبلي قد أصابهم من الفتن و المحن نحو ما أصابهم، أو ما هو أشدّ منه، فصبروا، كما قال: وَ كَأَيِّنْ مِنْ نَبِيٍّ قاتَلَ مَعَهُ رِبِّيُّونَ كَثِيرٌ فَما وَهَنُوا «2» الآية. و لمّا كان ذلك سنّة قديمة جارية في الأمم كلّها، فلا يتوقّع خلافه.

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «قد كان من قبلكم يؤخذ فيوضع المنشار على رأسه فيفرّق فرقتين، ما يصرفه ذلك عن دينه. و يمشط بأمشاط الحديد ما دون عظمه من لحم و عصب، ما يصرفه ذلك عن دينه».

______________________________

(1) آل عمران: 186.

(2) آل عمران: 146.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 206

زبدة التفاسير ج 5 249

فَلَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ صَدَقُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْكاذِبِينَ فليتعلّقنّ علمه تعالى بالامتحان تعلّقا حاليّا، يتميّز به الّذين صدقوا في الإيمان و الّذين كذبوا فيه، و ينوط به ثوابهم و عقابهم. و لذلك قيل: المعنى: و ليميّزنّ أو ليجازينّ.

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ يَعْمَلُونَ السَّيِّئاتِ الكفر و المعاصي، فإنّ العمل يعمّ أفعال القلوب و الجوارح أَنْ يَسْبِقُونا أن يفوتونا فوت السابق لغيره، و يعجزونا، فلا نقدر أن نجازيهم على مساويهم. يعني: أنّ الجزاء يلحقهم لا محالة، و هم لم يطمعوا في الفوت، و لم يحدّثوا به نفوسهم، و لكنّهم لغفلتهم، و قلّة فكرهم في العاقبة، و إصرارهم على المعاصي، في صورة من

يقدر ذلك، و يطمع فيه. و نظيره: وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ «1». وَ لا يَحْسَبَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا سَبَقُوا إِنَّهُمْ لا يُعْجِزُونَ «2».

و اعلم أنّ «أن يسبقونا» سادّ مسدّ مفعولي «حسب»، لاشتمال صلة «أن» على مسند و مسند إليه، كقوله: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ «3».

و يجوز أن يضمنّ «حسب» معنى قدّر، و «أم» منقطعة. و معنى الإضراب فيها: أنّ هذا الحسبان أبطل من الحسبان الأوّل، لأنّ ذلك يقدّر أنّه لا يمتحن لإيمانه، و هذا يظنّ أنّه لا يجازى بمساويه. و لهذا عقّبه بقوله: ساءَ ما يَحْكُمُونَ أي: بئس الّذي يحكمونه حكمهم هذا. أو بئس حكما يحكمونه حكمهم هذا.

فحذف المخصوص بالذمّ.

مَنْ كانَ يَرْجُوا لِقاءَ اللَّهِ الوصول إلى العاقبة، من الموت و البعث و الحساب و الجزاء. على تمثيل حاله بحال عبد قدم على سيّده بعد زمان مديد، و قد اطّلع السيّد على ما يأتي و يذر، فإمّا أن يلقاه ببشر و ترحيب لما رضي من أفعاله، أو

______________________________

(1) العنكبوت: 22.

(2) الأنفال: 59.

(3) البقرة: 214.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 207

بسخط لما سخط منها.

و تحرير المعنى: من كان يأمل أن يلقى الكرامة من اللّه و البشرى فَإِنَّ أَجَلَ اللَّهِ فإنّ الموت الّذي هو الوقت المضروب للقائه لَآتٍ لجاء لا محالة. و هذا كقوله: من كان يرجو لقاء الملك، فإنّ يوم الجمعة قريب، إذا علم أنّه يقعد للناس يوم الجمعة. و إذا كان وقت اللقاء آتيا كان اللقاء كائنا لا محالة، فليبادر ما يحقّق أمله، و يصدّق رجاءه، و ما يستوجب القربة و الرضا.

وَ هُوَ السَّمِيعُ لأقوال العباد الْعَلِيمُ بأفعالهم. فهو حقيق بالتقوى و الخشية.

[سورة العنكبوت (29): الآيات 6 الى 7]

وَ مَنْ جاهَدَ فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ (6) وَ الَّذِينَ

آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (7)

و لمّا رغّب سبحانه في تحقيق الرجاء بفعل الطاعة، عقّبه بالترغيب في المجاهدة الّتي هي أشقّ الطاعات و أحمز العبادات، فقال:

وَ مَنْ جاهَدَ نفسه الّتي هي أعدى أعدائه بالصبر على مضض الطاعة، و الكفّ عن الشهوات المنهيّة، و الشيطان و أعوانه، بدفع وساوسهم، و جاهد أعداء الدين لإحيائه فَإِنَّما يُجاهِدُ لِنَفْسِهِ لأنّ منفعته لها إِنَّ اللَّهَ لَغَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ فلا حاجة به إلى طاعتهم، و إنّما كلّف عباده رحمة عليهم، و مراعاة لصلاحهم.

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُكَفِّرَنَّ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ الّتي اقترفوها قبل ذلك، بأن يسقط عذاب ما تقدّم لهم من الكفر و المعاصي، ببركة الإيمان و ما يتبعه

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 208

من الطاعات وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَحْسَنَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ أي: أحسن جزاء أعمالهم الّتي عملوها في الإسلام.

[سورة العنكبوت (29): آية 8]

وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً وَ إِنْ جاهَداكَ لِتُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)

و لمّا أمر سبحانه بمجاهدة النفس و الشياطين، و كفرة الإنس الّذين هم أعداء الدين، بيّن حال الأبوين في ذلك، فقال:

وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حُسْناً بإيتاء والديه فعلا ذا حسن. أو فعلا كأنّ في ذاته عين الحسن، لفرط حسنه، كقوله: وَ قُولُوا لِلنَّاسِ حُسْناً «1».

و قيل: «حسنا» منتصب بفعل مضمر، على تقدير قول مفسّر للتوصية، أي:

قلنا: أولهما، أو افعل بهما معروفا، لأنّ التوصية بهما دالّة عليه.

و وصّى يجري مجرى: أمر، معنى و تصرّفا. يقال: وصيّت زيدا بأن يفعل خيرا، كما تقول: أمرته بأن يفعل. و منه قوله تعالى: وَ وَصَّى بِها إِبْراهِيمُ بَنِيهِ «2»، أي: أمرهم بكلمة التوحيد.

وَ إِنْ

جاهَداكَ و إن نازعاك أبواك أيّها الإنسان لِتُشْرِكَ بِي في العبادة ما لَيْسَ لَكَ بِهِ بإلهيّته عِلْمٌ عبّر عن نفيها بنفي العلم بها، إشعارا بأنّ ما لا يعلم صحّته لا يجوز اتّباعه، و إن لم يعلم بطلانه، فضلا عمّا علم بطلانه فَلا تُطِعْهُما في ذلك، فإنّه لا طاعة لمخلوق في معصية الخالق. و لا بدّ من إضمار القول إن لم يضمر قبل.

إِلَيَ إلى جزائي مَرْجِعُكُمْ مرجع من آمن منكم و من أشرك، و من برّ

______________________________

(1) البقرة: 83 و 132.

(2) البقرة: 83 و 132.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 209

بوالديه و من عقّ، فأجازيكم حقّ جزائكم فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بالجزاء عليه.

روي: أنّ سعد بن أبي وقّاص الزهري حين أسلم قالت أمّه- و هي حمنة بنت أبي سفيان بن أميّة بن عبد الشمس-: يا سعد بلغني أنّك قد صبأت، فواللّه لا يظلّني سقف بيت من الضحّ «1» و الريح، و إنّ الطعام و الشراب عليّ حرام حتّى تكفر بمحمّد، و كان أحبّ ولدها إليها. فأبى سعد، و بقيت ثلاثة أيّام كذلك. فجاء سعد إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و شكا إليه. فنزلت هذه الآية، و الّتي في لقمان «2»، و الّتي في الأحقاف «3». فأمره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يداريها و يرضيها بالإحسان.

روي عن بهر بن أبي حكيم، عن أبيه، عن جدّه قال: قلت للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «يا رسول اللّه من أبرّ؟ قال: أمّك. ثمّ قلت: ثمّ من؟ قال: ثمّ أمّك. قلت: ثمّ من؟ قال:

ثمّ أمّك. قلت: ثمّ من؟ قال: أباك، ثمّ الأقرب فالأقرب».

و

عن أنس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله

و سلّم قال: «الجنّة تحت أقدام الأمّهات».

قال الكلبي: نزلت الآية في عياش بن أبي ربيعة المخزومي. و ذلك أنّه أسلم، فخاف أهل بيته، فهاجر إلى المدينة قبل أن يهاجر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فحلفت أمّه أسماء بنت مخزومة بن أبي جندل التميمي: أن لا تأكل، و لا تشرب، و لا تغسل رأسها، و لا تدخل كنّا «4»، حتّى يرجع إليها.

فلمّا رأى ابناها أبو جهل و الحرث ابنا هشام- و هما أخوا عياش لأمّه- جزعها ركبا في طلبه حتّى أتيا المدينة، فلقياه و ذكرا له القصّة، فلم يزالا به حتّى

______________________________

(1) الضحّ: الشمس.

(2) لقمان: 15.

(3) الأحقاف: 15.

(4) الكنّ: البيت.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 210

أخذ عليهما المواثيق أن لا يصرفاه عن دينه، و تبعهما. و قد كانت أمّه صبرت ثلاثة أيّام، ثمّ أكلت و شربت. فلمّا خرجوا من المدينة أخذاه و أوثقاه، و جلده كلّ واحد منهما مائة جلدة حتّى برى ء من دين محمد جزعا من الضرب، و قال ما لا ينبغي.

فنزلت الآية.

و كان الحرث أشدّهما عليه، فحلف عياش لئن قدر عليه خارجا من الحرم ليضربنّ عنقه. فلمّا رجعوا إلى مكّة مكثوا حينا، ثمّ هاجر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنون إلى المدينة. و هاجر عياش، و حسن إسلامه. و أسلم الحرث بن هشام، و هاجر إلى المدينة، و بايع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لم يحضر عياش. فلقيه عياش يوما بظهر قبا، و لم يشعر بإسلامه، فضرب عنقه. فقيل له: إنّ الرجل قد أسلم. فاسترجع عياش و بكى. ثمّ أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأخبره بذلك، فنزل: وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ

أَنْ يَقْتُلَ مُؤْمِناً إِلَّا خَطَأً «1».

[سورة العنكبوت (29): آية 9]

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ (9)

ثمّ حكى اللّه عن حال المؤمنين، فقال: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُدْخِلَنَّهُمْ فِي الصَّالِحِينَ في جملتهم. و الصلاح من أبلغ صفات المؤمنين، و الكمال في الصلاح منتهى درجات المؤمنين، و متمنّى أنبياء اللّه المرسلين. و قد قال في إبراهيم عليه السّلام: وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ «2». أو في مدخلهم. و هو الجنّة.

و هذا نحو قوله: وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ الرَّسُولَ فَأُولئِكَ مَعَ الَّذِينَ أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ الآية.

______________________________

(1) النساء: 92.

(2) البقرة: 130.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 211

[سورة العنكبوت (29): الآيات 10 الى 11]

وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ كَعَذابِ اللَّهِ وَ لَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ أَ وَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ (10) وَ لَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ (11)

ثمّ حكى عن حال المنافقين، فقال: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَقُولُ آمَنَّا بِاللَّهِ بمجرّد اللسان فَإِذا أُوذِيَ فِي اللَّهِ بأن عذّبهم الكفرة على الإيمان جَعَلَ فِتْنَةَ النَّاسِ ما يصيبهم من أذيّتهم في الصرف عن الإيمان كَعَذابِ اللَّهِ في الصرف عن الكفر، أي: إذا أوذي بسبب دين اللّه رجع عن الدين مخافة عذاب الناس، كما ينبغي أن يترك الكافر دينه مخافة عذاب اللّه، فيسوّي بين عذاب فان منقطع، و بين عذاب باق دائم، لقلّة تمييزه. و سمّي أذيّة الناس فتنة، لما في احتمالها من المشقّة.

وَ لَئِنْ جاءَ نَصْرٌ مِنْ رَبِّكَ فتح و غنيمة لَيَقُولُنَّ إِنَّا كُنَّا مَعَكُمْ في الدين، فأشركونا في المغنم. و المراد: المنافقون. و قيل: هم قوم ضعف إيمانهم، فارتدّوا من أذى المشركين. و يؤيّد الأوّل قوله: أَ وَ لَيْسَ اللَّهُ

بِأَعْلَمَ بِما فِي صُدُورِ الْعالَمِينَ من الإخلاص و النفاق.

ثمّ وعد المؤمنين و أوعد المنافقين، فقال: وَ لَيَعْلَمَنَّ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا بقلوبهم وَ لَيَعْلَمَنَّ الْمُنافِقِينَ فيجازي الفريقين.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 212

[سورة العنكبوت (29): الآيات 12 الى 13]

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ وَ ما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (12) وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَ أَثْقالاً مَعَ أَثْقالِهِمْ وَ لَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ (13)

و بعد ذكر أحوال المؤمنين و المنافقين، بيّن أحوال الكافرين، فقال:

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا اتَّبِعُوا سَبِيلَنا طريقتنا الّتي كنّا عليها وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ آثامكم عنكم، إن قلتم: إنّ لكم في اتّباع ديننا إثما. يعنون بذلك أنّه لا إثم عليكم في اتّباع ديننا، و لا يكون بعث و لا نشور، فلا يلزمنا شي ء ممّا ضمنّا. و مثل هذا ما يصدر من ضعفة العامّة فيقول لصاحبه: افعل هذا و إثمه في عنقي.

فردّ اللّه عليهم و كذّبهم بقوله: وَ ما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ «من» الأولى للتبيين، و الثانية مزيدة. و التقدير: و ما هم بحاملين شيئا من خطاياهم.

إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فيما ضمنوا من حمل خطاياهم.

إن قيل: كيف سمّاهم كاذبين، و إنّما ضمنوا شيئا علم اللّه أنّهم لا يقدرون على الوفاء به، و ضامن ما لا يعلم اقتداره على الوفاء به لا يسمّى كاذبا، لا حين ضمن و لا حين عجز، لأنّه في الحالين لا يدخل تحت حدّ الكاذب، و هو المخبر عن الشي ء لا على ما هو عليه؟

أجيب: إنّ اللّه سبحانه شبّه حالهم- حيث علم أنّ ما ضمنوه لا طريق لهم إلى أن يفوا به، فكان ضمانهم عنده لا على ما عليه المضمون- بالكاذبين الّذين خبرهم لا على

ما عليه المخبر عنه. و يجوز أن يريد أنّهم كاذبون، لأنّهم قالوا ذلك و قلوبهم على خلافه، كالكاذبين الّذين يعدون الشي ء و في قلوبهم نيّة الخلف.

و لمّا ذكر كذبهم بحمل خطايا المؤمنين، بيّن ما حملوا بحسب الواقع يوم القيامة، فقال:

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 213

وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ أثقال ما اقترفته أنفسهم وَ أَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ و أثقالا أخر معها غير الخطايا الّتي ضمنوا للمؤمنين حملها. و هي أثقال الإضلال، من غير أن ينقص من أثقال من تبعهم شي ء. و هذا كقوله عليه السّلام: «من سنّ سنّة سيّئة» الخبر.

و بهذا المعنى قوله تعالى: لِيَحْمِلُوا أَوْزارَهُمْ كامِلَةً يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ مِنْ أَوْزارِ الَّذِينَ يُضِلُّونَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ «1».

وَ لَيُسْئَلُنَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ سؤال تقريع و تبكيت عَمَّا كانُوا يَفْتَرُونَ من الأباطيل الّتي أضلّوا بها.

[سورة العنكبوت (29): الآيات 14 الى 15]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلاَّ خَمْسِينَ عاماً فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ وَ هُمْ ظالِمُونَ (14) فَأَنْجَيْناهُ وَ أَصْحابَ السَّفِينَةِ وَ جَعَلْناها آيَةً لِلْعالَمِينَ (15)

و لمّا ذكر سبحانه حال المجاهد الصابر على أذيّة الكفرة، و حال من كان بخلافه، ذكر قصّة نوح عليه السّلام و صبره على أذى قومه، و تكذيبهم إيّاه في المدّة الطويلة المتمادية، ثمّ عقّب ذلك بذكر غيره من الأنبياء، فقال:

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ فَلَبِثَ فِيهِمْ أَلْفَ سَنَةٍ إِلَّا خَمْسِينَ عاماً بعد البعث، إذ روي أنّه بعث على رأس أربعين، و دعا قومه تسعمائة و خمسين، و عاش بعد الطوفان ستّين. و عن وهب: أنّه عاش ألفا و أربعمائة عام.

و لعلّ اختيار هذه العبارة على تسعمائة و خمسين، لأنّ هذا قد يطلق على ما يقرب منه. فكأنّه قيل: تسعمائة و خمسين سنة كاملة وافية العدد.

______________________________

(1) النحل: 25.

زبدة التفاسير،

ج 5، ص: 214

و فيه نكتة اخرى: و هي أنّ القصّة مسوقة لذكر ما ابتلي به نوح من أمّته، و ما كابده من طول المصابرة، تسلية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و تثبيتا له، فكان ذكر رأس العدد الّذي لا رأس أكثر منه، أوقع و أوصل إلى الغرض الّذي هو استطالة السامع مدّة صبره.

و ذكر المميّز أوّلا بالسنة، و ثانيا بالعام، لبشاعة تكرير اللفظ الواحد في الكلام الواحد في البلاغة، إلّا إذا وقع ذلك لأجل غرض، من تفخيم أو تهويل أو نحو ذلك.

فَأَخَذَهُمُ الطُّوفانُ طوفان الماء. و هو ما أطاف و أحاط بكثرة و غلبة، من سيل أو ظلام ليل أو نحوهما. وَ هُمْ ظالِمُونَ بالكفر.

فَأَنْجَيْناهُ أي: نوحا عليه السّلام وَ أَصْحابَ السَّفِينَةِ و من أركب معه من أولاده و أتباعه. و كانوا ثمانين. و قيل: ثمانية و سبعين، منهم أولاد نوح عليه السّلام: سام، و حام، و يافث، و نساؤهم. و قيل: عشرة، نصفهم ذكور، و نصفهم إناث.

وَ جَعَلْناها أي: السفينة، أو الحادثة و القصّة آيَةً لِلْعالَمِينَ يتّعظون، و يستدلّون بها على صدق نوح و كفر قومه.

[سورة العنكبوت (29): الآيات 16 الى 17]

وَ إِبْراهِيمَ إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اتَّقُوهُ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (16) إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ وَ اعْبُدُوهُ وَ اشْكُرُوا لَهُ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (17)

وَ إِبْراهِيمَ عطف على «نوحا». أو منصوب بإضمار: اذكر. إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 215

اعْبُدُوا اللَّهَ ظرف ل «أرسلنا» أي: أرسلناه حين كمل عقله و تمّ نظره، بحيث عرف الحقّ و أمر الناس به. أو بدل

الاشتمال إن قدّر ب: اذكر، فإنّ الأحيان تشتمل على ما فيها. وَ اتَّقُوهُ عن معاصيه ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ ممّا أنتم عليه إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الخير و الشرّ، و تميّزون ما هو خير ممّا هو شرّ. أو إن كنتم تنظرون في الأمور بنظر العلم دون نظر الجهل، علمتم أنّه خير لكم.

إِنَّما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً «ما» كافّة. و المعنى: إنّكم تعبدون أصناما من حجارة لا تضرّ و لا تنفع. وَ تَخْلُقُونَ إِفْكاً كذبا في تسميتها آلهة، و ادّعاء شفاعتها عند اللّه. أو تعلمونها و تنحتونها للإفك. و هو استدلال على شرارة ما هم عليه، من حيث إنّه زور و باطل، للإفك.

إِنَّ الَّذِينَ تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ لَكُمْ رِزْقاً هذا دليل ثان على شرارة ذلك، من حيث إنّه لا يجدي بطائل. و «رزقا» يحتمل المصدر، بمعنى: لا يستطيعون أن يرزقوكم رزقا. و أن يراد المرزوق. و تنكيره للتعميم، أي: لا يملكون لكم شيئا من الرزق.

فَابْتَغُوا عِنْدَ اللَّهِ الرِّزْقَ كلّه، فإنّه هو الرزّاق وحده لا يرزق غيره، لأنّه المالك له دون غيره وَ اعْبُدُوهُ وَ اشْكُرُوا لَهُ متوسّلين إلى مطالبكم بعبادته، مقيّدين لما حفّكم من النعم بشكره. أو مستعدّين للقائه بعبادته، و الشكر له على نعمه، فإنّه إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ إلى حكمه تصيرون يوم القيامة، فيجازيكم على قدر أعمالكم.

[سورة العنكبوت (29): الآيات 18 الى 23]

وَ إِنْ تُكَذِّبُوا فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (18) أَ وَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (19) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (20) يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ يَرْحَمُ

مَنْ يَشاءُ وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ (21) وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (22)

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ وَ لِقائِهِ أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (23)

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 216

وَ إِنْ تُكَذِّبُوا و إن تكذّبوني فَقَدْ كَذَّبَ أُمَمٌ مِنْ قَبْلِكُمْ من قبلي رسلهم، كقوم شعيب و إدريس و نوح و غيرهم، فلم يضرّهم تكذيبهم، و إنّما ضرّوا أنفسهم، حيث حلّ بهم ما حلّ من العذاب بسبب تكذيب الرسل. فكذا تكذيبكم. وَ ما عَلَى الرَّسُولِ إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ الّذي يزال معه الشكّ. و هو اقترانه بآيات اللّه و معجزاته.

أو و إن كنت مكذّبا فيما بينكم، فلي في سائر الأنبياء أسوة و سلوة حيث كذّبوا، و على الرسول أن يبلّغ، و ما عليه أن يصدّق و لا يكذّب.

و هذه الآية و ما بعدها إلى قوله تعالى: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ «1» من جملة قصّة إبراهيم عليه السّلام. و يحتمل أن تكون اعتراضا بذكر شأن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قريش، و هدم مذهبهم، و الوعيد على سوء صنيعهم، توسّط بين طرفي قصّة إبراهيم، من حيث إنّ مساقها لتسلية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و التنفيس عنه، بأنّ أباه خليل اللّه عليهما السّلام كان ممتحنا بنحو ما امتحن به، من أذيّة قومه الّذين كانوا عبدة الأصنام كقومه، فلأجل تشبيه

______________________________

(1) الآية 24 من هذه السورة.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 217

حاله فيهم بحال أبيه إبراهيم، وقعت هذه الجملة معترضة بين قصّته.

أَ وَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ من مادّة و غيرها. و قرأ

حمزة و الكسائي و أبو بكر بالتاء، على تقدير القول. ثُمَّ يُعِيدُهُ إخبار بالإعادة بعد الموت.

معطوف على «او لم يروا» لا على «يبدئ»، فإنّ الرؤية غير واقعة عليه. و يجوز أن تؤوّل الإعادة، بأن ينشئ في كلّ سنة مثل ما كان في السنة السابقة، من النبات و الثمار و نحوهما. فحينئذ تعطف على «يبدئ».

إِنَّ ذلِكَ الإشارة إلى الإعادة، أو إلى ما ذكر من الأمرين عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ إذ لا يفتقر في فعله إلى شي ء.

قُلْ يا إبراهيم، أو يا محمّد سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ بَدَأَ الْخَلْقَ على اختلاف الأجناس و الصفات ثُمَّ اللَّهُ يُنْشِئُ النَّشْأَةَ الْآخِرَةَ بعد النشأة الّتي هي الإبداء، فإنّ الإبداء و الإعادة نشأتان، من حيث إنّ كلّ واحد منهما اختراع و إخراج من العدم.

و الإفصاح باسم اللّه، مع إيقاعه مبتدأ بعد إضماره في «بدأ»، و القياس عكسه، للدلالة على أنّ المقصود بيان الإعادة، لأنّ الكفّار ينكرونها.

و المعنى: أنّهم لمّا أقرّوا بالإبداء لزمهم أن يقرّوا بالإعادة، فإنّها مثل الإبداء، فإنّ من عرف بالقدرة على الإبداء، ينبغي أن يحكم له بالقدرة على الإعادة، لأنّها أهون، فيقدر على النشأة الآخرة، كما قدر على النشأة الأولى. فللدلالة على هذا المعنى أبرز اسمه و أوقعه مبتدأ. و الكلام في هذا العطف ما مرّ «1». و قرأ ابن كثير و أبو عمرو: النّشاءة، كالرآفة.

إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ لأنّ قدرته لذاته، و نسبة ذاته إلى كلّ الممكنات على السواء، فيقدر على النشأة الاخرى، كما قدر على النشأة الأولى.

______________________________

(1) في ذيل قوله تعالى: «أَ وَ لَمْ يَرَوْا كَيْفَ يُبْدِئُ اللَّهُ الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ».

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 218

ثمّ رتّب على منكر الإعادة و مصدّقها الوعيد و الوعد، بقوله: يُعَذِّبُ

مَنْ يَشاءُ تعذيبه ممّن هو مستحقّه، من الكفّار و منكري الإعادة وَ يَرْحَمُ مَنْ يَشاءُ رحمته ممّن هو أهل لها، من المؤمن المصدّق وَ إِلَيْهِ تُقْلَبُونَ و إلى حكمه و جزائه تردّون و ترجعون.

وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ ربّكم، أي: لا تفوتونه إن هربتم من حكمه، و لستم بفائتين عنه إن فررتم من قضائه بالتواري فِي الْأَرْضِ أو الهبوط في مهاويها و أعماقها وَ لا فِي السَّماءِ و لا بالتحصّن في السماء الّتي هي أفسح منها و أبسط، كقوله: إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فَانْفُذُوا «1». أو و لا بالاعتلاء في البروج و القلاع الذاهبة في السماء، كقوله: وَ لَوْ كُنْتُمْ فِي بُرُوجٍ مُشَيَّدَةٍ «2». أو لا تعجزون أمره الجاري في السماء و الأرض أن يجري عليكم البلاء.

و قيل: معناه: و لا من في السماء بمعجزين. فحذف «من» لدلالة الكلام عليه، كما قال حسّان «3»:

أمن يهجو رسول اللّه منكم و يمدحه و ينصره سواء

فكأنّه قال: و من يمدحه و ينصره سواء.

وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ يحرسكم عن بلاء يظهر من الأرض، أو ينزل من السماء، و يدفعه عنكم.

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ بدلائل وحدانيّته، أو بكتبه وَ لِقائِهِ بالبعث أُولئِكَ يَئِسُوا مِنْ رَحْمَتِي أي: ييأسون منها يوم القيامة، كقوله:

______________________________

(1) الرحمن: 33.

(2) النساء: 78.

(3) ديوان حسان (طبعة دار صادر): 9. و فيه: فمن يهجو ...

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 219

وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ «1». فعبّر عنه بالماضي للتحقيق و المبالغة. أو يئسوا في الدنيا لإنكار البعث و الجزاء. وَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ بكفرهم.

[سورة العنكبوت (29): الآيات 24 الى 27]

فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ فَأَنْجاهُ اللَّهُ

مِنَ النَّارِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (24) وَ قالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً وَ مَأْواكُمُ النَّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (25) فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ وَ قالَ إِنِّي مُهاجِرٌ إِلى رَبِّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (26) وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ وَ الْكِتابَ وَ آتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ (27)

ثمّ عاد سبحانه إلى قصّة إبراهيم، فقال: فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ قوم إبراهيم عليه السّلام، حين دعاهم إلى اللّه تعالى، و نهاهم عن عبادة الأصنام إِلَّا أَنْ قالُوا اقْتُلُوهُ أَوْ حَرِّقُوهُ لنتخلّص منه. و كان ذلك قول بعضهم لبعض. و قيل: قاله واحد منهم، و كان الباقون راضين، فكانوا جميعا في حكم القائلين.

فَأَنْجاهُ اللَّهُ مِنَ النَّارِ أي: فقذفوه في النار، فأنجاه منها، بأن أذهب حرّها و جعلها عليه بردا و سلاما إِنَّ فِي ذلِكَ في إنجائه منها لَآياتٍ علامات واضحة. و هي حفظه من أذى النار، و إخمادها- مع عظمها- في زمان يسير،

______________________________

(1) الروم: 12.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 220

و إنشاء روض مكانها. لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ لأنّهم المنتفعون بالتفحّص عنها، و التأمّل فيها.

وَ قالَ إِنَّمَا اتَّخَذْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْثاناً معبودات منحوتات من حجر أو خشب مَوَدَّةَ بَيْنِكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أي: لتتوادّوا بينكم و تتواصلوا، لاجتماعكم و اتّفاقكم على عبادتها، فيكون ذلك سبب تحابّهم و تصادقهم. و ثاني مفعولي «اتّخذتم» محذوف. و يجوز أن تكون «مودّة» المفعول الثاني بتقدير مضاف، أو بتأويلها بالمودودة، أي: اتّخذتم أوثانا سبب المودّة، أو مودودة بينكم.

و قرأ نافع و ابن عامر و

أبو بكر: منوّنة ناصبة «بينكم». و ابن كثير و أبو عمرو و الكسائي و رويس: مرفوعة مضافة، على أنّها خبر مبتدأ محذوف، أي: هي مودّة، أو سبب مودّة بينكم. و الجملة صفة «أوثانا». أو خبران على أنّ «ما» مصدريّة أو موصولة، و العائد محذوف، و هو المفعول الأوّل. و المعنى: إنّما تتوادّون عليها، أو تودّونها في الحياة الدنيا.

ثُمَّ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أي: يقوم التناكر و التباغض و التعادي بينكم، بأن يتبرّأ القادة من الأتباع، و يلعن الأتباع القادة، لأنّهم زيّنوا لهم الكفر. و يقع التلاعن بينكم و بين الأوثان، على تغليب المخاطبين، كقوله تعالى: وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا «1».

و عن قتادة: كلّ خلّة تنقلب يوم القيامة عداوة إلّا خلّة المتّقين، قال سبحانه:

الْأَخِلَّاءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلَّا الْمُتَّقِينَ «2».

وَ مَأْواكُمُ و مستقرّكم النَّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ يخلّصونكم منها.

فَآمَنَ لَهُ لُوطٌ هو ابن أخته، و أوّل من آمن به. و قيل: آمن به حين رأى النار لم تحرقه. وَ قالَ يعني: إبراهيم إِنِّي مُهاجِرٌ من قومي إِلى رَبِّي إلى

______________________________

(1) مريم: 82.

(2) الزخرف: 67.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 221

حيث أمرني ربّي إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الّذي يمنعني من أعدائي الْحَكِيمُ الّذي لا يأمرني إلّا بما فيه صلاحي.

روي: أنّه هاجر من كوثى- و هي من سواد الكوفة- مع لوط و امرأته سارة ابنة عمّه إلى حرّان، ثمّ منها إلى الشام، فنزل فلسطين، و نزل لوط سدوم. و من ثمّ قالوا: لكلّ نبيّ هجرة، و لإبراهيم هجرتان. و له حينئذ خمس و سبعون سنة.

وَ وَهَبْنا لَهُ من بعد إسماعيل إِسْحاقَ ولدا وَ يَعْقُوبَ نافلة، حين أيس من الولادة، و لذلك لم يذكر

إسماعيل.

وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِ النُّبُوَّةَ فكثر منهم الأنبياء وَ الْكِتابَ يريد به الجنس، ليتناول الكتب الأربعة.

وَ آتَيْناهُ أَجْرَهُ على هجرته إلينا فِي الدُّنْيا بإعطاء الولد في غير أوانه، و الذرّيّة الطيّبة، و استمرار النبوّة فيهم، و انتماء أهل الملل إليه، و الثناء و الصلاة عليه إلى آخر الدهر. و في هذا دلالة على أنّه يجوز أن يثيب اللّه في دار التكليف ببعض الثواب.

وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ لفي عداد الكاملين في الصلاح، مثل آدم و نوح.

[سورة العنكبوت (29): الآيات 28 الى 30]

وَ لُوطاً إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ (28) أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَ تَقْطَعُونَ السَّبِيلَ وَ تَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (29) قالَ رَبِّ انْصُرْنِي عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ (30)

وَ لُوطاً عطف على إبراهيم، أو على ما عطف عليه إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 222

إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الْفاحِشَةَ الفعلة البالغة في القبح ما سَبَقَكُمْ بِها مِنْ أَحَدٍ مِنَ الْعالَمِينَ جملة مستأنفة، مقرّرة لفحاشة تلك الفعلة. كأنّ قائلا قال: لم كانت فاحشة؟ فقيل له: لأنّ أحدا قبلهم لم يقدم عليها، اشمئزازا منها في طباعهم، لإفراط قبحها، حتّى أقدم عليها قوم لوط، لخبث طينتهم، و قذر طباعهم.

أَ إِنَّكُمْ لَتَأْتُونَ الرِّجالَ وَ تَقْطَعُونَ السَّبِيلَ و تتعرّضون للسابلة بالقتل و أخذ الأموال، أو بالفاحشة، حتّى انقطعت الطرق. أو تقطعون سبيل النسل بالإعراض عن النساء.

وَ تَأْتُونَ فِي نادِيكُمُ الْمُنْكَرَ في مجالسكم الغاصّة بأهلها. و لا يقال: النادي إلّا ما دام فيه أهله، فإذا قاموا عنه لم يبق ناديا. و المنكر هو: اللواط، و التضارط، و كشف العورات، و حلّ الإزار من الأقبية

«1»، و الخذف بالحصى، و الرمي بالبنادق، و الفرقعة، و السباب، و الفحش في المزاح، و السخريّة بمن مرّ بهم، و ضرب الدفوف و المزامير، و غير ذلك من أنواع القبائح.

فَما كانَ جَوابَ قَوْمِهِ إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتِنا بِعَذابِ اللَّهِ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ فيما تعدنا من نزول العذاب. أو في استقباح ذلك. أو في دعوى النبوّة المفهومة من التوبيخ.

قالَ رَبِّ انْصُرْنِي بإنزال العذاب عَلَى الْقَوْمِ الْمُفْسِدِينَ الّذين يفسدون الناس بحملهم على ما كانوا عليه من الفواحش و أنواع المعاصي طوعا و كرها.

و لأنّهم ابتدعوا الفاحشة، و سنّوها فيمن بعدهم. وصفهم بذلك مبالغة في استنزال العذاب، و إشعارا بأنّهم أحقّاء بأن يعجّل لهم العذاب.

______________________________

(1) الأقبية جمع القباء. و هو ثوب يلبس فوق الثياب. و الخذف بالحصاة: الرمي بها من بين سبّابتيه. و فرقع الأصابع فرقعة: أنقضها.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 223

[سورة العنكبوت (29): الآيات 31 الى 35]

وَ لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ (31) قالَ إِنَّ فِيها لُوطاً قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَ أَهْلَهُ إِلاَّ امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (32) وَ لَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِي ءَ بِهِمْ وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً وَ قالُوا لا تَخَفْ وَ لا تَحْزَنْ إِنَّا مُنَجُّوكَ وَ أَهْلَكَ إِلاَّ امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ (33) إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً مِنَ السَّماءِ بِما كانُوا يَفْسُقُونَ (34) وَ لَقَدْ تَرَكْنا مِنْها آيَةً بَيِّنَةً لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (35)

ثمّ بيّن سبحانه أنّه استجاب دعاء لوط، و بعث جبرئيل و معه الملائكة لتعذيب قومه، فقال:

وَ لَمَّا جاءَتْ رُسُلُنا إِبْراهِيمَ بِالْبُشْرى بالبشارة بالولد و النافلة قالُوا إِنَّا مُهْلِكُوا أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ قرية سدوم. و الإضافة لفظيّة، لأنّ المعنى على الاستقبال.

و

إنّما قالوا هذا، لأنّ قريتهم كانت قريبة من قرية قوم إبراهيم.

ثمّ علّلوا إهلاكهم بإصرارهم و تماديهم في ظلمهم الّذي هو الكفر و أنواع المعاصي، فقالوا: إِنَّ أَهْلَها كانُوا ظالِمِينَ أي: الظلم قد استمرّ منهم في الأيّام السالفة، و هم مصرّون عليه.

و لمّا علّلوا إهلاك أهلها بظلمهم قالَ إبراهيم: إِنَّ فِيها لُوطاً فكيف تهلكونها؟ و ليس هذا إخبارا لهم بكونه فيها، و إنّما هو جدال في شأنه. و المعنى: أنّ إبراهيم لمّا سمع تعليلهم بإهلاك أهلها بسبب كفرهم، اعترض عليهم بأنّ فيها من

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 224

هو بري ء من الظلم. و أراد بالجدال إظهار الشفقة عليه، و ما يجب للمؤمن من التحزّن لأخيه، و التشمرّ في نصرته، و الخوف من أن يمسّه أذى و ضرر.

قالُوا نَحْنُ أَعْلَمُ بِمَنْ فِيها لَنُنَجِّيَنَّهُ وَ أَهْلَهُ نحن أعلم منك و أخبر بحال لوط و حال قومه، و امتيازه منهم الامتياز البيّن، و أنّه لا يستأهل ما يستأهلون، فهوّن على نفسك الخطب، فإنّا نخلّصه بإخراجه و أهله منها، ثمّ نهلك قومه. فهذا تسليم لقوله، مع ادّعائهم مزيد العلم منهم بلوط، و أنّهم ما كانوا غافلين عن حاله. و جواب عنه بتخصيص الأهل بمن عداه و أهله.

و قرأ أهل الكوفة غير عاصم و يعقوب: لننجينّه، خفيفة الجيم، ساكنة النون.

إِلَّا امْرَأَتَهُ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ الباقين في العذاب لا تنجو منه، أو في القرية.

وَ لَمَّا أَنْ جاءَتْ رُسُلُنا لُوطاً سِي ءَ بِهِمْ جاءته المساءة و الغمّ بسببهم، مخافة أن يقصدهم قومه بسوء، أي: ساء مجيئهم لمّا رآهم في أحسن صورة، لما كان يعلمه من خبث فعل قومه. و «أن» مزيدة لتأكيد الفعلين و اتّصالهما.

وَ ضاقَ بِهِمْ ذَرْعاً و ضاق لوط بشأن الملائكة و تدبير

أمرهم ذرعه، أي:

طاقته. يعني: فقدت طاقته في صيانتهم عن قومه، فإنّ ضيق الذرع عبارة عن فقد الطاقة. و مثل ذلك قولهم: ضاقت يده. و بإزائه: رحب ذرعه بكذا، إذا كان مطيقا له.

و الأصل فيه: أنّ الرجل إذا طالت ذراعه نال ما لا يناله القصير الذراع، فضرب ذلك مثلا في العجز و القدرة.

و لمّا رأى الملائكة حزنه و ضجرته، و ضيق ذرعه في دفع القوم عنهم وَ قالُوا لا تَخَفْ وَ لا تَحْزَنْ على تمكّنهم منك و منّا إِنَّا مُنَجُّوكَ وَ أَهْلَكَ من العذاب إِلَّا امْرَأَتَكَ كانَتْ مِنَ الْغابِرِينَ الباقين في العذاب. و قرأ ابن كثير و حمزة و الكسائي: منجوك بالتخفيف. و وافقهم أبو بكر فيه. و موضع الكاف الجرّ على المختار. و نصب «أهلك» بإضمار فعل، أو بالعطف على محلّها باعتبار الأصل.

إِنَّا مُنْزِلُونَ عَلى أَهْلِ هذِهِ الْقَرْيَةِ رِجْزاً أي: عذابا مِنَ السَّماءِ سمّي

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 225

العذاب رجزا، لأنّه يقلق المعذّب. من قولهم: ارتجز و ارتجس إذا اضطرب. و قرأ ابن عامر: منزّلون بالتشديد. بِما كانُوا يَفْسُقُونَ بسبب فسقهم، و خروجهم عن طاعة اللّه.

وَ لَقَدْ تَرَكْنا مِنْها من القرية آيَةً بَيِّنَةً عبرة واضحة، و دلالة ظاهرة على قدرتنا. و هي الحكاية الشائعة، أو آثار ديارهم الخربة. و قيل: بقيّة الحجارة الممطورة، فإنّها كانت باقية بعد. و قيل: بقيّة أنهارها المسودّة على وجه الأرض.

لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم في الاستبصار و الاعتبار. و هذا متعلّق ب «تركنا» أو «بيّنة».

[سورة العنكبوت (29): الآيات 36 الى 40]

وَ إِلى مَدْيَنَ أَخاهُمْ شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ ارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ (36) فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ (37) وَ عاداً وَ ثَمُودَ وَ قَدْ تَبَيَّنَ

لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَ كانُوا مُسْتَبْصِرِينَ (38) وَ قارُونَ وَ فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ وَ ما كانُوا سابِقِينَ (39) فَكُلاًّ أَخَذْنا بِذَنْبِهِ فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَ مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا وَ ما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (40)

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 226

ثمّ عطف سبحانه قصّة شعيب و قومه على ما تقدّم، فقال: وَ إِلى مَدْيَنَ أي: و أرسلنا إلى قبيلة مدين أَخاهُمْ في النسب شُعَيْباً فَقالَ يا قَوْمِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ ارْجُوا الْيَوْمَ الْآخِرَ و افعلوا ما ترجون به ثوابه، من فعل الطاعات و تجنّب السيّئات. فأقيم المسبّب مقام السبب. و قيل: إنّه من الرجاء بمعنى الخوف. وَ لا تَعْثَوْا فِي الْأَرْضِ مُفْسِدِينَ مرّ معناه.

فَكَذَّبُوهُ فَأَخَذَتْهُمُ الرَّجْفَةُ الزلزلة الشديدة. و عن الضحّاك: هي صيحة جبرئيل، لأنّ القلوب ترجف لها. فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ بلدهم، أو دورهم. و لم يجمع لأمن اللبس. جاثِمِينَ باركين على ركبهم ميّتين.

وَ عاداً وَ ثَمُودَ منصوبان بإضمار: اذكر، أو بفعل دلّ عليه ما قبله، مثل:

أهلكنا. و قرأ حمزة و حفص و يعقوب: و ثمود غير منصرف، على تأويل القبيلة.

وَ قَدْ تَبَيَّنَ لَكُمْ مِنْ مَساكِنِهِمْ أي: بعض مساكنهم. أو إهلاكهم من جهة مساكنهم، إذا نظرتم إليها عند مروركم بها. و كان أهل مكّة يمرّون عليها في أسفارهم فيبصرونها.

وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ من الكفر و المعاصي. فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ السويّ الّذي بيّنه الرسل عليهم السّلام وَ كانُوا مُسْتَبْصِرِينَ عقلاء متمكّنين من النظر و الاستبصار، و لكنّهم لم يفعلوا. أو متبيّنين أنّ العذاب لا

حق بهم بإخبار الرسل لهم، و لكنّهم لجّوا حتّى هلكوا.

وَ قارُونَ عطف على «عادا». و تقديمه على قوله: وَ فِرْعَوْنَ لشرف نسبه. وَ هامانَ وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مُوسى بِالْبَيِّناتِ بالحجج الواضحات، من قلب العصا حيّة، و اليد البيضاء، و فلق البحر، و غيرها فَاسْتَكْبَرُوا فطلبوا التجبّر، و لم ينقادوا للحقّ فِي الْأَرْضِ وَ ما كانُوا سابِقِينَ فائتين، بل أدركهم أمر اللّه تعالى، فلم يفوتوه. من: سبق طالبه إذا فاته.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 227

فَكُلًّا من المذكورين أَخَذْنا عاقبنا بِذَنْبِهِ بتكذيبهم الرسل فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً و هم قوم لوط. و قيل: عاد. و هي ريح عاصف فيها حصباء. و قيل: ملك كان يرميهم. وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ صيحة جبرئيل. و هم ثمود و قوم شعيب. وَ مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ كقارون وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا و هم قوم نوح و فرعون و قومه.

وَ ما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ليعاملهم معاملة الظالم، فيعاقبهم بغير جرم، إذ هو قادح في العدالة الواجبة عليه وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ بما يوجب العذاب، من الكفر و تكذيبهم الرسل.

[سورة العنكبوت (29): الآيات 41 الى 43]

مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً وَ إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (41) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (42) وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ وَ ما يَعْقِلُها إِلاَّ الْعالِمُونَ (43)

ثمّ شبّه سبحانه ما اتّخذوه من دون اللّه متّكلا في دينهم، و معوّلا عليهم، بما هو مثل عند الناس في الوهن و الوهي «1» و الضعف، و هو نسج العنكبوت، فقال:

مَثَلُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ من الأصنام و غيرها كَمَثَلِ الْعَنْكَبُوتِ اتَّخَذَتْ بَيْتاً

فكما أنّ بيت العنكبوت لا يغني عنها شيئا، لكونه في غاية الوهن و الضعف، و لا يجدي نفعا، كذلك الأصنام لا تملك لهم خيرا و شرّا،

______________________________

(1) الوهي: الضعف و الاسترخاء.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 228

و نفعا و ضرّا.

و الوليّ: هو المتولّي للنصرة. و هو أبلغ من الناصر، لأنّ الناصر قد يكون ناصرا بأن يأمر غيره بالنصرة، و الوليّ هو الّذي يتولّى النصرة بنفسه.

و العنكبوت: يقع على الواحد و الجمع، و المذكّر و المؤنّث. و التاء فيه كتاء طاغوت. و يجمع على: عناكب، و عناكيب، و عكاب، و عكبة، و أعكب.

وَ إِنَّ أَوْهَنَ الْبُيُوتِ أضعفها لَبَيْتُ الْعَنْكَبُوتِ لا بيت أوهن و أقلّ وقاية للحرّ و البرد منه لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ يرجعون إلى علم لعلموا أنّ هذا مثلهم، و أنّ دينهم أوهن من ذلك. و يجوز أن يخرج الكلام بعد تصحيح التشبيه مخرج المجاز، بأن يكون المراد ببيت العنكبوت دينهم، سمّاه به تحقيقا للتمثيل. فكأنّه قال: و إنّ أوهن ما يعتمد عليه في الدين عبادة الأوثان.

و قل لهم: إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ و قرأ البصريّان و يعقوب بالياء، حملا على ما قبله.

و «ما» استفهاميّة منصوبة ب «يدعون». و «يعلم» معلّقة عنها، و «من» للتبيين.

و هذا ما ذهب إليه سيبويه و الخليل. أو نافية، و «من» مزيدة، و «شي ء» مفعول «يدعون». و على التقديرين؛ هذا الكلام تجهيل لهم، حيث عبدوا ما ليس بشي ء، لأنّه جماد ليس معه مصحّح العلم و القدرة، و توكيد للمثل المذكور. أو «ما» مصدريّة، و «شي ء» مصدر، أو موصولة مفعول ل «يعلم». و مفعول «يدعون» عائدها المحذوف. و على هذين التقديرين و عيد لهم.

ثمّ علّل على ذلك بقوله: وَ هُوَ

الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ و المعنى: إنّ من فرط الغباوة إشراك ما لا يعدّ شيئا بمن هذا شأنه. و إنّ الجماد بالإضافة إلى القادر القاهر على كلّ شي ء، البالغ في العلم و إتقان الفعل الغاية، كالمعدوم. و إنّ من هذا صفته قادر على مجازاتهم.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 229

روي: أنّ السفهاء من قريش كانوا يقولون: إنّ ربّ محمّد يضرب المثل بالذباب و العنكبوت، و يضحكون من ذلك، فردّ اللّه تعالى ذلك عليهم بقوله:

وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ يعني: هذا المثل و نظائره نَضْرِبُها نذكرها و نبيّنها لِلنَّاسِ تقريبا لما بعد من أفهامهم، من حسن المعرفة و التوحيد، و قبح ما هم فيه من عبادة الأصنام وَ ما يَعْقِلُها و ما يعقل حسنها و صحّتها و فائدتها إِلَّا الْعالِمُونَ الّذين يتدبّرون الأشياء على ما ينبغي. فهم بالتدبّر الكامل يفهمون أنّ الأمثال و التشبيهات هي الطرق إلى المعاني المحتجبة في الأستار، حتّى تبرزها و تكشف عنها و تصوّرها للأفهام، كما صوّر هذا التشبيه الفرق بين حال المشرك و حال الموحّد.

و

روى الواحدي بالإسناد عن جابر قال: «إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا تلا هذه الآية قال: «العالم من عقل عن اللّه تعالى، فعمل بطاعته، و اجتنب سخطه» «1».

[سورة العنكبوت (29): الآيات 44 الى 45]

خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ (44) اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ وَ أَقِمِ الصَّلاةَ إِنَّ الصَّلاةَ تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ (45)

ثمّ بيّن سبحانه ما يدلّ على إلهيّته و استحقاقه العبادة، فقال:

خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أخرجهما من العدم إلى الوجود بِالْحَقِ ملتبسا بالغرض الصحيح الّذي هو حقّ لا باطل، فإنّ المقصود بالذات من خلقهما

أن تكونا مساكن عباده، و مواضع إفاضة الخير، و دلائل على ذاته و صفاته، كما

______________________________

(1) تفسير الوسيط 3: 420.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 230

أشار إليه بقوله: إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ لأنّهم المنتفعون بها.

ثمّ خاطب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: اتْلُ ما أُوحِيَ إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ اقرأ القرآن مرّة بعد اخرى على المكلّفين تقرّبا إلى اللّه بقراءته، و تحفّظا لألفاظه، و استكشافا لمعانيه، فإنّ القارئ المتأمّل قد ينكشف له بالتكرار ما لم ينكشف له أوّل ما قرع سمعه.

وَ أَقِمِ الصَّلاةَ الّتي هي المستحقّ بها الثواب عند اللّه، و هي الّتي تكون مؤدّاة مع مراعاة شرائطها المعتبرة فيها، و محافظة أركانها و سائر واجباتها إِنَّ الصَّلاةَ المنعوتة تَنْهى عَنِ الْفَحْشاءِ وَ الْمُنْكَرِ بأن تكون سببا للانتهاء عن المعاصي حال الاشتغال بها و غيرها، من حيث إنّها تذكّر للّه تعالى، و تورث النفس خشية منه.

روي عن أنس: أنّ فتى من الأنصار كان يصلّي مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الصلوات الخمس، و لا يدع شيئا من الفواحش إلّا ركبه، فوصف له، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ الصّلاة ستنهاه يوما». فلم يلبث أن تاب.

و

عن جابر: قال: قيل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ فلانا يصلّي بالنهار، يسرق بالليل.

فقال: «إنّ صلاته لتردعه».

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «لا صلاة لمن لم يطع الصلاة، و طاعة الصلاة أن ينتهي عن الفحشاء و المنكر».

و معنى ذلك: أنّ الصلاة إذا كانت ناهية عن المعاصي، فمن أقامها ثمّ لم ينته عن المعاصي، لم تكن صلاته بالصفة الّتي وصفها اللّه تعالى بها. فإن تاب من

بعد ذلك و ترك المعاصي، فقد تبيّن أنّ صلاته كانت نافعة له ناهية، و إن لم ينته إلّا بعد زمان.

و

روى أصحابنا عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من أحبّ أن يعلم أقبلت صلاته أم

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 231

لم تقبل؟ فلينظر هل منعته صلاته عن الفحشاء و المنكر، فبقدر ما منعته قبلت منه».

و عن ابن عبّاس: من لم تأمره صلاته بالمعروف، و لم تنهه عن المنكر، لم يزدد بصلاته من اللّه إلّا بعدا.

و عن الحسن: من لم تنهه صلاته عن الفحشاء و المنكر، فليست صلاته بصلاة، و هي وبال عليه.

و في الآية دلالة على أنّ فعل الصلاة لطف للمكلّف في ترك القبيح و المعاصي الّتي ينكرها العقل و الشرع.

وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ و للصلاة أكبر من سائر الطاعات. و إنّما عبّر عنها بالذكر، للتعليل بأنّ اشتمالها على ذكره هو العمدة في كونها مفضّلة على الحسنات، ناهية عن السيّئات، كأنّه قال: و للصلاة أكبر، لأنّها ذكر اللّه.

و عن ابن عبّاس: معناه: و لذكر اللّه تعالى إيّاكم برحمته، أكبر من ذكركم إيّاه بطاعته.

و روي عن عطاء بن السائب، عن عبد اللّه بن ربيعة قال: قال ابن عبّاس:

أ رأيت قول اللّه تعالى: «وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ»؟ قال: قلت: ذكر اللّه بالقرآن حسن، و ذكره بالصلاة حسن، و بالتسبيح و التكبير حسن، و أفضل من ذلك أن يذكر الرجل ربّه عند المعصية فينحجز «1» عنها. فقال ابن عبّاس: لقد قلت قولا عجبا، و هو كما قلت، و لكن معنى الآية: ذكر اللّه إيّاكم أكبر من ذكركم إيّاه.

و قيل: معناه: ذكر العبد لربّه من التكبير و التهليل و التسبيح و التحميد و غيرها، أكبر ممّا سواه، و أفضل من

جميع أفعاله.

روي عن ثابت البناني قال: إنّ رجلا أعتق أربع رقاب، فقال رجل آخر:

سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر. ثمّ دخل المسجد، فأتى حبيب بن

______________________________

(1) أي: فيمتنع.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 232

أوفى السلمي و أصحابه، فقال: ما تقولون في رجل أعتق أربع رقاب، و إنّي أقول:

سبحان اللّه و الحمد للّه و لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر، فأيّهما أفضل؟ فنظروا هنيهة، فقالوا:

ما نعلم شيئا أفضل من ذكر اللّه.

و

عن معاذ بن جبل قال: ما عمل آدميّ عملا أنجى له من عذاب اللّه من ذكر اللّه عزّ و جلّ. قيل له: و لا الجهاد في سبيل اللّه؟ قال: و لا الجهاد. قال: إنّ اللّه عزّ و جلّ يقول:

«وَ لَذِكْرُ اللَّهِ أَكْبَرُ».

و

عنه قال: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أيّ الأعمال أحبّ إلى اللّه؟ قال: «أن تموت و لسانك رطب من ذكر اللّه عزّ و جلّ».

و

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من أحبّ أن يرتع في رياض الجنّة، فليكثر ذكر اللّه عزّ و جلّ».

وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما تَصْنَعُونَ منه و من سائر الطاعات، فيجازيكم به أحسن المجازاة.

[سورة العنكبوت (29): الآيات 46 الى 51]

وَ لا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلاَّ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ إِلاَّ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ وَ قُولُوا آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ وَ إِلهُنا وَ إِلهُكُمْ واحِدٌ وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ (46) وَ كَذلِكَ أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ مِنْ هؤُلاءِ مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الْكافِرُونَ (47) وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذاً لارْتابَ الْمُبْطِلُونَ (48) بَلْ هُوَ آياتٌ بَيِّناتٌ فِي صُدُورِ

الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ الظَّالِمُونَ (49) وَ قالُوا لَوْ لا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (50)

أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَرَحْمَةً وَ ذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (51)

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 233

و لمّا تقدّم الأمر بالدعاء إلى اللّه سبحانه، بيّن عقيبه كيف يدعونهم إلى اللّه؟

و كيف يجادلونهم؟ فقال:

وَ لا تُجادِلُوا أَهْلَ الْكِتابِ إِلَّا بِالَّتِي بالخصلة الّتي هِيَ أَحْسَنُ كمعارضة الخشونة باللين، و الغضب بالكظم، و المشاغبة بالنصح، كما قال: ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ «1».

و فيه دلالة على وجوب الدعاء إلى اللّه تعالى على أحسن الوجوه و ألطفها، و استعمال القول الجميل في التنبيه على آيات اللّه و حججه.

و قيل: هو منسوخ بآية السيف «2»، و إذ لا مجادلة أشدّ منه. و جوابه: أنّه آخر الدواء. و قيل: المراد به ذوو العهد منهم.

إِلَّا الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْهُمْ بالإفراط في الاعتداء و العناد، أو بإثبات الولد، و قولهم: يَدُ اللَّهِ مَغْلُولَةٌ «3». أو بنبذ العهد و منع الجزية. فلم يقبلوا النصح، و لم ينفع فيهم الرفق، فاستعملوا معهم الغلظة.

و قيل: معناه: إلّا الّذين آذوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و كتموا صفاته بعد العلم به.

وَ قُولُوا لهم في المجادلة، و في الدعوة إلى الدين آمَنَّا بِالَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْنا وَ أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ أي: بالكتاب الّذي أنزل إلينا، و بالكتاب الّذي أنزل إليكم. و هو من جنس المجادلة بالّتي هي أحسن.

______________________________

(1) المؤمنون: 96.

(2) التوبة: 5 و 29.

(3) المائدة: 64.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 234

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا تصدّقوا أهل الكتاب و

لا تكذّبوهم، و قولوا: آمنّا باللّه تعالى و بكتبه و رسله، فإن قالوا باطلا لم تصدّقوهم، و إن قالوا حقّا لم تكذّبوهم».

وَ إِلهُنا وَ إِلهُكُمْ واحِدٌ لا شريك له وَ نَحْنُ لَهُ مُسْلِمُونَ مطيعون له خاصّة. و فيه تعريض باتّخاذهم أحبارهم و رهبانهم أربابا من دون اللّه.

وَ كَذلِكَ و مثل إنزال الكتاب على موسى و عيسى أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ القرآن، و حيا مصدّقا لسائر الكتب الإلهيّة. و هو تحقيق لقوله تعالى: فَالَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ أي: علم الكتاب، بحذف المضاف يُؤْمِنُونَ بِهِ و هم عبد اللّه بن سلام و أضرابه، أو من تقدّم عهد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من أهل الكتاب وَ مِنْ هؤُلاءِ و من العرب. أو أهل مكّة. أو ممّن في عهد الرسول من أهل الكتابين. مَنْ يُؤْمِنُ بِهِ بالقرآن.

وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا مع ظهورها، و قيام الحجّة عليها، و زوال الشبهة عنها إِلَّا الْكافِرُونَ إلّا المتوغّلون في الكفر، المصمّمون عليه، ككعب بن الأشرف و أضرابه، فإنّ توغّلهم في الكفر و تصميمهم عليه يمنعهم عن التأمّل فيما يفيد لهم صدقها، لكونها معجزة بالإضافة إلى الرسول، كما أشار إليه بقوله: وَ ما كُنْتَ تَتْلُوا مِنْ قَبْلِهِ مِنْ كِتابٍ قبل أن يوحى إليك القرآن وَ لا تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ فإنّ ظهور هذا الكتاب الجامع لأنواع العلوم الشريفة، على أمّي لم يعرف بالقراءة و التعلّم، خارق للعادة. و ذكر اليمين زيادة تصوير لما نفى عنه من كونه كاتبا، و نفي للتجوّز في الإسناد.

إِذاً أي: لو كنت ممّن يخطّ و يقرأ لَارْتابَ الْمُبْطِلُونَ لوجد المبطلون طريقا إلى اكتساب الشكّ في أمرك، و إلقاء الريبة لضعفة الناس في نبوّتك. و لقالوا:

إنّما تقرأ علينا ما جمعته من

كتب الأوّلين و زبر الأقدمين، فلمّا ساويتهم في المولد و المنشأ، ثمّ أتيت بما عجزوا عنه، وجب أن يعلموا أنّه من عند اللّه و ليس من

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 235

عندك، إذ لم تجر العادة أن ينشأ الإنسان بين قوم يشاهدون أحواله من عند صغره إلى كبره، و يرونه في حضره و سفره، لا يتعلّم شيئا من غيره، ثمّ يأتي من عنده بشي ء يعجز الكلّ عنه و عن بعضه، و يقرأ عليهم أقاصيص الأوّلين.

و إنّما سمّاهم مبطلين، لأنّهم كفروا به و هو أمّيّ بعيد من الريب. فكأنّه قال:

هؤلاء المبطلون في كفرهم به.

و أيضا لمّا كان الأنبياء لم يكونوا أمّيّين، و وجب الإيمان بهم و بما جاؤا به، لكونهم مصدّقين من جهة الحكيم بالمعجز، فهب أنّه قارئ كاتب، فما لهم لم يؤمنوا به من الوجه الّذي آمنوا منه بموسى و عيسى؟ على أنّ المنزلين ليسا بمعجزين، و هذا المنزل معجز. فإذا هم مبطلون حيث لا يؤمنون به و هو أمّيّ.

قال الشريف الأجلّ المرتضى علم الهدى قدّس سرّه: «هذه الآية تدلّ على أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما كان يحسن الكتابة قبل النبوّة. فأمّا بعدها فالّذي نعتقده في ذلك التجويز، لكونه عالما بالقراءة و الكتابة بعد ذلك، لأنّ ظاهر الآية يقتضي أن النفي قد تعلّق بما قبل النبوّة، دون ما بعدها. و لأنّ التعليل في الآية يقتضي اختصاص النفي بما قبل النبوّة، لأنّ المبطلين إنّما يرتابون في نبوّته لو كان يحسن الكتابة قبل النبوّة، فأمّا بعد النبوّة فلا تعلّق له بالريبة و التهمة، فيجوز أن يكون قد تعلّمها من جبرئيل عليه السّلام بعد النبوّة» «1».

ثمّ قال سبحانه: بَلْ هُوَ أي: القرآن آياتٌ بَيِّناتٌ

دلالات واضحات فِي صُدُورِ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ في صدور العلماء به و حفّاظه. و هم النبيّ و المؤمنون به، لأنّهم حفظوه، فلا يقدر أحد على تحريفه. و

عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام: «الأئمّة من آل محمّد صلّى اللّه عليهم أجمعين».

قال قتادة: أعطي هذه الأمّة الحفظ، و من كان قبلها لا يقرءون الكتاب إلّا نظرا.

______________________________

(1) رسائل الشريف المرتضى 1: 107.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 236

وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا الظَّالِمُونَ أي: المتوغّلون في الظلم بالمكابرة، بعد وضوح دلائل إعجازها.

وَ قالُوا أي: كفّار مكّة لَوْ لا هلّا أُنْزِلَ عَلَيْهِ آياتٌ مِنْ رَبِّهِ أي: آية مقترحة منه، مثل ناقة صالح، و عصا موسى، و مائدة عيسى عليه السّلام. و قرأ نافع و ابن عامر و البصريّان و حفص: آيات.

قُلْ إِنَّمَا الْآياتُ عِنْدَ اللَّهِ ينزّلها كما يشاء على وفق مصالح عباده، في كلّ عصر من أعصار أنبيائه، و لست أملكها فآتيكم بما تقترحونه وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ ليس من شأني إلّا الإنذار، و إبانته بما أعطيت من الآيات، و ليس لي أن أتخيّر على اللّه آياته، فأقول: أنزل عليّ آية كذا دون آية كذا، مع علمي أنّ الغرض من آياته ثبوت الدلالة، و الآيات كلّها في حكم آية واحدة في ذلك.

ثمّ قال: أَ وَ لَمْ يَكْفِهِمْ آية مغنية عمّا اقترحوه أَنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ يُتْلى عَلَيْهِمْ تدوم تلاوته في كلّ مكان و زمان عليهم متحدّين به، فلا يزال معهم آية ثابتة لا تضمحلّ، كما تزول كلّ آية بعد كونها. أو تكون في مكان دون مكان. أو أو لم يكف اليهود أنّا أنزلنا الكتاب يتلى عليهم، بتحقيق ما في أيديهم من نعتك و نعت دينك.

إِنَّ فِي ذلِكَ

الكتاب الّذي هو آية مستمرّة و حجّة مبيّنة لَرَحْمَةً لنعمة عظيمة لا يطاق شكرها، لأنّ من تبعه و عمل به نال الثواب و فاز بالجنّة وَ ذِكْرى لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ و تذكرة لمن همّه الإيمان دون التعنّت.

و قيل: إنّ ناسا من المسلمين أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بكتف قد كتبوا فيها بعض ما يقول اليهود، فلمّا أن نظر إليها ألقاها و قال: كفى بها ضلالة قوم أن يرغبوا عمّا جاءهم به نبيّهم إلى ما جاء به غير نبيّهم. فنزلت.

و في هذه الآية دلالة على أنّ القرآن كاف في المعجز، و أنّه في أعلى درجات

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 237

الإعجاز، لأنّه جعله كافيا عن جميع المعجزات.

[سورة العنكبوت (29): الآيات 52 الى 55]

قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ شَهِيداً يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ وَ كَفَرُوا بِاللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (52) وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ لَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ وَ لَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (53) يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ (54) يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ وَ يَقُولُ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (55)

روي: أنّ كعب بن الأشرف و أصحابه قالوا تعنّتا: يا محمّد من يشهد أنّك رسول اللّه؟ فنزلت:

قُلْ كَفى بِاللَّهِ بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ شَهِيداً بصدقي، فإنّه صدّقني بالمعجزات. أو بتبليغي ما أرسلت به إليكم و نصحي، و مقابلتكم إيّاي بالتكذيب و التعنّت. يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فهو مطّلع على أمري و أمركم، و عالم بحقّي و باطلكم.

وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِالْباطِلِ و هو ما تعبدون من دون اللّه تعالى وَ كَفَرُوا بِاللَّهِ و بآياته منكم أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ المغبونون في صفقتهم،

حيث اشتروا الكفر بالإيمان.

وَ يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ استهزاء منهم و تكذيبا. و منهم النضر بن الحارث قال: اللّهمّ أمطر علينا حجارة من السماء، كما قال أصحاب الأيكة: فأسقط علينا كسفا من السماء.

وَ لَوْ لا أَجَلٌ مُسَمًّى قد سمّاه اللّه و بيّنه في اللوح لعذابهم، و أوجبت الحكمة

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 238

تأخيره إلى الأجل المسمّى لَجاءَهُمُ الْعَذابُ عاجلا وَ لَيَأْتِيَنَّهُمْ بَغْتَةً فجأة.

و المراد به الآخرة، لما روي أنّ اللّه عزّ و جلّ وعد رسول اللّه أنّ قومه لا يستأصلهم، و أن يؤخّر عذابهم إلى يوم القيامة وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ بإتيانه.

ثمّ ذكر أنّ موعد عذابهم النار، فقال: يَسْتَعْجِلُونَكَ بِالْعَذابِ وَ إِنَّ جَهَنَّمَ لَمُحِيطَةٌ بِالْكافِرِينَ ستحيط بهم يوم يغشاهم العذاب. أو هي كالمحيطة بهم في الدنيا، لأنّ الكفر و المعاصي الّتي توجبها محيطة بهم. أو لأنّها مآلهم و مرجعهم لا محالة، فكأنّها الساعة محيطة بهم. و اللام للعهد، على وضع الظاهر موضع المضمر، للدلالة على موجب الإحاطة. أو للجنس فيكون استدلالا بحكم الجنس على حكمهم.

يَوْمَ يَغْشاهُمُ الْعَذابُ ظرف «لمحيطة». أو مقدّر بمثل: كان كيت و كيت.

مِنْ فَوْقِهِمْ وَ مِنْ تَحْتِ أَرْجُلِهِمْ أي: من جميع جوانبهم، كقوله: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَ مِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ «1». و قوله: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ «2». لا أنّه يصل إلى موضع منهم دون موضع، فلا يبقى جزء منهم إلّا و هو معذّب في النّار.

وَ يَقُولُ اللّه عزّ و جلّ، أو بعض ملائكته بأمره. و قرأ ابن كثير و ابن عامر و البصريّون بالنون. ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي: جزاءه.

[سورة العنكبوت (29): الآيات 56 الى 60]

يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ (56) كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ

(57) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (58) الَّذِينَ صَبَرُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (59) وَ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا اللَّهُ يَرْزُقُها وَ إِيَّاكُمْ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (60)

______________________________

(1) الزمر: 16.

(2) الأعراف: 41.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 239

ثمّ بيّن سبحانه أنّه لا عذر لعباده في ترك طاعته، فقال:

يا عِبادِيَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ أَرْضِي واسِعَةٌ فَإِيَّايَ فَاعْبُدُونِ أي: إذا لم يتسهّل لكم العبادة في بلدة، و لم يتيسّر لكم إظهار دينكم، فهاجروا عنها إلى بلد تقدّرون فيه أنّكم فيه أسلم قلبا، و أصحّ دينا، و أكثر عبادة، و أحسن خشوعا، و اطرد للشيطان، و أبعد من الفتن، و أضبط للأمر الديني.

و

عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من فرّ بدينه من أرض إلى أرض و لو كان شبرا استوجب الجنّة، و كان رفيق إبراهيم و محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

و قيل: نزلت في المستضعفين بمكّة. و الفاء جواب شرط محذوف. و تقديم المفعول للاختصاص. و المعنى: إنّ ارضي واسعة، فإن لم تخلصوا العبادة لي في أرض فأخلصوها في غيرها.

و

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام معناه: «إذا عصي اللّه في أرض أنت فيها، فاخرج منها إلى غيرها».

ثمّ خوّفهم بالموت ليهوّن عليهم الهجرة، فقال: كُلُّ نَفْسٍ ذائِقَةُ الْمَوْتِ واجدة مرارة الموت، كما يجد الذائق طعم المذوق. و المراد: تناله الموت لا محالة.

ثُمَّ إِلَيْنا تُرْجَعُونَ للجزاء. و من كانت هذه عاقبته لم يكن له بدّ من التزوّد لها، و الاستعداد بجهده. و قرأ أبو بكر بالياء.

ثمّ ذكر ثواب من هاجر، فقال: وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَنُبَوِّئَنَّهُمْ

زبدة التفاسير، ج 5،

ص: 240

لننزلنّهم مِنَ الْجَنَّةِ غُرَفاً علالي «1» عاليات. و قرأ حمزة و الكسائي: لنثوينّهم، أي:

لنقيمنّهم. من الثواء، و هو النزول للإقامة. يقال: ثوى في المنزل، و أثوى غيره، فثوى غير متعدّ. و إذا تعدّى بزيادة همزة النقل لم يتجاوز مفعولا واحدا، نحو:

ذهبت و أذهبت. و الوجه في تعديته إلى ضمير المؤمنين و إلى الغرف، إمّا إجراؤه مجرى: لننزلنّهم. أو حذف الجارّ و إيصال الفعل. أو تشبيه الظرف الموقّت بالمبهم.

عن ابن عبّاس: لنسكننّهم غرف الدرّ و الزبرجد و الياقوت.

تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها يبقون فيها ببقاء اللّه نِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ و المخصوص بالمدح محذوف، دلّ عليه ما قبله، أي: نعم أجر العاملين الغرف و جري الماء من تحتها على سبيل الخلود و التأبيد.

الَّذِينَ صَبَرُوا على أذيّة المشركين، و مفارقة الأوطان و الهجرة، و غيرها من أنواع المحن و المشاقّ وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ تقديم الظرف للحصر، أي: لا يتوكّلون إلّا على اللّه في مهمّات أمورهم و مهاجرة دورهم.

قيل: إنّهم لمّا أمروا بالهجرة، قال بعضهم: كيف نقدم بلدة ليس لنا فيها معيشة؟ فنزلت: وَ كَأَيِّنْ مِنْ دَابَّةٍ و كم نفس دبّت على وجه الأرض لا تَحْمِلُ رِزْقَهَا لا تطيق حمل رزقها، لضعفها عنه. أو لا تدّخره، و إنّما تصبح و لا معيشة عندها.

عن ابن عبّاس: إنّ الحيوان أجمع، من البهائم و الطيور و غيرهما ممّا يدبّ على وجه الأرض، لا تدّخر القوت لغدها، إلّا ابن آدم و النملة و الفأرة، بل تأكل منه قدر كفايتها فقط.

اللَّهُ يَرْزُقُها وَ إِيَّاكُمْ أي: إنّها مع ضعفها و توكّلها، و إنّكم مع قوّتكم و اجتهادكم، سواء في أنّه لا يرزقها و إيّاكم إلّا اللّه، لأنّ رزق الكلّ بأسباب، هو

______________________________

(1) علالي

جمع العلّيّة. و هي: بيت منفصل عن الأرض ببيت و نحوه.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 241

المسبّب لها وحده، فلا تخافوا على معاشكم بالهجرة وَ هُوَ السَّمِيعُ لقولكم:

نخشى الفقر الْعَلِيمُ بما في ضمائركم.

[سورة العنكبوت (29): الآيات 61 الى 64]

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (61) اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (62) وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (63) وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ لَهْوٌ وَ لَعِبٌ وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ لَهِيَ الْحَيَوانُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (64)

ثمّ عجّب سبحانه رسوله و المؤمنين من إيمان المشركين بالباطل، مع اعترافهم بأنّ اللّه هو خالق كلّ شي ء، فقال:

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ سألت أهل مكّة مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ و من ذلّلهما و سيّرهما في دورانهما على طريقة واحدة لا تختلف لَيَقُولُنَّ اللَّهُ في جواب ذلك، لما تقرّر في العقول من وجوب انتهاء الممكنات إلى واحد واجب الوجود فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ فكيف يصرفون عن توحيده بعد إقرارهم بذلك؟! اللَّهُ يَبْسُطُ الرِّزْقَ يوسّعه لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ يحتمل أن يكون الموسّع له و المضيّق عليه واحدا، على أنّ البسط و القبض على التعاقب

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 242

حسب المصلحة. و أن يريد و يقدّر لمن يشاء. فوضع الضمير موضع من يشاء، لأنّ من يشاء منهم غير معيّن، فكان الضمير مبهما مثله. إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ يعلم مصالحهم و مفاسدهم.

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ مِنْ بَعْدِ

مَوْتِها لَيَقُولُنَّ اللَّهُ معترفين بأنّه الموجد للممكنات بأسرها، أصولها و فروعها، ثمّ إنّهم يشركون به بعض مخلوقاته الّذي لا يقدر على شي ء من ذلك.

قُلِ يا محمّد عند ذلك الْحَمْدُ لِلَّهِ على ما عصمك من مثل هذه الضلالة. أو على تصديقك و إظهار حجّتك. بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ فيتناقضون، حيث يقرّون بأنّه المبدئ لكلّ ما عداه، ثمّ إنّهم يشركون به الأصنام. و قيل: لا يعقلون ما تريد بقولك: الحمد للّه، و لا يفطنون لم حمدت اللّه عند مقالتهم؟! و لمّا كانت الدنيا و ما فيها- مع عظم سعتها- لا تزن عند اللّه جناح بعوضة، أشار إليها تحقيرا و إزراء بقوله: وَ ما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا لَهْوٌ وَ لَعِبٌ ما هي- لسرعة زوالها عن أهلها- إلّا كما يلعب و يلهى به الصبيان، يجتمعون عليه، و يبتهجون به ساعة، ثمّ يتفرّقون متعبين.

وَ إِنَّ الدَّارَ الْآخِرَةَ يعني: الجنّة لَهِيَ الْحَيَوانُ لهي دار الحياة، أو ذات الحياة الحقيقيّة، لامتناع طريان الموت عليها. فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه. أو جعلت في ذاتها حياة للمبالغة.

و الحيوان مصدر: حيي. سمّي به ذو الحياة. و قياسه: حييان، فقلبت الياء الثانية واوا. و هو أبلغ من الحياة، لما في بناء فعلان من الحركة و الاضطراب اللازم للحياة، كما أنّ الموت سكون، و لذلك اختير عليها هاهنا.

لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ لم يؤثروا عليها الدنيا الّتي أصلها عدم الحياة، و الحياة فيها عارضة سريعة الزوال.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 243

[سورة العنكبوت (29): الآيات 65 الى 69]

فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ (65) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ وَ لِيَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (66) أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً وَ يُتَخَطَّفُ النَّاسُ

مِنْ حَوْلِهِمْ أَ فَبِالْباطِلِ يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ (67) وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (68) وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا وَ إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ (69)

فَإِذا رَكِبُوا فِي الْفُلْكِ متّصل بما دلّ عليه ما وصفهم به و شرح من أمرهم، أي: هم على ما وصفوا به من الشرك، فإذا ركبوا في السفن في البحر، و هاجت به الرياح، و تلاطمت به الأمواج، و خافوا الهلاك دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ كائنين في صورة من أخلص دينه من المؤمنين، حيث لا يذكرون إلّا اللّه، و لا يدعون معه إلها آخر، لعلمهم بأنّه لا يكشف الشدائد إلّا هو، فلم يطلبوا من شركائهم إنجاءهم.

و في تسميتهم مخلصين ضرب من التهكّم.

فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ و أمنوا من الهلاك إِذا هُمْ يُشْرِكُونَ فاجئوا المعاودة إلى الشرك.

لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ اللام فيه لام «كي» أي: يشركون ليكونوا كافرين بشركهم نعمة النجاة وَ لِيَتَمَتَّعُوا و ليكونوا قاصدين التمتّع بها و التلذّذ لا غير، و مجتمعين على عبادة الأصنام و توادّهم، على خلاف ما هو عادة المؤمنين المخلصين على الحقيقة، إذا أنجاهم اللّه أن يشكروا نعمة اللّه في إنجائهم، و يجعلوا

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 244

نعمة النجاة ذريعة إلى ازدياد طاعة اللّه بالإخلاص، لا إلى التمتّع و التلذّذ.

أو لام الأمر على التهديد. و نحوه قوله تعالى: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ «1». و يؤيّده قراءة ابن كثير و حمزة و الكسائي، و قالون عن نافع:

و ليتمتّعوا بالسكون.

فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة ذلك حين يعاقبون.

أَ وَ لَمْ يَرَوْا يعني: أهل مكّة أَنَّا جَعَلْنا حَرَماً آمِناً أي: جعلنا بلدهم آمنا أهله

عن القتل و السبي، مصونا عن النهب و التعدّي وَ يُتَخَطَّفُ النَّاسُ و يختلسون قتلا و سبيا مِنْ حَوْلِهِمْ إذ كانت العرب حول مكّة يغزو بعضهم بعضا، و يتغاورون و يتناهبون، و أهل مكّة قارّون آمنون فيها، لا يغزون و لا يغار عليهم، مع قلّتهم و كثرة العرب. فذكّرهم اللّه هذه النعمة الخاصّة عليهم، ليذعنوا له بالطاعة، و ينزجروا عن عبادة غيره.

أَ فَبِالْباطِلِ أبعد هذه النعمة المكشوفة و غيرها ممّا لا يقدر عليه إلّا اللّه بالصنم أو بالشيطان يُؤْمِنُونَ وَ بِنِعْمَةِ اللَّهِ يَكْفُرُونَ حيث أشركوا به غيره. و تقديم الصلتين للاهتمام، أو الاختصاص على طريق المبالغة.

ثمّ وبّخهم بقوله: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً بأن زعم أنّ له شريكا أَوْ كَذَّبَ بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُ يعني: الرسول، أو الكتاب. و في «لمّا» تسفيه لهم بأن لم يتوقّفوا و لم يتأمّلوا قطّ حين جاءهم، بل سارعوا إلى التكذيب أوّل ما سمعوه.

أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ تقرير لثوائهم. و حقيقته أنّ الهمزة همزة الإنكار دخلت على النفي، فرجع إلى معنى: ألا يستوجبون الثواء فيها، و قد افتروا مثل هذا الكذب على اللّه تعالى، و كذّبوا بالحقّ مثل هذا التكذيب؟! أو تقرير

______________________________

(1) فصّلت: 40.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 245

لاجترائهم، أي: ألم يعلموا أنّ في جهنّم مثوى للكافرين، حتّى اجترءوا مثل هذه الجرأة؟! وَ الَّذِينَ جاهَدُوا فِينا في حقّنا، و من أجلنا، و لوجهنا خالصا. و أطلق المجاهدة و لم يقيّدها بمفعول، ليعمّ جهاد الأعادي الظاهرة و الباطنة بأنواعه. فكأنّه قال: و الّذين جاهدوا الكفّار ابتغاء مرضاتنا و طاعة لنا، و جاهدوا أنفسهم في هواها خوفا منّا.

لَنَهْدِيَنَّهُمْ سُبُلَنا سبل السير إلينا، و الوصول إلى غاية التقرّب لنا. أو

لنزيدنّهم هداية إلى سبيل الخير، و توفيقا لسلوكها، كقوله: وَ الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً «1». و

في الحديث: «من عمل بما علم ورّثه اللّه علم ما لا يعلم».

و عن بعضهم: إنّ الّذي نرى من جهلنا بما لا نعلم، إنّما هو من تقصيرنا فيما نعلم. وَ إِنَّ اللَّهَ لَمَعَ الْمُحْسِنِينَ بالنصر و الإعانة.

______________________________

(1) محمّد: 17.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 247

(30) سورة الروم

اشارة

مكّيّة. و هي ستّون آية.

عن أبيّ بن كعب، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأ سورة الروم كان له من الأجر عشر حسنات، بعدد كلّ ملك سبّح للّه بين السماء و الأرض، و أدرك ما ضيّع في يومه و ليلته».

[سورة الروم (30): الآيات 1 الى 7]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (1) غُلِبَتِ الرُّومُ (2) فِي أَدْنَى الْأَرْضِ وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ سَيَغْلِبُونَ (3) فِي بِضْعِ سِنِينَ لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ وَ مِنْ بَعْدُ وَ يَوْمَئِذٍ يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ (4)

بِنَصْرِ اللَّهِ يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (5) وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (6) يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ (7)

و لمّا أجمل في آخر العنكبوت ذكر المجاهدين، فصّله في هذه السورة، فقال:

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 248

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم غُلِبَتِ الرُّومُ فِي أَدْنَى الْأَرْضِ أقرب أرض العرب منهم، لأنّ الأرض المعهودة عندهم أرضهم. و هي أطراف الشام. أو في أدنى أرضهم من العرب، على إنابة اللام مناب المضاف إليه. و قال مجاهد: هي أرض الجزيرة. و هي أدنى أرض الروم إلى فارس. و عن ابن عبّاس: الأردن و فلسطين.

وَ هُمْ مِنْ بَعْدِ غَلَبِهِمْ من إضافة المصدر إلى المفعول، أي: من بعد غلبة فارس إيّاهم سَيَغْلِبُونَ فِي بِضْعِ سِنِينَ و هو ما بين ثلاث إلى العشر.

روي: أنّه احتربت الروم و فارس بين أذرعات و بصرى، فغلبت فارس الروم.

فبلغ الخبر مكّة، فشقّ على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المسلمين، لأنّ فارس مجوس لا كتاب لهم، و الروم أهل الكتاب. و فرح المشركون و شمتوا، و قالوا: أنتم و النصارى

أهل الكتاب، و نحن و فارس أمّيّون، و قد ظهر إخواننا على إخوانكم، فسنظهرنّ نحن عليكم كما ظهرت فارس على الروم.

فقال لهم أبو بكر: لا يقرّنّ اللّه أعينكم، فو اللّه لتظهرنّ الروم على فارس بعد بضع سنين.

فقال له أبيّ بن خلف: كذبت اجعل بيننا أجلا أناحبك عليه. و المناحبة:

المراهنة. و هي غير محرّمة في مبدأ الإسلام.

فناحبه على عشر قلائص «1» من كلّ واحد منهما. و جعلا الأجل ثلاث سنين.

فأخبر أبو بكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال البضع: ما بين الثلاث إلى العشر. فزايده في الخطر، و مادّه في الأجل- و الخطر هو السبق الّذي بين المتراهنين- فجعلاها مائة قلوص إلى تسع سنين.

و مات أبيّ من جرح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم احد. و ظهرت الروم على فارس يوم الحديبية، و ذلك عند رأس سبع سنين.

فأخذ أبو بكر الخطر من ذريّة أبيّ، و جاء

______________________________

(1) القلائص جمع القلوص، و هي الأنثى الشابّة من الإبل. زبدة التفاسير، ج 5، ص: 249

به إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: تصدّق به.

و هذه الآية من الآيات البيّنة الشاهدة على صحّة النبوّة، و أنّ القرآن من عند اللّه، لأنّها إنباء عمّا سيكون، و هو الغيب الّذي لا يعلمه إلّا اللّه.

لِلَّهِ الْأَمْرُ مِنْ قَبْلُ من قبل كونهم غالبين، و هو وقت كونهم مغلوبين وَ مِنْ بَعْدُ و من بعد كونهم مغلوبين، و هو وقت كونهم غالبين، أي: له الأمر حين غلبوا و حين يغلبون، ليس شي ء منهما إلّا بقضائه، و تلك الأيّام نداولها بين الناس.

و عن أبي سعيد الخدري قال: التقينا مع رسول اللّه و مشركي العرب، و التقت

الروم و فارس، فنصرنا اللّه على مشركي العرب، و نصر الروم على المجوس، ففرحنا بنصر اللّه إيّانا على المشركين، و نصر أهل الكتاب على المجوس. فذلك قوله:

وَ يَوْمَئِذٍ و يوم تغلب الروم على فارس يَفْرَحُ الْمُؤْمِنُونَ بِنَصْرِ اللَّهِ إيّاهم، و من له كتاب على من لا كتاب له، لما فيه من انقلاب التفاؤل، و ظهور صدقهم فيما أخبروا به المشركين، و غلبتهم في رهانهم، و ازدياد يقينهم و ثباتهم في دينهم، و لأنّهم مقدّمة لنصرهم على المشركين.

و قيل: بنصر اللّه المؤمنين بإظهار صدقهم فيما أخبروا به المشركين من غلبة الروم. أو بأنّه ولّى بعض الظالمين بعضا، و فرّق بين كلمتهم، حتّى تفانوا و تناقصوا، و فلّ «1» هؤلاء شوكة هؤلاء، و في ذلك قوّة للإسلام.

و عن أبي سعيد الخدري: وافق ذلك يوم بدر، و في هذا اليوم نصر المؤمنون.

يَنْصُرُ مَنْ يَشاءُ فينصر هؤلاء تارة و هؤلاء اخرى وَ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ ينتقم من عباده بالنصر عليهم تارة، و يتفضّل عليهم بنصرهم اخرى.

وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكّد لنفسه، أي: وعد اللّه ذلك وعدا، لأنّ ما قبله في معنى الوعد، كقولك: له عليّ ألف درهم اعترافا لا يُخْلِفُ اللَّهُ وَعْدَهُ بظهور الروم

______________________________

(1) أي: كسر.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 250

زبدة التفاسير ج 5 299

على فارس، لامتناع الكذب عليه وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ أكثر أهل مكّة، و هم كفّارهم لا يَعْلَمُونَ وعده، و لا صحّة وعده، لجهلهم، و عدم تفكّرهم.

ثمّ ذمّهم اللّه تعالى بأنّهم بصراء بأمور الدنيا، يعلمون منافعها و مضارّها على الوجه الأتمّ، و بله «1» في أمر الدين، فقال:

يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا ما يشاهدونه منها، فيبلغون في التجارات و أنواع المكاسب أبلغ المراتب، فيتمتّعون بزخارفها و

ملاذّها. و عن الحسن: بلغ من علم أحدهم بدنياه أنّه يقلّب الدرهم على ظهره، فيخبرك بوزنه، و ينقره «2» بإصبعه، فيعلم أردئ هو أم جيّد؟ و ما يحسن أن يصلّي.

وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ الّتي هي غايتها و المقصود منها هُمْ غافِلُونَ لا تخطر ببالهم. و «هم» الثانية تكرير للأولى. أو مبتدأ، و «غافلون» خبره، و الجملة خبر «هم» الأولى. و هو على الوجهين مناد على تمكّن غفلتهم عن الآخرة، المحقّقة لمقتضى الجملة المتقدّمة المبدلة من قوله: «لا يعلمون» تقريرا لجهالتهم، و تشبيها لهم بالحيوانات المقصور إدراكها من الدنيا ببعض ظاهرها، فإنّ من العلم بظاهرها معرفة حقائقها و صفاتها و خصائصها و أفعالها و أسبابها، و كيفيّة صدورها منها، و كيفيّة التصرّف فيها. و لذا قال «ظاهرا» بالتنكير. و أمّا باطنها، فإنّها مجاز إلى الآخرة، و وصلة إلى نيلها، و أنموذج لأحوالها. و إشعارا بأنّه لا فرق بين عدم العلم، و العلم الّذي يختصّ بظاهر الدنيا.

[سورة الروم (30): الآيات 8 الى 10]

أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ لَكافِرُونَ (8) أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ أَثارُوا الْأَرْضَ وَ عَمَرُوها أَكْثَرَ مِمَّا عَمَرُوها وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ (9) ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أَنْ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ (10)

______________________________

(1) بله بلها: ضعف عقله و عجز رأيه. فهو أبله. و جمعه: بله.

(2) أي: يضربه.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 251

ثمّ حثّ سبحانه على التفكّر و التدبّر فيما يدلّ على

توحيده، من خلق السماوات و الأرض، ثمّ أحوال القرون الخالية و الأمم الماضية، فقال:

أَ وَ لَمْ يَتَفَكَّرُوا فِي أَنْفُسِهِمْ أو لم يحدثوا التفكّر في أنفسهم، أي: في قلوبهم الفارغة من الفكر. فالجارّ و المجرور ظرف للفعل. و يحتمل أن يكون صلة له. و معناه: أو لم يتفكّروا في خلق أنفسهم، فإنّها أقرب إليهم من غيرها و مرآة يجتلى فيها للمستبصر ما يجتلى له في الممكنات بأسرها، ليتحقّق لهم قدرة مبدعها على إعادتها، كقدرته على إبدائها.

و قوله: ما خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ متعلّق بقول أو علم محذوف يدلّ عليه الكلام. تقديره: أو لم يتفكّروا فيقولوا أو فيعلموا هذا القول.

و المعنى: ما خلقها باطلا و عبثا بغير غرض صحيح و حكمة بالغة، بل إنّما خلقها مقرونة بالحقّ، مصحوبة بالحكمة.

وَ أَجَلٍ مُسَمًّى و بتقدير أجل مقرّر مقدّر لا بدّ لها من أن تنتهي إليه، و لا تبقى بعده. و هو وقت قيام الساعة.

وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ بلقاء جزائه عند انقضاء الأجل المسمّى، أو قيام الساعة لَكافِرُونَ جاحدون، يحسبون أنّ الدنيا أبديّة، و أنّ

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 252

الآخرة لا تكون.

ثمّ نبّههم سبحانه دفعة اخرى، فقال: أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ تقرير لسيرهم في أقطار الأرض، و نظرهم في آثار المدمّرين من قبلهم. كانُوا هم أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً كعاد و ثمود، لأنّهم كانوا أطول أعمارا، و أكثر عددا و عددا.

وَ أَثارُوا الْأَرْضَ و قلّبوا وجهها، لاستنباط المياه، و استخراج المعادن، و زرع البزور، و غيرها. و سمّي الثور ثورا لإثارته الأرض، و بقرة لبقرها، و هو الشقّ.

وَ عَمَرُوها و عمروا الأرض أَكْثَرَ

مِمَّا عَمَرُوها من عمارة أهل مكّة إيّاها، فإنّهم حفروا الأنهار، و غرسوا الأشجار، و بنوا الدور، و شيّدوا القصور، ثمّ تركوها و صاروا إلى الهلاك و القبور. و أهل مكّة هم أهل واد غير ذي زرع، لا تبسّط لهم في غيرها.

و فيه تهكّم بهم، من حيث إنّهم مغترّون بالدنيا، مفتخرون بها. و هم أضعف حالا فيها، إذ مدار أمرها على التبسّط في البلاد، و التسلّط على العباد، و التصرّف في أقطار الأرض بأنواع العمارة، و هم ضعفاء ملجئون إلى واد لا نفع لها.

وَ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات، أو الآيات الواضحات فَما كانَ اللَّهُ لِيَظْلِمَهُمْ ليفعل بهم ما يفعله الظلمة، فيدمّرهم من غير جرم و لا تذكير وَ لكِنْ كانُوا أَنْفُسَهُمْ يَظْلِمُونَ حيث عملوا ما أدّى إلى تدميرهم، من الإشراك باللّه و جحد الرسل.

و هذه الآية ناطقة بما ذهب إليه الإماميّة، من وقوع الأعمال من العباد بمشيئتهم و إرادتهم.

و فسّر النيشابوريّ الظلم الواقع في هذه الآية الكريمة، بوضع الأنفس

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 253

الشريفة في موضع خسيس، و هو عبادة الأصنام. ثمّ ذكر توجيه أهل البدعة و الضلالة لهذه الآية المتقنة، قائلا: «قال أهل السنّة: هذا الوضع كان بمشيئة اللّه و إرادته، لكنّه صدر عنهم، فأضيف إليهم» «1» انتهى كلامه.

و حاصله: أنّهم حملوا الإسناد على المجاز دون الحقيقة. و مرادهم أنّه سبحانه أراد الظلم و عبادة الأوثان من بعض البريّة.

و لا يخفى فساده على من له أدنى مسكة و درية، و لكن لا حيلة لمن حاد «2» عن الجادّة النبويّة إلّا القول بنحو هذه التأويلات الرديّة، و إثبات دينه بمشتبهات السنّة. فسحقا لهم؛ تأوّلوا الآية المحكمة لإثبات الظلم للحضرة المقدّسة. و أيم اللّه هم العادلون عن

الكتاب و السنّة، المتابعون للأهواء المضلّة، الظالمون الّذين أشار سبحانه إلى عاقبتهم بقوله:

ثُمَّ كانَ عاقِبَةَ الَّذِينَ أَساؤُا السُّواى أي: عاقبتهم العقوبة أو الخصلة السوأى. فوضع الظاهر موضع الضمير، للدلالة على ما اقتضى أن تكون تلك عاقبتهم، و أنّهم جاءوا بمثل أفعالهم. و السّوأى تأنيث الأسوأ، بمعنى الأقبح، كالحسنى. أو مصدر، كالبشرى، نعت به.

و المعنى: أنّهم عوقبوا في الدنيا بالدمار، ثمّ كانت عاقبتهم العقوبة الّتي هي أسوأ العقوبات و أقبحها في الآخرة، و هي جهنّم الّتي أعدّت للكافرين.

أَنْ كَذَّبُوا لأن كذّبوا بِآياتِ اللَّهِ وَ كانُوا بِها يَسْتَهْزِؤُنَ ف «أن» منصوب المحلّ على العلّة. و يجوز أن يكون بدلا أو عطف بيان للسوأى. أو خبر «كان» و «السوأى» مصدر: أساؤا، أو مفعوله، بمعنى: ثمّ كان عاقبة الّذين اقترفوا الخطيئة أن طبع اللّه على قلوبهم حتّى كذّبوا الآيات و استهزؤا بها. أو تكون «السوأى» صلة

______________________________

(1) تفسير غرائب القرآن 5: 404.

(2) أي: مال و عدل.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 254

الفعل، و «أن كذّبوا» تابعها، و الخبر محذوف للإبهام و التهويل. و أن تكون «أن» مفسّرة، بمعنى: أي، لأنّه إذا كان تفسير الإساءة التكذيب و الاستهزاء، كانت في معنى القول، نحو: نادى و كتب، و ما أشبه ذلك.

و قرأ ابن عامر و الكوفيّون: عاقبة بالنصب، على أنّ الاسم «السوأى»، و «أن كذّبوا» يكون على الوجوه المذكورة.

[سورة الروم (30): الآيات 11 الى 16]

اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (11) وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ (12) وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ شُفَعاءُ وَ كانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ (13) وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ (14) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ يُحْبَرُونَ (15)

وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ لِقاءِ الْآخِرَةِ

فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (16)

ثمّ ذكر سبحانه قدرته على الإعادة فقال: اللَّهُ يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ينشئهم ثُمَّ يُعِيدُهُ يبعثهم بعد الموت أحياء كما كانوا ثُمَّ إِلَيْهِ إلى ثوابه و عقابه تُرْجَعُونَ و العدول إلى الخطاب للمبالغة في المقصود. و قرأ أبو عمرو و أبو بكر و روح بالياء على الأصل.

وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُبْلِسُ الْمُجْرِمُونَ يسكتون متحيّرين آيسين. يقال:

ناظرته فأبلس، إذا سكت و أيس من أن يحتجّ. و منه: الناقة المبلاس الّتي لا ترغو «1».

______________________________

(1) أي: لا تصوّت و لا تضجّ. من: رغا البعير، إذا صوّت و ضجّ.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 255

وَ لَمْ يَكُنْ لَهُمْ مِنْ شُرَكائِهِمْ ممّن أشركوهم باللّه شُفَعاءُ يجيرونهم من عذاب اللّه، كما زعموا أنّا نعبدهم ليقرّبونا إلى اللّه زلفى. و مجيئه بلفظ الماضي لتحقّقه.

وَ كانُوا بِشُرَكائِهِمْ كافِرِينَ يكفرون بآلهتهم، و يجحدونها، و يتبرّءون منها حين يئسوا منهم. و قيل: كانوا في الدنيا كافرين بسببهم.

و كتب في المصحف: شفعواء، و علماء بني إسرائيل، بالواو قبل الألف.

و كذلك كتب السوأى بالألف قبل الياء، إثباتا للهمزة على صورة الحرف الّذي منه حركتها.

وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ أي: يتفرّق المؤمنون و الكافرون، لقوله: فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَهُمْ فِي رَوْضَةٍ أرض ذات أزهار و أنهار. و التنكير لإبهام أمرها و تفخيمه. يُحْبَرُونَ يسرّون سرورا تهلّلت له وجوههم. يقال: حبره إذا سرّه سرورا ظهر أثره في الوجه. قال ابن عبّاس: يحبرون بمعنى: يكرمون. و قيل: يلذّذون بالسماع.

عن أبي امامة الباهلي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «ما من عبد يدخل الجنّة إلّا و يجلس عند رأسه ثنتان من الحور العين، تغنّيانه بأحسن صوت سمعه الإنس و الجنّ، و ليس

بمزمار الشيطان، و لكن بتمجيد اللّه و تقديسه».

و

عن أبي الدرداء قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يذكر الناس، فذكر الجنّة و ما فيها من الأزواج و النعيم، و في آخر القوم أعرابيّ، فجثا لركبتيه و قال: يا رسول اللّه هل في الجنّة من سماع؟

قال: نعم يا أعرابي، إنّ في الجنّة لنهرا حافّتاه الأبكار من كلّ بيضاء خوصانيّة، يتغنّين بأصوات لم يسمع الخلائق بمثلها قطّ، فذلك أفضل نعيم الجنّة».

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 256

و الخوصانيّة: المرهفة «1» الأعلى، الضخمة الأسفل. قال الراوي: سألت أبا الدرداء بم يتغنّين؟ قال: بالتسبيح.

و عن إبراهيم: إنّ في الجنّة لأشجارا عليها أجراس من فضّة، فإذا أراد أهل الجنّة السماع بعث اللّه ريحا من تحت العرش، فتقع في تلك الأشجار، فتحرّك تلك الأجراس بأصوات لو سمعها أهل الدنيا لماتوا طربا.

ثمّ أخبر عن حال الكافرين، فقال: وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا وَ لِقاءِ الْآخِرَةِ فَأُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ مدخلون لا يغيبون عنه. و لفظ الإحضار لا يستعمل إلّا فيما يكرهه الإنسان. يقال: أحضر فلان مجلس القضاء، إذا جي ء به لما لا يؤثره.

[سورة الروم (30): الآيات 17 الى 21]

فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ وَ حِينَ تُصْبِحُونَ (17) وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ عَشِيًّا وَ حِينَ تُظْهِرُونَ (18) يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِّ وَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (19) وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ (20) وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لِتَسْكُنُوا إِلَيْها وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (21)

______________________________

(1) أي: دقيقة الأعلى ضامرته.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 257

و لمّا

ذكر الوعد و الوعيد، أتبعه ذكر ما يوصل إلى الوعد، و ينجي من الوعيد، فقال:

فَسُبْحانَ اللَّهِ إخبار في معنى الأمر بتنزيه اللّه تعالى و الثناء عليه. و المعنى:

سبّحوه و نزّهوه عمّا لا يليق به، أو ينافي تعظيمه من صفات النقص، بأن تصفوه بما يليق به من الصفات و الأسماء. حِينَ تُمْسُونَ حين تدخلون في المساء، و هو مجي ء ظلام الليل وَ حِينَ تُصْبِحُونَ حين تدخلون في الصباح.

وَ لَهُ الْحَمْدُ و له الثناء و الحمد فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي: هو المستحقّ لحمد أهلهما لإنعامه عليهما وَ عَشِيًّا و في وقت العشيّ. و هو آخر النهار. من:

عشي العين، إذا نقص نورها. و كأنّه لعدم مجي ء الفعل من العشيّ ترك «حين» في «عشيّا». وَ حِينَ تُظْهِرُونَ و حين تدخلون في الظهيرة، و هي نصف النهار.

و تخصيص التسبيح بالمساء و الصباح، لأنّ آثار القدرة و العظمة فيهما أظهر.

و تخصيص الحمد بالعشيّ الّذي هو بقيّة النهار، و الظهيرة الّتي هي وسطه، لأنّ تجدّد النعم فيهما أكثر. و يجوز أن يكون «عشيّا» معطوفا على «حين تمسون»، و قوله:

«وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي السَّماواتِ» اعتراضا.

و عن ابن عبّاس و مجاهد: إنّ الآية جامعة للصلوات الخمس. «تمسون» صلاة المغرب و العشاء. و «تصبحون» صلاة الفجر. و «عشيّا» صلاة العصر.

و «تظهرون» صلاة الظهر. و لذلك زعم الحسن أنّها مدنيّة، لأنّه كان يقول: كان الواجب بمكّة ركعتين في أيّ وقت اتّفقتا، و إنّما فرضت الخمس بالمدينة. و الأكثر على أنّها فرضت بمكّة.

يُخْرِجُ الْحَيَّ مِنَ الْمَيِّتِ كالإنسان من النطفة، و الطائر من البيضة وَ يُخْرِجُ الْمَيِّتَ مِنَ الْحَيِ كالنطفة و البيضة. أو يعقّب الحياة الموت، و بالعكس. و عن مجاهد: يخرج المؤمن من الكافر، و الكافر

من المؤمن. وَ يُحْيِ الْأَرْضَ بالنبات

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 258

بَعْدَ مَوْتِها يبسها وَ كَذلِكَ و مثل ذلك الإخراج تُخْرَجُونَ من قبوركم، فإنّه أيضا تعقيب للحياة الموت. و قرأ حمزة و الكسائي بفتح التاء. و الباقون بضمّها و فتح الراء.

و

عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من سرّه أن يكال له بالقفيز الأوفى، فليقل: «فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ» الآية».

و

عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قال حين يصبح: فَسُبْحانَ اللَّهِ حِينَ تُمْسُونَ إلى قوله- تُخْرَجُونَ أدرك ما فاته في يومه، و من قالها حين يمسي أدرك ما فاته في ليلته».

وَ مِنْ آياتِهِ الدالّة على وحدانيّته و كمال قدرته أَنْ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ أي:

في أصل الإنشاء، لأنّه خلق أصلهم منه، و هو أبوهم آدم ثُمَّ إِذا أَنْتُمْ بَشَرٌ تَنْتَشِرُونَ ثمّ فاجأتم وقت كونكم بشرا منتشرين في الأرض، متصرّفين على ظهرها، متفرّقين في أطرافها، كقوله تعالى: وَ بَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيراً وَ نِساءً «1».

وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ خَلَقَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً لأنّ حوّاء خلقت من ضلع آدم، و سائر النساء خلقن من نطف الرجال. أو لأنّهنّ من جنسهم لا من جنس آخر.

لِتَسْكُنُوا إِلَيْها لتطمئنّوا و تميلوا إليها، و تألفوا بها، و يستأنس بعضكم ببعض.

يقال: سكن إليه إذا مال إليه. و لا شكّ أنّ الجنسيّة علّة للضمّ، و الاختلاف سبب للتنافر.

وَ جَعَلَ بَيْنَكُمْ أي: بين الرجال و النساء، أو بين أفراد الجنس مَوَدَّةً وَ رَحْمَةً بواسطة الزواج حال الشبق و غيرها، بعد أن لم تكن بينكم سابقة معرفة، و لا لقاء، و لا سبب يوجب التحابّ و التعاطف، من قرابة أو رحم. أو بأنّ تعيّش الإنسان متوقّف على التعارف و التعاون، المحوج إلى التوادّ

و التراحم.

و عن الحسن: المودّة كناية عن الجماع، و الرحمة عن الولد، كما قال:

______________________________

(1) النساء: 1.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 259

وَ رَحْمَةً مِنَّا «1». و قال: ذِكْرُ رَحْمَتِ رَبِّكَ «2».

إِنَّ فِي ذلِكَ في خلق الأزواج مشاكلة للرجال لَآياتٍ لدلالات واضحات لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ فيعلمون ما في ذلك من الحكم.

[سورة الروم (30): الآيات 22 الى 27]

وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ وَ أَلْوانِكُمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِلْعالِمِينَ (22) وَ مِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ (23) وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (24) وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ بِأَمْرِهِ ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ (25) وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ (26)

وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ وَ لَهُ الْمَثَلُ الْأَعْلى فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)

ثمّ نبّه على آية اخرى فقال: وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ و ما فيهما من عجائب خلقه، و بدائع صنعه، من النجوم و الشمس و القمر، و جريها في مجاريها على غاية الاتّساق و النظام، و أنواع الجمادات و النباتات و الحيوانات المخلوقة على

______________________________

(1) مريم: 21 و 2.

(2) مريم: 21 و 2.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 260

وجه الإحكام.

وَ اخْتِلافُ أَلْسِنَتِكُمْ لغاتكم، بأن علّم كلّ صنف لغته، أو ألهمه وضعها، و أقدره عليها. أو أجناس نطقكم و أشكاله، فإنّك لا تكاد تسمع منطقين متساويين في الكيفيّة.

وَ أَلْوانِكُمْ أي: اختلافها، من بياض الجلد و سواده،

و حمرته و صفرته و سمرته. أو تخطيطات الأعضاء و هيئاتها، ليقع التمايز و التعارف، حتّى إنّ التوأمين مع توافق موادّهما و أسبابهما، و الأمور الملاقية لهما في التخليق، يختلفان في شي ء من ذلك لا محالة. و ما ذلك إلّا للتراكيب البديعة، و اللطائف العجيبة، الدالّة على كمال قدرته و حكمته. و لو اتّفقت الألوان، و تشاكلت التخطيطات، بحيث كانت ضربا واحدا، لوقع التجاهل و الالتباس، و لتعطّلت مصالح كثيرة.

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لأدلّة واضحة لِلْعالِمِينَ لا تكاد تخفى على عاقل، من ملك أو إنس أو جنّ. و قرأ حفص: للعالمين بكسر اللام. و يؤيّده قوله: وَ ما يَعْقِلُها إِلَّا الْعالِمُونَ «1».

وَ مِنْ آياتِهِ مَنامُكُمْ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ابْتِغاؤُكُمْ مِنْ فَضْلِهِ هذا من باب اللفّ و النشر. و ترتيبه: و من آياته منامكم و ابتغاؤكم من فضله بالليل و النهار. إلّا أنّه ضمّ بين الزمانين و الفعلين بعاطفين، إشعارا بأنّ كلّا من الزمانين- مع أنّه مختصّ بأحدهما عرفا- صالح للآخر عند مسّ الحاجة إليه.

و يجوز أن يكون المعنى: و من آياته منامكم في الزمانين، لاستراحة القوى النفسانيّة، و قوّة القوى الطبيعيّة، و طلب معاشكم فيهما.

و يؤيّد الأوّل سائر الآيات الواردة فيه. و أسدّ المعاني ما دلّ عليه القرآن.

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَسْمَعُونَ سماع تفهّم فانّ الانتفاع منها إنّما يظهر

______________________________

(1) العنكبوت: 43.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 261

في التفهّم و الاستبصار.

وَ مِنْ آياتِهِ يُرِيكُمُ الْبَرْقَ مقدّر ب «أن» المصدريّة. أو الفعل فيه منزّل منزلة المصدر، كقولهم: تسمع بالمعيدي «1» خير من أن تراه. أو صفة لمحذوف، تقديره:

آية يريكم بها البرق. خَوْفاً من الصاعقة، أو من أن يخلف فلا يمطر وَ طَمَعاً في الغيث. و قيل: خوفا

للمسافر، و طمعا للحاضر.

و نصبهما على العلّة لفعل يلزم المذكور، فإنّ إراءتهم تستلزم رؤيتهم. أو الفعل المذكور على تقدير مضاف، نحو إرادة خوف و طمع. أو تأويل الخوف و الطمع بالإخافة و الإطماع. فلا يرد: أنّ من حقّ المفعول له أن يكون فعلا لفاعل الفعل المعلّل، و الخوف و الطمع ليسا كذلك. و يجوز أن يكونا حالين، أي: خائفين و طائعين، مثل: كلّمته شفاها.

وَ يُنَزِّلُ مِنَ السَّماءِ ماءً فَيُحْيِي بِهِ الْأَرْضَ بالنبات بَعْدَ مَوْتِها يبسها إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم في استنباط أسبابها، و كيفيّة تكوّنها، ليظهر لهم كمال قدرة الصانع و حكمته.

وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ تَقُومَ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ بِأَمْرِهِ أي: قيام السماوات و الأرضين و استمساكهما بغير عمد لهما بأمره لهما بالقيام، بأن قال لهما: كونا قائمتين، لقوله:

إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «2».

و قيل «بأمره» أي: بفعله و إمساكه. و التعبير بالأمر للمبالغة في كمال القدرة، و الغنى عن الآلة، لأنّه أبلغ في الاقتدار، فإنّ قول القائل: أمر فكان، أبلغ في الدلالة على الاقتدار من أن يقول: فعل فكان. و معنى القيام الثبات و الدوام، كما يقال:

______________________________

(1) في هامش النسخة الخطّية: «معيدي تصغير معدّيّ، فاجتمع التشديدان فخفّف. منه».

انظر الصحاح 2: 506.

(2) النحل: 40.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 262

السوق قائمة.

و قوله: ثُمَّ إِذا دَعاكُمْ دَعْوَةً مِنَ الْأَرْضِ أي: من القبر إِذا أَنْتُمْ تَخْرُجُونَ عطف على «أن تقوم» على تأويل مفرد. كأنّه قيل: و من آياته قيام السماوات و الأرض بأمره، ثمّ خروجكم من القبور إذا دعاكم دعوة واحدة، فيقول: أيّها الموتى اخرجوا. و المراد تشبيه سرعة ترتّب حصول ذلك على تعلّق إرادته، بلا توقّف و احتياج إلى

تجشّم عمل بسرعة ترتّب إجابة الداعي المطاع على دعائه.

و «ثم» إمّا لتراخي زمانه، أو لعظم ما فيه، و اقتداره على مثله، و هو أن يقول:

يا أهل القبور قوموا، فلا تبقى نسمة من الأوّلين و الآخرين إلّا قامت تنظر، كما قال عزّ و جلّ: ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ «1».

و «من» متعلّق ب «دعا». تقول: دعوت زيدا من أعلى الجبل فنزل عليّ، و دعوته من أسفل الجبل فطلع إليّ. لا ب «دعوة» لأنّ الفعل أقوى في العمل. و لا يجوز أن يتعلّق ب «تخرجون» لأنّ ما بعد «إذا» لا يعمل فيما قبلها. و «إذا» الثانية للمفاجأة، و لذلك نابت مناب الفاء في جواب الأولى.

وَ لَهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ من العقلاء، يملكهم و يملك التصرّف فيهم.

و إنّما خصّ العقلاء لأنّ ما عداهم في حكم التبع لهم.

ثمّ أخبر عن جميعهم، فقال: كُلٌّ لَهُ قانِتُونَ منقادون لفعله فيهم، من الحياة و البقاء و الموت و البعث و غيرها، لا يمتنعون عليه في شي ء ممّا أراد.

وَ هُوَ الَّذِي يَبْدَؤُا الْخَلْقَ يخترعه ابتداء ثُمَّ يُعِيدُهُ بعد إفنائه. جعل سبحانه ما ظهر من ابتداء خلقه دليلا على ما خفي من إعادته، استدلالا بالشاهد على الغائب.

ثمّ أكّد ذلك بقوله: وَ هُوَ أَهْوَنُ عَلَيْهِ أي: أسهل عليه من الأصل بالإضافة

______________________________

(1) الزمر: 68.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 263

إلى قدركم، و القياس على أصولكم، و اقتضاء عقولكم، لأنّ من أعاد منكم صنعة شي ء كانت أسهل عليه و أهون من إنشائها، و إلّا فهما سواء عليه سبحانه. و لذلك قيل: الهاء للخلق بمعنى المخلوق، أي: و الإعادة على المخلوق أهون من النشأة الأولى، لأنّه إنّما يقال له في الإعادة: كن فيكون، و في

النشأة الأولى كان نطفة، ثمّ علقة، ثمّ مضغة، ثمّ عظاما، ثمّ كسيت العظام لحما، ثمّ نفخ فيه الروح. فتكوينه في حدّ الاستحكام و التمام، أهون عليه و أقلّ تعبا من أن يتنقّل في أحوال، و يندرج فيها إلى أن يبلغ ذلك الحدّ.

و قيل: «أهون» بمعنى هيّن، كقول الشاعر: لعمرك ما أدري و إنّي لأوجل «1»، أي: لوجل.

وَ لَهُ الْمَثَلُ الوصف العجيب الشأن، كالقدرة العامّة، و الحكمة التامّة. و من فسّره بقول لا إله إلّا اللّه أراد به الوصف بالوحدانيّة. الْأَعْلى الّذي ليس لغيره ما يساويه أو يدانيه فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يصفه به ما فيهما دلالة و نطقا وَ هُوَ الْعَزِيزُ القادر الّذي لا يعجز عن إبداء ممكن و إعادته الْحَكِيمُ الّذي يجري الأفعال على مقتضى حكمته.

[سورة الروم (30): الآيات 28 الى 29]

ضَرَبَ لَكُمْ مَثَلاً مِنْ أَنْفُسِكُمْ هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ مِنْ شُرَكاءَ فِي ما رَزَقْناكُمْ فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ تَخافُونَهُمْ كَخِيفَتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ كَذلِكَ نُفَصِّلُ الْآياتِ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (28) بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ (29)

______________________________

(1) و عجزه: على أيّنا تغدو المنيّة أوّل.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 264

ثمّ احتجّ سبحانه على عبدة الأوثان، فقال: ضَرَبَ بيّن لَكُمْ مَثَلًا مِنْ أَنْفُسِكُمْ أي: مثلا منتزعا من أحوالها الّتي هي أقرب الأمور إليكم، فإنّ «من» هنا للابتداء.

ثمّ بيّنه بقوله: هَلْ لَكُمْ مِنْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ «من» للتبعيض، أي: بعض مماليككم مِنْ شُرَكاءَ مزيدة لتأكيد الاستفهام الجاري مجرى النفي فِي ما رَزَقْناكُمْ من الأموال و غيرها فَأَنْتُمْ فِيهِ سَواءٌ فتكونون أنتم و هم فيه على السويّة، من غير تفضيل بين حرّ و عبد، فيتصرّفون فيه كتصرّفكم تَخافُونَهُمْ أن يستبدّوا بالتصرّف فيه دونكم كَخِيفَتِكُمْ

أَنْفُسَكُمْ كما يخاف الأحرار بعضهم بعضا، فإنّ الرجل الحرّ يخاف شريكه الحرّ في المال يكون بينهما أن يتفرّد دونه فيه بأمر يخاف من شريكه. فإذا لم ترضوا بذلك لأنفسكم، فكيف ترضون لربّ الأرباب و مالك الأحرار و العبيد، أن تجعلوا بعض عبيده له شركاء؟! كَذلِكَ مثل ذلك التفصيل نُفَصِّلُ الْآياتِ نبيّنها، فإنّ التمثيل ممّا يكشف المعاني و يوضحها، لأنّه بمنزلة التصوير و التشكيل لها. لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ يستعملون عقولهم في تدبّر الأمثال.

بَلِ اتَّبَعَ الَّذِينَ ظَلَمُوا بالإشراك أَهْواءَهُمْ بِغَيْرِ عِلْمٍ جاهلين لا يكفّهم شي ء، فإنّ العالم إذا اتّبع هواه ربما ردعه علمه.

فَمَنْ يَهْدِي مَنْ أَضَلَّ اللَّهُ فمن يقدر على هداية من خذله، و لم يلطف به، لعلمه أنّه ممّن لا يؤثّر اللطف فيه؟ أو فمن يهدي إلى الثواب و الخير من أضلّه اللّه عن ذلك؟ و الأشاعرة حملوا الإضلال على خلق الضلال في المكلّف. تعالى اللّه عن ذلك علوّا كبيرا.

وَ ما لَهُمْ مِنْ ناصِرِينَ يخلّصونهم من الضلالة، و يحفظونهم عن آفاتها. أو ينصرونهم و يدفعون عنهم عذاب اللّه إذا حلّ بهم.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 265

[سورة الروم (30): الآيات 30 الى 32]

فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ حَنِيفاً فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ ذلِكَ الدِّينُ الْقَيِّمُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (30) مُنِيبِينَ إِلَيْهِ وَ اتَّقُوهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ (31) مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ وَ كانُوا شِيَعاً كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ (32)

ثمّ خاطب نبيّه فقال: فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ فقوّمه و عدّله، غير ملتفت عنه يمينا و لا شمالا. و هذا تمثيل للإقبال و الاستقامة على الدين، و الاهتمام به، فإنّ من اهتمّ بالشي ء عقد عليه طرفه، و سدّد إليه نظره، و قوّم له وجهه،

مقبلا به عليه بكلّه.

حَنِيفاً حال من المأمور، أي: مائلا إليه، ثابتا عليه، مستقيما فيه، لا ترجع عنه إلى غيره. و يجوز أن يكون حالا من الدين.

فِطْرَتَ اللَّهِ خلقته. نصب على الإغراء، أي: الزموا فطرة اللّه، أو عليكم فطرة اللّه. أو على المصدر لما دلّ عليه قوله: الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها خلقهم عليها. و هي قبولهم للحقّ، و تمكّنهم من إدراكه. أو ملّة الإسلام، فإنّهم لو خلّوا و ما خلقوا عليه أدّى بهم إليها، لكونه مساوقا للنظر الصحيح، مجاوبا للعقل، و من غوى فبإغواء شياطين الإنس و الجنّ. و منه

الحديث القدسي: «كلّ عبادي خلقت حنفاء، فاجتالتهم «1» الشياطين عن دينهم، و أمروهم أن يشركوا بي غيري».

و

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «كلّ مولود يولد على الفطرة، حتّى يكون أبواه هما اللّذان يهوّدانه و ينصّرانه و يمجّسانه».

و قيل: «فطرة اللّه»: العهد المأخوذ من آدم و ذرّيّته.

______________________________

(1) اجتال القوم: حوّلهم عن قصدهم.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 266

لا تَبْدِيلَ لِخَلْقِ اللَّهِ لا يقدر أحد أن يغيّره. أو ما ينبغي أن يغيّر. ذلِكَ إشارة إلى الدين المأمور بإقامة الوجه له الدِّينُ الْقَيِّمُ المستقيم الّذي لا عوج فيه وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ استقامته، لعدم تدبّرهم، و عدولهم عن النظر فيه.

مُنِيبِينَ إِلَيْهِ راجعين إليه، أي: إلى كلّ ما أمر به. من: أناب إذا رجع مرّة بعد اخرى. و هو حال من الضمير في الناصب المقدّر لفطرة اللّه، أعني: الزموا أو عليكم. أو من مفعول: فطر، أي: خلقهم قابلين للتوحيد و دين الإسلام، غير ناءين عنه، و لا منكرين له، لكونه مجاوبا للعقل، كما مرّ آنفا. أو في «أقم» لأنّ المراد من خطاب الرسول جميع أمّته، لقوله: وَ اتَّقُوهُ

وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ لا تَكُونُوا مِنَ الْمُشْرِكِينَ غير أنّها صدرت بخطاب الرسول تعظيما له.

مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا دِينَهُمْ بدل من المشركين. و المعنى: و لا تكونوا من الّذين جعلوا دينهم أديانا مختلفة، لاختلاف أهوائهم الباطلة. و قرأ حمزة و الكسائي:

فارقوا، بمعنى: تركوا دينهم الّذي أمروا به. وَ كانُوا شِيَعاً فرقا، كلّ واحدة تشايع إمامها الّذي أضلّ دينها كُلُّ حِزْبٍ منهم بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ مسرورون بمذهبهم، ظنّا بأنّه الحقّ. و يجوز أن يجعل «فرحون» صفة «كلّ» على أنّ الخبر «مِنَ الَّذِينَ فَرَّقُوا».

[سورة الروم (30): الآيات 33 الى 38]

وَ إِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ (33) لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ فَتَمَتَّعُوا فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (34) أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ (35) وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً فَرِحُوا بِها وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ (36) أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (37)

فَآتِ ذَا الْقُرْبى حَقَّهُ وَ الْمِسْكِينَ وَ ابْنَ السَّبِيلِ ذلِكَ خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (38)

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 267

وَ إِذا مَسَّ النَّاسَ ضُرٌّ شدّة، من مرض أو قحط، أو غير ذلك دَعَوْا رَبَّهُمْ مُنِيبِينَ إِلَيْهِ راجعين إليه من دعاء غيره ثُمَّ إِذا أَذاقَهُمْ مِنْهُ رَحْمَةً بأن يعافيهم من المرض، أو يغنيهم من الفقر إِذا فَرِيقٌ مِنْهُمْ بِرَبِّهِمْ يُشْرِكُونَ فاجأ فريق منهم بالإشراك بربّهم الّذي عافاهم.

لِيَكْفُرُوا بِما آتَيْناهُمْ من النعم. و اللام فيه للعاقبة. و قيل: للأمر بمعنى التهديد، لقوله: فَتَمَتَّعُوا غير أنّه التفت فيه مبالغة. و نظيره في التهديد قوله:

اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ «1». و قوله:

فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ «2».

و المعنى: انتفعوا بنعيم هذه الدنيا الفانية كيف شئتم فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ عاقبة تمتّعكم.

أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً حجّة يتسلّطون بذلك على ما ذهبوا إليه. و قيل:

ذا سلطان، أي: ملكا معه برهان. فَهُوَ يَتَكَلَّمُ تكلّم دلالة، كقوله: هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ «3». و كما تقول: هذا ممّا نطق به القرآن. و معناه: الدلالة و الشهادة. أو تكلّم نطق بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ أي: بصحّة كونهم باللّه يشركون.

______________________________

(1) فصّلت: 40.

(2) الكهف: 29.

(3) الجاثية: 29.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 268

و يجوز أن تكون «ما» موصولة، و يرجع الضمير إليها. و معناه: فهو يتكلّم بالأمر الّذي بسببه يشركون. و الهمزة للإنكار. و المعنى: أنّهم لا يقدرون على تصحيح ذلك، و لا يمكنهم ادّعاء برهان و حجّة عليه.

وَ إِذا أَذَقْنَا النَّاسَ رَحْمَةً نعمة من صحّة وسعة فَرِحُوا بِها بطروا بسببها وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ شدّة تسوؤهم، من سقم و فقر بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ بشؤم المعاصي الصادرة منهم. و إسنادها إلى أيديهم بناء على التغليب، فإنّ أكثر العمل لليدين. إِذا هُمْ يَقْنَطُونَ فاجئوا القنوط و اليأس من رحمته.

ثمّ أنكر عليهم بأنّهم قد علموا أنّه هو الباسط القابض، فما لهم يقنطون من رحمته؟ فقال:

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ فما لهم لم يشكروا و لم يرجعوا إليه، تائبين من المعاصي الّتي عوقبوا بالشدّة من أجلها، حتّى يعيد إليهم رحمته.

إِنَّ فِي ذلِكَ في بسط الرزق لقوم، و تضييقه لآخرين لَآياتٍ لدلالات لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ فيستدلّون بها على كمال القدرة و الحكمة.

و لمّا ذكر أنّ السيّئة أصابتهم بما قدّمت أيديهم، أتبعه ذكر ما يجب أن يفعل، و ما يجب أن يترك، فقال:

فَآتِ ذَا

الْقُرْبى حَقَّهُ و أعط ذوي قرباك يا محمّد حقوقهم الّتي جعلها اللّه لهم من الأخماس.

و

روى أبو سعيد الخدري و غيره أنّه لمّا نزلت هذه الآية على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أعطى فاطمة عليها السّلام فدكا و سلّمه إليها. و هو المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.

و قيل: الخطاب له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و لغيره. و المراد بالقربى قرابة الرجل. و هو أمر بصلة الرحم.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 269

وَ الْمِسْكِينَ ما وظّف اللّه له من الخمس و الزكاة وَ ابْنَ السَّبِيلِ و المسافر المحتاج ما فرض اللّه له في مالك.

ذلِكَ أي: إعطاء الحقوق مستحقّيها خَيْرٌ لِلَّذِينَ يُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ ذاته، أو جهته لا جهة اخرى، أي: يقصدون بمعروفهم إيّاه خالصا من الرياء و السمعة وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بما بسط لهم من النعيم المقيم.

[سورة الروم (30): الآيات 39 الى 40]

وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ رِباً لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ (39) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ ثُمَّ رَزَقَكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْ ءٍ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (40)

وَ ما آتَيْتُمْ أعطيتم مِنْ رِباً من زيادة مال. و قرأ ابن كثير: أتيتم بالقصر، بمعنى ما جئتم به من إعطاء ربا. لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ ليزيد و يزكو في أموالهم فَلا يَرْبُوا عِنْدَ اللَّهِ فلا يزكو عنده. و قرأ نافع و يعقوب: لتربوا بالخطاب، أي: لتزيدوا، أو لتصيروا ذوي ربا.

قيل: نزلت في ثقيف، و كانوا يربون. و معناه: و ما أوتيتم من زيادة محرّمة في المعاملة، كقوله: يَمْحَقُ اللَّهُ الرِّبا

وَ يُرْبِي الصَّدَقاتِ «1».

و قيل: المراد: و

ما أوتيتم من عطيّة يتوقّع بها مزيد مكافأة. و ذلك بأن يهب رجل رجلا أو يهدي له ليعوّضه أكثر ممّا وهب أو أهدى، فليست تلك الزيادة

______________________________

(1) البقرة: 276. زبدة التفاسير، ج 5، ص: 270

بحرام، و لكنّ المعوّض لا يثاب على تلك الزيادة.

و هذا القول منقول عن ابن عبّاس و طاووس. و هو المرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

و قالوا: الربا ربوان. فالحرام كلّ قرض يؤخذ فيه أكثر منه أو يجرّ منفعة.

و الّذي ليس بحرام أن يستدعي بهبته أو بهديّته أكثر منها.

وَ ما آتَيْتُمْ مِنْ زَكاةٍ تُرِيدُونَ وَجْهَ اللَّهِ تبتغون به وجهه خالصا، و لا تطلبون بها مكافأة و لا رئاء و لا سمعة فَأُولئِكَ هُمُ الْمُضْعِفُونَ ذوو الأضعاف من الثواب. و نظير المضعف المقوي و الموسر لذي القوّة و اليسار. أو الّذين ضعّفوا ثوابهم و أموالهم ببركة الزكاة. و تغييره عن سنن المقابلة عبارة و نظما للمبالغة. و الالتفات فيه للتعظيم، كأنّه خاطب به الملائكة و خواصّ الخلق تعريفا لحالهم، فهو أمدح لهم من أن يقول: فأنتم المضعفون. أو للتعميم، كأنّه قال: فمن فعل ذلك فأولئك هم المضعفون. و الراجع إلى «ما» محذوف، تقديره: المضعفون به، أو فمؤتوه أولئك هم المضعفون.

اللَّهُ مبتدأ، و خبره الَّذِي خَلَقَكُمْ أوجدكم ثُمَّ رَزَقَكُمْ أعطاكم أنواع النعم ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ليصحّ إيصالكم إلى ما عرّضكم له من الثواب الدائم ثُمَّ يُحْيِيكُمْ ليجازيكم على أفعالكم. و المعنى: إنّما اللّه فاعل هذه الأفعال الّتي لا يقدر على شي ء منها أحد غيره.

ثمّ أثبت لذاته لوازم الألوهيّة، و نفاها رأسا عمّا اتّخذوه شركاء له من الأصنام و غيرها، مؤكّدا بالإنكار على ما دلّ عليه البرهان و العيان، و وقع عليه

الوفاق، بقوله:

هَلْ مِنْ شُرَكائِكُمْ الّتي عبدتموها من دونه مَنْ يَفْعَلُ مِنْ ذلِكُمْ مِنْ شَيْ ءٍ و ذكر الاستفهام لتأكيد إنكار دلالة البرهان و العيان.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 271

ثمّ استنتج من ذلك تقدّسه عن أن يكون له شركاء، فقال: سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ و يجوز أن يكون الموصول صفة، و الخبر «هل من شركائكم» و الرابط «من ذلكم» لأنّه بمعنى: من أفعاله. و «من» الأولى و الثانية تفيدان شيوع الحكم في جنس الشركاء و الأفعال، و الثالثة مزيدة لتعميم المنفيّ. و كلّ منها مستقلّة بالتأكيد، لتعجيز الشركاء، و تجهيل عبدتهم. و قرأ حمزة و الكسائي بالتاء.

[سورة الروم (30): الآيات 41 الى 46]

ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (41) قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ (42) فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ (43) مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ (44) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ (45)

وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ مُبَشِّراتٍ وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (46)

ثمّ ذكر سبحانه ما أصاب الخلق بسبب ترك التوحيد، فقال: ظَهَرَ الْفَسادُ فِي الْبَرِّ وَ الْبَحْرِ كالجدب و الموتان، و كثرة الحرق و الغرق، و محق البركات، و كثرة المضارّ و الظلم. و عن ابن عبّاس: معناه: أجدبت الأرض. و انقطعت مادّة البحر.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 272

و قالوا: إذا انقطع القطر عميت دوابّ البحر. و عن الحسن المراد بالبحر قرى السواحل.

و أصل البرّ من البرّ، لأنّه

يبرّ بصلاح المقام فيه. و كذلك البرّ، لأنّه يبرّ بصلاح الغذاء أتمّ صلاح. و أصل البحر الشقّ، لأنّه شقّ في الأرض، ثمّ اتّسع استعماله، فسمّي الماء الملح بحرا و إن قلّ.

و قيل: فساد البرّ ما يحصل فيه من المخاوف المانعة من سلوكه، و يكون ذلك بخذلان اللّه أهله، و العقاب به. و فساد البحر اضطراب أمره، حتّى لا يكون للعباد متصرّف فيه.

بِما كَسَبَتْ أَيْدِي النَّاسِ بشؤم كسب معاصيهم. و عن مجاهد: ظهر الفساد في البرّ بقتل ابن آدم أخاه، و في البحر بأنّ جلندى «1» كان يأخذ كلّ سفينة غصبا.

لِيُذِيقَهُمْ بَعْضَ الَّذِي عَمِلُوا بعض جزائه، فإنّ تمامه في الآخرة. و اللام للعلّة، أو للعاقبة. و عن ابن كثير و يعقوب: لنذيقهم بالنون. لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ عمّا هم عليه.

ثمّ أكّد تسبّب المعاصي لغضب اللّه و نكاله، حيث أمرهم بأن يسيروا في الأرض فينظروا آثار تدميرهم، فقال:

قُلْ سِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَانْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلُ كيف أهلك اللّه الأمم، و أذاقهم سوء العاقبة لمعاصيهم، بأن جعل قصورهم قبورهم، و محاضرهم مقابرهم، لتشاهدوا مصداق ذلك، و تتحقّقوا صدقه. و كانَ أَكْثَرُهُمْ مُشْرِكِينَ استئناف للدلالة على أنّ سوء عاقبتهم كان لفشوّ الشرك و غلبته فيهم. أو على أنّ الشرك وحده لم يكن سبب تدميرهم، و أنّ ما دونه من المعاصي يكون أيضا سببا له.

______________________________

(1) اسم ملك عمان.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 273

فَأَقِمْ وَجْهَكَ لِلدِّينِ الْقَيِّمِ البليغ الاستقامة، الّذي لا يتأتّى فيه عوج أصلا.

و المعنى: لا تعدل عنه يمينا و لا شمالا، فإنّك متى فعلت ذلك أدّاك إلى طريق مستقيم إلى الجنّة.

مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ لا يقدر أن يردّه أحد. و هو يوم القيامة.

و قوله: مِنَ

اللَّهِ متعلّق ب «يأتي» أي: من قبل أن يأتي من اللّه يوم لا يردّه أحد.

و يجوز أن يتعلّق ب «مردّ» لأنّه مصدر على معنى: لا يردّه اللّه، لتعلّق إرادته القديمة بمجيئه.

يَوْمَئِذٍ يَصَّدَّعُونَ يتصدّعون، أي: يتفرّقون، فريق في الجنّة، و فريق في السعير. كما قال: مَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ أي: و باله. و هو النار المؤبّدة. وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِأَنْفُسِهِمْ يَمْهَدُونَ يسوّون و يوطّئون لأنفسهم في الجنّة ما يسوّيه لنفسه الّذي يمهّد فراشه و يوطّئه، لئلّا يصيبه في مضجعه ما ينغّص عليه مرقده، من نتوء «1» و سائر ما يؤذي الراقد. يقال: مهّدت لنفسي خيرا، أي: هيّأته و وطّأته.

روى منصور بن حازم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إنّ العمل الصالح ليسبق صاحبه إلى الجنّة، فيمهّد له كما يمهّد لأحدكم خادمه فراشه».

و تقديم الظرف في الموضعين، للدلالة على أنّ ضرر الكفر لا يعود إلّا على الكافر لا يتعدّاه، و منفعة الإيمان و العمل الصالح ترجع إلى المؤمن لا تتجاوزه.

لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ علّة ل «يمهدون» أو ل «يصّدّعون».

و الاقتصار على جزاء المؤمنين، للإشعار بأنّه المقصود بالذات. مِنْ فَضْلِهِ متعلّق بفعل الجزاء، أي ليجزيهم ممّا يتفضّل عليهم بعد توفية الواجب من الثواب. و هذا يشبه الكناية، لأنّ الفضل تبع للثواب، فلا يكون إلّا بعد حصول ما هو تبع له. أو أراد: من عطائه، و هو ثوابه، لأنّ الفضول و الفواضل هي الأعطية عند العرب.

______________________________

(1) أي: ارتفاع.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 274

و قيل: معناه: بسبب فضله، لأنّه خلقهم و هداهم و مكّنهم و أزاح علّتهم، حتّى استحقّوا الثواب.

و تكرير «الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ» و ترك الضمير إلى الصريح، لتقرير أنّه لا يفلح عنده إلّا

المؤمن الصالح.

و قوله: إِنَّهُ لا يُحِبُّ الْكافِرِينَ يدلّ بمنطوقه على إثبات البغض لهم، كما يدلّ بمفهومه على إثبات المحبّة للمؤمنين.

وَ مِنْ آياتِهِ أَنْ يُرْسِلَ الرِّياحَ الشمال و الصبا و الجنوب، فإنّها رياح الرحمة، و أمّا الدبور فريح العذاب. و منه

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «اللّهمّ اجعلها رياحا، و لا تجعلها ريحا».

و قرأ ابن كثير و حمزة و الكسائي: الريح، على إرادة الجنس.

مُبَشِّراتٍ بالمطر، فكأنّها ناطقات بالبشارة، لما فيها من الدلالة عليه.

و إرسالها تحريكها و إجراؤها في الجهات المختلفة، تارة شمالا، و تارة جنوبا، و تارة صبا، على حسب ما يعلم اللّه في ذلك من المصلحة.

وَ لِيُذِيقَكُمْ مِنْ رَحْمَتِهِ يعني: المنافع التابعة لها. و هي: نزول المطر، و الخصب التابع لنزول المطر المسبّب عنها، و الروح الّذي مع هبوبها، و زكاء الأرض.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إذا كثرت المؤتفكات زكت الأرض».

و المؤتفكات:

هي الرياح الّتي تختلف مهابّها. و إزالة العفونة من الهواء، و تذرية الحبوب، و غير ذلك.

و العطف على علّة محذوفة دلّ عليها «مبشّرات». كأنّه قيل: ليبشّركم و ليذيقكم. أو عليها باعتبار المعنى، فإنّها في معنى: ليبشّركم. و يجوز أن يتعلّق بمحذوف، تقديره: ليكون كذا و كذا أرسلناها و ليذيقكم.

وَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ بِأَمْرِهِ عند هبوبها. و إنّما قال: «بأمره» لأنّ الريح قد تهبّ و لا تكون مؤاتية، فلا بدّ من إرساء السفن و الاحتيال لحبسها، و ربما عصفت

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 275

فأغرقتها. وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ يعني: تجارة البحر وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ و لتشكروا نعمة اللّه فيها.

[سورة الروم (30): الآيات 47 الى 50]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلاً إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ

الْمُؤْمِنِينَ (47) اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَيَبْسُطُهُ فِي السَّماءِ كَيْفَ يَشاءُ وَ يَجْعَلُهُ كِسَفاً فَتَرَى الْوَدْقَ يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (48) وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ مِنْ قَبْلِهِ لَمُبْلِسِينَ (49) فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها إِنَّ ذلِكَ لَمُحْيِ الْمَوْتى وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (50)

و بعد ذكر أدلّة التوحيد و القدرة الكاملة، خاطب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تسلية له في تكذيب قومه إيّاه، فقال:

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ رُسُلًا إِلى قَوْمِهِمْ فَجاؤُهُمْ بِالْبَيِّناتِ المعجزات الباهرات، فكذّبوهم و جحدوا بآياتنا، فاستحقّوا العذاب فَانْتَقَمْنا مِنَ الَّذِينَ أَجْرَمُوا بالتدمير. و قوله: وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ إشعار بأنّ الانتقام تعظيم لهم، و رفع لشأنهم، حيث جعلهم مستحقّين على اللّه أن ينصرهم.

و جاءت الرواية

عن أمّ الدرداء أنّها قالت: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «ما من امرئ مسلم يردّ عن عرض أخيه، إلّا كان حقّا على اللّه أن يردّ عنه نار جهنّم

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 276

يوم القيامة». ثمّ تلا قوله: «وَ كانَ حَقًّا عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ».

و قد يوقف على «حقّا» على أنّه متعلّق بالانتقام. و المعنى: و كان الانتقام منهم حقّا، ثمّ يبتدأ: «عَلَيْنا نَصْرُ الْمُؤْمِنِينَ».

ثمّ قال تفسيرا لما أجمله في الآية المتقدّمة: اللَّهُ الَّذِي يُرْسِلُ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فتهيّجه و تزعجه فَيَبْسُطُهُ متّصلا تارة فِي السَّماءِ في سمتها، كقوله: وَ فَرْعُها فِي السَّماءِ «1» كَيْفَ يَشاءُ سائرا أو واقفا، مطبقا و غير مطبق، من جانب دون آخر، إلى غير ذلك.

وَ يَجْعَلُهُ كِسَفاً أي: قطعا متفرّقة تارة اخرى.

و قيل: متراكبا بعضه على بعض حتّى يغلظ. و قرأ ابن عامر بالسكون على أنّه مخفّف، أو جمع كسفة، أو مصدر وصف به.

فَتَرَى الْوَدْقَ أي: القطر يَخْرُجُ مِنْ خِلالِهِ في التارتين جميعا فَإِذا أَصابَ بِهِ مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ يعني: بلادهم و أراضيهم إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ يفرحون لمجي ء الخصب، أو يبشّر بعضهم بعضا به.

وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلِ أَنْ يُنَزَّلَ عَلَيْهِمْ المطر مِنْ قَبْلِهِ تكرير للتأكيد، كقوله: فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها «2» لَمُبْلِسِينَ لآيسين.

و معنى التأكيد فيه: الدلالة على أنّ عهدهم بالمطر قد تطاول و بعد، فاستحكم يأسهم، و تمادى إبلاسهم «3». و قيل: الضمير للسحاب، أو إرسال السحاب.

فَانْظُرْ إِلى آثارِ رَحْمَتِ اللَّهِ أي: أثر الغيث، من النبات و الأشجار و أنواع الثمار. و لذلك جمعه ابن عامر و حمزة و الكسائي و حفص. كَيْفَ يُحْيِ الْأَرْضَ

______________________________

(1) إبراهيم: 24.

(2) الحشر: 17.

(3) الإبلاس: اليأس من الخير، و قلّة الخير، و الانكسار غمّا و حزنا.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 277

بإنبات الخضراوات بَعْدَ مَوْتِها بعد أن كانت مواتا يابسة. جعل سبحانه اليبس و الجدوبة بمنزلة الموت، و ظهور النبات فيها بمنزلة الحياة توسّعا.

إِنَّ ذلِكَ يعني: الّذي قدر على إحياء الأرض بعد موتها لَمُحْيِ الْمَوْتى لقادر على إحيائهم، فإنّه إحداث لمثل ما كان في موادّ أبدانهم من القوى الحيوانيّة، كما أنّ إحياء الأرض إحداث لمثل ما كان فيها من القوى النباتيّة وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ من المقدورات قَدِيرٌ لأنّ نسبة قدرته إلى جميع الممكنات على سواء.

[سورة الروم (30): الآيات 51 الى 53]

وَ لَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ (51) فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ (52) وَ ما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ

عَنْ ضَلالَتِهِمْ إِنْ تُسْمِعُ إِلاَّ مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا فَهُمْ مُسْلِمُونَ (53)

ثمّ عاب سبحانه كافر النعمة بقوله: وَ لَئِنْ أَرْسَلْنا رِيحاً مؤذنة بالهلاك.

و هي الريح الباردة. فَرَأَوْهُ مُصْفَرًّا فرأوا الأثر أو الزرع، فإنّه مدلول عليه بما تقدّم. و قيل: السحاب، لأنّه إذا كان مصفرّا لم يمطر. و اللام موطّئة للقسم، دخلت على حرف الشرط. و قوله: لَظَلُّوا مِنْ بَعْدِهِ يَكْفُرُونَ جواب القسم سدّ مسدّ الجزاء. و لذلك فسّر بالاستقبال، أي: ليظللن.

ذمّهم اللّه سبحانه في هذه الآية بأنّه إذا حبس عنهم القطر قنطوا من رحمته، و ضربوا أذقانهم على صدورهم مبلسين، و كان عليهم أن يتوكّلوا على اللّه و فضله.

و إذا أصابهم برحمته و رزقهم المطر استبشروا و ابتهجوا، و كان عليهم أن يشكروا نعمته و يحمدوه عليها، فلم يزيدوا على الفرح. و إذا أرسل ريحا فضرب زروعهم

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 278

بالصفار «1» ضجّوا و كفروا بنعمته، و كان عليهم أن يصبروا على بلائه و لم يكفروا.

فهم في جميع هذه الأحوال على الصفات المذمومة.

و لمّا كان هكذا حالهم في عدم التدبّر فيما ينفعهم في خاتمتهم، قال سبحانه لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: فَإِنَّكَ لا تُسْمِعُ الْمَوْتى أي: هم مثل الموتى، لمّا سدّوا عن الحقّ مشاعرهم وَ لا تُسْمِعُ الصُّمَّ الدُّعاءَ إِذا وَلَّوْا مُدْبِرِينَ إذا أعرضوا عن أدلّتنا، ذاهبين إلى الضلال و الفساد، غير سالكين سبيل الرشاد. قيّد الحكم به، ليكون أشدّ استحالة، فإنّ الأصمّ المقبل و إن لم يسمع الكلام، يفطن منه بواسطة الحركات شيئا.

وَ ما أَنْتَ بِهادِ الْعُمْيِ عَنْ ضَلالَتِهِمْ يعني: أنّهم كالعمي لا يهتدون بالأدلّة، و لا تقدر على ردّهم عن العمى، إذ لم يطلبوا الاستبصار. فسمّاهم عميا لفقدهم المقصود الحقيقي

من الإبصار، أو لعمى قلوبهم.

إِنْ تُسْمِعُ إِلَّا مَنْ يُؤْمِنُ بِآياتِنا يصدّق بآياتنا و أدلّتنا، فإنّ إيمانهم يدعوهم إلى تلقّي اللفظ و تدبّر المعنى. و يجوز أن يراد بالمؤمن المشارف للإيمان. فَهُمْ مُسْلِمُونَ منقادون لما يأمرهم.

[سورة الروم (30): الآيات 54 الى 60]

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَ شَيْبَةً يَخْلُقُ ما يَشاءُ وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ (54) وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا غَيْرَ ساعَةٍ كَذلِكَ كانُوا يُؤْفَكُونَ (55) وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ وَ لكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ (56) فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا مَعْذِرَتُهُمْ وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (57) وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَ لَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ مُبْطِلُونَ (58)

كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (59) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ (60)

______________________________

(1) أي: الصفرة: و الصفارة: ماذوي من النبات و ذبل.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 279

ثمّ عاد سبحانه إلى ذكر الأدلّة، فقال: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ أي:

ابتدأكم ضعفاء، و جعل الضعف أساس أمركم، و ما عليه جبلّتكم و بنيتكم، كقوله:

وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً «1». و ذلك حال الطفوليّة، لا تقدرون على البطش و المشي و سائر التصرّفات. أو خلقكم من أصل ضعيف، و هو النطفة، كقوله: مِنْ ماءٍ مَهِينٍ «2».

ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ ضَعْفٍ قُوَّةً و ذلك إذا بلغتم الحلم، أو تعلّق بأبدانكم الروح ثُمَّ جَعَلَ مِنْ بَعْدِ قُوَّةٍ ضَعْفاً وَ شَيْبَةً إذا طعنتم في السنّ.

و فتح عاصم و حمزة الضاد في جميعها. و

الضمّ أقوى، لقول ابن عمر: قرأتها على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من ضعف» فأقرأني: «من ضعف». و هما لغتان، كالفقر و الفقر. و التنكير مع التكرير، لأنّ المتأخّر ليس عين المتقدّم.

يَخْلُقُ ما يَشاءُ من ضعف و قوّة و شيبة وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْقَدِيرُ فإنّ الترديد

______________________________

(1) النساء: 28.

(2) السجدة: 8.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 280

في الأحوال المختلفة، و التغيير من هيئة، إلى هيئة، و صفة إلى صفة، مع إمكان غيره، أظهر دليل و أعدل شاهد على الصانع العليم القدير.

ثمّ بيّن سبحانه حال البعث، فقال: وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ القيامة. سمّيت بها، لأنّها تقوم في آخر ساعة من ساعات الدنيا، أو لأنّها تقع بغتة. و صارت علما لها بالغلبة، كالكوكب للزهرة و النجم للثريّا.

يُقْسِمُ الْمُجْرِمُونَ ما لَبِثُوا أي: يحلفون ما مكثوا في الدنيا، أو في القبور، أو فيما بين فناء الدنيا إلى البعث. و في الحديث: «ما بين فناء الدنيا إلى وقت البعث أربعون». قالوا: لا نعلم أ هي أربعون سنة، أم أربعون ألف سنة، أم أيّام، أم ساعات؟ و ذلك وقت يفنون فيه. غَيْرَ ساعَةٍ استقلّوا مدّة لبثهم إضافة إلى مدّة عذابهم في الآخرة، أو نسيانا.

كَذلِكَ مثل ذلك الصرف عن الصدق و التحقيق، و قولهم على التخمين كانُوا يُؤْفَكُونَ يصرفون في الدنيا، و هكذا كانوا يبنون أمرهم على خلاف الحقّ.

ثمّ أخبر عن علماء المؤمنين من الملائكة و الإنس في ذلك اليوم، فقال:

وَ قالَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ وَ الْإِيمانَ لَقَدْ لَبِثْتُمْ فِي كِتابِ اللَّهِ في علم اللّه، أو قضائه، أو فيما كتبه لكم، أي: أوجبه بحكمته، أو في اللوح، أو القرآن. و هو قوله:

وَ مِنْ وَرائِهِمْ بَرْزَخٌ «1». إِلى يَوْمِ الْبَعْثِ

ردّوا بذلك

ما قاله الكفّار و حلفوا عليه، و أطلعوهم على الحقيقة. ثمّ وصلوا ذلك بتقريعهم على إنكار البعث بقولهم: فَهذا يَوْمُ الْبَعْثِ الّذي أنكرتموه وَ لكِنَّكُمْ كُنْتُمْ لا تَعْلَمُونَ أنّه حقّ، لتفريطكم في طلب الحقّ و اتّباعه. و الفاء لجواب شرط محذوف، تقديره: إن كنتم منكرين البعث فهذا يومه، أي: فقد تبيّن بطلان إنكاركم.

______________________________

(1) المؤمنون: 100.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 281

فَيَوْمَئِذٍ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ ظَلَمُوا أنفسهم بالكفر مَعْذِرَتُهُمْ أي: لا يمكّنون من الاعتذار، و لو اعتذروا لم يقبل عذرهم. و قرأ الكوفيّون بالياء، لأنّ المعذرة بمعنى العذر، أو لأنّ تأنيثها غير حقيقيّ، و قد فصل بينهما. وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ لا يطلبون إلى ما يقتضي إعتابهم، أي: إزالة عتبهم، من التوبة و الطاعة، كما دعوا إليه في الدنيا. من قولهم: استعتبني فلان فأعتبته، أي:

استرضاني فأرضيته.

وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ و لقد وصفنا لهم فيه بأنواع الصفات الّتي هي في غرابتها كالأمثال، مثل صفة المبعوثين يوم القيامة، و ما يقال لهم و ما يقولون، و ما لا يكون لهم من الانتفاع بالمعذرة و الاستعتاب. أو بيّنّا لهم من كلّ مثل يدعوهم إلى التوحيد و البعث و صدق الرسول.

ثمّ أخبر عن عناد القوم و تكذيبهم بالإيمان، فقال: وَ لَئِنْ جِئْتَهُمْ بِآيَةٍ من آيات القرآن، أو معجزة باهرة ممّا اقترحوها منك لَيَقُولَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا من فرط عنادهم، و قساوة قلوبهم إِنْ أَنْتُمْ يعنون الرسول و المؤمنين إِلَّا مُبْطِلُونَ مزوّرون.

كَذلِكَ مثل ذلك الطبع يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى قُلُوبِ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ لا يطلبون العلم، و يصرّون على خرافات اعتقدوها، فإنّ الجهل المركّب يمنع إدراك الحقّ، و يوجب تكذيب المحقّ. و معنى طبع اللّه: منع الألطاف الّتي ينشرح

لها الصدور حتّى تقبل الحقّ. و إنّما يمنعها من علم أنّها لا تجدي عليه، و لا تغني عنه كما يمنع الواعظ الموعظة من يتبيّن له أنّ الموعظة تلغو و لا تنجع فيه. فوقع ذلك كناية عن قسوة قلوبهم، و ركوب الصدأ و الرين إيّاها. فكأنّه قال: كذلك تقسو و تصدأ قلوب الجهلة، حتّى يسمّوا المحقّين مبطلين، و هم أعرق خلق اللّه في تلك الصفة.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 282

فَاصْبِرْ على أذاهم و عداوتهم، و إصرارهم على الكفر إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بنصرتك، و إظهار دينك على الدين كلّه حَقٌ لا بدّ من إنجازه و الوفاء به وَ لا يَسْتَخِفَّنَّكَ الَّذِينَ لا يُوقِنُونَ و لا يحملنّك على الخفّة و القلق، جزعا ممّا يقولون و يفعلون، من التكذيب و الإيذاء، و لشدّة الغضب عليهم، فإنّهم ضالّون شاكّون، لا يستبدع منهم ذلك. و عن يعقوب بتخفيف النون.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 283

(31) سورة لقمان

اشارة

مكّيّة. و هي أربع و ثلاثون آية.

عن أبيّ بن كعب، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأ سورة لقمان كان لقمان له رفيقا يوم القيامة، و أعطي من الحسنات عشرا، بعدد من عمل بالمعروف و عمل بالمنكر». و في رواية اخرى: و نهى عن المنكر.

و

روى محمّد بن جبير العزرمي، عن أبيه، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من قرأ سورة لقمان في كلّ ليلة، و كلّ اللّه به في ليلته ثلاثين ملكا يحفظونه من إبليس و جنوده حتّى يصبح، فإن قرأها بالنهار لم يزالوا يحفظونه من إبليس و جنوده حتّى يمسي».

[سورة لقمان (31): الآيات 1 الى 7]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (1) تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ (2) هُدىً وَ رَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ (3) الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ (4)

أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (5) وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ يَتَّخِذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (6) وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا وَلَّى مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (7)

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 284

و اعلم أنّه سبحانه لمّا ختم سورة الروم بذكر الآيات الدالّة على صحّة نبوّته، افتتح هذه السورة بذكر آيات القرآن، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم تِلْكَ آياتُ الْكِتابِ الْحَكِيمِ ذي الحكمة. أو وصف بصفة اللّه عزّ و جلّ على الإسناد المجازي. و يجوز أن يكون تقديره في الأصل:

الحكيم قائله، فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه، فبانقلابه مرفوعا بعد الجرّ استكن في الصفة المشبّهة.

هُدىً وَ رَحْمَةً لِلْمُحْسِنِينَ بيانا و دلالة و نعمة للمطيعين الّذين يحسنون العمل. و هما حالان من الآيات،

و العامل فيهما معنى الإشارة. و رفعهما حمزة على الخبر بعد الخبر، أو الخبر لمحذوف.

ثمّ بيّن إحسانهم بقوله: الَّذِينَ يُقِيمُونَ الصَّلاةَ وَ يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ يُوقِنُونَ تخصيص هذه الثلاثة الّتي هي من شعب الإحسان، لفضل الاعتداد بها. و تكرير الضمير للتأكيد و الاختصاص.

أُولئِكَ عَلى هُدىً مِنْ رَبِّهِمْ وَ أُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ لاستجماعهم العقيدة الحقّة و العمل الصالح.

ثمّ وصف الّذين حالهم يخالف حال هؤلاء، فقال: وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي لَهْوَ الْحَدِيثِ كالأحاديث الّتي لا أصل لها، و الأساطير الّتي لا اعتبار بها، و التحدّث بالمضاحيك و فضول الكلام. و نحو الغناء، و تعلّم الموسيقى، و ما أشبه ذلك.

و الإضافة بمعنى «من». و هي تبيينيّة إن أراد بالحديث المنكر. و المعنى: من يشتري اللهو من الحديث. و تبعيضيّة إن أراد به الأعمّ منه. و المعنى: من يشتري بعض

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 285

الحديث الّذي اللهو منه.

و الاشتراء إمّا من قوله: اشْتَرَوُا الْكُفْرَ بِالْإِيْمانِ «1» أي: استبدلوه منه و اختاروه عليه. و عن قتادة: اشتراؤه استحبابه، و اختياره حديث الباطل على حديث الحقّ.

و إمّا من الشراء، على ما روي أنّها نزلت في النضر بن الحارث، و كان يتّجر إلى فارس، فيشتري كتب الأعاجم فيحدّث بها قريشا، و يقول: إن كان محمّد يحدّثكم بحديث عاد و ثمود، فأنا أحدّثكم بأحاديث رستم و بهرام و الأكاسرة و ملوك الحيرة، فيستحسنون حديثه، و يتركون استماع القرآن.

و روي: كان يشتري المغنّيات، فلا يظفر بأحد يريد الإسلام إلّا انطلق به إلى قينته، فيقول: أطعميه و اسقيه و غنّيه. و يقول: هذا خير ممّا يدعوك إليه محمّد من الصلاة و الصيام و المقاتلة بين يديه.

و يصحّح هذه الرواية ما

روى عن

أبي امامة أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «لا يحلّ تعليم المغنيّات، و لا بيعهنّ، و أثمانهنّ حرام. و قد نزل تصديق ذلك في كتاب اللّه:

«وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يَشْتَرِي» الآية. و الّذي نفسي بيده ما رفع رجل عقيرته «2» يتغنّى إلّا ارتدفه شيطانان، يضربان أرجلهما على ظهره و صدره حتّى يسكت».

و أكثر المفسّرين على هذا القول. و هو منقول عن ابن عبّاس و ابن مسعود و غيرهما. و مرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه و أبي الحسن الرضا عليهم السّلام.

و

عن أبي هريرة قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من ملأ مسامعه من غناء لم يؤذن له أن يسمع صوت الروحانيّين يوم القيامة. قيل: و ما الروحانيّون يا رسول اللّه؟ قال: قرّاء أهل الجنّة».

______________________________

(1) آل عمران: 177.

(2) العقيرة: صوت المغنّي و الباكي و القارئ. يقال: رفع عقيرته، أي: صوته.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 286

و قيل: الغناء منفدة للمال، مسخطة للربّ، مفسدة للقلب.

لِيُضِلَ غيره عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن دينه، أو قراءة كتابه، و من أضلّ غيره فقد ضلّ. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو بفتح الياء، بمعنى: ليثبت على ضلاله الّذي كان عليه، و لا يصرف عنه، بل يزيد فيه. بِغَيْرِ عِلْمٍ بحال ما يشتريه، أو بالتجارة حيث استبدل اللهو بقراءة القرآن.

وَ يَتَّخِذَها هُزُواً عطف على «يشتري» أي: و يتّخذ السبيل سخريّة، فإن السبيل مؤنّثة، كقوله: وَ تَصُدُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ مَنْ آمَنَ بِهِ وَ تَبْغُونَها عِوَجاً «1». و قد نصبه حمزة و الكسائي و يعقوب و حفص عطفا على «ليضلّ».

أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ مذلّ يهينهم اللّه به، لإهانتهم الحقّ باستئثار الباطل عليه.

وَ إِذا تُتْلى

عَلَيْهِ آياتُنا و إذا قرئ عليه القرآن وَلَّى مُسْتَكْبِراً أعرض عن سماعه، رافعا نفسه فوق مقدارها، فلا يعبأ بها. كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها مشابها حاله حال من لم يسمعها. و هو حال من المستكن في «ولّى» أو في «مستكبرا». و الأصل في «كأن» المخفّفة «كأنّه». و الضمير ضمير الشأن.

كَأَنَّ فِي أُذُنَيْهِ وَقْراً مشابها بحال من في أذنيه ثقل، لا يقدر أن يسمع.

و هذا بدل من الحال الأولى، أو حال من المستكن في «لم يسمعها». و يجوز أن يكونا استئنافين. و قرأ نافع بسكون الذال. فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ أعلمه بأنّ العذاب يحيق به لا محالة. و ذكر البشارة على التهكّم.

[سورة لقمان (31): الآيات 8 الى 9]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ (8) خالِدِينَ فِيها وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (9)

______________________________

(1) الأعراف: 86.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 287

ثمّ أخبر سبحانه عن صفة المؤمنين المصدّقين، فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ أي: لهم نعيم الجنّات، فعكس للمبالغة.

خالِدِينَ فِيها حال من الضمير في «لهم» أو من «جَنَّاتُ النَّعِيمِ». و العامل ما تعلّق به اللام. وَعْدَ اللَّهِ حَقًّا مصدران مؤكّدان. الأوّل مؤكّد لنفسه. و الثاني مؤكّد لغيره، لأنّ قوله: «لَهُمْ جَنَّاتُ النَّعِيمِ» في معنى: وعدهم اللّه جنّات النعيم، فأكعد معنى الوعد بالوعد، و ليس كلّ وعد حقّا.

وَ هُوَ الْعَزِيزُ الّذي لا يغلبه شي ء، فيمنعه عن إنجاز وعده و وعيده الْحَكِيمُ الّذي لا يفعل إلّا ما يوجبه حكمته و عدله.

[سورة لقمان (31): الآيات 10 الى 11]

خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها وَ أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ (10) هذا خَلْقُ اللَّهِ فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (11)

ثمّ أخبر سبحانه عن أفعاله الدالّة على عزّته الّتي هي كمال القدرة، و حكمته الّتي هي كمال العلم، فقال:

خَلَقَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها جملة مستأنفة. أو في محلّ الجرّ، على أنّه صفة للعمد، أي: بغير عمد مرئيّة. يعني: أنّه عمدها بعمد لا ترى، و هي إمساكها بقدرته.

وَ أَلْقى فِي الْأَرْضِ رَواسِيَ جبالا شوامخ ثوابت أَنْ تَمِيدَ بِكُمْ كراهة أن تميل بكم، فإنّ تشابه أجزائها يقتضي تبدّل أحيازها و أوضاعها، لامتناع اختصاص

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 288

كلّ منها لذاته أو لشي ء من لوازمه بحيّز و وضع معيّنين.

وَ بَثَّ فِيها مِنْ كُلِّ دابَّةٍ

و فرّق فيها بعضا من الدوابّ، تدبّ على وجهها من أنواع الحيوانات.

وَ أَنْزَلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مطرا فَأَنْبَتْنا فِيها بذلك الماء مِنْ كُلِّ زَوْجٍ كَرِيمٍ من كلّ صنف كثير المنفعة، حسن النبتة، طيّب الثمرة.

مهّد بذلك قاعدة التوحيد، و قرّرها بقوله: هذا أي: هذا الّذي ذكر من الأشياء العظيمة، المتضمّنة بدائع الحكم، و غرائب المصالح خَلْقُ اللَّهِ أي:

مخلوقه، فإنّ الخلق جاء بمعنى المخلوق فَأَرُونِي ما ذا خَلَقَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ ماذا خلق آلهتكم حتّى استحقّوا عندكم مشاركته؟ و فيه تبكيت لهم. و «ماذا» نصب ب «خلق». أو «ما» مرتفع بالابتداء، و خبره «ذا» بصلته، و «فأروني» معلّق عنه.

ثمّ أضرب عن تبكيتهم إلى التسجيل عليهم بالضلال الّذي لا يخفى على ناظر، فقال: بَلِ الظَّالِمُونَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ وضع الظاهر موضع المضمر، للدلالة على أنّهم ظالمون بإشراكهم في العبادة.

[سورة لقمان (31): الآيات 12 الى 15]

وَ لَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ وَ مَنْ يَشْكُرْ فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (12) وَ إِذْ قالَ لُقْمانُ لابْنِهِ وَ هُوَ يَعِظُهُ يا بُنَيَّ لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ (13) وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً عَلى وَهْنٍ وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ أَنِ اشْكُرْ لِي وَ لِوالِدَيْكَ إِلَيَّ الْمَصِيرُ (14) وَ إِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ فَلا تُطِعْهُما وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً وَ اتَّبِعْ سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَّ ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (15)

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 289

و لمّا ذمّ سبحانه الشرك، و ذكر الأدلّة الدالّة على توحيده و قدرته و حكمته، بيّن عقيب ذلك قصّة لقمان، و وصيّته لولده بالتوحيد و اجتناب الشرك، و أنّه أعطاه الحكمة، فقال:

وَ

لَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ و هو لقمان بن باعورا، من أولاد آزر ابن أخت أيّوب، أو ابن خالته. و عاش ألف سنة، و أدرك داود، و أخذ منه العلم. و كان يفتي قبل مبعث داود، فلمّا بعث قطع الفتوى، فقيل له؟ فقال: ألا أكتفي إذا كفيت؟

و الجمهور على أنّه كان حكيما و لم يكن نبيّا. و الحكمة في عرف العلماء: استكمال النفس الانسانيّة باقتباس العلوم النظريّة، و اكتساب الملكة التامّة على الأفعال الفاضلة على قدر طاقتها.

و عن ابن عبّاس: لقمان لم يكن نبيّا و لا ملكا، و لكن كان عبدا راعيا أسود، فرزقه اللّه العتق، و رضي قوله و وصيّته، فقصّ أمره في القرآن لتمسكوا بوصيّته.

و قال عكرمة و الشعبي: كان نبيّا. و كانا يفسّران الحكمة بالنبوّة. و قيل: خيّر بين النبوّة و الحكمة، فاختار الحكمة.

و

روي عن نافع، عن ابن عمر قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «حقّا أقول: لم يكن لقمان نبيّا، و لكن كان عبدا كثير التفكّر، حسن اليقين، أحبّ اللّه فأحبّه، و منّ عليه بالحكمة. و كان نائما نصف النهار، إذ جاءه نداء: يا لقمان هل لك أن يجعلك اللّه خليفة في الأرض تحكم بين الناس بالحقّ؟ فأجاب الصوت: إن خيّرني ربّي قبلت العافية و لم أقبل البلاء. و إن عزم عليّ فسمعا و طاعة، فإنّي أعلم أنّه إن فعل بي ذلك أعانني و عصمني.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 290

فقالت الملائكة بصوت لا يراهم: لم يا لقمان؟

قال: لأنّ الحكم أشدّ المنازل و آكدها، يغشاه الظلم من كلّ مكان، إن وقي فبالحريّ أن ينجو، و إن أخطأ أخطأ طريق الجنّة. و من يكن في الدنيا ذليلا و في

الآخرة شريفا، خير من أن يكون في الدنيا شريفا و في الآخرة ذليلا. و من يختر الدنيا على الآخرة تفته الدنيا و لا يصيب الآخرة.

فتعجّبت الملائكة من حسن منطقه. فنام نومة فاعطي الحكمة، فانتبه يتكلّم بها.

ثمّ كان يؤازر داود بحكمته. فقال له داود: طوبى لك يا لقمان! أعطيت الحكمة، و صرفت عنك البلوى.

و عن ابن المسيّب: كان أسود من سودان مصر خيّاطا. و عن مجاهد: كان عبدا أسود، غليظ الشفتين، متشقّق القدمين. قيل له: ما أقبح وجهك؟ قال: تعتب على النقش، أو على فاعل النقش؟

و قيل: كان نجّارا. و قيل: راعيا كما مرّ. و قيل: كان يحتطب لمولاه كلّ يوم حزمة. و عنه أنّه قال لرجل ينظر إليه: إن كنت تراني غليظ الشفتين فإنّه يخرج من بينهما كلام رقيق، و إن كنت تراني أسود فقلبي أبيض.

و روي: أنّ رجلا وقف عليه في مجلسه فقال: أ لست الّذي ترعى معي في مكان كذا؟ قال: بلى. قال: ما بلغ بك ما أرى؟ قال: صدق الحديث، و الصمت عمّا لا يعنيني.

و روي: أنّه دخل على داود و هو يسرد الدرع، و قد ليّن اللّه له الحديد كالطين، فأراد أن يسأله فأدركته الحكمة فسكت، فلمّا أتمّها لبسها. و قال: نعم لبوس الحرب أنت. فقال: الصمت حكمة و قليل فاعله. فقال له داود: بحقّ ما سمّيت حكيما.

و روي: أنّ داود قال له يوما: كيف أصبحت؟ فقال: أصبحت في يد غيري.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 291

فتفكّر داود فيه فصعق صعقة.

و روي: أنّ مولاه أمره بذبح شاة و أن يأتي بأطيب مضغتين منها، فأتى باللسان و القلب. ثمّ أمره بمثل ذلك بعد أيّام و أن يأتي بأخبث مضغتين منها، فأتى باللسان و القلب.

فسأله عن ذلك؟ فقال: هما أطيب شي ء إذا طابا، و أخبث شي ء إذا خبثا.

و قيل: إنّ مولاه دخل المخرج، فأطال فيه الجلوس. فناداه لقمان: إنّ طول الجلوس على الحاجة يفجع منه الكبد، و يورث الباسور، و يصعّد الحرارة إلى الرأس، فاجلس هونا، و قم هونا. قال: فكتب حكمته على باب الحشّ «1».

قال عبد اللّه بن دينار: قدم لقمان من سفر، فلقي غلامه في الطريق، فقال: ما فعل أبي؟

قال: مات.

قال: ملكت أمري.

فقال: ما فعلت زوجتي؟

قال: ماتت.

قال: جدّد فراشي.

قال: ما فعلت أختي؟

قال: ماتت.

قال: سترت عورتي.

قال: ما فعل أخي؟

قال: مات.

قال: انقطع ظهري.

______________________________

(1) الحشّ: موضع قضاء الحاجة.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 292

و قيل للقمان: أيّ الناس شرّ؟ قال: الّذي لا يبالي أن يراه الناس مسيئا.

و

في كتاب من لا يحضره الفقيه: «قال لقمان لابنه: يا بنيّ! إنّ الدنيا بحر عميق، و قد هلك فيها عالم كثير، فاجعل سفينتك فيها الإيمان باللّه، و اجعل شراعها التوكّل على اللّه، و اجعل زادك فيها تقوى اللّه عزّ و جلّ، فإن نجوت فبرحمة اللّه، و إن هلكت فبذنوبك» «1».

و

روى سليمان بن داود المنقريّ، عن حمّاد بن عيسى، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «في وصيّة لقمان لابنه: يا بنيّ سافر بسيفك و خفّك و عمامتك و خبائك و سقائك و خيوطك و مخرزك «2». و تزوّد معك من الأدوية ما تنتفع به أنت و من معك.

و كن لأصحابك موافقا إلّا في معصية اللّه عزّ و جلّ.

يا بنيّ! إذا سافرت مع قوم فأكثر استشارتهم في أمرك و أمورهم، و أكثر التبسّم في وجوههم، و كن كريما على زادك بينهم. فإذا دعوك فأجبهم، و إذا استعانوا بك فأعنهم. و استعمل طول الصمت، و كثرة الصلاة، و

سخاء النفس بما معك من دابّة أو ماء أو زاد.

و إذا استشهدوك على الحقّ فاشهد لهم، و اجهد رأيك لهم إذا استشاروك، لا تعزم حتّى تثبّت و تنظر. و لا تجب في مشورة حتّى تقوم فيها و تقعد، و تنام و تأكل و تصلّي، و أنت مستعمل فكرتك و حكمتك في مشورته، فإنّ من لم يمحّض النصيحة لمن استشاره سلبه اللّه رأيه، و نزع عنه الأمانة.

و إذا رأيت أصحابك يمشون فامش معهم، فإذا رأيتهم يعملون فاعمل معهم.

و اسمع لمن هو أكبر منك سنّا. و إذا أمروك بأمر و سألوك شيئا فقل: نعم، و لا تقل:

______________________________

(1) من لا يحضره الفقيه 2: 185 ح 833.

(2) المخرز: ما يخرز به و يثقب، كالإبرة. زبدة التفاسير، ج 5، ص: 293

لا، فإنّ «لا» عيّ «1» و لؤم.

و إذا تحيّرتم في الطريق فانزلوا. و إذا شككتم في القصد فقفوا و تآمروا. و إذا رأيتم شخصا واحدا فلا تسألوه عن طريقكم، و لا تسترشدوه، فإنّ الشخص الواحد في الفلاة مريب، لعلّه يكون عين اللصوص، أو يكون هو الشيطان الّذي حيّركم.

و احذروا الشخصين أيضا، إلّا أن تروا مالا أرى، فإنّ العاقل إذا أبصر بعينه شيئا عرف الحقّ منه، و الشاهد يرى ما لا يرى الغائب.

يا بنيّ! إذا جاء وقت الصلاة فلا تؤخّرها لشي ء، صلّها و استرح منها، فإنّها دين. و صلّ في جماعة و لو على رأس زجّ «2».

و لا تنامنّ على دابّتك، فإنّ ذلك سريع في دبرها «3». و ليس ذلك من فعل الحكماء، إلّا أن تكون في محمل يمكنك التمدّد لاسترخاء المفاصل.

و إذا قربت من المنزل فانزل عن دابّتك، و ابدأ بعلفها قبل نفسك، فإنّها نفسك «4».

و إذا أردتم النزول فعليكم من

بقاع الأرض بأحسنها لونا، و ألينها تربة، و أكثرها عشبا. و إذا نزلت فصلّ ركعتين قبل أن تجلس.

و إذا أردت قضاء حاجتك فأبعد المذهب في الأرض. و إذا ارتحلت فصلّ ركعتين، ثمّ ودّع الأرض الّتي حللت بها، و سلّم على أهلها، فإنّ لكلّ بقعة أهلا من الملائكة. و إن استطعت أن لا تأكل طعاما حتّى تبتدئ فتصدّق منه فافعل.

و عليك بقراءة كتاب اللّه ما دمت راكبا. و عليك بالتسبيح ما دمت عاملا عملا.

______________________________

(1) العيّ: العجز و الجهل.

(2) الزجّ: الحديدة التي في أسفل الرمح.

(3) دبر البعير دبرا: أصابته الدبرة. و هي قرحة الدابّة تحدث من الرّحل و نحوه.

(4) لعلّ الكلمة محرّكة، أي: نفسك، من النفس بمعنى السعة و العيش و الفسحة. زبدة التفاسير، ج 5، ص: 294

و عليك بالدعاء ما دمت خاليا. و إيّاك و السير في أوّل الليل إلى آخره. و إيّاك و رفع الصوت في مسيرك».

و

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «و اللّه ما أوتي لقمان الحكمة لحسب، و لا مال، و لا بسط في جسم، و لا جمال، و لكنّه كان رجلا قويّا في أمر اللّه، متورّعا في اللّه، ساكنا سكينا، عميق النظر، طويل التفكّر، حديد البصر. لم ينم نهارا قطّ. و لم يتّكئ في مجلس قوم قطّ. و لم يتفل في مجلس قطّ. و لم يضحك من شي ء قطّ.

و لم يعبث بشي ء قطّ. و لم يره أحد من الناس على بول و لا غائط، و لا على اغتسال، لشدّة تستّره و تحفّظه في أمره. و لم يغضب قطّ مخافة الإثم في دينه. و لم يمازح إنسانا قطّ. و لم يفرح بشي ء أوتيه من الدنيا، و لا حزن منها على شي ء قطّ.

و قد نكح

من النساء، و ولد له الأولاد الكثيرة. و قدّم أكثرهم أفراطا «1»، فما بكى على موت أحد منهم. و لم يمرّ بين رجلين يقتتلان أو يختصمان إلّا أصلح بينهما، و لم يمض عنهما حتّى تحاجزا. و لم يسمع قولا استحسنه من أحد قطّ إلّا سأله عن تفسيره، و عمّن أخذه.

و كان يكثر مجالسة الفقهاء و العلماء. و كان يغشى القضاة و الملوك و السلاطين. فيرثي «2» للقضاة بما ابتلوا به. و يرحم الملوك و السلاطين، لعزّتهم باللّه، و طمأنينتهم في ذلك. و يتعلّم ما يغلب به نفسه، و يجاهد هواه، و يحترز من السلطان.

و كان يداوي نفسه بالتفكّر و العبر. و كان لا يظعن «3» إلّا فيما ينفعه، و لا ينظر إلّا فيما يعنيه. فلذلك أوتي الحكمة، كما قال سبحانه: «وَ لَقَدْ آتَيْنا لُقْمانَ الْحِكْمَةَ».

______________________________

(1) الأفراط و الفرط: الولد يموت صغيرا. يقال: سبقه فرط كثير، أي: ولد ماتوا و لم يدركوا.

(2) أي: يرقّ لهم و يرحمهم.

(3) أي: لا يسير و لا يرحل.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 295

أَنِ اشْكُرْ لِلَّهِ لأن اشكر، أو أي اشكر، فإنّ إيتاء الحكمة متضمّن معنى القول، كأنّه قال: و لقد قلنا للقمان أن اشكر للّه. فقد نبّه اللّه سبحانه على أنّ الحكمة الأصليّة و العلم الحقيقي هو العمل بهما، و عبادة اللّه و الشكر له، حيث فسّر إيتاء الحكمة بالبعث على الشكر.

وَ مَنْ يَشْكُرْ على نعمة اللّه و نعمة من أنعم عليه فَإِنَّما يَشْكُرُ لِنَفْسِهِ لأنّ نفعه عائد إليها. و هو دوام النعمة، و استحقاق مزيدها، و استيجاب ثوابه في الآخرة.

وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌ لا يحتاج إلى الشكر حَمِيدٌ حقيق بالحمد و إن لم يحمده أحد. أو محمود، إذ نطق

بحمده جميع مخلوقاته بلسان الحال.

وَ إِذْ قالَ لُقْمانُ لِابْنِهِ و هو أنعم. و قال الكلبي: هو أشكم. و قيل: ماثان.

وَ هُوَ يَعِظُهُ في حال ما يؤدّبه و يذكّره يا بُنَيَ تصغير إشفاق لا تُشْرِكْ بِاللَّهِ قيل: كان كافرا فلم يزل به حتّى أسلم. و من وقف على «لا تشرك» جعل «باللّه» قسما. إِنَّ الشِّرْكَ لَظُلْمٌ عَظِيمٌ لأنّ التسوية بين من لا نعمة إلّا منه، و من لا نعمة منه البتّة و لا يتصوّر أن تكون منه، ظلم لا يكتنه عظمه. و قيل: إنّه ظلم نفسه ظلما عظيما، بأن أوبقها.

وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ أي: بالإحسان إليهما. ثمّ بيّن عزّ و جلّ زيادة نعمة الأمّ على الولد بالنسبة إلى الأب بقوله: حَمَلَتْهُ أُمُّهُ وَهْناً ذات وهن، أو تهن وهنا عَلى وَهْنٍ أي: تضعف ضعفا فوق ضعف، بأن يتزايد ضعفها و يتضاعف، لأنّ الحمل كلّما ازداد و عظم ازدادت ثقلا و ضعفا. و على التقديرين «وهنا» في موضع الحال.

وَ فِصالُهُ فِي عامَيْنِ أي: فطامه في انقضاء عامين، و كانت ترضعه في تلك المدّة. و يدلّ عليه قوله عزّ و جلّ: وَ الْوالِداتُ يُرْضِعْنَ أَوْلادَهُنَّ حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 296

يُتِمَّ الرَّضاعَةَ «1». و ذكر الفصال هاهنا لما تلحق الأمّ من المشقّة به أيضا، فليكن الاهتمام بالإحسان و البرّ في حقّها أكثر من حقّ الأب. و من ثمّ

قال عليه السّلام- لمن قال له: من أبرّ؟-: أمّك، ثمّ أمّك، ثمّ أمّك. ثمّ قال بعد ذلك: ثمّ أباك.

أَنِ اشْكُرْ لِي على نعمائي بالحمد و الطاعة وَ لِوالِدَيْكَ بالبرّ و الصلة.

و «أن» تفسير ل «وصّينا»، أو علّة له، أو بدل من «والديه» بدل الاشتمال. إِلَيَّ الْمَصِيرُ فأحاسبك

على شكرك و كفرك.

وَ إِنْ جاهَداكَ عَلى أَنْ تُشْرِكَ بِي ما لَيْسَ لَكَ بِهِ عِلْمٌ باستحقاقه الإشراك تقليدا لهما. و قيل: أراد بنفي العلم به نفيه، أي: لا تشرك بي ما ليس بشي ء. يريد الأصنام، كقوله: ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ مِنْ شَيْ ءٍ «2». فَلا تُطِعْهُما في ذلك وَ صاحِبْهُما فِي الدُّنْيا مَعْرُوفاً صحابا معروفا حسنا، يرتضيه الشرع، و يقتضيه الكرم و المروءة، من خلق جميل و حلم و احتمال مكروه و برّ و صلة، و غير ذلك.

وَ اتَّبِعْ في الدين سَبِيلَ مَنْ أَنابَ إِلَيَ بالتوحيد و الإخلاص في الطاعة.

و هو النبيّ و متابعيه من المؤمنين. و لا تتّبع سبيلهما في الكفر، و إن كنت مأمورا بحسن مصاحبتهما في الدنيا مراعاة لحقّ الأبوّة و الأمومة، و تعظيما لهما، و ما لهما من المواجب الّتي لا يسوغ الإخلال بها.

ثمّ بيّن حكمهما في الآخرة فقال: ثُمَّ إِلَيَّ مَرْجِعُكُمْ مرجعك و مرجعهما فَأُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بأن أجازيك على إيمانك، و أجازيهما على كفرهما.

و الآيتان معترضتان في تضاعيف وصيّة لقمان، تأكيدا لما فيهما من النهي عن الشرك، كأنّه قال: و قد وصّينا بمثل ما وصّى به. و ذكر الوالدين للمبالغة في ذلك، فإنّهما مع أنّهما تلو الباري في استحقاق التعظيم و الطاعة، لا يجوز أن يستحقّاه في

______________________________

(1) البقرة: 233.

(2) العنكبوت: 42.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 297

الإشراك، فما ظنّك بغيرهما؟

روي: أنّها نزلت في سعد بن أبي وقّاص و أمّه. و في الخبر: أنّها مكثت ثلاثا لا تطعم و لا تشرب، لإسلام ابنها، حتّى فتحوا فاها بعود ليطعموها شيئا.

[سورة لقمان (31): الآيات 16 الى 19]

يا بُنَيَّ إِنَّها إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ يَأْتِ بِهَا اللَّهُ إِنَّ

اللَّهَ لَطِيفٌ خَبِيرٌ (16) يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ وَ انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَ اصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ إِنَّ ذلِكَ مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (17) وَ لا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (18) وَ اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ لَصَوْتُ الْحَمِيرِ (19)

ثمّ عاد سبحانه إلى الإخبار عن لقمان في وصيّته لابنه، و أنّه قال له: يا بُنَيَّ إِنَّها أي: الخصلة أو الفعلة من الإسارة أو الإحسان إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ أي: إن كانت مثلا في الصغر، كحبّة الخردل. و رفع نافع «مثقال» على أنّ الهاء ضمير القصّة، و «كان» تامّة. و تانيثها لإضافة المثقال إلى الحبّة، أو لأنّ المراد به الحسنة أو السيّئة.

فَتَكُنْ فِي صَخْرَةٍ أَوْ فِي السَّماواتِ أَوْ فِي الْأَرْضِ في أخفى مكان و أحرزه كجوف صخرة، أو أعلاه كمحدّب السماوات، أو أسفله كمقعّر الأرض يَأْتِ بِهَا اللَّهُ يحضرها يوم القيامة، فيحاسب بها عاملها.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 298

قال الزجّاج: يروى أنّ ابن لقمان قال له: أ رأيت الحبّة تكون في مقل البحر- أي: مغاصه- يعلمها اللّه؟ فقال: إنّ اللّه يعلم أصغر الأشياء في أخفى الأمكنة، لأنّ الحبّة في الصخرة أخفى منها في الماء.

و قيل: الصخرة هي الّتي تحت الأرض. و هي السجّين يكتب فيها أعمال الكفّار.

روى العيّاشي بالإسناد عن ابن مسكان، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «اتّقوا المحقّرات من الذنوب، فإنّ لها طالبا، لا يقولنّ أحدكم: أذنب و استغفر اللّه، إنّ اللّه تعالى يقول: «إِنْ تَكُ مِثْقالَ حَبَّةٍ مِنْ خَرْدَلٍ» الآية».

إِنَّ اللَّهَ لَطِيفٌ يصل علمه إلى كلّ خفيّ خَبِيرٌ عالم بكنهه. و عن

قتادة:

لطيف باستخراجها، خبير بمستقرّها».

يا بُنَيَّ أَقِمِ الصَّلاةَ تكميلا لنفسك وَ أْمُرْ بِالْمَعْرُوفِ و هو كلّ ما حسن فعله عقلا و شرعا. وَ انْهَ عَنِ الْمُنْكَرِ و هو كلّ ما قبح فعله عقلا و شرعا. و كلاهما لتكميل الغير. وَ اصْبِرْ عَلى ما أَصابَكَ من الشدائد خصوصا في باب الحسبة.

إِنَّ ذلِكَ الإشارة إلى الصبر، أو إلى كلّ ما أمر به مِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ ممّا عزمه اللّه تعالى من الأمور، قطعه قطع إيجاب و إلزام. و منه: عزمات الملوك، و ذلك أن يقول الملك لبعض من تحت يده: عزمت عليك إلّا فعلت كذا. و إذا قال ذلك لم يكن للمعزوم عليه بدّ من فعله، و لا مندوحة في تركه. و حقيقته: أنّه من تسمية المفعول بالمصدر. و أصله من معزومات الأمور، أي: من مقطوعاتها و مفروضاتها. و يجوز أن يكون مصدرا بمعنى الفاعل، أي: من عازمات الأمور، من قوله: فإذا عزم الأمر أي: جدّ.

و ناهيك بهذه الآية مؤذنة بقدم هذه الطاعات، و أنّها كانت مأمورا بها في سائر الأمم، و أنّ الصلاة لم تزل عظيمة الشأن، سابقة القدم على ما سواها، موصى بها في

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 299

الأديان كلّها.

وَ لا تُصَعِّرْ خَدَّكَ لِلنَّاسِ لا تمله عن الناس، و لا تولّهم صفحة وجهك تكبّرا منك و استخفافا لهم، كما يفعله المتكبّرون، بل أقبل عليهم بوجهك تواضعا.

من الصعر، و هو داء يعتري البعير فيلوي عنقه. و قرأ نافع و حمزة و الكسائي: و لا تصاعر، بمعناه.

وَ لا تَمْشِ فِي الْأَرْضِ مَرَحاً أي: فرحا. مصدر وقع موقع الحال، أي: تمرح مرحا. أو لأجل المرح. و هو البطر و الأشر. إِنَّ اللَّهَ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ علّة للنهي. و

تأخير الفخور، و هو مقابل للمصعّر خدّه، و المختال مقابل للماشي مرحا، لتوافق رؤوس الآي.

وَ اقْصِدْ فِي مَشْيِكَ أي: توسّط في المشي بين الدبيب و الإسراع، فلا تدبّ دبيب «1» المتماوتين، و لا تثب و ثيب الشطّار. و

عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «سرعة المشي تذهب بهاء المؤمن».

وَ اغْضُضْ مِنْ صَوْتِكَ و انقص من الصوت و اقصر. من قولك: فلان يغضّ من فلان، إذا قصر به و وضع منه. إِنَّ أَنْكَرَ الْأَصْواتِ أوحشها. من قولك: شي ء نكر، إذا أنكرته النفوس و استوحشت منه و نفرت. لَصَوْتُ الْحَمِيرِ أوّله زفير، و آخره شهيق. و الحمار مثل في الذمّ البليغ، سيّما نهاقه. و لذلك عدّ في مساوئ الآداب أن يجري ذكر الحمار في مجلس قوم من أولي المروءة، فيكنّى عنه فيقال:

الطويل الأذنين، كما يكنّى عن الأشياء المستقذرة، لاستفحاشهم لذكرها. ففي تمثيل الصوت المرتفع بصوته، ثمّ إخراجه مخرج الاستعارة، مبالغة شديدة في الذمّ.

______________________________

(1) دبّ يدبّ دبيبا: مشى كالحيّة، أو على اليدين و الرجلين كالطفل. وثب يثب وثيبا: نهض و قام، و قفز و طفر. و الشطّار جمع الشاطر، و هو المتّصف بالدهاء و الخباثة.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 300

زبدة التفاسير ج 5 349

و توحيد الصوت لأنّه ليس المراد أن يذكر صوت كلّ واحد من آحاد هذا الجنس حتّى يجمع، و إنّما المراد أنّ كلّ جنس من الحيوان له صوت، و أنكر أصوات هذه الأجناس صوت هذا الجنس، فوجب توحيده. أو لأنّه مصدر في الأصل.

[سورة لقمان (31): الآيات 20 الى 26]

أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ أَسْبَغَ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ ظاهِرَةً وَ باطِنَةً وَ مِنَ النَّاسِ مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ بِغَيْرِ عِلْمٍ وَ لا

هُدىً وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ (20) وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا أَ وَ لَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ إِلى عَذابِ السَّعِيرِ (21) وَ مَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ وَ هُوَ مُحْسِنٌ فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى وَ إِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ (22) وَ مَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ كُفْرُهُ إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (23) نُمَتِّعُهُمْ قَلِيلاً ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ (24)

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (25) لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (26)

ثمّ ذكر سبحانه نعمه على خلقه، و نبّههم على معرفتها، فقال: أَ لَمْ تَرَوْا أَنَّ اللَّهَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ من الشمس و القمر و النجوم و السحاب، و غير ذلك،

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 301

بأن جعله أسبابا محصّلة لمنافعكم وَ ما فِي الْأَرْضِ من البحار و الأنهار و المعادن و الدوابّ و غيرها، بأن مكّنكم من الانتفاع بها، بوسط أو بغير وسط.

وَ أَسْبَغَ و أوسع و أتمّ عَلَيْكُمْ نِعَمَهُ هي: كلّ نفع قصد به الإحسان ظاهِرَةً وَ باطِنَةً محسوسة و معقولة، ما تعرفونه و ما لا تعرفونه. و قد مرّ شرح النعمة و تفصيلها في الفاتحة.

و قرأ نافع و أبو عمرو و حفص: نعمه بالجمع و الإضافة.

و قال صاحب المجمع: «الظاهرة ما لا يمكنكم جحده، من خلقكم و إحيائكم و إقداركم، و خلق الشهوة فيكم، و غيرها من ضروب النعم. و الباطنة: ما لا يعرفها إلّا من أمعن النظر فيها» «1».

و عن ابن عبّاس: الباطنة مصالح الدين و الدنيا، ممّا يعلمه

اللّه و غاب عن العباد علمه.

و

في رواية الضحّاك عنه قال: «سألت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عنهما، فقال: يا ابن عبّاس! أمّا ما ظهر فالإسلام، و ما سوّى اللّه من خلقك، و ما أفاض عليك من الرزق. و أمّا ما بطن فستر مساوئ عملك، و لم يفضحك به. يا ابن عبّاس! إنّ اللّه تعالى يقول: ثلاثة جعلتهنّ للمؤمن، و لم تكن له: صلاة المؤمنين عليه من بعد انقطاع عمله. و جعلت له ثلث ماله، أكفّر به عنه خطاياه. و الثالثة: سترت مساوئ عمله، فلم أفضحه بشي ء منه، و لو أبديتها عليه لنبذه أهله فمن سواهم».

و عن الربيع: الظاهرة: نعم الجوارح، و الباطنة: نعم القلب. و عن عطاء:

الظاهرة: تخفيف الشرائع، و الباطنة: الشفاعة.

و قيل: الظاهرة: نعم الدنيا، و الباطنة: نعم الآخرة. و عن مجاهد: الظاهرة:

ظهور الإسلام، و النصر على الأعداء، و الباطنة: الإمداد بالملائكة.

______________________________

(1) مجمع البيان 8: 320.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 302

و عن الضحّاك: الظاهرة حسن الصورة، و امتداد القامة، و تسوية الأعضاء، و الباطنة: المعرفة. و قيل: الظاهرة: القرآن، و الباطنة: تأويله و معانيه.

و

قال الباقر عليه السّلام: «النعمة الظاهرة: النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ما جاء به من معرفة اللّه عزّ و جلّ و توحيده. و أمّا النعمة الباطنة: و لا يتنا أهل البيت، و عقد مودّتنا».

و لا منافاة بين هذه الأقوال، بل كلّها نعم اللّه؛ الباطنة و الظاهرة. و الأولى حمل الآية على الجميع.

و

يروى في دعاء موسى عليه السّلام: إلهي دلّني على أخفى نعمتك على عبادك.

فقال: أخفى نعمتي عليهم النفس.

و

يروى: أن أيسر ما يعذّب به أهل النار الأخذ بالأنفاس.

ثمّ بيّن من كفر نعمه بقوله: وَ مِنَ النَّاسِ

مَنْ يُجادِلُ فِي اللَّهِ يخاصم في توحيده و صفاته بِغَيْرِ عِلْمٍ مستفاد من دليل وَ لا هُدىً راجع إلى رسول وَ لا كِتابٍ مُنِيرٍ أنزله اللّه، بل بالتقليد، كما قال: وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّبِعُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ على محمّد، من القرآن و سائر شرائع الأحكام. قالُوا بَلْ نَتَّبِعُ ما وَجَدْنا عَلَيْهِ آباءَنا و هو منع صريح من التقليد في الأصول.

أَ وَ لَوْ كانَ الشَّيْطانُ يَدْعُوهُمْ يحتمل أن يكون الضمير لهم و لآبائهم إِلى عَذابِ السَّعِيرِ إلى ما يؤول إليه، من التقليد أو الإشراك. و جواب «لو» محذوف، مثل: لاتّبعوه. و الاستفهام للإنكار و التعجّب.

و المعنى: أنّ الشيطان يدعوهم إلى تقليد آبائهم، و ترك اتّباع ما جاءت به الرسل، و ذلك موجب لهم عذاب النار، فهو في الحقيقة يدعوهم إلى النار.

ثمّ قال وَ مَنْ يُسْلِمْ وَجْهَهُ إِلَى اللَّهِ بأن فوّض أمره إلى اللّه، و أقبل بشراشره عليه. من: أسلمت المتاع إلى الرجل، إذا دفعت إليه. و حيث عدّي باللام فلتضمّن معنى الإخلاص. وَ هُوَ مُحْسِنٌ في عمله على موجب العلم و مقتضى الشرع

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 303

فَقَدِ اسْتَمْسَكَ بِالْعُرْوَةِ الْوُثْقى فقد تعلّق بأوثق ما يتعلّق به. و الوثقى تأنيث الأوثق. و هو تمثيل للمتوكّل المشتغل بالطاعة، بمن أراد أن يترقّى إلى شاهق جبل، فتمسّك بأوثق عروة من حبل متين.

وَ إِلَى اللَّهِ عاقِبَةُ الْأُمُورِ إذ الكلّ صائر إليه، على وجه لا يكون لأحد التصرّف فيها بالأمر و النهي.

وَ مَنْ كَفَرَ فَلا يَحْزُنْكَ فلا يهمّك كُفْرُهُ و كيده للإسلام، فإنّه لا يضرّك في الدنيا و الآخرة إِلَيْنا مَرْجِعُهُمْ في الدارين فَنُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا بالإهلاك و التعذيب إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بما تضمره الصدور، و لا

يخفى عليه شي ء منه، فمجاز عليه على حسبه، فضلا عمّا في الظاهر.

نُمَتِّعُهُمْ تمتيعا، أو زمانا قَلِيلًا و هو زمان الدنيا، فإنّ ما يزول بالنسبة إلى ما يدوم قليل ثُمَّ نَضْطَرُّهُمْ ثمّ نصيّرهم مكرهين إِلى عَذابٍ غَلِيظٍ يثقل عليهم ثقل الأجرام الغلاظ. فشبّه إلزامهم التعذيب باضطرار المضطرّ إلى الشي ء الّذي لا يقدر على الانفكاك منه. و الغلظ: مستعار من الأجرام الغليظة.

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ خلقهما، لوضوح الدليل المانع من إسناد الخلق إلى غيره، بحيث اضطرّوا إلى إذعانه.

قُلِ الْحَمْدُ لِلَّهِ على إلزامهم و إلجائهم إلى الاعتراف بما يوجب بطلان اعتقادهم بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ أنّ ذلك يلزمهم.

ثمّ أكّد سبحانه ما تقدّم من خلقه السماوات و الأرض بقوله:

لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ له جميع ذلك خلقا و ملكا، يتصرّف فيه كما يريده، و ليس لأحد الاعتراض عليه في ذلك، فلا يستحقّ العبادة فيهما غيره.

إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُ عن حمد الحامدين، و عن كلّ شي ء الْحَمِيدُ المستحقّ للحمد، و إن لم يحمدوه.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 304

[سورة لقمان (31): آية 27]

وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ حَكِيمٌ (27)

عن ابن عبّاس: أنّ اليهود سألوا عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أو أمروا وفد قريش أن يسألوه عن قوله تعالى: وَ ما أُوتِيتُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِلَّا قَلِيلًا «1». و قد أنزلت التوراة و فيها علم كلّ شي ء، فنزلت:

وَ لَوْ أَنَّ ما فِي الْأَرْضِ مِنْ شَجَرَةٍ أَقْلامٌ و لو ثبت كون الأشجار أقلاما.

و توحيد «شجرة» لأنّ المراد تفصيل الآحاد. وَ الْبَحْرُ يَمُدُّهُ مِنْ بَعْدِهِ سَبْعَةُ أَبْحُرٍ مقتضى الكلام

أن يقال: و لو أنّ الشجر أقلام، و البحر مداد. و يكون المعنى: البحر المحيط بسعته مدادا ممدودا بسبعة أبحر. لكن أغنى عن ذكر المداد قوله: «يمدّه» لأنّه من: مدّ الدواة و أمدّها، بجعل البحر الأعظم بمنزلة الدواة، و جعل الأبحر السبعة مملوءة مدادا، فهي تصبّ فيه مدادها أبدا صبّا لا ينقطع.

و رفع «البحر» للعطف على محلّ «أنّ» و معمولها، و «يمدّه» حال. و المعنى:

و لو ثبت كون الأشجار أقلاما في حال كون البحر ممدودا بسبعة أبحر. أو على الابتداء على أنّه مستأنف، و الواو للحال. و نصبه البصريّان بالعطف على اسم «أنّ»، أو إضمار فعل يفسّره «يمدّه». و في الكلام حذف، تقديره: و لو أنّ أشجار الأرض أقلام، و البحر ممدود بسبعة أبحر، و كتبت بتلك الأقلام و بذلك المداد مقدورات اللّه و معلوماته.

ما نَفِدَتْ كَلِماتُ اللَّهِ بكتابتها بتلك الأقلام، و بذلك المداد، لأنّ ذلك مع كثرته متناه، و معلومات اللّه و مقدوراته غير متناهية. و إيثار جمع القلّة- أعني:

______________________________

(1) الإسراء: 85.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 305

الكلمات- و الموضع موضع التكثير- أعني: الكلم- لا التقليل، للإشعار بأنّ ذلك لا يفي بالقليل فكيف بالكثير؟! فعلمكم في جنب هذا العلم في نهاية القلّة.

إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ لا يعجزه شي ء حَكِيمٌ لا يخرج عن علمه و حكمته أمر.

[سورة لقمان (31): الآيات 28 الى 32]

ما خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ إِلاَّ كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (28) أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وَ أَنَّ اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (29) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ

الْكَبِيرُ (30) أَ لَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (31) وَ إِذا غَشِيَهُمْ مَوْجٌ كَالظُّلَلِ دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلاَّ كُلُّ خَتَّارٍ كَفُورٍ (32)

قال مقاتل: إنّ كفّار قريش قالوا: إنّ اللّه خلقنا أطوارا: نطفة، علقة، مضغة، لحما. فكيف يبعثنا خلقا جديدا في ساعة واحدة؟ فنزلت:

ما خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ إلّا كخلقها و بعثها، أي: سواء في قدرته الواحد و الجمع، و القليل و الكثير. و ذلك أنه إنّما كانت تتفاوت النفس الواحدة و النفوس الكثيرة العدد، أن لو شغله شأن عن شأن و فعل عن فعل، و قد تعالى عن

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 306

ذلك علوّا كبيرا. فيكفي لوجود الكلّ تعلّق إرادته الواجبة مع قدرته الذاتيّة، كما قال: إِنَّما قَوْلُنا لِشَيْ ءٍ إِذا أَرَدْناهُ أَنْ نَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ «1».

إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ يسمع كلّ مسموع بَصِيرٌ يبصر كلّ مبصر في حالة واحدة، لا يشغله إدراك بعضها عن بعض، فكذلك الخلق و البعث. أو يسمع ما يقوله القائلون في ذلك، بصير بما يضمرونه.

ثمّ نبّه على قدرته على ذلك بقوله: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي كلّ من النيّرين يجري في فلكه إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى معلوم، الشمس إلى آخر السنة، و القمر إلى آخر الشهر. و قيل: إلى يوم القيامة، لأنّه لا ينقطع جريهما إلّا حينئذ. و الفرق بينه و بين قوله: «لأجل مسمّى»: أنّ الأجل هاهنا منتهى الجري، و ثمّ غرضه الحاصل في الغايات.

وَ أَنَّ

اللَّهَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ عالم بكنهه. فدلّ سبحانه بالليل و النهار، و تعاقبهما، و زيادتهما، و نقصانهما، و جري النيّرين في فلكيهما، أنّ كلّ ذلك على تقدير و حساب، و بإحاطته بجميع أعمال الخلق على عظم قدرته و حكمته.

ذلِكَ إشارة إلى الّذي ذكر من سعة العلم، و شمول القدرة، و عجائب الصنع، و غرائب الحكمة الّتي يعجز عنها الأحياء القادرون العالمون، فكيف بالجماد الّذي تدعونه من دونه بِأَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُ بسبب أنّه الثابت في ذاته، الواجب من جميع جهاته. أو الثابت إلهيّته.

وَ أَنَّ ما يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الْباطِلُ المعدوم في حدّ ذاته، لا يوجد و لا يتّصف إلّا بجعله. أو الباطل إلهيّته. و قرأ البصريّون و الكوفيّون غير أبي بكر بالياء.

______________________________

(1) النحل: 40.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 307

وَ أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ مترفّع على كلّ شي ء، و متسلّط عليه. أو مترفّع عن أن يشرك به.

ثمّ استشهد بأمر آخر على باهر قدرته، و كمال حكمته، و شمول أنعامه، فقال:

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ الْفُلْكَ تَجْرِي فِي الْبَحْرِ بِنِعْمَتِ اللَّهِ بإحسانه في تهيئة أسبابه.

و الباء للصلة، أو الحال. لِيُرِيَكُمْ مِنْ آياتِهِ من دلائله الدالّة على وحدانيّته، و كمال قدرته و علمه. و وجه الدلالة: أنّ اللّه تعالى يجري السفن بالرياح الّتي يرسلها في الوجوه الّتي تريدون المسير فيها، و لو اجتمع جميع الخلائق ليجروا الفلك في بعض الجهات المخالفة لجهة الرياح لما قدروا عليه، و في ذلك أعظم دلالة على أنّ المجري لها بالرياح هو القادر الّذي لا يعجزه شي ء، و ذلك بعض الأدلّة الدالّة عليه، فلذلك قال: «من آياته».

إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ على المشاقّ، فيتعب نفسه بالتفكّر في الآفاق و الأنفس شَكُورٍ يعرف النعم،

و يتعرّف مانحها. أو للمؤمنين، فإنّ الإيمان نصفان: نصف شكر، و نصف صبر.

وَ إِذا غَشِيَهُمْ علاهم و غطّاهم مَوْجٌ متراكم بعضه على بعض كَالظُّلَلِ كما يظلّ من جبل أو سحاب أو غيرهما، و يغطّي ما تحته دَعَوُا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لزوال ما ينازع الفطرة من الهوى و التقليد، لعروض الخوف الشديد و الدهشة العظيمة فَلَمَّا نَجَّاهُمْ إِلَى الْبَرِّ فَمِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ مقيم على طريق القصد الّذي هو التوحيد. أو متوسّط في الكفر، خافض عن غلوائه، فانزجر بعض الانزجار.

وَ ما يَجْحَدُ بِآياتِنا إِلَّا كُلُّ خَتَّارٍ غدّار أسوأ الغدر و أقبحه، فإنّه نقض العهد الفطري كَفُورٍ لنعم اللّه.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 308

[سورة لقمان (31): آية 33]

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَ اخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ وَ لا مَوْلُودٌ هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (33)

و لمّا بيّن الأدلّة الدالّة على كمال قدرته و علمه و توحيده، خاطب جميع المكلّفين، فقال:

يا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمْ وَ اخْشَوْا يَوْماً لا يَجْزِي والِدٌ عَنْ وَلَدِهِ لا يقضي عنه وَ لا مَوْلُودٌ مبتدأ خبره هُوَ جازٍ عَنْ والِدِهِ شَيْئاً و تغيير النظم إلى الجملة الاسميّة الّتي هي آكد من الفعليّة، للدلالة على أنّ المولود أولى بأن لا يجزي، و لقطع طمع من توقّع من المؤمنين أن ينفع أباه الكافر في الآخرة. و في ذكر لفظ المولود دون الولد، دلالة على أنّ الواحد منهم لو شفع للأب الأدنى الّذي ولد منه لم يقبل شفاعته، فضلا أن يشفع لمن فوقه من أجداده، لأنّ الولد يقع على الولد و ولد الولد، بخلاف المولود، فإنّه لمن ولد منك.

إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالثواب و العقاب

حَقٌ لا يمكن خلفه فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا الإمهال عن الانتقام، و الآمال و الأموال عن الإسلام. و المعنى: لا تغترّوا بطول السلامة و كثرة النعمة، فإنّهما عن قريب إلى زوال و انتقال. وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ الشيطان، بأن يرجيكم التوبة و المغفرة، فيجسركم على المعاصي.

عن سعيد بن جبير: الغرّة باللّه أن يتمادى الرجل في المعصية، و يتمنّى على اللّه المغفرة. و قيل: ذكرك لحسناتك، و نسيانك لسيّئاتك غرّة.

عن أبي عبيدة: كلّ شي ء غرّك حتّى تعصي اللّه، و تترك ما أمرك اللّه به، فهو

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 309

غرور، شيطانا كان أو غيره.

و

في الحديث: «الكيّس من دان نفسه، و عمل لها بعد الموت. و العاجز من اتّبع نفسه هواها، و تمنّى على اللّه».

[سورة لقمان (31): آية 34]

إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (34)

روي: أنّ الحرث بن عمرو بن حارثة أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا رسول اللّه؛ أخبرني عن الساعة متى قيامها؟ و إنّي قد ألقيت حبّاتي في الأرض، و قد أبطأت عنّا السماء، فمتى تمطر؟ و أخبرني عن امرأتي فقد اشتملت ما في بطنها، أذكر أم أنثى؟ و إنّي علمت ما عملت أمس، فما أعمل غدا؟ و هذا مولدي قد عرفته، فأين أموت؟ فنزلت:

إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ

وقت قيامها. و استأثر سبحانه به، و لم يطلع عليه أحدا من خلقه، فلا يعلم وقت قيامها سواه. وَ يُنَزِّلُ الْغَيْثَ في إبّانه المقدّر له، و المحلّ المعيّن له في علمه. و قرأ نافع و ابن عامر و

عاصم بالتشديد. وَ يَعْلَمُ ما فِي الْأَرْحامِ أذكر أم أنثى؟ أتامّ أو ناقص؟

وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ ما ذا تَكْسِبُ غَداً ماذا تعمل في المستقبل، من خير أو شرّ.

و ربما تعزم على شي ء و تفعل خلافه. و لا شي ء أخصّ بالإنسان من كسبه و عاقبته، فإذا لم يكن له طريق إلى معرفتها، كان من معرفة ما عداهما أبعد.

وَ ما تَدْرِي نَفْسٌ بِأَيِّ أَرْضٍ تَمُوتُ كما لا تدري في أيّ وقت تموت. و ربما

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 310

أقامت بأرض و ضربت أوتادها، و قالت: لا أبرحها أو أقبر فيها، فترمي به مرامي القدر حتّى تموت في مكان لم يخطر ببالها، و لا حدّثتها به ظنونها.

و

روي: أنّ ملك الموت عليه السّلام مرّ على سليمان عليه السّلام، فجعل ينظر إلى رجل من جلسائه يديم النظر إليه. فقال الرجل: من هذا؟ قال: ملك الموت. فقال: كأنّه يريدني. و سأل سليمان أن يحمله على الريح، و يلقيه ببلاد الهند، ففعل. ثمّ قال ملك الموت لسليمان: كان دوام نظري تعجّبا منه، لأنّي أمرت أن أقبض روحه بالهند و هو عندك.

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: مفاتح الغيب خمس. و تلا هذه الآية.

و عن ابن عبّاس: من ادّعى علم هذه الخمسة فقد كذب. و إيّاكم و الكهانة، فإنّ الكهانة تدعو إلى الشرك، و الشرك و أهله في النار.

و أيضا

عن أئمّة الهدى عليهم السّلام: أنّ هذه الأشياء الخمسة لا يعلمها على التفصيل و التحقيق غيره تعالى.

إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ يعلم الأشياء كلّها خَبِيرٌ يعلم بواطنها كما يعلم ظواهرها.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 311

(32) سورة السجدة

اشارة

سمّيت أيضا سجدة لقمان، لئلّا تلتبس بحم السجدة، تسمية للشي ء باسم مجاوره.

و هي مكّيّة ما خلا ثلاث آيات منها، فإنّها

نزلت بالمدينة؛ أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ «1» إلى تمام الآيات. و هي ثلاثون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ ألم تنزيل، و تبارك الّذي بيده الملك، فكأنّما أحيا ليلة القدر».

و أيضا:

«من قرأ ألم تنزيل في بيته، لم يدخل الشيطان بيته ثلاثة أيّام».

و

روى ليث بن أبي الزبير عن جابر، قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا ينام حتّى يقرأ ألم تنزيل، و تبارك الّذي بيده الملك. قال ليث: فذكرت ذلك لطاوس، فقال:

فضّلتا على كلّ سورة في القرآن. و من قرأهما كتب له ستّون حسنة، و محي عنه ستّون سيّئة، و رفع له ستّون درجة.

و

روى الحسين بن أبي العلاء، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة السجدة في كلّ ليلة جمعة، أعطاه اللّه كتابه بيمينه، و لم يحاسبه بما كان منه، و كان من رفقاء محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أهل بيته عليهم السّلام».

______________________________

(1) السجدة: 18.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 312

[سورة السجده (32): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ لا رَيْبَ فِيهِ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (2) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ (3)

و اعلم أنّه سبحانه لمّا ختم سورة لقمان بدلائل الربوبيّة، افتتح هذه السورة أيضا بها، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الم مبتدأ إن جعل اسما للسورة أو القرآن، خبره تَنْزِيلُ الْكِتابِ على أنّ التنزيل بمعنى المنزل. و إن جعل تعديدا للحروف، كان «تنزيل» خبر مبتدأ محذوف، أو مبتدأ خبره لا رَيْبَ فِيهِ أي: لا مدخل للريب في أنّه تنزيل

اللّه، لإعجازه. و حينئذ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ يكون حالا من الضمير في «فيه» لأنّ المصدر لا يعمل فيما بعد الخبر.

و يجوز أن يكون خبرا ثانيا، و «لا رَيْبَ فِيهِ» حال من الكتاب أو اعتراض، و الضمير في «فيه» لمضمون الجملة. كأنّه قيل: لا ريب في كونه منزلا من ربّ العالمين.

و يؤيّده قوله: أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ فإنّه إنكار لكونه من ربّ العالمين. و هذا إمّا قول متعنّت، مع علمه أنّه من اللّه، لظهور الإعجاز له. أو جاهل يقوله قبل التأمّل و النظر. و قوله: بَلْ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّكَ فإنّه تقرير أنّه منزل من اللّه.

و هذا أسلوب صحيح، و نظر جميل غاية الحسن، فإنّه أشار إلى إعجازه، ثمّ أثبت أنّ تنزيله من ربّ العالمين، ثمّ قرّر ذلك بنفي الريب عنه، ثمّ أضرب عن ذلك

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 313

إلى ما يقولون فيه على خلاف ذلك، إنكارا له و تعجيبا منه، فإنّ «أم» هي المنقطعة.

ثمّ أضرب عنه إلى إثبات أنّه الحقّ المنزل من اللّه، و بيّن المقصود من تنزيله، فقال:

لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أَتاهُمْ مِنْ نَذِيرٍ مِنْ قَبْلِكَ إذ كانوا أهل الفترة لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ بإنذارك إيّاهم. و فيه وجهان: أن يكون على الترجّي من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، كما كان:

لَعَلَّهُ يَتَذَكَّرُ أَوْ يَخْشى «1» على الترجّي من موسى و هارون. و أن يستعار لفظ الترجّي للإرادة.

و اعلم أنّه لا يلزم من عدم إتيان نذير قبل زمان البعثة عدم الحجّة عليهم، لأنّ أدلّة العقل الموصلة إلى معرفة اللّه و توحيده معهم في كلّ زمان. نعم، لم يقم عليهم قيام الحجّة بالشرائع الّتي لا يدرك علمها إلّا بالرسل.

[سورة السجده (32): الآيات 4 الى 5]

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ

ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا شَفِيعٍ أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ (4) يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ (5)

ثمّ دلّ سبحانه على وحدانيّته بقوله: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ مرّ بيانه في الأعراف «2» ما لَكُمْ مِنْ دُونِهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا شَفِيعٍ ما لكم إذا جاوزتم رضا اللّه أحد ينصركم و يشفع لكم. أو ما لكم سواه وليّ يتولّى مصالحكم و يشفعكم، أي: ينصركم، على سبيل المجاز، لأنّ

______________________________

(1) طه: 44.

(2) راجع ج 2 ص 532، ذيل الآية 54 من سورة الأعراف.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 314

الشفيع ينصر المشفوع له، فإذا خذلكم لم يبق لكم وليّ و لا ناصر. فهو كقوله: وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ «1».

أَ فَلا تَتَذَكَّرُونَ تتفكّرون فيما قلناه، و تعتبرون به، فتعلموا صحّة ما بيّنّاه لكم.

يُدَبِّرُ الْأَمْرَ مِنَ السَّماءِ إِلَى الْأَرْضِ يدبّر أمر الدنيا بأسباب سماويّة، كالملائكة و غيرها، نازلة آثارها إلى الأرض ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ ثمّ يصعد إليه و يثبت في علمه موجودا فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ لو ساره غير الملك مِمَّا تَعُدُّونَ ممّا يعدّه البشر، أي: في برهة من الزمان متطاولة. يعني بذلك استطالة ما بين التدبير و الوقوع.

و قيل: يدبّر الأمر بإظهاره في اللوح، فينزل به الملك، ثمّ يعرج إليه في زمان هو كألف سنة، لأنّ مسافة نزوله و عروجه مسيرة ألف سنة، فإنّ ما بين السماء و الأرض مسيرة خمسمائة سنة لابن آدم.

و قيل: يقضي أمر الدنيا

كلّها من السماء إلى الأرض، لكلّ يوم من أيّام اللّه، و هو ألف سنة، فينزل به الملك، ثمّ يعرج بعد الألف لألف آخر.

و قيل: يدبّر المأمور به من الطاعات منزلا من السماء إلى الأرض بالوحي، ثمّ لا يعمل به و لا يعرج إليه ذلك المأمور به خالصا كما يرتضيه إلّا في مدّة متطاولة، لقلّة المخلصين، و قلّة الأعمال الخلّص الصاعدة، لأنّه لا يوصف بالصعود إلّا الخالص. و دلّ عليه قوله على أثره: قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ «2».

و قيل: يدبّر أمر الدنيا من السماء إلى الأرض إلى أن تقوم الساعة، ثمّ يعرج إليه ذلك الأمر كلّه- أي: يصير إليه- ليحكم في يوم كان مقداره ألف سنة،

______________________________

(1) البقرة: 107.

(2) السجدة: 9.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 315

و هو يوم القيامة.

و أمّا قوله: فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ «1» فإنّه أراد سبحانه على الكافر، فجعل اللّه ذلك اليوم عليه مقدار خمسين ألف سنة، فإنّ المقامات في يوم القيامة مختلفة.

[سورة السجده (32): الآيات 6 الى 11]

ذلِكَ عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (6) الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ مِنْ طِينٍ (7) ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (8) ثُمَّ سَوَّاهُ وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (9) وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ كافِرُونَ (10)

قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (11)

ثمّ أكّد سبحانه ما تقدّم من دلائل وحدانيّته و أعلام ربوبيّته، فقال: ذلِكَ أي: الّذي يفعل ذلك و يقدر عليه عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ هو العالم بما يشاهد و ما لا يشاهد، فيدبّر أمرهما

على وفق الحكمة الْعَزِيزُ على أمره، المنيع في ملكه الرَّحِيمُ على العباد في تدبيره.

الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ أي: حسّن خلقه، لأنّه ما من شي ء خلقه إلّا و هو مرتّب على ما اقتضته الحكمة و أوجبته المصلحة. فجميع المخلوقات حسنة،

______________________________

(1) المعارج: 4.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 316

و إن تفاوتت إلى حسن و أحسن، كما قال: لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ «1».

و قيل: علم كيف يخلقه قبل أن خلقه، من غير أن يعلمه أحد. من قولهم:

قيمة المرء ما يحسنه. و حقيقته: يحسن معرفته، أي: يعرف معرفة حسنة بتحقيق و إيقان. و «خلقه» مفعول ثان.

و قرأ نافع و الكوفيّون بفتح اللام على الوصف. فالشي ء على الأوّل مخصوص بمنفصل، أي: حسّن كلّ شي ء خلقه خلقه. و على الثاني بمتّصل.

وَ بَدَأَ خَلْقَ الْإِنْسانِ يعني: آدم مِنْ طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ ذرّيّته. سمّيت به لأنّها تنسل منه، أي: تنفصل منه و تخرج من صلبه. مِنْ سُلالَةٍ أي: الصفوة الّتي تنسل من غيرها. و يسمّى ماء الإنسان سلالة، لانسلاله من صلبه. مِنْ ماءٍ مَهِينٍ ممتهن ضعيف. «من» الأولى ابتدائيّة، و الثانية بيانيّة. أشار سبحانه إلى أنّه من شي ء حقير لا قيمة له، و إنّما يصير ذا قيمة بالعمل.

ثُمَّ سَوَّاهُ قوّمه بتسوية أعضائه على ما ينبغي، كقوله: فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ «2».

وَ نَفَخَ فِيهِ مِنْ رُوحِهِ أضافه إلى ذاته، تشريفا له، و إشعارا بأنّه خلق عجيب لا يعلم كنهه إلّا هو، كقوله: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ «3» الآية. كأنّه قال:

و نفخ فيه من الشي ء الّذي اختصّ هو به و بمعرفته، إيذانا بأنّ له شأنا له مناسبة مّا إلى الحضرة الربوبيّة، و لأجله

قال أمير المؤمنين عليه السّلام: «من عرف نفسه فقد عرف ربّه».

ثمّ

قال سبحانه مخاطبا لذرّيّته: وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ لتسمعوا المسموعات

______________________________

(1) التين: 4.

(2) التين: 4.

(3) الإسراء: 85.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 317

وَ الْأَبْصارَ لتبصروا المبصرات وَ الْأَفْئِدَةَ لتعقلوا بها قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ «ما» مزيدة للمبالغة في القلّة، أي: تشكرون شكرا قليلا غاية القلّة.

وَ قالُوا أَ إِذا ضَلَلْنا فِي الْأَرْضِ أي: صرنا ترابا مخلوطا بتراب الأرض لا نتميّز منه، كما يضلّ الماء في اللبن. أو غبنا في الأرض بالدفن فيها.

و قرأ ابن عامر: إذا، على الخبر، و العامل فيه ما دلّ عليه قوله: أَ إِنَّا لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ و هو نبعث، أو يجدّد خلقنا.

و قرأ نافع و الكسائي و يعقوب: إنّا، على الخبر. و القائل أبيّ بن خلف.

و إسناده إلى جميعهم لرضاهم به. و المعنى: كيف نخلق جديدا، و نعاد بعد أن هلكنا، و تفرّقت أجسامنا؟

بَلْ هُمْ بِلِقاءِ رَبِّهِمْ بالبعث، أو بتلقّي ملك الموت، و ما بعده من الثواب و العقاب كافِرُونَ أي: جاحدون، فلذلك قالوا هذا القول.

قُلْ يَتَوَفَّاكُمْ يستوفي نفوسكم، لا يترك منها شيئا. أو يقبضكم واحدا واحدا حتّى لا يبقى أحد منكم. من قولك: توفّيت حقّي من فلان و استوفيته، إذا أخذته وافيا كملا من غير نقصان. و التفعّل و الاستفعال يلتقيان كثيرا، كتقصّيته و استقصيته، و تعجّلته و استعجلته. فالتوفّي: استيفاء النفس، و هي الروح. قال اللّه تعالى: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها «1». و هو أن يقبض كلّها.

مَلَكُ الْمَوْتِ الَّذِي وُكِّلَ بِكُمْ بقبض أرواحكم، و إحصاء آجالكم.

و عن مجاهد: حويت لملك الموت الأرض، و جعلت له مثل الطست، يتناول منها حيث شاء.

و عن ابن عبّاس: جعلت الدنيا بين يدي ملك الموت مثل جام يأخذ منها ما شاء، إذا قضي عليه الموت، من غير

عناء. و خطوته ما بين المشرق و المغرب.

______________________________

(1) الزمر: 42.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 318

و عن قتادة: يتوفّاهم و معه أعوان من الملائكة.

و قيل: ملك الموت يدعو الأرواح فتجيبه، ثمّ يأمر أعوانه بقبضها.

ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ أي: جزاء ربّكم، من الثواب و العقاب تُرْجَعُونَ تردّون.

و جعل ذلك رجوعا إليه تفخيما للأمر، و تعظيما للحال.

روى عكرمة، عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الأمراض و الأوجاع كلّها بريد الموت، و رسل الموت، فإذا حان الأجل أتى ملك الموت بنفسه فقال: يا أيّها العبد! كم خبر بعد خبر، و كم رسول بعد رسول، و كم بريد بعد بريد. أنا الخبر الّذي ليس بعدي خبر، و أنا الرسول الّذي ليس بعدي رسول، و أنا البريد الّذي ليس بعدي بريد، أجب ربّك طائعا أو مكرها.

فإذا قبض روحه، و تصارخوا عليه، قال: على من تصرخون؟ و على من تبكون؟ فواللّه ما ظلمت له أجلا، و لا أكلت له رزقا، بل دعاه ربّه. فليبك الباكي على نفسه، فإنّ لي فيكم عودات و عودات، حتّى لا أبقي منكم أحدا».

[سورة السجده (32): الآيات 12 الى 14]

وَ لَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ رَبَّنا أَبْصَرْنا وَ سَمِعْنا فَارْجِعْنا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ (12) وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها وَ لكِنْ حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ (13) فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا إِنَّا نَسِيناكُمْ وَ ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (14)

ثمّ أخبر سبحانه عن حالهم في القيامة و عند الحساب، فقال خطابا للرسول،

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 319

أو لكلّ واحد من العقلاء:

وَ لَوْ تَرى إِذِ الْمُجْرِمُونَ ناكِسُوا رُؤُسِهِمْ من الحياء و الخزي و الذلّ و

الندم عِنْدَ رَبِّهِمْ أي: عند ما يتولّى اللّه حساب خلقه، و هو يوم القيامة، قائلين: رَبَّنا أَبْصَرْنا ما وعدتنا وَ سَمِعْنا منك تصديق رسلك فَارْجِعْنا إلى الدنيا نَعْمَلْ صالِحاً إِنَّا مُوقِنُونَ إذ لم يبق لنا شكّ بما شاهدنا، فلا يغاثون.

و جواب «لو» محذوف، تقديره: لرأيت أمرا فظيعا. و يجوز أن تكون «لو» للتمنّي. كأنّه قال: وليتك ترى. هذا على تقدير كونه خطابا للرسول، لأنّه تجرّع منهم الغصص، و من عداوتهم و ضرارهم، فجعل اللّه له تمنّي أن يراهم على تلك الصفة الفظيعة من الخزي ليشمت بهم.

و المضيّ في «لو» و «إذ» لأنّ الثابت في علم اللّه بمنزلة الواقع الموجود المقطوع به في تحقّقه. و لا يقدّر ل «ترى» مفعول، لأنّ المعنى: لو يكون منك رؤية في هذا الوقت. أو يقدّر ما دلّ عليه صلة «إذ»، و «إذ» ظرف له.

ثمّ قال سبحانه: وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها ما تهتدي به إلى الحقّ، على طريق الإلجاء و القسر، بأن نفعل بهم أمرا من الأمور يلجئهم إلى الإقرار بالتوحيد.

وَ لكِنْ بنينا الأمر على الاختيار، دون الإجبار الّذي ينافي غرض التكليف، لأنّ استحقاق الثواب لا يكون إلّا بالاختيار. فاختاروا العمى على الهدى، فلأجل ذلك حَقَّ الْقَوْلُ مِنِّي ثبت قضائي، و سبق وعيدي.

و القول من اللّه سبحانه بمنزلة القسم، فلذلك أتى بجواب القسم، فقال:

لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ أي: من كلا الصنفين الّذين اختاروا الكفر و الجحود على الايمان و الطاعة. ألا ترى إلى ما عقّبه به من قوله: فَذُوقُوا بِما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا فجعل ذوق العذاب نتيجة فعلهم، من نسيان العاقبة، و قلّة

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 320

الفكر فيها، و ترك الاستعداد لها. و المراد

بالنسيان: خلاف التذكّر. يعني: أنّ الانهماك في الشهوات أذهلكم و ألهاكم عن تذكّر العاقبة، و سلّط عليكم نسيانها.

ثمّ قال على سبيل المقابلة و المزاوجة: إِنَّا نَسِيناكُمْ أي: جازيناكم جزاء نسيانكم، و تركناكم من الرحمة. أو تركناكم في العذاب ترك المنسيّ. و في استئنافه و بناء الفعل على «إنّ» و اسمها تشديد في الانتقام منهم.

وَ ذُوقُوا عَذابَ الْخُلْدِ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ كرّر الأمر للتأكيد، و لما نيط به من التصريح بمفعوله، و تعليله بأفعالهم السيّئة، من التكذيب و المعاصي، كما علّله بتركهم تدبّر أمر العاقبة و التفكّر فيها، دلالة على أنّ كلّا منهما يقتضي ذلك.

و المعنى: فذوقوا هذا- أي: ما أنتم فيه من نكس الرؤوس و الخزي- بسبب نسيان اللقاء، و ذوقوا العذاب المخلّد في جهنّم، بسبب ما عملتم من المعاصي و الكبائر الموبقة.

[سورة السجده (32): الآيات 15 الى 22]

إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها خَرُّوا سُجَّداً وَ سَبَّحُوا بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ (15) تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ خَوْفاً وَ طَمَعاً وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (16) فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (17) أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً لا يَسْتَوُونَ (18) أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى نُزُلاً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (19)

وَ أَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها وَ قِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (20) وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (21) وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ (22)

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 321

ثمّ أخبر سبحانه عن حال المؤمنين بقوله: إِنَّما يُؤْمِنُ بِآياتِنَا

أي: يصدّق بالقرآن و سائر حججنا الَّذِينَ إِذا ذُكِّرُوا بِها وعظوا بها خَرُّوا سُجَّداً خوفا من عذاب اللّه، و تواضعا و خشوعا و امتثالا له وَ سَبَّحُوا و نزّهوه عمّا لا يليق به، كالعجز عن البعث بِحَمْدِ رَبِّهِمْ حامدين له، شكرا على ما وفّقهم للإسلام، و آتاهم الهدى وَ هُمْ لا يَسْتَكْبِرُونَ عن الإيمان، و لا يستنكفون عن طاعته، كما يفعل من يصرّ مستكبرا كأن لم يسمعها. و مثله قوله: إِنَّ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ مِنْ قَبْلِهِ إِذا يُتْلى عَلَيْهِمْ يَخِرُّونَ لِلْأَذْقانِ سُجَّداً وَ يَقُولُونَ سُبْحانَ رَبِّنا «1».

ثمّ وصف سبحانه المؤمنين المذكورين، فقال: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ ترتفع و تتنحّى عَنِ الْمَضاجِعِ الفرش و مواضع النوم يَدْعُونَ رَبَّهُمْ داعين إيّاه، أو عابدين خَوْفاً لأجل خوفهم من سخطه وَ طَمَعاً و لأجل طمعهم في رحمته.

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في تفسيرها: قيام العبد من الليل.

و

روى الواحدي بالإسناد عن معاذ بن جبل قال: بينا نحن مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في غزوة تبوك، و قد أصابنا الحرّ، فتفرّق القوم، فإذا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أقربهم منّي، فدنوت منه فقلت: يا رسول اللّه أنبئني بعمل يدخلني الجنّة،

______________________________

(1) الإسراء: 107- 108. زبدة التفاسير، ج 5، ص: 322

و يباعدني من النار.

فقال: سألت عن عظيم، و إنّه ليسير على من يسّره اللّه عليه؛ تعبد اللّه، و لا تشرك به شيئا، و تقيم الصلاة المكتوبة، و تؤدّي الزكاة المفروضة، و تصوم شهر رمضان.

قال: و إن شئت أنبأتك بأبواب الخير.

قال: قلت: أجل يا رسول اللّه.

قال: الصوم جنّة. و الصدقة تكفّر الخطيئة. و قيام الرجل في جوف الليل يبتغي وجه اللّه. ثمّ قرأ هذه

الآية: تَتَجافى جُنُوبُهُمْ عَنِ الْمَضاجِعِ «1».

و

بالإسناد عن بلال قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: عليكم بقيام الليل، فإنّه دأب الصالحين قبلكم، و إنّ قيام الليل قربة إلى اللّه، و منهاة عن الإثم، و يكفّر عن السيّئات، و يطرد الداء عن الجسد».

و

عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إذا جمع اللّه الأوّلين و الآخرين يوم القيامة، جاء مناد ينادي بصوت يسمع الخلائق كلّهم: سيعلم أهل الجمع اليوم من أولى بالكرم. ثمّ يرجع فينادي: ليقم الّذين كانت تتجافى جنوبهم عن المضاجع. فيقومون و هم قليل. ثمّ يرجع فينادي: ليقم الّذين كانوا يحمدون اللّه في البأساء و الضرّاء. فيقومون و هم قليل. فيسرحون جميعا إلى الجنّة، ثمّ يحاسب سائر الناس.

و قيل: كان ناس من الصحابة يصلّون من المغرب إلى العشاء، فنزلت فيهم.

و قيل: هم الّذين يصلّون صلاة العتمة، و لا ينامون عنها.

و عن قتادة: هم الّذين يصلّون ما بين المغرب و العشاء الآخرة. و هي صلاة الأوّابين.

وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ في وجوه الخير.

______________________________

(1) تفسير الوسيط 3: 452- 453.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 323

و لمّا كان هؤلاء المؤمنين يقطعهم اشتغالهم بالصلاة و الدعاء عن طيب المضجع، لانقطاعهم إلى اللّه تعالى، فآمالهم مصروفة إليه، و اتّكالهم في كلّ الأمور عليه، بيّن سبحانه مثوبتهم العظمى، و مرتبتهم العليا عنده الّتي لا يعلم أحد كنهها إلّا هو، فقال:

فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ لا ملك مقرّب، و لا نبيّ مرسل مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ ممّا تقرّ به عيونهم، و من الثواب العظيم الّذي ادّخره اللّه لأولئك، و أخفاه اللّه من جميع خلائقه، لا يعلمه إلّا هو. و قرأ حمزة و يعقوب: أخفي، على أنّه مضارع:

أخفيت.

و

عنه صلّى اللّه عليه

و آله و سلّم: «يقول اللّه تعالى: أعددت لعبادي الصالحين ما لا عين رأت، و لا أذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر، بله «1» ما أطلعتهم عليه، اقرؤا إن شئتم: «فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ».

و العلم بمعنى المعرفة. و «ما» موصولة، أو استفهاميّة معلّق عنها الفعل.

جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ أي: جزوا جزاء. أو أخفى للجزاء، فإنّ إخفاءه لعلوّ شأنه. و قيل: هذا لقوم أخفوا أعمالهم، فأخفى اللّه ثوابهم.

أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً كَمَنْ كانَ فاسِقاً خارجا عن الإيمان لا يَسْتَوُونَ في الشرف و المثوبة. تأكيد و تصريح. و الجمع للحمل على المعنى، كما أنّ ضمير الإفراد في «كان» محمول على اللفظ. و نحوه قوله تعالى: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ «2».

ثمّ فسّر عدم الاستواء بقوله: أَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ جَنَّاتُ الْمَأْوى يأوون إليها، فإنّها المأوى الحقيقي، و الدنيا منزل مرتحل عنها لا محالة.

______________________________

(1) بله اسم فعل مبنيّ على الفتح، مثل: كيف. و معناه: دع و اترك. و يقال: معناه: سوى.

(2) محمّد: 16.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 324

و قيل: المأوى نوع من الجنان. قال اللّه تعالى: وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى «1». سمّيت بذلك، لما روي عن ابن عبّاس أنّه قال: تأوي إليها أرواح الشهداء. و قيل: هي عن يمين العرش.

نُزُلًا عطاء بِما كانُوا يَعْمَلُونَ بسبب أعمالهم، أو على أعمالهم.

و النزل في الأصل عطاء النازل، ثمّ صار عامّا. و قد سبق مزيّة تفسيره في سورة آل عمران «2».

وَ أَمَّا الَّذِينَ فَسَقُوا فَمَأْواهُمُ النَّارُ أي: ملجؤهم و منزلهم. و يجوز أن يراد:

فجنّة مأواهم النار، أي: النار لهم، مكان جنّة

المأوى للمؤمنين، كقوله: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «3».

كُلَّما أَرادُوا أَنْ يَخْرُجُوا مِنْها أُعِيدُوا فِيها عبارة عن خلودهم فيها. و قد مرّ بيانه في سورة الحجّ «4». وَ قِيلَ لَهُمْ ذُوقُوا مع ذلك عَذابَ النَّارِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ إهانة لهم، و زيادة في غيظهم.

و في هذا دلالة على أنّ المراد بالفاسق هنا الكافر. قال ابن أبي ليلى: نزل قوله: «أَ فَمَنْ كانَ مُؤْمِناً ...» الآيات، في عليّ بن أبي طالب و رجل من قريش.

و

قال غيره «5»: نزلت في عليّ بن أبي طالب، و الوليد بن عقبة. فالمؤمن:

عليّ، و الفاسق: الوليد. و ذلك أنّه شجر بين عليّ بن أبي طالب و الوليد بن عقبة بن أبي معيط يوم بدر كلام، فقال له الوليد: اسكت! فإنّك صبيّ، و أنا أشبّ منك شبابا،

______________________________

(1) النجم: 13- 15.

(2) راجع ج 1 ص 625، ذيل الآية 198 من سورة آل عمران.

(3) الانشقاق: 24.

(4) راجع ج 4 ص 380، ذيل الآية 22 من سورة الحجّ.

(5) راجع الكشّاف 3: 514. زبدة التفاسير، ج 5، ص: 325

و أجلد منك جلدا، و أذرب منك لسانا، و أحدّ منك سنانا، و أشجع منك جنانا، و أملأ منك حشوا في الكتيبة، أي: أبدن. فقال له عليّ عليه السّلام: اسكت! فإنّك فاسق. فنزلت عامّة للمؤمنين و الفاسقين، فتناولتهما و كلّ من كان في مثل حالهما.

و

عن الحسن بن عليّ عليه السّلام: قال للوليد: كيف تشتم عليّا، و قد سمّاه اللّه مؤمنا في عشر آيات، و سمّاك فاسقا؟

قال قتادة: لا و اللّه ما استووا، لا في الدنيا، و لا عند الموت، و لا في الآخرة.

وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنَ الْعَذابِ الْأَدْنى عذاب الدنيا، من أنواع المصائب و المحن في الأنفس و الأموال. و عن

ابن مسعود: هو القتل يوم بدر بالسيف. و عن مقاتل: هو ما ابتلوا به من الجوع سبع سنين بمكّة، حتّى أكلوا الجيف و الكلاب: و عن عكرمة:

هو الحدود. و عن مجاهد:

عذاب القبر. و هو مرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

دُونَ الْعَذابِ الْأَكْبَرِ عذاب الآخرة. و المعنى: نذيقهم عذاب الدنيا قبل أن يصلوا إلى عذاب الآخرة. لَعَلَّهُمْ لعلّ من بقي منهم يَرْجِعُونَ يتوبون عن الكفر.

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ ذُكِّرَ بِآياتِ رَبِّهِ أي: لا أحد أظلم لنفسه ممّن نبّه على حجج اللّه الموصلة إلى معرفته ثُمَّ أَعْرَضَ عَنْها فلم يتفكّر فيها. و «ثمّ» لاستبعاد الإعراض عنها. و المعنى: أنّ الإعراض عن مثل آيات اللّه، في فرط وضوحها و إنارتها، و إرشادها إلى سواء السبيل، و الفوز بالسعادة العظمى بعد التذكير بها، مستبعد جدّا في العقل و العدل، كما تقول لصاحبك: وجدت مثل تلك الفرصة ثمّ لم تنتهزها، استبعادا لتركه الانتهاز.

إِنَّا مِنَ الْمُجْرِمِينَ مُنْتَقِمُونَ فكيف ممّن كان أظلم من كلّ ظالم؟! و تحرير المعنى: أنّه لمّا جعل المعرض عن الآيات الواضحة مع علمه بها أظلم الناس، ثمّ توعّد المجرمين عامّة بالانتقام منهم، فقد دلّ على إصابة الأظلم النصيب الأوفر من الانتقام. فلإفادة هذا المعنى لم يقل: إنّا منه منتقمون، لأنّه لم يفد هذا المعنى.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 326

[سورة السجده (32): الآيات 23 الى 25]

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقائِهِ وَ جَعَلْناهُ هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (23) وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ بِأَمْرِنا لَمَّا صَبَرُوا وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ (24) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (25)

و لمّا أعرضوا عن آيات القرآن مع ظهور إعجازه، و وضوح صدقه، سلّى نبيّه صلّى اللّه عليه و

آله و سلّم بقوله:

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ كما آتيناك الكتاب، و لقّيناه مثل ما لقّيناك من الوحي، فأعرضوا عن أحكام كتابه، كما أعرضوا عن أحكام كتابك فَلا تَكُنْ فِي مِرْيَةٍ في شكّ مِنْ لِقائِهِ من لقائك الكتاب، أي: من أنّك لقيت مثله، و لا تلتفت إلى إعراض المعاندين. و نظيره قوله: فَإِنْ كُنْتَ فِي شَكٍّ مِمَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ فَسْئَلِ الَّذِينَ يَقْرَؤُنَ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِكَ «1». و قوله: وَ إِنَّكَ لَتُلَقَّى الْقُرْآنَ مِنْ لَدُنْ حَكِيمٍ عَلِيمٍ «2».

فإرجاع الضمير إلى الكتاب باعتبار الجنسيّة.

و ملخّص المعنى: إنّا آتيناك من الكتاب مثل ما آتيناه منه، فليس ذلك ببدع حتّى ترتاب فيه، أو من لقائك موسى.

و

عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «رأيت ليلة أسري بي موسى عليه السّلام، رجلا آدم طوالا جعدا «3»، كأنّه

______________________________

(1) يونس: 94.

(2) النمل: 6.

(3) الجعد من الشعر: خلاف المسترسل. و السبط ضدّ الجعد، و هو المسترسل منه. و شنوءة قبيلة من اليمن. و المربوع: المتوسّط القامة. زبدة التفاسير، ج 5، ص: 327

من رجال شنوءة. و رأيت عيسى بن مريم، رجلا مربوع الخلق، إلى الحمرة و البياض، سبط الرأس».

فعلى هذا فقد وعد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه سيلقى موسى عليه السّلام قبل أن يموت.

وَ جَعَلْناهُ أي: الكتاب المنزل على موسى هُدىً لِبَنِي إِسْرائِيلَ وَ جَعَلْنا مِنْهُمْ أَئِمَّةً يَهْدُونَ الناس إلى ما فيه من الحكم و الأحكام بِأَمْرِنا إيّاهم به، أو بتوفيقنا له لَمَّا صَبَرُوا على نصرة الدين و ثبتوا عليه. و قرأ حمزة و الكسائي و رويس: لما صبروا، أي: لصبرهم على الطاعة، أو عن الدنيا. وَ كانُوا بِآياتِنا يُوقِنُونَ لإمعانهم فيها النظر. و كذلك لنجعلنّ الكتاب المنزل إليك هدى و

نورا، و لنجعلنّ من أمّتك أئمّة يهدون مثل تلك الهداية.

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ يَفْصِلُ بَيْنَهُمْ يقضي بينهم، فيميّز الحقّ من الباطل، بتمييز المحقّ من المبطل يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من أمر الدين.

[سورة السجده (32): الآيات 26 الى 27]

أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ أَ فَلا يَسْمَعُونَ (26) أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً تَأْكُلُ مِنْهُ أَنْعامُهُمْ وَ أَنْفُسُهُمْ أَ فَلا يُبْصِرُونَ (27)

أَ وَ لَمْ يَهْدِ لَهُمْ الواو للعطف على معطوف عليه منويّ من جنس المعطوف.

و الضمير لأهل مكّة. و الفاعل ضمير ما دلّ عليه كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْقُرُونِ لأنّ «كم» لا تقع فاعلة، فلا يقال: جاءني كم رجل. تقديره: أو لم يهد لهم كثرة من أهلكناهم من القرون الماضية. أو ضمير اللّه، بدليل القراءة بالنون.

يَمْشُونَ فِي مَساكِنِهِمْ يعني: أهل مكّة يمرّون في متاجرهم على ديار

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 328

القرون السالفة، كعاد و ثمود و قوم لوط، و يرون آثارهم إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لدلالات واضحات على الحقّ أَ فَلا يَسْمَعُونَ سماع تدبّر و اتّعاظ.

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا نَسُوقُ الْماءَ بالمطر و الثلج. و قيل: بالأنهار و العيون. إِلَى الْأَرْضِ الْجُرُزِ الّتي جرز نباتها، أي: قطع و أزيل، إمّا لعدم الماء، و إمّا لأنّه رعي و أزيل. و لا يقال للّتي لا تنبت أصلا كالسباخ: جرز. و يدلّ عليه قوله: فَنُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً و عن ابن عبّاس: نسوق الماء بالسيول إليها، لأنّها مواضع عالية. و هي قرى بين اليمن و الشام. تَأْكُلُ مِنْهُ من الزرع أَنْعامُهُمْ كالتبن و الورق وَ أَنْفُسُهُمْ كالحبّ و الثمر أَ فَلا يُبْصِرُونَ فيستدلّون

به على كمال قدرته و فضله.

[سورة السجده (32): الآيات 28 الى 30]

وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (28) قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ (29) فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ وَ انْتَظِرْ إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ (30)

روي: أنّ المسلمين كانوا يقولون: إنّ اللّه سيفتح لنا على المشركين. فقالوا على وجه الإنكار و الاستبعاد: متى هذا الفتح؟ فنزلت:

وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْفَتْحُ أي: في أيّ وقت يكون النصر؟ أو الفصل بالحكومة، من قوله: رَبَّنَا افْتَحْ بَيْنَنا «1». إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أنّه كائن.

قُلْ يَوْمَ الْفَتْحِ لا يَنْفَعُ الَّذِينَ كَفَرُوا إِيمانُهُمْ وَ لا هُمْ يُنْظَرُونَ لا يؤخّر العذاب عنهم يومئذ. و هو يوم القيامة، فإنّه يوم نصر المسلمين، و الفصل بينهم و بين أعدائهم. و لمّا كان غرضهم في السؤال عن وقت الفتح، استعجالا منهم على وجه

______________________________

(1) الأعراف: 89.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 329

التكذيب و الاستهزاء، فأجيبوا على حسب ما عرف من غرضهم في سؤالهم، فقيل لهم: لا تستعجلوا به و لا تستهزؤا، فكأنّي بكم قد حضرتم في ذلك اليوم، و آمنتم فلم ينفعكم الإيمان، و استنظرتم في إدراك العذاب فلم تنظروا.

و قيل: المراد يوم بدر. و عن مجاهد و الحسن: يوم فتح مكّة. فالمراد بالّذين كفروا المقتولون منهم، فإنّه لا ينفعهم إيمانهم، كما لم ينفع فرعون إيمانه عند إدراك الغرق. فعلى هذا المعنى ينطبق هذا الكلام جوابا على سؤالهم عن وقت الفتح. فلا يقال: من فسّره بيوم بدر أو فتح مكّة، كيف يستقيم على تفسيره أن لا ينفعهم الإيمان، و قد نفع الطلقاء يوم فتح مكّة، و ناسا يوم بدر.

فَأَعْرِضْ عَنْهُمْ يا محمد، فإنّه لا ينجع فيهم الدعاء و الوعظ، و لا تبال بتكذيبهم. و قيل: هو منسوخ

بآية السيف «1». وَ انْتَظِرْ النصرة عليهم إِنَّهُمْ مُنْتَظِرُونَ الغلبة عليك و هلاككم، كقوله: فَتَرَبَّصُوا إِنَّا مَعَكُمْ مُتَرَبِّصُونَ «2».

______________________________

(1) التوبة: 5 و 29.

(2) التوبة: 52.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 331

(33) سورة الأحزاب

اشارة

مدنيّة و هي ثلاث و سبعون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ سورة الأحزاب و علّمها أهله، و ما ملكت يمينه، أعطي الأمان من عذاب القبر».

و

روى عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من كان كثير القراءة لسورة الأحزاب، كان يوم القيامة في جوار محمّد و آله و أزواجه».

[سورة الأحزاب (33): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (1) وَ اتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (2) وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (3)

و اعلم أنّ اللّه سبحانه لمّا أمر رسوله في مختتم سورة حم السجدة بانتظار أمره، بيّن في مفتتح هذه السورة أن يكون في انتظاره متّقيا، و نهاه عن طاعة الكفّار، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ اتَّقِ اللَّهَ ناداه بالنبيّ، و ترك نداءه باسمه، كما قال: يا آدم يا موسى يا عيسى يا داود، و أمره بالتقوى، تعظيما له،

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 332

و تنويها بفضله، و تشريفا بمحلّه، و تفخيما لشأن التقوى.

و المراد به الأمر بالثبات عليه، ليكون مانعا له عمّا نهى عنه بقوله: وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ كأنّه قال: واظب على ما أنت عليه من التقوى، و اثبت عليه.

و لا تطع الّذين يظهرون الكفر و يبطنونه، و الّذين يظهرون الإيمان و يبطنون الكفر، فيما يعود بوهن في الدين. و لا تساعدهم على شي ء، و لا تقبل لهم رأيا و لا مشورة، و جانبهم، فإنّهم أعداء اللّه و أعداء المؤمنين، فلا يريدون إلّا المضارّة و المضادّة.

و

روي: أنّ

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و آله لمّا هاجر إلى المدينة، و كان يحبّ إسلام اليهود؛ قريظة و النضير و بني قينقاع، و قد بايعه ناس منهم على النفاق، فكان يلين لهم جانبه، و يكرم صغيرهم و كبيرهم، و إذا أتى منهم قبيح تجاوز عنه، و كان يسمع منهم، فنهاه اللّه سبحانه عن ذلك بإنزال هذه السورة.

و قيل: إنّ أبا سفيان بن حرب و عكرمة بن أبي جهل و أبا الأعور السلمي، قدموا عليه في الموادعة الّتي كانت بينه و بينهم، و قام معهم عبد اللّه بن أبيّ و معتب بن قشير و الجدّ بن قيس. فقالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ارفض ذكر آلهتنا، و قل: إنّها تشفع و تنفع، ندعك و ربّك. فشقّ ذلك على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و على المؤمنين، و همّوا بقتلهم، فنزلت. أي: اتّق اللّه في نقض العهد و نبذ الموادعة، و لا تطع الكافرين من أهل مكّة، و المنافقين من أهل المدينة، فيما طلبوا إليك.

و روي أيضا: أنّ أهل مكّة دعوا رسول اللّه إلى أن يرجع عن دينه، و يعطوه شطر أموالهم، و أن يزوّجه شيبة بن ربيعة بنته، و خوّفه منافقوا المدينة أنّهم يقتلونه إن لم يرجع، فنزلت.

إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بالصواب من الخطأ، و المصلحة من المفسدة حَكِيماً لا يفعل شيئا و لا يحكم به إلّا بما تقتضيه الحكمة.

و لمّا نهاه عن متابعة الكفّار و أهل النفاق، أمره باتّباع أوامره و نواهيه على

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 333

الإطلاق، فقال:

وَ اتَّبِعْ ما يُوحى إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ في ترك طاعة الكافرين و المنافقين و غير

ذلك إِنَّ اللَّهَ كانَ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فموح إليك ما تصلح به أعمالك، فلا حاجة إلى الاستماع إلى الكفرة.

و قرأ أبو عمرو بالياء، على أنّ الواو ضمير الكفرة و المنافقين، أي: إنّ اللّه خبير بمكايدهم، فيدفعها عنك.

وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ و كل أمرك إلى تدبيره وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا موكولا إليه الأمور كلّها.

[سورة الأحزاب (33): الآيات 4 الى 5]

ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ وَ ما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللاَّئِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ ذلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ وَ اللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (4) ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فَإِخْوانُكُمْ فِي الدِّينِ وَ مَوالِيكُمْ وَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ وَ لكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (5)

روي: أنّ العرب كانوا يزعمون أنّ اللبيب الأريب له قلبان. و لذلك قيل لأبي معمر: ذو القلبين، لأنّه رجل من أحفظ العرب و أرواهم. و قيل لجميل بن أسد الفهري: ذو القلبين. و كان يقول: إنّ لي قلبين، أفهم بأحدهما أكثر ما يفهم محمّد.

و أنّ «1» الزوجة المظاهر عنها كالامّ، و دعيّ الرجل ابنه. و لذلك كانوا يقولون لزيد بن

______________________________

(1) عطف على قوله: «أنّ اللبيب ...» في صدر العبارة.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 334

حارثة بن شراحيل الكلبي، من بني عبدودّ، عتيق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ابن محمّد. فردّ اللّه عليهم بقوله:

ما جَعَلَ اللَّهُ لِرَجُلٍ مِنْ قَلْبَيْنِ فِي جَوْفِهِ أي: ما جمع قلبين في جوف، لأنّ القلب معدن الروح الحيواني المتعلّق بالنفس الإنساني أوّلا، و منبع القوى بأسرها ثانيا، و هو يمنع التعدّد. و لأنّ صاحب القلبين لا يخلو: إمّا أن يفعل بأحدهما

مثل ما يفعل بالآخر من أفعال القلوب، فأحدهما فضلة غير محتاج إليها. و إمّا أن يفعل بهذا غير ما يفعل بذاك، فذلك يؤدّي إلى اتّصاف الجملة بكونه مريدا كارها، عالما ظانّا، موقنا شاكّا، في حالة واحدة، و هو محال.

و روي: أنّ جميل بن أسد انهزم يوم بدر، فمرّ بأبي سفيان و هو معلّق إحدى نعليه بيده و الاخرى في رجله، فقال له: ما فعل الناس؟ فقال: هم ما بين مقتول و هارب. فقال له: ما بال إحدى نعليك في رجلك و الاخرى في يدك؟ فقال: ما ظننت إلّا أنّهما في رجليّ. فأكذب اللّه قوله و قولهم.

و عن ابن عبّاس: كان المنافقون يقولون: لمحمد قلبان. ينسبونه إلى الدهاء، فأكذبهم اللّه.

و عن الحسن: نزلت في رجل كان يقول: لي نفس تأمرني، و نفس تنهاني.

و قيل: هو ردّ على المنافقين. و المعنى: ليس لأحد قلبان، يؤمن بأحدهما و يكفر بالآخر، و إنّما هو قلب واحد، فإمّا أن يؤمن، و إمّا أن يكفر.

و قيل: هذه الآية متّصلة بما قبلها. و المعنى: أنّه لا يمكن الجمع بين اتّباعين متضادّين: اتّباع الوحي و القرآن، و اتّباع أهل الكفر و الطغيان. فكنّى عن ذلك بذكر القلبين، لأنّ الاتّباع يصدر عن الاعتقاد، و الاعتقاد من أفعال القلوب، فكما لا يجتمع قلبان في جوف واحد، لا يجتمع اعتقادان متضادّان في قلب واحد.

و

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «ما جعل اللّه لرجل من قلبين في جوفه، يحبّ بهذا

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 335

قوما، و يحبّ بهذا أعداءهم».

و التنكير في رجل، و إدخال «من» الاستغراقيّة على «قلبين» تأكيدان لما قصد من المعنى. كأنّه قال: ما جعل اللّه لأمّة الرجال، و لا لواحد منهم، قلبين البتّة في جوفه.

و

فائدة ذكر الجوف كالفائدة في قوله: الْقُلُوبُ الَّتِي فِي الصُّدُورِ «1». و ذلك ما يحصل للسامع من زيادة التصوّر و التجلّي للمدلول عليه، لأنّه إذا سمع به صوّر لنفسه جوفا يشتمل على قلبين، فكان أسرع إلى الإنكار.

وَ ما جَعَلَ أَزْواجَكُمُ اللَّائِي تُظاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهاتِكُمْ و ما جعل الزوجيّة و الامومة في امرأة.

و قرأ أبو عمرو: اللّاي بالياء وحدها ساكنة، على أنّ أصله: اللّاء بهمزة فخفّفت. و عن الحجازيّين مثله. و عنهما و يعقوب بالهمزة وحدها.

و أصل «تظّهّرون»: تتظهّرون، فأدغمت التاء الثانية في الظاء. و قرأ ابن عامر:

تظّاهرون بالإدغام. و حمزة و الكسائي بالحذف. و عاصم: تظاهرون، من: ظاهر.

و معنى الظهار: أن يقول الرجل للزوجة: أنت عليّ كظهر أمّي. مأخوذ من الظهر باعتبار اللفظ، كالتلبية من: لبّيك. و تعديته ب «من» لتضمّنه معنى التجنّب، لأنّه كان طلاقا في الجاهليّة. و هو في أوّل الإسلام يقتضي الطلاق، أو الحرمة إلى أداء الكفّارة.

و إنّما جعلوا الكناية عن البطن بالظهر، لأنّه عمود البطن، فذكره يقارب ذكر الفرج. أو للتغليظ في التحريم، فإنّهم كانوا يحرّمون إتيان المرأة و ظهرها إلى السماء. و سنذكر إن شاء اللّه تحقيق الظهار في سورة المجادلة.

______________________________

(1) الحجّ: 46.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 336

وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ و ما جعل الدعوة و البنوّة في رجل. و الأدعياء جمع دعيّ، فعيل بمعنى مفعول. و هو الّذي تبنّاه الإنسان. و جمع على أفعلاء شذوذا، لأنّ قياس باب أفعلاء لا يكون إلّا ما كان منه بمعنى فاعل، كتقيّ و أتقياء، و شقيّ و أشقياء، فشبّه بفعيل بمعنى فاعل.

و تحرير المعنى: أنّ اللّه سبحانه كما لم ير في حكمته أن يجعل للإنسان قلبين، لم ير أيضا أن تكون المرأة الواحدة

أمّا لرجل زوجا له، لأنّ الامّ مخدومة مخفوض لها جناح الذلّ، و الزوجة مستخدمة متصرّف فيها بالاستفراش و غيره، كالمملوكة، و هما حالتان متنافيتان. و أن يكون الرجل الواحد دعيّا لرجل و ابنا له، لأنّ البنوّة أصالة في النسب و عراقة فيه، و الدعوة إلصاق عارض بالتسمية لا غير، و لا يجتمع في الشي ء الواحد أن يكون أصيلا غير أصيل.

و هذا مثل ضربه اللّه في زيد بن حارثة، سبي صغيرا، و كانت العرب في جاهليّتها يتغاورون و يتسابون، فاشتراه حكيم بن حزام لعمّته خديجة، فلمّا تزوّجها رسول اللّه وهبته له. و

لمّا نبّئ صلوات اللّه عليه و آله دعاه إلى الإسلام فأسلم. فقدم أبوه حارثة مكّة، و أتى أبا طالب، و قال: سل ابن أخيك، فإمّا أن يبيعه، و إمّا أن يعتقه. فلمّا قال ذلك أبو طالب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: هو حرّ فليذهب حيث شاء.

فأبى زيد أن يفارق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فقال حارثة: يا معشر قريش! اشهدوا أنّه ليس ابني. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

اشهدوا أنّه ابني. يعني: زيدا. فكان يدعى زيد بن محمّد. فلمّا تزوّج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم زينب بنت جحش، و كانت تحت زيد بن حارثة، قال اليهود و المنافقون: تزوّج محمّد امرأة ابنه و هو ينهى الناس عنها. فقال اللّه تعالى: «ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ».

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 337

ذلِكُمْ إشارة إلى كلّ ما ذكر، أو إلى الأخير. قَوْلُكُمْ بِأَفْواهِكُمْ لا حقيقة له في الأعيان وَ اللَّهُ يَقُولُ الْحَقَ ما له حقيقة عينيّة مطابقة له وَ هُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ سبيل الحقّ. و

هو قوله: ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ انسبوهم إليهم. فهذا إفراد للمقصود من أقواله الحقّة. و قوله: هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ تعليل له. و الضمير لمصدر «ادعوا». و أقسط أفعل التفضيل، قصد به الزيادة مطلقا. من القسط بمعنى العدل.

و معناه: البالغ في الصدق.

روى سالم عن ابن عمر، قال: ما كنّا ندعو زيد بن حارثة إلّا زيد بن محمّد، حتّى نزل القرآن: «ادْعُوهُمْ لِآبائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ».

فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آباءَهُمْ فتنسبوهم إليهم فَإِخْوانُكُمْ فهم إخوانكم فِي الدِّينِ وَ مَوالِيكُمْ و أولياؤكم فيه. فقولوا: هذا أخي و مولاي، و يا أخي، و يا مولاي.

يعني: الاخوّة في الدين، و الولاية فيه.

وَ لَيْسَ عَلَيْكُمْ جُناحٌ أي: و لا إثم عليكم فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ فيما فعلتموه من ذلك مخطئين، قبل النهي أو بعده، على النسيان، أو سبق اللسان. أو ظننتم أنّه أبوه، و لم تعلموا أنّه ليس بابن له، فلا يؤاخذكم اللّه به.

وَ لكِنْ ما تَعَمَّدَتْ قُلُوبُكُمْ في محلّ الجرّ عطفا على «فِيما أَخْطَأْتُمْ بِهِ» أي:

و لكنّ الجناح فيما تعمّدت قلوبكم و قصدتموه، من دعائهم إلى غير آبائهم. أو مرفوع على الابتداء، و الخبر محذوف، تقديره: و لكن ما تعمّدت قلوبكم فيه الجناح و المؤاخذة.

وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً لعفوه عن الخاطئ، و عن العمد إذا تاب العامد.

و في هذه الآية دلالة على أنّه لا يجوز الانتساب إلى غير الأب. و قد وردت السنّة بتغليظ الأمر فيه.

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من انتسب إلى غير أبيه، أو انتمى إلى غير مواليه، فعليه لعنة اللّه».

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 338

[سورة الأحزاب (33): آية 6]

النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ وَ أُولُوا الْأَرْحامِ بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ فِي كِتابِ اللَّهِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ

إِلاَّ أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً (6)

روي: أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أراد غزوة تبوك، فأمر الناس بالخروج، فقال ناس: نستأذن آباءنا و أمّهاتنا، فنزلت:

النَّبِيُّ أَوْلى بِالْمُؤْمِنِينَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ في كلّ شي ء من امور الدين و الدنيا.

و لهذا أطلق و لم يقيّد، فإنّه لا يأمرهم و لا يرضى منهم إلّا بما فيه صلاحهم و نجاحهم، بخلاف النفس. فيجب عليهم أن يكون أحبّ إليهم من أنفسهم، و أمره أنفذ عليهم من أمرها، و شفقتهم عليه أتمّ من شفقتهم عليها.

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما من مؤمن إلّا و أنا أولى به في الدنيا و الآخرة، اقرؤا إن شئتم: النّبيّ أولى بالمؤمنين من أنفسهم».

و عن مجاهد: كلّ نبيّ أب لأمّته، و لذلك صار المؤمنون إخوة، لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أبوهم في الدين.

وَ أَزْواجُهُ أُمَّهاتُهُمْ منزّلات منزلتهنّ، في وجوب تعظيمهنّ و احترامهنّ، و تحريم نكاحهنّ. قال اللّه تعالى: وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً «1». و فيما عدا ذلك فكالأجنبيّات.

قال الكلبي: آخى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بين الناس، فكان يؤاخي بين الرجلين، فإذا مات أحدهما ورثه الثاني منهما دون أهله، فمكثوا بذلك ما شاء اللّه حتّى نسخ

______________________________

(1) الأحزاب: 53.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 339

ذلك بقوله: وَ أُولُوا الْأَرْحامِ و ذوو القرابات بَعْضُهُمْ أَوْلى بِبَعْضٍ في التوارث فِي كِتابِ اللَّهِ في اللوح. أو فيما أوحى اللّه إلى نبيّه. و هو هذه الآية، أو آية «1» المواريث. أو فيما فرض اللّه.

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُهاجِرِينَ بيان لأولي الأرحام، أي: الأقرباء من هؤلاء بعضهم أولى بأن يرث بعضا

من الأجانب. أو لابتداء الغاية، أي: و أولوا الأرحام بحقّ القرابة أولى بالميراث من المؤمنين بحقّ الدين، و من المهاجرين بحقّ الهجرة.

فهذا نسخ لما كان في صدر الإسلام من التواريث بالهجرة، و الموالاة في الدين، لا بالقرابات.

إِلَّا أَنْ تَفْعَلُوا إِلى أَوْلِيائِكُمْ مَعْرُوفاً استثناء من أعمّ ما يقدّر الأولويّة فيه من أنواع النفع، أي: القريب أولى من الأجنبيّ في كلّ نفع، من ميراث و هبة و هديّة و صدقة و غير ذلك، إلّا في الوصيّة. أو منقطع، أي: لكن إن فعلتم إلى أوليائكم المؤمنين و خلفائكم، ما يعرف حسنه و صوابه، فهو حسن. قال السدّي: عنى بذلك وصيّة الرجل لإخوانه في الدين.

كانَ ذلِكَ فِي الْكِتابِ مَسْطُوراً مكتوبا. و المراد بالكتاب اللوح، أو القرآن.

و قيل: في التوراة. و الجملة مستأنفة كالخاتمة لما ذكر من الأحكام.

و اعلم أنّ الآية متّصلة بقوله: وَ ما جَعَلَ أَدْعِياءَكُمْ أَبْناءَكُمْ» فإنّه سبحانه لمّا بيّن أنّ التبنّي على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لا يجوز، عقّبه أنّه مع ذلك أولى بالمؤمنين من أنفسهم، من حيث إنّه ولّاه اللّه أمرهم، فيلزمهم طاعته و الانقياد له. و أصل الولاية للّه تعالى، فلا حظّ فيها لأحد إلّا لمن ولّاه سبحانه. و إلى هذا المعنى

أشار النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم الغدير، في قوله: «أ لست أولى بكم من أنفسكم؟» فلمّا قالوا: بلى، قال: «من كنت مولاه فعليّ مولاه».

______________________________

(1) النساء: 11- 12 و 176.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 340

[سورة الأحزاب (33): الآيات 7 الى 8]

وَ إِذْ أَخَذْنا مِنَ النَّبِيِّينَ مِيثاقَهُمْ وَ مِنْكَ وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً (7) لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ وَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ

عَذاباً أَلِيماً (8)

ثمّ عاد سبحانه في تأكيد نبوّة نبيّنا، بذكر أخذ الميثاق منه كما أخذ من النبيّين، فقال:

وَ إِذْ أَخَذْنا مقدّر ب: اذكر، أي: اذكر حين أخذنا مِنَ النَّبِيِّينَ جميعا مِيثاقَهُمْ عهودهم، بتبليغ الرسالة، و الدعاء إلى الدين القويم وَ مِنْكَ خصوصا وَ مِنْ نُوحٍ وَ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ خصّهم بالذكر، لأنّهم مشاهير أرباب الشرائع. و قدّم نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تعظيما له. و قدّم عليه نوح في قوله تعالى: شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ «1» لأنّ مورد هذه الآية على طريقة خلاف تلك، و ذلك أنّ اللّه تعالى إنّما أوردها لوصف دين الإسلام بالأصالة و الاستقامة. فكأنّه قال: شرع لكم الدين الأصيل الّذي بعث عليه نوح في العهد القديم، و بعث عليه محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خاتم النبيّين في العهد الحديث، و بعث عليه من توسّط بينهما من الأنبياء المشاهير.

وَ أَخَذْنا مِنْهُمْ مِيثاقاً غَلِيظاً عظيم الشأن، فإنّ الغلظ استعارة من وصف الأجرام. و المراد عظم الميثاق، و جلالة شأنه في بابه. و قيل: الميثاق الغليظ اليمين باللّه على الوفاء بما حملوا. و تكرير الميثاق لبيان هذا الوصف.

و إنّما فعلنا ذلك لِيَسْئَلَ الصَّادِقِينَ عَنْ صِدْقِهِمْ عمّا قالوه لقومهم.

______________________________

(1) الشورى: 13.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 341

أو تصديقهم إيّاهم تبكيتا لهم، كقوله تعالى: أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ «1». أو ليسأل المصدّقين للأنبياء عن تصديقهم، فإنّ مصدّق الصادق صادق. أو المؤمنين الّذين صدقوا عهدهم حين أشهدهم على أنفسهم عن صدقهم عهدهم و شهادتهم، فيشهد لهم الأنبياء بأنّهم صدقوا عهدهم و شهادتهم.

وَ أَعَدَّ لِلْكافِرِينَ

عَذاباً أَلِيماً عطف على «أخذنا» لأنّ المعنى: أنّ اللّه أكّد على الأنبياء الدعوة إلى دينه لأجل إثابة المؤمنين. أو على ما دلّ عليه «ليسأل».

كأنّه قال: فأثاب المؤمنين، و أعدّ للكافرين عذابا أليما.

[سورة الأحزاب (33): آية 9]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها وَ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (9)

و لمّا بيّن سبحانه تأكيد نبوّة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بذكر ما أخذ على النبيّين من الميثاق، عقّب ذلك ببيان آياته و معجزاته يوم الأحزاب، و ذكر ما أنعم عليه و على المؤمنين من النصر، مع ما أعدّ لهم من الثواب، و ما فعل بالكفرة من التذليل و الإخزاء، مع ما أوعدهم من العذاب، فقال:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا نِعْمَةَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ ما أنعم اللّه به عليكم يوم الأحزاب، و هو يوم الخندق إِذْ جاءَتْكُمْ جُنُودٌ و هم: قريش، و غطفان، و يهود قريظة و النظير. و كانوا زهاء اثني عشر ألفا. فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً الصبا باردة في ليلة شاتية، فأخصرتهم «2»، و سفّت التراب في وجوههم، كما

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

______________________________

(1) المائدة: 116.

(2) فأخصرتهم أي: أوقعتهم في الخصر، و هو البرد. و سفّت التراب أي: طيّرته. زبدة التفاسير، ج 5، ص: 342

«نصرت بالصبا، و أهلكت عاد بالدبور».

وَ جُنُوداً لَمْ تَرَوْها هم الملائكة، و كانوا ألفا. بعث اللّه عليهم ريحا باردة، فقلعت أوتادهم، و قطعت أطنابهم، و نزعت فساطيطهم، و أطفأت نيرانهم، و كبّت «1» قدورهم، فماجت الخيل بعضها في بعض، و كبّرت الملائكة في جوانب العسكر. فقال طليحة بن خويلد الأسدي: أمّا محمد فقد بدأكم بالسحر، فالنجاء «2» النجاء. فانهزموا من

غير قتال.

وَ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من حفر الخندق. و قرأ البصريّان بالياء، أي: بما يعمل المشركون، من التحزّب و المحاربة. بَصِيراً رائيا، فيجازي كلّهم على وفق أعمالهم.

و تفصيل هذه القصّة برواية محمد بن كعب القرظي، و غيره من أصحاب السير و التواريخ: أنّ نفرا من اليهود، منهم سلام بن أبي الحقيق، و حييّ بن أخطب، في جماعة من بني النضير الّذين أجلاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، خرجوا حتّى قدموا على قريش بمكّة، فدعوهم إلى حرب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قالوا: إنّا سنكون معكم عليهم حتّى نستأصلهم.

فقالت لهم قريش: يا معشر اليهود! إنّكم أهل الكتاب الأوّل، فديننا خير أم دين محمّد؟

قالوا: بل دينكم خير من دينه، فأنتم أولى بالحقّ منه. فهم الّذين أنزل اللّه فيهم: أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ أُوتُوا نَصِيباً مِنَ الْكِتابِ يُؤْمِنُونَ بِالْجِبْتِ وَ الطَّاغُوتِ وَ يَقُولُونَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا هؤُلاءِ أَهْدى مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا سَبِيلًا إلى قوله: وَ كَفى بِجَهَنَّمَ سَعِيراً «3». فسرّ قريشا ما قالوا، و نشطوا لمّا دعوهم إليه، فأجمعوا لذلك و استعدّوا

______________________________

(1) كبّ الإناء: قلبه على رأسه ليصبّ ما فيه.

(2) النجاء: الخلاص. يقال: النجاء النجاء أي: أسرع أسرع.

(3) النساء: 51- 55.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 343

له.

ثمّ خرج أولئك النفر من اليهود، حتّى جاءوا غطفان، فدعوهم إلى حرب رسول اللّه و أخبروهم أنّهم سيكونون عليه، و أن قريشا قد تابعوهم على ذلك.

فأجابوهم. فخرجت قريش و قائدهم أبو سفيان بن حرب. و خرجت غطفان، و قائدها عيينة بن حصين بن حذيفة بن بدر في فزارة، و الحارث بن عوف في بني مرّة، و مسعر بن جبلّة الأشجعي. و كتبوا إلى حلفائهم

من بني أسد، فأقبل طليحة في من اتّبعه من بني أسد. و أسد و غطفان حليفان. و كتب قريش إلى رجال من بني سليم، فأقبل أبو الأعور فيمن اتّبعه من بني سليم مددا لقريش.

فلمّا علم بذلك رسول اللّه ضرب الخندق على المدينة. و كان الّذي أشار عليه بذلك سلمان الفارسي. و كان أوّل مشهد شهده سلمان مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو يومئذ حرّ. قال: يا رسول اللّه إنّا كنّا بفارس إذا حوصرنا خندقنا علينا. فعمل فيه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المسلمون حتّى أحكموه.

فممّا ظهر من دلائل النبوّة في حفر الخندق ما

رواه أبو عبد اللّه الحافظ بإسناده عن كثير بن عبد اللّه بن عمرو بن عوف المزني، قال: حدّثني أبي، عن أبيه، قال: خطّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الخندق عام الأحزاب أربعين ذراعا بين عشرة. فاختلف المهاجرون و الأنصار في سلمان الفارسي، و كان رجلا قويّا. فقال الأنصار: سلمان منّا. و قال المهاجرون: سلمان منّا. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «سلمان منّا أهل البيت».

قال عمرو بن عوف: فكنت أنا و سلمان و حذيفة بن اليمان و النعمان بن مقرن و ستّة من الأنصار، نقطع أربعين ذراعا، فحفرنا حتّى بلغنا من بطن الخندق صخرة بيضاء مدوّرة، فكسرت حديدنا، و شقّت علينا، فقلنا: يا سلمان ارق إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأخبره عن الصخرة، فإمّا أن نعدل عنها، فإنّ المعدل قريب، و إمّا أن يأمرنا فيه بأمره، فإنّا لا نحبّ أن نجاوز خطّه.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 344

فرقى سلمان حتّى أتى

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو مضروب عليه قبّة، فقال: يا رسول اللّه! خرجت صخرة بيضاء من الخندق، فكسرت حديدنا، و شقّت علينا حتّى ما يحكّ «1» فيها قليل و لا كثير، فمرنا فيها بأمرك.

فهبط رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع سلمان في الخندق، و أخذ المعول «2»، فضرب به ضربة، فلمعت منها برقة أضاءت ما بين لابتيها «3» يعني: لابتي المدينة، حتّى لكأنّ مصباحا في جوف الليل مظلم. فكبّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تكبيرة فتح، فكبّر المسلمون. ثمّ ضرب ضربة اخرى، فلمعت برقة اخرى. ثمّ ضرب به الثالثة، فلمعت برقة اخرى.

فقال سلمان: بأبي أنت و أمّي يا رسول اللّه، ما هذا الّذي رأيت؟

فقال: أمّا الأولى، فإنّ اللّه عزّ و جلّ فتح عليّ بها اليمن. و أمّا الثانية، فإنّ اللّه تعالى فتح عليّ بها الشام و المغرب. و أمّا الثالثة، فإنّ اللّه عزّ و جلّ فتح عليّ بها المشرق.

فاستبشر المسلمون بذلك، و قالوا: الحمد للّه على موعود صادق.

قال: و طلعت الأحزاب، فقال المؤمنون: هذا ما وعدنا اللّه و رسوله. و قال المنافقون: ألا تعجبون! يحدّثكم و يعدكم الباطل، يخبركم أنّه يبصر في يثرب قصور الحيرة و مدائن كسرى، و أنّها تفتح لكم، و أنتم تحفرون الخندق، و لا تستطيعون أن تبرزوا.

و ممّا ظهر فيه أيضا من آيات النبوّة، ما

رواه أبو عبد اللّه الحافظ بالإسناد عن عبد الواحد بن ايمن المخزومي، قال: حدّثني أيمن المخزومي، قال: حدّثني جابر

______________________________

(1) أي: لا يعمل و لا يؤثّر فيها.

(2) المعول: أداة لحفر الأرض.

(3) اللابة: الحرّة. و هي الأرض ذات الحجارة السود. زبدة التفاسير، ج 5، ص: 345

بن

عبد اللّه، قال: كنّا يوم الخندق نحفر الخندق، فعرضت فيه كدية «1»، و هي الجبل، فقلنا: يا رسول اللّه! إن كدية عرضت فيه؟

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: رشّوا عليها ماء. ثمّ قام فأتاها و بطنه معصوب بحجر من الجوع، فأخذ المعول أو المسحاة، فسمّى ثلاثا، ثمّ ضرب فعادت كثيبا «2» أهيل.

فقلت له: ائذن لي يا رسول اللّه إلى المنزل؟ ففعل. فقلت للمرأة: هل عندك من شي ء؟ فقالت: عندي صاع من شعير و عناق «3». فطحنت الشعير و عجنته، و ذبحت العناق و سلختها. و خلّيت بين المرأة و بين ذلك، ثمّ أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فجلست عنده ساعة، ثمّ قلت: ائذن لي يا رسول اللّه، ففعل. فأتيت المرأة فإذا العجين و اللحم قد أمكنا. فرجعت إلى رسول اللّه فقلت: إنّ عندنا طعيما لنا، فقم يا رسول اللّه أنت و رجلان من أصحابك.

فقال: و كم هو؟

قلت: صاع من شعير و عناق.

فقال للمسلمين جميعا: قوموا إلى جابر. فقاموا. فلقيت من الحياء ما لا يعلمه إلّا اللّه. فقلت: جاء بالخلق على صاع شعير و عناق. فدخلت على المرأة و قلت: قد افتضحت جاءك رسول اللّه بالخلق أجمعين.

فقالت: هل كان سألك كم طعامك؟

قلت: نعم.

فقالت: اللّه و رسوله أعلم، قد أخبرناه ما عندنا.

قلت: فكشفت عنّي غمّا شديدا.

______________________________

(1) الكدية: الأرض الصلبة الغليظة.

(2) الكثيب: التلّ من الرمل. و الأهيل: المنهال المنصبّ.

(3) العناق: الأنثى من أولاد المعز قبل استكمالها السنة. زبدة التفاسير، ج 5، ص: 346

فدخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: خذي و دعيني من اللحم. فلمّا جاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع

أصحابه، جعل يثرد و يفرّق اللحم، ثمّ يحمّ «1» هذا و يحمّ هذا، فما زال يقرّب إلى الناس حتّى شبعوا أجمعين، و يعود التنّور و القدر أملأ ما كانا. ثمّ قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كلي و اهدي. فلم نزل نأكل و نهدي قومنا أجمع. أورده البخاري «2» في الصحيح.

و

عن أبي الوليد، عن شعبة، عن أبي إسحاق، عن البراء، قالوا: و لمّا فرغ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الخندق، أقبلت قريش حتّى نزلت بين الجرف «3» و الغابة، في عشرة آلاف من أحابيشهم و من تابعهم من بني كنانة و أهل تهامة، و قائدهم أبو سفيان. و خرج غطفان في ألف، و من تابعهم من أهل نجد، و قائدهم عيينة بن حصين. و عامر بن الطفيل في هوازن. و ضامّتهم اليهود من قريظة و النضير، حتّى نزلوا إلى جانب أحد. و خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع ثلاثة آلاف من المسلمين، فضرب في سلع «4» عسكره، و الخندق بينه و بين القوم. و أمر بالذراري و النساء فرفعوا في الآطام «5».

و خرج عدوّ اللّه حييّ بن أخطب النضيري حتّى أتى كعب بن أسد القرظي صاحب بني قريظة، و كان قد وادع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على قومه، و عاهده على ذلك.

فلمّا سمع كعب صوت ابن أخطب أغلق دونه حصنه. فاستأذن عليه، فأبى أن يفتح له.

______________________________

(1) حمّ الشي ء: قرب. و يستعمل الرباعيّ متعدّيا. يقال: أحمّ الشي ء أي: قرّبه.

(2) صحيح البخاري 5: 138.

(3) الجرف: موضع على ثلاثة أميال من المدينة نحو الشام.

(4) السلع: الشقّ.

(5) الأطم: القصر و

الحصن المبنيّ بالحجارة، و كلّ بناء مرتفع. و جمعه: آطام. زبدة التفاسير، ج 5، ص: 347

فناداه: يا كعب! افتح لي.

فقال: و يحك يا حييّ! إنّك رجل مشؤوم، إنّي قد عاهدت محمّدا، و لست بناقض ما بيني و بينه، و لم أر منه إلّا وفاء و صدقا.

قال: ويحك! افتح لي اكلّمك.

قال: ما أنا بفاعل.

قال: إن أغلقت إلّا على حشيشة تكره أن آكل منها معك. ففتح له.

فقال: ويحك يا كعب! جئتك بعزّ الدهر و ببحر طام «1»، جئتك بقريش على قادتها و سادتها، و بغطفان على سادتها و قادتها. عاهدوني أن لا يبرحوا حتّى يستأصلوا محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من معه.

فقال كعب: جئتني و اللّه بذلّ الدهر، بجهام «2» قد هراق ماؤه، يرعد و يبرق و ليس فيه شي ء، فدعني و محمّدا و ما أنا عليه، فلم أرمن محمّد إلّا صدقا و وفاء.

فلم يزل حييّ يكلّمه ليليّنه في نقض العهد. فنقض عهده، و برى ء ممّا كان عليه فيما بينه و بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فلمّا علم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم غدره في العهد، و نقضه في الميعاد، قال: اللّه أكبر.

و عظم عند ذلك البلاء، و اشتدّ الخوف على أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و أتاهم عدوّهم من فوقهم، و من أسفل منهم، حتّى ظنّ المؤمنون كلّ ظنّ، و ظهر النفاق من بعض المنافقين.

فأقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أقام المشركون عليه بضعا و عشرين ليلة، لم يكن بينهم قتال إلّا الرمي بالنبل. إلّا أنّ فوارس من قريش، منهم عمرو بن عبدودّ، أخو بني

عامر بن لؤيّ، و عكرمة بن أبي جهل، و ضرار بن الخطّاب، و هبيرة بن أبي

______________________________

(1) أي: ممتلئ.

(2) الجهام: السحاب لا ماء فيه. زبدة التفاسير، ج 5، ص: 348

وهب، و نوفل بن عبد اللّه، قد تلبّسوا للقتال، و خرجوا على خيولهم، حتّى مرّوا بمنازل بني كنانة، فقالوا: تهيّأوا للحرب يا بني كنانة، فستعلمون اليوم من الفرسان.

ثمّ أقبلوا بهم حتّى وقفوا على الخندق، فقالوا: و اللّه إنّ هذه لمكيدة ما كانت العرب تكيدها. ثمّ تيمّموا مكانا ضيّقا من الخندق، فضربوا خيولهم فاقتحموا، فجالت بهم في السبخة بين الخندق و سلع.

و خرج عليّ بن أبي طالب عليه السّلام في نفر من المسلمين، حتّى أخذ عليهم الثغرة الّتي منها اقتحموا. و أقبلت الفرسان نحوهم. و كان عمرو بن عبدودّ فارس قريش، و كان قد قاتل يوم بدر حتّى أثبته «1» الجراح. فلمّا كان يوم الخندق خرج معلما ليرى مشهده، و كان يعدّ بألف فارس. و كان يسمّى فارس يليل، لأنّه أقبل في ركب من قريش حتّى إذا كانوا بيليل، و هو واد قريب من بدر، عرضت لهم بنو بكر في عدد. فقال لأصحابه: امضوا، فمضوا. فقام في وجوه بني بكر حتّى منعهم من أن يصلوا إليه، فعرف بذلك. و كان اسم الموضع الّذي حفر فيه الخندق المذاد.

و

ذكر ابن إسحاق: أنّ عمرو بن عبدودّ كان ينادي: من يبارز؟ فقام عليّ عليه السّلام و هو مقنّع في الحديد، فقال: أنا له يا نبيّ اللّه. فقال: إنّه عمرو، اجلس. و نادى عمرو: ألا رجل! و هو يؤنّبهم و يقول: أين جنّتكم الّتي تزعمون أنّ من قتل منكم دخلها؟ فقام عليّ عليه السّلام فقال: أنا له يا رسول اللّه. ثمّ نادى الثالثة

فقال:

و لقد بححت «2» من النداء* بجمعكم هل من مبارز و وقفت إذ جبن المسجّع* موقف البطل المناجز

______________________________

(1) أي: أوهنه الجراح و ضعف حتّى لا يقدر على الحراك.

(2) البحّة: خشونة و غلظ في الصوت. من: بحّ يبحّ. زبدة التفاسير، ج 5، ص: 349

إنّ السماحة و الشجاعة* في الفتى خير الغرائز فقام علي عليه السّلام فقال: يا رسول اللّه أنا. فقال: إنّه عمرو. فقال: و إن كان عمرا.

فأذن له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و فيما

رواه السيّد أبو الحمد الحسيني القايني، عن الحاكم أبي القاسم الحسكاني بالإسناد عن عمرو بن ثابت، عن أبيه، عن جدّه، عن حذيفة قال: «فألبسه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم درعه ذات الفضول، و أعطاه سيفه ذا الفقار، و عمّمه عمامته السحاب على رأسه تسعة أكوار، ثمّ قال له: تقدّم. فقال لمّا ولّى: اللّهمّ احفظه من بين يديه، و من خلفه، و عن يمينه، و عن شماله، و من فوق رأسه، و من تحت قدميه» «1».

قال ابن إسحاق: فمشى إليه و هو يقول لا تعجلنّ فقد أتاك* مجيب صوتك غير عاجز ذو نيّة و بصيرة* و الصدق منجي كلّ فائز إنّي لأرجو أن أقيم* عليك نائحة الجنائز من ضربة نجلاء «2» يبقى* ذكرها عند الهزاهز قال له عمر: من أنت؟

قال: أنا عليّ.

قال: ابن عبد مناف؟

فقال أنا: عليّ بن أبي طالب بن عبد المطّلب بن هاشم بن عبد مناف.

فقال: غيرك يا ابن أخي من أعمامك من هو أسنّ منك، فإنّي أكره أن أهريق دمك.

______________________________

(1) شواهد التنزيل 2: 11 ح 634.

(2) أي: واسعة. زبدة التفاسير، ج 5، ص: 350

زبدة التفاسير ج 5 399

فقال عليّ عليه السّلام: و لكنّي

و اللّه ما أكره أن أهريق دمك.

فغضب و نزل، و سلّ سيفه كأنّه شعلة نار، ثمّ أقبل نحو عليّ عليه السّلام مغضبا، فاستقبله عليّ بدرقته «1»، فضربه عمرو بالدرقة فقدّها، و أثبت فيها السيف، و أصاب رأسه فشجّه. و ضربه عليّ على حبل «2» العاتق فسقط.

و

في رواية حذيفة: و تسيّف عليّ رجليه بالسيف من أسفل، فوقع على قفاه، و ثارت بينهما عجاجة. فسمع عليّ عليه السّلام يكبّر، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قتله و الّذي نفسي بيده. فكان أوّل من ابتدر العجاج عمر بن الخطّاب، فإذا عليّ عليه السّلام يمسح سيفه بدرع عمرو، فكبّر عمر بن الخطّاب، و قال: يا رسول اللّه قتله. فحزّ عليّ رأسه، و أقبل نحو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و وجهه يتهلّل. فقال عمر بن الخطّاب: هلّا استلبته درعه، فإنّه ليس للعرب درع خيرا منها. فقال: ضربته فاتّقاني بسوأته، فاستحييت ابن عمّي أن استلبه.

قال حذيفة: فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أبشر يا عليّ، فلو وزن اليوم عملك بعمل أمّة محمّد، لرجح عملك بعملهم. و ذلك أنّه لم يبق بيت من بيوت المشركين إلّا و قد دخله و هن بقتل عمرو، و لم يبق بيت من بيوت المسلمين إلّا و قد دخله عزّ بقتل عمرو بن عبدودّ.

فخرج أصحابه منهزمين حتّى طفرت خيولهم الخندق. و تبادر المسلمون، فوجدوا نوفل بن عبد العزّى جوف الخندق، فجعلوا يرمونه بالحجارة. و ذكر ابن إسحاق: أنّ عليّا عليه السّلام طعنه في ترقوته حتّى أخرجها من مراقّه «3»، فمات في الخندق. و بعث المشركون إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

يشترون جيفته بعشرة آلاف. فقال

______________________________

(1) الدرقة: الترس من جلود ليس فيه خشب و لا عقب.

(2) الحبل: العرق في البدن، نحو: حبل الوريد. و العاتق: ما بين المنكب و العنق.

(3) مراقّ البطن: مارقّ منه و لان. زبدة التفاسير، ج 5، ص: 351

النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم: هو لكم، لا نأكل ثمن الموتى.

و

روى عمرو بن عبيد عن الحسن البصري، قال: إنّ عليّا عليه السّلام لمّا قتل عمرو بن عبد ودّ، حمل رأسه فألقاه بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقام أبو بكر و عمر فقبّلا رأس عليّ عليه السّلام.

و

روي عن أبي بكر بن عيّاش: أنّه قال: ضرب عليّ ضربة ما كان في الإسلام ضربة أعزّ منها، يعني: ضربة عمرو بن عبد ودّ، و ضرب عليّ ضربة ما كان أشأم منها، يعني: ضربة ابن ملجم عليه لعائن اللّه.

ثم أوقع اللّه الخلاف بين الأحزاب، فشتّت شملهم، و تفرّقت آراؤهم. و عند ذلك بعث اللّه عليهم الريح في ليال شاتية شديدة البرد، حتّى لا يستمسك لهم بناء، و لا تثبت لهم نار، و لا تطمئنّ لهم قدر، فانصرفوا راهبين.

[سورة الأحزاب (33): الآيات 10 الى 14]

إِذْ جاؤُكُمْ مِنْ فَوْقِكُمْ وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ وَ إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا (10) هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ وَ زُلْزِلُوا زِلْزالاً شَدِيداً (11) وَ إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ إِلاَّ غُرُوراً (12) وَ إِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يا أَهْلَ يَثْرِبَ لا مُقامَ لَكُمْ فَارْجِعُوا وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَّ يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ إِنْ يُرِيدُونَ إِلاَّ فِراراً (13) وَ لَوْ دُخِلَتْ عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها ثُمَّ

سُئِلُوا الْفِتْنَةَ لَآتَوْها وَ ما تَلَبَّثُوا بِها إِلاَّ يَسِيراً (14)

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 352

و حكى اللّه سبحانه هذه القصّة إجمالا بقوله: إِذْ جاؤُكُمْ بدل من «إِذْ جاءَتْكُمْ» مِنْ فَوْقِكُمْ من أعلى الوادي، من قبل المشرق. و هم بنو غطفان و قريظة و النضير. وَ مِنْ أَسْفَلَ مِنْكُمْ من أسفل الوادي، من قبل المغرب، من ناحية مكّة. و هم قريش. و كانوا متحزّبين، و قالوا: سنكون جملة واحدة حتّى نستأصل محمّدا.

وَ إِذْ زاغَتِ الْأَبْصارُ مالت عن مستوى نظرها و مقرّها، حيرة و شخوصا و دهشة. و قيل: عدلت عن كلّ شي ء، فلم تلتفت إلّا إلى عدوّها، لشدّة الروع.

وَ بَلَغَتِ الْقُلُوبُ الْحَناجِرَ رعبا، فإنّ الرئة تنتفخ من شدّة الروع و الفزع أو الغضب أو الغمّ الشديد، فتربو و يرتفع القلب بارتفاعه إلى رأس الحنجرة، و هي منتهى الحلقوم، و هو مدخل الطعام و الشراب. و من ثمّ قيل للجبان: انتفخ سحره، أي:

رئته. و يجوز أن يكون ذلك مثلا في اضطراب القلوب و وجيبها «1» و إن لم تبلغ الحناجر حقيقة.

قال أبو سعيد الخدري: قلنا يوم الخندق: يا رسول اللّه هل من شي ء نقوله، فقد بلغت القلوب الحناجر؟ فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قولوا: اللّهمّ استر عوراتنا، و آمن روعاتنا. قال: فقلناها، فضرب وجوه أعداء اللّه بالريح، فهزموا.

وَ تَظُنُّونَ بِاللَّهِ الظُّنُونَا الأنواع من الظنّ. فظنّ المخلصون الثبّت القلوب و الأقدام، أنّ اللّه منجز وعده في إعلاء دينه، أو ممتحنهم. فخافوا الزلل و ضعف الاحتمال. و ظنّ الضعاف القلوب و المنافقون أن يستأصل المسلمون، على ما حكى اللّه عنهم.

و الألف مزيدة في الوقف، زادوها في الفاصلة تشبيها للفواصل بالقوافي. و قد أجرى نافع و

ابن عامر و أبو بكر فيها الوصل مجرى الوقف. و لم يزدها أبو عمرو

______________________________

(1) وجب القلب وجيبا: رجف و خفق.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 353

و حمزة و يعقوب مطلقا. و هو القياس.

هُنالِكَ ابْتُلِيَ الْمُؤْمِنُونَ اختبروا، فظهر المخلص من المنافق، و الثابت من المتزلزل وَ زُلْزِلُوا زِلْزالًا شَدِيداً فحرّكوا لفرط الخوف تحريكا شديدا، و أزعجوا إزعاجا عظيما من شدّة الفزع، فإنّ الخائف يكون قلقا مضطربا، لا يستقرّ على مكانه.

وَ إِذْ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ضعف اعتقاد ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ من الظفر و إعلاء الدين إِلَّا غُرُوراً وعدا باطلا. قيل: قائله معتب بن قشير، قال: يعدنا محمد فتح فارس و الروم، و أحدنا لا يقدر أن يتبرّز «1» فرقا، ما هذا إلّا وعد غرور.

وَ إِذْ قالَتْ طائِفَةٌ مِنْهُمْ يعني: أوس بن قيظي و أتباعه. و عن السدّي:

عبد اللّه بن أبيّ و أصحابه. يا أَهْلَ يَثْرِبَ أهل المدينة. و قيل: هو اسم أرض وقعت المدينة في ناحية منها. لا مُقامَ لَكُمْ لا موضع قيام لكم هنا. و قرأ حفص بالضمّ، على أنّه اسم مكان أو مصدر من: أقام، أي: لا مكان تقيمون فيه. أو لا إقامة لكم.

فَارْجِعُوا إلى منازلكم، هاربين من عسكر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و قيل: المعنى: لا مقام لكم على دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فارجعوا إلى الشرك، و أسلموه لتسلموا. أو لا مقام لكم بيثرب، فارجعوا كفّارا ليمكنكم المقام بها.

وَ يَسْتَأْذِنُ فَرِيقٌ مِنْهُمُ النَّبِيَ في الرجوع. و هم بنو سلمة و بنو حارثة.

يَقُولُونَ إِنَّ بُيُوتَنا عَوْرَةٌ غير حصينة. و أصلها: الخلل. يقال: عور المكان عورا، إذا بدا فيه خلل يخاف منه العدوّ

و السارق. و يجوز أن تكون العورة تخفيف: العورة، بمعنى ذات العورة. اعتذروا بأن بيوتهم معرّضة للعدوّ، ممكّنة للسرّاق، لأنّها غير محرزة و لا محصّنة، فاستأذنوه ليحصّنوها ثمّ يرجعوا إليه. فأكذبهم اللّه بقوله:

______________________________

(1) تبرز: خرج لقضاء الحاجة. و الفرق مصدر فرق أي: فزع و خاف.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 354

وَ ما هِيَ بِعَوْرَةٍ بل هي حصينة، رفيعة السمك إِنْ يُرِيدُونَ إِلَّا فِراراً من القتال.

وَ لَوْ دُخِلَتْ المدينة، أو بيوتهم عَلَيْهِمْ مِنْ أَقْطارِها جوانبها. يعني: لو دخلت العساكر المتحزّبة الّتي يفرّون خوفا منها، مدينتهم أو بيوتهم من نواحيها كلّها، و انثالت «1» على أهاليهم و أولادهم ناهبين سأبين. و حذف الفاعل للإيماء بأنّ دخول هؤلاء المتحزّبين عليهم، و دخول غيرهم من العساكر، سيّان في اقتضاء الحكم المرتّب عليه.

ثُمَّ سُئِلُوا عند ذلك الفزع و تلك الرجفة الْفِتْنَةَ الردّة إلى الكفر و مقاتلة المسلمين لَآتَوْها لأعطوها. و قرأ الحجازيّان بالقصر، بمعنى: لجاؤها و فعلوها. وَ ما تَلَبَّثُوا بِها بالفتنة، أو بإعطائها إِلَّا يَسِيراً ريثما يكون السؤال و الجواب من غير توقّف. و قيل: ما لبثوا بالمدينة بعد الارتداد إلّا يسيرا، فإنّ اللّه يهلكهم.

و تحرير المعنى: أنّهم يتعلّلون بإعوار بيوتهم، و يتمحّلون ليفرّوا عن نصرة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنين، و عن مصافّة الأحزاب الّذين ملؤهم هولا و رعبا.

و هؤلاء الأحزاب كما هم لو كبسوا «2» عليهم أرضهم و ديارهم، و عرض عليهم الكفر، و قيل لهم: كونوا على المسلمين، لسارعوا إليه، و ما تعلّلوا بشي ء، و ما ذلك إلّا لمقتهم الإسلام، و شدّة بغضهم لأهله، و حبّهم الكفر و تهالكهم على حزبه.

[سورة الأحزاب (33): الآيات 15 الى 20]

وَ لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ مِنْ قَبْلُ لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ وَ

كانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلاً (15) قُلْ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ أَوِ الْقَتْلِ وَ إِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (16) قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (17) قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ وَ الْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ هَلُمَّ إِلَيْنا وَ لا يَأْتُونَ الْبَأْسَ إِلاَّ قَلِيلاً (18) أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ سَلَقُوكُمْ بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (19)

يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا وَ إِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ يَسْئَلُونَ عَنْ أَنْبائِكُمْ وَ لَوْ كانُوا فِيكُمْ ما قاتَلُوا إِلاَّ قَلِيلاً (20)

______________________________

(1) انثال عليه الناس من كلّ وجه: انصبّوا عليه.

(2) كبسوا دار فلان: أغاروا عليها فجأة.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 355

ثمّ ذكّر هم اللّه سبحانه عهدهم مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالثبات في المواطن، فقال:

وَ لَقَدْ كانُوا عاهَدُوا اللَّهَ عاهد بنو حارثة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مِنْ قَبْلُ قبل الخندق، في يوم أحد، حين فشلوا لا يُوَلُّونَ الْأَدْبارَ لا يرجعون عن مقاتلة العدوّ، و لا ينهزمون. و عن ابن عبّاس: عاهدوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليلة العقبة، أن يمنعوه ممّا يمنعون منه أنفسهم. و قيل: هم قوم غابوا عن بدر، فقالوا: لئن أشهدنا اللّه قتالا لنقاتلنّ. وَ كانَ عَهْدُ اللَّهِ مَسْؤُلًا عن الوفاء به، مجازى عليه. و إنّما جاء بلفظ الماضي تأكيدا.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 356

قُلْ

لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْفِرارُ إِنْ فَرَرْتُمْ مِنَ الْمَوْتِ من حتف الأنف أَوِ الْقَتْلِ في وقت معيّن سبق به القضاء، و جرى عليه القلم وَ إِذاً لا تُمَتَّعُونَ إِلَّا قَلِيلًا أي: إن نفعكم الفرار مثلا في هذا الوقت، فمتّعتم بالتأخير، لم يكن ذلك التمتيع إلّا تمتيعا أو زمانا قليلا.

قُلْ مَنْ ذَا الَّذِي يَعْصِمُكُمْ مِنَ اللَّهِ إِنْ أَرادَ بِكُمْ سُوءاً أَوْ أَرادَ بِكُمْ رَحْمَةً أي: أو يصيبكم بسوء إن أراد بكم رحمة. فاختصر الكلام، كما في قوله: متقلّدا سيفا و رمحا «1». أو حمل الثاني على الأوّل، لما في العصمة من معنى المنع. فلا يقال:

كيف جعلت الرحمة قرينة السوء في العصمة، و لا عصمة إلّا من السوء؟ وَ لا يَجِدُونَ لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَلِيًّا ينفعهم وَ لا نَصِيراً يدفع الضرّ عنهم.

قَدْ يَعْلَمُ اللَّهُ الْمُعَوِّقِينَ مِنْكُمْ المثبّطين غيرهم عن الجهاد مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و هم المنافقون. وَ الْقائِلِينَ لِإِخْوانِهِمْ من ساكني المدينة، من المنافقين أو ضعفة المسلمين أو اليهود: ما محمّد و أصحابه إلّا أكلة «2» رأس، و لو كانوا لحما لالتهمهم أبو سفيان و أصحابه هَلُمَّ إِلَيْنا قرّبوا أنفسكم إلينا، و دعوا محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و هو لغة أهل الحجاز، يسوّون فيه بين الواحد و الجماعة. و أمّا تميم فيقولون: هلمّ يا رجل، و هلمّوا يا رجال. و هو صوت سمّي به فعل متعدّ مثل: احضر و قرّب. و قد ذكر مثل ذلك في الأنعام «3».

وَ لا يَأْتُونَ الْبَأْسَ و لا يحضرون القتال إِلَّا قَلِيلًا إلّا إتيانا قليلا،

______________________________

(1) و صدره:

و رأيت زوجك في الوغى و الوغى: الحرب. و رمحا منصوب بمحذوف يناسبه، أي: متقلّدا سيفا و

حاملا رمحا.

(2) أي: قليلون يشبعهم رأس واحد. و هو جمع آكل. و الالتهام: الابتلاع.

(3) راجع ج 2 ص 477، ذيل الآية 150 من سورة الأنعام.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 357

يخرجون مع المؤمنين، يوهمون أنّهم معهم. أو زمانا قليلا، أو بأسا قليلا، فإنّهم يعتذرون و يثبّطون ما أمكن لهم. أو يخرجون مع المؤمنين، و لكن لا يقاتلون إلّا شيئا قليلا، كقوله: ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا «1».

و قيل: إنّه من تتمّة كلامهم. و معناه: و لا يأتي أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حرب الأحزاب، و لا يقاومونهم إلّا قليلا.

أَشِحَّةً عَلَيْكُمْ بخلاء عليكم بالقتال معكم، أو بالنفقة في سبيل اللّه، أو الظفر، أو الغنيمة. جمع شحيح. و نصبها على الحال من فاعل «يأتون» أو «المعوّقين». أو على الذمّ.

ثمّ أخبر عن جبنهم بقوله: فَإِذا جاءَ الْخَوْفُ رَأَيْتَهُمْ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ خوفا و لو إذا بك تَدُورُ أَعْيُنُهُمْ في أحداقهم كَالَّذِي يُغْشى عَلَيْهِ كنظر المغشيّ عليه، أو كدوران عينيه، أو مشبّهين به، أو مشبّهة أعينهم بعينه مِنَ الْمَوْتِ من معالجة سكرات الموت.

فَإِذا ذَهَبَ الْخَوْفُ و الفزع، و جاء الأمن و الغنيمة، و حيزت الغنائم، و وقعت القسمة سَلَقُوكُمْ آذوكم بِأَلْسِنَةٍ حِدادٍ سليطة ذربة «2»، يطلبون الغنيمة.

و السلق: البسط بقهر، باليد أو باللّسان. و عن قتادة: معناه: بسطوا ألسنتهم فيكم وقت قسمة الغنيمة، يقولون: أعطونا أعطونا، فلستم أحقّ بها منّا.

ثمّ قال: فأمّا عند البأس فأجبن قوم و أخذلهم للحقّ، و أمّا عند الغنيمة فأشحّ قوم. و هو قوله: أَشِحَّةً عَلَى الْخَيْرِ بخلاء بالغنيمة، يشاحّون المؤمنين عند القسمة. و نصبه على الحال أو الذمّ. و ليس بتكرير، لأنّ كلّ واحد منهما مقيّد من وجه.

______________________________

(1) الأحزاب: 20. و سيأتي تفسيرها عن

قريب.

(2) لسان ذرب أي: حديد حادّ.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 358

أُولئِكَ لَمْ يُؤْمِنُوا إخلاصا، و إلّا لما فعلوا ذلك فَأَحْبَطَ اللَّهُ أَعْمالَهُمْ أي: فأظهر بطلانها، إذا لم تثبت لهم أعمال فتبطل. أو أبطل تصنّعهم و نفاقهم.

وَ كانَ ذلِكَ الإحباط عَلَى اللَّهِ يَسِيراً هيّنا، لتعلّق الإرادة به، و عدم ما يمنعه عنه.

ثمّ وصف فرط جبنهم بقوله: يَحْسَبُونَ الْأَحْزابَ لَمْ يَذْهَبُوا أي: لجبنهم يظنّون أنّ الأحزاب لم ينهزموا، و قد انهزموا ففرّوا من الخندق إلى داخل المدينة وَ إِنْ يَأْتِ الْأَحْزابُ كرّة ثانية يَوَدُّوا لَوْ أَنَّهُمْ بادُونَ فِي الْأَعْرابِ تمنّوا أنّهم خارجون إلى البدو، حاصلون بين الأعراب، حذرا من القتل، و تربّصا للدوائر.

يَسْئَلُونَ كلّ قادم من جانب المدينة عَنْ أَنْبائِكُمْ عمّا جرى عليكم وَ لَوْ كانُوا فِيكُمْ هذه الكرّة، و لم يرجعوا إلى المدينة، و كانوا في صفّ القتال معكم ما قاتَلُوا إِلَّا قَلِيلًا رياء و خوفا عن التعيير.

[سورة الأحزاب (33): آية 21]

لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً (21)

و لمّا بيّن سبحانه حال المنافقين، حثّ المؤمنين المخلصين على الجهاد و الصبر عليه، فقال:

لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ خصلة حسنة، من حقّها أن يؤتسى بها، كالثبات في الحرب، و مقاساة الشدائد. أو هو في نفسه قدوة يحسن التأسّي به، كقولك في البيضة: عشرون منّا حديدا، أي: هي في نفسها هذا القدر من الحديد. و قرأ عاصم بضمّ الهمزة «1». و هو لغة.

______________________________

(1) و القراءة الاخرى: إسوة، بكسر الهمزة.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 359

لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ أي: أيّام اللّه و اليوم الآخر خصوصا. أو المعنى: يرجوا ما عند اللّه في الآخرة من الثواب الأبدي

و النعيم السرمدي. و هذا كقولك: رجوت زيدا و فضله، أي: رجوت فضل زيد. و الرجاء يحتمل أن يكون بمعنى الأمل أو الخوف. و «لمن كان» صلة ل «حسنة» أو صفة لها. أو بدل من «لكم»، كقوله: لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ «1». يعني: أنّ الاسوة برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إنّما تكون لمن كان يرجو اللّه و اليوم الآخر.

وَ ذَكَرَ اللَّهَ كَثِيراً و قرن الرجاء بالطاعات الكثيرة، و التوفّر على الأعمال الصالحة، لأنّ المؤتسي بالرسول من كان كذلك.

[سورة الأحزاب (33): آية 22]

وَ لَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ قالُوا هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ ما زادَهُمْ إِلاَّ إِيماناً وَ تَسْلِيماً (22)

ثمّ عاد سبحانه إلى ذكر الأحزاب، فقال: وَ لَمَّا رَأَ الْمُؤْمِنُونَ الْأَحْزابَ الجماعة الّتي تحزّبت على قتال النبيّ مع كثرتهم قالُوا هذا أي: هذا الّذي رأينا.

أو هذا الخطب، أو البلاء. ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وَ صَدَقَ اللَّهُ وَ رَسُولُهُ وعدهم اللّه أن يزلزلوا حتّى يستغيثوه و يستنصروه، في قوله: أَمْ حَسِبْتُمْ أَنْ تَدْخُلُوا الْجَنَّةَ وَ لَمَّا يَأْتِكُمْ مَثَلُ الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلِكُمْ «2». الآية. و

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «سيشتدّ الأمر باجتماع الأحزاب عليكم، و العاقبة لكم عليهم».

و

قال: «إنّهم سائرون إليكم بعد تسع أو عشر».

فلمّا جاء الأحزاب و شخص بهم، و اضطربوا و رعبوا الرعب الشديد، قالُوا: هذا ما وَعَدَنَا اللَّهُ وَ رَسُولُهُ».

______________________________

(1) الأعراف: 75.

(2) البقرة: 214.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 360

وَ ما زادَهُمْ ما رأوا، أو الخطب، أو البلاء إِلَّا إِيماناً وَ تَسْلِيماً لأوامره و مقاديره.

[سورة الأحزاب (33): الآيات 23 الى 24]

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلاً (23) لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ إِنْ شاءَ أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً (24)

روي: أنّ جماعة من الصحابة نذروا إذا لقوا حربا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثبتوا و قاتلوا، حتّى يستشهدوا أو يفتح اللّه على رسوله، فنزلت في شأنهم:

مِنَ الْمُؤْمِنِينَ رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ من الثبات مع الرسول، و المقاتلة لإعلاء الدّين. من: صدقني و كذبني، إذا قال لك الصدق و الكذب، فإنّ المعاهد إذا وفى بعهده

فقد صدق فيه.

فَمِنْهُمْ مَنْ قَضى نَحْبَهُ نذره، بأن قاتل حتّى استشهد، كحمزة و مصعب بن عمير و أنس بن النضر. و النحب: النذر. و استعير للموت، لأنّه كنذر لازم في رقبة كلّ حيوان، فإن مات فقد قضى نحبه، أي: نذره. وَ مِنْهُمْ مَنْ يَنْتَظِرُ الشهادة.

و هم سواهم من خلّص المؤمنين. وَ ما بَدَّلُوا العهد، و لا غيّروه تَبْدِيلًا شيئا من التبديل. و فيه تعريض بمن بدّلوا من أهل النفاق و مرضى القلب.

و

روى الحاكم أبو القاسم الحسكاني بالإسناد عن عمرو بن ثابت، عن أبي إسحاق، عن عليّ عليه السّلام قال: «فينا نزلت: رِجالٌ صَدَقُوا ما عاهَدُوا اللَّهَ فأنا و اللّه المنتظر، و ما بدّلت تبديلا» «1».

______________________________

(1) شواهد التنزيل 2: 5 ح 627.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 361

لِيَجْزِيَ اللَّهُ الصَّادِقِينَ بِصِدْقِهِمْ في العهود وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ بنقض عهودهم إِنْ شاءَ إذا لم يتوبوا أَوْ يَتُوبَ عَلَيْهِمْ إن تابوا. هذا تعليل للمنطوق و المعرّض به في قوله: «وَ ما بَدَّلُوا تَبْدِيلًا». فكأنّ المنافقين قصدوا بالتبديل عاقبة السوء، كما قصد الصادقون المخلصون بالثبات و الوفاء العاقبة الحسنى، فإنّ كلا الفريقين مسوق إلى عاقبته من الثواب و العقاب، فكأنّهما استويا في طلبهما و السعي لتحصيلهما. إِنَّ اللَّهَ كانَ غَفُوراً رَحِيماً لمن تاب.

[سورة الأحزاب (33): آية 25]

وَ رَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا بِغَيْظِهِمْ لَمْ يَنالُوا خَيْراً وَ كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ وَ كانَ اللَّهُ قَوِيًّا عَزِيزاً (25)

ثمّ عاد سبحانه إلى تعداد نعمه على المؤمنين، فقال: وَ رَدَّ اللَّهُ الَّذِينَ كَفَرُوا يعني: الأحزاب بِغَيْظِهِمْ متغيّظين، كقوله: تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ «1» لَمْ يَنالُوا خَيْراً غير ظافرين على المؤمنين. و هما حالان بتداخل أو تعاقب. و يجوز أن تكون الثانية بيانا للأولى أو استئنافا.

وَ كَفَى اللَّهُ الْمُؤْمِنِينَ الْقِتالَ بالريح و

الملائكة و الرعب وَ كانَ اللَّهُ قَوِيًّا على إحداث ما يريده عَزِيزاً غالبا على كلّ شي ء.

و عن ابن مسعود: و

كفى اللّه المؤمنين القتال بعليّ بن أبي طالب، و قتله عمرو بن عبد ودّ، فإنّه كان سبب هزيمة القوم. و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و

روي: أنّ جبرئيل عليه السّلام أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- صبيحة الليلة الّتي انهزم فيها الأحزاب، و رجع المسلمون إلى المدينة، و وضعوا سلاحهم- على فرسه الحيزوم، و الغبار على وجه الفرس و على السرج، فقال: يا رسول اللّه أ تنزع لامتك و الملائكة

______________________________

(1) المؤمنون: 20. زبدة التفاسير، ج 5، ص: 362

لم يضعوا السلاح؟ إنّ اللّه يأمرك بالسير إلى بني قريظة، و أنا عامد إليهم، فإنّ اللّه تعالى داقّهم دقّ البيض على الصفا «1»، و إنّهم لكم طعمة، فأذّن في الناس: أنّ من كان سامعا مطيعا فلا يصلّي العصر إلّا في بني قريظة.

فبعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليّ بن أبي طالب على المقدّمة، و دفع إليه اللواء، و أمره أن ينطلق حتّى يقف بالأصحاب على حصن بني قريظة، ففعل.

و خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على آثارهم، فمرّ على مجلس من الأنصار في بني غنم، ينتظرون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فزعموا أنّه قال: مرّ بكم الفارس آنفا؟

فقالوا: مرّ بنا دحية الكلبي على بغلة شهباء، تحته قطيفة ديباج.

فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ليس ذلك بدحية، و لكنّه جبرئيل عليه السّلام أرسل إلى بني قريظة ليزلزلهم، و يقذف في قلوبهم الرعب.

قالوا: و سار عليّ عليه السّلام حتّى إذا دنا من

الحصن، سمع منهم مقالة قبيحة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فرجع حتّى لقي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالطريق، فقال: يا رسول اللّه! لا عليك أن لا تدنو من هؤلاء الأخابث.

قال: أظنّك سمعت لي منهم أذى؟

فقال: نعم يا رسول اللّه.

فقال: لو قد رأوني لم يقولوا من ذلك شيئا. فلمّا دنا رسول اللّه من حصونهم، قال: يا إخوة القردة و الخنازير هل أخزاكم اللّه و أنزل بكم نقمته؟

فقالوا: يا أبا القاسم! ما كنت جهولا.

فحاصرهم خمسا و عشرين ليلة حتّى أجهدهم الحصار، و قذف اللّه في قلوبهم الرعب.

و كان حييّ بن أخطب دخل مع بني قريظة في حصنهم حين رجعت قريش

______________________________

(1) الصفا جمع الصفاة. و هي: الحجر الضخم. زبدة التفاسير، ج 5، ص: 363

و غطفان. فلمّا أيقنوا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم غير منصرف عنهم حتّى يناجزهم، قال كعب بن أسد: يا معشر يهود! قد نزل بكم من الأمر ما ترون، و إنّي عارض عليكم خلالا ثلاثا، فخذوا أيّها شئتم.

قالوا: ما هنّ؟

قال: نبايع هذا الرجل و نصدّقه. فو اللّه لقد تبيّن لكم أنّه نبيّ مرسل، و أنّه الذي تجدونه في كتابكم، فتأمنوا على دمائكم و أموالكم و نسائكم.

فقالوا: لا نفارق حكم التوراة أبدا، و لا نستبدل به غيره.

قال: فإذا أبيتم عليّ هذا، فهلمّوا لنقتل أبناءنا و نساءنا، ثمّ نخرج إلى محمّد رجالا مصلتين «1» بالسيوف، و لم نترك وراءنا ثقلا يهمّنا، حتّى يحكم اللّه بيننا و بين محمّد. فإن نهلك نهلك و لم نترك وراءنا نسلا يهمّنا. و إن نظهر لنجدنّ النساء و الأبناء.

فقالوا: نقتل هؤلاء المساكين، فما خير في العيش بعدهم.

قال: فإذا أبيتم

عليّ هذا، فإنّ الليلة ليلة السبت، و عسى أن يكون محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أصحابه قد أمنوا فيها، فانزلوا فلعلّنا نصيب منهم غرّة «2».

فقالوا: نفسد سبتنا، و نحدث فيها ما أحدث من كان قبلنا، فأصابهم ما قد علمت من المسخ.

فقال: ما بات رجل منكم منذ ولدته أمّه ليلة واحدة من الدهر حازما.

قال الزهري: و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين سألوه أن يحكّم فيهم رجلا:

اختاروا من شئتم من أصحابي. فاختاروا سعد بن معاذ، فرضي بذلك. فنزلوا على حكم سعد بن معاذ، و رضوا به.

______________________________

(1) أصلت السيف: جرّده من غمده.

(2) الغرّة: الغفلة. زبدة التفاسير، ج 5، ص: 364

فقال سعد: حكمت بقتل مقاتليهم، و سبي ذراريهم و نسائهم.

فكبّر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال: حكمت بحكم اللّه من فوق سبعة أرقعة «1». ثمّ استنزلهم، و خندق في سوق المدينة خندقا، و قدّمهم فضرب أعناقهم، و هم من ثمانمائة إلى تسعمائة. و قيل: كانوا ستّمائة مقاتل، و سبعمائة أسير.

و

قد روي: أنّه أتي بحييّ بن أخطب عدوّ اللّه، مجموعة يداه إلى عنقه، و عليه حلّة فاختيّة، قد شقّها عليه من كلّ ناحية كموضع الأنملة، لئلّا يسلبها. فلمّا بصر برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: أمّا و اللّه ما لمت نفسي على عداوتك، و لكنّه من يخذله اللّه يخذل. ثمّ قال: أيّها الناس! لا بأس بأمر اللّه، كتاب اللّه و قدره، ملحمة كتبت على بني إسرائيل. ثمّ جلس فضرب عنقه. ثمّ قسّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نساءهم و أموالهم على المسلمين.

[سورة الأحزاب (33): الآيات 26 الى 27]

وَ أَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ

مِنْ صَياصِيهِمْ وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ فَرِيقاً تَقْتُلُونَ وَ تَأْسِرُونَ فَرِيقاً (26) وَ أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ وَ دِيارَهُمْ وَ أَمْوالَهُمْ وَ أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً (27)

ثمّ ذكر سبحانه ما فعل بهم، امتنانا على المؤمنين، فقال: وَ أَنْزَلَ الَّذِينَ ظاهَرُوهُمْ عاونوا الأحزاب مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني: قريظة مِنْ صَياصِيهِمْ من حصونهم. جمع صيصية، و هي ما يتحصّن به. و لذلك يقال لقرن الثور و الظبي و شوكة الديك- أي: مخلبه الّتي في ساقه يتحصّن بها-: صيصية.

وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ و ألقى اللّه في قلوبهم الخوف من النبيّ و أصحابه

______________________________

(1) جمع رقيع. و هي السماء عموما، أو سماء الدنيا.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 365

المؤمنين فَرِيقاً تَقْتُلُونَ يعني: الرجال منهم وَ تَأْسِرُونَ فَرِيقاً يعني: الذراري و النساء منهم.

و

روي: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جعل عقارهم للمهاجرين دون الأنصار. فقال الأنصار في ذلك. فقال: إنّكم في منازلكم. و قال عمر: أما تخمّس كما خمّست يوم بدر؟ قال: إنّما جعلت لي هذه طعمة دون الناس. قال: رضينا بما صنع اللّه و رسوله.

و حكى اللّه تعالى عن ذلك بقوله: وَ أَوْرَثَكُمْ أَرْضَهُمْ و أعطاكم مزارعهم وَ دِيارَهُمْ حصونهم وَ أَمْوالَهُمْ و مواشيهم و أثاثهم و نقودهم وَ أَرْضاً لَمْ تَطَؤُها بأقدامكم بعد، و سيفتحها اللّه عليكم. و هي خيبر، فتحها اللّه عليهم بعد بني قريظة. و عن الحسن: هي فارس و الروم. و قيل: مكّة. و قيل: كلّ أرض يفتح إلى يوم القيامة. وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً فيقدر على ذلك.

[سورة الأحزاب (33): الآيات 28 الى 34]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا وَ زِينَتَها فَتَعالَيْنَ أُمَتِّعْكُنَّ وَ أُسَرِّحْكُنَّ

سَراحاً جَمِيلاً (28) وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ الدَّارَ الْآخِرَةَ فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً (29) يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً (30) وَ مَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَّ لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تَعْمَلْ صالِحاً نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ وَ أَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً (31) يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ إِنِ اتَّقَيْتُنَّ فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ وَ قُلْنَ قَوْلاً مَعْرُوفاً (32)

وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَّ وَ لا تَبَرَّجْنَ تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى وَ أَقِمْنَ الصَّلاةَ وَ آتِينَ الزَّكاةَ وَ أَطِعْنَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً (33) وَ اذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَ الْحِكْمَةِ إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً خَبِيراً (34)

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 366

روي: أنّ أزواج النبيّ حين رأين الفتح و النصرة في الغزوات، و كثرة الغنائم، سألنه شيئا منها، و طلبن منه ثياب الزينة و زيادة النفقة، و بالغن في ذلك، و قد تأذّى منه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و اغتمّ، فنزلت:

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ و كنّ يومئذ تسعا: عائشة، و حفصة، و أمّ حبيبة بنت أبي سفيان، و سودة بنت زمعة، و أمّ سلمة بنت أبي اميّة. فهؤلاء من قريش.

و صفيّة بنت حييّ الخيبريّة، و ميمونة بنت الحارث الهلاليّة، و زينب بنت جحش الأسديّة، و جويرية بنت الحارث المصطلقيّة.

إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ الْحَياةَ الدُّنْيا أي: سعة العيش في الدنيا و التنعّم فيها وَ زِينَتَها و زخارفها فَتَعالَيْنَ و أصل «تعال» أن يقول من في المكان المرتفع لمن في

المكان المنخفض، ثمّ كثر حتّى استوت في استعماله الأمكنة جميعا.

أُمَتِّعْكُنَ أعطكنّ متعة الطلاق، أي: كمتعة المطلّقة الّتي لم يسمّ مهرها، و لم يكن مدخولا بها. فإن كانت مدخولا بها و مفروضا لها فالتمتيع سنّة. و قد مرّ تفصيل ذلك في سورة البقرة «1». و قيل: أمتّعكنّ بتوفير المهر.

وَ أُسَرِّحْكُنَّ سَراحاً جَمِيلًا و اطلّقكنّ طلاقا من غير ضرر، فإنّ السراح

______________________________

(1) راجع ج 1 ص 364- 369 ذيل الآية 229- 231 من سورة البقرة.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 367

الجميل الطلاق من غير خصومة، و لا مشاجرة بين الزوجين.

و بعد نزول هذه الآية خيّرهنّ رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم، فاخترنه. فشكر لهنّ اللّه ذلك.

فأنزل لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ «1» الآية. و تقديم التمتيع على التسريح المسبّب عنه، من الكرم و حسن الخلق.

وَ إِنْ كُنْتُنَّ تُرِدْنَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أي: طاعة اللّه و طاعة رسوله وَ الدَّارَ الْآخِرَةَ و ثوابها، و الصبر على ضيق العيش في الدنيا فَإِنَّ اللَّهَ أَعَدَّ لِلْمُحْسِناتِ مِنْكُنَّ أَجْراً عَظِيماً يستحقر دونه الدنيا و زينتها.

و اختلف العلماء في حكم التخيير على أقوال:

أحدها: أنّ الرجل إذا خيّر امرأته فاختارت زواجها، فلا شي ء. و إن اختارت نفسها، تقع تطليقة واحدة. و هو قول ابن مسعود. و إليه ذهب أبو حنيفة و أصحابه.

و ثانيها: أنّه إذا اختارت نفسها تقع ثلاث تطليقات. و إن اختارت زوجها تقع واحدة. و هو قول زيد بن ثابت. و إليه ذهب مالك.

و ثالثها: أنّه إن نوى الطلاق كان طلاقا، و إلّا فلا. و هو مذهب الشافعي.

و رابعها:

أنّه لا يقع بالتخيير طلاق. و إنّما كان للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خاصّة. فلو اخترن أنفسهن لمّا

خيرهنّ لبنّ منه. فأمّا غيره فلا يجوز له ذلك. و هو المرويّ عن أئمّتنا عليهم السّلام.

ثمّ خاطب سبحانه نساء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا نِساءَ النَّبِيِّ مَنْ يَأْتِ مِنْكُنَّ بِفاحِشَةٍ بسيّئة بليغة في القبح. و هي الكبيرة. مُبَيِّنَةٍ ظاهر فحشها. و قيل:

هي عصيانهنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أو ما يضيق به ذرعه، و يغتمّ لأجله. و من قال:

الزنا، فقد أخطأ أفحش الخطأ، لأنّه سبحانه عاصم و رسوله من ذلك في حديث

______________________________

(1) الأحزاب: 52.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 368

الإفك، كما مرّ بيانه «1».

يُضاعَفْ لَهَا الْعَذابُ ضِعْفَيْنِ ضعفي عذاب غيرهنّ، أي: مثليه، لأنّ الذنب منهنّ أقبح من سائر النساء، لمكان النبيّ، و نزول الوحي في بيوتهنّ، فإنّ زيادة القبح تتبع زيادة فضل المذنب، و زيادة النعمة عليه. فمن زاد قبحا ازداد عقابه شدّة. و لذلك كان ذمّ العقلاء للعاصي العالم، أشدّ منه للعاصي الجاهل. و جعل حدّ الحرّ ضعفي حدّ العبد. و عوتب الأنبياء بما لا يعاتب به غيرهم.

و قرأ البصريّان: يضعّف. و ابن كثير و ابن عامر: نضعّف، بالنون، و بناء الفاعل، و نصب «العذاب».

وَ كانَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيراً لا يمنعه عن التضعيف كونهنّ نساء النبيّ. و كيف و هو سببه، فكان داعيا إلى تشديد الأمر عليهنّ.

وَ مَنْ يَقْنُتْ مِنْكُنَ و من يدم و يواظب على الطاعة لِلَّهِ وَ رَسُولِهِ فإنّ القنوت الطاعة. و منه القنوت في الصلاة. و هو المداومة على الدعاء. و لعلّ ذكر اللّه للتعظيم، أو لقوله: وَ تَعْمَلْ صالِحاً فيما بينها و بين ربّها نُؤْتِها أَجْرَها مَرَّتَيْنِ مرّة على الطاعة، و مرّة على طلبهنّ رضا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله

و سلّم بالقناعة و حسن الخلق و طيب المعاشرة.

و قرأ حمزة و الكسائي: و يعمل بالياء، حملا على لفظ «من». و «يؤتها» بالياء أيضا، على أنّ فيه ضمير اسم اللّه.

وَ أَعْتَدْنا لَها رِزْقاً كَرِيماً في الجنّة زيادة على أجرها.

روى أبو حمزة الثمالي عن زيد بن عليّ عليهما السّلام أنّه قال: إنّي لأرجو للمحسن منّا أجرين، و أخاف على المسي ء منّا أن يضاعف له العذاب ضعفين، كما وعد أزواج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

______________________________

(1) راجع ج 4 ص 483، ذيل الآية 11 من سورة النور.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 369

و

روى محمد بن أبي عمير، عن إبراهيم بن عبد الحميد، عن عليّ بن عبد اللّه بن الحسين، عن أبيه، عن عليّ بن الحسين زين العابدين عليه السّلام، أنّه قال له رجل: إنّكم أهل بيت مغفور لكم. قال: فغضب و قال: «نحن أحرى أن يجرى فينا ما أجرى اللّه في أزواج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، من أن نكون كما تقول. إنّا نرى لمحسننا ضعفين من الأجر، و لمسيئنا ضعفين من العذاب. ثمّ قرأ الآيتين».

ثمّ أظهر سبحانه فضيلتهنّ على سائر النسوان بقوله: يا نِساءَ النَّبِيِّ لَسْتُنَّ كَأَحَدٍ مِنَ النِّساءِ أصل أحد وحد، بمعنى الواحد، ثمّ وضع في النفي العامّ، مستويا فيه المذكّر و المؤنّث، و الواحد و الكثير.

و المعنى: لستنّ كجماعة واحدة من جماعات النساء في الفضل، أي: إذا تقصّيت أمّة النساء جماعة جماعة، لم توجد منهنّ جماعة واحدة تساويكنّ في الفضل و السابقة. كما قال ابن عبّاس: معناه: ليس قدركنّ عندي كقدر غيركنّ من النساء الصالحات، أنتنّ أكرم عليّ، و أنا بكنّ أرحم، و ثوابكنّ أعظم، لمكانكنّ من رسول اللّه صلّى اللّه

عليه و آله و سلّم. إِنِ اتَّقَيْتُنَ عن مخالفة حكم اللّه و رضا رسوله فَلا تَخْضَعْنَ بِالْقَوْلِ فلا تجئن بقولكنّ خاضعا ليّنا، أي: لا ترقّقن القول، و لا تلنّ الكلام للرجال، و لا تخاطبن الأجانب مخاطبة تؤدّي إلى طمعهم، فتكنّ كما تفعل المرأة الّتي تظهر الرغبة في الرجال فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ ريبة و فجور وَ قُلْنَ قَوْلًا مَعْرُوفاً حسنا بعيدا عن الريبة، بريئا من التهمة، بجدّ و خشونة من غير لينة.

وَ قَرْنَ فِي بُيُوتِكُنَ من: وقر يقر و قارا، أو من: قرّ يقرّ. حذفت الأولى من راءي «اقررن»، و نقلت كسرتها إلى القاف، فاستغني به عن همزة الوصل، كما تقول: ظلن. و يؤيّده قراءة نافع و عاصم بالفتح، من: اقررن. و هو لغة فيه، كقولك:

ظلن. و يحتمل أن يكون من: قارّ يقارّ إذا اجتمع. و منه: القارّة لاجتماعها.

وَ لا تَبَرَّجْنَ لا تخرجن تَبَرُّجَ الْجاهِلِيَّةِ الْأُولى تبرّجا مثل تبرّج النساء

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 370

في أيّام الجاهليّة القديمة الّتي يقال لها: الجاهليّة الجهلاء. و هي الزمان الّذي ولد فيه إبراهيم عليه السّلام. كانت المرأة تلبس درعا من اللؤلؤ، فتمشي وسط الطريق تعرض نفسها على الرجال. و قيل: ما بين آدم و نوح. و قيل: ما بين إدريس و نوح. و قيل:

زمن داود و سليمان. و الجاهليّة الاخرى ما بين عيسى و محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قيل:

الجاهليّة الاولى جاهليّة الكفر قبل الإسلام، و الجاهليّة الاخرى جاهليّة الفسوق في الإسلام. و المعنى: لا تظهرن زينتكنّ كما كنّ يظهرن ذلك.

و قيل: التبرّج التبختر و التكبّر في المشي. و قيل: هو أن تلقي الخمار على رأسها، و لا تشدّه، فتواري قلائدها و قرطيها «1»،

فيبدو ذلك منها.

وَ أَقِمْنَ الصَّلاةَ وَ آتِينَ الزَّكاةَ وَ أَطِعْنَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ في سائر ما أمر كنّ به و نهاكنّ عنه. أمرهنّ أمرا خاصّا بالصلاة و الزكاة، ثمّ جاء به عامّا في جميع الطاعات، لأنّ هاتين الطاعتين- البدنيّة و الماليّة- هما أصل الطاعات، من اعتنى بهما حق اعتنائه جرّتاه إلى ما وراءهما.

ثمّ قال سبحانه: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ الذنب المدنّس لعرضكم أَهْلَ الْبَيْتِ نصب على النداء أو المدح. و تعريف البيت لأنّ المراد به بيت النبوّة و الرسالة. و العرب تسمّي ما يلتجأ إليه بيتا. و لهذا سمّوا الأنساب بيوتا، و قالوا: بيوتات العرب، يريدون النسب. و بيت النبوّة و الرسالة كبيت النسب.

وَ يُطَهِّرَكُمْ عن المعاصي تَطْهِيراً.

استعار للذنوب الرجس، و للتقوى الطهر، لأنّ عرض المقترف للمقبّحات يتلوّث بها و يتدنّس، كما يتلوّث بدنه بالأرجاس. و أمّا المحسّنات فالعرض معها نقيّ مصون، كالثوب الطاهر. و في هذه الاستعارة ما ينفّر أولي الألباب عمّا كرهه اللّه تعالى لعباده و نهاهم عنه، و يرغبّهم فيما رضيه لهم و أمرهم به.

______________________________

(1) القرط: ما يعلّق في شحمة الأذن من درّة و نحوها.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 371

و اعلم أنّ الامّة اتّفقوا بأجمعهم على أنّ المراد بأهل البيت في هذه الآية أهل بيت نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. ثمّ اختلفوا، فقال عكرمة: أراد أزواج النبيّ، لأنّ أوّل الآية متوجّه إليهنّ. و قال أبو سعيد الخدري، و أنس بن مالك، و واثلة بن الأسقع، و عائشة، و امّ سلمة: إنّ الآية مختصّة برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و عليّ، و فاطمة، و الحسن، و الحسين عليهم السّلام.

و

ذكر أبو حمزة الثمالي في تفسيره: حدّثني

شهر بن حوشب، عن امّ سلمة، قالت: «جاءت فاطمة إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تحمل حريرة «1» لها. فقال: ادعي زوجك و ابنيك. فجاءت بهم فطعموا، ثمّ ألقى عليهم كساء له خيبريّا، و قال: اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي و عترتي، فأذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا. فقلت: يا رسول اللّه و أنا معهم؟ قال: أنت إلى خير».

و

روى الثعلبي في تفسيره أيضا بالإسناد عن امّ سلمة: «أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان في بيتها، فأتته فاطمة عليها السّلام ببرمة «2» فيها حريرة. فقال لها: أدعي زوجك و ابنيك.

فذكرت الحديث نحو ذلك. ثمّ قالت: فأنزل اللّه تعالى: «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ» الآية. قالت:

فأخذ فضل الكساء فغشّاهم به، ثمّ أخرج يده فألوى بها إلى السماء، ثمّ قال: اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي و حامتي، فأذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا. فأدخلت رأسي البيت و قلت: أنا معكم يا رسول اللّه؟ قال: إنّك إلى خير».

و

بإسناده قال مجمع: دخلت مع امّي على عائشة، فسألتها امّي: أ رأيت خروجك يوم الجمل؟ قالت: إنّه كان قدرا من اللّه. فسألتها عن عليّ. فقالت:

تسأليني عن أحبّ الناس كان إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و زوج أحبّ الناس كان إلى رسول اللّه. لقد رأيت عليّا و فاطمة و حسنا و حسينا، و جمع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بثوب

______________________________

(1) الحريرة: الدقيق يطبخ بلبن أو دسم.

(2) البرمة: القدر من الحجر. زبدة التفاسير، ج 5، ص: 372

عليهم، ثمّ قال: «اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي و حامتي، فأذهب عنهم الرجس و طهّرهم تطهيرا». قالت: فقلت: يا رسول اللّه! أنا من أهلك؟ قال: «تنحّي فإنّك

إلى خير».

و

بإسناده عن أبي سعيد الخدري، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «نزلت هذه الآية في خمسة: فيّ، و في عليّ، و حسن، و حسين، و فاطمة».

و

روى السيّد أبو الحمد، قال: حدّثنا الحاكم أبو القاسم الحسكاني، قال:

حدّثونا عن أبي بكر السبيعي، قال: حدّثنا أبو عروة الحرّاني، قال: حدّثنا ابن مصغي، قال: حدّثنا عبد الرحيم بن واقد، عن أيّوب بن يسار، عن محمد بن المنكدر، عن جابر، قال: نزلت هذه الآية على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ليس في البيت إلّا فاطمة و الحسن و الحسين و عليّ، «إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ».

فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «اللّهمّ هؤلاء أهلي» «1».

و

حدّثنا السيّد أبو الحمد، قال: حدّثنا الحاكم أبو القاسم، بإسناده عن زاذان، عن الحسن بن عليّ عليهما السّلام، قال: «لمّا نزلت آية التطهير جمعنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إيّاه في كساء لامّ سلمة خيبريّ، ثمّ قال: اللّهمّ هؤلاء أهل بيتي و عترتي» «2».

و الروايات في هذا كثيرة من طريق العامّة و الخاصّة، لو قصدنا إلى إيرادها لطال الكتاب، و فيما أوردناه كفاية.

و استدلّت الشيعة على اختصاص الآية بهؤلاء الخمسة عليهم السلام، بأن قالوا: إنّ لفظة «إنّما» محقّقة لما أثبت بعدها، نافية لما لم يثبت. فإن قول القائل: إنّما لك عندي درهم، و إنّما في الدار زيد، يقتضي أنّه ليس عنده سوى الدرهم، و ليس في الدار سوى زيد.

إذا تقرّر ذلك، فلا تخلو الإرادة في الآية: أن تكون هي الإرادة المحضة، أو

______________________________

(1) شواهد التنزيل 2: 29 ح 648.

(2) شواهد التنزيل 2: 30 ح 649.

زبدة التفاسير، ج 5،

ص: 373

الإرادة الّتي يتبعها التطهير و إذهاب الرجس. و لا يجوز الوجه الأوّل، لأنّ اللّه سبحانه قد أراد من كلّ مكلّف هذه الإرادة المطلقة. فلا اختصاص لها بأهل البيت دون سائر الخلق. و لأنّ هذا القول يقتضي المدح و التعظيم لهم بغير شكّ و لا شبهة، و لا مدح في الإرادة المجرّدة. فثبت الوجه الثاني، و في ثبوته ثبوت عصمة المعنيّين بالآية من جميع القبائح. و قد علمنا أنّ من عدا من ذكرناه من أهل البيت غير مقطوع على عصمته، فثبت أنّ الآية مختصّة بهم، لبطلان تعلّقها بغيرهم.

إن قلت: إنّ صدر الآية و ما بعدها في الأزواج.

قلت: إنّ هذا لا ينكره من عرف عادة الفصحاء في كلامهم، فإنّهم يذهبون من خطاب إلى غيره و يعودون إليه. و القرآن من ذلك مملوء. و كذلك كلام العرب و أشعارهم.

و إذا عرفت هذا فاعلم أنّ ما قال البيضاويّ في تفسيره: «و تخصيص الشيعة أهل البيت بفاطمة و عليّ و ابنيهما، لما

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خرج ذات غدوة، و عليه مرط «1» مرحّل من شعر أسود، فجلس فأتت فاطمة فأدخلها فيه، ثمّ جاء عليّ فأدخله فيه، ثمّ جاء الحسن و الحسين فأدخلهما فيه. ثمّ قال: إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ

و الاحتجاج بذلك على عصمتهم، و كون إجماعهم حجّة، ضعيف، لأنّ التخصيص بهم لا يناسب ما قبل الآية و ما بعدها.

و الحديث يقتضي أنّهم أهل البيت، لا أنّه ليس غيرهم» «2».

كلام «3» صادر من غير رويّة و بصيرة، بل محض مكابرة، و عين عناد. اللّهمّ

______________________________

(1) المرط: كساء من صوف و نحوه يؤتزر به. و المرحّل من الثياب: ما أشبهت نقوشه

رحال الإبل.

(2) أنوار التنزيل 4: 163.

(3) خبر «أنّ» في قوله في بداية الفقرة السابقة: أنّ ما قال البيضاوي.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 374

ثبّتنا على ولاء أهل بيت نبيّك، و أعذنا من زلّة أقدامنا على جادّة محبّتهم و مودّتهم، الّتي هي الصراط المستقيم، و المنهج القويم، و اعصمنا من نزغات الشيطان المؤدّية إلى الهلاك الأبدي، و الخسران السرمدي في يوم الدين، بحقّ محمّد خاتم النبيّين، و أهل بيته المعصومين.

ثمّ عاد إلى ذكر أزواج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: وَ اذْكُرْنَ ما يُتْلى فِي بُيُوتِكُنَّ مِنْ آياتِ اللَّهِ وَ الْحِكْمَةِ من الكتاب الجامع بين الأمرين، أي: انّه آيات بيّنات تدلّ على صدق النبوّة، لأنّه معجزة بنظمه، و حكمة و علوم و شرائع. و فيه تذكير بما أنعم اللّه عليهنّ، حيث جعل بيوتهنّ مهابط الوحي، و ما شاهدن من آثار الوحي ممّا يوجب قوّة الإيمان، و الحرص على الطاعة، حثّا على الانتهاء و الائتمار فيما كلّفن به.

إِنَّ اللَّهَ كانَ لَطِيفاً في تدبير ما يصلح في الدين خَبِيراً عليما بأفعال العباد. أو لطيفا بأوليائه، خبيرا بجميع خلقه.

[سورة الأحزاب (33): آية 35]

إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِماتِ وَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ الْقانِتِينَ وَ الْقانِتاتِ وَ الصَّادِقِينَ وَ الصَّادِقاتِ وَ الصَّابِرِينَ وَ الصَّابِراتِ وَ الْخاشِعِينَ وَ الْخاشِعاتِ وَ الْمُتَصَدِّقِينَ وَ الْمُتَصَدِّقاتِ وَ الصَّائِمِينَ وَ الصَّائِماتِ وَ الْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ الْحافِظاتِ وَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَ الذَّاكِراتِ أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً (35)

قال مقاتل بن حيّان: لمّا رجعت أسماء بنت عميس من الحبشة مع زوجها جعفر بن أبي طالب، دخلت على نساء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقالت: هل نزل فينا شي ء

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 375

من القرآن؟

قلن: لا. فأتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالت: يا رسول اللّه إنّ النساء لفي خيبة و خسار. فقال: و ممّ ذلك؟ فقالت: لأنّهنّ لا يذكرن بخير كما يذكر الرجال، فنخاف أن لا يقبل منّا طاعة. فنزلت:

إِنَّ الْمُسْلِمِينَ وَ الْمُسْلِماتِ

الداخلين في السلم، المنقادين لحكم اللّه.

و الداخلات فيه، و المنقادات له. وَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ المصدّقين بما يجب أن يصدّق به من الرجال و النساء وَ الْقانِتِينَ وَ الْقانِتاتِ المداومين على الطاعات منهما وَ الصَّادِقِينَ وَ الصَّادِقاتِ في النيّة، و القول، و العمل وَ الصَّابِرِينَ وَ الصَّابِراتِ على الطاعة، و عن المعاصي وَ الْخاشِعِينَ وَ الْخاشِعاتِ المتواضعين و المتواضعات للّه، بقلوبهم و جوارحهم. و قيل: الّذين إذا صلّوا لم يعرفوا من عن يمينهم و شمالهم، لفرط خشيتهم للّه. وَ الْمُتَصَدِّقِينَ وَ الْمُتَصَدِّقاتِ المخرجين الصدقات بما وجب في أموالهم من الزكاة و غيرها وَ الصَّائِمِينَ وَ الصَّائِماتِ الصوم المفروض وَ الْحافِظِينَ فُرُوجَهُمْ وَ الْحافِظاتِ فروجهنّ عن الحرام. حذف لدلالة الكلام عليه. و كذلك قوله: وَ الذَّاكِرِينَ اللَّهَ كَثِيراً وَ الذَّاكِراتِ بقلوبهم و ألسنتهم.

روى أبو سعيد الخدري عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «إذا أيقظ الرجل أهله من الليل، فتوضّئا و صلّيا، كتبا من الذّاكرين اللّه كثيرا و الذاكرات».

و قال مجاهد: لا يكون العبد من الذاكرين اللّه كثيرا، حتّى يذكر اللّه قائما، و قاعدا و مضطجعا.

و

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «من بات على تسبيح فاطمة عليها السّلام، كان من الذاكرين اللّه كثيرا و الذاكرات».

أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ مَغْفِرَةً لما اقترفوا من الصغائر، لأنّهنّ مكفّرات وَ أَجْراً عَظِيماً على طاعتهم. و الآية و عدلهنّ و لأمثالهنّ على

الطاعة و التدرّع بهذه الخصال.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 376

و قيل: لمّا نزل في أزواج النبيّ ما نزل، قالت نساء المسلمين: فما نزل فينا شي ء؟ فنزلت هذه الآية.

و اعلم أنّ الفرق بين عطف الإناث على الذكور، و عطف الزوجين على الزوجين: أنّ الأوّل نحو قوله: ثَيِّباتٍ وَ أَبْكاراً «1». في أنّهما جنسان مختلفان، إذا اشتركا في حكم لم يكن بدّ من توسيط العاطف بينهما. و الثاني من عطف الصفة على الصفة بحرف الجمع، فكان معناه: أن الجامعين و الجامعات لهذه الطاعات. و في الأخير العطف غير واجب، و لذلك ترك في قوله: مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ ... «2».

[سورة الأحزاب (33): الآيات 36 الى 40]

وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ ضَلَّ ضَلالاً مُبِيناً (36) وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَ اتَّقِ اللَّهَ وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ وَ تَخْشَى النَّاسَ وَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً زَوَّجْناكَها لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ مَفْعُولاً (37) ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً (38) الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلاَّ اللَّهَ وَ كَفى بِاللَّهِ حَسِيباً (39) ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (40)

______________________________

(1) التحريم: 5.

(2) التحريم: 5.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 377

روي: أنّ رسول اللّه صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم خطب زينب بنت جحش الأسديّة بنت عمّته اميمة بنت عبد المطّلب لمولاه زيد بن حارثة، فأبت و أبى أخوها عبد اللّه. فنزلت.

وَ ما كانَ لِمُؤْمِنٍ وَ لا مُؤْمِنَةٍ ما صحّ له و لا لها إِذا قَضَى اللَّهُ وَ رَسُولُهُ أَمْراً إن أوجبه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ألزمه. و ذكر «اللّه» لتعظيم أمره، و الإشعار بأنّ قضاءه قضاء اللّه. أَنْ يَكُونَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ مِنْ أَمْرِهِمْ أن يختاروا من أمرهم شيئا، بل يجب عليهم أن يجعلوا اختيارهم تبعا لاختيار اللّه و رسوله. و الخيرة ما يتخيّر. و جمع الضمير الأوّل لعموم «مؤمن ... و مؤمنة» من حيث إنّهما في سياق النفي. و جمع الثاني للتعظيم. و قرأ الكوفيّون: يكون بالياء.

وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فيما يختاران له فَقَدْ ضَلَّ ضَلالًا مُبِيناً بيّن الانحراف عن الصواب.

و لمّا نزلت هذه الآية قال عبد اللّه و زينب: رضينا يا رسول اللّه. فأنكحها إيّاه، و ساق عنه إليها عشرة دنانير، و ستّين درهما مهرا، و خمارا، و ملحفة، و درعا، و إزارا، و خمسين مدّا من طعام، و ثلاثين صاعا من تمر.

و

قيل: إنّ هذه الآية نزلت في امّ كلثوم بنت عقبة بن أبي معيط. و هي أوّل من هاجر من النساء، و وهبت نفسها للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فقال: قد قبلت، و زوّجها زيدا.

فسخطت هي و أخوها، و قالا: إنّما أردنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فزوّجنا عبده.

و

ذكر عليّ بن إبراهيم في تفسيره: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان شديد الحبّ

زبدة التفاسير، ج 5، ص:

378

لزيد، و كان إذا أبطأ عليه زيد أتى منزله فيسأل عنه. فأبطأ عليه يوما، فأتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منزله، فإذا زينب جالسة وسط حجرتها، تسحق طيبا بفهر «1» لها، فدفع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الباب، فلمّا نظر إليها قال: سبحان خالق النور، تبارك اللّه أحسن الخالقين، و رجع.

فجاء زيد، و أخبرته زينب بما كان، و ألقى اللّه في نفسه كراهة صحبتها و الرغبة عنها لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فقال لها: لعلّك وقعت في قلب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فهل لك أن أطلّقك حتّى يتزوّجك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟

فقالت: أخشى أن تطلّقني و لا يتزوّجني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فجاء زيد إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قال: يا رسول اللّه إنّي أريد أن أفارق صاحبتي.

فقال: ما لك أرابك منها شي ء؟

قال: لا و اللّه ما رأيت منها إلّا خيرا، و لكنّها لشرفها تتعظّم عليّ و تؤذيني.

فقال له: أمسك عليك زوجك، و اتّق اللّه. ثمّ طلّقها بعد. فنزلت:

وَ إِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ

بتوفيقه للإسلام الّذي هو أجلّ النعم، و توفيقك لعتقه و اختصاصه و محبّته وَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِ بما وفّقك اللّه بإعتاقه. فهو متقلّب في نعمة اللّه و نعمة رسوله. و هو زيد بن حارثة. أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ يعني: زينب بنت جحش وَ اتَّقِ اللَّهَ في أمرها، فلا تطلّقها ضرارا أو تعلّلا بتكبّرها. قصد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بذلك نهي تنزيه لا تحريم، لأنّ الأولى أن لا

يطلّق. و قيل:

أراد: اتّق اللّه فلا تذمّها بالنسبة إلى الكبر و أذى الزوج.

وَ تُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ و هو نكاحها إن طلّقها، أو إرادة طلاقها وَ تَخْشَى النَّاسَ تعييرهم إيّاك به، بأن يقولوا: أمره بطلاقها ثمّ تزوّجها

______________________________

(1) الفهر: حجر رقيق تسحاق به الأدوية.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 379

وَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ إن كان فيه ما يخشى. و الواو للحال. و ليست المعاتبة على الإخفاء وحده، فإنّه حسن، بل على الإخفاء مخافة ما قاله الناس، و إظهار ما ينافي إضماره، فإنّ الأولى في أمثال ذلك أن يصمت أو يفوّض أمره إلى اللّه، و لا يقول:

أمسك عليك زوجك مخافة الناس.

روي عن عليّ بن الحسين عليه السّلام: إنّ الّذي أخفاه في نفسه هو أنّ اللّه سبحانه أعلمه أنها ستكون من أزواجه. فقال: لم قلت أمسك عليك زوجك، و قد أعلمتك أنّها ستكون من أزواجك».

و هذا التأويل مطابق للآية. و ذلك أنّه سبحانه أعلم أنّه يبدي ما أخفاه، و لم يظهر غير التزويج، فقال: «زَوَّجْناكَها». فلو كان الّذي أضمره محبّتها أو إرادة طلاقها لأظهر اللّه تعالى ذلك، مع وعده بأنّه يبديه. فدلّ ذلك على أنّه إنّما عوتب على قوله: «أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ» مع علمه بأنّها ستكون زوجته، و كتمانه ما أعلمه اللّه به، حيث استحيا أن يقول لزيد: إنّ الّتي تحتك ستكون امرأتي.

و قال البلخي: و يجوز أن يكون أيضا على ما يقولونه: إنّ النبيّ استحسنها، فتمنّى أن يفارقها زيد فيتزوّجها. و كتم ذلك، لأنّ هذا التمنّي قد طبع عليه البشر، و لا حرج على أحد في أن يتمنّى شيئا استحسنه.

و لم يرد بقوله: «وَ اللَّهُ أَحَقُّ أَنْ تَخْشاهُ» خشية التقوى، لأنّه صلّى اللّه عليه و آله

و سلّم كان يتّقي اللّه حقّ تقاته، و يخشاه فيما يجب أن يخشى فيه. و لكنّه أراد خشية الاستحياء، لأنّ الحياء كان غالبا على شيمته الكريمة، كما قال: إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ. «1» فَلَمَّا قَضى زَيْدٌ مِنْها وَطَراً حاجة، و تقاصرت عنها همّته، و طابت عن مفارقتها، و لم يبق في قلبه ميل إليها، و وحشة من فراقها، فإنّ معنى القضاء هو

______________________________

(1) الأحزاب: 53.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 380

الفراغ من الشي ء بالتمام، فطلّقها و انقضت عدّتها. و قيل: قضاء الوطر كناية عن الطلاق، مثل: لا حاجة لي فيك. زَوَّجْناكَها أي: أذنّا لك في تزويجها.

ثمّ علّل التزويج بقوله: لِكَيْ لا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْواجِ أَدْعِيائِهِمْ إِذا قَضَوْا مِنْهُنَّ وَطَراً أي: إنّما فعلنا ذلك توسعة على المؤمنين، حتّى لا يكون عليهم إثم في أن يتزوّجوا أزواج أدعيائهم الّذين تبنّوهم، إذا قضى الأدعياء منهنّ حاجتهم و فارقوهنّ. فبيّن سبحانه أنّ الغرض في ذلك أن لا يجري المتبنّى في تحريم امرأته إذا طلّقها على المتبنّي، مجرى الابن من النسب و الرضاع، في تحريم امرأته إذا طلّقها على الأب. و هذا دليل على أنّ حكمه و حكم الأمّة واحد، إلّا ما خصّه الدليل.

وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ أمره الّذي يريده مَفْعُولًا يكون لا محالة، كما كان من تزويج زينب، و من نفي الحرج عن المؤمنين في عدم إجراء أزواج المتبنّين في تحريمهنّ عليهم، بعد انقطاع علائق الزواج بينهم و بينهنّ.

روى ثابت عن أنس بن مالك قال: لمّا انقضت عدّة زينب، قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لزيد: ما أجد أحدا أوثق في نفسي منك، اخطب عليّ زينب. قال زيد:

فانطلقت، فقلت: يا زينب! أبشري

أرسلني نبيّ اللّه يذكرك. و نزل القرآن، و جاء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فدخل عليها بغير إذن، لقوله تعالى: «زَوَّجْناكَها».

و

في رواية اخرى: قال زيد: فانطلقت فإذا هي تخمّر عجينها. فلمّا رأيتها عظمت في نفسي، حتّى ما أستطيع أن أنظر إليها، حين علمت أنّ رسول اللّه ذكرها، فولّيتها ظهري و قلت: يا زينب أبشري! إن رسول اللّه يخطبك. ففرحت بذلك، و قالت: ما أنا بصانعة شيئا حتّى أوامر ربّي. فقامت إلى مسجدها، و نزل:

«زوّجناكها». فتزوّجها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و دخل بها. و ما أولم على امرأة من نسائه ما أو لم عليها، ذبح شاة، و أطعم الناس الخبز و اللحم حتّى امتدّ النهار.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 381

و

عن الشعبي قال: كانت زينب تقول للنبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّي لأدلّ «1» عليك بثلاث، ما من نسائك امرأة تدلّ بهنّ: جدّي و جدّك واحد، و إنّي أنكحنيك اللّه في السماء، و إنّ السفير لي جبرئيل عليه السّلام. فكانت تفتخر على سائر نساء النبيّ و تقول: زوّجني اللّه من النبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم، و أنتنّ إنّما زوّجكنّ أولياؤكن.

ما كانَ عَلَى النَّبِيِّ مِنْ حَرَجٍ من إثم و ضيق فِيما فَرَضَ اللَّهُ لَهُ قسّم له و قدّر. من قولهم: فرض له في الديوان. و منه: فروض العسكر لأرزاقهم، أي: فيما أحلّ اللّه له، بل أوجب اللّه عليه. سُنَّةَ اللَّهِ اسم وضع موضع المصدر. و كأنّه قيل:

سنّ اللّه ذلك سنّة. فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ من الأنبياء الماضين. و هو أن لا يحرّج عليهم في الإقدام على ما أباح لهم، و وسّع عليهم في

باب النكاح و غيره. و قد كانت تحتهم المهائر «2» و السراري. و كان لداود مائة امرأة، و لسليمان ثلاثمائة امرأة، و سبعمائة سرّيّة. وَ كانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَراً مَقْدُوراً قضاء مقضيّا، و حكما مبتوتا.

الَّذِينَ يُبَلِّغُونَ رِسالاتِ اللَّهِ صفة ل «الَّذِينَ خَلَوْا» أو مدح لهم، منصوب أو مرفوع. و المعنى: الّذين يؤدّون أحكام اللّه إلى من بعثوا إليهم، و لا يكتمونها.

وَ يَخْشَوْنَهُ وَ لا يَخْشَوْنَ أَحَداً إِلَّا اللَّهَ فيما يتعلّق بالأداء و التبليغ. و هذا تعريض بعد تصريح. و في ذلك دلالة على أنّ الأنبياء لا يجوز عليهم التقيّة في تبليغ الرسالة.

فإن قلت: فكيف قال لنبيّنا صلى اللّه عليه و آله و سلّم: وَ تَخْشَى النَّاسَ

قلت: لم يكن ذلك فيما يتعلّق بالتبليغ، و إنّما خشي عليه السّلام المقالة القبيحة فيه.

و العاقل كما يتحرّز عن المضارّ يتحرّز من إساءة الظنون به. و القول السيّ ء فيه، و لا يتعلّق شي ء من ذلك بالتكليف.

______________________________

(1) لأدلّ من الدلال بمعنى: التدلّل و التلطّف و الافتخار.

(2) جمع المهيرة، و هي الحرّة الغالية المهر. و السراري جمع السّريّة، و هي الأمة الّتي تقام في بيت.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 382

وَ كَفى بِاللَّهِ حَسِيباً كافيا للمخاوف، أو محاسبا فينبغي أن لا يخشى إلّا منه.

روي: أنّه عليه السّلام لمّا تزوّج زينب بنت جحش، قال الناس: إنّ محمّدا تزوّج امرأة ابنه، فقال سبحانه ردّا عليهم:

ما كانَ مُحَمَّدٌ أَبا أَحَدٍ مِنْ رِجالِكُمْ على الحقيقة، فيثبت بينه و بينه ما بين الوالد و الولد من حرمة المصاهرة. و لمّا لم يكن صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أبا زيد في الحقيقة، فلا يحرم عليه زوجته. و لا ينتقض عمومه بكونه أبا للطاهر و القاسم و إبراهيم،

لأنّهم لم يبلغوا مبلغ الرجال. و لا

بقوله في شأن الحسن و الحسين: «ابناي هذان إمامان قاما أو قعدا».

لأنّ المراد بالأب في الآية أب الرجل بلا واسطة، كما هو المتبادر، و هما لم يبلغا حدّ الرجال، و كانا ولد ولده.

وَ لكِنْ رَسُولَ اللَّهِ و كلّ رسول أبو أمّته، لا مطلقا، بل من حيث إنّه شفيق ناصح لهم، واجب التوقير و الطاعة عليهم. و زيد منهم، و ليس بينه و بينه ولادة. أو و لكن رسول اللّه، فلا يترك ما أباحه اللّه بقول الجهّال.

وَ خاتَمَ النَّبِيِّينَ و آخرهم الّذي ختمهم، أو ختموا به، على قراءة عاصم بالفتح. و لو كان له ابن بالغ لاق بمنصبه أن يكون نبيّا، كما

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في إبراهيم حين توفّي: «لو عاش لكان نبيّا».

و لا يقدح نزول عيسى بعده، لأنّ معنى كونه آخر الأنبياء أنّه لا ينبّأ أحد بعده، و عيسى ممّن نبّئ قبله، و حين ينزل يكون على دينه، مصلّيا إلى قبلته، فكان بعض أمّته.

وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً فيعلم من يليق بأن يختم به النبوّة، و كيف ينبغي شأنه. و

قد صحّ الحديث عن جابر بن عبد اللّه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «إنّما مثلي في الأنبياء كمثل رجل بنى دارا فأكملها و حسّنها إلّا موضع لبنة، فكان من دخل فيها فنظر إليها، قال: ما أحسنها إلّا موضع هذه اللبنة. قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: فأنا موضع اللبنة، ختم

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 383

بي الأنبياء». أورده البخاري «1» و مسلم «2» في صحيحهما.

[سورة الأحزاب (33): الآيات 41 الى 44]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً (41) وَ سَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ

أَصِيلاً (42) هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلائِكَتُهُ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً (43) تَحِيَّتُهُمْ يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ سَلامٌ وَ أَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً (44)

و لمّا أعطى اللّه العباد أفضل نعمه، و هو إرسال خاتم النّبيين عليهم، أمرهم بأنواع ذكره، من التحميد و التسبيح و التهليل و التكبير، شكرا على أن جعلهم من أمّة خاتم النبيين صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اذْكُرُوا اللَّهَ ذِكْراً كَثِيراً أثنوا عليه بضروب الثناء، من التقديس و التحميد و التهليل و التمجيد، و سائر ما هو أهله في جميع الأوقات.

روي عن ابن عبّاس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من عجز عن الليل أن يكابده، و جبن عن العدوّ أن يجاهده، و بخل بالمال أن ينفقه، فليكثر ذكر اللّه عزّ و جلّ».

وَ سَبِّحُوهُ و نزّهوه عن جميع ما لا يليق به بُكْرَةً وَ أَصِيلًا أوّل النهار و آخره خصوصا. و تخصيصهما بالذكر للدلالة على فضلهما على سائر الأوقات، لكونهما مشهودين، كتخصيص جبرئيل و ميكائيل بين الملائكة ليبيّن فضلهما عليهم، و كإفراد التسبيح من جملة الأذكار، لأنّه العمدة فيها، فإنّ معناه تنزيه ذاته عمّا لا يجوز عليه من الصفات و الأفعال، و تبرئته من القبائح.

______________________________

(1) صحيح البخاري 4: 226.

(2) صحيح مسلم 4: 1791 ح 23.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 384

و قيل: الفعلان موجّهان إليهما، كقولك: صم و صلّ يوم الجمعة. و قيل: المراد بالتسبيح صلاة الفجر و العشاءين، لأنّ أداءها أشقّ، و مراعاتها أشدّ، و لأنّ ملائكة الليل و النهار يجتمعون فيهما.

و قال الكلبي: أمّا «بكرة» فصلاة الفجر، و أمّا «أصيلا» فصلاة الظهر و العصر و المغرب و العشاء.

و سمّي تسبيحا لما فيه من التسبيح و التنزيه.

و عن قتادة: معناه قولوا: سبحان اللّه، و الحمد للّه، و لا إله إلّا اللّه، و اللّه أكبر، و لا حول و لا قوّة إلّا باللّه.

و عن مجاهد: هذه الكلمة يقولها الطاهر و الجنب.

و

روي عن أئمّتنا عليهم السّلام أنّهم قالوا: من قالها ثلاثين مرّة فقد ذكر اللّه كثيرا.

و

عن زرارة و حمران بن أعين عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من سبّح تسبيح فاطمة عليها السّلام فقد ذكر اللّه ذكرا كثيرا».

و

روى الواحدي بإسناده عن الضحّاك بن مزاحم، عن ابن عبّاس قال: «جاء جبرئيل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا محمّد! قل: سبحان اللّه، و الحمد للّه، و لا إله إلّا اللّه، و اللّه أكبر، و لا حول و لا قوّة إلّا باللّه العظيم، عدد ما علم، وزنة ما علم، و مل ء ما علم.

فإنّ من قالها كتب اللّه له بها ستّ خصال: كتب من الذاكرين ذكرا كثيرا، و كان أفضل من ذكره بالليل و النهار، و كنّ له غرسا في الجنّة، و تحاتّت عنه خطاياه كما تحات ورق الشجرة اليابسة، و ينظر اللّه إليه، و من نظر اللّه إليه لم يعذّبه.

ثمّ حثّ اللّه عباده على إكثار أنواع ذكره، فأخبرهم أنّه عزّ شأنه مع غناه عنكم يذكركم، فأنتم أولى بأن تذكروه، و تقبلوا إليه، مع احتياجكم إليه، فقال:

هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ بالرحمة و المغفرة وَ مَلائِكَتُهُ بالاستغفار لكم، و الاهتمام بما يصلحكم. و المراد بالصلاة المشترك بين الرحمة و الاستغفار و هو العناية بصلاح أمرهم، و ظهور شرفهم. و لا شبهة أنّ استغفار الملائكة، و دعاءهم

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 385

للمؤمنين، ترحّم عليهم، سيّما و

هو سبب الرحمة، من حيث إنّهم مجابو الدعوة.

و قيل: لمّا كان من شأن المصلّي أن ينعطف في ركوعه و سجوده، استعير لمن ينعطف على غيره حنوّا عليه و ترؤّفا، كعائد المريض في انعطافه عليه، و المرأة في حنوّها على ولدها، ثمّ كثر حتّى استعمل في الرحمة و الترؤّف. و منه قولهم: صلّى اللّه عليك، أي: ترحّم عليك و ترأّف. فالمراد بالصلاة هاهنا الرحم و الانعطاف المعنويّ، كما أنّ الصلاة المشتملة على الركوع و السجود هي و الانعطاف الصوري.

لِيُخْرِجَكُمْ بالتوفيق و اللطف مِنَ الظُّلُماتِ ظلمات الكفر و المعصية إِلَى النُّورِ نور الإيمان و الطاعة وَ كانَ بِالْمُؤْمِنِينَ رَحِيماً حيث اعتنى بصلاح أمرهم و إنافة قدرهم.

تَحِيَّتُهُمْ من إضافة المصدر إلى المفعول، أي يحيّون يَوْمَ يَلْقَوْنَهُ يوم لقاء ثوابه عند الموت، أو الخروج من القبر، أو دخول الجنّة. كما قال: وَ الْمَلائِكَةُ يَدْخُلُونَ عَلَيْهِمْ مِنْ كُلِّ بابٍ سَلامٌ «1» سَلامٌ بالسلامة عن كلّ مكروه و آفة، بأن يقال لهم: السلامة لكم عن جميع الآفات.

روي عن البراء بن عازب أنّه قال: يوم يلقون ملك الموت، لا يقبض روح مؤمن إلّا سلّم عليه أوّلا. فعلى هذا يكون المعنى: تحيّة المؤمنين من ملك الموت، يوم يلقونه، أن يسلّم عليهم.

وَ أَعَدَّ لَهُمْ أَجْراً كَرِيماً ثوابا جزيلا، هي الجنّة. و لعلّ اختلاف النظم لمحافظة الفواصل، و المبالغة فيما هو أهمّ.

[سورة الأحزاب (33): الآيات 45 الى 48]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (45) وَ داعِياً إِلَى اللَّهِ بِإِذْنِهِ وَ سِراجاً مُنِيراً (46) وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلاً كَبِيراً (47) وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ دَعْ أَذاهُمْ وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلاً (48)

______________________________

(1) الرعد: 23- 24.

زبدة التفاسير، ج 5،

ص: 386

ثمّ بيّن جلالة قدر نبيّه الّذي جعله خاتم النبيّين، و أرسله إلى كافّة الخلائق أجمعين، و أعلمهم علوّ قدره عنده، ليزيد عباده الشكر على رفعة منزلته بينهم، فقال:

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً على من بعثت إليهم، بتصديقهم و تكذيبهم، و نجاتهم و ضلالتهم، أي: شاهدا مقبولا قولك عند اللّه لهم و عليهم، كما يقبل قول الشاهد العدل في الحكم، فيجازيهم بحسب شهادته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و هو حال مقدّرة، كقولك: مررت برجل معه صقر صائدا به غدا، أي: مقدّرا به الصيد غدا. فلا يقال: كيف كان شاهدا وقت الإرسال، و إنّما يكون شاهدا عند تحمّل الشهادة أو عند أدائها؟

وَ مُبَشِّراً لمن أطاعني و أطاعك بالجنّة وَ نَذِيراً لمن عصاني و عصاك بالنار.

وَ داعِياً إِلَى اللَّهِ إلى الإقرار به و بتوحيده، و بما يجب الإيمان به من صفاته بِإِذْنِهِ بتيسيره و تسهيله. قيّد الدعوة بالإذن، إيذانا بأنّ دعوة أهل الشرك و الجاهليّة إلى التوحيد و الشرائع أمر في غاية الصعوبة، لا يتأتّى إلّا بمعونة من جناب قدسه.

وَ سِراجاً مُنِيراً يستضاء به عن ظلمات الجهالة، و يقتبس من نوره أنوار البصائر. يعني: كما يجلّى ظلام الليل بالسراج المنير و يهتدى به، جلّى به اللّه ظلمات الشرك و اهتدى به الضالّون، و كما يمدّ بنور السراج نور الأبصار، أمدّ اللّه بنور نبوّته نور البصائر.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 387

و عن الزجّاج: تقديره: ذا سراج، و السراج: القرآن، فحذف المضاف.

و وصفه بالإنارة، لأنّ من السراج ما لا يضي ء إذا قلّ سليطه «1» و دقّت فتيلته.

و في كلام بعضهم: ثلاثة تصني «2»: رسول بطي ء، و سراج لا يضي ء، و مائدة ينتظر لها من يجي ء.

وَ بَشِّرِ

الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً على سائر الأمم، لأنّ أمّته يكونون شهداء على الأمم السابقة جميعا، أو على جزاء أعمالهم. و الفضل ما يتفضّل به عليهم زيادة على الثواب. و إذا كان المتفضّل به كبيرا فما ظنّك بالثواب.

و يجوز أن يريد بالفضل: الثواب، من قولهم للعطايا: فضول، و فواضل. و لعلّ ذلك معطوف على محذوف، مثل: فراقب أحوال أمّتك.

ثمّ هيّجه سبحانه على ما هو عليه من مخالفة الكفر و أهل النفاق بقوله: وَ لا تُطِعِ الْكافِرِينَ وَ الْمُنافِقِينَ أي: دم على ما كنت عليه من عدم إطاعتهما وَ دَعْ أَذاهُمْ إيذاءهم إيّاك، و لا تحتفل به. أو إيذاءك إيّاهم مجازاة أو مؤاخذة على كفرهم. و لذلك نقل عن ابن عبّاس: أنّه منسوخ. و عن الكلبي: معناه: كفّ عن إيذائهم و قتالهم قبل أن تؤمر بالقتال. وَ تَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ و أسند أمرك إلى اللّه بنصرك عليهم، فإنّه يكفيكهم وَ كَفى بِاللَّهِ وَكِيلًا موكولا إليه الأمور في الأحوال كلّها.

و اعلم أنّه سبحانه وصف رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بخمس صفات، قابل كلّا منها بخطاب يناسبه، فحذف مقابل الشاهد، و هو الأمر بالمراقبة، لأنّ ما بعده كالتفصيل له.

و قابل المبشّر بالأمر ببشارة المؤمنين. و النذير بالنهي عن مراقبة الكفّار و المبالاة بأذاهم. و الداعي إلى اللّه بتيسيره بالأمر بالتوكّل عليه. و السراج المنير بالاكتفاء به،

______________________________

(1) السليط: الزيت الجيّد، و كلّ دهن عصر من حبّ.

(2) أي: تثقل.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 388

فإنّ من أناره اللّه برهانا على جميع خلقه، كان حقيقا بأن يكتفى به عن غيره.

[سورة الأحزاب (33): الآيات 49 الى 52]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ

تَعْتَدُّونَها فَمَتِّعُوهُنَّ وَ سَرِّحُوهُنَّ سَراحاً جَمِيلاً (49) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللاَّتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَّ وَ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ وَ بَناتِ عَمِّكَ وَ بَناتِ عَمَّاتِكَ وَ بَناتِ خالِكَ وَ بَناتِ خالاتِكَ اللاَّتِي هاجَرْنَ مَعَكَ وَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِّ إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (50) تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ وَ مَنِ ابْتَغَيْتَ مِمَّنْ عَزَلْتَ فَلا جُناحَ عَلَيْكَ ذلِكَ أَدْنى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَ لا يَحْزَنَّ وَ يَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَّ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَلِيماً (51) لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ مِنْ بَعْدُ وَ لا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ وَ لَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَّ إِلاَّ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ رَقِيباً (52)

ثمّ عاد سبحانه إلى ذكر النساء، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نَكَحْتُمُ

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 389

الْمُؤْمِناتِ المراد بالنكاح العقد، و إن كان في الأصل بمعنى الوطء. و تسمية العقد به لملابسته له، من حيث إنّه طريق إليه. و نظيره تسمية الخمر إثما، لأنّها سبب في اقتراف الإثم.

و يؤيّد أنّ النكاح هاهنا بمعنى العقد قوله: ثُمَّ طَلَّقْتُمُوهُنَّ مِنْ قَبْلِ أَنْ تَمَسُّوهُنَ أن تجامعوهنّ فَما لَكُمْ عَلَيْهِنَّ مِنْ عِدَّةٍ أي: أيّام معدودة يتربّصن فيها بأنفسهنّ تَعْتَدُّونَها تستوفون عددها بالأقراء أو الأشهر. من: عدّدت الدراهم فاعتدّها، كقولك: كلته فاكتاله، و وزنته فاتّزن. فأسقط اللّه سبحانه العدّة من المطلّقة قبل المسيس، لبراءة رحمها، فإن شاءت تزوّجت من يومها. و

الإسناد إلى الرجال، للدلالة على أنّ العدّة حقّ واجب على النساء للرجال، كما أشعر به «فما لكم».

و عن ابن كثير: تعتدونها مخفّفا، على إبدال إحدى الدالين بالياء، أو على أنّه من الاعتداء، بمعنى: تعتدون فيها، كقوله: وَ لا تُمْسِكُوهُنَّ ضِراراً لِتَعْتَدُوا «1».

و ظاهره يقتضي عدم وجوب العدّة بمجرّد الخلوة، فلا يكون حكم الخلوة الصحيحة حكم المساس، خلافا للحنفيّة.

و تخصيص المؤمنات و الحكم عامّ، للتنبيه على أنّ من شأن المؤمن أن لا ينكح إلّا مؤمنة تخيّرا لنطفته.

و فائدة «ثمّ» إزاحة ما عسى يتوهّم أنّ تراخي الطلاق كما يؤثّر في النسب يؤثّر في العدّة، فلا يتفاوت الحكم بين أن يطلّقها و هي قريبة العهد من النكاح، و بين أن يبعد عهدها بالنكاح و يتراخى بها المدّة في حبالة الزواج ثمّ يطلّقها. و يمكن أن يكون ذكر «ثمّ» للبون البعيد بين العقد و الطلاق.

فَمَتِّعُوهُنَ أي: إن لم يكن مفروضا لها، فإنّ الواجب للمفروض لها نصف المفروض، دون المتعة. و يجوز أن يؤوّل التمتيع بما يعمّهما. أو يكون الأمر مشتركا

______________________________

(1) البقرة: 231.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 390

بين الوجوب و الندب، فإنّ المتعة سنّة للمفروض لها. وَ سَرِّحُوهُنَ أخرجوهنّ من منازلكم، إذ ليس لكم عليهنّ عدّة سَراحاً جَمِيلًا من غير ضرار و لا منع حقّ.

ثمّ خاطب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَحْلَلْنا لَكَ أَزْواجَكَ اللَّاتِي آتَيْتَ أُجُورَهُنَ مهورهنّ، لأنّ المهر أجر على البضع. و الإيتاء قد يكون بالأداء، و قد يكون بالالتزام، أي: بفرض المهور، و تسميتها في العقد. و على التقديرين؛ تقييد الإحلال به بإعطائها معجّلة أو بالالتزام، لا لتوقّف الحلّ عليه، بل لإيثار الأفضل له.

و ذلك أنّ تسمية المهر في العقد

أولى و أفضل من ترك التسمية، فإنّه جاز وقوع العقد و المماسّة بدون التسمية. و سوق المهر عاجلا أفضل من أن يسمّيه و يؤجّله.

و كذا تقييد إحلال المملوكة بكونها مسبيّة بقوله: وَ ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ مِمَّا أَفاءَ اللَّهُ عَلَيْكَ لإيثار الأفضل. فإنّ المشتراة لا يتحقّق بدء أمرها و ما جرى عليها، فإنّ السبي على ضربين: سبي طيبة، و سبي خبثة. فسبي الطيبة: ما سبي من أهل الحرب. و أمّا من كان له عهد فالمسبيّ منهم سبي خبثة. و في ء اللّه- سواء كان من الغنائم أو الأنفال- لا يطلق إلّا على الطيّب دون الخبيث، كما أنّ رزق اللّه يجب إطلاقه على الحلال دون الحرام. و كانت من الغنائم مارية القبطيّة أمّ ابنه إبراهيم.

و من الأنفال صفيّة و جويرية، أعتقهما و تزوّجهما.

و تقييد القرايب بكونها مهاجرات معه في قوله: وَ بَناتِ عَمِّكَ وَ بَناتِ عَمَّاتِكَ وَ بَناتِ خالِكَ وَ بَناتِ خالاتِكَ اللَّاتِي هاجَرْنَ مَعَكَ يحتمل تقييد الحلّ بذلك في حقّه خاصّة. و يعضده قول امّ هانئ بنت أبي طالب: خطبني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فاعتذرت إليه فأعذرني، ثم أنزل اللّه هذه الآيات، فلم أحلّ له، لأنّي لم أهاجر معه، و كنت من الطلقاء.

و قال صاحب المجمع: «هذا إنّما كان قبل تحليل غير المهاجرات، ثمّ نسخ

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 391

شرط الهجرة في التحليل» «1».

وَ امْرَأَةً مُؤْمِنَةً أي: و أحللنا لك امرأة مؤمنة إِنْ وَهَبَتْ نَفْسَها لِلنَّبِيِ نصب بفعل يفسّره ما قبله. أو عطف على ما سبق. و لا يدفعه التقييد بأن «الّتي» للاستقبال، فإنّ المعنيّ بالإحلال الإعلام بالحلّ، أي أعلمناك حلّ امرأة مؤمنة تهب لك نفسها و لا تطلب مهرا، إن اتّفق،

و لذلك نكّرها. و اختلف في اتّفاق ذلك. فقال ابن عبّاس: لم يكن عند رسول اللّه أحد منهنّ بالهبة. و قيل: الموهوبات أربع:

ميمونة بنت الحارث، و زينب بنت خزيمة الأنصاريّة، و امّ شريك بنت جابر، و خولة بنت حكيم.

إِنْ أَرادَ النَّبِيُّ أَنْ يَسْتَنْكِحَها شرط للشرط الأوّل في الإحلال في استيجاب الحلّ. كأنّه قال: أحللناها لك إن وهبت لك نفسها، و أنت تريد أن تستنكحها، فإنّ هبتها نفسها منه لا توجب له حلّها إلّا بإرادته نكاحها، فإنّها جارية مجرى القبول.

و تكرير «النبيّ» تفخيم له. و العدول إلى الغيبة بلفظ النبيّ مكرّرا، ثمّ الرجوع إليه في قوله: خالِصَةً لَكَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ إيذان بأنّه ممّا خصّ به، لشرف نبوّته، و تقرير لاستحقاقه الكرامة لأجل نبوّته.

قيل: إنّ امرأة لمّا وهبت نفسها للنبيّ، قالت عائشة: ما بال النساء يبذلن أنفسهنّ بلا مهر؟ فنزلت الآية. فقالت عائشة ما أرى اللّه تعالى إلّا يسارع هواك؟

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «و إنّك إن أطعت اللّه سارع في هواك».

و احتجّ به أصحابنا على أنّ النكاح لا ينعقد بلفظ الهبة، لأنّ اللفظ تابع للمعنى، و قد خصّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالمعنى، فيختصّ باللفظ. و المدّعي للاشتراك في اللفظ يحتاج إلى الدليل.

______________________________

(1) مجمع البيان 8: 364.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 392

و معنى الاستنكاح طلب النكاح و الرغبة فيه. و «خالصة» مصدر مؤكّد، كوعد اللّه و صبغة اللّه، أي: إحلال ما أحللنا لك على القيود المذكورة خلص لك خلوصا، فإنّ الفاعل و الفاعلة في المصادر غير عزيزين، كالخارج و القاعد، و الكاذبة و العافية. أو حال من الضمير في «وهبت». أو صفة مصدر محذوف، أي: هبة خالصة.

قَدْ عَلِمْنا ما فَرَضْنا

عَلَيْهِمْ فِي أَزْواجِهِمْ من اعتبار العقد بألفاظ مخصوصة، و وجوب المهر، و الحصر بعدد محصور، و القسم، و غير ذلك ممّا وضعنا عنك تخفيفا وَ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ من توسيع الأمر فيها. و الجملة اعتراض بين قوله: لِكَيْلا يَكُونَ عَلَيْكَ حَرَجٌ و بين متعلّق اللام، و هي «خالصة»، للدلالة على أنّ الفرق بينه و بين المؤمنين في نحو ذلك، ليس لمجرّد قصد التوسيع عليه و ارتفاع الحرج عنه، بل لمصالح و حكم تقتضي التوسيع عليه و التضييق عليهم تارة، و بالعكس اخرى.

وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً للواقع في الحرج إذا تاب و عدا و عدلا، و لم يتب تفضّلا رَحِيماً بالتوسعة عليك، و رفع الحرج عنك.

روي: أنّ أزواج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين تغايرن و ابتغين زيادة النفقة، و غظن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، هجرهنّ شهرا، و نزل التخيير، فأشفقن أن يطلّقهنّ، فقلن: يا رسول اللّه افرض لنا من نفسك و مالك ما شئت. فنزلت:

تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَ

تؤخّرها، و تترك مضاجعتها وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ و تضمّ إليك، و تضاجعها. أو تطلّق من تشاء، و تمسك من تشاء. و قرأ حمزة و الكسائي و حفص: ترجئ بالهمزة. و المعنى واحد. وَ مَنِ ابْتَغَيْتَ طلبت و أردت أن تؤوي إليك امرأة مِمَّنْ عَزَلْتَ أرجيت فَلا جُناحَ عَلَيْكَ و لا لوم و لا عقاب، و لا إثم في ابتغائها.

ذلِكَ أَدْنى ذلك التفويض إلى مشيئتك أقرب إلى أَنْ تَقَرَّ أَعْيُنُهُنَّ وَ لا

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 393

يَحْزَنَّ وَ يَرْضَيْنَ بِما آتَيْتَهُنَّ كُلُّهُنَ أي: إلى قرّة عيونهنّ، و قلّة حزنهنّ، و رضاهنّ جميعا، لأنّ حكم كلّهنّ فيه سواء. يعني: إذا

سوّيت بينهنّ في الإيواء و الإرجاء، و العزل و الابتغاء، و ارتفع التفاضل، و لم يكن لإحداهنّ ممّا تريد و ممّا لا تريد إلّا مثل ما للأخرى، أو رجّحت بعضهنّ، و علمن أنّ هذا التفويض من عند اللّه و بحكمه، اطمأنّت نفوسهنّ، و ذهب التنافس و التغاير، و حصل الرضا، و قرّت العيون، و سكنت القلوب. و «كلّهنّ» تأكيد لنون «يرضين».

وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي قُلُوبِكُمْ فاجتهدوا في إحسانه. و فيه وعيد لمن لم ترض منهنّ بما دبّر اللّه من ذلك، و فوّض إلى مشيئة رسوله. و بعث على تواطئ قلوبهنّ، و التصافي بينهنّ، و التوافق على طلب رضا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ما فيه طيب نفسه.

وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً بذات الصدور حَلِيماً لا يعاجل بالعقوبة. فهو حقيق بأن يتّقى و يحذر.

روي: أنّه أرجأ منهنّ خمسا: سودة، و جويرية، و صفيّة، و ميمونة، و امّ حبيبة. و آوى إليه منهنّ أربعا: أمّ سلمة، و زينب، و عائشة، و حفصة.

لا يَحِلُّ لَكَ النِّساءُ بالياء، لأنّ تأنيث الجمع غير حقيقيّ. و قرأ البصريّان بالتاء. مِنْ بَعْدُ من بعد التسع المذكورات. و هنّ في حقّه نصاب، كما أنّ الأربع في حقّنا نصاب، فلا يحلّ له أن يتجاوز النصاب. أو من بعد اليوم، حتّى لو ماتت واحدة لم يحلّ نكاح اخرى.

وَ لا أَنْ تَبَدَّلَ بِهِنَّ مِنْ أَزْواجٍ فتطلّق واحدة و تنكح مكانها اخرى. و «من» مزيدة لتأكيد استغراق جنس الأزواج بالتحريم. وَ لَوْ أَعْجَبَكَ حُسْنُهُنَ حسن الأزواج المستبدلة. قيل: إنّ الّتي أعجبته صلوات اللّه عليه حسنها أسماء بنت عميس الخثعميّة، بعد قتل جعفر بن أبي طالب عنها. و هو حال من فاعل «تبدّل»،

زبدة

التفاسير، ج 5، ص: 394

دون مفعوله، و هو «من أزواج» لتوغّله في التنكير. و تقديره: مفروضا إعجابك بهنّ.

و اختلف في أنّ الآية محكمة أو منسوخة بقوله: «تُرْجِي مَنْ تَشاءُ مِنْهُنَّ وَ تُؤْوِي إِلَيْكَ مَنْ تَشاءُ» على المعنى الثاني، فإنّه و إن تقدّمها قراءة، فهو مسبوق بها نزولا. و عن عائشة: ما مات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى أحلّ له النساء.

و قيل: المعنى: لا يحلّ لك النساء من بعد الأجناس الأربعة اللّاتي نصّ على إحلالهنّ لك، و لا أن تبدّل بهنّ أزواجا من أجناس أخر.

إِلَّا ما مَلَكَتْ يَمِينُكَ استثناء من النساء، لأنّه يتناول الأزواج و الإماء. و قيل:

منقطع. وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ رَقِيباً حافظا مهيمنا. فتحفّظوا أمركم، و لا تتخطّوا ما حدّ لكم.

روي: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بنى بزينب بنت جحش و أولم عليها. قال أنس: أولم عليها بتمر و سويق، و ذبح شاة، فأمرني رسول اللّه أن أدعو أصحابه إلى الطعام.

فدعوتهم، فترادفوا أفواجا، يأكل فوج فيخرج، ثمّ يدخل فوج، إلى أن قلت: يا رسول اللّه دعوت حتّى ما أجد أحدا أدعوه. فقال: ارفعوا طعامكم. فرفعوا، و خرج القوم، و بقي ثلاثة نفر يتحدّثون في البيت، فأطالوا المكث، فقام صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قمت معه لكي يخرجوا. فانطلق إلى حجرة عائشة، فقال: السلام عليكم أهل البيت. فقالوا:

عليك السلام يا رسول اللّه، كيف وجدت أهلك؟ و طاف بالحجرات، فسلّم عليهنّ، و دعون له. و رجع فإذا الثلاثة جلوس يتحدّثون. و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شديد الحياء، فتولّى، فلمّا رأوه متولّيا خرجوا. و ربّما كان قوم من

الأصحاب يتحيّنون «1» طعام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيقعدون و يستطيلون المجلس منتظرين لإدراكه مرّة بعد اخرى.

______________________________

(1) أي: يترصّدون و يرقبون.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 395

[سورة الأحزاب (33): الآيات 53 الى 54]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِّ إِلاَّ أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ وَ لكِنْ إِذا دُعِيتُمْ فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا وَ لا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ إِنَّ ذلِكُمْ كانَ يُؤْذِي النَّبِيَّ فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ وَ اللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِّ وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَّ مَتاعاً فَسْئَلُوهُنَّ مِنْ وَراءِ حِجابٍ ذلِكُمْ أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَّ وَ ما كانَ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ أَبَداً إِنَّ ذلِكُمْ كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً (53) إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً أَوْ تُخْفُوهُ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (54)

و عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس: كان رسول اللّه يريد أن يخلو له المنزل، لأنّه كان حديث عهد بعرس، و كان محبّا لزينب، و كان يكره أذى المؤمنين في إخراجهم عن المنزل. فنزلت:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَدْخُلُوا بُيُوتَ النَّبِيِ أي: لا تدخلوا أيّها المتحيّنون إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إلّا وقت الإذن إِلى طَعامٍ متعلّق ب «يؤذن» لأنّه متضمّن معنى:

يدعى، للإشعار بأنّه لا يحسن الدخول على الطعام من غير دعوة و إن أذن. كما أشعر به قوله: غَيْرَ ناظِرِينَ إِناهُ غير منتظرين وقته، أو إدراكه. و هو حال من فاعل «لا تدخلوا» أو المجرور في «لكم». و قد أمال حمزة و الكسائي: إناه، لأنّه مصدر: أنى الطعام، إذا أدرك.

و هذا الحكم مخصوص بهؤلاء المتحيّنين و أمثالهم، و إلّا لما جاز لأحد أن يدخل بيوته بالإذن لغير الطعام.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 396

وَ لكِنْ إِذا دُعِيتُمْ

فَادْخُلُوا فَإِذا طَعِمْتُمْ فَانْتَشِرُوا تفرّقوا و لا تمكثوا وَ لا مُسْتَأْنِسِينَ لِحَدِيثٍ بعضكم بعضا. عطف على «ناظرين». أو مقدّر بفعل محذوف، أي: و لا تدخلوا و لا تمكثوا مستأنسين.

إِنَّ ذلِكُمْ اللبث كانَ يُؤْذِي النَّبِيَ لتضيّق المنزل عليه و على أهله، و اشتغاله فيما لا يعنيه فَيَسْتَحْيِي مِنْكُمْ من إخراجكم، على تقدير المضاف وَ اللَّهُ لا يَسْتَحْيِي مِنَ الْحَقِ يعني: أنّ إخراجكم حقّ، ما ينبغي أن يستحيا منه.

و لمّا كان الحياء انقباض النفس عن صدور القبيح، و هذا المعنى ممتنع على اللّه تعالى، فالحياء بمعنى الترك. و تسميته بالحياء هنا من باب المزاوجة. و المعنى: لا يترك إبانة الحقّ ترك الحيّي. و هذا أدب أدّب اللّه به الثقلاء.

روي: أن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يطعم و معه بعض أصحابه، فأصابت يد رجل منهم يد عائشة، و كانت معهم، فكره ذلك. فنزلت آية الحجاب.

و هي هذه:

وَ إِذا سَأَلْتُمُوهُنَ إذا سألتم أزواج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مَتاعاً شيئا ينتفع به فَسْئَلُوهُنَ المتاع مِنْ وَراءِ حِجابٍ ستر ذلِكُمْ أي: سؤالكم إيّاهنّ المتاع من وراء الحجاب أَطْهَرُ لِقُلُوبِكُمْ وَ قُلُوبِهِنَ من الخواطر الشيطانيّة، و الهواجس النفسانيّة الّتي تدعو إلى ميل الرجال إلى النساء، و النساء إلى الرجال.

و

عن عائشة قالت: كنت آكل مع النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حيسا «1» في قعب، فمرّ بنا عمر، فدعاه فأكل، فأصابت إصبعه إصبعي، فقال: «حسّ «2» لو أطاع فيكنّ ما رأتكنّ عين». فنزل الحجاب.

و عن مقاتل: إنّ طلحة بن عبيد اللّه قال: لئن قبض رسول اللّه لأنكحنّ عائشة.

و عن أبي حمزة الثمالي: إنّ رجلين قالا: أ ينكح محمّد نساءنا، و لا ننكح

______________________________

(1) الحيس: طعام مركّب من تمر و سمن و سويق. و القعب: القدح الضخم الغليظ.

(2) حسّ: كلمة يقولها الإنسان إذا أصابه ما مضّه و أحرقه غفلة، كالجمرة و الضربة. النهاية لابن الأثير 1: 385.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 397

نساءه؟ و اللّه لئن مات لنكحنا نساءه! و كان أحدهما يريد عائشة، و الآخر يريد امّ سلمة.

و ذكر أنّ بعضهم قال: أ ننهى أن نتكلّم بنات عمّنا إلّا من وراء حجاب؟ لئن مات محمّد لأتزوّجنّ عائشة. فنزلت:

وَ ما كانَ و ما صحّ لَكُمْ أَنْ تُؤْذُوا رَسُولَ اللَّهِ أن تفعلوا ما يكرهه وَ لا أَنْ تَنْكِحُوا أَزْواجَهُ مِنْ بَعْدِهِ من بعد وفاته، أو فراقه أَبَداً قيل: خصّ هذا الحكم بالّتي دخل بها، لما روي: أنّ الأشعث بن قيس تزوّج امرأته غير المدخول بها في أيّام عمر، فهمّ برجمها، فأخبر بأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فارقها قبل أن يمسّها، فتركها من غير نكير.

إِنَّ ذلِكُمْ يعني: إيذاءه، و نكاح نسائه كانَ عِنْدَ اللَّهِ عَظِيماً ذنبا عظيم الموقع عند اللّه.

و فيه تعظيم من اللّه لرسوله، و إيجاب لحرمته حيّا و ميّتا. و لذلك بالغ في الوعيد عليه، فقال: إِنْ تُبْدُوا شَيْئاً ممّا نهيتم عنه، كنكاحهنّ على ألسنتكم أَوْ تُخْفُوهُ في صدوركم فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً فيعلم ذلك، فيجازيكم به.

و في التعميم مع البرهان على المقصود مزيد تهويل و مبالغة في الوعيد.

[سورة الأحزاب (33): آية 55]

لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَ لا أَبْنائِهِنَّ وَ لا إِخْوانِهِنَّ وَ لا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَ لا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَّ وَ لا نِسائِهِنَّ وَ لا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَّ وَ اتَّقِينَ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيداً (55)

روي: أنّه لمّا نزلت آية الحجاب، قال الآباء و

الأبناء و الأقارب يا رسول اللّه أ نكلّمهنّ أيضا من وراء حجاب؟ فاستثنى اللّه من لا يجب الاحتجاب عنهم، فقال:

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 398

لا جُناحَ عَلَيْهِنَّ فِي آبائِهِنَّ وَ لا أَبْنائِهِنَّ وَ لا إِخْوانِهِنَّ وَ لا أَبْناءِ إِخْوانِهِنَّ وَ لا أَبْناءِ أَخَواتِهِنَ إنّما لم يذكر العمّ و الخال، لأنّهما بمنزلة الوالدين. و لذلك سمّى العمّ أبا في قوله: وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ آزَرَ «1». و هو عمّه على المذهب الصحيح. و قوله:

آبائِكَ إِبْراهِيمَ وَ إِسْماعِيلَ وَ إِسْحاقَ «2». و إسماعيل عمّ يعقوب. أو لأنّه كره ترك الاحتجاب عنهما، مخافة أن يصفا لأبنائهما.

وَ لا نِسائِهِنَ يعني: النساء المؤمنات، فإنّ نساء اليهود و النصارى لم يكنّ مواضع الأمانة، فيصفن نساء رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و غيره لأزواجهنّ إن رأينهنّ. و قيل:

يريد جميع النساء. و قد سبق ما هو الحقّ من القولين في سورة النور «3».

وَ لا ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُنَ من الإماء. و قيل: من العبيد و الإماء. و قد مرّ تحقيقه أيضا في سورة النور.

ثمّ نقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب، لمزيد تشديد و مبالغة، فقال: وَ اتَّقِينَ اللَّهَ اسلكن طريق التقوى في حفظ ما أمركنّ اللّه به، من الاحتجاب و غير ذلك من المنهيّات و المأمورات إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ من السرّ و العلن شَهِيداً لا يخفى عليه خافية، و لا يتفاوت في علمه الأحوال من الظاهر و الباطن.

[سورة الأحزاب (33): آية 56]

إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً (56)

و لمّا صدّر سبحانه هذه السورة بذكر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قرّر في أثنائها ذكر

______________________________

(1) الأنعام: 74.

(2) البقرة:

133.

(3) راجع ج 4 ص 498، ذيل الآية 31 من سورة النور.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 399

تعظيمه، ختم ذلك بالتعظيم الّذي ليس يقاربه تعظيم و لا يدانيه، فقال:

إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِ أي: إنّ اللّه يثني على النبيّ بالثناء الجميل، و يبجّله بأعظم التبجيل، و ملائكته يثنون عليه بأحسن الثناء، و يدعون له بأزكى الدعاء، اعتناء بإظهار شرفه و تعظيم شأنه.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا صَلُّوا عَلَيْهِ اعتنوا أنتم أيضا بذلك، فإنّكم أولى بذلك وَ سَلِّمُوا تَسْلِيماً أي: قولوا: اللّهمّ صلّ على محمّد و سلّم.

و قيل: معنى «و سلّموا»: و انقادوا لأوامره. و يؤيّده ما

رواه أبو بصير، قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام: قد عرفت صلاتنا عليه، فكيف التسليم؟ فقال: هو التسليم له في الأمور».

يعني به الانقياد لأوامره، و بذل الجهد في طاعته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و يعضد الأوّل ما قاله الزمخشري «1» و القاضي «2»، و ذكره الشيخ في التبيان «3»:

إنّ المعنى: قول السلام عليك أيّها النبيّ.

قال أبو حمزة الثمالي: حدّثني السدّي و حميد بن سعد الأنصاري و بريد بن أبي زياد، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى، عن كعب بن عجزة، قال: لمّا نزلت هذه الآية قلنا: يا رسول اللّه هذا السلام عليك قد عرفناه، فكيف الصلاة عليك؟ قال:

«قولوا: اللّهمّ صلّ على محمّد و آل محمد، كما صلّيت على إبراهيم و آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد. و بارك على محمّد و آل محمّد، كما باركت على إبراهيم و آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد».

و عن عبد اللّه بن مسعود قال: إذا صلّيتم على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأحسنوا الصلاة عليه، فإنّكم لا تدرون. قالوا: فعلّمنا. قال:

قولوا: اللّهمّ اجعل صلاتك و رحمتك

______________________________

(1) الكشّاف 3: 557.

(2) أنوار التنزيل 4: 167.

(3) التبيان 8: 326- 327.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 400

زبدة التفاسير ج 5 449

و بركاتك على سيّد المرسلين، و إمام المتّقين، و خاتم النبيّين، محمّد عبدك و رسولك، إمام الدين، و قائد الخير، و رسول الرحمة. اللّهمّ ابعثه مقاما محمودا يغبط به الأوّلون و الآخرون. اللّهمّ صلّ على محمّد و آل محمّد، كما صلّيت على إبراهيم و آل إبراهيم، إنّك حميد مجيد.

و

عن أنس بن مالك، عن أبي طلحة، قال: دخلت على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلم أره أشدّ استبشارا منه، و لا أطيب نفسا. قلت: يا رسول اللّه! ما رأيتك قطّ أطيب نفسا، و لا أشدّ استبشارا منك اليوم؟ فقال: «و ما يمنعني و قد خرج آنفا جبرئيل من عندي قال: قال اللّه تعالى: من صلّى عليك صلاة صلّيت بها عليه عشر صلوات، و محوت عنه عشر سيّئات، و كتبت له عشر حسنات».

و الآية تدلّ على وجوب الصلاة و السلام عليه في الجملة. و قيل: تجب الصلاة عليه كلّما جرى ذكره،

لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «رغم أنف رجل ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ».

و

قوله: «من ذكرت عنده فلم يصلّ عليّ، فدخل النار فأبعده اللّه».

و

يروى أنّه قيل: يا رسول اللّه أ رأيت قول اللّه تعالى: «إِنَّ اللَّهَ وَ مَلائِكَتَهُ يُصَلُّونَ عَلَى النَّبِيِّ»؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «هذا من العلم المكنون، و لو لا أنّكم سألتموني عنه ما أخبرتكم به. إنّ اللّه و كلّ بي ملكين، فلا اذكر عند عبد مسلم فيصلّي عليّ إلّا قال ذانك الملكان: غفر اللّه لك. و قال اللّه و

ملائكته جوابا لذينك الملكين: آمين. و لا اذكر عند عبد مسلم فلا يصلّي عليّ إلّا قال ذانك الملكان: لا غفر اللّه لك. و قال اللّه و ملائكته لذينك الملكين: آمين».

و منهم من قال: تجب في كلّ مجلس مرّة، و إن تكرّر ذكره. و الأصحّ أنّ الصلاة عليه و آله لا تجب إلّا في الصلاة، و الروايات المذكورة لتأكيد الاستحباب.

و اعلم أنّ حديث كعب المذكور دلّ على مشروعيّة الصلاة على الآل تبعا له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و عليه إجماع المسلمين. و هل يجوز الصلاة عليهم لا تبعا بل إفرادا،

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 401

كقولنا: اللّهمّ صلّ على آل محمّد، بل الواحد منهم لا غير، أم لا؟ قال أصحابنا بجواز ذلك. و قال الجمهور بكراهيته، لأنّ الصلاة على النبيّ صارت شعارا له، فلا تطلق على غيره، و لإيهامه الرفض.

و الحقّ ما قاله الأصحاب لوجوه:

الأوّل: قوله تعالى مخاطبا للمؤمنين كافّة: هُوَ الَّذِي يُصَلِّي عَلَيْكُمْ وَ مَلائِكَتُهُ «1». و هو نصّ في الباب.

الثاني: قوله: الَّذِينَ إِذا أَصابَتْهُمْ مُصِيبَةٌ قالُوا إِنَّا لِلَّهِ وَ إِنَّا إِلَيْهِ راجِعُونَ أُولئِكَ عَلَيْهِمْ صَلَواتٌ مِنْ رَبِّهِمْ وَ رَحْمَةٌ «2». و لا ريب أنّ أهل البيت أصيبوا بأعظم المصائب، الّتي من جملتها غصب مقام إمامتهم منهم.

و الثالث: أنّه لمّا أتى أبو أوفى زكاته،

قال النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اللّهمّ صلّ على أبي أوفى و آل أبي أوفى.

فيجوز على أهل البيت بطريق أولى.

الرابع: إنّ الصلاة من اللّه بمعنى الرحمة، و يجوز الرحمة عليهم إجماعا، فيجوز مرادفها، لما تقرّر في الأصول أنّه يجوز إقامة أحد المترادفين مقام الآخر.

الخامس: قولهم: إنّها صارت شعارا للرسول، فلا تطلق على غيره. فاسد، لأنّها كما دلّت على

الاعتناء برفع شأنه، كذلك تدلّ على الاعتناء برفع شأن أهله القائمين مقامه. و يكون الفرق بينهم و بينه: وجوبها في حقّه كلّما ذكر كما قيل، أو تأكيد استحباب في قول آخر.

السادس: إنّ قولهم: إنّ ذلك يوهم الرفض، محض تعصّب و عناد. نظير قولهم: من السنّة تسطيح القبور، لكن لمّا اتّخذته الرفضة شعارا لقبورهم عدلنا عنه إلى التسنيم. فعلى هذا كان يجب عليهم أنّ كلّ مسألة قالت بها الإماميّة أن يفتوا

______________________________

(1) الأحزاب: 43.

(2) البقرة: 156- 157.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 402

بخلافها. و ما ذلك إلّا محض العناد و كمال التعصّب. نعوذ باللّه من الأهواء المضلّة، و الآراء الفاسدة.

[سورة الأحزاب (33): الآيات 57 الى 58]

إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً (57) وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً وَ إِثْماً مُبِيناً (58)

و لمّا أمر اللّه سبحانه العباد بالصلاة و السلام على نبيّه، هدّدهم إن آذوه بالألسن و الأيدي، فقال:

إِنَّ الَّذِينَ يُؤْذُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يرتكبون ما يكرهانه و لا يرضيان به، من الكفر و المعاصي، قولا و فعلا. أو يؤذون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بكسر رباعيته، و قولهم:

شاعر مجنون.

و قيل: ذكر اللّه للتعظيم له. فجعل أذى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أذى له، تشريفا له و تكريما. فكأنّه يقول: لو جاز أن يناله أذى من شي ء لكان ينالني من هذا.

و قيل: أذى اللّه هو قول اليهود و النصارى و المشركين: يد اللّه مغلولة، و ثالث ثلاثة، و المسيح ابن اللّه، و الملائكة بنات اللّه، و الأصنام شركاؤه.

و قيل: قول الّذين يلحدون في أسمائه و صفاته.

و

عن رسول اللّه صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم فيما حكى عن ربّه: «شتمني ابن آدم، و لم ينبغ له أن يشتمني. و آذاني، و لم ينبغ له أن يؤذيني. فأمّا شتمه إيّاي فقوله: إنّي اتّخذت ولدا.

و أمّا أذاه فقوله: إنّ اللّه لا يعيدني بعد أن بدأني».

و

روي عن الخاصّة و العامّة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال في حقّ فاطمة عليها السّلام:

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 403

«فاطمة بضعة منّي، من آذاها فقد آذاني، و من آذاني فقد آذى اللّه».

روى السيّد أبو الحمد قال: حدّثنا الحاكم أبو القاسم الحسكاني، أنّه قال: حدّثنا الحاكم أبو عبد اللّه الحافظ، قال: حدّثنا أحمد بن محمّد بن دارم الحافظ، قال: حدّثنا عليّ بن أحمد العجليّ، قال: حدّثنا عبّاد بن يعقوب، قال: حدّثنا أرطاة بن حبيب، قال: حدّثنا أبو الخالد الواسطي و هو آخذ بشعره، قال: حدّثني زيد بن عليّ بن الحسين عليه السّلام و هو آخذ بشعره، قال:

حدّثني عليّ بن الحسين عليه السّلام و هو آخذ بشعره، قال: حدّثني الحسين بن عليّ عليه السّلام و هو آخذ بشعره، قال: حدّثني عليّ بن أبي طالب عليه السّلام و هو آخذ بشعره، قال:

حدّثني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو آخذ بشعره، فقال: «من آذى شعرة منك فقد آذاني، و من آذاني فقد آذى اللّه، و من آذى اللّه فعليه لعنة اللّه». كما قال جلّ اسمه: لَعَنَهُمُ اللَّهُ أبعدهم من رحمته فِي الدُّنْيا وَ الْآخِرَةِ وَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً مُهِيناً يهينهم مع الإيلام.

وَ الَّذِينَ يُؤْذُونَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ بِغَيْرِ مَا اكْتَسَبُوا بغير جناية استحقّوا بها الإيذاء. ترك هذا القيد في أذى اللّه و رسوله، لأنّ أذاهما لا

يكون إلّا غير حقّ أبدا. فَقَدِ احْتَمَلُوا بُهْتاناً أي: احتملوا مثل عقوبة البهتان الّذي هو من أعظم العقوبات. و قيل: يعني بذلك اذيّة اللسان الّتي هي مظنّة البهتان. وَ إِثْماً مُبِيناً ظاهرا. روي أنّها نزلت في منافقين كانوا يؤذون عليّا عليه السّلام. و قيل: في أهل الإفك على عائشة. و قيل: في زناة كانوا يتّبعون النساء و هنّ كارهات.

[سورة الأحزاب (33): الآيات 59 الى 62]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَ بَناتِكَ وَ نِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلابِيبِهِنَّ ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ فَلا يُؤْذَيْنَ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (59) لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْمُرْجِفُونَ فِي الْمَدِينَةِ لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها إِلاَّ قَلِيلاً (60) مَلْعُونِينَ أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلاً (61) سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (62)

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 404

ثمّ رجع إلى حكم آخر لنسائه صلّى اللّه عليه و آله، فقال: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ قُلْ لِأَزْواجِكَ وَ بَناتِكَ وَ نِساءِ الْمُؤْمِنِينَ يُدْنِينَ عَلَيْهِنَّ مِنْ جَلَابِيبِهِنَ يغطّين وجوههنّ و أبدانهنّ بملاحفهنّ إذا برزن لحاجة. و الجلباب: ثوب واسع، أوسع من الخمار و دون الرداء، تلويه المرأة على رأسها، و تبقي منه ما ترسله على صدرها. و «من» للتبعيض، فإنّ المرأة ترخي بعض جلبابها، و تتلفّع «1» ببعض، حتّى تتميّز من الأمة.

و روي: أنّ النساء كنّ في أوّل الإسلام يبرزن في درع و خمار، بلا فرق بين الحرّة و الأمة. و كان الفسّاق يتعرّضون للإماء إذا خرجن بالليل إلى مقاضي حوائجهنّ في النخيل و الغيطان «2»، و ربّما تعرّضوا للحرّة بعلّة الأمة، يقولون:

حسبناها أمة. فأمرن أن يخالفن بزيّهنّ عن زيّ الإماء، بلبس الأردية و

الملاحف، و ستر الرؤوس و الوجوه، ليحتشمن و يهبن فلا يطمع فيهنّ طامع، بخلاف الإماء اللّاتي يخرجن مكشّفات الرؤوس و الجباه.

و ذلك قوله: ذلِكَ أَدْنى أَنْ يُعْرَفْنَ أقرب إلى أن يعرفن بزيّهنّ أنّهنّ حرائر و لسن بإماء. و عن الجبائي: معناه: ذلك أقرب إلى أن يعرفن بالستر و الصلاح فلا يتعرّض لهنّ، لأنّ الفاسق إذا عرف امرأة بالستر و الصلاح لم يتعرّض لها. فَلا يُؤْذَيْنَ فلا يؤذيهنّ أهل الريبة بالتعرّض لهنّ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً لما سلف

______________________________

(1) تلفّعت المرأة بالثوب: اشتملت به و تغطّت.

(2) الغيطان جمع الغوطة، و هي المكان المطمئنّ و المنخفض من الأرض.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 405

رَحِيماً بعباده، حيث يراعي مصالحهم حتّى الجزئيّات منها.

ثمّ أوعد سبحانه هؤلاء الفسّاق بقوله: لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ الْمُنافِقُونَ عن نفاقهم وَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ضعف إيمان و قلّة ثبات عليه. أو فجور صادر عن تزلزلهم في الدين، من قوله تعالى: فَيَطْمَعَ الَّذِي فِي قَلْبِهِ مَرَضٌ «1».

وَ الْمُرْجِفُونَ الّذين كانوا يرجفون فِي الْمَدِينَةِ بأخبار السوء عن سرايا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فيقولون: هزموا و قتلوا، و جرى عليهم كيت و كيت، فيكسرون بذلك قلوب المؤمنين. و أصل الإرجاف: التحريك، من الرجفة، و هي الزلزلة. سمّي به الإخبار الكاذب لكونه متزلزلا غير ثابت.

و في الكلام حذف، تقديره: إن لم ينته المنافقون عن عداوتهم و كيدهم، و الفسقة عن فجورهم، و المرجفون عمّا يؤلّفون من أخبار السوء. لَنُغْرِيَنَّكَ بِهِمْ لنأمرنّك بقتالهم. و قد حصل الإغراء لهم بقوله: جاهِدِ الْكُفَّارَ وَ الْمُنافِقِينَ «2».

و بإجلائهم، و بما يضطرّهم إلى طلب الجلاء. ثُمَّ لا يُجاوِرُونَكَ فِيها لا يساكنونك في المدينة. عطف على «لنغرينّك». و «ثمّ» للدلالة على

أنّ الجلاء و مفارقة جوار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أعظم ما يصيبهم، فتراخت حاله عن حال المعطوف عليه. إِلَّا قَلِيلًا زمانا أو جوارا قليلا.

مَلْعُونِينَ نصب على الشتم، أو الحال. و الاستثناء شامل له أيضا، كقوله:

إِلَّا أَنْ يُؤْذَنَ لَكُمْ إِلى طَعامٍ غَيْرَ ناظِرِينَ «3». أي: لا يجاورونك إلّا ملعونين مبعدين عن الرحمة. و قيل: ملعونين على ألسنة المؤمنين. و لا يجوز أن ينتصب عن «أخذوا» في قوله: أَيْنَما ثُقِفُوا أُخِذُوا وَ قُتِّلُوا تَقْتِيلًا لأن ما بعد كلمة الشرط لا يعمل فيما قبلها. و المعنى: أينما وجدوا و ظفر بهم أخذوا و قتّلوا أبلغ القتل.

______________________________

(1) الأحزاب: 32.

(2) التوبة: 73.

(3) الأحزاب: 53.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 406

سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ مصدر مؤكّد، أي: سنّ اللّه ذلك في الأمم الماضية، و هو أن يقتل الّذين نافقوا الأنبياء، و سعوا في وهنهم بالإرجاف و نحوه حيثما ثقفوا. و السنّة: الطريقة في تدبير الحكم. و سنّة رسول اللّه: طريقته الّتي أجراها بأمر اللّه تعالى، فأضيفت إليه. و لا يقال: سنّته إذا فعلها مرّة أو مرّتين، لأنّ السنّة الطريقة الجارية المستمرّة. وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا لأنّه لا يبدّلها، و لا يقدر أحد أن يبدّلها.

[سورة الأحزاب (33): الآيات 63 الى 68]

يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً (63) إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَ أَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً (64) خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (65) يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ يَقُولُونَ يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ وَ أَطَعْنَا الرَّسُولا (66) وَ قالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا سادَتَنا وَ كُبَراءَنا فَأَضَلُّونَا السَّبِيلا (67)

رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ وَ الْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً

(68)

روي: أنّ المشركين كانوا يسألون رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن وقت قيام الساعة استعجالا على سبيل الهزء، و اليهود يسألونه امتحانا، لأنّ اللّه تعالى عمّى وقتها في التوراة و في كلّ كتاب، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يجيبهم بأنّه علم قد استأثره اللّه لنفسه، لم يعلّمه أحدا، فقال:

يَسْئَلُكَ النَّاسُ عَنِ السَّاعَةِ عن وقت قيامها، استهزاء و تعنّتا، أو امتحانا قُلْ إِنَّما عِلْمُها عِنْدَ اللَّهِ لم يطلع عليه ملكا و لا نبيّا.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 407

ثمّ بيّن لرسوله أنّها قريبة الوقوع، تهديدا للمستعجلين، و إسكاتا للممتحنين، فقال: وَ ما يُدْرِيكَ أيّ شي ء يعلمك من أمر الساعة و متى قيامها، أي: أنت لا تعرفها لَعَلَّ السَّاعَةَ تَكُونُ قَرِيباً أي: شيئا قريبا مجيئها. و يجوز أن يكون التذكير لأنّ الساعة في معنى اليوم.

إِنَّ اللَّهَ لَعَنَ الْكافِرِينَ وَ أَعَدَّ لَهُمْ سَعِيراً نارا شديدة الاتّقاد و الالتهاب خالِدِينَ فِيها أَبَداً لا يَجِدُونَ وَلِيًّا يحفظهم وَ لا نَصِيراً يدفع العذاب عنهم.

يَوْمَ تُقَلَّبُ وُجُوهُهُمْ فِي النَّارِ تصرف من جهة إلى جهة، كاللحم الّذي يدور في القدر إذا غلت، فترامى به الغليان من جهة إلى اخرى. أو تغيّر من حال إلى حال، و هيئة إلى هيئة، فتسودّ و تصفرّ، و تصير كالحة بعد أن لم تكن. أو تطرح في النار مقلوبين منكوسين. و خصّت الوجوه بالذكر، لأنّ الوجه أكرم موضع على الإنسان من جسده. و يجوز أن يكون الوجه عبارة عن الجملة.

و ناصب الظرف يَقُولُونَ أو محذوف، هو: اذكر. و إذا نصب بالمحذوف كان «يقولون» حالا، أي: قائلين يا لَيْتَنا أَطَعْنَا اللَّهَ فيما أمرنا به و نهانا عنه وَ أَطَعْنَا الرَّسُولَا فيما

دعانا إليه، فلا نبتلى بهذا العذاب.

وَ قالُوا رَبَّنا إِنَّا أَطَعْنا فيما فعلناه سادَتَنا وَ كُبَراءَنا يعنون قادتهم الّذين لقّنوهم الكفر و زيّنوه لهم. و قرأ ابن عامر و يعقوب: ساداتنا على جمع الجمع، للدلالة على الكثرة. فَأَضَلُّونَا السَّبِيلَا بما زيّنوا لنا. يقال: ضلّ السبيل، و أضلّه إيّاه. و الألف لإطلاق الصوت، جعلت فواصل الآي كقوافي الشعر. و فائدتها الوقف، و الدلالة على أنّ الكلام قد انقطع، و أنّ ما بعده مستأنف. و قد مرّ اختلاف القرّاء فيه.

رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ مثلي ما آتيتنا منه، ضعفا لضلالهم، و ضعفا لإضلالهم، فإنّهم ضلّوا و أضلّوا وَ الْعَنْهُمْ لَعْناً كَبِيراً كثير العدد. و قرأ عاصم بالباء «1»، أي: لعنا هو أشدّ اللعن و أعظمه.

______________________________

(1) أي: كبيرا، و القراءة الاخرى: كثيرا.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 408

[سورة الأحزاب (33): الآيات 69 الى 73]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا وَ كانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً (69) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ قُولُوا قَوْلاً سَدِيداً (70) يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً (71) إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً جَهُولاً (72) لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ وَ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (73)

ثمّ خاطب سبحانه المظهرين للإيمان، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ آذَوْا مُوسى أي: لا تؤذوا محمّدا كما آذى بنو إسرائيل موسى، فإنّ حقّ النبيّ أن يعظّم و يبجّل، لا أن يؤذى فَبَرَّأَهُ اللَّهُ مِمَّا قالُوا فأظهر براءته من

قولهم، أي: من مقولهم، يعني: مؤدّاه و مضمونه، و هو الأمر المورث للعيب.

فلا يقال: إنّ لفظة «ما» إمّا مصدريّة أو موصولة، و أيّهما كان فكيف تصحّ البراءة منه؟

و اختلفوا فيما أوذي به موسى عليه السّلام. فعند بعضهم أنّ قارون حرّض امرأة على قذفه بنفسها، فعصمه اللّه، كما مرّ في القصص «1».

______________________________

(1) راجع ص 198، ذيل الآية 81 من سورة القصص.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 409

و

عن عليّ عليه السّلام و ابن عبّاس: أنّ بني إسرائيل اتّهموه بقتله هارون حين صعد الجبل، و مات هارون هناك، فحملته الملائكة، و مرّوا به عليهم ميّتا، و تكلّمت الملائكة بموته، حتّى عرفوا أنّه قد مات حتف أنفه.

و

عن أبي هريرة مرفوعا: أنّ اللّه سبحانه أحياه، فأخبرهم ببراءة موسى.

و عن أبي العالية: أنّهم قذفوه بعيب في بدنه من برص أو ادرة «1». و ذلك أنّ موسى عليه السّلام كان حييّا ستيرا يغتسل وحده، فقالوا: ما يتستّر منّا إلّا لعيب بجلده، إمّا برص أو ادرة. فذهب مرّة يغتسل، فوضع ثوبه على حجر، فمرّ الحجر بثوبه، فطلبه موسى، فرآه بنو إسرائيل عريانا كأحسن الرجال خلقا، فبرّأه اللّه ممّا قالوا.

و عن أبي مسلم: أنّهم آذوه من حيث نسبوه إلى السحر و الجنون و الكذب، بعد ما رأوا العذاب.

وَ كانَ عِنْدَ اللَّهِ وَجِيهاً ذا جاه و منزلة و رفعة عنده. يقال: وجه وجاهة فهو وجيه، إذا كان ذا جاه و قدر. و لوجاهته و عظم قدره يميط عنه التهم، و يدفع الأذى، و يحافظ عليه، لئلّا يلحقه و صم، و لا يوصف بنقيصة، كما يفعل الملك بمن له عنده قربة و وجاهة.

قيل: نزلت في شأن زيد و زينب، و ما سمع فيه من مقالة بعض الناس.

ثمّ أمر

سبحانه أهل الايمان و التوحيد بالتقوى و القول السديد، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ في ارتكاب ما يؤذي رسوله، و غيره من أنواع المعاصي وَ قُولُوا قَوْلًا سَدِيداً قاصدا إلى الحقّ، فإنّ السداد القصد إلى الحقّ، و القول بالعدل. يقال: سدّد السهم نحو الرمية، إذا لم يعدل به عن سمتها، كما قالوا: سهم

______________________________

(1) الادرة: نفخة في الخصية.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 410

قاصد. و المراد: سداد القصد و اللسان في كلّ باب، و من ذلك حفظ اللسان عمّا خاضوا فيه من حديث زينب، من غير قصد و عدل في القول، لأنّ حفظ اللسان و سداد القول رأس الخير كلّه.

و المعنى: راقبوا اللّه في حفظ ألسنتكم، و تسديد قولكم، فإنّكم إن فعلتم ذلك يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكُمْ يوفّقكم للأعمال الصالحة. أو يصلحها بالقبول و الإثابة عليها. وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ و يجعلها مكفّرة باستقامتكم في القول و العمل وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ في الأوامر و النواهي فَقَدْ فازَ فَوْزاً عَظِيماً يعيش في الدنيا حميدا، و في الآخرة سعيدا.

ثمّ قرّر الوعد السابق بتعظيم أمر الطاعة و تفخيم شأنها بقوله: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ أي: الطاعة. سمّاها أمانة من حيث إنّها واجبة الأداء، كالأمانة. عَلَى السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الْجِبالِ أي: الطاعة، لعظم شأنها بحيث لو عرضت على هذه الأجرام العظام، و كانت ذات شعور و إدراك فَأَبَيْنَ أَنْ يَحْمِلْنَها وَ أَشْفَقْنَ مِنْها من أن يؤدّين حقّها، حتّى يزول عن ذمّتهنّ. من قولك: فلان حامل للأمانة و محتمل لها، تريد: أنّه لا يؤدّيها إلى صاحبها، حتّى تزول عن ذمّته و يخرج عن عهدتها، فإنّ الأمانة كأنّها راكبة للمؤتمن عليها و هو حاملها. ألا تراهم يقولون: ركبته الديون،

ولي عليه حقّ، فإذا أدّاها لم تبق راكبة، و لا هو حاملا لها. وَ حَمَلَهَا الْإِنْسانُ مع ضعف بنيته، و رخاوة قوّته إِنَّهُ كانَ ظَلُوماً حيث لم يف و لم يراع حقّها جَهُولًا بكنه عاقبتها. و هذا وصف للجنس باعتبار الأغلب.

و اعلم أنّ الممثّل به في الآية مفروض، و المفروضات تتخيّل في الذهن كالمحقّقات. فمثّلت حال التكليف في صعوبته و ثقل محمله، بحاله المفروضة لو عرضت على السماوات و الأرض و الجبال لأبين أن يحملنها و أشفقن منها. و نحو

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 411

هذا من الكلام كثير في لسان العرب، و ما جاء القرآن إلّا على طرقهم و أساليبهم.

و من ذلك قولهم: لو قيل للشحم أين تذهب؟ لقال: أسوّي العوج. و كم لهم من هذه الأمثال على ألسنة البهائم و الجمادات. و تصوّر مقاولة الشحم و إن كان محالا، و لكنّ الغرض منه أنّ السمن في الحيوان ممّا يحسّن قبيحه، كما أنّ العجف «1» ممّا يقبّح حسنه. فصوّر أثر السمن فيه تصويرا هو أوقع في نفس السامع، و هي به آنس، و له أقبل، و على حقيقته أوقف. فقد علمت من ذلك أنّ تصوير عظم الأمانة، و صعوبة أمرها، و ثقل محملها، و الوفاء بها، بما في الآية، لأجل تقريبه إلى الفهم.

و قيل: الآية على معناها الحقيقي، لما روي أنّ اللّه سبحانه لمّا خلق هذه الأجرام خلق فيها فهما، و قال لها: إنّي فرضت فريضة، و خلقت جنّة لمن أطاعني فيها، و نارا لمن عصاني. فقلن: نحن مسخّرات على ما خلقتنا، لا نحتمل فريضة، و لا نبتغي ثوابا و لا عقابا. و لمّا خلق آدم عرض عليه مثل ذلك فحمله، و كان ظلوما لنفسه بتحمّله

ما يشقّ عليها، جهولا بوخامة عاقبته.

و لعلّ المراد بالأمانة: العقل أو التكليف. و بعرضها عليهنّ اعتبارها بالإضافة إلى استعدادهنّ. و بإبائهنّ الإباء الطبيعي الّذي هو عدم القابليّة و الاستعداد. و بحمل الإنسان قابليّته و استعداده لها. و كونه ظلوما جهولا لما غلب عليه من القوّة الغضبيّة و الشهويّة. و على هذا يحسن أن يكون علّة للحمل عليه، فإنّ من فوائد العقل أن يكون مهيمنا على القوّتين، حافظا لهما عن التعدّي و مجاوزة الحدّ، و معظم مقصود التكليف تعديلهما و كسر سورتهما.

و قيل: المراد بالأمانة أمانات الناس و الوفاء بالعهود.

______________________________

(1) العجف: الضعف و الهزال.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 412

و اللام في قوله: لِيُعَذِّبَ اللَّهُ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ وَ يَتُوبَ اللَّهُ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ للتعليل على طريق المجاز، لأنّ التعذيب نتيجة حمل الأمانة، كما أنّ التأديب في: ضربته للتأديب، نتيجة الضرب. و ذكر التوبة في الوعد إشعارا بأنّ المؤمنين- مع كونهم مطيعين- لا يخلون عن فرطات صادرة عن مقتضى جبلّتهم.

وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً حيث تاب عن فرطاتهم رَحِيماً حيث أثاب بالفوز على طاعاتهم.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 413

(34) سورة سبأ

اشارة

مكّيّة. و هي أربع و خمسون آية.

عن أبيّ بن كعب، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ سورة سبأ، لم يبق نبيّ و لا رسول إلّا كان له يوم القيامة رفيقا و مصافحا».

و

روي عن ابن أذينة، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «من قرأ الحمدين جميعا: سبأ و فاطر، في ليلة، لم يزل ليلته في حفظ اللّه و كلاءته، فإن قرأهما في نهاره، لم يصبه في نهاره مكروه، و أعطي من خير الدنيا و خير الآخرة، ما لم يخطر على قلبه،

و لم يبلغ مناه».

[سورة سبإ (34): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْخَبِيرُ (1) يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَ ما يَخْرُجُ مِنْها وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَ ما يَعْرُجُ فِيها وَ هُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ (2)

و اعلم أنّ اللّه سبحانه لمّا ختم سورة الأحزاب ببيان الغرض في التكليف، و أنّه سبحانه يجزي المحسنين بإعطائهم مثوبة الآخرة، الّتي هي أجلّ النعم التي

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 414

توجب الحمد و الشكر عليها، افتتح هذه السورة بالحمد له على نعمته و كمال قدرته، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ خلقا و نعمة. فله الحمد في الدنيا لكمال قدرته، و على تمام نعمته وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ لأنّ ما في الآخرة أيضا كذلك. و ليس هذا من عطف المقيّد على المطلق، لأنّ وصف ذاته بعد الحمد الأوّل بما يدلّ على أنّه المحمود بالنعم الدنيويّة قيّد الحمد بها.

و قال في الكشّاف: «لمّا قال: الْحَمْدُ لِلَّهِ ثمّ وصف ذاته بالإنعام بجميع النعم الدنيويّة، كان معناه: أنّه المحمود على نعم الدنيا، كما تقول: احمد أخاك الّذي كساك و حملك، تريد: احمده على كسوته و حملانه. و لمّا قال: وَ لَهُ الْحَمْدُ فِي الْآخِرَةِ علم أنّه المحمود على نعم الآخرة، و هو الثواب الدائمي» «1».

و تقديم الصلة في الثاني للاختصاص، فإنّ النعم الدنيويّة قد تكون بواسطة من يستحقّ الحمد لأجلها، و لا كذلك نعم الآخرة.

و اعلم أنّ الحمد في الدنيا واجب، لأنّه على نعمة متفضّل بها، و هو الطريق إلى تحصيل نعمة الآخرة. و الحمد في الآخرة

ليس بواجب، لأنّه على نعمة واجبة الإيصال إلى مستحقّها، فإنّما هو تتمّة سرور المؤمنين، و تكملة اغتباطهم، يلتذّون به كما يلتذّ من به العطش الشديد بالماء البارد.

وَ هُوَ الْحَكِيمُ الّذي أحكم أمور الدارين، و دبّرها بحكمته الْخَبِيرُ ببواطن الأشياء.

ثمّ ذكر ممّا يحيط به علما بقوله: يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ ما يدخل فيها، كالغيث ينفذ في موضع و ينبع في آخر، و كالكنوز و الدفائن و الأموات وَ ما يَخْرُجُ مِنْها

______________________________

(1) الكشاف 3: 566.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 415

كالحيوان، و النبات، و الفلزّات، و ماء العيون وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ كالملائكة، و الكتب، و أنواع البركات، و المقادير، و الأمطار، و الصواعق، و الأرزاق.

كقوله: وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ «1». وَ ما يَعْرُجُ فِيها كالملائكة، و أعمال العباد، و الأبخرة. و هو سبحانه يجري جميع ذلك على تقدير تقتضيه الحكمة، و تدبير توجبه المصلحة.

وَ هُوَ الرَّحِيمُ الْغَفُورُ للمفرطين في شكر نعمته مع كثرتها. أو في الآخرة مع ما له من سوابق هذه النعم الفانية للحصر. أو الرحيم بعباده مع علمه بما يعملون من المعاصي، فلا يعاجلهم بالعقوبة، و يمهلهم للتوبة. الغفور: الساتر عليهم ذنوبهم في الدنيا، المتجاوز عنها في العقبى.

[سورة سبإ (34): الآيات 3 الى 5]

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ قُلْ بَلى وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ عالِمِ الْغَيْبِ لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرُ إِلاَّ فِي كِتابٍ مُبِينٍ (3) لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ (4) وَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (5)

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَأْتِينَا السَّاعَةُ إنكار لمجيئها، أو استبطاء، استهزاء بالوعد

به قُلْ بَلى ردّ لكلامهم، و إثبات لما نفوه وَ رَبِّي لَتَأْتِيَنَّكُمْ تكرير

______________________________

(1) الذاريات: 22.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 416

لإيجابه، مؤكّدا بالقسم.

ثمّ وصف المقسم به بصفات تقرّر إمكان مجيئها، و تنفي استبعاده، بقوله:

عالِمِ الْغَيْبِ و قرأ حمزة و الكسائي: علّام الغيب، للمبالغة. و نافع و ابن عامر و رويس: عالم الغيب بالرفع، على أنّه خبر محذوف، أو مبتدأ خبره لا يَعْزُبُ عَنْهُ مِثْقالُ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ أي: لا يبعد عنه. من العزوب، و هو البعد.

يقال: روض عزيب: بعيد من الناس. و قرأ الكسائي: لا يعزب، بالكسر. وَ لا أَصْغَرُ مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْبَرُ إِلَّا فِي كِتابٍ مُبِينٍ جملة مؤكّدة لنفي العزوب. و رفعهما بالابتداء. و يؤيّده القراءة بالفتح على نفي الجنس.

و لا يجوز عطف المرفوع على «مثقال» و المفتوح على «ذرّة» بأنّه فتح في موضع الجرّ، لامتناع الصرف، لأنّ الاستثناء يمنعه. اللّهمّ إلا إذا جعل الضمير في «عنه» للغيب، و جعل المثبت في اللوح خارجا عنه، لظهوره على المطالعين له.

فيكون المعنى: لا ينفصل عن الغيب شي ء إلّا مسطورا في اللوح.

و تنقيح المبحث: أنّ قيام الساعة من مشاهير الغيوب، و أدخلها في الخفية، فحين أقسم باسمه سبحانه على إثبات قيام الساعة، و أنّه كائن لا محالة، ثمّ وصف بأنّه عالم الغيب، و أنّه لا يفوت علمه شي ء من الخفيّات، و اندرج تحته إحاطته بوقت قيام الساعة، فلأجل هذه الفائدة اختار لذاته هذه الصفة، و لم يورد صفات اخرى مقامها.

و قوله: لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ علّة لقوله: «لتأتينّكم» و بيان لما يقتضي إتيانها أُولئِكَ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ رِزْقٌ كَرِيمٌ هني ء لا تنغيص فيه و لا تكدير، و لا تعب فيه، و

لا منّ عليه.

و لمّا لم يقتصر على اليمين، بل أتبعها الحجّة القاطعة، و البيّنة الساطعة، و هي قوله: «ليجزي» علّة لمجي ء الساعة، فقد وضع اللّه في العقول، و ركّب في الغرائز

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 417

وجوب الجزاء، و أنّ المحسن لا بدّ له من ثواب، و المسي ء لا بدّ له من عقاب.

فلا يقال: الناس قد أنكروا إتيان الساعة و جحدوه. فهب أنّه حلف لهم بأغلظ الأيمان، و أقسم عليهم جهد القسم، فيمين من هو في معتقدهم مفتر على اللّه كذبا، كيف تكون مصحّحة لما أنكروه؟

وَ الَّذِينَ سَعَوْا فِي آياتِنا بالإبطال و تزهيد الناس عن قبولها مُعاجِزِينَ مسابقين كي يفوتونا. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو: معجزين، أي: مثبّطين عن الإيمان من أراده أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ من سيّ ء العذاب أَلِيمٌ مؤلم. و رفعه ابن كثير و يعقوب و حفص.

[سورة سبإ (34): آية 6]

وَ يَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ هُوَ الْحَقَّ وَ يَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (6)

ثمّ ذكر سبحانه المؤمنين، و اعترافهم بما جحده من تقدّم ذكرهم من الكافرين، فقال:

وَ يَرَى الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ و يعلم أولوا العلم بالنظر و الاستدلال من أصحاب محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و من شايعهم من الأمّة، أو من مسلمي أهل الكتاب، مثل كعب الأحبار و عبد اللّه بن سلام. و قيل: هم كلّ من أوتي العلم بالدين. و هذا أولى، لعمومه.

الَّذِي أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ يعني: القرآن. و الموصول مع صلته المفعول الأوّل ل «يرى». و قوله: هُوَ الْحَقَ المفعول الثاني. و الضمير للفصل. و من قرأ بالرفع جعله مبتدأ، و «الحقّ» خبره، و الجملة في موضع المفعول الثاني، و «يرى» مع مفعوله

مرفوع مستأنف، للاستشهاد بأولي العلم على الجهلة الساعين في الآيات.

و قيل: «يرى» في موضع النصب، معطوف على «ليجزي» أي: ليعلم أولوا

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 418

العلم عند مجي ء الساعة أنّه الحقّ عيانا، كما علموه حقّا برهانا.

وَ يَهْدِي إِلى صِراطِ الْعَزِيزِ القادر الّذي لا يغالب الْحَمِيدِ المحمود على جميع أفعاله. و صراطه: التوحيد، و التدرّع بلباس التقوى.

و في هذه الآية دلالة على فضيلة العلم، و شرف العلماء، و عظم أقدارهم.

[سورة سبإ (34): الآيات 7 الى 9]

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يُنَبِّئُكُمْ إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ (7) أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَ الضَّلالِ الْبَعِيدِ (8) أَ فَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (9)

ثمّ عاد سبحانه إلى الحكاية عن الكفّار، فقال: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا قال بعضهم لبعض، أو القادة للأتباع، استبعادا و تعجّبا هَلْ نَدُلُّكُمْ عَلى رَجُلٍ يعنون محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إن كان مشهورا علما في قريش، و كان إنباؤه بالبعث شائعا عندهم، لكن هنا نكّروه قصدا منهم إلى الطنز و السخريّة، فأخرجوه مخرج التحلّي ببعض الحكايات الّتي يحاكى بها للضحك و التلهّي، متجاهلين به و بأمره.

يُنَبِّئُكُمْ يحدّثكم بأعجب الأعاجيب إِذا مُزِّقْتُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ أي: يمزّق أجسادكم البلى كلّ ممزّق إِنَّكُمْ لَفِي خَلْقٍ جَدِيدٍ أي: إنّكم تنشؤن خلقا جديدا، بعد أن تمزّق أجسادكم كلّ تمزيق- أي: تبدّدت أجزاؤكم كلّ تبديد- و تفرّق كلّ تفريق، بحيث تصير ترابا و رفاتا.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 419

و تقديم الظرف

للدلالة على البعد و المبالغة فيه. و عامله محذوف، دلّ عليه ما بعده، فإنّ ما قبله لم يقارنه، و ما بعده مضاف إليه، أو محجوب بينه و بينه ب «إنّ».

و «ممزّق» يحتمل أن يكون مكانا، بمعنى: إذا مزّقتم، و ذهب بكم السيول كلّ مذهب، و طرحتكم الرياح كلّ مطرح.

و «جديد» عند البصريّين بمعنى فاعل، من: جدّ فهو جديد، كحديد من:

حدّ، و قليل من: قلّ. و عند الكوفيّين بمعنى مفعول، من: جدّ النسّاج الثوب إذا قطعه.

أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً حيث زعم أنّا نبعث بعد الموت. و هو استفهام تعجّب و إنكار. أَمْ بِهِ جِنَّةٌ جنون يوهمه ذلك، و يلقيه على لسانه، و لا يعلم ما يقول.

و إسقاط همزة الوصل في «افترى» و إثباتها في نحو: آلسحر، خوف التباس الاستفهام بالخبر في الثاني، لكون همزته مفتوحة كهمزة الاستفهام، بخلاف الأوّل، فإنّ همزة الوصل فيه مكسورة، تقديره: أ افترى.

و استدلال من جعل بين الصدق و الكذب واسطة، بجعلهم إيّاه قسيم الافتراء غير معتقدين صدقه، على أنّ بين الصدق و الكذب واسطة، و هو كلّ خبر لا يكون عن بصيرة بالمخبر عنه. ضعيف بيّن الضعف، لأنّ الافتراء أخصّ من الكذب، لأنّه كذب عن عمد، و لا عمد للمجنون، فلا يكون الثاني قسيما للكذب مطلقا، بل لما هو أخصّ منه، أعني: الافتراء. فيكون حصرا للخبر الكاذب بزعمهم في نوعيه، أعني: الكذب عن عمد، و الكذب لا عن عمد.

ثمّ ردّ اللّه عليهم ترديدهم، و أثبت لهم ما هو أفظع من القسمين، و هو الضلال البعيد عن الصواب، بحيث لا يرجى الخلاص منه، و ما هو مؤدّاه من العذاب، فقال:

بَلِ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ فِي الْعَذابِ وَ الضَّلالِ الْبَعِيدِ جعل العذاب

زبدة

التفاسير، ج 5، ص: 420

رسيلا «1» له في الوقوع، و مقدّما عليه في اللفظ، للمبالغة في استحقاقهم له.

و «البعيد» في الأصل صفة الضالّ. يقال: ضلّ فلان، إذا بعد عن الجادّة. و وصف الضلال به على الإسناد المجازي.

ثمّ ذكّرهم بما يعاينونه ممّا يدلّ على كمال قدرة اللّه، و ما يحتمل فيه، إزاحة لاستحالتهم الإحياء، حتّى جعلوه افتراء و تهديدا عليها، فقال:

أَ فَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ ا فلم ينظروا إلى ما أحاط بجوانبهم من السماء و الأرض، و لم يتفكّروا أهم أشدّ خلقا أم هما؟ إِنْ نَشَأْ نَخْسِفْ بِهِمُ الْأَرْضَ أَوْ نُسْقِطْ عَلَيْهِمْ كِسَفاً مِنَ السَّماءِ لتكذيبهم بالآيات بعد ظهور البيّنات، كما فعل بقارون و أصحاب الأيكة.

و قرأ حمزة و الكسائي: يشأ، و «يخسف» و «يسقط» بالياء، لقوله: «أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ». و حفص: كسفا بالتحريك.

إِنَّ فِي ذلِكَ النظر إلى السماء و الأرض، و التفكّر فيهما، و ما يدلّان عليه من قدرة اللّه لَآيَةً لدلالة لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ و هو الراجع إلى ربّه المطيع له، فإنّ المنيب يكون كثير التأمّل في أمره، فهو الّذي ينظر و يتفكّر في آيات اللّه، على أنّه قادر على كلّ شي ء، من البعث و من عقاب من يكفر به، و إثابة من يؤمن به.

[سورة سبإ (34): الآيات 10 الى 11]

وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلاً يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ وَ الطَّيْرَ وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ (10) أَنِ اعْمَلْ سابِغاتٍ وَ قَدِّرْ فِي السَّرْدِ وَ اعْمَلُوا صالِحاً إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (11)

______________________________

(1) الرسيل: الموافق لك في النضال و نحوه.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 421

و لمّا تقدّم ذكر عباد اللّه المنيبين إليه، وصله سبحانه بذكر داود و سليمان، فإنّهما لإنابتهما إلى اللّه سبحانه

فضّلهما على العالمين بالنبوّة و الملك، و أعطاهما ما أعطاهما من الأمور الدينيّة و السياسة الدنيويّة، فقال:

وَ لَقَدْ آتَيْنا داوُدَ مِنَّا فَضْلًا أي: على سائر الأنبياء بما ذكر بعد. أو على سائر الناس، فيندرج فيه النبوّة، و الحكومة، و الكتاب، و الملك، و الصوت الحسن، و فصل الخطاب، و غير ذلك من معجزاته.

يا جِبالُ أَوِّبِي مَعَهُ رجّعي معه التسبيح. من: آب إذا رجع. و ذلك بأنّ اللّه يخلق فيها تسبيحا، كما خلق الكلام في الشجرة، فيسمع منها ما يسمع من المسبّح، معجزة لداود.

و قيل: كان ينوح على ترك ندبه بترجيع و تحزين. و كانت الجبال تسعده على نوحه بأصدائها «1».

و قيل: معناه: سيري معه حيث سار. و هو بدل من «فضلا» أو من «آتينا» بإضمار: قولنا، أو قلنا.

وَ الطَّيْرَ عطف على محلّ الجبال. و يؤيّده قراءة يعقوب بالرفع عطفا على لفظها، تشبيها للحركة البنائيّة العارضة بحركة الإعراب. أو على «فضلا» بمعنى:

و سخّرنا له الطّير. و يجوز أن يكون مفعولا معه ل «أوّبي». و كان أصل النظم: و لقد آتينا داود منّا فضلا، تأويب الجبال و الطير. فبدّل بهذا النظم. و كم فرق بين النظمين، من الفخامة الّتي لا يخفى، من الدلالة على عزّة الربوبيّة و كبرياء الإلهيّة، حيث جعلت الجبال منزّلة منزلة العقلاء الّذين إذا أمرهم أطاعوا و أذعنوا، و إذا دعاهم سمعوا و أجابوا، إشعارا بأنّه ما من حيوان و جماد و ناطق و صامت، إلّا و هو منقاد لمشيئته، غير ممتنع على إرادته، بخلاف الأخير.

______________________________

(1) الأصداء جمع الصدى، و هو ما يردّه الجبل أو غيره إلى المصوّت مثل صوته.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 422

وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ جعلناه في يده كالشمع و العجين، يصرفه

بيده كيف يشاء، من غير إحماء و طرق بالآلة. و قيل: لان الحديد في يده لما أوتي من شدّة القوّة.

أَنِ اعْمَلْ أمرناه أن اعمل. و «أن» مفسّرة، أو مصدريّة. سابِغاتٍ دروعا واسعات وَ قَدِّرْ فِي السَّرْدِ و عدّل في نسجها، بحيث يتناسب حلقها. و من قال: إنّ معناه: قدّر مساميرها، فلا تجعلها دقاقا فتقلق «1»، و لا غلاظا فتنخرق. لا يخلو كلامه من ضعف، لأنّ دروعه لم تكن مسمّرة. و يؤيّده قوله: «وَ أَلَنَّا لَهُ الْحَدِيدَ».

و هو عليه السّلام أوّل من اتّخذ الدروع، و كانت قبل صفائح.

و قيل: كان يبيع الدرع بأربعة آلاف، فينفق منها على نفسه و عياله، و يتصدّق على الفقراء.

و قيل: كان يخرج من البيت و هو ملك بني إسرائيل متنكّرا، فيسأل الناس عن نفسه و يقول لهم: ما تقولون في داود؟ فيثنون عليه. فقيّض اللّه له ملكا في صورة آدميّ، فسأله على عادته، فقال: نعم الرجل لولا خصلة فيه. فريع «2» داود، فسأله؟

فقال: لولا أنّه يطعم و يطعم عياله من بيت المال. فحزن لذلك، فعلّمه اللّه صنعة الدروع.

و

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ اللّه تعالى أوحى إلى داود: نعم العبد أنت لولا أنّك تأكل من بيت المال! فبكى داود أربعين صباحا، فألان اللّه له الحديد. و كان يعمل كلّ يوم درعا، فيبيعها بألف درهم. فعمل ثلاثمائة و ستّين درعا، فباعها بثلاثمائة و ستّين ألفا، فاستغنى عن بيت المال».

وَ اعْمَلُوا صالِحاً الضمير لداود و أهله، أي: اعمل أنت و أهلك الأعمال الصالحة، شكرا للّه على عظيم نعمه إِنِّي بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ فأجازيكم عليه.

______________________________

(1) أي: تتحرّك و تضطرب.

(2) أي: فزع. يقال: ريع فلان: فزع. من: راع يروع روعا.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 423

[سورة سبإ (34): الآيات 12 الى 14]

وَ لِسُلَيْمانَ

الرِّيحَ غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ وَ أَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ وَ مِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ بَيْنَ يَدَيْهِ بِإِذْنِ رَبِّهِ وَ مَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ عَنْ أَمْرِنا نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ (12) يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ وَ تَماثِيلَ وَ جِفانٍ كَالْجَوابِ وَ قُدُورٍ راسِياتٍ اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ (13) فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ ما دَلَّهُمْ عَلى مَوْتِهِ إِلاَّ دَابَّةُ الْأَرْضِ تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُّ أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ ما لَبِثُوا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ (14)

ثمّ ذكر سبحانه ما آتى سليمان من الفضل و الكرامة، فقال: وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ أي: و سخّرنا له الريح غُدُوُّها شَهْرٌ وَ رَواحُها شَهْرٌ أي: جريها بالغداة مسيرة شهر، و بالعشيّ كذلك. و المعنى: أنّها كانت تسير في اليوم مسيرة شهرين.

و عن الحسن: كان يغدو فيقيل بإصطخر، ثمّ يروح من إصطخر فيبيت بكابل، و بينهما مسيرة شهر، تحمله الريح مع جنوده.

وَ أَسَلْنا لَهُ عَيْنَ الْقِطْرِ النحاس المذاب. أساله له من معدنه، فنبع منه نبوع الماء من الينبوع، و لذلك سمّاه عين القطر. و كان ذلك باليمن. و قيل: كان يسيل في الشهر ثلاثة أيّام بلياليهنّ.

وَ مِنَ الْجِنِّ مَنْ يَعْمَلُ عطف على الريح. و الجارّ و المجرور حال متقدّمة، أو جملة «من» مبتدأ و خبر بَيْنَ يَدَيْهِ بحضرته و أمام عينه، ما يأمرهم به من الأعمال كما يعمل الآدمي بين يدي الآدمي. بِإِذْنِ رَبِّهِ بأمره. و عن ابن عبّاس:

سخّرهم اللّه لسليمان، و أمرهم بطاعته فيما يأمر و يمنع. فكان يكلّفهم الأعمال

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 424

الشاقّة، مثل عمل الطين و غيره. و في هذا دلالة على أنّه قد كان من الجنّ من هو غير

مسخّر له.

وَ مَنْ يَزِغْ مِنْهُمْ و من يعدل منهم عَنْ أَمْرِنا عمّا أمرناه من طاعة سليمان نُذِقْهُ مِنْ عَذابِ السَّعِيرِ و عن السدّي: كان معه ملك بيده سوط من نار، كلّما استعصى عليه ضربه ضربة من حيث لا يراه الجنّي. و فيه دلالة على أنّهم كانوا مكلّفين.

يَعْمَلُونَ لَهُ ما يَشاءُ مِنْ مَحارِيبَ قصورا حصينة، و مساكن شريفة.

سمّيت بها لأنّها يذبّ عنها، و يحارب و يحامى عليها. و عن قتادة: هي المساجد يتعبّد فيها.

و كان ممّا عملوه بيت المقدس، و قد كان اللّه عزّ اسمه سلّط على بني إسرائيل الطاعون، فهلك خلق كثير في يوم واحد. فأمرهم داود ليغتسلوا و يبرزوا إلى الصعيد بالذراري و الأهلين، و يتضرّعوا إلى اللّه تعالى لعلّه يرحمهم.

و ذلك صعيد بيت المقدس قبل بناء المسجد. و ارتفع داود فوق الصخرة، فخرّ ساجدا يبتهل إلى اللّه تعالى، و سجدوا معه، فلم يرفعوا رؤوسهم حتّى كشف اللّه عنهم الطاعون.

فلمّا أن شفّع اللّه تعالى داود في بني إسرائيل، جمعهم داود بعد ثلاث و قال لهم: إنّ اللّه تعالى قد منّ عليكم و رحمكم، فجدّدوا له شكرا، بأن تتّخذوا من هذا الصعيد الّذي رحمكم فيه مسجدا. ففعلوا، و أخذوا في بناء بيت المقدس، و كان داود ينقل الحجارة لهم على عاتقه، و كذلك خيار بني إسرائيل، حتّى رفعوه قامة، و لداود يومئذ سبع و عشرون و مائة سنة. فأوحى اللّه تعالى إلى داود: أنّ تمام بنائه يكون على يدي ابنه سليمان.

فلمّا صار داود ابن أربعين و مائة سنة توفّاه اللّه تعالى، و استخلف سليمان،

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 425

فأحبّ إتمام بيت المقدس، فجمع الجنّ و الشياطين، و قسّم عليهم الأعمال، يخصّ كلّ طائفة منهم بعمل. فأرسل

الجنّ و الشياطين في تحصيل الرخام و المها «1» الأبيض الصافي من معادنه. و أمر ببناء المدينة من الرخام و الصفّاح «2»، و جعلها اثني عشر ربضا، و أنزل كلّ ربض منها سبطا من الأسباط.

و لمّا فرغ من بناء المدينة ابتدأ في بناء المسجد، فوجّه الشياطين فرقا، فرقة يستخرجون الذهب و اليواقيت من معادنها، و فرقة يقلعون الجواهر و الأحجار من أماكنها، و فرقة يأتونه بالمسك و العنبر و سائر الطيب، و فرقة يأتونه بالدرّ من البحار. فأتي من ذلك بشي ء لا يحصيه إلّا اللّه تعالى. ثمّ أحضر الصنّاع، و أمرهم بنحت تلك الأحجار حتّى صيّروها ألواحا، و بمعالجة تلك الجواهر و اللآلئ.

و بنى سليمان المسجد بالرخام الأبيض و الأصفر و الأخضر، و عمده «3» بأساطين المها الصافي، و سقّفه بألواح الجواهر، و فضّض «4» سقوفه و حيطانه باللآلئ و اليواقيت و الجواهر، و بسط أرضه بألواح الفيروزج. فلم يكن في الأرض بيت أبهى و لا أنور من ذلك المسجد، كان يضي ء في الظلمة كالقمر ليلة البدر.

قال سعيد بن المسيّب: لمّا فرغ سليمان من بناء بيت المقدّس، تغلّقت أبوابه، فعالجها سليمان فلم تنفتح، حتّى قال في دعائه: بصلوات أبي داود إلّا فتحت

______________________________

(1) المها جمع المهاة: البلّورة.

(2) الصفّاح: الحجارة العريضة الرقيقة. و الربض: سور المدينة، و كلّ ما يؤوى و يستراح إليه من أهل و قريب و مال و بيت و نحو ذلك، أو ما حول المدينة من بيوت و مساكن.

(3) عمد السقف: أقامه بعماد و دعمه.

(4) فضّض الشي ء: موّهه أو رصّعه بالفضّة.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 426

الأبواب، ففتحت. ففرّغ له سليمان عشرة آلاف من قرّاء بني إسرائيل: خمسة آلاف بالليل، و خمسة آلاف بالنهار، فلا

تأتي ساعة من ليل و لا نهار إلّا و يعبد اللّه فيها.

وَ تَماثِيلَ و صور الملائكة و الأنبياء، من نحاس و صفر و زجاج و رخام.

و عن ابن عبّاس: كانوا يعملون صور الأنبياء و العبّاد في المساجد، ليرى الناس فيقتدوا بهم، و يعبدوا نحو عبادتهم.

و قيل: كانت صور الحيوانات. و قيل: كانوا يعملون صور السباع و البهائم، ليكون أهيب له. و لم تكن يومئذ التصاوير محرّمة. و هي محظورة في شريعة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قد بيّن اللّه سبحانه أنّ المسيح كان يصوّر بأمر اللّه من الطين كهيئة الطير.

و روي: أنّهم صوّروا أسدين في أسفل كرسيّه، و نسرين فوقه، فإذا أراد أن يصعد بسط الأسدان له ذراعيهما، و إذا قعد أظلّه النسران بأجنحتهما.

وَ جِفانٍ كَالْجَوابِ و صحاف كالحياض الكبار الّتي يجبى فيها الماء، أي:

يجمع. جمع جابية، من الجباية. و هي من الصفات الغالبة، كالدابّة. و كان سليمان يصلح طعام جيشه في مثل هذه الجفان، فإنّه لم يمكنه أن يطعمهم في مثل قصاع «1» الناس لكثرتهم. و قيل: إنّه كان يقعد على كلّ جفنة ألف رجل يأكلون بين يديه.

وَ قُدُورٍ راسِياتٍ ثابتات على الأثافيّ «2» لا يزلن عن أمكنتهنّ لعظمهنّ.

ثمّ نادى سبحانه آل داود، و أمرهم بالشكر على ما أنعم به عليهم من هذه النعمة العجيبة، لأنّ نعمته على سليمان نعمة عليهم، فقال:

اعْمَلُوا آلَ داوُدَ شُكْراً نصب على العلّة، أي: اعملوا له و اعبدوه، لأجل

______________________________

(1) قصاع جمع قصعة، و هي الصحفة. و الجفنة: القصعة الكبيرة.

(2) الأثافيّ جمع الاثفيّة: الحجر توضع عليه القدر.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 427

شكركم للّه على ما آتاكم من النعم. أو على المصدر، لأنّ العمل له شكر، كأنّه

قيل:

اشكروا شكرا. أو الوصف له، أي: اعملوا عملا شكرا. أو الحال، بمعنى: شاكرين.

أو المفعول به، أي: افعلوا شكرا.

وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ المتوفّر على أداء الشكر بقلبه و لسانه و جوارحه، في أكثر أوقاته. و مع ذلك لا يوفّي حقّه، لأنّ توفيقه للشكر نعمة تستدعي شكرا آخر لا إلى نهاية. و لذلك قيل: الشكور من يرى عجزه عن الشكر.

و الفرق بين الشكور و الشاكر: أنّ الشكور من تكرّر منه الشكر، و الشاكر من وقع منه الشكر.

قيل: جزّأ ساعات الليل و النهار على أهله، فلم تكن تأتي ساعة من الساعات إلّا و إنسان من آل داود قائم يصلّي.

و روي: أنّ عمر سمع رجلا يقول: اللّهمّ اجعلني من القليل. فقال عمر: ما هذا الدعاء؟ فقال الرجل: إنّي سمعت اللّه تعالى يقول: «وَ قَلِيلٌ مِنْ عِبادِيَ الشَّكُورُ» فأنا أدعوه أن يجعلني من ذلك القليل. فقال عمر: كلّ الناس أعلم من عمر.

فَلَمَّا قَضَيْنا عَلَيْهِ الْمَوْتَ أي: على سليمان ما دَلَّهُمْ ما دلّ الجنّ.

و قيل: آله. عَلى مَوْتِهِ إِلَّا دَابَّةُ الْأَرْضِ أي: إلّا الأرضة. أضيفت إلى فعلها. يقال:

أرضت الخشبة أرضا، إذا أكلتها الأرضة. تَأْكُلُ مِنْسَأَتَهُ عصاه. من: نسأت البعير إذا طردته، لأنّها تطرد بها.

فَلَمَّا خَرَّ تَبَيَّنَتِ الْجِنُ ظهرت الجنّ. من: تبيّن الشي ء إذا ظهر و تجلّى.

و «أن» مع صلتها بدل من «الجنّ» بدل الاشتمال، كقولك: تبيّن زيد جهله. أو علمت الجنّ علما بيّنا بعد التباس الأمر عليهم. أَنْ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ الْغَيْبَ كما يزعمون لعلموا موته. فلأجل ذلك ما لَبِثُوا بعده حولا فِي الْعَذابِ الْمُهِينِ الّذي هو عمل البناء، و حمل الصخر العظيم، و غير ذلك من الأعمال الشاقّة إلى أن خرّ.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 428

و فيه تهكّم بالجنّ، كما

تتهكّم بمدّعي الباطل إذا دحضت حجّته و ظهر إبطاله، بقولك: هل تبيّنت أنّك مبطل، و أنت تعلم أنّه لم يزل كذلك متبيّنا؟

روي: أنّ داود أسّس بيت المقدس في موضع فسطاط موسى عليه السّلام، فمات داود عليه السّلام قبل تمامه كما مرّ، فوصّى به إلى سليمان، فاستعمل الجنّ فيه، فلم يتمّ بعد إذ دنا أجله.

و روي: أنّه كان من عادة سليمان عليه السّلام أن يعتكف في مسجد بيت المقدس سنة و سنتين، و شهرا و شهرين، و أقلّ و أكثر، يدخل فيه طعامه و شرابه. فلمّا دنا أجله لم يصبح إلّا راى في محرابه شجرة نابتة قد أنطقها اللّه تعالى، فيسألها لأيّ شي ء أنت؟ فتخبر عن اسمها و نفعها و ضرّها. حتّى أصبح ذات يوم، فرأى الخرّوبة «1» فسألها. فقالت: نبتّ لخراب هذا المسجد. فقال: ما كان اللّه ليخربه و أنا حيّ. أنت الّتي على وجهك هلاكي و خراب بيت المقدس. فنزعها و غرسها في حائط.

و قال: اللّهمّ عمّ «2» على الجنّ موتي، ليتمّوا بناء بيت المقدس، و ليعلم الناس أنّ الجنّ لا يعلمون الغيب، لأنّهم كانوا يسترقون السمع، و يموّهون على الإنس أنّهم يعلمون الغيب.

و قال لملك الموت: إذا أمرت بي فأعلمني.

فقال: أمرت بك، و قد بقيت من عمرك ساعة.

فدعا الشياطين، فبنوا عليه صرحا من قوارير ليس له باب، فقام يصلّي متّكئا على عصاه، فقبض روحه و هو متّكئ عليها. و كان الجنّ يحسبونه حيّا، لما كانوا

______________________________

(1) الخرّوبة و الخرنوبة: شجر مثمر من فصيلة القرنيّات، دائم الورق، منابته منطقة شرقيّ المتوسّط، ثماره تستعمل لعلف الحيوان، و يستخرج منه نوع من الدبس.

(2) فعل أمر من: عمّى المعنى، أي: أخفاه.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 429

يشاهدونه من طول قيامه

قبل ذلك، فيعملون البناء خشية منه، حتّى يتمّ بيت المقدس.

و روي: أنّ الشياطين كانوا يجتمعون حول محرابه أينما صلّى، فلم يكن شيطان ينظر إليه في صلاته إلّا احترق. فمرّ به شيطان فلم يسمع صوته، ثم رجع فلم يسمع، ثمّ رجع فلم يسمع صوته، فنظر فإذا سليمان قد خرّ ميّتا. ففتحوا عنه، فإذا العصا قد أكلتها الأرضة. ثمّ أرادوا أن يعرفوا وقت موته، فوضعوا الأرضة على العصا، فأكلت يوما و ليلة مقدارا، فحسبوا على ذلك النحو، فوجدوه قد مات منذ سنة.

و ذكر أهل التاريخ: أنّ عمره كان ثلاثا و خمسين سنة. و ملك و هو ابن ثلاث عشرة سنة. و ابتدأ عمارة بيت المقدس لأربع مضين من ملكه. و لم يزل بيت المقدس على ما بناه سليمان حتّى غزا بختنصّر بني إسرائيل، فخرّب المدينة و هدمها، و نقض المسجد، و أخذ ما في سقوفه و حيطانه من الذهب و الفضّة و الدرّ و اليواقيت و سائر الجواهر، فحملها إلى دار مملكته من أرض العراق.

و قال في المجمع: «إنّ في إماتته قائما و بقائه كذلك أغراضا، منها: إتمام البناء. و منها: أن يعلم الإنس أنّ الجنّ لا يعلمون الغيب، و أنّهم في ادّعاء ذلك كاذبون. و منها: أن يعلم أنّ من حضر أجله فلا يتأخّر، إذ لم يؤخّر سليمان مع جلالته» «1».

و روي: أنّه أطلعه اللّه على حضور وفاته، فاغتسل و تحنّط و تكفّن، و الجنّ في عملهم.

و

روى أبو بصير، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إنّ سليمان أمر الشياطين فعملوا له قبّة من قوارير، فبينا هو قائم متّكئ على عصاه في القبّة، ينظر إلى الجنّ كيف

______________________________

(1) مجمع البيان 8: 383- 384. زبدة التفاسير، ج 5، ص:

430

يعملون، و هم ينظرون إليه و لا يصلون إليه، إذا رجل معه في القبّة، فقال: من أنت؟

قال: أنا الّذي لا أقبل الرشا، و لا أهاب الملوك! فقبضه و هو قائم متّكئ على عصاه في القبّة. فمكثوا سنة يعملون له، حتّى بعث اللّه الأرضة، فأكلت منسأته».

و

في حديث آخر عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «فكان آصف يدبّر أمره حتّى دبّت الأرضة».

و الوجه في عمل الجنّ تلك الأعمال العظيمة، هو أنّ اللّه تعالى زاد في أجسامهم و قوّتهم، و غيّر خلقهم عن خلق الجنّ الّذي لا يرون، للطافتهم و رقّة أجسامهم، على سبيل الإعجاز الدالّ على نبوّة سليمان. فكانوا بمنزلة الأسراء في يده. و كان يتهيّأ لهم الأعمال الّتي كان يكلّفها إيّاهم. ثمّ لمّا مات عليه السّلام جعل اللّه خلقهم على ما كانوا عليه، فلا يتهيّأ لهم في هذا الزمان شي ء من ذلك.

[سورة سبإ (34): الآيات 15 الى 21]

لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ فِي مَسْكَنِهِمْ آيَةٌ جَنَّتانِ عَنْ يَمِينٍ وَ شِمالٍ كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اشْكُرُوا لَهُ بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ (15) فَأَعْرَضُوا فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ وَ بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ وَ أَثْلٍ وَ شَيْ ءٍ مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ (16) ذلِكَ جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا وَ هَلْ نُجازِي إِلاَّ الْكَفُورَ (17) وَ جَعَلْنا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها قُرىً ظاهِرَةً وَ قَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ سِيرُوا فِيها لَيالِيَ وَ أَيَّاماً آمِنِينَ (18) فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ وَ مَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (19)

وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ فَاتَّبَعُوهُ إِلاَّ فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (20) وَ ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلاَّ لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ

مِنْها فِي شَكٍّ وَ رَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ (21)

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 431

ثمّ أخبر سبحانه عن قصّة سبأ بما دلّ على حسن عاقبة الشكور، و سوء عاقبة الكفور، فقال:

لَقَدْ كانَ لِسَبَإٍ لأولاد سبأ بن يشجب بن يعرب بن قحطان. و منع الصرف عنه ابن كثير و أبو عمرو، لأنّه صار اسم القبيلة. و عن ابن كثير: قلب همزته ألفا.

و هو أبو عرب اليمن كلّها. و قد يسمّى به القبيلة.

و

في الحديث عن فروة بن مسيك أنّه قال: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن سبأ أرجل أم امرأة؟ فقال: «هو رجل من العرب، ولد عشرة، تيامن «1» منهم ستّة، و تشاءم منهم أربعة. فأمّا الّذين تيامنوا: فالأزد، و كندة، و مذحج، و الأشعرون، و أنمار، و حمير. فقال رجل من القوم: ما أنمار؟ قال: الّذين منهم خثعم و بجيلة.

و أمّا الّذين تشاءموا: فعاملة، و جذام، و لخم، و غسّان».

فالمعنى: لقد كان لقبيلة سبأ فِي مَسْكَنِهِمْ في مواضع سكناهم. و هي باليمن، يقال لها: مأرب، بينها و بين صنعاء مسيرة ثلاث. و قرأ حمزة و حفص بالإفراد و الفتح «2». و الكسائي بالكسر، حملا على ما شذّ من القياس، كالمطلع

______________________________

(1) تيامن: ذهب ذات اليمين، أو أخذ ناحية اليمين، أو أتى اليمن. و تشاءم و تشأّم: أخذ نحو شماله، أو أتى الشام.

(2) أي: فتح الكاف من: مسكنهم.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 432

و المسجد. آيَةٌ علامة دالّة على وجود الصانع، و أنّه قادر على ما يشاء من الأمور العجيبة، مجاز للمحسن و المسي ء، معاضدة للبرهان السابق، كما في قصّتي داود و سليمان.

جَنَّتانِ بدل من «آية». أو خبر محذوف. تقديره: الآية جنّتان، أي:

العلامة الدالّة على

اللّه و على قدرته و إحسانه و وجوب شكره جنّتان. أو المراد أنّه سبحانه جعل أهلهما لمّا أعرضوا عن شكره سبحانه عليهما، فأبدلهما بالخمط «1» و الأثل آية و عبرة لهم ليعتبروا، فلا يعودوا إلى ما كانوا عليه من الكفر و غمط «2» النعم. و المراد ب «جنّتان» جماعتان من البساتين.

عَنْ يَمِينٍ جماعة عن يمين بلدهم وَ شِمالٍ و جماعة عن شماله. كلّ واحدة من الجماعتين في تقاربها و تضامّها، كأنّها جنّة واحدة. أو بستانا كلّ رجل منهم عن يمين مسكنه و عن شماله. كما قال: جَعَلْنا لِأَحَدِهِما جَنَّتَيْنِ مِنْ أَعْنابٍ «3».

كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ وَ اشْكُرُوا لَهُ قيل: هذا حكاية لما قال لهم أنبياء اللّه المبعوثون إليهم. أو لما قال لهم لسان الحال، أو هم كانوا أحقّاء بأن يقال لهم ذلك.

ثمّ دلّ على موجب الشكر بجملة مستأنفة، هي «بلدة طيّبة»، أي: هذه البلدة الّتي فيها رزقكم بَلْدَةٌ طَيِّبَةٌ وَ رَبٌّ غَفُورٌ و ربّكم الّذي رزقكم، و طلب شكركم، ربّ غفور فرطات من يشكره.

و عن ابن عبّاس: كانت أخصب البلاد و أطيبها، ليست سبخة، و لم يكن لها

______________________________

(1) الخمط: كلّ شجر ذي شوك، أو شجر الأراك، أو كلّ نبت أخذ طعما من مرارة. و الأثل:

شجر من فصيلة الطرفائيّات، يكثر قرب المياه في الأراضي الرمليّة.

(2) أي: لم يشكرها.

(3) الكهف: 32.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 433

عاهة و لا هامّة، من البعوض و الذباب و البراغيث و العقارب و الحيّات.

و عن ابن زيد: كان الغريب إذا دخل بلدهم و في ثيابه قمّل و دوابّ ماتت.

و كانت تخرج المرأة و على رأسها المكتل، فتعمل بيديها، و تسير بين تلك الشجر، و يمتلئ المكتل بما يتساقط فيه من الثمر، من غير

أن تمسّ بيدها شيئا.

و قيل: إنّما كانت ثلاث عشرة قرية، في كلّ قرية نبيّ يدعوهم إلى اللّه سبحانه، يقول لهم: «كُلُوا مِنْ رِزْقِ رَبِّكُمْ» الآية.

فَأَعْرَضُوا عن الحقّ، و لم يشكروا اللّه سبحانه، و لم يقبلوا ممّن دعاهم إلى اللّه من الأنبياء فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ سَيْلَ الْعَرِمِ سيل الأمر العرم، أي: الصعب.

من: عرم الرجل فهو عارم و عرم، إذا شرس «1» خلقه و صعب. أو المطر الشديد. أو الجرذ «2» الّذي نقب عليهم السكر. فأضاف إليه السيل من قبيل إضافة الشي ء إلى سببه.

روي: أنّ بلقيس ضربت لهم بسدّ ما بين الجبلين بالصخر و القار، فمنعت به ماء العيون و الأمطار، و تركت فيه خروقا على مقدار ما يحتاجون إليه من سقيهم.

فلمّا طغوا و كذّبوا رسلهم، سلّط اللّه على سدّهم الجرذ، فنقبه من أسفله فغرّقهم. أو المسنّاة الّتي عقدت سكرا، على أنّه جمع عرمة، و هي الحجارة المركومة «3».

و قيل: اسم واد جاء السيل من قبله، و كان ذلك بين عيسى و محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

وَ بَدَّلْناهُمْ بِجَنَّتَيْهِمْ اللّتين فيهما أنواع الفواكه و الخيرات و البركات جَنَّتَيْنِ ذَواتَيْ أُكُلٍ خَمْطٍ صاحبتي ثمر مرّ بشع، فإنّ الخمط كلّ نبت أخذ طعما من مرارة، حتّى لا يمكن أكله. و قيل: الأراك، أو كلّ شجرة ذات شوك. و على

______________________________

(1) أي: ساء خلقه.

(2) الجرذ: نوع من الفار. و السكر: ما سدّ به النهر.

(3) أي: المتراكمة بعضها فوق بعض.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 434

التقادير؛ المضاف مقدّر، تقديره: أكل أكل خمط، فحذف المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه، في كونه بدلا أو عطف بيان.

و قرأ أبو عمرو: أكل خمط، مضافا غير منوّن. و قرأ الحرميّان بتخفيف أكل.

وَ أَثْلٍ وَ شَيْ ءٍ

مِنْ سِدْرٍ قَلِيلٍ معطوفا على «أكل» لا على «خمط» فإنّ الأثل شجر يشبه الطرفاء، أعظم منه، و أجود عودا. و قيل: الطرفاء نفسه، و لا ثمر له. و وصف السدر بالقلّة، لأنّ جناه هو النبق ممّا يطيب أكله، و لذلك يغرس في البساتين. و تسمية البدل جنّتين للمشاكلة و التهكّم.

ذلِكَ أي: ما فعلنا بهم جَزَيْناهُمْ بِما كَفَرُوا بكفرانهم النعمة، أو بكفرهم بالرسل، إذ بعث إليهم ثلاثة عشر نبيّا فكذّبوهم. و تقديم المفعول للتعظيم لا للتخصيص. وَ هَلْ نُجازِي بمثل ما فعلنا بهم إِلَّا الْكَفُورَ أي: مثل هذا الجزاء لا يستحقّه إلّا البليغ في الكفران أو الكفر. و هو العقاب العاجل.

و قيل: إنّ معناه: هل نجازي بجميع سيّئاته إلّا الكافر، لأنّه يحبط عمله، فيجازى بجميع ما يفعله من السوء.

و قرأ حمزة و الكسائي و يعقوب و حفص: نجازي بالنون، و «الكفور» بالنصب.

وَ جَعَلْنا أي: و قد كان من قصصهم أنّا جعلنا بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ الْقُرَى الَّتِي بارَكْنا فِيها بالتوسعة على أهلها. و هي قرى الشام، فإنّ متجرهم من أرض اليمن إلى الشام قُرىً ظاهِرَةً متواصلة يظهر بعضها من بعض، لتقاربها، فهي ظاهرة لأعين الناظرين. أو راكبة متن الطريق، ظاهرة لأبناء السبيل، لم تبعد عن مسالكهم حتّى تخفى عليهم.

وَ قَدَّرْنا فِيهَا السَّيْرَ بحيث يقيل الغادي في قرية، و يبيت الرائح في قرية، إلى أن يبلغ الشام سِيرُوا فِيها على إرادة القول بلسان المقال أو الحال كما مرّ

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 435

لَيالِيَ وَ أَيَّاماً متى شئتم من ليل أو نهار آمِنِينَ لا يختلف إلّا من فيها باختلاف الأوقات. أو سيروا فيها آمنين، و إن طالت مدّة سفركم فيها، و امتدّت أيّاما و ليالي. أو سيروا ليالي أعماركم و

أيّامها، لا تلقون فيها إلّا الأمن. و في هذا إشارة إلى تكامل نعمه عليهم السّلام في السفر، كما أنّه كذلك في الحضر.

ثمّ أخبر سبحانه أنّهم بطروا و أشروا النعمة و بغوا، و ما عرفوا قدر العافية، كبني إسرائيل سألوا البصل و الثوم، فقال:

فَقالُوا رَبَّنا باعِدْ بَيْنَ أَسْفارِنا سألوا اللّه أن يجعل بينهم و بين الشام مفاوز و فلوات، ليتطاولوا فيها على الفقراء بركوب الرواحل و تزوّد الأزواد، فعجّل اللّه لهم الإجابة بتخريب القرى المتوسّطة.

و قرأ ابن كثير و أبو عمرو: بعّد. و يعقوب «ربّنا» بالرفع، و «باعد» بلفظ الخبر، على أنّه شكوى منهم لبعد سفرهم، إفراطا في الترفّه، و عدم الاعتداد بما أنعم اللّه عليهم فيه.

وَ ظَلَمُوا أَنْفُسَهُمْ حيث بطروا النعمة، و لم يعتدوا بها فَجَعَلْناهُمْ أَحادِيثَ يتحدّث الناس بهم تعجّبا.

و سبب التفريق على رواية الكلبي، عن أبي صالح قال: ألقت طريفة الكاهنة إلى عمرو بن عامر أنّ سدّ مأرب سيخرب، و أنّه سيأتي سيل العرم، فيخرب الجنّتين. و عرفت ذلك في كهانتها. فباع عمرو أمواله، و سار هو و قومه حتّى انتهوا إلى مكّة، فأقاموا بها و ما حولها، فأصابتهم الحمّى، و كانوا ببلد لا يدرون فيه ما الحمّى. فدعوا طريفة، فشكوا إليها الّذي أصابهم.

فقالت لهم: قد أصابني الّذي تشكون، و هو مفرّق بيننا.

قالوا: فما ذا تأمرين؟

قالت: من كان منكم ذا همّ بعيد، و جمل شديد، و مزاد جديد، فليلحق بقصر

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 436

عمان المشيد. و كانت الأزد.

ثمّ قالت: من كان منكم ذا جلد و قسر، و صبر على أزمات الدهر، فعليه بالأراك من بطن مرّ. و كانت خزاعة.

ثمّ قالت: من كان منكم يريد الراسيات «1» في الوحل، المطعمات في المحل، فليلحق بيثرب

ذات النخل. و كانت الأوس و الخزرج.

ثمّ قالت: من كان منكم يريد الخمر و الخمير، و الملك و التأمير، و ملابس التاج و الحرير، فليلحق ببصرى و غوير. و هما من أرض الشام. و كان الّذي سكنوها آل جفنة بن غسّان.

ثمّ قالت: من كان منكم يريد الثياب الرقاق، و الخيل العتاق، و كنوز الأرزاق، و الدم المهراق، فليلحق بأرض العراق. و كان الّذين سكنوها آل جذيمة الأبرش، و من كان بالحيرة و آل محرّق.

وَ مَزَّقْناهُمْ كُلَّ مُمَزَّقٍ و فرّقناهم غاية التفريق، حتّى لحق غسّان بالشام، و أنمار بيثرب، و جذام بتهامة، و الأزد بعمان.

إِنَّ فِي ذلِكَ فيما ذكر لَآياتٍ و عبر لِكُلِّ صَبَّارٍ عن المعاصي شَكُورٍ على النعم.

وَ لَقَدْ صَدَّقَ عَلَيْهِمْ إِبْلِيسُ ظَنَّهُ أي: صدق في ظنّه. أو صدق يظنّ ظنّه، مثل: فعلته جهدك. و يجوز أن يعدّى الفعل إليه بنفسه، كما في: صدق وعده، لأنّه نوع من القول. و شدّد الكوفيّون، بمعنى: حقّق ظنّه، أو وجده صادقا.

و ذلك إمّا ظنّه بأهل سبأ حين رأى انهماكهم في الشهوات. أو ببني آدم حين وجد آدم ضعيف العزم، و قد أصغى إلى وسوسته، فقال: إنّ ذرّيّته أضعف عزما منه، فظنّ بهم اتّباعه فقال: لأضلّنّهم و لأغوينّهم. و قيل: ظنّ ذلك عند إخبار اللّه

______________________________

(1) أي: النخل، من: رسا رسوّا: ثبت و رسخ. و المحل: الشدّة و الجدب و الجوع الشديد.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 437

الملائكة أنّه يجعل فيها من يفسد فيها.

فَاتَّبَعُوهُ الضمير إمّا لأهل سبأ، أو لبني آدم إِلَّا فَرِيقاً مِنَ الْمُؤْمِنِينَ إلّا فريقا هم المؤمنون لم يتّبعوه. و تقليلهم بالإضافة إلى الكفّار، كما قال: لَأَحْتَنِكَنَّ ذُرِّيَّتَهُ إِلَّا قَلِيلًا «1». وَ لا تَجِدُ أَكْثَرَهُمْ شاكِرِينَ «2». أو إلّا

فريقا من فرق المؤمنين لم يتّبعوه في العصيان. و هم المخلصون.

وَ ما كانَ لَهُ عَلَيْهِمْ على المتّبعين مِنْ سُلْطانٍ تسلّط و استيلاء بوسوسته و استغوائه، لا بإجباره إيّاهم على الغيّ و الضلال، لقوله تعالى: وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي «3».

إِلَّا لِنَعْلَمَ مَنْ يُؤْمِنُ بِالْآخِرَةِ مِمَّنْ هُوَ مِنْها فِي شَكٍ إلّا ليتعلّق علمنا بذلك تعلّقا يترتّب عليه الجزاء. أو ليتميّز المؤمن من الشاكّ، فنعذّب من تابعه، و نثيب من خالفه. فعبّر عن التمييز بين الفريقين بالعلم. و هذا التمييز متجدّد، لأنّه لا يكون إلّا بعد وقوع ما يستحقّون به ذلك، و أمّا العلم فبخلاف ذلك، لأنّه سبحانه كان عالما بأحوالهم، و بما يكون منهم فيما لم يزل. فعلّل التسلّط بالعلم، و المراد ما تعلّق به العلم.

وَ رَبُّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ حَفِيظٌ محافظ عليه، لا يفوته شي ء من أحوالهم.

و فعيل و مفاعل متآخيان.

[سورة سبإ (34): الآيات 22 الى 27]

قُلِ ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ وَ ما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ وَ ما لَهُ مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ (22) وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ إِلاَّ لِمَنْ أَذِنَ لَهُ حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ قالُوا ما ذا قالَ رَبُّكُمْ قالُوا الْحَقَّ وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ (23) قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ قُلِ اللَّهُ وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24) قُلْ لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَ لا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ (25) قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا ثُمَّ يَفْتَحُ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ هُوَ الْفَتَّاحُ الْعَلِيمُ (26)

قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ كَلاَّ بَلْ هُوَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (27)

______________________________

(1) الإسراء: 62.

(2) الأعراف: 17.

(3) إبراهيم:

22.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 438

قُلِ للمشركين توبيخا و تهكّما و استخفافا ادْعُوا الَّذِينَ زَعَمْتُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أي: زعمتموهم آلهة. و هما مفعولا «زعم». حذف الأوّل لطول الموصول بصلته. و الثاني لقيام صفته مقامه. و لا يجوز أن يكون هو مفعوله الثاني، لأنّه لا يلتئم مع الضمير كلاما. و لا «لا يملكون» لأنّهم لا يزعمونه، و كيف يتكلّمون بما هو حجّة عليهم؟! و المعنى: ادعوهم فيما يهمّكم من جلب نفع أو دفع ضرّ، ليستجيبوا لكم في ذلك، إن صحّ دعواكم. و لمّا دعوتموهم فلم يستجيبوا لكم، فكيف يصحّ أن يدعى كما يدعى اللّه، و يرجى كما يرجى.

ثمّ أجاب عنهم إشعارا بتعيّن الجواب، و أنّه لا يقبل المكابرة، فقال:

لا يَمْلِكُونَ مِثْقالَ ذَرَّةٍ زنة ذرّة من خير أو شرّ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ أي: في أمرهما. و ذكرهما للعموم العرفي. أو لأنّ آلهتهم بعضها سماويّة كالملائكة و الكواكب، و بعضها أرضيّة كالأصنام. أو لأنّ الأسباب القريبة للشرّ

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 439

و الخير سماويّة أو أرضيّة. و الجملة استئناف لبيان حالهم.

وَ ما لَهُمْ فِيهِما مِنْ شِرْكٍ من شركة، لا خلقا و لا ملكا وَ ما لَهُ ليس للّه سبحانه مِنْهُمْ مِنْ ظَهِيرٍ معاون على خلق السماوات و الأرض و تدبيرهما، و لا على شي ء من الأشياء السماويّة و الأرضيّة.

وَ لا تَنْفَعُ الشَّفاعَةُ عِنْدَهُ فلا تنفعهم الشفاعة أيضا كما يزعمون، إذ لا تنفع الشفاعة عند اللّه إِلَّا لِمَنْ أَذِنَ لَهُ أي: أذن له أن يشفع. و اللام كاللام في قولك:

الكرم لزيد، على معنى أنّه الشافع، و أنّه الكريم. أو أذن أنّه المشفوع له، لعلوّ شأنه عنده. كأنّه قيل: إلّا لمن وقع الإذن للشفيع لأجله. فاللام كاللام في:

جئتك لزيد، أي: لأجل زيد. و هذا تكذيب لقولهم: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ «1». و قولهم: ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى «2».

و قرأ حمزة و أبو عمرو و الكسائي على البناء للمفعول «3».

و قوله: حَتَّى إِذا فُزِّعَ عَنْ قُلُوبِهِمْ غاية لما يفهم من هذا الكلام، من أنّ ثمّ توقّفا و انتظارا للإذن، أي: يتربّصون الشفاعة فزعين، هل يؤذن لهم أو لا يؤذن؟

حتّى إذا كشف الفزع عن قلوب الشافعين و المشفوع لهم بالإذن.

و قرأ ابن عامر و يعقوب: فزع، على البناء للفاعل، و هو اللّه تعالى.

قالُوا قال بعضهم لبعض ما ذا قالَ رَبُّكُمْ في الشفاعة قالُوا الْحَقَ قالوا: قال القول الحقّ و هو الإذن بالشفاعة لمن ارتضى. و هم المؤمنون. وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْكَبِيرُ ذو العلوّ و الكبرياء، ليس لملك و لا نبيّ أن يتكلّم ذلك اليوم إلّا بإذنه.

ثمّ قال تقريرا لقوله: «لا يملكون»: قُلْ مَنْ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ

______________________________

(1) يونس: 18.

(2) الزمر: 3.

(3) أي: أذن.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 440

ثمّ أمره بأن يتولّى الاجابة و الإقرار عنهم، فقال: قُلِ اللَّهُ أي: قل في الجواب: يرزقكم اللّه، إذ لا جواب سواه.

و فيه إشعار بأنّهم إن سكتوا عنادا، أو تلعثموا «1» في الجواب مخافة الإلزام، فهم مقرّون به بقلوبهم. يعني: أنّهم مع علمهم بصحّة ذلك قد أبوا أن يتكلّموا به، لأنّ الّذي تمكّن في صدورهم من العناد و حبّ الشرك، قد ألجم أفواهم عن النطق بالحقّ. و لأنّهم إن تفوّهوا بأنّ اللّه رازقهم، لزمهم أن يقال لهم: فما لكم لا تعبدون من يرزقكم، و تؤثرون عليه من لا يقدر على الرزق؟! فكأنّهم كانوا يقرّون بألسنتهم مرّة، و مرّة كانوا يتلعثمون عنادا، و حذرا من

إلزام الحجّة.

وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ و إنّ أحد الفريقين، من الموحّدين المتوحّد بالرزق و القدرة الذاتيّة بالعباد، و المشركين به الجماد النازل في أدنى المراتب الإمكانيّة لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ لعلى أحد الأمرين، من الهدى و الضلال الواضح. و هو بعد ما تقدّم من التقرير البليغ الدالّ على من هو على الهدى، و من هو في الضلال، أبلغ من التصريح، لأنّ هذا في صورة كلام المنصف المسكت للخصم المشاغب. و نحوه قول الرجل لصاحبه: قد علم اللّه الصادق منّي و منك، و إن أحدنا لكاذب. و منه بيت حسّان «2»:

أ تهجوه و لست له بكف ءفشرّكما لخيركما الفداء

و قيل: إنّه على اللفّ و النشر. و فيه نظر.

و اختلاف الحرفين، لأنّ صاحب الحقّ كأنّه مستعل على فرس جواد يركضه حيث يشاء، أو صاعد على منار ينظر الأشياء و يتطّلع عليها. و الضالّ كأنّه منغمس

______________________________

(1) تلعثم في الجواب: توقّف فيه و تأنّى.

(2) ديوان حسّان (طبعة دار صادر): 9.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 441

في ظلام مرتبك «1» فيه، لا يدري أين يتوجّه، أو محبوس في مطمورة لا يستطيع أن يتفصّى «2» منها.

قُلْ يا محمّد إذا لم ينقادوا للحجّة لا تُسْئَلُونَ عَمَّا أَجْرَمْنا وَ لا نُسْئَلُ عَمَّا تَعْمَلُونَ بل كلّ إنسان يسأل عمّا يفعله، و يجازى على فعله، دون فعل غيره. و هذا أدخل في الإنصاف، و أبلغ في الإخبات «3» من الأوّل، حيث أسند الإجرام إلى أنفسهم، و العمل إلى المخاطبين. و فيه دلالة على أنّ أحدا لا يجوز أن يؤخذ بذنب غيره.

ثمّ أمر سبحانه أن يحاكمهم إلى اللّه، لإعراضهم عن الحجّة، فقال:

قُلْ يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا يوم القيامة ثُمَّ يَفْتَحُ يحكم و يفصل بَيْنَنا بِالْحَقِ بأن

يدخل المحقّين الجنّة، و المبطلين النار وَ هُوَ الْفَتَّاحُ الحاكم الفصل في القضايا المغلقة الْعَلِيمُ بما ينبغي أن يقضي به.

ثمّ استفسر عن شبهتهم، بعد إلزام الحجّة عليهم، زيادة في تبكيتهم، فقال:

قُلْ أَرُونِيَ الَّذِينَ أَلْحَقْتُمْ بِهِ شُرَكاءَ لأرى بأيّ صفة ألحقتموهم باللّه في استحقاق العبادة. أراد بذلك أن يريهم الخطأ العظيم في إلحاق الشركاء باللّه، و أن يقايس على أعينهم بينه و بين أصنامهم، ليطلعهم على إحالة القياس إليه، و الإشراك به.

كَلَّا ردع لهم عن المشاركة بعد إبطال المقايسة، كما قال إبراهيم: أُفٍّ لَكُمْ وَ لِما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ «4»، بعد ما حجّهم.

______________________________

(1) ارتبك في الأمر: وقع فيه، و لم يكد يتخلّص منه.

(2) أي: يتخلّص.

(3) أي: في التخشّع و الاطمينان.

(4) الأنبياء: 67.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 442

ثمّ نبّه على تفاحش غلطهم، و إن لم يقدّروا اللّه حقّ قدره، بقوله: بَلْ هُوَ بل اللّه، أو الشأن اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الموصوف بالغلبة، و كمال القدرة و الحكمة.

و هؤلاء الملحقون به متّسمون بالذلّة، متأبيّة عن قبول العلم و القدرة رأسا. فأين الّذين ألحقتم به شركاء من تلك الصفات الجليلة و السمات العليّة؟

[سورة سبإ (34): الآيات 28 الى 30]

وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلاَّ كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (28) وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (29) قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَ لا تَسْتَقْدِمُونَ (30)

ثمّ بيّن سبحانه بنوّة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على وجه العموم بقوله: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ إلّا إرسالة عامّة لهم كلّهم، العرب و العجم، و سائر الأمم، محيطة بهم إلى يوم القيامة. من الكفّ، فإنّها إذا عمّتهم و شملتهم فقد كفّتهم أن يخرج منها أحد

منهم.

و يؤيّده

الحديث المرويّ عن ابن عبّاس، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أعطيت خمسا، و لا أقول فخرا: بعثت إلى الأحمر و الأسود. و جعلت لي الأرض طهورا و مسجدا.

و أحلّ لي المغنم، و لم يحلّ لأحد قبلي. و نصرت بالرعب، فهو يسير أمامي مسيرة شهر. و أعطيت الشفاعة، فادّخرتها لأمّتي يوم القيامة».

أو إلّا جامعا لهم في الإبلاغ. فجعله حالا من الكاف. و التاء للمبالغة، كالراوية و العلّامة. و لا يجوز جعلها حالا من الناس على المختار، لأنّ تقدّم حال المجرور عليه في الإحالة، بمنزلة تقدّم المجرور على الجارّ.

و عن ابن مسلم أنّ معناه: مانعا لهم عمّاهم عليه من الكفر و المعاصي، بالأمر و النهي، و الوعد و الوعيد.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 443

بَشِيراً للمطيعين بالجنّة وَ نَذِيراً للعاصين بالنّار وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ رسالتك العامّة، لإعراضهم عن النظر في معجزتك، لفرط عنادهم و لجاجهم، فيحملهم جهلهم على مخالفتك.

وَ يَقُولُونَ من فرط جهلهم و عنادهم مَتى هذَا الْوَعْدُ يعنون المبشّر به و المنذر عنه. أو الموعود بقوله: «يَجْمَعُ بَيْنَنا رَبُّنا». إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ يخاطبون به رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنين.

قُلْ لَكُمْ مِيعادُ يَوْمٍ وعد يوم، أو زمان وعد. و إضافته إلى اليوم للتبيين، كما تقول: سحق «1» ثوب، و بعير سانية. لا تَسْتَأْخِرُونَ عَنْهُ ساعَةً وَ لا تَسْتَقْدِمُونَ أي: ليوم يفاجئكم، فلا تستطيعون تأخّرا عنه و لا تقدّما عليه. و هو جواب تهديد جاء مطابقا لما قصدوه بسؤالهم، من التعنّت و الإنكار، لا الاسترشاد.

[سورة سبإ (34): الآيات 31 الى 33]

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَ لا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ وَ لَوْ تَرى إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ عِنْدَ

رَبِّهِمْ يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لَوْ لا أَنْتُمْ لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ (31) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَ نَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ (32) وَ قالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَ نَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ وَ جَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا هَلْ يُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (33)

______________________________

(1) السحق: الثوب البالي. و السانية: الناقة يستقى عليها من البئر.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 444

ثمّ بيّن سبحانه حالهم في القيامة، فقال حكاية عنهم:

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَنْ نُؤْمِنَ بِهذَا الْقُرْآنِ وَ لا بِالَّذِي بَيْنَ يَدَيْهِ و لا بما تقدّمه من الكتب الدالّة على النعت. و قيل: «الّذي بين يديه» يوم القيامة.

روي: أنّ كفّار مكّة سألوا أهل الكتاب عن الرسول، فأخبروهم أنّهم يجدون نعته في كتبهم. فأغضبهم ذلك، و قرنوا إلى القرآن جميع ما تقدّمه من كتب اللّه في الكفر. فبهذه الآية أخبر اللّه عن ذلك.

و المعنى: أنّهم جحدوا أن يكون القرآن من اللّه، أو أن تكون لما دلّ عليه من الإعادة للجزاء حقيقة.

ثمّ أخبر عن عاقبة أمرهم و مآلهم في الآخرة، فقال لرسوله أو لمن شأنه التخاطب:

وَ لَوْ تَرى في الآخرة إِذِ الظَّالِمُونَ مَوْقُوفُونَ محبوسون عِنْدَ رَبِّهِمْ أي: في موضع المحاسبة يَرْجِعُ بَعْضُهُمْ إِلى بَعْضٍ الْقَوْلَ يتحاورون و يتراجعون القول، لرأيت العجيب. فحذف الجواب.

ثمّ فصّل محاورتهم بقوله: يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا يقول الأتباع لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا للرؤساء لَوْ لا أَنْتُمْ لو لا إضلالكم و صدّكم إيّانا عن الإيمان لَكُنَّا مُؤْمِنِينَ باتّباع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا أَ

نَحْنُ صَدَدْناكُمْ عَنِ الْهُدى بَعْدَ إِذْ جاءَكُمْ بَلْ كُنْتُمْ مُجْرِمِينَ أنكروا أنّهم كانوا صادّين لهم عن الإيمان، و أثبتوا أنّهم هم الّذين صدّوا بأنفسهم عنه، حيث أعرضوا عن الهدى، و آثروا التقليد عليه من

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 445

قبل اختيارهم. و لهذا بنوا الإنكار على الاسم، أعني: «نحن». كأنّهم قالوا: أ نحن أجبرناكم و حلنا بينكم و بين كونكم ممكّنين مختارين، بعد أن هممتم على الدخول في الإيمان، و صحّت نيّاتكم في اختياره؟ بل أنتم منعتم أنفسكم حظّها، و آثرتم الضلال على الهدى، و أطعتم آمر الشهوة دون آمر النهى، فكنتم مجرمين كافرين لاختياركم، لا لقولنا و تسويلنا.

و اعلم أنّ قوله: «يَقُولُ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا» إلى هنا، لمّا كان جي ء بالجواب محذوف العاطف على طريقة الاستئناف، فجي ء بكلام آخر للمستضعفين، و عطف على كلامهم الأوّل، فقال:

وَ قالَ الَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا بَلْ مَكْرُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ إضراب عن إضرابهم. و إضافة المكر إلى الظرف على الاتّساع. و المعنى: ما كان الإجرام الصادّ عن الإيمان من جهتنا، بل من جهة مكركم ليلا و نهارا، حتّى غلبتم على رأينا.

إِذْ تَأْمُرُونَنا أَنْ نَكْفُرَ بِاللَّهِ وَ نَجْعَلَ لَهُ أَنْداداً دعوتموننا دائما إلى أن نجعل له شركاء في العبادة، و نجحد وحدانيّته.

وَ أَسَرُّوا النَّدامَةَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ أي: أضمر الفريقان الندامة على الضلال و الإضلال، و أخفاها كلّ عن صاحبه مخافة التعيير. أو أظهروها، فإنّه من الأضداد، إذ الهمزة تصلح للإثبات و السلب.

وَ جَعَلْنَا الْأَغْلالَ فِي أَعْناقِ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: في أعناقهم. فجاء بالظاهر تنويها بذمّهم، و إشعارا بموجب أغلالهم. و عن ابن عبّاس: غلوّا بها في النيران. هَلْ يُجْزَوْنَ إِلَّا ما كانُوا يَعْمَلُونَ أي: لا يفعل بهم ما يفعل إلّا

جزاء على أعمالهم. و تعدية «يجزى» إمّا لتضمين معنى: يقضى، أو بنزع الخافض.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 446

[سورة سبإ (34): الآيات 34 الى 39]

وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (34) وَ قالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالاً وَ أَوْلاداً وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (35) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (36) وَ ما أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى إِلاَّ مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ بِما عَمِلُوا وَ هُمْ فِي الْغُرُفاتِ آمِنُونَ (37) وَ الَّذِينَ يَسْعَوْنَ فِي آياتِنا مُعاجِزِينَ أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ (38)

قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَهُوَ يُخْلِفُهُ وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (39)

ثمّ سلّى نبيّه ممّا مني «1» به من قومه من التكذيب و الكفر بما جاء به، و المنافسة بكثرة الأموال و الأولاد، و المفاخرة بالدنيا و زخارفها، و التكبّر بذلك على المؤمنين، و الاستهانة بهم من أجله، فقال:

وَ ما أَرْسَلْنا فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ من نبيّ مخوّف باللّه إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها جبابرتها المتنعّمون بزخارف الدنيا، و الانهماك في الشهوات، استهانة بمن لم يحظ منها.

______________________________

(1) أي: ابتلي به.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 447

و لأجل توغّلهم في لذائذ النعمة، و الانهماك في الشهوات النفسانيّة، ضمّوا التهكّم و التفاخر إلى التكذيب، فقالوا: إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ

ثمّ صرّح بهذا المعنى، فقال: وَ قالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً فنحن أولى بما تدعونه إن أمكن وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ لأنّه أكرمنا بذلك، فلا يهيننا بالعذاب.

فقاسوا أمر الآخرة الموهومة أو المفروضة عندهم على أمر الدنيا، و اعتقدوا أنّهم

لو لم يكرموا على اللّه تعالى لما رزقهم، و لو لا أن المؤمنين هانوا عليه لما حرمهم.

فأبطل اللّه حسبانهم، بأنّ الرزق فضل من اللّه، يقسّمه كما يشاء على حسب ما يراه من المصالح و الحكم، فقال:

قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ و يضيّق لمن يشاء، فربما وسّع على العاصي و ضيّق على المطيع، و ربما عكس، و ربما وسّع عليهما و ضيّق عليهما، فلا يقاس عليه أمر الثواب الّذي مبناه على الاستحقاق.

وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ فيظنّون أنّ كثرة الأموال و الأولاد لشرفهم و كرامتهم عند اللّه، و كثيرا ما يكون للاستدراج، كما قال: وَ ما أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ بِالَّتِي تُقَرِّبُكُمْ عِنْدَنا زُلْفى قربة، فإنّه اسم للمصدر. و ذكر «الّتي» دون «اللائي» إمّا لأنّ المراد: و ما جماعة أموالكم و لا جماعة أولادكم. أو لأنّها صفة محذوف، كالخصلة.

إِلَّا مَنْ آمَنَ وَ عَمِلَ صالِحاً استثناء من مفعول «تقرّبكم» أي: الأموال و الأولاد لا تقرّب أحدا إلّا المؤمن الصالح الّذي ينفق ماله في سبيل اللّه، و يفقّه ولده في الدين، و يعلّمه الخير.

فَأُولئِكَ لَهُمْ جَزاءُ الضِّعْفِ هذه الإضافة إضافة المصدر إلى المفعول.

و أصله: لهم أن يجاوزا الضعف إلى عشر فما فوقه، فإنّ الضعف اسم جنس يدلّ على القليل و الكثير.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 448

و عن يعقوب: جزاء، بالنصب على التمييز، أو المصدر لفعله الّذي دلّ عليه «لهم». و «الضّعف» بالرفع على أنّه خبر.

بِما عَمِلُوا وَ هُمْ فِي الْغُرُفاتِ غرفات الجنّة. و هي البيوت فوق الأبنية.

آمِنُونَ من المكاره.

وَ الَّذِينَ يَسْعَوْنَ يجتهدون فِي آياتِنا بالردّ و الطعن فيها مُعاجِزِينَ مسابقين لأنبيائنا، أو ظانّين أنّهم يفوتوننا أُولئِكَ فِي الْعَذابِ مُحْضَرُونَ

قُلْ إِنَّ رَبِّي يَبْسُطُ الرِّزْقَ

لِمَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ وَ يَقْدِرُ لَهُ يوسّع عليه تارة، و يضيّق عليه اخرى. فهذا في شخص واحد باعتبار وقتين، و ما سبق في شخصين، فلا تكرير.

وَ ما أَنْفَقْتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ و ما أخرجتم من أموالكم في وجوه البرّ فَهُوَ يُخْلِفُهُ عوضا، إمّا عاجلا بالمال، أو آجلا بالثواب الّذي هو أفضل كلّ خلف وَ هُوَ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فإنّ غيره وسط في إيصال رزقه، لا حقيقة لرازقيّته.

روى أبو هريرة عن النّبيّ صلى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «ينادي مناد كلّ ليلة: لدوا للموت.

و ينادي مناد: ابنوا للخراب. و ينادي مناد: اللّهمّ هب للمنفق خلفا. و ينادي مناد:

اللّهمّ هب للممسك تلفا. و ينادي مناد: ليت الناس لم يخلقوا. و ينادي مناد: ليتهم إذ خلقوا فكّروا فيما له خلقوا».

و

عن جابر، عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما أنفق المؤمن من نفقة فعلى اللّه خلفها ضامنا، إلّا ما كان من نفقة في بنيان أو معصية».

[سورة سبإ (34): الآيات 40 الى 42]

وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَ هؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ (40) قالُوا سُبْحانَكَ أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَّ أَكْثَرُهُمْ بِهِمْ مُؤْمِنُونَ (41) فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ نَفْعاً وَ لا ضَرًّا وَ نَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (42)

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 449

وَ يَوْمَ يَحْشُرُهُمْ جَمِيعاً المستكبرين و المستضعفين ثُمَّ يَقُولُ لِلْمَلائِكَةِ أَ هؤُلاءِ إِيَّاكُمْ كانُوا يَعْبُدُونَ تقريعا للمشركين، و تبكيتا لهم، و إقناطا لهم عمّا يتوقّعون من شفاعتهم، فإنّ ظاهر الكلام خطاب للملائكة، و المراد به تقريع الكفّار، وارد على المثل السائر: إيّاك أعني و اسمعي يا جارة. و نحوه قوله تعالى: أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي

إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ «1». و قد علم سبحانه كون الملائكة و عيسى منزّهين، برآء ممّا وجّه عليهم من السؤال الوارد على طريق التقرير.

و الغرض منه أن يقول و يقولوا، و يسأل و يجيبوا، ليكون تقريعهم أشدّ، و تعييرهم أبلغ، و خجلهم أعظم، و هوانهم ألزم. و يكون اقتصاص ذلك لطفا لمن سمعه، و زاجرا لمن اقتصّ عليه.

و تخصيص الملائكة، لأنّهم أشرف شركائهم، و الصالحون للخطاب منهم.

و لأنّ عبادتهم مبدأ الشرك و أصله. و قرأ حفص بالياء فيهما «2».

قالُوا سُبْحانَكَ تنزيها لك عن أن يعبد سواك، و يتّخذ معك معبود غيرك أَنْتَ وَلِيُّنا مِنْ دُونِهِمْ أنت الّذي نواليه من دونهم، لا موالاة بيننا و بينهم. فبيّنوا بإثبات موالاة اللّه و معاداة الكفّار، براءتهم من الرضا بعبادتهم.

ثمّ أضربوا عن ذلك، و نفوا أنّهم عبدوهم على الحقيقة بقولهم: بَلْ كانُوا يَعْبُدُونَ الْجِنَ أي: الشياطين، حيث أطاعوهم في عبادة غير اللّه، و صوّرت لهم

______________________________

(1) المائدة: 116.

(2) أي: يحشرهم ... يقول.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 450

زبدة التفاسير ج 5 499

الشياطين صور قوم من الجنّ، و قالوا: هذه صور الملائكة فاعبدوها. و قيل: كانوا يدخلون في أجواف الأصنام إذا عبدت، فيعبدون بعبادتها.

أَكْثَرُهُمْ أكثر الناس، أو أكثر المشركين. و الأكثر بمعنى الكلّ. بِهِمْ بالجنّ مُؤْمِنُونَ

ثمّ يقول سبحانه: فَالْيَوْمَ لا يَمْلِكُ بَعْضُكُمْ لِبَعْضٍ يعني: العابدين و المعبودين نَفْعاً بالشفاعة وَ لا ضَرًّا بالتعذيب، إذ الأمر فيه كلّه له، لأنّ الدار دار الجزاء، و هو المجازي وحده.

ثمّ ذكر معاقبة الظالمين، فقال عطفا على «لا يملك، مبينا»، للمقصود من تمهيده: وَ نَقُولُ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذُوقُوا عَذابَ النَّارِ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ

[سورة سبإ (34): الآيات 43 الى 45]

وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا إِلاَّ

رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ وَ قالُوا ما هذا إِلاَّ إِفْكٌ مُفْتَرىً وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (43) وَ ما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها وَ ما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ (44) وَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ ما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (45)

ثمّ عاد سبحانه إلى الحكاية عن حال الكفّار، فقال: وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالُوا ما هذا يعنون محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِلَّا رَجُلٌ يُرِيدُ أَنْ يَصُدَّكُمْ يمنعكم عَمَّا كانَ يَعْبُدُ آباؤُكُمْ فيستنبعكم بما يستبدعه وَ قالُوا ما هذا يعنون القرآن إِلَّا إِفْكٌ كذب، لعدم مطابقة ما فيه الواقع مُفْتَرىً يفتريه على اللّه سبحانه.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 451

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ لأمر النبوّة كلّه، أو للقرآن. و الأوّل باعتبار معناه، و هذا باعتبار لفظه و إعجازه. إِنْ هذا إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر سحريّته.

و في تكرير الفعل، و التصريح بذكر الكفرة، و ما في اللامين من الإشارة إلى القائلين و المقول فيه، و ما في «لمّا» من المبادهة «1» إلى البتّ بهذا القول، إنكار عظيم، و تعجيب بليغ منه. كأنّه قال: أولئك الكفرة المتمرّدون بجرئتهم على اللّه، و مكابرتهم لمثل ذلك الحقّ النيّر، ما هذا إلّا سحر بيّن، ظاهر على كلّ عاقل.

ثمّ أخبر سبحانه أنّهم لم يقولوا ذلك عن بيّنة، فقال: وَ ما آتَيْناهُمْ مِنْ كُتُبٍ يَدْرُسُونَها فيها برهان على صحّة الإشراك وَ ما أَرْسَلْنا إِلَيْهِمْ قَبْلَكَ مِنْ نَذِيرٍ يدعوهم إليه، و ينذرهم على تركه، كما قال عزّ و جلّ: أَمْ أَنْزَلْنا عَلَيْهِمْ سُلْطاناً فَهُوَ يَتَكَلَّمُ بِما كانُوا بِهِ يُشْرِكُونَ

«2». فقد بان أن لا وجه لهم في الإشراك، فمن أين حكموا بصحّته؟ و هذا في غاية التجهيل لهم، و التسفيه لرأيهم.

ثمّ هدّدهم على تكذيبهم، فقال: وَ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كما كذّبوا وَ ما بَلَغُوا مِعْشارَ ما آتَيْناهُمْ و ما بلغ هؤلاء عشر ما آتينا أولئك من القوّة و طول العمر و كثرة المال. أو ما بلغ أولئك عشر ما آتينا هؤلاء من البيّنات و الهدى. و المعشار بمعنى العشر، كالمرباع بمعنى الربع.

فَكَذَّبُوا رُسُلِي فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ فحين كذّبوا رسلي جاءهم إنكاري بالتدمير و الاستئصال، و لم يغن عنهم استظهارهم بما هم به مستظهرون، فكيف كان نكيري لهم؟ فليحذر هؤلاء من مثله. و لا تكرير في «كذّب»، لأنّ الأوّل للتكثير، و الثاني للتكذيب. أو الأوّل مطلق، و الثاني مقيّد. و لذلك عطف عليها بالفاء. و نظيره أن يقول القائل: فلان أقدم على الكفر فكفر بمحمد.

______________________________

(1) المبادهة: المفاجأة و المباغتة.

(2) الروم: 35.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 452

[سورة سبإ (34): الآيات 46 الى 54]

قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ بِواحِدَةٍ أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ مَثْنى وَ فُرادى ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ إِنْ هُوَ إِلاَّ نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ (46) قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ فَهُوَ لَكُمْ إِنْ أَجْرِيَ إِلاَّ عَلَى اللَّهِ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (47) قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلاَّمُ الْغُيُوبِ (48) قُلْ جاءَ الْحَقُّ وَ ما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَ ما يُعِيدُ (49) قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي وَ إِنِ اهْتَدَيْتُ فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ (50)

وَ لَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا فَلا فَوْتَ وَ أُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (51) وَ قالُوا آمَنَّا بِهِ وَ أَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (52) وَ قَدْ كَفَرُوا

بِهِ مِنْ قَبْلُ وَ يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (53) وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ ما يَشْتَهُونَ كَما فُعِلَ بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍّ مُرِيبٍ (54)

قُلْ إِنَّما أَعِظُكُمْ أرشدكم و أنصح لكم بِواحِدَةٍ بخصلة واحدة. و هي ما فسّرها بقوله: أَنْ تَقُومُوا لِلَّهِ أي: القيام من مجلس رسول اللّه و تفرّقهم عن مجتمعهم عنده. و ليس المراد القيام على القدمين، و لكن الانتصاب في الأمر و النهوض فيه بالهمّة، خالصا لوجه اللّه، معرضا عن المراء و التقليد. و محلّه الجرّ

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 453

على البدل أو البيان، أو الرفع بإضمار: هو، أو النصب بإضمار: أعني.

مَثْنى وَ فُرادى متفرّقين اثنين اثنين، و واحدا واحدا، فإنّ الازدحام ممّا يشوّش الخاطر، و يخلّط القول، و يثير عجاج التعصّب. ثُمَّ تَتَفَكَّرُوا في أمر محمّد و ما جاء به.

أمّا الاثنان: فيتفكّران و يعرض كلّ واحد منهما محصول فكره على صاحبه، و ينظران فيه نظر متصادقين متناصفين، لا يميل بهما اتّباع هوى، و لا ينبض لهما عرق عصبيّة، حتّى يهجم بهما الفكر الصالح و النظر الصحيح على جادّة الحقّ و سننه.

و أمّا المتفرّد فيفكّر في نفسه بعدل و نصفة، من غير أن يكابرها، و يعرض فكره على عقله و ذهنه، و ما استقرّ عنده من عادات العقلاء و مجاري أحوالهم.

فعند ذلك تعلموا ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ ما به من جنون يحمله على ذلك، بل تعلموا عند تفكّركم في أمره أنّه أرجح قريش عقلا، و أرزنهم «1» حلما، و أثقبهم ذهنا، و أصدقهم قولا، و أنزههم نفسا. كيف و قد انضمّ إليه معجزات كثيرة.

و يجوز أن يكون هذا كلاما مستأنفا، تنبيها من اللّه على طريقة النظر في أمر رسول اللّه

صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و قيل: «ما» استفهاميّة. و المعنى: ثمّ تتفكّروا أيّ شي ء به من آثار الجنون.

إِنْ هُوَ إِلَّا نَذِيرٌ لَكُمْ بَيْنَ يَدَيْ عَذابٍ شَدِيدٍ قدّامه، لأنّه مبعوث في نسم الساعة، حيث

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «بعثت في نسم «2» الساعة».

قُلْ ما سَأَلْتُكُمْ مِنْ أَجْرٍ أيّ شي ء سألتكم من أجر الرسالة فَهُوَ لَكُمْ

______________________________

(1) أي: أوقرهم. من: رزن رزانة: وقر.

(2) نسم الريح: أوّلها حين تقبل بلين قبل أن تشتدّ. و «بعثت في نسم الساعة» أي: حين ابتدأت و أقبلت أوائلها.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 454

و المراد نفي السؤال عنه، فإنّه جعل التنبي ء مستلزما لأحد الأمرين: إمّا الجنون، و إمّا توقّع نفع دنيويّ عليه، لأنّه إمّا أن يكون لغرض. أو لغيره، و أيّا ما كان يلزم أحدهما. ثمّ نفى كلّا منهما.

و قيل: «ما» موصولة. و أراد ما سألهم بقوله: ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ إِلَّا مَنْ شاءَ أَنْ يَتَّخِذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا «1» لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى «2».

و اتّخاذ السبيل و مودّة أهل البيت ينفعان لهم، فلا ينافي قوله: «فهو لكم».

إِنْ أَجْرِيَ إِلَّا عَلَى اللَّهِ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ مطّلع، يعلم صدقي و خلوص نيّتي، في أنّي لا أطلب الأجر على نصيحتكم و دعائكم إليه إلّا منه، و لا أطمع منكم في شي ء.

و قرأ ابن كثير و حمزة و الكسائي و أبو بكر بإسكان الياء.

قُلْ إِنَّ رَبِّي يَقْذِفُ بِالْحَقِ أصل القذف: تزجية «3» السهم و نحوه بدفع و اعتماد، ثمّ يستعار لمعنى الإلقاء بقوّة. و منه وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ «4». أَنِ اقْذِفِيهِ فِي التَّابُوتِ «5». و المعنى: ربّي يلقيه و ينزّله على

من يجتبيه من عباده. أو يرمي به الباطل فيدمغه. أو يرمي به إلى أقطار الآفاق. فيكون وعدا بإظهار الإسلام و إفشائه.

عَلَّامُ الْغُيُوبِ صفة محمولة على محلّ «إنّ» و اسمها. أو بدل من المستكن في «يقذف». أو خبر ثان. أو خبر محذوف، أي: هو علّام جميع

______________________________

(1) الفرقان: 57.

(2) الشورى: 23.

(3) زجّى تزجية الشي ء: دفعه برفق.

(4) الأحزاب: 26.

(5) طه: 39.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 455

الخفيّات، و ما غاب من خلقه في الأرضين و السماوات.

قُلْ جاءَ الْحَقُ أي: الإسلام. و عن ابن مسعود: الجهاد بالسيف. وَ ما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَ ما يُعِيدُ و هلك الباطل، و هو الشرك، بحيث لم يبق له أثر. و هذا مثل لهلاك الشي ء، فإنّه إذا هلك لم يبق له إبداء و لا إعادة.

و قيل: الباطل إبليس أو الصنم. و المعنى: لا ينشئ خلقا و لا يعيده. أو لا يبدئ خيرا لأهله و لا يعيده، أي: لا ينفعهم في الدنيا و الآخرة.

و قيل: «ما» استفهاميّة منتصبة بما بعدها. و المعنى: أيّ شي ء يبدئ إبليس أو الصنم، و أيّ شي ء يعيد؟!

عن ابن مسعود: دخل النّبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مكّة و حول الكعبة ثلاثمائة و ستّون صنما، فجعل يطعنها بعود نبعة «1» في يده و يقول: جاءَ الْحَقُّ وَ زَهَقَ الْباطِلُ إِنَّ الْباطِلَ كانَ زَهُوقاً «2». «جاءَ الْحَقُّ وَ ما يُبْدِئُ الْباطِلُ وَ ما يُعِيدُ».

قُلْ إِنْ ضَلَلْتُ عن الحقّ كما تدعون فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي أي: فإنّما يرجع و بال ضلالي عليها، فإنّه بسببها، و هي الجاهلة بالذات، و الأمّارة بالسوء، بخلاف ما لها ممّا ينفعها، فإنّه بهداية ربّها و توفيقه. و بهذا الاعتبار قابل الشرطيّة بقوله: وَ إِنِ اهْتَدَيْتُ إلى الحقّ

فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي أي: فبهدايته و توفيقه، حيث أوحى إليّ، فله المنّة بذلك عليّ.

فلا يقال: أين التقابل بين قوله: «فَإِنَّما أَضِلُّ عَلى نَفْسِي» و قوله: «فَبِما يُوحِي إِلَيَّ رَبِّي». و إنّما كان يستقيم أن يقال: فإنّما أضلّ على نفسي، و إن اهتديت فإنّما اهتدي لها. كقوله تعالى: مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها «3»

______________________________

(1) النبعة: شجرة تتخذ منها السهام و القسي.

(2) الإسراء: 81.

(3) فصلت: 46.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 456

مَنِ اهْتَدى فَإِنَّما يَهْتَدِي لِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها «1». أو يقال: فإنّما أضلّ بنفسي.

إِنَّهُ سَمِيعٌ قَرِيبٌ يدرك قول كلّ ضالّ و مهتد، و فعله و إن أخفاه.

و إنّما أمر رسوله أن يسنده إلى نفسه، لأنّ الرسول إذا دخل تحته، مع جلالة محلّه و سداد طريقته، كان غيره أولى به.

وَ لَوْ تَرى إِذْ فَزِعُوا عند الموت، إذا عاينوا ملائكة العذاب لقبض أرواحهم. أو عند البعث حين يشاهدون العذاب. أو يوم بدر حين ضربت أعناقهم، فلم يستطيعوا فرارا من العذاب.

و جواب «لو» محذوف، يدلّ الكلام عليه. و التقدير: لرأيت أمرا فظيعا، أو حالا هائلة.

و «لو» و «إذ» و الأفعال الّتي هي «فزعوا» و «أخذوا» و حِيلَ بَيْنَهُمْ «2» كلّها للمضيّ، و المراد بها الاستقبال، لأنّ ما اللّه فاعله في المستقبل بمنزلة ما قد كان و وجد، لتحقّقه. فكأنّه قال: و إذ ترى حين يفزعون.

فَلا فَوْتَ فلا يفوتون اللّه بهرب أو تحصّن.

و عن ابن عبّاس:

نزلت في خسف البيداء. و ذلك أنّ ثمانين ألفا يغزون الكعبة ليخربوها، فإذا دخلوا البيداء خسف بهم.

و هذا مرويّ عن أبي حمزة الثمالي عن عليّ بن الحسين، و الحسن بن الحسن بن عليّ عليه السّلام.

وَ أُخِذُوا مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ من

ظهر الأرض إلى بطنها. و قيل: من الموقف إلى

______________________________

(1) الإسراء: 15.

(2) سبأ: 54.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 457

النار. و قيل: من صحراء بدر إلى القليب «1». أو من تحت أقدامهم إذا خسف بهم.

و العطف على «فزعوا»، أي: فزعوا و أخذوا فلا فوت لهم. أو على «لا فوت» على معنى: إذ فزعوا فلم يفوتوا و أخذوا.

وَ قالُوا آمَنَّا بِهِ أي: بمحمّد، لمرور ذكره في قوله: ما بِصاحِبِكُمْ مِنْ جِنَّةٍ «2». وَ أَنَّى لَهُمُ التَّناوُشُ أي: و من أين لهم أن يتناولوا الإيمان تناولا سهلا؟ فإنّ التناول و التناوش أخوان، إلّا أنّ التناوش تناول سهل لشي ء قريب.

مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ فإنّه في حيّز التكليف، و قد بعد عنهم حين مشاهدة العذاب، لأنّها وقت ارتفاع التكليف الاختياري.

و هذا تمثيل لحالهم في الاستخلاص بالإيمان بعد ما فات عنهم أو انه و بعد عنهم، بحال من يريد أن يتناول الشي ء من غلوة «3» كما يتناوله من ذراع، في الاستحالة.

و قرأ أبو عمرو و الكوفيّون غير حفص بالهمز «4»، على قلب الواو، لضمّتها. أو لأنّه من: نأشت الشي ء إذا طلبته. أو من: نأشت إذا تأخّرت. فيكون بمعنى التناول من بعد.

وَ قَدْ كَفَرُوا بِهِ بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أو بالعذاب مِنْ قَبْلُ من قبل ذلك أوان التكليف وَ يَقْذِفُونَ بِالْغَيْبِ و يرجمون بالظنّ، و يتكلّمون بما لم يظهر لهم في الرسول من المطاعن، من أنّه ساحر شاعر كذّاب، لأنّهم لم يشاهدوا منه سحرا، و لا شعرا، و لا كذبا. أو في العذاب، من البتّ على نفيه. يقولون:

______________________________

(1) القليب: البئر. و قيل: البئر القديمة.

(2) سبأ: 46.

(3) الغلوة: الغاية. و هي رمية سهم أبعد ما تقدر عليه.

(4) أي: التناؤش.

زبدة التفاسير، ج 5،

ص: 458

هَيْهاتَ هَيْهاتَ لِما تُوعَدُونَ «1» وَ قالُوا نَحْنُ أَكْثَرُ أَمْوالًا وَ أَوْلاداً وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ «2».

و قد أتوا بهذا الغيب مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ من جانب بعيد من أمره، كالشي ء يرمى من موضع بعيد المرمى. و العطف على «كفروا» على حكاية الحال الماضية.

يعني: و كانوا يتكلّمون بالغيب و يأتون به من مكان بعيد. أو على «قالوا»، فيكون تمثيلا لحالهم في تحصيل ما ضيّعوه من الإيمان في الدنيا، بحال القاذف الّذي يرمي شيئا لا يراه من مكان بعيد، لا يكون مجال للظنّ في لحوقه.

وَ حِيلَ بَيْنَهُمْ وَ بَيْنَ ما يَشْتَهُونَ و فرّق بينهم و بين مشتهياتهم، من نفع الإيمان، و النجاة به من النيران كَما فُعِلَ مثل ذلك بِأَشْياعِهِمْ مِنْ قَبْلُ بأشباههم من كفرة الأمم الدارجة.

إِنَّهُمْ كانُوا فِي شَكٍ من البعث مُرِيبٍ موقع في الريبة. أو ذي ريبة.

من: أرابه، إذا أوقعه في الريبة و التهمة. فهو منقول من المشكّك، فكأنّه قال: في شكّ مشكّك. أو من: أراب الرجل، إذا صار ذا ريبة، و دخل فيها. منقول من صاحب الشكّ إلى الشكّ، أي: شكّ شاكّ، كما تقول: شعر شاعر، و عجب عجيب.

و كلا التقديرين مجاز.

______________________________

(1) المؤمنون: 36.

(2) سبأ: 35.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 459

(35) سورة فاطر

اشارة

مكّيّة. و هي خمس و أربعون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قال: «من قرأ سورة الملائكة دعته يوم القيامة ثلاثة أبواب من الجنّة، أن أدخل من أيّ الأبواب شئت».

[سورة فاطر (35): الآيات 1 الى 2]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلاً أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (1) ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ مِنْ رَحْمَةٍ فَلا مُمْسِكَ لَها وَ ما يُمْسِكْ فَلا مُرْسِلَ لَهُ مِنْ بَعْدِهِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (2)

و لمّا ختم اللّه سبحانه السورة المتقدّمة بالردّ على أهل الشرك و الشكّ و العنود، افتتح هذه السورة بذكر كمال قدرته، و وحدانيّته، و دلائل التوحيد، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَمْدُ لِلَّهِ فاطِرِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ مبتدئهما و مبتدئهما. من الفطر بمعنى الشقّ، كأنّه شقّ العدم بإخراجهما منه. عن مجاهد، عن

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 460

ابن عبّاس: ما كنت أدري ما فاطر السماوات و الأرض، حتّى اختصم إليّ أعرابيّان في بئر، فقال أحدهما: أنا فطرتها، أي: ابتدأتها و شققتها. و الإضافة معنويّة، لأنّه بمعنى الماضي.

جاعِلِ الْمَلائِكَةِ رُسُلًا وسائط بين اللّه تعالى و بين أنبيائه و الصالحين من عباده، يبلّغون إليهم رسالاته بالوحي و الإلهام و الرؤيا الصادقة. أو بينه و بين خلقه، يوصلون إليهم آثار صنعه.

أُولِي أَجْنِحَةٍ مَثْنى وَ ثُلاثَ وَ رُباعَ أي: ذوي أجنحة متعدّدة متفاوتة بتفاوت ما لهم من المراتب، ينزلون بها و يعرجون. أو يسرعون بها نحو ما وكلّهم اللّه عليه، فيتصرّفون فيه على ما أمرهم به. و لم يرد به خصوصيّة الأعداد، و نفي ما زاد عليها. و في رواية: أنّ صنفا

من الملائكة لهم ستّة أجنحة، فجناحان يلفّون بهما أجسادهم، و جناحان يطيرون بهما في أمر من أمور اللّه، و جناحان مرخيان على وجوههم حياء من اللّه.

و

عن رسول اللّه صلى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنّه رأى جبرئيل ليلة المعراج، و له ستّمائة جناح».

و

روي: «أنّه سأل جبرئيل عليه السّلام أن يتراءى له في صورته. فقال له: إنّك لن تطيق ذلك. قال: إنّي قد أحبّ أن تفعل. فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في ليلة مقمرة، فأتاه جبرئيل في صورته، فغشى على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثمّ أفاق و جبرئيل مسنده، و إحدى يديه على صدره، و الاخرى بين كتفيه. فقال: سبحان اللّه ما كنت أرى أنّ شيئا من الخلق هكذا. فقال جبرئيل: فكيف لو رأيت إسرافيل؟ له اثنا عشر جناحا، جناح منها بالمشرق، و جناح بالمغرب، و إنّ العرش على كاهله «1»، و إنّه ليتضاءل الأحانين لعظمة اللّه، حتّى يعود مثل الوصع، و هو العصفور الصغير».

يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ استئناف للدلالة على أنّ تفاوتهم في ذلك

______________________________

(1) الكاهل: أعلى الظهر ممّا يلي العنق.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 461

بمقتضى مشيئته، و مؤدّى حكمته، لا أمر تستدعيه ذواتهم، لأنّ اختلاف الأصناف و الأنواع بالخواصّ و الفصول، إن كان لذواتهم المشتركة، لزم تنافي لوازم الأمور المتّفقة، و هو محال.

و الآية متناولة زيادات الصور و المعاني، كملاحة الوجه، و حسن الصوت، و حصافة «1» العقل، و سماحة النفس، و قوّة البطش، و جزالة الرأي، و جرأة القلب، و ذلاقة «2» اللسان، و ما أشبه ذلك ممّا لا يحيط به الوصف.

و

روي عنه عليه السّلام في قوله: «يَزِيدُ فِي الْخَلْقِ ما يَشاءُ»: «الوجه

الحسن، و الصوت الحسن، و الشعر الحسن».

و قيل: الخطّ الحسن. و عن قتادة: هو الملاحة في العينين. و الأولى التعميم.

إِنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ و تخصيص بعض الأشياء بالتحصيل دون بعض، إنّما هو من جهة الإرادة.

ما يَفْتَحِ اللَّهُ لِلنَّاسِ ما يطلق لهم و يرسل. و هو تجوّز من باب إطلاق السبب على المسبّب. مِنْ رَحْمَةٍ رزق، و أمن، و صحّة، و علم، و نبوّة، و غير ذلك من صنوف نعمائه الّتي لا يحاط بعددها. و تنكير الرحمة للإشاعة و الإبهام، كأنّه قال: من أيّة رحمة كانت، سماويّة أو أرضيّة. فَلا مُمْسِكَ لَها فلا أحد يقدر على إمساكها و حبسها.

وَ ما يُمْسِكْ و أيّ شي ء يمسك اللّه فَلا مُرْسِلَ لَهُ فلا أحد يقدر على إطلاقه. و يدلّ على أنّ الفتح مستعار للإطلاق و الإرسال أنّه قال: فلا مرسل له من بعده، مكان: لا فاتح له. و اختلاف الضميرين، لأنّ الموصول الأوّل مفسّر بالرحمة، فحسن اتّباع الضمير التفسير، و الثاني مطلق يتناولها و الغضب، فترك على أصل

______________________________

(1) حصف حصافة: كان جيّد الرأي محكم العقل.

(2) لسان ذلق: طلق ذو حدّة.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 462

التذكير. و إنّما فسّر الأوّل دون الثاني، للدلالة على أنّ رحمته سبقت غضبه. مِنْ بَعْدِهِ من بعد إرساله.

وَ هُوَ الْعَزِيزُ الغالب على ما يشاء من الإرسال و الإمساك، و ليس لأحد أن ينازعه فيه الْحَكِيمُ لا يفعل الإمساك و الإرسال إلّا بما تقتضي الحكمة.

[سورة فاطر (35): آية 3]

يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (3)

و لمّا بيّن أنّه الموجد للملك و الملكوت، و المتصرّف فيهما على الإطلاق، أمر الناس بشكر

إنعامه، فقال:

يا أَيُّهَا النَّاسُ اذْكُرُوا نِعْمَتَ اللَّهِ عَلَيْكُمْ الظاهرة و الباطنة، الّتي من جملتها أنّه خلقكم و أحياكم و أقدركم، و خلق لكم أنواع الملاذّ و المنافع. و ليس المراد بذكر النعمة ذكرها باللسان فقط، و لكن به و بالاعتراف بها، و طاعة موليها. و منه قول الرجل لمن أنعم عليه: اذكر أيادّي عندك. يريد حفظها و شكرها، و العمل على موجبها. فالمعنى: احفظوها بمعرفة حقّها، و الاعتراف بها، و طاعة معطيها.

و الخطاب عامّ للجميع، لأنّ جميعهم مغمورون في نعمة اللّه.

و عن ابن عبّاس يريد: يا أهل مكّة اذكروا نعمة اللّه عليكم، حيث أسكنكم حرمه، و متّعكم من جميع العالم، و الناس يتخطّفون من حولكم. و عنه: نعمة اللّه:

العافية.

ثمّ أنكر أن يكون لغيره في ذلك مدخل، فيستحقّ أن يشرك به، فقال:

هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ يَرْزُقُكُمْ مِنَ السَّماءِ بالمطر وَ الْأَرْضِ بالنبات و لذلك عقّبه بقوله: لا إِلهَ إِلَّا هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فمن أيّ وجه تصرفون عن التوحيد إلى الكفر و إشراك غيره به؟ يعني به قريش.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 463

و رفع «غير» للحمل على محلّ «من خالق» بأنّه وصف أو بدل، و الاستفهام بمعنى النفي. أو أنّه فاعل «خالق». و جرّه حمزة و الكسائي حملا على لفظه.

و «يرزقكم» صفة ل «خالق» أو استئناف مفسّر له، أو كلام مبتدأ. و على الأخير لا يطلق «الخالق» على غير اللّه تعالى. و أمّا على الوجهين الآخرين- أعني:

الوصف و التفسير- فقد تقيّد فيهما بالرزق من السماء و الأرض، و خرج من الإطلاق.

و «لا إله إلّا هو» جملة مفصولة لا محلّ لها. و لو وصلتها كما وصلت «يرزقكم» لم يساعد عليه المعنى، لأنّ قولك: هل من خالق آخر سوى

اللّه لا إله إلّا ذلك الخالق، غير مستقيم، لأنّ قولك: هل من خالق سوى اللّه إثبات للّه، فلو ذهبت تقول ذلك، كنت مناقضا بالنفي بعد الإثبات.

[سورة فاطر (35): الآيات 4 الى 8]

وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (4) يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (5) إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ (6) الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فَرَآهُ حَسَناً فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ (8)

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 464

ثمّ نعى اللّه سبحانه على قريش سوء تلقّيهم لآيات اللّه، و تكذيبهم بها، و سلّى رسوله بأنّ له في الأنبياء أسوة حسنة. ثمّ جاء بما يشتمل على الوعد و الوعيد، من رجوع الأمور إلى حكمه، و مجازاة المكذّب و المكذّب بما يستحقّانه، فقال:

وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كُذِّبَتْ رُسُلٌ مِنْ قَبْلِكَ أي: فتأسّ بهم في الصبر على تكذيبهم. فوضع «فقد كذّبت» موضعه، استغناء بالسبب عن المسبّب، أعني:

بالتكذيب عن التأسّي.

و تنكير «رسل» للتعظيم المقتضي زيادة التسلية، و الحثّ على المصابرة. كأنّه قال: فقد كذّبت رسل، أي: رسل ذو عدد كثير، و أولو آيات و نذر، و أهل أعمار طوال، و أصحاب صبر و عزم، و ما أشبه ذلك. فهذا أسلى له، و أحثّ على المصابرة.

وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ فيجازيك و إيّاهم على الصبر و التكذيب.

ثمّ خاطب العباد فقال: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالحشر، و الجزاء

بالثواب و العقاب حَقٌ لا خلف فيه فَلا تَغُرَّنَّكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فلا يخدعنّكم الدنيا، و لا يذهلنّكم التمتّع بها، و التلذّذ بمنافعها عن العمل للآخرة، و طلب ما عند اللّه و السعي لها.

وَ لا يَغُرَّنَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ الشيطان الّذي عادته أن يغرّكم، بأن يمنّيكم المغفرة، مع الإصرار على المعصية، فيقول لكم: إنّ اللّه غفور، يغفر كلّ كبير و صغير، و يعفو عن كلّ خطيئة، فإنّها و إن أمكنت، لكنّ الذنب بهذا التوقّع كتناول السمّ اعتمادا على دفع الطبيعة.

ثمّ حذّرهم عن الشيطان بقوله: إِنَّ الشَّيْطانَ لَكُمْ عَدُوٌّ عداوة قديمة عامّة فَاتَّخِذُوهُ عَدُوًّا في عقائدكم و أفعالكم، و كونوا على حذر منه في مجامع أحوالكم إِنَّما يَدْعُوا حِزْبَهُ لِيَكُونُوا مِنْ أَصْحابِ السَّعِيرِ.

ثمّ وعد لمن أجاب دعاءه، و وعّد لمن خالفه، فقال: الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ عَذابٌ

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 465

شَدِيدٌ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ.

ثمّ كشف الغطاء، و قشر اللحاء، ليقطع الأطماع الفارغة و الأماني الكاذبة، فبنى الأمر كلّه على الإيمان و العمل و تركهما، بعد أن ذكر الفريقين: الّذين كفروا و الّذين آمنوا، فقال لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

أَ فَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ بأن غلب وهمه و هواه على عقله، حتّى انتكس رأيه فَرَآهُ حَسَناً فرأى الباطل حقّا، و القبيح حسنا، كمن لم يزيّن له، بل وفّق بعد استرشاده و استصوابه، حتّى عرف الحقّ، و استحسن الأعمال و استقبحها على ما هي عليه. فحذف الجواب، لأنّه دلّ عليه قوله: فَإِنَّ اللَّهَ يُضِلُّ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ.

و معنى تزيين العمل و الإضلال واحد، و هو أن يكون العاصي على صفة لا تجدي عليه المصالح، من

الإنكار و الجحود و اللجاج، بعد ظهور الحقّ عليه، حتّى يستوجب بذلك خذلان اللّه تعالى و تخليته و شأنه، فعند ذلك يهيم في الضلال، و يطلق آمر النّهى «1»، و يعتنق طاعة الهوى، حتّى يرى القبيح حسنا و الحسن قبيحا، كأنّما غلب على عقله، و سلب تمييزه.

و قيل: تقديره: أ فمن زيّن له سوء عمله، ذهبت نفسك عليهم حسرات؟

فحذف الجواب لدلالة فَلا تَذْهَبْ نَفْسُكَ عَلَيْهِمْ حَسَراتٍ عليه. و معناه: فلا تهلك نفسك عليهم للحسرات على غيّهم و إصرارهم على التكذيب.

و الفاءات الثلاث للسببيّة، غير أنّ الأوليين دخلتا على السبب، و الثالثة دخلت على المسبّب.

و جمع الحسرات للدلالة على تضاعف اغتمامه على أحوالهم، أو على كثرة مساوي أفعالهم المقتضية للتأسّف.

______________________________

(1) النّهي: العقل. سمّي به لأنّه ينهى عن القبيح و عن كلّ ما ينافي العقل.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 466

و «عليهم» ليست صلة لها، لأنّ صلة المصدر لا تتقدّمه، بل صلة «تذهب»، أو بيان للمتحسّر عليه.

إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بِما يَصْنَعُونَ فيجازيهم عليه. و هذا وعيد لهم بالعقاب على سوء صنيعهم.

[سورة فاطر (35): آية 9]

وَ اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ فَتُثِيرُ سَحاباً فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها كَذلِكَ النُّشُورُ (9)

ثمّ عاد سبحانه إلى ذكر أدلّة التوحيد، فقال: وَ اللَّهُ الَّذِي أَرْسَلَ الرِّياحَ و قرأ ابن كثير و حمزة و الكسائي: الريح. فَتُثِيرُ سَحاباً على حكاية الحال الماضية، استحضارا لتلك الصورة البديعة، الدالّة على كمال القدرة الربّانيّة، و الحكمة البالغة الإلهيّة. و لأنّ المراد بيان إحداثها بهذه الخاصّيّة، و لذلك أسنده إليها.

فَسُقْناهُ إِلى بَلَدٍ مَيِّتٍ جدب لم يمطر فيمطر على ذلك البلد فَأَحْيَيْنا بِهِ الْأَرْضَ بالمطر النازل منه. أو بالسحاب، فإنّه سبب السبب. بَعْدَ مَوْتِها بعد يبسها. و العدول فيهما

من الغيبة إلى ما هو أدخل في الاختصاص و أدلّ عليه، لما فيهما من مزيد الصنع.

كَذلِكَ النُّشُورُ الكاف في محلّ الرفع، أي: مثل إحياء الموات نشور الأموات، في صحّة المقدوريّة، إذ ليس بينهما إلّا احتمال اختلاف المادّة في المقيس و المقيس عليه، و ذلك لا مدخل له فيها.

و

روي: أنّه قيل لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كيف يحيي اللّه الموتى؟ و ما آية ذلك في خلقه؟ فقال: هل مررت بوادي أهلك محلا «1»، ثمّ مررت به يهتزّ خضرا؟ قال: نعم.

______________________________

(1) واد محل أي: جدب. و المحل: الجدب، و انقطاع المطر، و يبس الأرض. زبدة التفاسير، ج 5، ص: 467

قال: فكذلك يحيي اللّه الموتى، و تلك آيته في خلقه».

و قيل في كيفيّة الإحياء: إنّه تعالى يرسل ماء من تحت العرش كمنيّ الرجال، فتنبت منه أجساد الخلق.

[سورة فاطر (35): آية 10]

مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ وَ الَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ مَكْرُ أُولئِكَ هُوَ يَبُورُ (10)

روي: أنّ الكفّار كانوا يتعزّزون بالأصنام، كما قال عزّ و جلّ: وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لِيَكُونُوا لَهُمْ عِزًّا «1». و الّذين آمنوا بألسنتهم من غير مواطأة قلوبهم كانوا يتعزّزون بالمشركين، كما قال تعالى: الَّذِينَ يَتَّخِذُونَ الْكافِرِينَ أَوْلِياءَ مِنْ دُونِ الْمُؤْمِنِينَ أَ يَبْتَغُونَ عِنْدَهُمُ الْعِزَّةَ فَإِنَّ الْعِزَّةَ لِلَّهِ جَمِيعاً «2». فبيّن أن لا عزّة إلّا للّه و لأوليائه. و قال: وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ «3».

و هاهنا قال: مَنْ كانَ يُرِيدُ الْعِزَّةَ الشرف و المنعة فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً أي: فليطلبها من عنده، فإنّ العزّة في الدنيا و الآخرة كلّها مختصّة به. فوضع قوله:

«فَلِلَّهِ الْعِزَّةُ جَمِيعاً» موضعه، استغناء به

عنه، لدلالته عليه، لأنّ الشي ء لا يطلب إلّا عند صاحبه و مالكه. و نظيره قولك: من أراد النصيحة فهي عند الأبرار. تريد:

فليطلبها عندهم، إلّا أنّك أقمت ما يدلّ عليه مقامه.

______________________________

(1) مريم: 81.

(2) النساء: 139.

(3) المنافقون: 8.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 468

و المعنى: من أراد العزّة فليتعزّز بطاعة اللّه، فإنّ اللّه تعالى يعزّه.

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «إنّ ربّكم يقول كلّ يوم: أنا العزيز، فمن أراد عزّ الدارين فليطع العزيز».

ثمّ عرّف أنّ ما تطلب به العزّة هو الإيمان و العمل الصالح بقوله: إِلَيْهِ يَصْعَدُ الْكَلِمُ الطَّيِّبُ و هو كلمة التوحيد وَ الْعَمَلُ الصَّالِحُ يَرْفَعُهُ الضمير المستكن للكلم، فإنّ العمل الصالح لا يقبل إلّا بالتوحيد. و صعودهما إليه مجاز عن قبوله إيّاهما، فإنّ كلّ ما يتقبّله اللّه سبحانه من الطاعات، يكتبه الملائكة إلى حيث شاء اللّه.

و قيل: الكلم الطيّب يتناول جميع أقسام الذكر، من التكبير، و التسبيح و التهليل و التحميد، و غيرها، من قراءة القرآن و الدعاء و الاستغفار.

و

عنه عليه السّلام: «هو: سبحان اللّه، و الحمد للّه، و لا إله إلّا اللّه، و اللّه أكبر. إذا قالها العبد عرج بها الملك إلى السماء، فحيّا بها وجه الرحمن. و إذا لم يكن عمل صالح لم يقبل منه».

و

في الحديث: «لا يقبل اللّه قولا إلّا بعمل، و لا يقبل قولا و لا عملا إلّا بنيّة، و لا يقبل قولا و عملا و نيّة إلّا بإصابة السنّة».

و كذا نقل عن ابن عبّاس أنّ معنى الآية: إنّ هذه الكلم لا تقبل، و لا تصعد إلى السماء، فتكتب حيث تكتب الأعمال المقبولة، كما قال عزّ و جلّ: إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ «1» إلّا إذا اقترن بها العمل

الصالح الّذي يحقّقها و يصدّقها، فرفعها و أصعدها.

و عن ابن المقفّع: قول بلا عمل كثريد بلا دسم، و سحاب بلا مطر.

وَ الَّذِينَ يَمْكُرُونَ السَّيِّئاتِ أي: المكرات السيّئات. فالسيّئات صفة للمصدر، لا أنّه مفعول به، لأنّ المكر غير متعدّ، فلا يقال: مكر فلان عمله. و عنى

______________________________

(1) المطفّفين: 18.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 469

بها مكرات قريش للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في دار الندوة، و تداوروا الرأي في إحدى ثلاث مكرات: حبسه، و قتله، و إجلائه، كما قال اللّه تعالى: وَ إِذْ يَمْكُرُ بِكَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِيُثْبِتُوكَ أَوْ يَقْتُلُوكَ أَوْ يُخْرِجُوكَ «1».

لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ لا يؤبه دونه بما يمكرون به وَ مَكْرُ أُولئِكَ الّذين مكروا المكرات الثلاث هُوَ يَبُورُ يكسد و لا ينفد، دون مكر اللّه بهم حين أخرجهم من مكّة و قتلهم، و أثبتهم في قليب بدر، فجمع عليهم مكراتهم جميعا، و حقّق عليهم قوله: وَ يَمْكُرُونَ وَ يَمْكُرُ اللَّهُ وَ اللَّهُ خَيْرُ الْماكِرِينَ «2» و قوله: وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ «3».

[سورة فاطر (35): الآيات 11 الى 14]

وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَ لا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَ ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَ لا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ إِلاَّ فِي كِتابٍ إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (11) وَ ما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ سائِغٌ شَرابُهُ وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ وَ مِنْ كُلٍّ تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا وَ تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها وَ تَرَى الْفُلْكَ فِيهِ مَواخِرَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ

وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ (13) إِنْ تَدْعُوهُمْ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ وَ لَوْ سَمِعُوا مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ وَ لا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ (14)

______________________________

(1) الأنفال: 30.

(2) الأنفال: 30.

(3) فاطر: 43.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 470

ثمّ نسق سبحانه على ما تقدّم من دلائل التوحيد، فقال: وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ بخلق آدم منه ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ بخلق ذرّيّته منها ثُمَّ جَعَلَكُمْ أَزْواجاً ذكرانا و إناثا. و عن قتادة: زوّج بعضكم بعضا.

وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَ لا تَضَعُ إِلَّا بِعِلْمِهِ إلّا معلومة له. و الجارّ و المجرور في موضع الحال.

وَ ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ أي: و ما يعمّر من أحد. فسمّاه معمّرا بما هو صائر إليه، كأنّه قال: و ما يمدّ في عمر من مصيره إلى الكبر.

وَ لا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ من عمر المعمّر لغيره، بأن يعطى له عمر ناقص من عمره. أو لا ينقص من عمر المنقوص عمره، بجعله ناقصا. و الضمير له و إن لم يذكر، لدلالة مقابله عليه. أو للمعمّر على التسامح فيه، ثقة بأفهام السامعين، و اتّكالا على تسديدهم معناه بعقولهم، و أنّه لا يلتبس عليهم إحالة الطول و القصر في عمر واحد. و عليه كلام العرب العرباء يقولون: لا يثيب اللّه عبدا و لا يعاقبه إلّا بحقّ.

فعلى هذا التوجيه لا يرد: أنّ الإنسان إمّا معمّر- أي: طويل العمر- أو منقوص العمر، أي: قصيره. فإمّا أن يتعاقب عليه التعمير، و خلافه محال. فكيف يصحّ قوله: «وَ ما يُعَمَّرُ مِنْ مُعَمَّرٍ وَ لا يُنْقَصُ مِنْ عُمُرِهِ»؟

و قيل: الزيادة و النقصان في عمر واحد باعتبار أسباب مختلفة، أثبتت في اللوح. مثل أن يكون فيه: إن حجّ زيد

فعمره ستّون سنة، و إلّا فأربعون. فقد نقص من عمره الّذي هو الغاية، و هو الستّون. و إليه

أشار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في قوله: «إنّ

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 471

الصدقة و الصلة تعمران الديار، و تزيدان في الأعمار».

و عن سعيد بن جبير: يكتب في الصحيفة: عمره كذا و كذا سنة. ثمّ يكتب في أسفل ذلك: ذهب يوم، ذهب يومان، حتّى يأتي على آخر عمره.

و عن قتادة: المعمّر من بلغ ستّين، و المنقوص من عمره من يموت قبله.

و قيل: المراد بالنقصان ما يمرّ من عمره و ينقص، فإنّه يكتب في صحيفة عمره يوما فيوما. فالنقصان على ثلاثة أوجه: إمّا أن يكون من عمر المعمّر، أو من عمر معمّر آخر، أو يكون بشرط.

و عن يعقوب: و لا ينقص، على بناء الفاعل، أي: و لا ينقص اللّه من عمره.

إِلَّا فِي كِتابٍ في علم اللّه، أو اللوح، أو صحيفة الإنسان إِنَّ ذلِكَ إشارة إلى الحفظ، أو الزيادة، أو النقص عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ سهل، غير متعذّر و لا متعسّر.

ثمّ ضرب البحرين- العذب و المالح- مثلين للمؤمن و الكافر، فقال:

وَ ما يَسْتَوِي الْبَحْرانِ هذا عَذْبٌ فُراتٌ و هو الّذي يكسر العطش سائِغٌ شَرابُهُ و هو الّذي يسهل انحداره لعذوبته وَ هذا مِلْحٌ أُجاجٌ و هو الّذي يحرق بشدّة ملوحته.

ثمّ قال على سبيل الاستطراد في صفة البحرين، و ما فيهما من النعم العظيمة:

وَ مِنْ كُلٍ و من كلّ واحد منهما تَأْكُلُونَ لَحْماً طَرِيًّا و هو السمك وَ تَسْتَخْرِجُونَ حِلْيَةً تَلْبَسُونَها و هي اللؤلؤ و المرجان.

و يحتمل أن يحمل هذا على غير طريقة الاستطراد، بأن يجعل من تتمّة التمثيل، فيشبّه الجنسين بالبحرين، ثمّ يفضّل البحر الأجاج على

الكافر، بأنّه قد شارك العذب في منافع، من السمك و اللؤلؤ و جري الفلك فيه، و الكافر خلو من النفع. فهو في طريقة قوله تعالى: ثُمَّ قَسَتْ قُلُوبُكُمْ مِنْ بَعْدِ ذلِكَ فَهِيَ كَالْحِجارَةِ أَوْ أَشَدُّ قَسْوَةً». ثم قال: «وَ إِنَّ مِنَ الْحِجارَةِ لَما يَتَفَجَّرُ مِنْهُ الْأَنْهارُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَشَّقَّقُ فَيَخْرُجُ

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 472

مِنْهُ الْماءُ وَ إِنَّ مِنْها لَما يَهْبِطُ مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ «1».

وَ تَرَى الْفُلْكَ فِيهِ في كلّ من البحرين مَواخِرَ شواقّ للماء بجريها.

يقال: مخرت السفينة الماء. و يقال للسحاب: نبات مخر، لأنّها تمخر الهواء. و قريب من المخر السفن، الّذي اشتقّت منه السفينة، لأنّها تسفن الماء، كأنّها تقشره كما تمخره.

لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ من فضل اللّه بالنقلة فيها، و إن لم يجر له ذكر في الآية، لكن يدلّ سوق الكلام عليه. و اللام متعلّقة ب «مواخر». و يجوز أن تتعلّق بما دلّ عليه الأفعال المذكورة.

وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ على ذلك. و حرف الرجاء مستعار لمعنى الإرادة. أ لا ترى كيف سلك به مسلك لام التعليل، كأنّما قيل: لتبتغوا و لتشكروا.

يُولِجُ اللَّيْلَ يدخله فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى هي مدّة دوره، أو منتهاه، أو يوم القيامة ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ الإشارة إلى فاعل هذه الأشياء. و فيها إشعار بأنّ فاعليّته لها موجبة لثبوت هذه الأخبار المترادفة.

و يحتمل أن يكون «له الملك» كلاما مبتدأ واقعا في قرآن قوله: وَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ ما يَمْلِكُونَ مِنْ قِطْمِيرٍ للدلالة على تفرّده بالألوهيّة. و «القطمير» لفّافة النواة. و هي القشرة الرقيقة الملتفّة عليها.

إِنْ تَدْعُوهُمْ إن تدعوا الأوثان لكشف الضرّ لا يَسْمَعُوا دُعاءَكُمْ لأنّهم جماد

وَ لَوْ سَمِعُوا على سبيل الفرض مَا اسْتَجابُوا لَكُمْ لعدم قدرتهم على الإنفاع، أو لتبرّئهم منكم و ممّا تدّعون لهم وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَكْفُرُونَ بِشِرْكِكُمْ بإشراككم لهم، و عبادتكم إيّاهم، يقرّون ببطلانه. أو يقولون:

______________________________

(1) البقرة: 74.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 473

ما كُنْتُمْ إِيَّانا تَعْبُدُونَ «1».

وَ لا يُنَبِّئُكَ مِثْلُ خَبِيرٍ و لا يخبرك بالأمر مخبر مثل خبير عالم به أخبرك.

و هو اللّه تعالى، فإنّه هو الخبير به على الحقيقة، دون سائر المخبرين. و المراد تحقيق ما أخبر به من حال آلهتهم، و نفي ما يدّعون لهم. كأنّه قال: إنّ هذا الّذي أخبرتكم من حال الأوثان هو الحقّ، لأنّي خبير بما أخبرت به.

[سورة فاطر (35): الآيات 15 الى 17]

يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (15) إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ (16) وَ ما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ (17)

يا أَيُّهَا النَّاسُ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إِلَى اللَّهِ في أنفسكم و مايعن لكم. و تعريف الفقراء للمبالغة في فقرهم، كأنّهم لشدّة افتقارهم إليه و كثرة احتياجهم هم الفقراء، و أنّ افتقار سائر الخلائق بالنسبة إلى فقرهم غير معتدّ به، لأنّ الفقر ممّا يتبع الضعف، فكلّما كان أضعف كان أفقر، و قد شهد سبحانه على الإنسان بالضعف في قوله: وَ خُلِقَ الْإِنْسانُ ضَعِيفاً «2». و قال: اللَّهُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ ضَعْفٍ «3». و لو نكّر لكان المعنى: أنتم بعض الفقراء، وفات هذا المعنى المقصود.

و لمّا أثبت فقرهم إليه، و غناه عنهم، و ليس كلّ غنيّ نافعا بغناه إلّا إذا كان الغنيّ جوادا منعما، فإذا جاد و أنعم استحقّ عليهم الحمد، و حمده المنعم عليهم، ذكر الحميد ليدلّ به على أنّه الغنيّ النافع بغناه خلقه، الجواد المنعم عليهم، المستحقّ بإنعامه عليهم

أن يحمدوه، الحميد على ألسنة مؤمنيهم، فقال:

______________________________

(1) يونس: 28.

(2) النساء: 28.

(3) الروم: 54.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 474

وَ اللَّهُ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ المستغني على الإطلاق، المنعم على سائر الموجودات، حتّى استحقّ عليهم الحمد.

ثمّ دلّ على كمال قدرته بقوله: إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ يغنكم وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ بقوم آخرين أطوع منكم. أو بعالم آخر غير ما تعرفونه. وَ ما ذلِكَ عَلَى اللَّهِ بِعَزِيزٍ بمتعذّر أو متعسّر.

[سورة فاطر (35): آية 18]

وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى وَ إِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ إِلى حِمْلِها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْ ءٌ وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ مَنْ تَزَكَّى فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ (18)

ثمّ أخبر عن عدله في حكمه، فقال: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى و لا تحمل نفس حاملة الإثم حمل إثم نفس اخرى. و الوزر: الوقر. و المعنى: أنّ كلّ نفس يوم القيامة لا تحمل إلّا وزرها الّذي اقترفته. فلا تؤخذ نفس بذنب نفس، كما تأخذ جبابرة الدنيا الوليّ بالوليّ، و الجار بالجار.

و أمّا قوله: وَ لَيَحْمِلُنَّ أَثْقالَهُمْ وَ أَثْقالًا مَعَ أَثْقالِهِمْ «1» ففي الضالّين المضلّين، فإنّهم يحملون أثقال إضلالهم مع أثقال ضلالهم، و كلّ ذلك أوزارهم، ليس فيها شي ء من أوزار غيرهم. ألا ترى كيف كذّبهم في قولهم: اتَّبِعُوا سَبِيلَنا وَ لْنَحْمِلْ خَطاياكُمْ «2» بقوله: وَ ما هُمْ بِحامِلِينَ مِنْ خَطاياهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ «3». ففي أنّه لا يؤاخذ نفسا بغير ذنبها، دلالة على عدل اللّه في حكمه.

ثمّ بيّن أن لا غياث يومئذ لمن استغاث، فقال: وَ إِنْ تَدْعُ مُثْقَلَةٌ نفس أثقلها

______________________________

(1) العنكبوت: 12- 13.

(2) العنكبوت: 12- 13.

(3) العنكبوت: 12- 13.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 475

الأوزار غيرها إِلى حِمْلِها إلى أن يتحمّل

عنها بعض أوزارها لا يُحْمَلْ مِنْهُ شَيْ ءٌ لم تجب لحمل شي ء منه، و لم تغث، فلم يحمل غيرها شيئا من ذلك الحمل وَ لَوْ كانَ ذا قُرْبى و لو كان المدعوّ ذا قرابتها، من أب أو ولد أو أخ. فأضمر المدعوّ لدلالة «إن تدع» عليه.

و لمّا غضب اللّه تعالى عليهم في قوله: «إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ» أتبعه الإنذار بيوم القيامة و ذكر أهوالها، فقال:

إِنَّما تُنْذِرُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ غائبين عن عذابه، أو عن الناس في خلواتهم. أو يخشون عذابه غائبا عنهم، أي: إنّ إنذارك لا ينفع إلّا الّذين يخشون ربّهم بالغيب.

وَ أَقامُوا الصَّلاةَ أي: أداموها و قاموا بشرائطها، فإنّهم المنتفعون بالإنذار لا غير. و إنّما عطف الماضي على المستقبل، إشعارا باختلاف المعنى، لأنّ الخشية لازمة في كلّ وقت، و الصلاة لها أوقات مخصوصة.

وَ مَنْ تَزَكَّى و من تطهّر بفعل الطاعات من دنس المعاصي فَإِنَّما يَتَزَكَّى لِنَفْسِهِ إذ نفعه لها. و هو اعتراض مؤكّد لخشيتهم و إقامتهم الصلاة، لأنّهما من جملة التزكّي. وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ فيجازيهم على تزكّيهم.

[سورة فاطر (35): الآيات 19 الى 26]

وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ (19) وَ لا الظُّلُماتُ وَ لا النُّورُ (20) وَ لا الظِّلُّ وَ لا الْحَرُورُ (21) وَ ما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَ لا الْأَمْواتُ إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ (22) إِنْ أَنْتَ إِلاَّ نَذِيرٌ (23)

إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِّ بَشِيراً وَ نَذِيراً وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ إِلاَّ خَلا فِيها نَذِيرٌ (24) وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ وَ بِالزُّبُرِ وَ بِالْكِتابِ الْمُنِيرِ (25) ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (26)

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 476

ثمّ ضرب للكافر و المؤمن مثلا آخر، كما ضرب

لهما البحرين مثلا، فقال:

وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ قيل: هما مثلان للصنم و للّه تعالى وَ لَا الظُّلُماتُ وَ لَا النُّورُ و لا الباطل و لا الحقّ وَ لَا الظِّلُّ وَ لَا الْحَرُورُ و لا الثواب و لا العقاب. و «لا» لتأكيد نفي الاستواء. و تكريرها على الشّقين لمزيد التأكيد. و الحرور فعول من الحرّ، غلّب على السموم. و قيل: السموم ما تهبّ نهارا، و الحرور ما تهبّ ليلا.

ثمّ مثّل تمثيلا آخر للمؤمنين و الكافرين، أبلغ من الأوّل و الثاني، فقال: وَ ما يَسْتَوِي الْأَحْياءُ وَ لَا الْأَمْواتُ قيل: هذا تمثيل للعلماء و الجهلاء. إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ أي: إنّه قد علم من يدخل في الإسلام ممّن لا يدخل فيه، فيهدي الّذي قد علم أنّ الهداية تنفع فيه، و يخذل من علم أنّها لا تنفع فيه وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ ترشيح لتمثيل المصرّين على الكفر بالأموات، و مبالغة في إقناطه عنهم.

و المعنى: يا محمّد قد خفي عليك أمرهم، فلذلك تحرص و تتهالك على إسلام قوم من المخذولين. و مثلك في ذلك مثل من لا يريد أن يسمع المقبورين و ينذر، و ذلك ما لا سبيل إليه.

إِنْ أَنْتَ إِلَّا نَذِيرٌ فما عليك إلّا الإنذار، و أمّا الإسماع فلا إليك، و لا حيلة لك إليه في المطبوع على قلوبهم.

إِنَّا أَرْسَلْناكَ بِالْحَقِ حال من أحد الضميرين، أي: محقّين، أو محقّا. أو صفة للمصدر، أي: إرسالا مصحوبا بالحقّ. و يجوز أن يكون صلة لقوله: بَشِيراً وَ نَذِيراً أي: بشيرا بالوعد الحقّ، و نذيرا بالوعيد الحقّ.

وَ إِنْ مِنْ أُمَّةٍ من جماعة كثيرة من أهل كلّ عصر، فإنّ كلّ عصر أمّة إِلَّا خَلا فِيها نَذِيرٌ مضى

فيها نبيّ، أو عالم ينذرهم عنه سبحانه. فإذا اندرست آثار

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 477

النذارة من العالم، وجب على اللّه بعث نبيّ آخر، كما في زمان الفترة بين عيسى و محمّد فما دامت آثار النذارة فيه باقية بنحو نبيّ أو عالم لم يحتج إلى إرسال نبيّ، و لمّا اندرست بعث اللّه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و الاكتفاء بذكر النذير للعلم بأنّ النذارة مقرونة بالبشارة و مشفوعة بها، و قد قرن به من قبل. أو لأنّ الإنذار هو المقصود الأهمّ من البعثة.

وَ إِنْ يُكَذِّبُوكَ فَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الشاهدة على نبوّتهم وَ بِالزُّبُرِ كصحف إبراهيم وَ بِالْكِتابِ الْمُنِيرِ الواضح البيّن، كالتوراة و الإنجيل. و لمّا كانت هذه الأشياء في جنسهم، أسند المجي ء بها إليهم إسنادا مطلقا، و إن كان بعضها في جميعهم، و هي البيّنات، و بعضها في بعضهم، و هي الزبر و الكتاب. و فيه مسلاة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و يجوز أن يراد بالزبر و الكتاب المنير التوراة و الإنجيل. و العطف لتغاير الوصفين، فإنّ الزبور أثبت في الكتاب من الكتاب، لأنّه يكون منقرا منقشا فيه، كالنقر في الحجر. هكذا قال صاحب المجمع «1». ثُمَّ أَخَذْتُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ أي: إنكاري بالعقوبة، و إنزالي العقاب بهم.

[سورة فاطر (35): الآيات 27 الى 28]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها وَ غَرابِيبُ سُودٌ (27) وَ مِنَ النَّاسِ وَ الدَّوَابِّ وَ الْأَنْعامِ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ (28)

______________________________

(1) مجمع البيان 8: 406.

زبدة التفاسير، ج 5،

ص: 478

ثمّ بيّن قدرته التّامّة بقوله: أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَأَخْرَجْنا بِهِ ثَمَراتٍ مُخْتَلِفاً أَلْوانُها أجناسها، من الرمّان و التفّاح و التين و العنب، و غيرها ممّا لا يحصى. أو أصنافها، على أنّ كلّا منها ذو أصناف مختلفة. أو هيئاتها، من الصفرة و الخضرة و نحوهما.

وَ مِنَ الْجِبالِ جُدَدٌ ذو جدد، أي: خطط و طرائق. يقال: جدّة الحمار للخطّة السوداء على ظهره. و قد يكون للظبي جدّتان مستكنتان تفصلان بين لوني ظهره و بطنه. بِيضٌ وَ حُمْرٌ مُخْتَلِفٌ أَلْوانُها بالشدّة و الضعف.

وَ غَرابِيبُ سُودٌ عطف على «بيض» أو على «جدد». كأنّه قيل: و من الجبال ذو جدد مختلفة اللون، و منها غرابيب متّحدة اللون. و هو تأكيد مضمر يفسّره ما بعده، فإنّ الغربيب تأكيد للأسود، و من حقّ التأكيد أن يتبع المؤكّد. و في مثله مزيد تأكيد، لما فيه من التكرير باعتبار الإضمار و الإظهار جميعا. و نظير ذلك قول النابغة:

و المؤمن العائذات الطير يمسحهاركبان مكّة بين الغيل و السلم

وَ مِنَ النَّاسِ وَ الدَّوَابِ الّتي تدبّ على وجه الأرض وَ الْأَنْعامِ كالإبل و البقرة و الغنم مُخْتَلِفٌ أَلْوانُهُ كَذلِكَ أي: كاختلاف الثمار و الجبال.

و لمّا قال: «ألم تر» بمعنى: ألم تعلم أنّ اللّه أنزل من السماء ماء، و عدّد آيات اللّه و أعلام قدرته و آثار صنعه، و ما خلق من الفطر المختلفة الأجناس، و ما يستدلّ به عليه و على صفاته، أتبع ذلك قوله: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ كأنّه قال: إنّما يخشاه مثلك، و من كان على صفتك ممّن عرفه حقّ معرفته، و علمه كنه علمه، إذ شرط الخشية معرفة المخشيّ، و العلم بصفاته و أفعاله.

فمن كان أعلم به كان أخشى منه، و من كان علمه أقلّ كان آمن.

و

في الحديث: «أعلمكم باللّه أشدّكم له خشية».

و لذلك

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّي

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 479

أخشاكم للّه، و أتقاكم له».

و عن مسروق: كفى بالمرء علما أن يخشى اللّه، و كفى بالمرء جهلا أن يعجب بعلمه.

و

عن الصادق عليه السّلام: «يعني بالعلماء من صدّق قوله فعله، و من لم يصدّق قوله فعله فليس بعالم».

و عن ابن عبّاس قال: يريد: إنّما يخافني من خلقي، من علم جبروتي و عزّتي و سلطاني.

إن قلت: قد نرى من العلماء من لا يخاف اللّه، و يرتكب المعاصي.

فالجواب: أنّه لا بدّ من أن يخافه مع العلم به، و إن كان ربما يؤثر المعصية عند غلبة الشهوة لعاجل اللذّة.

و تقديم المفعول لأنّ المقصود حصر الفاعليّة، و لو أخّر انعكس الأمر.

ثمّ علّل وجوب الخشية بقوله: إِنَّ اللَّهَ عَزِيزٌ غَفُورٌ لدلالته على عقوبة العصاة و قهرهم، و إثابة أهل الطاعة و العفو عنهم، و المعاقب المثيب حقّه أن يخشى.

[سورة فاطر (35): الآيات 29 الى 30]

إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً يَرْجُونَ تِجارَةً لَنْ تَبُورَ (29) لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ إِنَّهُ غَفُورٌ شَكُورٌ (30)

ثمّ وصف سبحانه العلماء، فقال على سبيل الاستئناف: إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ كِتابَ اللَّهِ يداومون على قراءته، أو متابعة ما فيه، حتّى صارت عادة لهم. و المراد بكتاب اللّه القرآن. و قيل: جنس كتب اللّه. فيكون ثناء على المصدّقين من الأمم،

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 480

بعد اقتصاص حال المكذّبين.

وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَنْفَقُوا مِمَّا رَزَقْناهُمْ سِرًّا وَ عَلانِيَةً كيف اتّفق من غير قصد إليهما. و قيل: السرّ في السنّة المسنونة، و

العلانية في المفروضة.

عن عبد اللّه بن عبيد بن عمر الليثي قال: «قام رجل إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال:

يا رسول اللّه! مالي لا أحبّ الموت؟ قال: أ لك مال؟ قال: نعم. قال: فقدّمه. قال: لا أستطيع. قال: فإنّ قلب الرجل مع ماله، إن قدّمه أحبّ أن يلحق به، و إن أخّره أحبّ أن يتأخّر معه».

يَرْجُونَ تِجارَةً تحصيل ثواب الطاعة. و هو خبر «إنّ». لَنْ تَبُورَ لن تكسر و لن تهلك بالخسران. صفة للتجارة.

و قوله: لِيُوَفِّيَهُمْ أُجُورَهُمْ متعلّق ب «لن تبور» أي: ينتفي عنها الكساد، و تنفق «1» عند اللّه، ليوفّيهم بنفاقها عنده أجور أعمالهم، و هي ما استحقّوه من الثواب وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ على ما يقابل أعمالهم.

روى ابن مسعود عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال في قوله: «وَ يَزِيدَهُمْ مِنْ فَضْلِهِ»:

«هو الشفاعة لمن وجبت له النار، ممّن صنع إليه معروفا في الدنيا».

إِنَّهُ غَفُورٌ لفرطاتهم شَكُورٌ لطاعتهم، أي: مجازيهم. و هو علّة للتوفية و الزيادة. أو خبر «إنّ»، و «يرجون» حال من واو «و أنفقوا» أي: راجين بذلك تجارة لن تكسد و لن تفسد.

[سورة فاطر (35): الآيات 31 الى 35]

وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ (31) ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بِإِذْنِ اللَّهِ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (32) جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها يُحَلَّوْنَ فِيها مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ وَ لُؤْلُؤاً وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ (33) وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ شَكُورٌ (34) الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ مِنْ فَضْلِهِ لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ

وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ (35)

______________________________

(1) نفقت التجارة: راجت.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 481

ثمّ خاطب سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ مِنَ الْكِتابِ يعني:

القرآن، و «من» للتبيين. أو الجنس، و «من» للتبعيض. هُوَ الْحَقُّ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ لما تقدّمه من الكتب السماويّة. حال مؤكّدة، لأنّ الحقّ لا ينفكّ عن هذا التصديق، أي: حقّيّته تستلزم موافقته إيّاه في العقائد و أصول الأحكام.

إِنَّ اللَّهَ بِعِبادِهِ لَخَبِيرٌ بَصِيرٌ عالم بالبواطن و الظواهر. فخبّرك و بصّر أحوالك، فرآك أهلا لأن يوحي إليك. فلو كان في أحوالك ما ينافي النبوّة لم يوح إليك مثل هذا الكتاب المعجز، الّذي هو عيار على سائر الكتب. و تقديم «الخبير» للدلالة على أنّ العمدة في ذلك الأمور الروحانيّة.

ثُمَّ أَوْرَثْنَا الْكِتابَ أي: إنّا أوحينا إليك الكتاب، أي: القرآن، ثمّ حكمنا بتوريثه منك. أو نورّثه، فعبّر عنه بالماضي لتحقّقه. أو المعنى: أورثناه من الأمم السالفة. و معنى الإرث: انتهاء الحكم إليهم، و مصيره لهم، كما قال: وَ تِلْكَ الْجَنَّةُ

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 482

الَّتِي أُورِثْتُمُوها «1». و العطف على «إِنَّ الَّذِينَ يَتْلُونَ». و «الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ» اعتراض لبيان كيفيّة التوريث.

الَّذِينَ اصْطَفَيْنا مِنْ عِبادِنا يعني: علماء الأمّة، من أهل البيت، و سائر الصحابة، و من بعدهم. أو الأمّة بأسرهم، فإنّ اللّه اصطفاهم على سائر الأمم، كقوله:

وَ كَذلِكَ جَعَلْناكُمْ أُمَّةً وَسَطاً لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ «2». و اختصّهم بكرامة الانتماء إلى أفضل رسل اللّه، و حمل الكتاب الّذي هو أفضل الكتب.

و قيل: هم الأنبياء، اختارهم اللّه برسالته و كتبه.

و قيل: هم المصطفون الداخلون في قوله: إِنَّ اللَّهَ اصْطَفى إلى قوله: وَ آلَ إِبْراهِيمَ وَ آلَ عِمْرانَ «3».

و

المرويّ عن الباقر و الصادق

عليهما السّلام أنّهما قالا: «هي لنا خاصّة، و إيّانا عنى».

و هذا أقرب الأقوال، لأنّهم أحقّ الناس بوصف الاختصاص و الاجتباء، و إيراث علم الأنبياء. و هم الّذين كانوا متعبّدين بحفظ القرآن و بيان حقائقه، العارفين بجلائله و دقائقه.

فَمِنْهُمْ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ بالتقصير في العمل به وَ مِنْهُمْ مُقْتَصِدٌ يعمل به في أغلب الأوقات وَ مِنْهُمْ سابِقٌ بِالْخَيْراتِ بضمّ التعليم و الإرشاد إلى العمل.

و قيل: الظالم: الجاهل. و المقتصد: المتعلّم. و السابق: العالم.

و قيل: الظالم: المجرم. و المقتصد: الّذي خلط الصالح بالسيّ ء. و السابق:

الّذي ترجّحت حسناته، بحيث صارت سيّئاته مكفّرة. و هو معنى

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أمّا الّذين سبقوا فأولئك يدخلون الجنّة يرزقون فيها بغير حساب. و أمّا الّذين اقتصدوا

______________________________

(1) الزخرف: 72.

(2) البقرة: 143.

(3) آل عمران: 33. زبدة التفاسير، ج 5، ص: 483

فأولئك يحاسبون حسابا يسيرا. و أمّا الّذين ظلموا أنفسهم، فأولئك يحبسون في طول المحشر، ثمّ يتلقّاهم اللّه برحمته».

و قيل: الظالم: الكافر، على أنّ الضمير للعباد. و عند أكثر المفسّرين الضمير يعود إلى المصطفين من العباد. ثمّ اختلف في أحوال الفرق الثلاث على قولين:

أحدهما: أنّ جميعهم ناج.

و يؤيّد ذلك ما

ورد في الحديث عن أبي الدرداء قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول في الآية: «أمّا السابق فيدخل الجنّة بغير حساب. و أمّا المقتصد فيحاسب حسابا يسيرا. و أمّا الظالم لنفسه، فيحبس في المقام، ثمّ يدخل الجنّة. فهم الّذين قالوا: الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ «1»».

و عن عائشة: أنّها قالت: كلّهم في الجنّة. أمّا السابق: فمن مضى على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و شهد له رسول اللّه بالجنّة. و أمّا المقتصد:

فمن اتّبع أثره من أصحابه حتّى لحق به. و أمّا الظّالم: فمثلي و مثلكم.

و روي عنها أيضا قالت: السابق: الّذي أسلم قبل الهجرة. و المقتصد: الّذي أسلم بعد الهجرة. و الظالم: نحن.

و قيل: إنّ الظالم من كان ظاهره خيرا من باطنه. و المقتصد: الّذي أسلم بعد الهجرة. و الظالم: نحن.

و قيل: إنّ الظالم من كان ظاهره خيرا من باطنه. و المقتصد: الّذي يستوي ظاهره و باطنه. و السابق: الّذي باطنه خير من ظاهره.

و قيل: منهم ظالم لنفسه بالصغائر، و منهم مقتصد في الطاعات في الدرجات الوسطى، و منهم سابق بالخيرات في الدرجة العليا.

و

روى أصحابنا عن ميسر بن عبد العزيز، عن جعفر الصادق عليه السّلام أنّه قال: «الظالم لنفسه منّا من لا يعرف حقّ الإمام. و المقتصد منّا العارف بحقّ الإمام.

و السابق بالخيرات هو الامام. و هؤلاء كلّهم مغفور لهم».

______________________________

(1) فاطر: 34.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 484

و

عن زياد بن المنذر عن أبي جعفر عليه السّلام: «أمّا الظالم لنفسه منّا فمن عمل عملا صالحا و آخر سيّئا. و أمّا المقتصد فهو المتعبّد المجتهد. و أمّا السابق بالخيرات فعليّ و الحسن و الحسين، و من قتل من آل محمّد شهيدا».

و عن قتادة: الظالم لنفسه أصحاب المشأمة. و المقتصد أصحاب الميمنة.

و السابق هم السابقون المقرّبون من الناس كلّهم. كما قال سبحانه: وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً «1».

و قال عكرمة، عن ابن عبّاس: إنّ الظالم هو المنافق. و المقتصد و السابق من جميع الناس.

و روي أيضا: أنّ الفرقة الظالم لنفسها غير ناجية.

و تقديم الظالم لكثرة الظالمين، و قلّة المقتصدين بالإضافة إليهم. و السابقين أقلّ القليل.

و قيل: إنّما قدّم الظالم لئلّا ييأس من رحمته، و أخّر السابق لئلّا يعجب بعلمه.

و لأنّ الظلم متضمّن

الجهل و الركون إلى الهوى، و هو مقتضى الجبلّة، و الاقتصاد و السبق عارضان.

و قيل: إنّما رتّبهم هذا الرتيب على مقامات الناس، لأنّ أحوال العباد ثلاث:

معصية و غفلة، ثمّ التوبة، ثمّ القربة. فإذا عصى فهو ظالم. و إذا تاب فهو مقتصد. و إذا صحّت توبته، و كثرت مجاهدته، اتّصل باللّه، و صار من جملة السابقين.

بِإِذْنِ اللَّهِ بأمره و توفيقه و لطفه ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ إشارة إلى التوريث، أو الاصطفاء، أو السبق.

ثمّ فسّر الفضل، فقال على وجه الاستئناف: جَنَّاتُ عَدْنٍ يَدْخُلُونَها كأنّه قيل: ما ذلك الفضل؟ فقال: هي جنّات عدن. أو «جنّات» مبتدأ، خبره

______________________________

(1) الواقعة: 7.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 485

«يدخلونها». و يجوز أن يكون بدلا منه. و ذلك لأنّه لمّا كان السبب في نيل الثواب، نزّل منزلة المسبّب، كأنّه هو الثواب، ففسّرت أو أبدلت عنه «جنّات عدن». و ضمير الجمع باعتبار أنّ السابق للجنس.

و في اختصاص السابقين بعد التقسيم بذكر ثوابهم، و السكوت عن الآخرين، ما فيه من وجوب الحذر، فليحذر المقتصد، و ليملك الظالم لنفسه حذرا، و عليهما بالتوبة النصوح المخلصة من عذاب اللّه.

و قيل: الضمير للفرق الثلاث. و الظالم و المقتصد إنّما يدخلانها بفضل اللّه، أو بالشفاعة.

و قرأ أبو عمرو: يدخلونها، على بناء المفعول.

يُحَلَّوْنَ فِيها خبر ثان، أو حال مقدّرة مِنْ أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ «من» الأولى للتبعيض، و الثانية للتبيين وَ لُؤْلُؤاً عطف على «ذهب» أي: من ذهب مرصّع باللؤلؤ. أو من ذهب في صفاء اللؤلؤ. و نصبه نافع و عاصم عطفا على محلّ «من أساور». وَ لِباسُهُمْ فِيها حَرِيرٌ و هو الاسم المحض.

وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ اعترافا منهم بنعمته، لا على وجه التكليف الَّذِي أَذْهَبَ عَنَّا الْحَزَنَ همّهم من خوف زوال

النعم. أو من أجل المعاش و آفاته. أو من وسوسة إبليس و غيرها.

و قيل: إنّهم كانوا يخافون دخول النار، و كانوا مستحقّين لذلك، فإذا تفضّل اللّه عليهم بإسقاط عقابهم، و أدخلهم الجنّة، حمدوه على ذلك و شكروه.

و

عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ليس على أهل لا إله إلّا اللّه وحشة في قبورهم، و لا في محشرهم، و لا في مسيرهم. و كأنّي بأهل لا إله إلّا اللّه يخرجون من قبورهم، و هم ينفضون التراب عن وجوههم، و يقولون: «الحمد للّه الّذي اذهب عنّا الحزن».

إِنَّ رَبَّنا لَغَفُورٌ للمذنبين شَكُورٌ يقبل محاسن المطيعين، فإنّ شكره

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 486

سبحانه هو مكافاته لهم على الشكر له و القيام بطاعته.

الَّذِي أَحَلَّنا دارَ الْمُقامَةِ دار الإقامة. يقال: أقمت إقامة و مقاما و مقامة.

و المراد دار الخلود، فيقيمون فيها أبدا، لا يموتون و لا يتحوّلون عنها. مِنْ فَضْلِهِ من عطائه و إفضاله. من قولهم: لفلان فضول على قومه و فواضل. و ليس من الفضل الّذي هو التفضّل، لأنّ الثواب بمنزلة الأجر المستحقّ، و التفضّل كالتبرّع.

لا يَمَسُّنا فِيها نَصَبٌ تعب وَ لا يَمَسُّنا فِيها لُغُوبٌ كلال، إذ لا تكليف فيها و لا كدّ. و الفرق بين النصب و اللغوب: أنّ النصب التعب و المشقّة الّتي تصيب المنتصب للأمر المزاول له. و أمّا اللغوب فما يلحقه من الفتور بسبب النصب.

فالنصب نفس المشقّة، و اللغوب نتيجته و ما يحدث منه من الكلال و الفترة. فأتبع نفي النصب نفي ما يتبعه مبالغة.

[سورة فاطر (35): الآيات 36 الى 40]

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ فَيَمُوتُوا وَ لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها كَذلِكَ نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ (36) وَ هُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها رَبَّنا أَخْرِجْنا نَعْمَلْ

صالِحاً غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ وَ جاءَكُمُ النَّذِيرُ فَذُوقُوا فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ (37) إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (38) هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ كَفَرَ فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ وَ لا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلاَّ مَقْتاً وَ لا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلاَّ خَساراً (39) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلاَّ غُرُوراً (40)

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 487

و لمّا قدّم سبحانه ذكر ما أعدّه لأهل الجنّة من أنواع الثواب، عقّبه بذكر ما أعدّه للكفّار من أليم العقاب، فقال:

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ نارُ جَهَنَّمَ لا يُقْضى عَلَيْهِمْ لا يحكم عليهم بموت ثان فَيَمُوتُوا فيستريحوا. و نصبه بإضمار «أن». وَ لا يُخَفَّفُ عَنْهُمْ مِنْ عَذابِها و لا يسهل عليهم عذاب النار، بل كلّما خبت زيد إسعارها كَذلِكَ مثل ذلك الجزاء نَجْزِي كُلَّ كَفُورٍ مبالغ في الكفر، أو الكفران.

و قرأ أبو عمرو: يجزى، على بناء المفعول. و إسناده إلى «كلّ».

وَ هُمْ يَصْطَرِخُونَ فِيها يستغيثون. يفتعلون من الصراخ، و هو الصياح.

استعمل في الاستغاثة، لجهر المستغيث صوته. رَبَّنا أَخْرِجْنا من عذاب النار نَعْمَلْ صالِحاً نؤمن بدل الكفر، و نطيع بدل المعصية، أي: ردّنا إلى الدنيا لنعمل بالطاعات الّتي تأمرنا بها غَيْرَ الَّذِي كُنَّا نَعْمَلُ من المعاصي. و تقييد العمل الصالح بالوصف المذكور للتحسّر على ما عملوه من غير الصالح، و الاعتراف به، و الإشعار بأنّ استخراجهم لتلافيه، و أنّهم كانوا يحسبون أنّه صالح، و الآن تحقّق

لهم خلافه.

فوبّخهم اللّه تعالى فقال: أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ مَنْ تَذَكَّرَ أو لم نعطكم من العمر مقدار ما يمكن أن تتفكّروا و تتذكّروا. و «ما يَتَذَكَّرُ فِيهِ» متناول كلّ عمر يمكن المكلّف فيه من التفكّر و التذكّر و العمل الصالح.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 488

و

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «العمر الّذي أعذر اللّه فيه ابن آدم ستّون سنة».

و مصداقه ما

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مرفوعا أنّه قال: «من عمّره اللّه ستّين سنة فقد أعذر إليه».

و عن ابن عبّاس: هو أربعون سنة. و قيل:

هو توبيخ لابن ثماني عشرة سنة.

و روي ذلك عن الصادق عليه السّلام،

و مأثور عن وهب و قتادة. و عن مجاهد: ما بين العشرين إلى الستّين.

وَ جاءَكُمُ النَّذِيرُ عطف على معنى «أَ وَ لَمْ نُعَمِّرْكُمْ» فإنّه للتقرير. كأنّه قيل:

عمّرناكم و جاءكم النذير. و هو النبيّ، أو الكتاب. و قيل: الشيب، أو موت الأقارب.

فَذُوقُوا فذوقوا العذاب و حسرة الندم فَما لِلظَّالِمِينَ مِنْ نَصِيرٍ يدفع العذاب عنهم.

إِنَّ اللَّهَ عالِمُ غَيْبِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا يخفى عليه شي ء ممّا يغيب عن الخلائق علمه، فلا تخفى عليه أحوالهم إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بما فيها من المضمرات. و هذا تعليل له، لأنّه إذا علم مضمرات الصدور، و هي أخفى ما يكون، كان أعلم بغيرها. و الذات تأنيث «ذو». و هو موضوع لمعنى الصحبة. و المعنى:

مضمرات تصحب الصدور.

هُوَ الَّذِي جَعَلَكُمْ خَلائِفَ أي: جعلكم معاشر الكفّار، أمّة بعد أمّة، و قرنا بعد قرن فِي الْأَرْضِ بأن أحدثكم بعدهم فيها، و أورثكم ما كان لهم، فملّككم مقاليد التصرّف، و سلّطكم على ما فيها، و أباح لكم منافعها، لتشكروه بالتوحيد و الطاعة. يقال للمستخلف: خليفة و

خليف. و الخليفة تجمع: خلائف، و الخليف:

خلفاء.

فَمَنْ كَفَرَ و غمط مثل هذه النعمة السّنيّة فَعَلَيْهِ كُفْرُهُ فواقع عليه جزاء كفره.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 489

ثمّ بيّن جزاءه بقوله: وَ لا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ إِلَّا مَقْتاً و هو أشدّ البغض، بحيث لا يكون وراءه خزي و صغار. و منه قيل لمن ينكح امرأة أبيه: مقتي، لكونه ممقوتا في كلّ قلب.

وَ لا يَزِيدُ الْكافِرِينَ كُفْرُهُمْ إِلَّا خَساراً أي: خسار الآخرة و هلاكها. و التكرير للدلالة على أنّ اقتضاء الكفر لكلّ واحد من الأمرين، مستقلّ باقتضاء قبحه و وجوب التجنّب عنه.

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ شُرَكاءَكُمُ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ يعني: آلهتهم. و الإضافة إليهم لأنّهم جعلوهم شركاء للّه، أو لأنفسهم فيما يملكونه. أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ بدل من «أرأيتم» بدل الاشتمال، لأنّه بمعنى: أخبروني. كأنّه قال:

أخبروني عن هؤلاء الشركاء، و عمّا استحقّوا به الإلهيّة و الشركة، أروني أيّ جزء من الأرض استبدّوا بخلقه دون اللّه؟

أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أم لهم شركة مع اللّه في خلق السّماوات، فاستحقّوا بذلك شركة في الألوهيّة ذاتيّة؟ أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً ينطق على أنّا اتّخذناهم شركاء فَهُمْ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْهُ على حجّة واضحة من ذلك الكتاب، بأنّ لهم استحقاق شركة لنا. و جميع ذلك محال، لا يمكنهم إقامة حجّة و لا شبهة على شي ء منه.

و قرأ نافع و ابن عامر و يعقوب و أبو بكر: بيّنات. فيكون إيماء إلى أنّ الشرك خطير لا بدّ فيه من تعاضد الدلائل.

و لمّا قرّر نفي أنواع الحجج في ذلك، أضرب عنه بذكر ما حملهم عليه بقوله:

بَلْ إِنْ يَعِدُ الظَّالِمُونَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً إِلَّا غُرُوراً يعني: ما حملهم على اتّخاذ الشركاء إلّا تغرير الأسلاف الأخلاف، أو

الرؤساء الأتباع، بأنّهم شفعاء عند اللّه يشفعون لهم بالتقرّب إليه، حيث قالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 490

[سورة فاطر (35): آية 41]

إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ أَنْ تَزُولا وَ لَئِنْ زالَتا إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً (41)

ثمّ بيّن سبحانه عظيم قدرته المغنية عن اعتضاد شريك، و سعة مملكته المتقنة الدالّة على كمال غنائه عمّا سواه، فقال:

إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بمحض القدرة التامّة، من غير علاقة فوقها، و لا عماد تحتها.

عن ابن عبّاس أنّه قال لرجل مقبل من الشام: من لقيت به؟ قال: كعبا. قال:

و ما سمعته يقول؟ قال: سمعته يقول: إنّ السماوات على منكب ملك. قال: كذب كعب، أما ترك يهوديّته بعد؟! ثمّ قرأ: إِنَّ اللَّهَ يُمْسِكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ

أَنْ تَزُولا كراهة أن تزولا، فإنّ الممكن حال بقائه لا بدّ له من حافظ. أو يمنعهما أن تزولا، لأنّ الإمساك منع.

وَ لَئِنْ زالَتا و إن قدّر أن تزولا عن مراكزهما إِنْ أَمْسَكَهُما مِنْ أَحَدٍ مِنْ بَعْدِهِ من بعد اللّه، أو من بعد الزوال. و الجملة سادّة مسدّ جواب القسم و جواب الشرط. و «من» الأولى زائدة. و الثانية للابتداء.

إِنَّهُ كانَ حَلِيماً غَفُوراً غير معاجل بالعقوبة، حيث أمسكهما و كانتا جديرتين بأن تهدّا هدّا، لعظم كلمة الشرك، كما قال: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ وَ تَنْشَقُّ الْأَرْضُ وَ تَخِرُّ الْجِبالُ هَدًّا «1».

[سورة فاطر (35): الآيات 42 الى 43]

وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ لَيَكُونُنَّ أَهْدى مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ ما زادَهُمْ إِلاَّ نُفُوراً (42) اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ وَ مَكْرَ السَّيِّئِ وَ لا يَحِيقُ الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلاَّ بِأَهْلِهِ فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلاً وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلاً (43)

______________________________

(1) مريم: 90.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 491

روي: أنّ قريشا لمّا بلغهم أنّ أهل الكتاب كذّبوا رسلهم، قالوا: لعن

اللّه اليهود و النصارى، لو أتانا رسول لنكوننّ أهدى من إحدى الأمم، أي: اليهود و النصارى و غيرهم. فلمّا بعث رسول اللّه كذّبوه، فحكى اللّه سبحانه من قولهم و فعلهم بقوله:

وَ أَقْسَمُوا بِاللَّهِ جَهْدَ أَيْمانِهِمْ يعني: كفّار مكّة حلفوا باللّه قبل أن يأتيهم محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأيمان غلاظ، غاية وسعهم و طاقتهم لَئِنْ جاءَهُمْ نَذِيرٌ من جهة اللّه لَيَكُونُنَّ أَهْدى إلى قبول قوله و اتّباعه مِنْ إِحْدَى الْأُمَمِ أي: من واحدة منهم.

أو من الأمّة الّتي يقال لها: هي إحدى الأمم، تفضيلا لها على غيرها في الهدى و الاستقامة.

فَلَمَّا جاءَهُمْ نَذِيرٌ يعني: محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما زادَهُمْ أي: النذير. أو مجيئه، على الإسناد المجازي تسبّبا، لأنّه هو السبب، كقوله: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ «1» إِلَّا نُفُوراً تباعدا عن الحقّ، و هربا منه.

اسْتِكْباراً فِي الْأَرْضِ عتوّا على اللّه، و أنفة من أن يكونوا تبعا لغيرهم.

و هذا بدل من «نفورا». أو مفعول له، أي: لاستكبارهم في الأرض. أو حال، بمعنى: مستكبرين. و كذا قوله: وَ مَكْرَ السَّيِّئِ أصله: و أن مكروا المكر السيّئ برسول اللّه و أصحابه. فحذف الموصوف استغناء بوصفه بدل «أن»، مع الفصل بالمصدر، ثمّ أضيف. و الدليل عليه قوله: وَ لا يَحِيقُ و لا يحيط الْمَكْرُ السَّيِّئُ إِلَّا بِأَهْلِهِ و هو الماكر. و قد حاق بهم يوم بدر.

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا تمكروا، و لا تعينوا ماكرا، فإنّ اللّه يقول: «و لا يحيق المكر السّيّئ إلّا بأهله»

و لا تبغوا و لا تعينوا باغيا، لقوله تعالى:

______________________________

(1) التوبة: 125.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 492

إِنَّما بَغْيُكُمْ عَلى أَنْفُسِكُمْ «1».

و عن كعب أنّه قال لابن

عبّاس: قرأت في التوراة: من حفر مغواة «2» وقع فيها. قال: أنا وجدت ذلك في كتاب اللّه تعالى. و قرأ هذه الآية.

و في أمثال العرب: من حفر لأخيه جبّا، وقع فيه منكبّا.

فَهَلْ يَنْظُرُونَ ينتظرون إِلَّا سُنَّتَ الْأَوَّلِينَ سنّة اللّه و عادته في الأمم الماضية، بأن يهلكهم إذا كذّبوا رسله، و ينزل بهم العذاب.

فَلَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَبْدِيلًا إذ لا يبدّل عادته، من عقوبة من كفر نعمته و جحد ربوبيّته، بأن يجعل غير التعذيب تعذيبا وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّتِ اللَّهِ تَحْوِيلًا و لا يحوّلها، بأن ينقله من المكذّبين إلى غيرهم. فالتبديل: تصيير الشي ء مكان غيره.

و التحويل: تصيير الشي ء في غير المكان الّذي كان فيه. و أمّا التغيير: تصيير الشي ء على خلاف ما كان.

[سورة فاطر (35): الآيات 44 الى 45]

أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ ما كانَ اللَّهُ لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ ءٍ فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً قَدِيراً (44) وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها مِنْ دَابَّةٍ وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً (45)

______________________________

(1) يونس: 23.

(2) المغواة: المضلّة. يقال: حفر لأخيه مغواة، أي: ورّطه.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 493

ثمّ استشهد عليهم بما كانوا يشاهدونه في مسايرهم إلى الشام و اليمن و العراق، من آثار الماضين، و علامات هلاكهم و دمارهم، بقوله:

أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ في مسايرهم و متاجرهم في رحلهم إلى الشام و اليمن فَيَنْظُرُوا في علامات الهلاك كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مثل عاد و ثمود و قوم لوط، فيعتبروا بهم وَ كانُوا أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ ما كانَ اللَّهُ

لِيُعْجِزَهُ مِنْ شَيْ ءٍ ليسبقه و يفوته فِي السَّماواتِ وَ لا فِي الْأَرْضِ إِنَّهُ كانَ عَلِيماً بالأشياء كلّها قَدِيراً عليها.

ثمّ منّ اللّه سبحانه على خلقه بتأخيره العقاب عنهم، فقال:

وَ لَوْ يُؤاخِذُ اللَّهُ النَّاسَ بِما كَسَبُوا من الشرك و المعاصي ما تَرَكَ عَلى ظَهْرِها ظهر الأرض مِنْ دَابَّةٍ من نسمة تدبّ عليها بشؤم معاصيهم.

و عن ابن مسعود: كاد الجعل يعذّب في جحره بذنب ابن آدم. ثمّ تلا هذه الآية.

و عن أنس: إنّ الضبّ ليموت في جحره بذنب بني آدم.

و قيل: يحبس المطر، فيهلك كلّ شي ء.

و قيل: المراد بالدابّة الإنس وحده، لقوله: وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو يوم القيامة فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ فَإِنَّ اللَّهَ كانَ بِعِبادِهِ بَصِيراً فيجازيهم على أعمالهم. و هذا وعيد بالجزاء.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 495

(36) سورة يس

اشارة

مكّيّة و هي ثلاث و ثمانون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ سورة يس يريد بها اللّه عزّ و جلّ، غفر اللّه له، و اعطي من الأجر كأنّما قرأ القرآن اثنتي عشرة مرّة. و في رواية اخرى: اثنتين و عشرين مرّة. و أيّما مريض قرئت عنده سورة يس، نزل عليه بعدد كلّ حرف منها عشرة أملاك، يقومون بين يديه صفوفا، و يستغفرون له، و يشهدون قبضه، و يتّبعون جنازته، و يصلّون عليه، و يشهدون دفنه.

و أيّما مريض قرأها و هو في سكرات الموت، أو قرئت عنده، جاءه رضوان خازن الجنّة بشربة من شراب الجنّة، فسقاه إيّاها و هو على فراشه، فيشرب فيموت، فيقبض ملك الموت روحه و هو ريّان، و يمكث في القبر و هو ريّان، و يبعث ريّان، و لا يحتاج إلى حوض من حياض الأنبياء، حتّى يدخل

الجنّة و هو ريّان».

و

قال عليه السّلام: «إنّ في القرآن سورة يشفّع قائلها، و يستغفر لمستمعها، ألا و هي سورة يس».

أبو بكر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «سورة يس تدعى في التوراة المعمّة. قيل:

و ما المعمّة؟ قال: تعمّ صاحبها خير الدنيا و الآخرة، و تكابد عنه بلوى الدنيا، و تدفع عنه أهاويل الآخرة. و تدعى المدافعة و القاضية، تدفع عن صاحبها كلّ شرّ، و تقضي له كلّ حاجة. و من قرأها عدلت له عشرين حجّة. و من سمعها عدلت له ألف دينار في سبيل اللّه. و من كتبها ثمّ شربها أدخلت جوفه ألف دواء، و ألف نور، و ألف يقين، و ألف بركة، و ألف رحمة. و نزعت عنه كلّ داء و غلّة».

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 496

أنس بن مالك عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «إنّ لكلّ شي ء قلبا، و قلب القرآن يس».

و

عنه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من دخل المقابر فقرأ سورة يس، خفّف عنهم يومئذ، و كان له بعدد من فيها حسنات».

و

روى أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «إنّ لكلّ شي ء قلبا، و قلب القرآن يس.

فمن قرأها في نهاره قبل أن يمسي، كان في نهاره من المحفوظين و المرزوقين حتّى يمسي.

و من قرأها في ليله قبل أن ينام، و كلّ به ألف ملك كلّهم يستغفرون له، و يشيّعونه إلى قبره بالاستغفار له.

فإذا أدخل لحده كانوا في جوف قبره يعبدون اللّه، و ثواب عبادتهم له. و فسح له في قبره مدّ بصره، و أمن من ضغطة القبر. و لم يزل له في قبره نور ساطع إلى أعنان السماء،

إلى أن يخرجه اللّه من قبره.

فإذا أخرجه لم تزل ملائكة اللّه معه يشيّعونه و يحدّثونه، و يضحكون في وجهه، و يبشّرونه بكلّ خير، حتّى يجوزوا به الصّراط و الميزان، و يوقفوه من اللّه موقفا لا يكون عند اللّه خلق أقرب منه، إلّا ملائكة اللّه المقرّبون و أنبياؤه المرسلون.

و هو مع النّبيين واقف بين يدي اللّه، لا يحزن مع من يحزن، و لا يهتمّ مع من يهتمّ، و لا يجزع مع من يجزع.

ثمّ يقول له الربّ تعالى: اشفع عبدي أشفّعك في جميع ما تشفع. و سلني عبدي أعطك جميع ما تسأل. فيسأل فيعطى. و يشفع فيشفّع. و لا يحاسب فيمن يحاسب. و لا يذلّ مع من يذلّ. و لا يبكّت بخطيئة، و لا بشي ء من سوء عمله، و يعطى كتابا منشورا. فيقول الناس بأجمعهم: سبحان اللّه ما كان لهذا العبد خطيئة واحدة! و يكون من رفقاء محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

و

روى محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إنّ لرسول اللّه اثني عشر اسما، خمسة منها في القرآن: محمّد، و أحمد، و عبد اللّه، و يس، و نون».

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 497

[سورة يس (36): الآيات 1 الى 12]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يس (1) وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (3) عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (4)

تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ (5) لِتُنْذِرَ قَوْماً ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ فَهُمْ غافِلُونَ (6) لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ عَلى أَكْثَرِهِمْ فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (7) إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالاً فَهِيَ إِلَى الْأَذْقانِ فَهُمْ مُقْمَحُونَ (8) وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ (9)

وَ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (10) إِنَّما تُنْذِرُ مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ

وَ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ وَ أَجْرٍ كَرِيمٍ (11) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا وَ آثارَهُمْ وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ فِي إِمامٍ مُبِينٍ (12)

و اعلم أنّه لمّا ذكر سبحانه في آخر سورة فاطر، أنّهم أقسموا باللّه ليؤمننّ إن جاءهم نذير، افتتح هذه السورة بأنّهم لم يؤمنوا و قد جاءهم النذير، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يس قد مضى الكلام في الحروف المقطّعة عند مفتتح السور في أوّل سورة البقرة، و اختلاف الأقوال فيها.

و عن ابن عبّاس و أكثر المفسّرين: أنّ معنى «يس»: يا إنسان في لغة طيّ.

على أنّ أصله: يا أنيسين، فاقتصر على شطره، لكثرة النداء به، كما قيل في القسم

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 498

في «أيمن اللّه»: من اللّه.

و قيل: معناه:

يا سيّد الأوّلين و الآخرين. و هذا ما روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام و أبي جعفر الباقر عليه السّلام.

و قيل: معناه: يا رجل.

و أمال الياء حمزة و الكسائي و حفص و روح. و أدغم ابن عامر و الكسائي و أبو بكر و ورش و يعقوب النون في الواو.

وَ الْقُرْآنِ الْحَكِيمِ أي: ذو الحكمة. أو إنّه دليل ناطق بالحكمة، كالحيّ. أو إنّه كلام حكيم يوصف بوصف المتكلّم. و الواو واو القسم، أو العطف إن جعل «يس» مقسما به.

إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ لمن الّذين أرسلوا على صراط مستقيم. و هو التوحيد و الاستقامة في الأمور. و يجوز أن يكون «على صراط» خبرا ثانيا، أو حالا من المستكن في الجارّ و المجرور. و فائدته: وصف الشرع بالاستقامة صريحا، و إن دلّ عليه «لمن المرسلين» التزاما.

تَنْزِيلَ الْعَزِيزِ الرَّحِيمِ خبر مبتدأ محذوف. و المصدر بمعنى المفعول.

و قرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي

و حفص بالنصب، بإضمار: أعني، أو بفعله المقدّر، أعني: ننزّله.

لِتُنْذِرَ قَوْماً متعلّق ب «تنزيل»، أو بمعنى «لمن المرسلين». و المعنى:

إرسالك لتنذر قوما. ما أُنْذِرَ آباؤُهُمْ قوما لم يأت آباءهم من ينذرهم بالكتاب- يعني: آباءهم الأقربين- لتطاول مدّة الفترة بين عيسى و محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فيكون صفة مبيّنة لشدّة حاجتهم إلى إرساله. أو الّذي أنذر به. أو شيئا أنذره به آباؤهم الأبعدون.

فيكون مفعولا ثانيا ل «تنذر». و على هذا «ما» موصولة، أو موصوفة. و يجوز أن تكون مصدريّة، أي: لتنذر إنذار آبائهم.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 499

فَهُمْ غافِلُونَ متعلّق بالنفي على الأوّل، أي: لم ينذروا فبقوا غافلين.

يعني: عدم إنذارهم هو سبب غفلتهم. أو بقوله: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ على الوجوه الآخر، أي: أرسلناك إليهم لتنذرهم، فإنّهم غافلون عمّا أنذر اللّه من نزول العذاب.

ثمّ أقسم سبحانه مرّة اخرى فقال: لَقَدْ حَقَّ الْقَوْلُ أي: وجب و ثبت قولنا عَلى أَكْثَرِهِمْ يعني قوله: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ «1» فَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ لأنّهم ممّن علم أنّهم لا يؤمنون لفرط عنادهم و توغّلهم في الجحود.

ثمّ قرّر تصميمهم على الكفر و الطبع على قلوبهم، بحيث لا يغني عنهم الآيات و النذر، بتمثيلهم بالّذين غلّت أعناقهم، فقال:

إِنَّا جَعَلْنا فِي أَعْناقِهِمْ أَغْلالًا فَهِيَ أي: فالأغلال واصلة إِلَى الْأَذْقانِ إلى أذقانهم، فلا تخلّيهم يطأطئون رؤوسهم له فَهُمْ مُقْمَحُونَ رافعون رؤوسهم، غاضّون أبصارهم. يقال: قمح البعير فهو قامح، إذا روى فرفع رأسه، فغضّ بصره ترفّها. و المعنى: أنّهم لا يلتفتون لفت الحقّ، و لا يعطفون أعناقهم نحوه، و لا يطأطئون رؤوسهم له، بل كانوا رافعين رؤوسهم، لاوين أعناقهم، شامخين بأنوفهم، لا ينظرون إلى الأرض، فصاروا كأنّما جعلت الأغلال في أعناقهم.

ثمّ

بتمثيلهم بالّذين أحاط بهم سدّان، فغطّى أبصارهم بحيث لا يبصرون ما قدّامهم و وراءهم، فقال:

وَ جَعَلْنا مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ سَدًّا وَ مِنْ خَلْفِهِمْ سَدًّا فَأَغْشَيْناهُمْ فأغشينا أبصارهم فَهُمْ لا يُبْصِرُونَ يعني: أنّهم محبوسون في مطمورة الجهالة، ممنوعون عن النظر في الآيات و الدلائل، لتسليمهم أنفسهم إلى الوساوس الشيطانيّة، و الهواجس النفسانيّة.

و قرأ حمزة و الكسائي و حفص: سدّا بالفتح. و هو لغة فيه. و قيل: ما كان بفعل

______________________________

(1) هود: 119.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 500

زبدة التفاسير ج 5 549

الناس فبالفتح، و ما كان بخلق اللّه فبالضمّ.

و إنّما أضاف ذلك إلى نفسه، لأنّ عند تلاوة القرآن عليهم، و دعوته إيّاهم، صاروا بهذه الصفة، فكأنّه سبحانه فاعل ذلك. أو لأنّ ذلك عبارة عن خذلان اللّه إيّاهم لمّا كفروا عنادا. فكأنّه قال: تركناهم مخذولين، فصاروا مثل من جعلنا في عنقه غلّا، و من بين يديه سدّا، و خلفه سدّا، و أغشينا بصره، فلا يقدر أن ينظر إلى الأرض و يبصر شيئا.

و قيل: الآيتان في بني مخزوم. و ذلك أنّ أبا جهل حلف إن رأى محمدا يصلّي ليرضخنّ «1» رأسه. فأتاه و هو يصلّي، و معه حجر ليدمغه، فلمّا رفع يده انثنت و لويت يده إلى عنقه، و لزق الحجر بيده، حتّى فكّوه عنها بجهد. فرجع إلى قومه فأخبرهم. فقال مخزوميّ: أنا أقتله بهذا الحجر. فذهب فأعماه اللّه. فجعل يسمع صوته و لا يراه. فرجع إلى أصحابه فلم يرهم، حتّى نادوه ما صنعت؟ فقال: ما رأيته، و لقد سمعت صوته، و حال بيني و بينه كهيئة الفعل يخطر بذنبه، و لو دنوت منه لأكلني.

و

روى أبو حمزة الثمالي، عن عمّار بن عاصم، عن شقيق بن سلمة، عن عبد اللّه

بن مسعود: أنّ قريشا اجتمعوا بباب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فخرج إليهم، فطرح التراب على رؤوسهم و هم لا يبصرونه. قال عبد اللّه: هم الّذين سحبوا في قليب بدر.

و

روى أبو حمزة عن مجاهد، عن ابن عبّاس: أنّ قريشا اجتمعوا فقالوا: لئن دخل محمد لنقومنّ إليه. فدخل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فجعل اللّه من بين أيديهم سدّا، و من خلفهم سدّا، فلم يبصروه. فصلّى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثمّ أتاهم، فجعل ينثر على رؤوسهم التراب و هم لا يرونه، فلمّا خلّى عنهم رأوا التراب، و قالوا: هذا ما سحركم ابن أبي كبشة.

______________________________

(1) أي: ليكسرنّ.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 501

و على هذه الروايات كان ذلك صفة القوم الّذين همّوا بقتل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و إضافة ذلك إلى اللّه سبحانه كان على الحقيقة. و المعنى: جعلنا أيديهم إلى أعناقهم، فلا يستطيعون أن يبسطوا إليه يدا. و جعلنا من بين أيدي أولئك الكفّار منعا، و من خلفهم منعا، حتّى لم يبصروا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و قيل: المراد به وصف حالهم يوم القيامة. فهو مثل قوله: إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ «1». و إنّما ذكر بلفظ الماضي لتحقّق وقوعه.

وَ سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَ أَنْذَرْتَهُمْ أَمْ لَمْ تُنْذِرْهُمْ لا يُؤْمِنُونَ سبق تفسيره في البقرة «2».

و لمّا أخبر سبحانه عن أولئك الكفّار أنّهم لا يؤمنون، و أنّه سواء عليهم الإنذار و ترك الإنذار، عقّبه بذكر حال من ينتفع بالإنذار، فقال:

إِنَّما تُنْذِرُ إنذارا يترتّب عليه البغية المرومة، لا الإنذار المطلق، لأنّه قد حصل للجميع مَنِ اتَّبَعَ الذِّكْرَ أي: القرآن، بالتأمّل فيه و العمل به وَ خَشِيَ

الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ و خاف عقابه قبل حلول ما غاب عنه و معاينة أهواله. أو في سريرته. و لا يغترّ برحمته، فإنّه كما هو رحمان منتقم قهّار. فَبَشِّرْهُ بِمَغْفِرَةٍ من اللّه لذنوبه وَ أَجْرٍ كَرِيمٍ و ثواب خالص من شوائب النقص.

إِنَّا نَحْنُ نُحْيِ الْمَوْتى الأموات بالبعث. و قيل: الجهّال بالهداية. وَ نَكْتُبُ ما قَدَّمُوا ما أسلفوا من الأعمال الصالحة و الطالحة وَ آثارَهُمْ الحسنة، كعلم علّموه، أو كتاب صنّفوه، أو حبيس وقفوه، كبناء مسجد أو رباط أو قنطرة، أو نحو ذلك. أو سنّة حسنة بعدهم يقتدى فيها بهم. أو آثارهم السيّئة، كوظيفة وظّفها بعض الظلّام على المسلمين، أو شي ء صادّ عن ذكر اللّه، و إشاعة باطل، و تأسيس ظلم.

و قيل: معناه: و نكتب خطاهم إلى المساجد، لما رواه أبو سعيد الخدري: أنّ

______________________________

(1) غافر: 71.

(2) راجع ج 1 ص 55، ذيل الآية (6) من سورة البقرة.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 502

بني سلمة كانوا في ناحية من المدينة، فشكوا إلى رسول اللّه بعد منازلهم من المسجد و الصلاة معه، فنزلت.

و

روى البخاري و مسلم في صحيحيهما «1» عن أبي موسى قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ أعظم الناس أجرا في الصلاة أبعدهم إليها ممشى فأبعدهم».

وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ و عدّدنا كلّ شي ء من الحوادث فِي إِمامٍ مُبِينٍ يعني: اللوح المحفوظ. و الوجه في إحصاء ذلك فيه اعتبار الملائكة به، إذ قابلوا به ما يحدث من الأمور. و يكون فيه دلالة على معلومات اللّه سبحانه على التفصيل.

و قيل: أراد به صحائف الأعمال. و سمّي مبينا، لأنّه لا يدرس أثره.

[سورة يس (36): الآيات 13 الى 19]

وَ اضْرِبْ لَهُمْ مَثَلاً أَصْحابَ الْقَرْيَةِ إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ (13) إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ فَكَذَّبُوهُما

فَعَزَّزْنا بِثالِثٍ فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ (14) قالُوا ما أَنْتُمْ إِلاَّ بَشَرٌ مِثْلُنا وَ ما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْ ءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ تَكْذِبُونَ (15) قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ (16) وَ ما عَلَيْنا إِلاَّ الْبَلاغُ الْمُبِينُ (17)

قالُوا إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا لَنَرْجُمَنَّكُمْ وَ لَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ (18) قالُوا طائِرُكُمْ مَعَكُمْ أَ إِنْ ذُكِّرْتُمْ بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ (19)

ثمّ هدّد المعاندين من قريش بذكر عاقبة أهل أنطاكية و استئصالهم، لأجل عنادهم و مكابرتهم و لجاجهم، مع وضوح طريق الحقّ و صدق رسلهم

______________________________

(1) صحيح مسلم 1: 460 ح 277، صحيح البخاري 1: 166.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 503

عندهم، فقال:

وَ اضْرِبْ لَهُمْ و مثّل لهم. من قولهم: هذه الأشياء على ضرب واحد، أي:

مثال واحد. و عندي من هذا الضرب كذا، أي: هذا المثال. و هو يتعدّى إلى مفعولين، لتضمّنه معنى الجعل. و هما: مَثَلًا أَصْحابَ الْقَرْيَةِ على حذف المضاف، أي: اجعل لهم مثلا مثل أصحاب القرية، أي: قصّة عجيبة قصّة أصحاب القرية.

و يجوز أن يقتصر على واحد، و يجعل المقدّر بدلا من الملفوظ، أو بيانا له. و القرية:

أنطاكية.

إِذْ جاءَهَا الْمُرْسَلُونَ بدل من «أصحاب القرية». و المرسلون رسل عيسى عليه السّلام إلى أهلها. و إسناده إلى نفسه في قوله: إِذْ أَرْسَلْنا إِلَيْهِمُ اثْنَيْنِ لأنّه فعل رسوله و خليفته. و هما يحيى و يونس. و قيل: غيرهما.

فَكَذَّبُوهُما ضربوهما، و سجنوهما فَعَزَّزْنا فقوّينا. يقال: المطر يعزّز الأرض، إذا لبّدها «1» و شدّها. و تعزّز لحم الناقة، إذا اشتدّ و تصلّب. و قرأ أبو بكر مخفّفا، من: عزه إذا غلبه. و حذف المفعول لدلالة ما قبله عليه. و لأنّ المقصود ذكر المعزّز به، و هو قوله: بِثالِثٍ برسول

ثالث. و هو شمعون. و عن شعبة: اسم المرسلين: شمعون، و يوحنّا، و اسم الثالث بولس. و عن ابن عبّاس و كعب: صادق، و صدوق، و الثالث سلوم. و الأوّل قول الأكثر.

فَقالُوا إِنَّا إِلَيْكُمْ مُرْسَلُونَ من عند عيسى، لندعوكم إلى التوحيد، و ننهاكم عن عبادة الأوثان.

قالُوا ما أَنْتُمْ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا لا مزيّة لكم علينا تقتضي اختصاصكم بما تدّعون، فلا تصلحون للرسالة، كما لا نصلح نحن لها. و إنّما رفع «بشر» هنا و نصب

______________________________

(1) لبّد المطر الأرض: رشّها.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 504

في قوله: ما هذا بَشَراً «1» لأنّ «إلّا» ينقض النفي، فلا يبقى ل «ما» المشبّهة ب «ليس» شبه، فلا يبقى له عمل.

وَ ما أَنْزَلَ الرَّحْمنُ مِنْ شَيْ ءٍ من وحي و رسالة إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا تَكْذِبُونَ في دعوى إرساله إيّاكم، فإنّهم اعتقدوا أنّ من كان مثلهم في البشريّة لا يصلح أن يكون رسولا، و ذهب عليهم أنّ اللّه سبحانه يختار من يشاء لرسالته، و أنّه علم من حال هؤلاء صلاحهم للرسالة و تحمّل أعبائها.

قالُوا رَبُّنا يَعْلَمُ إِنَّا إِلَيْكُمْ لَمُرْسَلُونَ استشهدوا بعلم اللّه. و هو يجري مجرى القسم. و زادوا اللام المؤكّدة هاهنا، لأنّه جواب عن إنكارهم، بخلاف الأوّل، فإنّه ابتداء إخبار، فلا يناسبه اللام المؤكّدة.

وَ ما عَلَيْنا إِلَّا الْبَلاغُ الْمُبِينُ الظاهر البيّن بالآيات الشاهدة لصحّته. و هو المحسن للاستشهاد، فإنّه لو قال المدّعي: و اللّه إنّي لصادق فيما أدّعي، و لم يبيّنه بدليل واضح، لكان قبيحا، فلا يحسن الدعوى إلّا ببيّنة.

قالُوا في جواب الرسل حين عجزوا عن إيراد شبهة، و عدلوا عن النظر في المعجزة إِنَّا تَطَيَّرْنا بِكُمْ تشاء منا بكم. و ذلك لاستغرابهم ما ادّعوه، و استقباحهم له، و تنفّرهم عنه، فإنّ من

عادة الجهّال أن يتيمّنوا بكلّ شي ء مالوا إليه و اشتهوه و آثروه و قبلته طباعهم، و يتشاءموا بما نفروا عنه و كرهوه. فإن أصابهم نعمة أو بلاء، قالوا: ببركة هذا و بشؤم هذا. كما حكاه اللّه تعالى عن القبط: وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَطَّيَّرُوا بِمُوسى وَ مَنْ مَعَهُ «2». و عن مشركي مكّة: وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ يَقُولُوا هذِهِ مِنْ عِنْدِكَ «3». و قيل: حبس عنهم القطر فقالوا ذلك.

______________________________

(1) يوسف: 31.

(2) الأعراف: 131.

(3) النساء: 78.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 505

لَئِنْ لَمْ تَنْتَهُوا عمّا تدّعونه من الرسالة لَنَرْجُمَنَّكُمْ بالحجارة. و قيل:

لنشتمنّكم. وَ لَيَمَسَّنَّكُمْ مِنَّا عَذابٌ أَلِيمٌ

قالُوا يعني: الرسل طائِرُكُمْ مَعَكُمْ سبب شؤمكم معكم. و هو سوء عقيدتكم و أعمالكم. فأمّا الدعاء إلى التوحيد، و عبادة اللّه تعالى وحده، ففيه غاية البركة و الخير و اليمن، و ليس فيه شائبة الشؤم أصلا. أَ إِنْ ذُكِّرْتُمْ وعظتم.

و جواب الشرط محذوف، مثل: تطيّرتم، أو توعّدتم بالرجم و التعذيب. و قرأ ورش و أبو عمرو: آئن بالمدّ و التسهيل. و قالون و ابن كثير: أئن بالتسهيل بلا مدّ. بَلْ أَنْتُمْ قَوْمٌ مُسْرِفُونَ قوم عادتكم الإسراف في العصيان، فمن ثمّ جاءكم الشؤم. أو في الضلال، و لذلك توعّدتم و تشاءمتم بمن يجب أن يكرّم و يتبرّك به.

و تفصيل هذه القصّة:

أنّ أهل أنطاكية كانوا عبدة أصنام، فأرسل إليهم عيسى اثنين، فلمّا قربا من المدينة رأيا شيخا يرعى غنيمات له، و هو حبيب النجّار صاحب يس، فسلّما عليه.

فقال الشيخ لهما: من أنتما؟

قالا: رسولا عيسى، ندعوكم من عبادة الأوثان إلى عبادة الرحمان.

فقال: أ معكما آية؟

قالا: نعم، نشفي المريض، و نبرئ الأكمه و الأبرص بإذن اللّه.

فقال الشيخ: إنّ لي ابنا مريضا صاحب فراش منذ سنين.

قالا:

فانطلق بنا إلى منزلك نتطلّع حاله.

فذهب بهما، فمسحا ابنه، فقام في الوقت بإذن اللّه صحيحا. فآمن حبيب، و فشى الخبر، فشفى اللّه على أيديهما خلقا. و بلغ حديثهما إلى الملك، فدعاهما و قال: من أنتما؟

قالا: رسولا عيسى، جئنا ندعوك من عبادة ما لا يسمع و لا يبصر إلى عبادة

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 506

من يسمع و يبصر.

فقال الملك: و لكما إله سوى آلهتنا؟

قالا: نعم، من أوجدك و آلهتك.

فقال: قوما حتّى أنظر في أمركما. فحبسهما.

و عن وهب بن منبّه: بعث عيسى هذين الرسولين إلى أنطاكية، فأتياها و لم يصلا إلى ملكها، و طالت مدّة مقامهما. فخرج الملك ذات يوم، فكبّرا و ذكرا اللّه.

فغضب الملك و أمر بحبسهما، و جلد كلّ واحد منهما مائة جلدة.

فلمّا كذّب الرسولان و ضربا، بعث عيسى شمعون الصفا- رأس الحواريّين- على أثرهما لينصرهما. فدخل شمعون البلدة متنكّرا، فجعل يعاشر حاشية الملك، حتّى أنسوا به، فرفعوا خبره إلى الملك، فدعاه و رضي عشرته، و أنس به و أكرمه.

ثمّ قال له ذات يوم: أيّها الملك بلغني أنّك حبست رجلين في السجن، و ضربتهما حين دعواك إلى غير دينك، فهل سمعت قولهما؟

قال الملك: حال الغضب بيني و بين ذلك.

قال: فإن راى الملك دعاهما حتّى نتطّلع ما عندهما.

فدعاهما الملك. فقال لهما شمعون: من أرسلكما إلى هاهنا؟

قالا: اللّه الّذي خلق كلّ شي ء، و ليس له شريك.

فقال: صفا و أوجزا.

قالا: يفعل ما يشاء، ويحكم ما يريد.

قال: و ما آيتكما؟

قالا: ما يتمنّى الملك.

فدعا بغلام مطموس «1» العين، و موضع عينيه كالجبهة. فدعوا اللّه حتّى انشقّ

______________________________

(1) المطموس: الذاهب البصر. زبدة التفاسير، ج 5، ص: 507

له موضع البصر، فأخذا بندقتين من الطين، فوضعاهما في حدقتيه، فصارتا مقلتين «1» ينظر بهما. فتعجّب الملك.

فقال له شمعون: أ رايت لو سألت إلهك حتّى يصنع مثل هذا، فيكون لك و لإلهك شرفا؟

فقال: ليس لي عنك سرّ، إنّ آلهتنا لا تسمع، و لا تبصر، و لا تضرّ، و لا تنفع.

و كان شمعون يدخل معهم على آلهتهم، فيصلّي و يتضرّع، و يحسبون أنّه منهم.

ثمّ قال: إن قدر إلهكما على إحياء ميّت آمنّا به و بكما.

فقال الملك: إنّ هنا ميّتا مات منذ سبعة أيّام، لم ندفنه حتّى يرجع أبوه، و كان غائبا. فجاءوا بالميّت، و قد تغيّر و أروح «2». فجعلا يدعوان ربّهما علانية، و جعل شمعون يدعو ربّه سرّا. فقام الميّت و قال لهم: إنّي قد متّ منذ سبعة أيّام، و أدخلت في سبعة أو دية من النار، أنا أحذّركم ما أنتم عليه، فآمنوا.

و قال: فتحت أبواب السماء، فرأيت شابّا حسن الوجه يشفع لهؤلاء الثلاثة.

قال: و من هم؟

قال: شمعون و هذان. فتعجّب الملك. فلمّا رأى شمعون أنّ قوله قد أثّر فيه نصحه في جمع، فآمن هو و من أهل مملكته قوم، و من لم يؤمن صاح عليهم جبرئيل فهلكوا.

و قد روى مثل ذلك العيّاشي بإسناده عن الثمالي و غيره، عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهم السّلام.

و

في بعض الروايات: أنّ الميّت الّذي أحياه اللّه بدعائهما كان ابن الملك، و أنّه قد خرج من قبره ينفض التراب عن رأسه. فقال: يا بنيّ ما حالك؟

قال: كنت ميّتا، فرأيت رجلين ساجدين يسألان اللّه أن يحييني.

______________________________

(1) المقلة: شحمة العين، أو هي السواد و البياض منها.

(2) أروح الماء: أنتن و فسد و وجد ريحه. زبدة التفاسير، ج 5، ص: 508

قال: يا بنيّ فتعرفهما إذا رأيتهما؟

قال: نعم.

فأخرج الناس إلى الصحراء، فكان يمرّ عليه رجل بعد رجل. فمرّ أحدهما

بعد جمع كثير، فقال: هذا أحدهما، ثمّ مرّ الآخر، فعرفهما، و أشار بيده إليهما. فآمن الملك و أهل مملكته.

[سورة يس (36): الآيات 20 الى 30]

وَ جاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ (20) اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً وَ هُمْ مُهْتَدُونَ (21) وَ ما لِيَ لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (22) أَ أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً وَ لا يُنْقِذُونِ (23) إِنِّي إِذاً لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (24)

إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ فَاسْمَعُونِ (25) قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ (26) بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ (27) وَ ما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ وَ ما كُنَّا مُنْزِلِينَ (28) إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ خامِدُونَ (29)

يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (30)

و قال ابن إسحاق: بل كفر الملك، و أجمع هو و قومه على قتل الرسل، فبلغ

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 509

ذلك حبيبا، و هو على باب المدينة الأقصى، فجاء يسعى إليهم، يذكّرهم و يدعوهم إلى طاعة الرسول، كما حكاه اللّه تعالى بقوله: وَ جاءَ مِنْ أَقْصَا الْمَدِينَةِ رَجُلٌ يَسْعى يعني: حبيب النجّار. كان ينحت أصنامهم. و هو ممّن آمن بمحمّد، و بينهما ستّمائة سنة.

و قيل: كان في غار يعبد اللّه، فلمّا بلغه خبر الرسل أتاهم و أظهر دينه و قاول الكفرة.

قالَ يا قَوْمِ اتَّبِعُوا الْمُرْسَلِينَ اتَّبِعُوا مَنْ لا يَسْئَلُكُمْ أَجْراً على النصح و تبليغ الرسالة وَ هُمْ مُهْتَدُونَ و هذا كلمة جامعة في الترغيب فيهم، أي: لا تخسرون معهم شيئا من دنياكم، و تربحون صحّة دينكم، فينتظم لكم خير الدارين.

ثمّ أبرز

الكلام في معرض المناصحة لنفسه، و هو يريد مناصحتهم، ليتلطّف بهم في الإرشاد، و يداريهم، و لأنّه أدخل في إمحاض النصح، حيث لا يريد لهم إلّا ما يريد لنفسه، فقال:

وَ ما لِيَ بفتح الياء، على قراءة غير حمزة، فإنّه يسكن الياء في وصله بقوله: لا أَعْبُدُ الَّذِي فَطَرَنِي مراده منه تقريعهم على إشراكهم في عبادة خالقهم عبادة غيره. و لذلك قال: وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ مبالغة في التهديد. و لو لا أنّه قصد ذلك لقال: الّذي فطرني و إليه أرجع.

ثمّ عاد إلى المساق الأوّل فقال: أَ أَتَّخِذُ مِنْ دُونِهِ آلِهَةً إِنْ يُرِدْنِ الرَّحْمنُ بِضُرٍّ لا تُغْنِ عَنِّي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً لا تنفعني شفاعتهم. و المعنى: لا شفاعة لهم فتغني.

وَ لا يُنْقِذُونِ من ذلك الضرر بالنصر و المظاهرة بوجه من الوجوه.

إِنِّي إِذاً أي: حين أوثر ما لا ينفع و لا يدفع ضرّا بوجه ما، على الخالق المقتدر على النفع و الضرّ و إشراكه به لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ لا يخفى على عاقل. و قرأ نافع و أبو عمرو بفتح الياء. و كذلك في قوله: إِنِّي آمَنْتُ بِرَبِّكُمْ الّذي خلقكم

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 510

فَاسْمَعُونِ فاسمعوا قولي و أطيعوني.

و عن ابن مسعود: الخطاب للرسل، فإنّه لمّا نصح قومه أخذوا يرجمونه، فأسرع نحو الرسل قبل أن يقتل، فقال: إنّي آمنت بربّكم أيّها الرسل، فاسمعوا إيماني تشهدوا لي به.

قِيلَ ادْخُلِ الْجَنَّةَ قيل له ذلك لمّا قتلوه بشرى له بأنّه من أهل الجنّة، أو إكراما و إذنا في دخولها كسائر الشهداء.

و عن الحسن: لمّا همّوا بقتله رفعه اللّه إلى الجنّة، و هو فيها حيّ يرزق. فأراد به قوله: بَلْ أَحْياءٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ يُرْزَقُونَ فَرِحِينَ بِما آتاهُمُ اللَّهُ مِنْ فَضْلِهِ «1». و إنّما لم

يقل: له، لأنّ الغرض بيان المقول و عظمه، دون المقول له، فإنّه معلوم.

و الكلام استئناف في حيّز الجواب عن السؤال عن حاله عند لقاء ربّه. كأنّ قائلا قال: كيف كانت حاله بعد تصلّبه في نصر دينه؟ فقيل: قيل ادخل الجنّة.

و لذلك قالَ يا لَيْتَ قَوْمِي يَعْلَمُونَ بِما غَفَرَ لِي رَبِّي وَ جَعَلَنِي مِنَ الْمُكْرَمِينَ فإنّه مرتّب على تقدير سؤال سائل سأل بحاله، ليحملهم على اكتساب مثلها بالتوبة عن الكفر، و الدخول في الإيمان و الطاعة المفضيين بأهلهما إلى الجنّة، على دأب الأولياء في كظم الغيظ، و الترحّم على الأعداء. أو ليعلموا أنّهم كانوا على خطأ عظيم في أمره، و أنّه كان على الحقّ.

و «ما» موصولة أو مصدريّة. و الباء صلة «يعلمون». و يحتمل أن تكون استفهاميّة جاءت على الأصل، و الباء صلة «غفر لي». يريد به المهاجرة عن دينهم، و المصابرة على أذيّتهم حتّى قتل. و المعنى: بأيّ شي ء غفر لي ربّي؟ إلّا أنّ حذف الألف من لفظة «ما» حينئذ أجود من إثباته.

و

في تفسير الثعلبي بالإسناد عن عبد الرحمن بن أبي ليلى عن النّبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

______________________________

(1) آل عمران: 169- 170. زبدة التفاسير، ج 5، ص: 511

«سبّاق الأمّة ثلاثة، لم يكفروا طرفة عين: عليّ بن أبي طالب، و صاحب يس، و مؤمن آل فرعون. فهم الصدّيقون، و عليّ عليه السّلام أفضلهم».

ثمّ حكى سبحانه ما أنزله بقومه من العذاب و الاستئصال، فقال استحقارا لإهلاكهم، و إيماء بتعظيم رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

وَ ما أَنْزَلْنا عَلى قَوْمِهِ مِنْ بَعْدِهِ أي: من بعد قتله، أو رفعه مِنْ جُنْدٍ مِنَ السَّماءِ من جنود السماء لإهلاكهم وَ ما كُنَّا مُنْزِلِينَ و ما صحّ في

حكمتنا أن ننزّل جندا لإهلاك قومه، كما أرسلنا و أنزلنا منها جنودا لم تروها يوم بدر و الخندق، حيث قال: بِأَلْفٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُرْدِفِينَ «1» بِثَلاثَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُنْزَلِينَ «2» بِخَمْسَةِ آلافٍ مِنَ الْمَلائِكَةِ مُسَوِّمِينَ «3». و ما كان ذلك إلّا تعظيما لرسوله و فضله و أمّته على سائر الأنبياء و أممهم. فكأنّه أشار بقوله: «وَ ما أَنْزَلْنا» «وَ ما كُنَّا مُنْزِلِينَ» إلى أنّ إنزال الجنود من عظائم الأمور الّتي لا يؤهّل لها إلّا مثلك، و ما كنّا نفعله بغيرك.

و قيل: «ما» موصولة معطوفة على «جند» أي: و ممّا كنّا منزلين على من قبلهم، من حجارة و ريح و أمطار شديدة.

ثمّ بيّن سبحانه بأيّ شي ء كان هلاكهم، فقال: إِنْ كانَتْ ما كانت الأخذة أو العقوبة إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً صاح بها جبرئيل. و قرأ أبو جعفر بالرفع على «كان» التامّة، أي: و ما وقعت إلّا صيحة. و القياس و الاستعمال على تذكير الفعل، لأنّ المعنى: ما وقع شي ء إلّا صيحة، و لكنّه نظر إلى ظاهر اللفظ، و أنّ الصيحة في حكم فاعل الفعل. فَإِذا هُمْ خامِدُونَ ميّتون. شبّهوا بالنار، رمزا إلى أنّ الحيّ كالنار الساطعة و الميّت كرمادها، كما قال لبيد:

______________________________

(1) الأنفال: 9.

(2) آل عمران: 124- 125.

(3) آل عمران: 124- 125.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 512 و ما المرء إلّا كالشهاب وضوئه يحور «1» رمادا بعد إذ هو ساطع

روي: أنّهم لمّا قتلوا حبيب النجّار غضب اللّه عليهم، فبعث جبرئيل حتّى أخذ بعضادتي باب المدينة، ثمّ صاح بهم صيحة فماتوا عن آخرهم، لا يسمع لهم حسّ، كالنار إذا طفئت.

و اعلم أنّ اللّه سبحانه أجرى هلاك كلّ قوم على بعض الوجوه، بناء على ما اقتضته الحكمة، و أوجبته

المصلحة. ألا ترى إلى قوله: فَمِنْهُمْ مَنْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِ حاصِباً وَ مِنْهُمْ مَنْ أَخَذَتْهُ الصَّيْحَةُ وَ مِنْهُمْ مَنْ خَسَفْنا بِهِ الْأَرْضَ وَ مِنْهُمْ مَنْ أَغْرَقْنا «2».

ثمّ نادى الحسرة عليهم بقوله: يا حَسْرَةً عَلَى الْعِبادِ كأنّه قيل للحسرة:

تعالي فهذه الحالة من الأحوال الّتي من حقّها أن تحضري فيها. و هي ما دلّ عليها قوله: ما يَأْتِيهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ فإنّ المستهزئين بالناصحين المخلصين- المنوط بنصحهم خير الدارين- أحقّاء بأن يتحسّر عليهم المتحسّرون، و يتلهّف على حالهم المتلهّفون. أو هم متحسّر عليهم من جهة الملائكة. و يجوز أن يكون تحسّرا من اللّه عليهم على سبيل الاستعارة، لتعظيم ما جنوه على أنفسهم.

[سورة يس (36): الآيات 31 الى 36]

أَ لَمْ يَرَوْا كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ (31) وَ إِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (32) وَ آيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أَحْيَيْناها وَ أَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ (33) وَ جَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ وَ فَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ (34) لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ وَ ما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ أَ فَلا يَشْكُرُونَ (35)

سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ وَ مِمَّا لا يَعْلَمُونَ (36)

______________________________

(1) أي: ينقص فيرجع رمادا.

(2) العنكبوت: 40.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 513

ثمّ خوّف سبحانه كفّار مكّة بقوله: أَ لَمْ يَرَوْا ألم يعلموا. و هو معلّق عن العمل في قوله: كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنَ الْقُرُونِ لأنّ «كم» لا يعمل فيها ما قبلها، و إن كانت خبريّة، لأنّ أصلها الاستفهام. و يسمّى كلّ عصر قرنا، لاقترانهم في الوجود.

أَنَّهُمْ إِلَيْهِمْ لا يَرْجِعُونَ بدل من «كم» على المعنى، أي: ألم يروا كثرة إهلاكنا القرون من قبلهم كونهم غير راجعين إليهم في الدنيا، فيعتبروا بهم أنّهم

سيصيرون إلى مثل حالهم، فينظروا لأنفسهم، و يحذروا أن يأتيهم الهلاك، و هم في غفلة و غرّة كما أتاهم.

وَ إِنْ كُلٌّ لَمَّا جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ يوم القيامة للجزاء. و «إن» مخفّفة من الثقيلة. و اللام هي اللام الفارقة. و «ما» مزيدة للتأكيد. و قرأ ابن عامر و حمزة و عاصم «لمّا» بالتشديد، بمعنى: إلّا فتكون «إن» نافية. و التنوين في «كلّ» هو الّذي يقع عوضا عن المضاف إليه، كقولك: مررت بكلّ قائما. و «جميع» فعيل بمعنى مفعول. و «لدينا» ظرف له، أو ل «محضرون». و المعنى: إن كلّهم- من الماضين و الباقين- مجموعون محشورون للحساب و الجزاء على وفق أعمالهم.

ثمّ نبّه على بعثهم بقوله: وَ آيَةٌ لَهُمُ الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ أي: دلالة واضحة، و حجّة قاطعة لهم على قدرتنا على بعث الأرض القحطة المجدبة الّتي لا تنبت.

و قرأ نافع بالتشديد. أَحْيَيْناها خبر للأرض. و الجملة خبر «آية» أو صفة لها، إذ لم يرد بها معيّنة، فعوملت معاملة النكرات. و نحوه: و لقد أمرّ على اللئيم يسبّني.

و «الأرض» خبر أو مبتدأ، و الآية خبرها، أو استئناف لبيان «الْأَرْضُ الْمَيْتَةُ».

وَ أَخْرَجْنا مِنْها حَبًّا جنس الحبّ، من الشعير و الحنطة و الأرز و غيرها

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 514

فَمِنْهُ يَأْكُلُونَ قدّم الصلة، للدلالة على أنّ الحبّ معظم ما يؤكل و يعاش به، و منه صلاح الإنس، و إذا قلّ جاء القحط و وقع الضرّ، و إذا فقد جاء الهلاك.

وَ جَعَلْنا فِيها جَنَّاتٍ بساتين مِنْ نَخِيلٍ وَ أَعْنابٍ من أنواع النخل و العنب، و لذلك جمعهما دون الحبّ، فإنّ الدالّ على الجنس مشعر بالاختلاف، و لا كذلك الدالّ على الأنواع. و ذكر النخيل دون التمور ليطابق الحبّ. و جمع الأعناب لاختصاص

شجرها بمزيد النفع و آثار الصنع.

وَ فَجَّرْنا فِيها مِنَ الْعُيُونِ أي: شيئا من العيون. فحذف الموصوف و أقيمت الصفة مقامه. أو العيون، و «من» مزيدة عند الأخفش.

لِيَأْكُلُوا مِنْ ثَمَرِهِ ثمر ما ذكر. و هو الجنّات. و قيل: الضمير للّه على طريقة الالتفات. و الإضافة إليه، لأنّ الثمر بخلقه و فعله. فالمعنى: ليأكلوا ممّا خلقه اللّه من الثمر. و قرأ حمزة و الكسائي بضمّتين «1». و هو لغة فيه، أو جمع ثمر.

وَ ما عَمِلَتْهُ أَيْدِيهِمْ عطف على الثمر. و المراد: ما يتّخذ منه، كالعصير و الدبس، و غير ذلك من الأعمال. يعني: أن الثمر في نفسه فعل اللّه و خلقه، و فيه آثار من كدّ بني آدم. و قيل: «ما» نافية. و المعنى: أنّ الثمر بخلق اللّه لا بفعلهم.

و يؤيّد الأوّل قراءة الكوفيّين غير حفص بلا هاء، فإنّ حذفه من الصلة أحسن من غيرها. أَ فَلا يَشْكُرُونَ أمر بالشكر من حيث إنّه إنكار لتركه.

ثمّ نزّه سبحانه نفسه و عظّمها، دالّا بذلك على أنّه هو الّذي يستحقّ منتهى الحمد و غاية الشكر، فقال:

سُبْحانَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها أي: تنزيها و تعظيما و براءة عن السوء، للّذي خلق جميع الأنواع و الأصناف مِمَّا تُنْبِتُ الْأَرْضُ من سائر النبات و الشجر وَ مِنْ أَنْفُسِهِمْ الذكر و الأنثى وَ مِمَّا لا يَعْلَمُونَ و أزواجا ممّا لم يطلعهم اللّه

______________________________

(1) أي: ثمره.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 515

عليه، و لم يجعل لهم طريقا إلى معرفته. و لا يبعد أن يخلق اللّه تعالى من الخلائق الحيوان و الجماد ما لم يجعل للبشر طريقا إلى العلم به، لأنّه لا حاجة بهم في دينهم و دنياهم إلى ذلك العلم، و لو كانت بهم إليه حاجة لأعلمهم،

و في الإعلام بكثرة ما خلق- ممّا علموه و ممّا جهلوه- ما يدلّ على عظم قدرته و اتّساع ملكه.

[سورة يس (36): الآيات 37 الى 40]

وَ آيَةٌ لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ (37) وَ الشَّمْسُ تَجْرِي لِمُسْتَقَرٍّ لَها ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (38) وَ الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ (39) لا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ وَ لا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ وَ كُلٌّ فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ (40)

وَ آيَةٌ و دلالة اخرى لَهُمُ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهارَ نكشفه عن مكانه.

يعني: ننزع و نخرج منه ضوء الشمس، فيبقى الهواء مظلما كما كان، لأنّ اللّه سبحانه يضي ء الهواء بضياء الشمس، فإذا انسلخ منه الضياء- أي: كشط و أزيل- يبقى مظلما. مستعار من: سلخ جلد الشاة، إذا كشطه عنها و أزاله. و الكلام في إعرابه ما سبق.

فَإِذا هُمْ مُظْلِمُونَ داخلون في الظلام، لا ضياء لهم فيه. فجعل سبحانه الليل كالجسم المظلم، و النهار كالقشر. أو جعل النهار لأنّه عارض كالكسوة، و الليل لأنّه أصل كالجسم.

وَ الشَّمْسُ تَجْرِي في فلكها إلى آخر السنة لِمُسْتَقَرٍّ لَها لحدّ معيّن ينتهي إليه دورها. فشبّه بمستقرّ المسافر إذا قطع مسيره. أو لمنتهى لها مقدّر لكلّ يوم من المشارق و المغارب، فإنّ لها في دورها ثلاثمائة و ستّين مشرقا و مغربا،

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 516

تطلع كلّ يوم من مطلع و تغرب من مغرب، حتّى تبلغ أقصاها، ثمّ لا تعود إليهما إلى العام القابل، فذلك حدّها و مستقرّها. أو لمنقطع جريها عند خراب العالم. أو لاستقرار لها على نهج مخصوص، لا تعدوه و لا تختلف. أو لكبد السماء، فإنّ حركتها فيه يوجد فيها إبطاء، بحيث يظنّ أنّ لها هناك وقفة.

ذلِكَ الجري على هذا التقدير المتضمّن للحكم

الّتي تكلّ الفطن عن إحصائها تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الغالب بقدرته على كلّ مقدور الْعَلِيمِ المحيط علمه بكلّ معلوم.

وَ الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مرفوع بالابتداء، أو بعطفه على الليل. و قرأ الكوفيّون و ابن عامر بنصب الراء بفعل يفسّره «قدّرناه». و على التقديرين، معناه: قدّرنا مسيره.

مَنازِلَ أو قدّرنا سيره في منازل.

و هي ثمانية و عشرون: الشرطين، البطين، الثريّا، الدبران، الهقعة، الهنعة، الذراع، النثرة، الطرف، الجبهة، الزبرة، الصرفة، العواء، السماك، الغفر، الزباني، الإكليل، القلب، الشولة، النعائم، البلدة، سعد الذابح، سعد بالع، سعد السعود، سعد الأخبية، فرغ الدلو المقدّم، فرغ الدلو المؤخّر، الرشاء، و هو بطن الحوت. ينزل كلّ ليلة في واحد منها، لا يتخطّاه و لا يتقاصر عنه، بل يكون على تقدير مستو لا يتفاوت، يسير فيها كلّ ليلة من المستهلّ إلى الثامنة و العشرين، ثمّ يستتر ليلتين أو ليلة إذا نقص الشهر.

و هذه المنازل هي مواقع النجوم الّتي نسبت إليها العرب الأنواء المستمطرة.

و إذا كان القمر في آخر منازله دقّ و استقوس.

حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ كالشمراخ المعوّج. «فعلون» من الانعراج، و هو الاعوجاج. الْقَدِيمِ العتيق. قيل: إنّ العرجون يصير معوّجا في كلّ ستّة أشهر.

روى عليّ بن إبراهيم بإسناده قال: «دخل أبو سعيد المكاري- و كان واقفيّا- على أبي الحسن الرضا عليه السّلام فقال له: أبلغ من قدرك أنّك تدّعي ما ادّعاه أبوك؟

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 517

فقال له أبو الحسن عليه السّلام: مالك أطفأ اللّه نورك، و أدخل الفقر بيتك، أما علمت أنّ اللّه عزّ و جلّ أوحى إلى عمران: أنّي واهب لك ذكرا يبرئ الأكمه و الأبرص. فوهب له مريم، و وهب لمريم عيسى. فعيسى من مريم، و مريم من عيسى، و عيسى و مريم شي ء واحد. و أنا من

أبي، و أبي منّي، و أنا و أبي شي ء واحد.

فقال له أبو سعيد: فأسألك عن مسألة؟

قال سل، و لا تقبل منّي، و لست من غنمي، و لكن هلمّها.

قال: ما تقول في رجل قال عند موته: كلّ مملوك لي قديم، فهو حرّ لوجه اللّه تعالى؟

فقال أبو الحسن عليه السّلام: ما ملكه لستّة أشهر فهو قديم، و هو حرّ.

قال: و كيف صار كذلك؟

قال: لأنّ اللّه تعالى يقول: «وَ الْقَمَرَ قَدَّرْناهُ مَنازِلَ حَتَّى عادَ كَالْعُرْجُونِ الْقَدِيمِ». سمّاه قديما، و يعود كذلك لستّة أشهر.

قال: فخرج أبو سعيد من عنده، و ذهب بصره، و كان يسأل على الأبواب حتّى مات».

لَا الشَّمْسُ يَنْبَغِي لَها لا يصحّ لها و لا يتسهّل و يستقيم أَنْ تُدْرِكَ الْقَمَرَ في سرعة سيره، لأنّ الشمس أبطأ سيرا من القمر، فإنّها تقطع منازلها في سنة، و القمر يقطعها في شهر. و اللّه سبحانه يجريهما إجراء التدوير، و باين بين فلكيهما و مجاريهما، فلا يمكن أن يدرك أحدهما الآخر ما داما على هذه الصفة. و إن كان سيرهما مساويا في السرعة و البطء، يخلّ بتكوّن النبات و تعيّش الحيوان. أو في آثاره و منافعه. أو مكانه، بالنزول إلى محلّه، فإنّ القمر في السماء الدنيا، و الشمس في الرابعة. أو سلطانه، فتطمس نوره. و إيلاء حرف النفي «الشمس» للدلالة على أنّها مسخّرة، لا يتيسّر لها إلّا ما أريد بها.

وَ لَا اللَّيْلُ سابِقُ النَّهارِ يسبقه فيفوته، و لكن يعاقبه. و قيل: المراد بهما

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 518

آيتاهما، و هما النّيران، و بالسبق سبق القمر إلى سلطان الشمس. فيكون عكسا للأوّل. و تبديل الإدراك بالسبق لأنّه الملائم لسرعة سيره.

وَ كُلٌ التنوين فيه عوض عن المضاف إليه. و المعنى: و كلّهم. و

الضمير للشموس و الأقمار. فِي فَلَكٍ يَسْبَحُونَ يسيرون فيه بانبساط. و كلّ ما انبسط في شي ء فقد سبح فيه. و منه السباحة في الماء. و لا يزال الأمر على هذا الترتيب إلى أن يبطل اللّه ما دبّر في ذلك، و ينقض ما ألّف، فيجمع بين الشمس و القمر، و يطلع الشمس من مغربها.

و إنّما قال: «يسبحون» بالواو و النون، لأنّه وصفها بصفة من يعقل.

و قال ابن عبّاس: يسبحون، أي: يجري كلّ واحد منها في فلكه، كما يدور المغزل في الفلكة.

[سورة يس (36): الآيات 41 الى 47]

وَ آيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ فِي الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (41) وَ خَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ ما يَرْكَبُونَ (42) وَ إِنْ نَشَأْ نُغْرِقْهُمْ فَلا صَرِيخَ لَهُمْ وَ لا هُمْ يُنْقَذُونَ (43) إِلاَّ رَحْمَةً مِنَّا وَ مَتاعاً إِلى حِينٍ (44) وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ وَ ما خَلْفَكُمْ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (45)

وَ ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلاَّ كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ (46) وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (47)

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 519

ثمّ امتنّ سبحانه على خلقه بذكر فنون نعمه الأخر، دالّا بذلك على وحدانيّته، و كمال قدرته و علمه، فقال:

وَ آيَةٌ لَهُمْ أَنَّا حَمَلْنا ذُرِّيَّتَهُمْ أولادهم الّذين يبعثونهم إلى تجاراتهم، أو صبيانهم و نساءهم الّذين يستصحبونهم، فإنّ الذرّيّة تقع عليهنّ، لأنّهنّ مزارعها.

و في الحديث: أنّه نهى عن قتل الذراري، يعني: النساء. و تخصيصهم بالحمل في الفلك لضعفهم، و لأنّه لا قوّة لهم على السفر كقوّة الرجال. فتمكّنهم في السفن أشقّ، و تماسكهم فيها أعجب. و قرأ نافع و ابن عامر: ذرّيّاتهم.

فِي الْفُلْكِ

الْمَشْحُونِ المملوء. و قيل: المراد فلك نوح. و حمل اللّه ذرّيّاتهم فيها، أنّه حمل فيها آباءهم الأقدمين، و في أصلابهم ذرّيّاتهم. و تخصيص الذرّيّة، لأنّه أبلغ في الامتنان، و أدخل في التعجّب من قدرته، في حمل أعقابهم إلى يوم القيامة في سفينة نوح.

و عن الضحّاك و قتادة و جماعة من المفسّرين: أنّ المراد من ذرّيّتهم آباؤهم و أجدادهم الّذين هؤلاء من نسلهم، في سفينة نوح المملوءة من النّاس، و ما يحتاج إليه من فيها، فسلموا من الغرق، فانتشر منهم بشر كثير. و سمّي الآباء ذرّيّة من: ذرأ الخلق، لأنّ الأولاد خلقوا منهم. و يسمّى الأولاد ذرّيّة، لأنّهم خلقوا من الآباء.

وَ خَلَقْنا لَهُمْ مِنْ مِثْلِهِ من مثل الفلك ما يَرْكَبُونَ من الإبل، فإنّها سفائن البرّ. أو من مثل سفينة نوح من السفن و الزوارق.

وَ إِنْ نَشَأْ إذا حملناهم في السفن نُغْرِقْهُمْ بتهييج الرياح و الأمواج فَلا صَرِيخَ لَهُمْ فلا مغيث لهم يحرسهم عن الغرق وَ لا هُمْ يُنْقَذُونَ ينجون من الموت به إِلَّا رَحْمَةً مِنَّا وَ مَتاعاً إلّا لرحمة و لتمتيع بالحياة إِلى حِينٍ زمان قدّر لآجالهم.

وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ اتَّقُوا ما بَيْنَ أَيْدِيكُمْ من الوقائع الّتي خلت في الأمم المكذّبة

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 520

بأنبيائهم وَ ما خَلْفَكُمْ من العذاب المعدّ في الآخرة. أو من نوازل السماء و نوائب الأرض، كقوله: أَ فَلَمْ يَرَوْا إِلى ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ مِنَ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ «1». أو من عذاب الدنيا و من عذاب الآخرة، أو عكسه. أو ما تقدّم من الذنوب و ما تأخّر.

و

روى الحلبي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «معناه: اتّقوا ما بين أيديكم من الذنوب و ما خلفكم من العقوبة»

لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ لتكونوا

راجين رحمة اللّه.

و جواب «إذا» محذوف دلّ عليه قوله: وَ ما تَأْتِيهِمْ مِنْ آيَةٍ مِنْ آياتِ رَبِّهِمْ إِلَّا كانُوا عَنْها مُعْرِضِينَ كأنّه قال: و إذا قيل لهم اتّقوا العذاب أعرضوا. ثمّ قال: و دأبهم الإعراض عند كلّ آية و موعظة، و اعتادوه و تمرّنوا عليه.

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ أَنْفِقُوا في طاعته مِمَّا رَزَقَكُمُ اللَّهُ على محاويجكم، أي:

أخرجوا ما أوجب عليكم في أموالكم قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا بالصانع. يعني: المعطّلة من أهل مكّة الّذين كانوا منكرين أن يكون الغنا و العفو من اللّه. لِلَّذِينَ آمَنُوا تهكّما بهم من إقرارهم به، و تعليقهم الأمور بمشيئته أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ على زعمكم، أي: احتجّوا في منع الحقوق، بأن قالوا: كيف نطعم من يقدر اللّه على إطعامه، و لو شاء أطعمه، فإذا لم يطعم دلّ على أنّه لم يشأ إطعامه. و ذهب عنهم أنّ اللّه سبحانه إنّما تعبّدهم بذلك لما لهم فيه من المصلحة، فأمر الغنيّ بالإنفاق على الفقير ليكسب به الأجر و الثواب.

قيل: قاله مشركو قريش، حين استطعمهم فقراء المؤمنين، إيهاما بأنّ اللّه لمّا كان قادرا أن يطعمهم و لم يطعمهم، فنحن أحقّ بذلك. و هذا من فرط جهالتهم، فإنّ اللّه يطعم بأسباب، منها حثّ الأغنياء على إطعام الفقراء.

إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ مُبِينٍ حيث أمرتمونا ما يخالف مشيئة اللّه. و يجوز أن يكون جوابا من اللّه لهم، أو حكاية لجواب المؤمنين لهم.

______________________________

(1) سبأ: 9.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 521

[سورة يس (36): الآيات 48 الى 54]

وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (48) ما يَنْظُرُونَ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً تَأْخُذُهُمْ وَ هُمْ يَخِصِّمُونَ (49) فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً وَ لا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ (50) وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ إِلى

رَبِّهِمْ يَنْسِلُونَ (51) قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَ صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ (52)

إِنْ كانَتْ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ لَدَيْنا مُحْضَرُونَ (53) فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً وَ لا تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (54)

وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ يعنون وعد البعث إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ و هذا استهزاء منهم بخبر النبيّ و المؤمنين بوقوع البعث.

فقال في جوابهم: ما يَنْظُرُونَ ما ينتظرون إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً هي النفخة الأولى تَأْخُذُهُمْ أو القيامة تأتيهم بغتة وَ هُمْ يَخِصِّمُونَ يتخاصمون في متاجرهم و معاملاتهم، لا يخطر ببالهم أمرها، كقوله: أَوْ تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ «1».

و

في الحديث: «تقوم الساعة و الرجلان قد نشرا ثوبهما يتبايعانه، فما يطويانه حتّى تقوم. و الرجل يرفع أكلته إلى فيه، فما تصل إلى فيه حتّى تقوم. و الرجل يليط «2» حوضه ليسقي ماشيته، فما يسقيها حتّى تقوم».

______________________________

(1) يوسف: 107.

(2) لاط الحوض: طيّنه لئلّا ينشف الماء.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 522

و قيل: و هم يختصمون هل ينزل بهم العذاب أم لا؟

و أصل «يخصّمون» يختصمون، فأسكنت التاء و أدغمت، ثمّ كسرت الخاء، لالتقاء الساكنين.

و روي عن أبي بكر بكسر الياء، للإتباع. و قرأ ابن كثير و ورش و هشام بفتح الخاء، على إلقاء حركة التاء إليه. و أبو عمرو و قالون به مع الاختلاس «1». و عن نافع الفتح فيه و الإسكان و التشديد. و كأنّه جوّز الجمع بين الساكنين إذا كان الثاني مدغما. و قرأ حمزة: يخصمون، من: خصمه إذا جادله.

فَلا يَسْتَطِيعُونَ تَوْصِيَةً في شي ء من أمورهم وَ لا إِلى أَهْلِهِمْ يَرْجِعُونَ و لا يقدرون على الرجوع إلى منازلهم و أهاليهم، فيروا أحوالهم، بل يموتون حيث تفاجئهم الصيحة.

وَ

نُفِخَ فِي الصُّورِ أي: مرّة ثانية. و قد سبق تفسيره في سورة المؤمنين «2».

فَإِذا هُمْ مِنَ الْأَجْداثِ من القبور. جمع جدث. إِلى رَبِّهِمْ إلى الموضع الّذي يحكم اللّه فيه، لا حكم لغيره هناك يَنْسِلُونَ يسرعون.

فلمّا رأوا أهوال القيامة قالُوا يا وَيْلَنا مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا من منامنا الّذي كنّا فيه. و فيه ترشيح و رمز و إشعار بأنّهم لاختلاط عقولهم يظنّون أنّهم كانوا نياما.

و قيل: إنّهم لمّا عاينوا أهوال القيامة، عدّوا أحوالهم في قبورهم بالإضافة إلى تلك الأهوال رقادا. و سكت حفص على «مرقدنا» سكتة لطيفة. و وقف غيره عليه.

هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ مبتدأ و خبر. و «ما» مصدريّة. أو موصولة محذوفة الراجع، أي: هذا الّذي وعده الرحمن و الّذي صدّقه المرسلون صدقوا فيه. من

______________________________

(1) اختلس القارئ الحركة: لم يبلّغها. و يقابله الإشباع. و هو: تبليغ الحركة حتّى تصير حرف مدّ.

(2) راجع ج 4 ص 466، ذيل الآية (101) من سورة المؤمنون.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 523

قولهم: صدقوهم الحديث. او «هذا» صفة ل «مرقدنا». و «ما وعد» خبر محذوف. أو مبتدأ خبره محذوف، أي: ما وعد الرحمن وَ صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ حقّ. و هو من كلامهم، يتذكّرون ما سمعوه من الرسل، فيجيبون به أنفسهم، أو بعضهم بعضا.

و قيل: جواب للملائكة أو المؤمنين عن سؤالهم، تذكيرا لكفرهم، و تقريعا لهم عليه، و تنبيها بأنّ الّذي يهمّهم هو السؤال عن البعث دون الباعث. فكأنّه قيل لهم: ليس الأمر كما تظنّون، فإنّه ليس البعث الّذي عرفتموه هو بعث النائم من مرقده، فيهمّكم السؤال عن الباعث، إنّ هذا هو البعث الأكبر ذو الأهوال الشديدة، و الأفزاع العظيمة.

إِنْ كانَتْ ما كانت الفعلة إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً هي النفخة الأخبرة فَإِذا هُمْ جَمِيعٌ

مجموعون في عرصات القيامة لَدَيْنا عند محاسبتنا إيّاهم مُحْضَرُونَ بمجرّد تلك الصيحة. و في كلّ ذلك تهوين أمر البعث و الحشر، و استغناؤهما عن الأسباب الّتي ينوطان بها، فيما يشاهده الأوّلون و الآخرون.

ثمّ حكى سبحانه ما يقوله في ذلك اليوم للخلائق، تمكينا له في نفوسهم، و زيادة لتصوير الموعود، و ترغيبا في الحرص عليه، فقال:

فَالْيَوْمَ لا تُظْلَمُ نَفْسٌ شَيْئاً لا ينقص من له حقّ شيئا من حقّه من الثواب أو العوض، و لا يفعل به ما لا يستحقّه من العقاب، بل الأمور جارية على مقتضى العدل. و ذلك قوله: وَ لا تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ

[سورة يس (36): الآيات 55 الى 58]

إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ (55) هُمْ وَ أَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ (56) لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَ لَهُمْ ما يَدَّعُونَ (57) سَلامٌ قَوْلاً مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ (58)

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 524

ثمّ ذكر حال أوليائه بقوله: إِنَّ أَصْحابَ الْجَنَّةِ الْيَوْمَ فِي شُغُلٍ فاكِهُونَ متلذّذون فرحون في النعمة. من الفكاهة. و في تنكير «شغل» و إبهامه تعظيم لما هم فيه من البهجة التامّة و التلذّذ الكامل، و تنبيه على أنّه أعلى ما تحيط به الأفهام، و يفسّر عن كنه الكلام، فلا يهتمّون بأهل النار و نكالهم، و إن كانوا أقاربهم.

و عن ابن مسعود و ابن عبّاس:

أنّهم شغلوا بافتضاض الأبكار. و هو المرويّ عن الصادق عليه السّلام.

و قيل: باستماع الألحان.

و قيل: شغلهم في الجنّة سبعة أنواع من الثواب لسبعة أعضاء. فثواب الرجل بقوله: ادْخُلُوها بِسَلامٍ آمِنِينَ «1». و ثواب اليد يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً «2». و ثواب الفرج وَ حُورٌ عِينٌ «3». و ثواب البطن كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً «4» و ثواب اللسان وَ آخِرُ دَعْواهُمْ «5» الآية.

و ثواب الأذن لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً «6».

و ثواب العين وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ «7».

و قرأ ابن كثير و نافع: في شغل بالسكون. و يعقوب في رواية: فكهون، للمبالغة. و هما خبران ل «إنّ». و يجوز أن يكون «في شغل» صلة ل «فاكهون».

هُمْ وَ أَزْواجُهُمْ و حلائلهم في الدنيا ممّن وافقهم على إيمانهم. أو أزواجهم اللّاتي زوّجهم اللّه تعالى من الحور العين. فِي ظِلالٍ جمع ظلّ، كالشعاب جمع الشعب. أو ظلّة، كقلال و قلّة. و يؤيّده قراءة حمزة و الكسائي: في ظلل. عَلَى الْأَرائِكِ

______________________________

(1) الحجر: 46.

(2) الطور: 23.

(3) الواقعة: 22.

(4) الطور: 19.

(5) يونس: 10.

(6) مريم: 62.

(7) الزخرف: 71.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 525

على السرر المزيّنة. جمع الأريكة. و هي السرير في الحجلة. مُتَّكِؤُنَ جالسون جلوس الملوك.

و «هم» مبتدأ، خبره «في ضلال». و «على الأرائك» جملة مستأنفة، أو خبر ثان. أو «متّكؤن»، و الجارّان صلتان له. أو «هم» تأكيد للضمير في «شغل»، أو في «فاكهون». و «على الأرائك متّكئون» خبر آخر. و «أزواجهم» عطف على «هم» لأنّهم يشاركنهم في الأحكام الثلاثة، أعني: الفكاهة و الظلال و الاتّكاء. و «في ظلال» حال من المعطوف- و هو: أزواجهم- و المعطوف عليه، و هو ضمير «هم».

لَهُمْ فِيها فاكِهَةٌ وَ لَهُمْ ما يَدَّعُونَ ما يدّعون به لأنفسهم. يفتعلون من الدعاء، كاشتوى إذا شوى لنفسه. أو ما يتداعونه، كقولك: ارتموه، بمعنى: تراموه. أو يتمنّون، من قولهم: ادّع عليّ ما شئت، بمعنى: تمنّه عليّ. أو ما يدعونه في الدنيا من الجنّة و درجاتها.

و «ما» موصولة، أو موصوفة، مرتفعة بالابتداء، و «لهم» خبرها. و قوله:

سَلامٌ بدل منها، أو صفة اخرى.

و قيل: «ما يدّعون» مبتدأ، و خبره «سلام» بمعنى: و لهم ما يدّعون خالص لا

شوب فيه. أو خبر محذوف. أو مبتدأ محذوف الخبر، أي: القول بينهم سلام.

قَوْلًا مِنْ رَبٍّ رَحِيمٍ أي: يقول اللّه. أو يقال لهم قولا كائنا من جهته.

و المعنى: أنّ اللّه يسلّم عليهم بواسطة الملائكة تعظيما لهم، و ذلك مطلوبهم و متمنّاهم.

و عن ابن عبّاس: الملائكة يدخلون عليهم بالتحيّة من ربّ العالمين، فيقولون: سلام عليكم من ربّكم الرحيم. و يحتمل نصبه على الاختصاص.

[سورة يس (36): الآيات 59 الى 68]

وَ امْتازُوا الْيَوْمَ أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ (59) أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (60) وَ أَنِ اعْبُدُونِي هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61) وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلاًّ كَثِيراً أَ فَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ (62) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (63)

اصْلَوْهَا الْيَوْمَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (64) الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (65) وَ لَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فَأَنَّى يُبْصِرُونَ (66) وَ لَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ عَلى مَكانَتِهِمْ فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا وَ لا يَرْجِعُونَ (67) وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ نُنَكِّسْهُ فِي الْخَلْقِ أَ فَلا يَعْقِلُونَ (68)

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 526

ثمّ ذكر سبحانه أهل النار، فقال: وَ امْتازُوا الْيَوْمَ و انفردوا اليوم عن المؤمنين أَيُّهَا الْمُجْرِمُونَ معاشر العصاة. و ذلك حين يسار بهم إلى الجنّة. و نحوه قوله: وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَتَفَرَّقُونَ «1».

و قيل: اعتزلوا من كلّ خير. أو تفرّقوا في النار، فإنّ لكلّ كافر بيتا ينفرد به، لا يرى و لا يرى.

ثمّ خصّهم سبحانه بالتوبيخ، فقال: أَ لَمْ أَعْهَدْ إِلَيْكُمْ يا بَنِي آدَمَ أَنْ لا تَعْبُدُوا الشَّيْطانَ تقريعا لهم، و إلزاما للحجّة. و عهده إليهم ما نصب لهم من الحجج العقليّة و السمعيّة، الآمرة بعبادته، الزاجرة عن عبادة غيره.

و جعلها عبادة الشيطان لأنّه الآمر بها و المزيّن لها إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ ظاهر عداوته، فإنّه يدعوكم إلى ما فيه هلاكك.

______________________________

(1) الروم: 14.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 527

وَ أَنِ اعْبُدُونِي عطف على «أَنْ لا تَعْبُدُوا» هذا إشارة إلى ما عهد إليهم، أو إلى عبادة اللّه صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ إلى الجنّة. و الجملة استئناف لبيان المقتضي للعهد بشقّيه، أو بالشقّ الآخر. و التنكير للمبالغة و التعظيم، أي: صراط بليغ في استقامته، جامع لكلّ شرط يجب أن يكون عليه. أو للتبعيض، فإنّ التوحيد سلوك بعض الطريق المستقيم.

ثمّ رجع إلى بيان معاداة الشيطان بقوله: وَ لَقَدْ أَضَلَّ مِنْكُمْ جِبِلًّا كَثِيراً خلقا كثيرا، بأن دعاهم إلى الإغواء و الإضلال. و قرأ يعقوب بضمّتين «1». و ابن كثير و حمزة و الكسائي بهما مع تخفيف اللام. و ابن عامر و أبو عمرو بضمّة و سكون مع التخفيف. و الكلّ لغات. أَ فَلَمْ تَكُونُوا تَعْقِلُونَ فإنّه وضح إضلاله لمن له أدنى عقل و رأي. و في هذا بطلان مذهب أهل الجبر في أنّ اللّه سبحانه أراد إضلالهم.

هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ بها في دار التكليف، حاضرة لكم تشاهدونها اصْلَوْهَا الْيَوْمَ الزموا العذاب بها، و ذوقوا حرّها. و أصل الصلاء:

اللزوم. و منه المصلّي الّذي يجي ء في أثر السابق، للزومه أثره. بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بكفركم في الدنيا.

الْيَوْمَ نَخْتِمُ عَلى أَفْواهِهِمْ نمنعها عن الكلام، فلا يقدرون على التكلّم وَ تُكَلِّمُنا أَيْدِيهِمْ بما عملوا وَ تَشْهَدُ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ بظهور آثار المعاصي عليها، و دلالتها على أفعالها. فسمّي ذلك شهادة منها، كما تقول: عيناك تشهدان بسهرك، أو بإنطاق اللّه إيّاها. و في الحديث: أنّهم يجحدون و يخاصمون فيختم على أفواههم، و يقال لأركانه: انطقي، فتنطق

بأعماله.

ثمّ أخبر سبحانه عن قدرته على إهلاك هؤلاء الكفّار الّذين جحدوا وحدانيّته، فقال تهديدا لهم:

______________________________

(1) أي: جبلّا.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 528

وَ لَوْ نَشاءُ لَطَمَسْنا عَلى أَعْيُنِهِمْ لمسحنا أعينهم، حتّى تصير ممسوحة ممحوّا أثرها فَاسْتَبَقُوا الصِّراطَ فاستبقوا إلى الطريق الّذي اعتادوا سلوكه.

و انتصابه بنزع الخافض. أو بتضمين الاستباق معنى الابتدار. أو جعل المسبوق إليه مسبوقا على الاتّساع. أو بالظرف. فَأَنَّى يُبْصِرُونَ الطريق وجهة السلوك، فضلا عن غيره؟

و عن ابن عبّاس: معنى الآية: و لو نشاء لأعميناهم عن الهدى، فطلبوا طريق الحقّ و قد عموا عنه، فكيف يبصرون؟

وَ لَوْ نَشاءُ لَمَسَخْناهُمْ بتغيير صورهم، و إبطال قواهم، كالحجارة عَلى مَكانَتِهِمْ أي: مكانهم الّذي هم فيه قعود. و المكانة و المكان واحد، كالمقامة و المقام. و قرأ أبو بكر: مكاناتهم. فَمَا اسْتَطاعُوا مُضِيًّا ذهابا وَ لا يَرْجِعُونَ و لا رجوعا. فوضع الفعل موضعه للفواصل. و قيل: و لا يرجعون عن تكذيبهم.

و المعنى: أنّهم بكفرهم و نقضهم ما عهد إليهم أحقّاء بأن يفعل بهم ذلك، لكنّا لم نفعل لشمول الرحمة لهم، و اقتضاء الحكمة إهمالهم.

و عن ابن عبّاس: معناه: لمسخناهم قردة و خنازير.

و عن قتادة: لأقعدناهم على أرجلهم و أزمنّاهم «1».

وَ مَنْ نُعَمِّرْهُ و من نطل عمره نُنَكِّسْهُ نقلّبه فِي الْخَلْقِ فلا يزال يتزايد ضعفه، و انتقاض بنيته و قواه، عكس ما كان عليه بدء أمره. و ابن كثير يشبع ضمّة الهاء على أصله. و قرأ عاصم و حمزة: ننكّسه، من التنكيس. و هو أبلغ.

و النكس أشهر.

و الملخّص: إنّا نقلّبه فنخلقه على عكس ما خلقناه قبلا، بأن خلقناه على ضعف في جسده، و خلوّ من عقل و علم، ثمّ جعلناه يتزايد و ينتقل من حال إلى

______________________________

(1) أزمن اللّه فلانا:

ابتلاه بالزمانة.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 529

حال، و يرتقي من درجة إلى درجة، إلى أن يبلغ أشدّه، و يستكمل قوّته، و يعلم ماله و ما عليه، فإذا انتهى نكسناه في الخلق، فجعلناه يتناقص حتى يرجع في حال شبيهة بحال الصبيّ، في ضعف جسده و قلّة عقله و خلوّه من العلم، كما ينكس السهم، فيجعل أعلاه أسفله. و مثل ذلك قوله تعالى: وَ مِنْكُمْ مَنْ يُرَدُّ إِلى أَرْذَلِ الْعُمُرِ لِكَيْ لا يَعْلَمَ بَعْدَ عِلْمٍ شَيْئاً «1». ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ «2».

أَ فَلا يَعْقِلُونَ أنّ من قدر على أن ينقلهم من الشباب إلى الهرم، و من القوّة إلى الضعف، و من رجاحة العقل إلى الخرف و قلّة التمييز، و من العلم إلى الجهل، قادر على أن يطمس على أعينهم، و يمسخهم على مكانتهم، و يفعل بهم ما شاء و أراد. فلم لا يتدبّرون في أنّ اللّه تعالى يقدر على الإعادة كما قدر على ذلك؟

[سورة يس (36): الآيات 69 الى 70]

وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ وَ ما يَنْبَغِي لَهُ إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ (69) لِيُنْذِرَ مَنْ كانَ حَيًّا وَ يَحِقَّ الْقَوْلُ عَلَى الْكافِرِينَ (70)

و لمّا ذكر أدّلة وحدانيّته و كمال قدرته، شرع في بيان رسالة رسوله، ردّا لقولهم: إنّ محمدا شاعر ليس برسول، فقال تأكيدا لقوله: إِنَّكَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ «3»:

وَ ما عَلَّمْناهُ الشِّعْرَ بتعليم القرآن، فإنّه غير مقفّى و لا موزون، و لا يكون نظمه كنظمه، و لا أسلوبه كأسلوبه، و ليس معناه ممّا يتوخّاه الشعراء من التخيّلات المرغّبة و المنفّرة، فأين هو عن الشعر؟

وَ ما يَنْبَغِي لَهُ و ما يصحّ له الشعر، و لا يتطلّب لو طلبه، أي: جعلناه

______________________________

(1) النحل: 70.

(2) التين: 5.

(3) يس: 3.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 530

بحيث لو

أراد قرض الشعر لم يتأتّ له و لم يتسهّل، كما جعلناه أمّيّا لا يتهدّى للخطّ و لا يحسنه، لتكون الحجّة أثبت، و الشبهة أدحض.

و عن الخليل: كان الشعر أحبّ إلى رسول اللّه من كثير من الكلام، و لكن كان لا يتأتّى له و ما كان يتّزن له بيت شعر، حتّى إذا تمثّل ببيت شعر جرى على لسانه منكسرا. كما

روي عن الحسن: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يتمثّل بهذا البيت: كفى الإسلام و الشيب للمرء ناهيا. فقال أبو بكر: يا رسول اللّه إنّما قال الشاعر: كفى الشيب و الإسلام للمرء ناهيا. أشهد أنّك رسول اللّه، و ما علّمك الشعر، و ما ينبغي لك.

و

عن عائشة أنّها قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يتمثّل ببيت أخي بني قيس:

ستبدي لك الأيّام ما كنت جاهلا* و يأتيك بالأخبار من لم تزوّد فجعل يقول: من لم تزوّد بالأخبار. فيقول أبو بكر: ليس هكذا يا رسول اللّه.

فيقول: إنّي لست بشاعر، و ما ينبغي لي.

و أمّا

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنا النبيّ لا كذب* أنا ابن عبد المطّلب

و

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين اصابه حجر فعثر فدميت إصبعه: هل أنت إلّا إصبع دميت* و في سبيل اللّه ما لقيت

اتّفاقيّ من غير تكلّف و قصد منه إلى ذلك. و قد يقع كثيرا في تضاعيف المنثورات- من الخطب و الرسائل و المحاورات- أشياء موزونة لا يسمّيها أحد شعرا، و لا يخطر ببال المتكلّم و لا السامع أنّه شعر. على أنّ الخليل ما أعدّ المشطور من الرجز شعرا. هذا و قد روي: أنّه حرّك الباءين «1» و

كسر التاء الأولى بلا إشباع، و سكّن الثانية.

______________________________

(1) أي: الباءين من: كذب، عبد المطّلب. و التاء من: دميت، لقيت.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 531

و قيل: الضمير للقرآن، أي: و ما يصحّ للقرآن أن يكون شعرا.

إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ عظة و إرشاد من اللّه وَ قُرْآنٌ مُبِينٌ و كتاب سماويّ يتلى في المعابد، ظاهر أنّه ليس كلام البشر، لما فيه من الإعجاز.

لِيُنْذِرَ القرآن أو الرسول من معاصي اللّه. و يؤيّده قراءة نافع و ابن عامر و يعقوب بالتاء. مَنْ كانَ حَيًّا عاقلا متأمّلا، فإنّ الغافل كالميّت. أو مؤمنا في علم اللّه، فإنّ الحياة الأبديّة بالإيمان. و تخصيص الإنذار بمن كان حيّا، لأنّه المنتفع به.

وَ يَحِقَّ الْقَوْلُ و تجب كلمة العذاب عَلَى الْكافِرِينَ المصرّين على الكفر.

و جعلهم في مقابلة من كان حيّا، إشعار بأنّهم لكفرهم و عدم تأمّلهم أموات في الحقيقة.

[سورة يس (36): الآيات 71 الى 76]

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا أَنْعاماً فَهُمْ لَها مالِكُونَ (71) وَ ذَلَّلْناها لَهُمْ فَمِنْها رَكُوبُهُمْ وَ مِنْها يَأْكُلُونَ (72) وَ لَهُمْ فِيها مَنافِعُ وَ مَشارِبُ أَ فَلا يَشْكُرُونَ (73) وَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ (74) لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ وَ هُمْ لَهُمْ جُنْدٌ مُحْضَرُونَ (75)

فَلا يَحْزُنْكَ قَوْلُهُمْ إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ (76)

ثمّ عاد الكلام إلى ذكر الأدّلة على التوحيد، فقال: أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّا خَلَقْنا لَهُمْ مِمَّا عَمِلَتْ أَيْدِينا ممّا تولّينا إحداثه، و لم يقدر على إحداثه غيرنا. و ذكر الأيدي و إسناد العمل إليها، استعارة تفيد مبالغة في الاختصاص و التفرّد بالإحداث، كقول الواحد منّا: عملت هذا بيدي، أي: انفردت فيه من غير إعانة معين.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 532

أَنْعاماً خصّها بالذكر، لما فيه من بدائع

الفطرة و كثرة المنافع فَهُمْ لَها مالِكُونَ متملّكون بتمليكنا إيّاها. أو متمكّنون من ضبطها، متصرّفون فيها تصرّف الملّاك بتسخيرنا إيّاها لهم، كقوله:

أصبحت لا أحمل السلاح و لاأملك رأس البعير إن نفرا

أي: لا أضبطه.

وَ ذَلَّلْناها لَهُمْ صيّرناها منقادة لهم فَمِنْها رَكُوبُهُمْ مركوبهم وَ مِنْها يَأْكُلُونَ أي: ما يأكلون لحمه وَ لَهُمْ فِيها مَنافِعُ من الجلود و الأصواف و الأوبار و غير ذلك وَ مَشارِبُ من اللبن. جمع مشرب، بمعنى موضع الشرب، أو المصدر.

ذكرها مجملة، و قد فصّلها في قوله: وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ جُلُودِ الْأَنْعامِ بُيُوتاً «1» الآية.

و أمال الشين ابن عامر وحده برواية هشام. أَ فَلا يَشْكُرُونَ نعم اللّه في ذلك، إذ لولا خلقه لها و تذليله إيّاها، كيف أمكن التوسّل إلى تحصيل هذه المنافع المهمّة؟

ثمّ ذكر سبحانه جهلهم فقال: وَ اتَّخَذُوا و عبدوا مِنْ دُونِ اللَّهِ آلِهَةً أي:

أشركوها به في العبادة بعد ما رأوا منه تلك القدرة الباهرة و النعم المتظاهرة، و علموا أنّه المتفرّد بها لَعَلَّهُمْ يُنْصَرُونَ رجاء أن ينصروهم فيما حزبهم «2» من الأمور، و الأمر على عكس ما قدّروا، لأنّهم لا يَسْتَطِيعُونَ نَصْرَهُمْ و دفع الحزن عنهم وَ هُمْ لَهُمْ لآلهتهم جُنْدٌ مُحْضَرُونَ معدّون، يخدمونهم و يذبّون عنهم. أو اتّخذوهم لينصروهم عند اللّه و يشفعوا لهم، و الأمر على خلاف ما توهّموا، حيث هم محضرون إثرهم في النار، فإنّ كلّ حزب مع ما عبدوه من الأوثان في النار، فلا الجند يدفعون عنها الإحراق، و لا هي تدفع عنهم العذاب. و هذا كما قال سبحانه:

______________________________

(1) النحل: 80.

(2) أي: أصابهم و اشتدّ عليهم.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 533

إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ «1».

فَلا يَحْزُنْكَ فلا يهمّنّك قَوْلُهُمْ في اللّه

بالإلحاد و الشرك. أو فيك بالتكذيب و التهجين. إِنَّا نَعْلَمُ ما يُسِرُّونَ وَ ما يُعْلِنُونَ فنجازيهم عليه، و كفى ذلك أن تتسلّى به. و هو تعليل للنهي على الاستئناف، فلذلك لو قرئ: أنّا بالفتح، على حذف لام التعليل، جاز.

[سورة يس (36): الآيات 77 الى 83]

أَ وَ لَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ (77) وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلاً وَ نَسِيَ خَلْقَهُ قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ (78) قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ (79) الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ (80) أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ بَلى وَ هُوَ الْخَلاَّقُ الْعَلِيمُ (81)

إِنَّما أَمْرُهُ إِذا أَرادَ شَيْئاً أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (82) فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (83)

روي: أنّ أبا لهب أو العاص بن وائل، جاء بعظم بال يفتّته بيده، و قال: يا محمّد أ تزعم أنّ اللّه يحيي هذا بعد ما رمّ؟ فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نعم، و يبعثك و يدخلك في النار، فنزلت:

أَ وَ لَمْ يَرَ الْإِنْسانُ أَنَّا خَلَقْناهُ مِنْ نُطْفَةٍ

ثمّ نقلناه من النطفة إلى العلقة، و منها

______________________________

(1) الأنبياء: 98.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 534

إلى المضغة، و منها إلى العظم، و منه إلى أن جعلناه خلقا سويّا. ثمّ جعلنا فيه الروح، و أخرجناه من بطن أمّه، ثمّ نقلناه من حال إلى حال، حتّى كمل عقله، و صار متكلّما خصيما. و ذلك قوله: فَإِذا هُوَ خَصِيمٌ مُبِينٌ أي: مخاصم ذو بيان. فمن قدر على جميع ذلك فكيف لا يقدر على الإعادة، و هي أسهل من الإنشاء و الابتداء؟

و

هذا تسلية ثانية بتهوين ما يقولونه بالنسبة إلى إنكارهم الحشر. و فيه تقبيح بليغ لإنكاره، حيث عجّب اللّه منه، و جعله إفراطا في الخصومة بيّنا. و منافاة لجحود القدرة على ما هو أهون ممّا عمله في بدء خلقه. و مقابلة النعمة الّتي لا مزيد عليها- و هي خلقه من أخسّ شي ء و أمهنه شريفا مكرّما- بالعقوق و التكذيب.

و قيل: معناه: فإذا هو بعد ما كان ماء مهينا، رجل مميّز منطيق قادر على الخصام، معرب عمّا في نفسه، فصيح.

ثمّ أكّد سبحانه الإنكار عليه، فقال: وَ ضَرَبَ لَنا مَثَلًا أمرا عجيبا. و هو إنكار قدرتنا على إحياء الموتى. أو تشبيهنا بخلقنا، لوصفنا بالعجز عمّا عجزوا عنه. وَ نَسِيَ خَلْقَهُ خلقنا إيّاه.

ثمّ بيّن ذلك المثل بقوله: قالَ مَنْ يُحْيِ الْعِظامَ وَ هِيَ رَمِيمٌ منكرا إيّاه، مستبعدا له. و الرميم ما بلي من العظام. و لعلّه فعيل بمعنى فاعل، من: رمّ الشي ء.

صار اسما بالغلبة، و لذلك لم يؤنّث. أو بمعنى مفعول، من: رممته. و المراد بإحياء العظام في الآية ردّها إلى ما كانت عليه غضّة رطبة في بدن حيّ حسّاس، لا بمعنى أنّ العظم ذو حياة، فيؤثّر فيه الموت كسائر الأعضاء. و لهذا عندنا و عند أبي حنيفة طاهر. و كذلك الشعر و الوبر و الصوف، و سائر ما لا تحلّه الحياة. و الشافعي يقول: إنّ العظم ذو حياة، فيؤثّر فيه الموت. و لذلك عنده عظام الميتة نجسة.

قُلْ يُحْيِيهَا الَّذِي أَنْشَأَها أَوَّلَ مَرَّةٍ لأنّ من قدر على اختراع ما يبقى فهو

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 535

على إعادته قادر لا محالة وَ هُوَ بِكُلِّ خَلْقٍ عَلِيمٌ يعلم تفاصيل المخلوقات و كيفيّة خلقها. فيعلم أجزاء الأشخاص المتفتّتة، المتبدّدة أصولها و فصولها و

مواقعها، و طريق تمييزها، و ضمّ بعضها إلى بعض على النمط السابق، و إعادة الأعراض و القوى الّتي كانت فيها، أو إحداث مثلها.

ثمّ زاد سبحانه في البيان بقوله: الَّذِي جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الشَّجَرِ الْأَخْضَرِ ناراً مع مضادّة النار الماء، و انطفائها به. و هي الزناد الّتي تورى بها الأعراض. و أكثرها من المرخ «1» و العفار، بأن يسحق المرخ- الّذي هو ذكر- على العفار الّتي هي أنثى، و هما خضراوان يقطر منهما الماء، فتنقدح النار. و عن ابن عبّاس: ليس من شجرة إلّا و فيها نار إلّا العنّاب. فَإِذا أَنْتُمْ مِنْهُ تُوقِدُونَ لا تشكّون في أنّها نار تخرج منه.

فمن قدر على إحداث النار من الشجر الأخضر، مع ما فيه من المائيّة المضادّة لها بكيفيّتها، كان أقدر على إعادة الغضاضة فيما كان غضّا فيبس و بلى.

ثمّ ذكر من خلقه ما هو أعظم من الإنسان، فقال: أَ وَ لَيْسَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ مع كبر جرمهما و عظم شأنهما بِقادِرٍ عَلى أَنْ يَخْلُقَ مِثْلَهُمْ في الصغر و الحقارة بالإضافة إليهما. أو مثلهم في أصول الذات و صفاتها، و هو المعاد.

و عن يعقوب: يقدر. و الهمزة للتقرير. يعني: من قدر على خلق السماوات و الأرض و اختراعهما، مع عظمهما و كثرة أجرامهما، ليقدر على إعادة خلق البشر.

ثمّ أجاب لتقرير ما بعد النفي بقوله: بَلى مشعرا بأنّه لا جواب سواه وَ هُوَ الْخَلَّاقُ الْعَلِيمُ كثير المخلوقات و المعلومات.

ثمّ ذكر سبحانه قدرته على إيجاد الأشياء على وجه السهولة، فقال: إِنَّما أَمْرُهُ إنّما شأنه سبحانه إِذا أَرادَ شَيْئاً إذا دعت حكمته إلى تكوين شي ء

______________________________

(1) المرخ: شجر رقيق سريع الوري يقتدح به. و العفار: شجر يتخذ منه الزناد. و الزناد جمع

الزند، و هو العود الأعلى الذي يقتدح به النار.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 536

أَنْ يَقُولَ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فهو يكون، أي: يحدث من غير توقّف. و هو تمثيل لتأثير قدرته في مراده، بأمر المطاع للمطيع في حصول المأمور، من غير امتناع و توقّف، و افتقار إلى مزاولة عمل و استعمال آلة، قطعا لمادّة الشبهة، و هي قياس قدرة اللّه على قدرة الخلق. و نصبه الكسائي عطفا على «يقول».

ثمّ نزّه ذاته عمّا ضربوا له، و عجّبهم عمّا قالوا فيه، فقال: فَسُبْحانَ الَّذِي بِيَدِهِ مَلَكُوتُ كُلِّ شَيْ ءٍ معلّلا بكونه مالكا للملك، قادرا على كلّ شي ء وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ أي: تردّون إلى حيث لا يملك الأمر و النهي أحد سواه، و هو يوم القيامة، فيجازيكم بالثواب و العقاب على الطاعات و المعاصي على قدر أعمالكم. و هذا وعد و وعيد للمقرّين و المنكرين. و قرأ يعقوب بفتح التاء، من: رجع.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 537

(37) سورة الصافّات

اشارة

مكّيّة. و هي مائة و اثنتان و ثمانون آية.

عن أبيّ بن كعب عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ سورة الصافّات أعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد كلّ جنّي و شيطان، و تباعدت عنه مردة الشياطين، و برى ء من الشرك، و شهد له حافظاه يوم القيامة أنّه كان مؤمنا بالمرسلين».

و

روى الحسين بن أبي العلاء، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة الصافّات في كلّ يوم جمعة، لم يزل محفوظا من كلّ آفة، مدفوعا عنه كلّ بليّة في الحياة الدنيا، مرزوقا في الدنيا بأوسع ما يكون من الرزق، و لم يصبه اللّه في ماله و لا ولده و لا بدنه بسوء من شيطان رجيم، و لا من

جبّار عنيد. و إن مات في يومه أو ليلته، بعثه اللّه شهيدا، و أماته شهيدا، و أدخله الجنّة مع الشهداء في درجة من الجنّة».

[سورة الصافات (37): الآيات 1 الى 10]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الصَّافَّاتِ صَفًّا (1) فَالزَّاجِراتِ زَجْراً (2) فَالتَّالِياتِ ذِكْراً (3) إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ (4)

رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ رَبُّ الْمَشارِقِ (5) إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ (6) وَ حِفْظاً مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ (7) لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى وَ يُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ (8) دُحُوراً وَ لَهُمْ عَذابٌ واصِبٌ (9)

إِلاَّ مَنْ خَطِفَ الْخَطْفَةَ فَأَتْبَعَهُ شِهابٌ ثاقِبٌ (10)

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 538

و اعلم أنّه سبحانه افتتح هذه السورة بمثل ما اختتم به سورة يس من ذكر البعث، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَ الصَّافَّاتِ صَفًّا أقسم بالملائكة الصافّين أقدامهم في مقام العبوديّة على مراتب، باعتبارها تفيض عليهم الأنوار الإلهيّة، منتظرين لأمر اللّه. و مثله قوله: وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ «1». أو الصّافّين أجنحتهم في الهواء.

فَالزَّاجِراتِ زَجْراً فالزاجرين السحاب سوقا. أو جميع الأجرام العلويّة و السفليّة بالتدبير المأمور به فيها. أو الناس عن المعاصي بإلهام الخير. أو الشياطين عن التعرّض لهم. فَالتَّالِياتِ ذِكْراً فالتالين آيات اللّه، من الكتب المنزلة- و غيرها من جلايا قدسه- على أنبيائه و أوليائه.

و قيل: أقسم اللّه بنفوس العلماء الصافّين في الصلوات بالجماعة، الزاجرين عن الكفر و المعاصي بالحجج و النصائح، التالين آيات اللّه، و الدارسين شرائعه.

و

عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: «أقسم اللّه سبحانه بنفوس الغزاة الصافّين في الجهاد، الزاجرين الخيل أو العدوّ، التالين ذكر اللّه، لا يشغلهم عنه مباراة العدوّ».

______________________________

(1) الصافّات: 165.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 539

و يحتمل أن يقسم اللّه سبحانه بطوائف الأجرام المرتّبة كالصفوف المرصوصة، و الأرواح المدبّرة

لها، و الجواهر القدسيّة المستغرقة في بحار القدس، الزاجرين أنفسهم عمّا يبعّدهم عن امتثال أوامر اللّه، يسبّحون الليل و النهار لا يفترون.

و العطف لاختلاف الذوات أو الصفات. و الفاء لترتيب الوجود، كقوله: يا لهف زيّابة للحارث الصابح فالغانم فالآيب. كأنّه قال: الّذي صبح فغنم فآب. فهنا الصفّ كمال، و الزجر تكميل بالمنع عن الشرّ، أو الإشاقة إلى قبول الخير، و التلاوة إفاضته.

أو الفاء للرتبة،

كقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «رحم اللّه المحلّقين فالمقصّرين».

غير أنّه لفضل المتقدّم على المتأخّر، و هذا للعكس، فإنّ الطوائف الصافّات ذوات فضل، و الزاجرات أفضل، و التاليات أبهر فضلا.

و إنّما لم يقل: فالتاليات تلوا، كما قال: «فَالزَّاجِراتِ زَجْراً» لأنّ التالي قد يكون بمعنى التابع، و منه قوله تعالى: وَ الْقَمَرِ إِذا تَلاها «1»، فلمّا كان اللفظ مشتركا بيّنه بما يزيل الإبهام.

و أدغم أبو عمرو و حمزة التاءات فيما يليها لتقاربها، فإنّها من طرف اللسان و أصول الثنايا.

إِنَّ إِلهَكُمْ لَواحِدٌ جواب للقسم. و الفائدة فيه تعظيم المقسم به، و تأكيد المقسم عليه، لما فيها من الدلالة على توحيده و صفاته العلى.

ثمّ حقّق مضمون المقسم عليه بقوله: رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي: خالقهما و مدبّرهما وَ ما بَيْنَهُما من سائر الأجناس، من الحيوانات و النباتات و الجمادات وَ رَبُّ الْمَشارِقِ فإنّ وجود هذه الأمور و انتظامها على الوجه الأكمل مع إمكان غيره، دليل على وجود الصانع الحكيم و وحدته، على ما مرّ غير مرّة. و «ربّ» بدل

______________________________

(1) الشمس: 2.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 540

من «واحد»، أو خبر ثان، أو خبر محذوف. و المشارق مشارق الكواكب، أو مشارق الشمس في السنة. و هي ثلاثمائة و ستّون مشرقا، تشرق كلّ يوم في واحد،

و بحسبها تختلف المغارب، و لذلك اكتفى بذكرها. مع أنّ الشروق أدلّ على القدرة، و أبلغ في النعمة، و أسبق في الوجود.

إِنَّا زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا القربى بِزِينَةٍ الْكَواكِبِ بزينة هي الكواكب.

و الإضافة بيانيّة، فإنّ الزينة مبهمة. و يؤيّده قراءة حمزة و يعقوب و حفص بتنوين «زينة» و جرّ «الكواكب» على إبدالها منه.

أو بزينة هي للكواكب، كأضوائها و مطالعها و مسايرها و أشكالها المختلفة، كشكل الثريّا و بنات النعش و الجوزا و العقرب و غيرها. أو بأن زيّنّا الكواكب فيها، على إضافة المصدر إلى المفعول، فإنّها كما جاءت اسما كالليقة «1» لما يلاق، جاءت مصدرا كالنسبة. و يؤيّده قراءة أبي بكر بالتنوين و النصب على الأصل.

أو بأن زيّنتها الكواكب، على إضافته إلى الفاعل. و ركوز الثوابت في الكرة الثامنة، و ما عدا القمر من السيّارات في الستّ المتوسّطة بينها و بين السماء الدنيا، إن تحقّق لم يقدح في ذلك، فإنّ أهل الأرض يرونها بأسرها، كجواهر مشرقة متلألئة على سطحها الأزرق بأشكال مختلفة. فتخصيصها بالذكر لاختصاصها بالمشاهدة.

و التزيين عبارة عن تحسين الشي ء، و جعله على صورة تميل إليها النفس.

فاللّه سبحانه زيّن السماء على وجه تمتّع الرائي لها. و في ذلك أعظم النعمة على العباد، مع ما لهم من المنفعة بالتفكير فيها، و الاستدلال بها على صانعها.

وَ حِفْظاً منصوب بإضمار فعله، أي: حفظناها حفظا. أو معطوف على «زينة» باعتبار المعنى. كأنّه قال: إنّا خلقنا الكواكب زينة للسماء و حفظا مِنْ كُلِّ شَيْطانٍ مارِدٍ متمرّد خبيث خال من الخير خارج عن الطاعة برمي الشهب، أي:

______________________________

(1) الليقة: صوفة الدواة، أو إذا بلّت.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 541

حفظناها من دنوّ كلّ شيطان للاستماع، فإنّهم كانوا يسترقون السمع، و يستمعون إلى كلام الملائكة،

و يلقون ذلك إلى ضعفة الجنّ. و كانوا يوسوسون بها في قلوب الكهنة، و يوهمونهم أنّهم يعرفون الغيب. فمنعهم اللّه تعالى عن ذلك.

و قوله: لا يَسَّمَّعُونَ إِلَى الْمَلَإِ الْأَعْلى كلام مبتدأ لبيان حالهم بعد ما حفظ السماء عنهم. و لا يصحّ أن يكون صفة ل «كلّ شيطان» لأنّه يقتضي أن يكون الحفظ من شياطين لا يسمعون أو لا يتسمّعون. و كذلك الاستئناف، لأنّ سائلا لو سأل: لم تحفظ من الشياطين؟ فأجيب: بأنّهم لا يسّمّعون، لم يستقم. و لا أن يكون علّة للحفظ على حذف اللام- كما في: جئتك أن تكرمني- ثمّ حذف «أن» و إهدارها، كقوله: ألا أيّهذا الزاجري أحضر الوغا، فإنّ اجتماع ذلك منكر، و صون الكلام عن مثل ذلك واجب. فبقي أن يكون كلاما منقطعا مبتدأ، اقتصاصا لما عليه حال المسترقة للسمع، و أنّهم لا يقدرون أن يسمعوا إلى كلام الملائكة أو يتسمّعوا.

و الضمير ل «كلّ» باعتبار المعنى.

و تعدية السماع ب «إلى» لتضمّنه معنى الإصغاء، مبالغة لنفيه، و تهويلا لما يمنعهم عن الإصغاء. و يدلّ عليه قراءة حمزة و الكسائي و حفص بالتشديد، من التسمّع، و هو تطلّب السماع.

و الملأ الأعلى عبارة عن الملائكة، لأنّهم يسكنون السماوات. و الإنس و الجنّ هم الملأ الأسفل، لأنّهم سكّان الأرض.

وَ يُقْذَفُونَ مِنْ كُلِّ جانِبٍ من جوانب السماء، إذا قصدوا الصعود إليها للاستماع دُحُوراً نصب على العلّيّة، أي: و يقذفون للدحور «1» وَ لَهُمْ مع ذلك عَذابٌ أي: عذاب آخر واصِبٌ دائم يوم القيامة، أو شديد. يعني: أنّهم في الدنيا مرجومون بالشهب، و قد أعدّ لهم في الآخرة نوع من العذاب دائم غير منقطع.

______________________________

(1) دحره دحورا: طرده، و أبعده، و دفعه.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 542

إِلَّا مَنْ خَطِفَ

الْخَطْفَةَ استثناء من واو «يسمعون». و «من» بدل من الواو، أي: لا يسمع الشياطين إلّا الشيطان الّذي خطف الخطفة. و الخطف: الاختلاس و الاستلاب بسرعة. و المراد: اختلاس كلام الملائكة مسارقة، و لذلك عرّف الخطفة. فَأَتْبَعَهُ أي: تبعه و لحقه شِهابٌ نار مضيئة محرقة، كأنّه كوكب انقضّ ثاقِبٌ مضي ء، كأنّه يثقب الجوّ بضوئه.

و ما قيل: إنّ الشهاب بخار يصعد إلى الأثير فيشتعل، فتخمين. و يمكن أن يقال: إنّ هذا القول لم يناف ذلك، إذ ليس فيه ما يدلّ على أنّه ينقضّ من الفلك، و لا في قوله: وَ لَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَ جَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ «1» لأنّ كلّ شي ء نيّر يحصل في الجوّ العالي فهو مصباح لأهل الأرض و زينة للسماء، من حيث إنّه يرى كأنّه على سطحه. و يحتمل أن يصير الحادث في بعض الأوقات رجما لشيطان يتصعّد إلى قرب الفلك للتسمّع.

و ما روي: أنّ ذلك حدث بميلاد النبيّ، فيحتمل أن يكون المراد كثرة وقوعه، أو مصيره دحورا.

و اختلف في أنّ المرجوم يتأذّى به فيرجع، أو يحترق به؟ لكن قد يصيب الصاعد مرّة و قد لا يصيب، كالموج لراكب السفينة، و لذلك لا يرتعدون عنه رأسا.

و لا يقال: إنّ الشيطان من النار فلا يحترق. لأنّه ليس من النار الصرف، كما أنّ الإنسان ليس من التراب الخالص. مع أنّ النار القويّة إذا استولت على الضعيفة استهلكتها.

[سورة الصافات (37): الآيات 11 الى 26]

فَاسْتَفْتِهِمْ أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمْ مَنْ خَلَقْنا إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ (11) بَلْ عَجِبْتَ وَ يَسْخَرُونَ (12) وَ إِذا ذُكِّرُوا لا يَذْكُرُونَ (13) وَ إِذا رَأَوْا آيَةً يَسْتَسْخِرُونَ (14) وَ قالُوا إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ مُبِينٌ (15)

أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ

إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (16) أَ وَ آباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (17) قُلْ نَعَمْ وَ أَنْتُمْ داخِرُونَ (18) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ (19) وَ قالُوا يا وَيْلَنا هذا يَوْمُ الدِّينِ (20)

هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (21) احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ أَزْواجَهُمْ وَ ما كانُوا يَعْبُدُونَ (22) مِنْ دُونِ اللَّهِ فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ (23) وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ (24) ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ (25)

بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ (26)

______________________________

(1) الملك: 5.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 543

ثمّ خاطب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: فَاسْتَفْتِهِمْ فاستخبرهم و سلهم سؤال تقرير.

و الضمير لمشركي مكّة، أو لبني آدم. أَ هُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أحكم صنعا و أقواه. من قولهم: شديد الخلق، و في خلقه شدّة. أو أصعبه و أشقّه. أَمْ مَنْ خَلَقْنا يعني: ما ذكر من الملائكة، و السماء، و الأرض، و ما بينهما، و المشارق، و الكواكب، و الشهب الثواقب.

و «من» لتغليب العقلاء. و يدلّ عليه ذكر الفاء المعقّبة من بعد عدّ هذه الأشياء.

و قوله: «أَمْ مَنْ خَلَقْنا» مطلقا من غير تقييد بالبيان، اكتفاء ببيان ما تقدّمه. كأنّه قال:

خلقنا كذا و كذا من عجائب الخلق و بدائعه، فاستفتهم أهم أشدّ خلقا أم الّذي خلقناه من ذلك؟ و قوله: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِنْ طِينٍ لازِبٍ فإنّه الفارق بينهم و بينها، لا بينهم و بين من قبلهم، كعاد و ثمود. و لأنّ المراد إثبات المعاد، و ردّ استحالتهم إيّاه. و الأمر

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 544

فيه بالإضافة إليهم و إلى من قبلهم سواء، فإنّ من هان عليه خلق هذه الخلائق العظيمة، و لم يصعب عليه اختراعها، كان خلق جنس البشر من طين لازب- أي:

لازم، لاصق عليه- أهون و أيسر.

و تقريره:

أنّ استحالة ذلك إمّا لعدم قابليّة المادّة، و مادّتهم الأصليّة هي الطين اللازب غير الموصوف بالصلابة و القوّة، الحاصل من ضمّ الجزء المائي إلى الجزء الأرضي، و هما باقيان قابلان للانضمام بعد. و قد علموا أنّ الإنسان الأوّل إنّما تولّد منه، إمّا لاعترافهم بحدوث العالم، أو بقصّة آدم، و شاهدوا تولّد كثير من الحيوانات من الطين بلا توسّط مواقعه، فلزمهم أن يجوّزوا إعادتهم كذلك. و إمّا لعدم قدرة الفاعل، فإنّ من قدر على خلق هذه الأشياء قدر على ما لا يعتدّ به بالإضافة إليها، فإنّه بدأهم أوّلا من الطين السخيف الضعيف، و قدرته ذاتيّة لا تتغيّر.

بَلْ عَجِبْتَ من قدرة اللّه على هذه الخلائق العظيمة و إنكارهم للبعث وَ يَسْخَرُونَ من تعجّبك و تقريرك للبعث.

و قرأ حمزة و الكسائي بضمّ التاء، أي: بلغ كمال قدرتي و كثرة خلائقي بحيث إنّي تعجّبت منها، و هؤلاء لجهلهم يسخرون منها. أو عجبت من أن ينكر البعث ممّن هذه أفعاله، و هم يسخرون ممّن يجوّزه. و العجب من اللّه إمّا على الفرض و التخييل، أو على معنى الاستعظام اللازم له، فإنّه روعة تعتري الإنسان عند استعظامه الشي ء، و اللّه عزّ و جلّ لا يجوز عليه الروعة. و بهذا المعنى ما ورد في الحديث من إضافة العجب إلى اللّه، حيث

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «عجب ربّكم من شابّ ليس له صبوة» «1».

و قيل: إنّه مقدّر بالقول، أي: قل يا محمّد: بل عجبت.

وَ إِذا ذُكِّرُوا و إذا وعّظوا بشي ء لا يَذْكُرُونَ لا يتّعظون به. أو إذا ذكر لهم ما يدلّ على صحّة الحشر لا ينتفعون به، لعدم استعمالهم الفكر و التدبّر

______________________________

(1) أي: جهلة الصبيان.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 545

فيه

عنادا و لجاجا.

وَ إِذا رَأَوْا آيَةً معجزة تدلّ على صدق القائل به، كانشقاق القمر و نحوه يَسْتَسْخِرُونَ يبالغون في السخريّة، و يقولون: إنّه سحر. أو يستدعي بعضهم من بعض أن يسخر منها. و قيل: معناه: يعتقدونها سخريّة، كما يقال: استقبحته، أي:

اعتقدته قبيحا، و استحسنته اعتقدته حسنا.

وَ قالُوا إِنْ هذا يعنون ما يرونه إِلَّا سِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر سحريّته أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ أصله: أنبعث إذا متنا؟ فبدّلوا الفعليّة بالاسميّة، و قدّموا الظرف، و كرّروا الهمزة. و المعنى: كيف نبعث بعد ما صرنا ترابا؟ مبالغة في الإنكار، و إشعارا بأنّ البعث مستنكر في نفسه، و حال كونهم ترابا و عظاما أشدّ استنكارا. فهو ابلغ من قراءة ابن عامر بطرح الهمزة الأولى، و قراءة نافع و الكسائي و يعقوب بطرح الثانية.

أَ وَ آباؤُنَا الْأَوَّلُونَ عطف على محلّ «إنّ» و اسمها، أو على الضمير في «مبعوثون» فإنّه مفصول منه بهمزة الاستفهام. و المعنى: أ يبعث أيضا آباؤنا؟ على زيادة الاستبعاد. يعنون: أنّهم أقدم، فبعثهم أبعد و أبطل. و سكّن نافع برواية قالون و ابن عامر الواو، على معنى الترديد.

قُلْ نَعَمْ تبعثون وَ أَنْتُمْ داخِرُونَ صاغرون أشدّ الصغار. و إنّما اكتفى به في الجواب لسبق ما يدلّ على جوازه، و دلالة المعجزة على صدق المخبر عن وقوعه. و قرأ الكسائي وحده: نعم بالكسر. و هو لغة فيه.

فَإِنَّما هِيَ فإنّما البعثة أو قصّة البعث زَجْرَةٌ واحِدَةٌ و هذا جواب شرط مقدّر، تقديره: إذا كان ذلك فما البعثة إلّا زجرة- أي: صيحة- واحدة. و هي النفخة الثانية. من زجر الراعي الغنم: إذا صاح عليها. و أمرها في الإعادة كأمر «كن» في الإبداء. و لذلك رتّب

عليها فَإِذا هُمْ يَنْظُرُونَ فإذا هم قيام من مراقدهم أحياء

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 546

يبصرون، أو ينتظرون ما يفعل بهم.

وَ قالُوا يا وَيْلَنا هو كلمة يقولها القائل عند الوقوع في الهلكة. و مثله يا حسرتا. هذا يَوْمُ الدِّينِ اليوم الّذي نجازى فيه بأعمالنا. و المراد أنّهم قد اعترفوا بالحقّ خاضعين نادمين. و قد تمّ به كلامهم. و قوله: هذا يَوْمُ الْفَصْلِ الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ جواب الملائكة. و قيل: هو أيضا من كلام بعضهم لبعض.

و «الفصل» القضاء. أو الفرق بين المحسن و المسي ء. و ذلك بأن يدخل المطيع الجنّة على وجه الإكرام، و يدخل العاصي النار على وجه الإهانة.

احْشُرُوا الَّذِينَ ظَلَمُوا أمر اللّه الملائكة، أوامر بعضهم لبعض بحشر الظلمة، أي: جمعهم من مقامهم إلى الموقف. و قيل: إلى الجحيم. وَ أَزْواجَهُمْ أي: مع أشباههم. يعني: عابد الصنم مع عبدته، و عابد الكوكب مع عبدته، و كذلك صاحب الزنا يحشر مع أصحاب الزنا، و صاحب الخمر مع أصحاب الخمر، و صاحب السرقة مع أصحاب السرقة، إلى غيرهم. و مثله قوله: وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً «1». أو مع نسائهم اللاتي على دينهم. و قيل: قرناءهم من الشياطين.

وَ ما كانُوا يَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام و غيرها، زيادة في تحسيرهم و تخجيلهم. و هو عامّ مخصوص بقوله: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى «2» الآية.

و فيه دليل على أنّ الّذين ظلموا هم المشركون.

فَاهْدُوهُمْ إِلى صِراطِ الْجَحِيمِ فعرّفوهم طريقها ليسلكوها. و في ذكر الهداية مقام التعريف تهكّم و تقريع. وَ قِفُوهُمْ احبسوهم في الموقف. يقال:

وقفت أنا و وقفت غيري. إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ عن عقائدهم و أعمالهم. و روى أنس بن مالك مرفوعا: أنّهم مسئولون عمّا دعوا إليه من البدع. و

عن أبي سعيد الخدري،

______________________________

(1) الواقعة: 7.

(2) الأنبياء: 101.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 547

عن ابن عبّاس: أنّهم مسئولون عن ولاية عليّ بن أبي طالب. و الواو لا توجب الترتيب. مع جواز أن يكون موقفهم بعد الهدى و التعريف للسؤال.

ما لَكُمْ لا تَناصَرُونَ لا ينصر بعضكم بعضا بالتخليص. و هو توبيخ و تقريع. بَلْ هُمُ الْيَوْمَ مُسْتَسْلِمُونَ منقادون خاضعون، لعجزهم و انسداد الحيل عليهم. و أصل الاستسلام: طلب السلامة. أو يسلم بعضهم بعضا، و يخذله عن عجز، فكلّهم مستسلم غير منتصر.

[سورة الصافات (37): الآيات 27 الى 37]

وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (27) قالُوا إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ (28) قالُوا بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ (29) وَ ما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ (30) فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ (31)

فَأَغْوَيْناكُمْ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ (32) فَإِنَّهُمْ يَوْمَئِذٍ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (33) إِنَّا كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (34) إِنَّهُمْ كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ (35) وَ يَقُولُونَ أَ إِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ (36)

بَلْ جاءَ بِالْحَقِّ وَ صَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ (37)

وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يعني: يقبل الأتباع على المتبوعين، و المتبوعون على الأتباع يَتَساءَلُونَ يسأل بعضهم بعضا للتوبيخ. و لذلك فسّر ب:

يتخاصمون و يتعاتبون. فالغاوون يقولون لمغويهم: لم أغويتمونا؟ و يقول المغوون لهم: لم قبلتم منّا؟

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 548

قالُوا قال الغاوون لمغويهم إِنَّكُمْ كُنْتُمْ تَأْتُونَنا عَنِ الْيَمِينِ عن أقوى الوجوه و أيمنها. أو عن الدين، أو عن الخير. كأنّكم تنفعوننا نفع السانح، فتبعناكم و هلكنا. مستعار من يمين الإنسان الّذي هو أقوى الجانبين و أشرفهما و أنفعهما، و لذلك سمّي يمينا. أو من التيمّن بالسانح، و هو صيد يعرض السالك من جانب يمينه متّصف بالتيمّن، عكس

البروح، فإنّه صيد يعرض من جانب شماله موسوم بالتشاؤم. أو عن القوّة و القهر، فتقسروننا على الضلال. أو عن الحلف، فإنّهم كانوا يحلفون لهم أنّهم على الحقّ.

قالُوا ليس الأمر كما قلتم بَلْ لَمْ تَكُونُوا مُؤْمِنِينَ بل أبيتم أنتم الإيمان، و اخترتم الكفر و الطغيان. فهذا جواب الرؤساء بمنع إضلالهم إيّاهم، و ثبوت ضلالتهم في أنفسهم.

وَ ما كانَ لَنا عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ من قدرة و قوّة، فنجبركم على الكفر و الطغيان بَلْ كُنْتُمْ قَوْماً طاغِينَ مختارين الطغيان، باغين تجاوز الحدّ إلى أفحش الظلم و أعظم المعاصي، فلا تسقطوا اللوم عن أنفسكم، فإنّه لازم لكم و لاحق بكم.

ثمّ أخبروهم أنّ ضلال الفريقين و وقوعهم في العذاب كان أمرا مقضيّا لا محيص لهم عنه، و أنّ غاية ما فعلوا بهم أنّهم دعوهم إلى الغيّ، لأنّهم كانوا على الغيّ، فأحبّوا أن يكونوا مثلهم فَحَقَّ عَلَيْنا قَوْلُ رَبِّنا إِنَّا لَذائِقُونَ أي: لزمنا قول اللّه و وعيده بأنّا ذائقون لعذابه لا محالة، لعلمه بحالنا و استحقاقنا العقوبة.

فَأَغْوَيْناكُمْ أي: أضللناكم عن الحقّ، و دعوناكم إلى الغيّ إِنَّا كُنَّا غاوِينَ داخلين في الضلالة و الغواية، فأردنا إغواءكم لتكونوا أمثالنا فَإِنَّهُمْ فإنّ الأتباع و المتبوعين جميعا يَوْمَئِذٍ في ذلك اليوم فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ كما كانوا مشتركين في الغواية، و التخاصم لا ينفعهم.

إِنَّا كَذلِكَ مثل ذلك الفعل نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ بكلّ مشرك، لقوله: إِنَّهُمْ

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 549

كانُوا إِذا قِيلَ لَهُمْ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ يَسْتَكْبِرُونَ عن قبول كلمة التوحيد، أو على من يدعوهم إليه وَ يَقُولُونَ أَ إِنَّا لَتارِكُوا آلِهَتِنا لِشاعِرٍ مَجْنُونٍ يعنون محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فردّ اللّه عليهم هذا القول بقوله: بَلْ جاءَ بِالْحَقِ أي: ليس بشاعر و لا

مجنون، و لكنّه أتى بالتوحيد الّذي هو حقّ قام به البرهان وَ صَدَّقَ الْمُرْسَلِينَ بل أتى بمثل ما أتوا به من الدعاء إلى التوحيد.

[سورة الصافات (37): الآيات 38 الى 49]

إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ (38) وَ ما تُجْزَوْنَ إِلاَّ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (39) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (40) أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ (41) فَواكِهُ وَ هُمْ مُكْرَمُونَ (42)

فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (43) عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ (44) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (45) بَيْضاءَ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ (46) لا فِيها غَوْلٌ وَ لا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ (47)

وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ عِينٌ (48) كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ (49)

ثمّ خاطب الكفّار فقال: إِنَّكُمْ لَذائِقُوا الْعَذابِ الْأَلِيمِ بالإشراك و تكذيب الرسل. و لمّا كان لقائل أن يقول: كيف يليق بالرحيم الكريم المتعالي عن النفع و الضرّ أن يعذّب عبيده؟ فقال: وَ ما تُجْزَوْنَ إِلَّا ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي: مثل ما عملتم و على قدره إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ الّذين أخلصوا العبادة للّه، و أطاعوه في كلّ ما أمرهم به، فإنّهم لا يذوقون العذاب، و إنّما ينالون الثواب. و هذا استثناء منقطع، إلّا أن يكون الضمير في «تجزون» لجميع المكلّفين، فيكون استثناؤهم عنه

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 550

زبدة التفاسير ج 5 587

باعتبار المماثلة، فإنّ ثوابهم مضاعف، و المنقطع أيضا بهذا الاعتبار.

ثمّ بيّن ما أعدّه لعباده المخلصين من أنواع النعم، فقال: أُولئِكَ لَهُمْ رِزْقٌ مَعْلُومٌ منعوت بخصائص خلق عليها، من طيب طعم، و رائحة، و حسن منظر، و تمحّض لذّة. و لذلك فسّره بقوله: فَواكِهُ فإنّ الفاكهة ما يقصد للتلذّذ دون التغذّي لحفظ الصحّة، و القوت بالعكس. و أهل الجنّة لمّا كانت أجسامهم محكمة، مخلوقة للأبد، محفوظة عن التحلّل، كانت أرزاقهم فواكه خالصة. و قيل: المراد معلوم الوقت، كقوله:

وَ لَهُمْ رِزْقُهُمْ فِيها بُكْرَةً وَ عَشِيًّا «1». و عن قتادة: الرزق المعلوم الجنّة.

وَ هُمْ مُكْرَمُونَ معظّمون مبجّلون في نيله، بأن يصل إليهم من غير تعب و سؤال كما عليه رزق الدنيا. و هذا ما قاله العلماء في حدّ الثواب: إنّه النفع المستحقّ المقارن للتعظيم و الإجلال. فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ في جنّات ليس فيها إلّا النعيم.

و هو ظرف أو حال من المستكن في «مكرمون». عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ يستمتع بعضهم بالنظر إلى وجوه بعض، و هو أتم السرور و الأنس، و لا ينظر بعضهم إلى قفا بعض.

يُطافُ عَلَيْهِمْ بِكَأْسٍ بإناء فيه خمر. أو بخمر، فإنّه يقال للزجاجة فيها الخمر: كأس. و تسمّى الخمر نفسها أيضا كأسا. مِنْ مَعِينٍ من شراب معين، أي جار على ظاهر وجه الأرض، أو خارج من العيون الظاهرة بَيْضاءَ عن الحسن: خمر الجنّة أشدّ بياضا من اللبن لَذَّةٍ لذيذة لِلشَّارِبِينَ هما أيضا صفتان ل «كأس». و وصفها ب «لذّة» إمّا للمبالغة، كأنّها نفس اللذّة و عينها. أو لأنّها تأنيث لذّ، بمعنى لذيذ. يقال: لذّ الشي ء فهو لذّ و لذيذ. و وزنه: فعل، كقولك: رجل

______________________________

(1) مريم: 62.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 551

طبّ «1». و قال في وصف النوم:

و لذّ كطعم الصّرخديّ تركته بأرض العدى من خشية الحدثان «2»

لا فِيها غَوْلٌ غائلة، كالخمار «3» و المرارة، كما في خمر الدنيا. من: غاله يغوله إذا أفسده. و منه الغول في تكاذيب العرب. و في أمثالهم: الغضب غول الحلم.

وَ لا هُمْ عَنْها يُنْزَفُونَ يسكرون. من: نزف الشارب إذا ذهب عقله. و يقال للسكران: نزيف و منزوف. أفرده بالنفي، و عطفه على ما يعمّه، لأنّه من عظم فساده كأنّه جنس برأسه.

و قرأ حمزة و الكسائي بكسر الزاي،

و تابعهما عاصم على البناء للفاعل في الواقعة «4». من: أنزف الشارب، إذا نفد عقله أو شرابه. و معناه: صار ذا نزف. و أصله للنفاد. يقال: نزف المطعون إذا خرج دمه كلّه. و نزحت البركة حتّى نزفتها، إذا لم تترك فيها ماء.

و عن ابن عبّاس: معناه: و لا هم فيها يبولون. ثمّ قال: و في الخمر أربع خصال: السكر، و الصداع، و القي ء، و البول. فنزّه اللّه سبحانه خمر الجنّة عن هذه الخصال.

وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ قصرن أبصارهنّ على أزواجهنّ، فلا يرون غيرهم بسبب حبّهنّ إيّاهم. و قيل: لا يفتحن أعينهنّ دلالا و غنجا عِينٌ واسعات العيون. جمع عيناء. كَأَنَّهُنَّ بَيْضٌ مَكْنُونٌ شبّههنّ ببيض النعام- الّذي تكنّه

______________________________

(1) أي: عالم حاذق ماهر بعمله.

(2) يقول: و ربّ شي ء لذيذ- يعني: النوم- طعمه كطعم الشراب الطيّب، تركته بأرض الأعداء خوف نزول المكاره بي. و الصرخد: موضع من الشام ينسب إليه الشراب.

(3) الخمار: ألم الخمر و صداعها. و المرارة مصدر: مرّ، أي: صار مرّا.

(4) الواقعة: 19.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 552

بالريش من الريح و الغبار- في الصفاء و البياض المخلوط بأدنى صفرة، فإنّه أحسن ألوان الأبدان.

[سورة الصافات (37): الآيات 50 الى 61]

فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (50) قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ (51) يَقُولُ أَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ (52) أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَدِينُونَ (53) قالَ هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ (54)

فَاطَّلَعَ فَرَآهُ فِي سَواءِ الْجَحِيمِ (55) قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ (56) وَ لَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ (57) أَ فَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ (58) إِلاَّ مَوْتَتَنَا الْأُولى وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ (59)

إِنَّ هذا لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (60) لِمِثْلِ هذا فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ (61)

فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ

يَتَساءَلُونَ معطوف على «يُطافُ عَلَيْهِمْ».

و المعنى: يشربون فيتحادثون على الشراب كعادات الشّراب. و التعبير عنه بالماضي للتأكيد فيه، على عادة اللّه تعالى في إخباره. و المعنى: فيقبل بعض أهل الجنّة على بعض، يتساءلون عن المعارف و الفضائل، و ما جرى لهم و عليهم في الدنيا.

قالَ قائِلٌ مِنْهُمْ من أهل الجنّة إِنِّي كانَ لِي قَرِينٌ جليس في الدنيا يَقُولُ على وجه الإنكار عليّ و التهجين لاعتقادي و عملي أَ إِنَّكَ لَمِنَ الْمُصَدِّقِينَ أي: يوبّخني على التصديق بالبعث أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَدِينُونَ لمجزيّون. من الدين بمعنى الجزاء. يقال: كما تدين تدان. أو لمسوسون

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 553

مربوبون من: دانه أي: ساسه. و في الحديث: «الكيّس من دان نفسه، و عمل لما بعد الموت».

قالَ أي: ذلك القائل هَلْ أَنْتُمْ مُطَّلِعُونَ إلى أهل النار لأريكم ذلك القرين. يقال: اطّلع على كذا إذا أشرف عليه. و قيل: إنّ في الجنّة كوى ينظر أهلها منها إلى أهل النار. و قيل: القائل هو اللّه أو بعض الملائكة، يقولون لهم: هل تحبّون أن تطّلعوا على أهل النار، لأريكم ذلك القرين، فتعلموا أين منزلتكم من منزلتهم؟

فَاطَّلَعَ عليهم فَرَآهُ أي: قرينه فِي سَواءِ الْجَحِيمِ وسطه قالَ تَاللَّهِ إِنْ كِدْتَ لَتُرْدِينِ لتهلكني بالإغواء. من الإرداء بمعنى الإهلاك. و «إن» هي المخفّفة، و اللام هي الفارقة، أي: إنّك كدت تهلكني بما قلته لي و دعوتني إليه، حتّى يكون هلاكي كهلاك المتردّي من شاهق. و منه قوله: وَ ما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى «1» أي: تردّى في النار. وَ لَوْ لا نِعْمَةُ رَبِّي باللطف و العصمة و التوفيق لَكُنْتُ مِنَ الْمُحْضَرِينَ من الّذين أحضروا العذاب معك في النار.

ثمّ يقول

على وجه التقرير و التحقيق: أَ فَما نَحْنُ بِمَيِّتِينَ عطفا على محذوف، أي: أ نحن مخلّدون منعّمون فما نحن بميّتين؟ أي: بمن شأنه الموت إِلَّا مَوْتَتَنَا الْأُولى الّتي كانت في الدنيا. و هي متناولة لما في القبر بعد الإحياء للسؤال.

و نصبها على المصدر من اسم الفاعل. و قيل: على الاستثناء المنقطع. وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ كالكفّار. و ذلك تمام كلامه لقرينه تقريعا له. أو معاودة إلى مكالمة جلسائه، تحدّثا بنعمة اللّه. أو تبجّحا بها و تعجّبا منها، و إظهارا للسرور بدوام نعم الجنّة، و تعريضا للقرين بالتوبيخ.

إِنَّ هذا أي: هذا الأمر الّذي نحن فيه، من نعيم الجنّة و الخلود فيها، و الأمن من العقاب لَهُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ فإنّه يقول ذلك أيضا سرورا و فرحا

______________________________

(1) الليل: 11.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 554

مضاعفا. و هذا كما أنّ الرجل يعطى المال الكثير، فيقول مستعجبا: أكلّ هذا المال لي؟ و هو يعلم أنّ ذلك كلّه له. و يحتمل أن يكون ذلك من كلام اللّه لتقرير قوله، و الإشارة إلى ما هم عليه من النعمة و الخلود و الأمن من العذاب.

لِمِثْلِ هذا أي: لنيل مثل هذا الفوز و الفلاح فَلْيَعْمَلِ الْعامِلُونَ فيجب أن يعمل العاملون في دار التكليف، لا للحظوظ الدنيويّة المشوبة بالآلام السريعة الانصرام. و هو أيضا يحتمل أن يكون من كلامهم و من كلام اللّه.

[سورة الصافات (37): الآيات 62 الى 74]

أَ ذلِكَ خَيْرٌ نُزُلاً أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ (62) إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً لِلظَّالِمِينَ (63) إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ (64) طَلْعُها كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ (65) فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (66)

ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ (67) ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ لَإِلَى الْجَحِيمِ (68) إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ ضالِّينَ (69) فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ

(70) وَ لَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ (71)

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ (72) فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ (73) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (74)

ثمّ عاد سبحانه إلى ذكر الرزق المعلوم، فقال: أَ ذلِكَ أي: ذلك الرزق المعلوم في الجنّة خَيْرٌ نُزُلًا أَمْ شَجَرَةُ الزَّقُّومِ أي: شجرة ثمرها نزل أهل النار.

و الهمزة لإنكار التسوية بينهما و توبيخ الكفرة، فإنّ من المعلوم أن لا خير في شجر الزّقّوم. فلمّا كان المؤمنون اختاروا ما أدّى إلى الرزق المعلوم، و الكافرون اختاروا

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 555

ما أدّى إلى شجرة الزقّوم، قيل لهم ذلك توبيخا على سوء اختيارهم. و هذا كما يقول المولى لعبده: إن فعلت كذا أكرمتك، و إن فعلت كذا ضربتك، أ هذا خير أم ذاك؟ و إن لم يكن في الضرب خير.

و انتصاب «نزلا» على التمييز أو الحال. و في ذكره دلالة على أنّ ما ذكر من النعيم لأهل الجنّة بمنزلة ما يقام للنازل، و لهم ما وراء ذلك ما تقصر عنه الأفهام.

و كذلك الزقّوم لأهل النار. و هو اسم شجرة صغيرة الورق، ذفرة «1»، مرّة، متكرّه جدّا، تكون بتهامة. من قولهم: تزقّم هذا الطعام، إذا تناوله على تكرّه و مشقّة شديدة.

روي: أنّ قريشا لمّا سمعت هذه الآية قالت: ما نعرف هذه الشجرة. فقال ابن الزبعرى: الزقّوم بكلام البربر التمر و الزبد. و في رواية: بلغة اليمن. فقال أبو جهل لجاريته: زقّمينا. فأتته الجارية بتمر و زبد. فقال لأصحابه: تزقّموا بهذا الّذي يخوّفكم به محمّد، فيزعم أنّ النار تنبت الشجرة، و النار تحرق الشجرة. فأنزل اللّه سبحانه:

إِنَّا جَعَلْناها فِتْنَةً ابتلاء في الدنيا لِلظَّالِمِينَ بأن كذّبوها، فقالوا: كيف ذلك و النار تحرق الشجر؟! و لم يعلموا أنّ من

قدر على خلق ما يعيش في النار و يلتذّ بها، فهو أقدر على خلق الشجر في النار و حفظه من الإحراق. و قيل: معناه:

فتنة و عذابا لهم في الآخرة.

إِنَّها شَجَرَةٌ تَخْرُجُ فِي أَصْلِ الْجَحِيمِ أي: منبتها في قعر جهنّم، و أغصانها ترتفع إلى دركاتها طَلْعُها حملها. مستعار من طلع التمر، فإنّ الطلع إنّما يكون للنخلة، فاستعير له، لمشاركته إيّاه في الشكل، أو لطلوعه من الشجر. كَأَنَّهُ رُؤُسُ الشَّياطِينِ في تناهي القبح و الهول، فإنّ الشيطان مكروه مستقبح في طباع الناس، لاعتقادهم أنّه شرّ محض لا يخلطه خير. فيقولون في القبيح الصورة: كأنّه وجه

______________________________

(1) أي: خبيثة الرائحة.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 556

شيطان، كأنّه رأس شيطان. كما أنّهم اعتقدوا في الملك أنّه خير محض لا شرّ فيه، فشبّهوا به الصور الحسنة. قال اللّه تعالى: ما هذا بَشَراً إِنْ هذا إِلَّا مَلَكٌ كَرِيمٌ «1». و هو تشبيه بالمتخيّل. و قيل: الشياطين حيّات هائلة قبيحة المنظر جدّا، لها أعراف «2»، و لعلّها سمّيت بها لذلك.

فَإِنَّهُمْ لَآكِلُونَ مِنْها من الشجرة، أو من طلعها فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ لما يغلبهم من الجوع الشديد، أو يقسرون على أكلها، فيكون بابا من العذاب.

ثُمَّ إِنَّ لَهُمْ عَلَيْها أي: بعد ما شبعوا منها، و غلبهم العطش فاستسقوا لَشَوْباً مِنْ حَمِيمٍ لشرابا من غسّاق، أو صديد مشوبا بماء حميم يقطع أمعاءهم.

و حرف التراخي للإشعار بأنّهم يملؤن البطون من شجر الزقّوم، و هو حارّ يحرق بطونهم، و يعطشون به، فلا يسقون إلّا بعد أن يملؤن البطون من الزقّوم المرّ، تعذيبا بذلك العطش، ثمّ يسقون ما هو أحرّ، و هو الشراب المشوب بالحميم.

روي عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنّ اللّه يجوّعهم حتّى ينسوا عذاب النار من

شدّة الجوع، فيصرخون إلى مالك، فيستسقون فيسقون شربة من الماء الحارّ الّذي بلغ نهايته في الحرارة، فإذا قرّبوها من وجوههم شوت وجوههم. فذلك قوله: يَشْوِي الْوُجُوهَ «3».

فإذا وصل إلى بطونهم صهر ما في بطونهم، كما قال سبحانه: يُصْهَرُ «4» بِهِ ما فِي بُطُونِهِمْ وَ الْجُلُودُ «5» فذلك طعامهم و شرابهم.

ثُمَّ إِنَّ مَرْجِعَهُمْ مصيرهم لَإِلَى الْجَحِيمِ إلى دركاتها أو إلى نفسها، فإنّ

______________________________

(1) يوسف: 31.

(2) الأعراف جمع العرف، و هو الشعر النابت في محدّب رقبة الفرس، و لحمة مستطيلة في أعلى رأس الديك.

(3) الكهف: 29.

(4) في هامش النسخة الخطيّة: «يصهر: يذاب. من الصهر، و هو إذابة الشي ء. منه».

(5) الحجّ: 20.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 557

الزقّوم و الحميم نزل يقدّم إليهم قبل دخولها، فيوردون إلى الحميم كما تورد الإبل إلى الماء، ثمّ يردّون إلى الجحيم.

ثمّ علّل استحقاقهم تلك الشدائد بمبادرتهم إلى تقليد الآباء في الضلال من غير توقّف على نظر و بحث، فقال: إِنَّهُمْ أَلْفَوْا آباءَهُمْ صادفوهم ضالِّينَ ذاهبين عن الحقّ و الدين فَهُمْ عَلى آثارِهِمْ يُهْرَعُونَ يسرعون جدّا، فإنّ الإهراع الإسراع الشديد. كأنّهم يزعجون على الإسراع على آثارهم، من غير استدلال على جواز هذا التقليد. و مزعجهم عليه هو الشيطان.

وَ لَقَدْ ضَلَّ قَبْلَهُمْ قبل قومك أَكْثَرُ الْأَوَّلِينَ و فيه دلالة على أنّ أهل الحقّ في كلّ زمان كانوا أقلّ من أهل البطلان وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا فِيهِمْ مُنْذِرِينَ أنبياء أنذروهم من العواقب فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُنْذَرِينَ من المكذّبين المعاندين الحقّ، بأن أهلكناهم بشدّة العقاب العاجل، و شدّة العذاب الآجل إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ إلّا الّذين تنبّهوا بإنذارهم، فأخلصوا دينهم للّه. و الخطاب مع الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و المقصود خطاب قومه، فإنّهم سمعوا

أيضا أخبارهم و رأوا آثارهم.

[سورة الصافات (37): الآيات 75 الى 82]

وَ لَقَدْ نادانا نُوحٌ فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ (75) وَ نَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ (76) وَ جَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ (77) وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (78) سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ (79)

إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (80) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (81) ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ (82)

و لمّا ذكر إرسال المنذرين في الأمم الخالية، و سوء عاقبة المنذرين إجمالا، أتبع تفصيلا ذكر نوح و دعائه حين أيس من قومه، ثمّ ذكر سائر مشاهير الرسل مع

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 558

أممهم، تحذيرا عن سلوك أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مثل طريقتهم، لئلّا يعاقبوا بمثل عقوبتهم، فقال:

وَ لَقَدْ نادانا نُوحٌ دعانا بعد ما يئس من إيمان قومه لننصره عليهم. و ذلك قوله: أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ «1» فَلَنِعْمَ الْمُجِيبُونَ أي: فأجبناه أحسن الإجابة، بأن خلّصناه من أذى قومه بإهلاكهم، فو اللّه لنعم المجيبون نحن. فحذف منها ما حذف، لقيام ما يدلّ عليه. و الجمع دليل العظمة و الكبرياء.

وَ نَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ من الغرق، أو أذى قومه. و الكرب كلّ غمّ يصل حرّه إلى الصدر. و أصل النجاة من النجوة للمكان المرتفع، فهي الرفع من الهلاك. و أهله هم الّذين نجوا معه في السفينة.

وَ جَعَلْنا ذُرِّيَّتَهُ هُمُ الْباقِينَ إذ هلك من عداهم، و بقوا متناسلين إلى يوم القيامة. روي: أنّه مات كلّ من كان معه في السفينة غير بنيه و أزواجهم. و عن قتادة:

الناس كلّهم من ذرّيّة نوح. و كان لنوح عليه السّلام ثلاثة أولاد: سام، و حام، و يافث. فسام:

أبو العرب، و فارس، و الروم. و حام: أبو السودان من المشرق إلى المغرب. و يافث:

أبو الترك، و

يأجوج و مأجوج.

وَ تَرَكْنا و أثبتنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ من الأمم، ذكرا جميلا و ثناء جليلا.

فحذف مفعول «تركنا». ثمّ فسّره بقوله: سَلامٌ عَلى نُوحٍ فِي الْعالَمِينَ و هذا كلام جي ء به على الحكاية. و المعنى: يسلّمون عليه تسليما. قيل: هو سلام من اللّه عليه، متعلّق بالجارّ و المجرور. و معناه: الدعاء بثبوت هذه التحيّة في الملائكة و الثقلين جميعا إلى آخر الدهر.

ثمّ علّل ما فعل بنوح من التكرّم بقوله: إِنَّا كَذلِكَ مثل ذلك الجزاء الحسن و الذكر الجميل نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي: نجزي ذلك على إحسانه.

______________________________

(1) القمر: 10.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 559

ثمّ بيّن إحسانه بقوله: إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ يعني: إحسانه بأنّه كان عبدا من عباده المؤمنين. و فيه دلالة على إظهار جلالة قدر الإيمان و أصالة أمره.

ثُمَّ أَغْرَقْنَا الْآخَرِينَ يعني: كفّار قومه.

[سورة الصافات (37): الآيات 83 الى 101]

وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ لَإِبْراهِيمَ (83) إِذْ جاءَ رَبَّهُ بِقَلْبٍ سَلِيمٍ (84) إِذْ قالَ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ (85) أَ إِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ (86) فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ (87)

فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ (88) فَقالَ إِنِّي سَقِيمٌ (89) فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ (90) فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فَقالَ أَ لا تَأْكُلُونَ (91) ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ (92)

فَراغَ عَلَيْهِمْ ضَرْباً بِالْيَمِينِ (93) فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ يَزِفُّونَ (94) قالَ أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ (95) وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ (96) قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ (97)

فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ (98) وَ قالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي سَيَهْدِينِ (99) رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ (100) فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ (101)

ثمّ أتبعه سبحانه قصّة إبراهيم عليه السّلام، فقال: وَ إِنَّ مِنْ شِيعَتِهِ ممّن شايعه في الإيمان و أصول الشريعة لَإِبْراهِيمَ و إن اختلفت فروع

شرائعهما. و لا يبعد اتّفاق شرعهما في الفروع، أو غالبا. أو شايعه على التصلّب في دين اللّه و مصابرة

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 560

المكذّبين. و كان بينهما ألفان و ستّمائة و أربعون سنة، و بينهما نبيّان: هود و صالح.

إِذْ جاءَ رَبَّهُ متعلّق بما في الشيعة من معنى المشايعة، أي: ممّن شايعه في دين الإسلام حين جاء ربّه بقلب سليم لإبراهيم عليه السّلام. أو بمحذوف هو: اذكر.

بِقَلْبٍ سَلِيمٍ خالص من الشرك، بري ء من المعاصي و الغلّ و الغشّ. على ذلك عاش، و عليه مات. و

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «بقلب سليم من كلّ ما سوى اللّه تعالى، لم يتعلّق بشي ء غيره».

و قيل: حزين، من السليم بمعنى اللديغ. و معنى المجي ء به ربّه إخلاصه له، كأنّه جاء به متحفا إيّاه.

إِذْ قالَ لِأَبِيهِ لمربّيه الّذي هو بمنزلة أبيه وَ قَوْمِهِ ما ذا تَعْبُدُونَ بدل من الاولى. أو ظرف ل «جاء» أو ل «سليم»، أي: حين رآهم يعبدون الأصنام من دون اللّه عزّ و جلّ، قال على وجه التهجين لفعالهم و التقريع لهم، أي: أيّ شي ء تعبدون؟

أَ إِفْكاً آلِهَةً دُونَ اللَّهِ تُرِيدُونَ أي: أ تريدون آلهة دون اللّه إفكا؟ فقدّم المفعول للعناية، ثمّ المفعول له، لأنّ الأهمّ أن يقرّر أنّهم على الباطل، و مبنى أمرهم على الإفك. و يجوز أن يكون «إفكا» مفعولا به، و «آلهة» بدلا منه، على أنّها إفك في نفسها للمبالغة. و الإفك هو أشنع الكذب و أفظعه. و أصله قلب الشي ء عن جهته الّتي هي له، فلذلك كان الكذب إفكا.

و إنّما قال: «آلهة» على اعتقاد المشركين، و توهّمهم الفاسد في إلهيّة الأصنام، لمّا اعتقدوا أنّها تستحقّ العبادة. ثمّ أكّد التقريع بقوله: «دون اللّه». أو المراد

بها عبادتها، أي: أ تريدون عبادة آلهة دون عبادة الرحمان؟ فحذف المضاف، و أقام المضاف إليه مقامه، لأنّ الإرادة لا يصحّ تعلّقها إلّا بما يصحّ حدوثه، و الأجسام ممّا لا يصحّ أن تراد. و يجوز أن يكون «إفكا» حالا. يعني: أ تريدون آلهة من دون اللّه آفكين؟

فَما ظَنُّكُمْ بِرَبِّ الْعالَمِينَ بمن هو حقيق بالعبادة، لكونه ربّا للعالمين، حتّى

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 561

تركتم عبادته، أو أشركتم به غيره، أو أمنتم من عذابه. و قيل: معناه: ما تظنّون بربّكم أنّه على أيّ صفة و من أيّ جنس من أجناس الأشياء حين شبّهتم به هذه الأصنام. و فيه إشارة إلى أنّه لا يشبه شيئا. و المراد إنكار ما يوجب ظنّا- فضلا عن قطع- يصدّ عن عبادته، أو يجوّز الإشراك به، أو يقتضي الأمن من عقابه، على طريقة الإلزام. و هو كالحجّة على ما قبله.

فَنَظَرَ نَظْرَةً فِي النُّجُومِ في مواقعها و اتّصالها، أو في علمها، أو في كتابها، كنظرهم، لأنّهم كانوا يتعاطون علم النجوم، فأوهمهم أنّه استدلّ بأمارة في علم النجوم على أنّه سيسقم، لئلّا يخرجوه إلى معيّدهم حين سألوه أن يعيّد معهم فَقالَ عند ذلك إِنِّي سَقِيمٌ أي: مشارف للسقم. فتركوه ظنّا منهم أنّ نجمه يدلّ على سقمه.

و قيل: أراد أنّه عليه السّلام نظر في النجوم، فاستدلّ بها على وقت حمّى الغبّ «1» كانت تعتاده، فقال: إنّي سقيم. أراد أنّه قد حضر وقت علّته و زمان نوبتها. كأنّه قال: إنّي سأسقم لا محالة، و حان الوقت الّذي تعتريني فيه الحمّى. و قد يسمّى المشارف للشي ء باسم الداخل فيه، قال سبحانه: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «2». و لم يكن نظره حقيقة في النجوم على حسب ما ينظره

المنجّمون طلبا للأحكام.

و يجوز أنّ اللّه أعلمه بالوحي أنّه سيسقمه في وقت مستقبل، و جعل العلامة على ذلك طلوع نجم على وجه مخصوص، أو اتّصاله بآخر على وجه مخصوص، فلمّا راى إبراهيم تلك الأمارة قال: «إنّي سقيم» تصديقا بما أخبره اللّه تعالى. أو أراد: أنّي سقيم القلب لكفركم، أو خارج المزاج عن المزاج المعتدل خروجا قلّ من يخلو منه.

______________________________

(1) حمّى الغبّ: هي التي تنوب يوما بعد يوم.

(2) الزمر: 30.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 562

و ما

رواه العيّاشي بإسناده عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام أنّهما قالا: «و اللّه ما كان سقيما، و ما كذب».

فيمكن أن يحمل على أحد الوجوه الّتي ذكرناه. و يمكن أن يكون على وجه التعريض، بمعنى أنّ كلّ من كتب عليه الموت هو سقيم و إن لم يكن به سقم في الحال.

و ما روي أنّ إبراهيم عليه السّلام كذب ثلاث كذبات: قوله: إِنِّي سَقِيمٌ و قوله:

بَلْ فَعَلَهُ كَبِيرُهُمْ هذا «1». و قوله في سارة: إنّها أختي. فيمكن أن يكون محمولا على المعاريض، أي: سأسقم، و فعله كبيرهم على ما ذكرناه في موضعه، و سارة أخته في الدين. و

قد ورد في الخبر: إنّ في المعاريض لمندوحة عن الكذب.

و المعاريض: أن يقول الرجل شيئا يقصد به غيره، فيفهم منه غير ما يقصده. و لا يكون ذلك كذبا، فإنّ الكذب قبيح لا يجوز على الأنبياء، لأنّه يرفع الثقة بقولهم، فجلّ أمناء اللّه تعالى و أصفياؤه عن ذلك.

و روي: أنّ أكثر أسقامهم الطاعون، و كانوا يخافون سرايته منه إليهم، فهربوا منه إلى عيدهم، و تركوه في بيت الأصنام ليس معه أحد، ففعل بالأصنام ما فعل، كما قال عزّ اسمه: فَتَوَلَّوْا عَنْهُ مُدْبِرِينَ هاربين مخافة العدوى

فَراغَ إِلى آلِهَتِهِمْ فذهب إليها في خفية. من روغة الثعلب. و أصله الميل بحيلة. فَقالَ أي: للأصنام استهزاء أَ لا تَأْكُلُونَ يعني: الطعام الّذي كان عندهم ما لَكُمْ لا تَنْطِقُونَ بجوابي. و فيه تهجين بعبدتها، و انحطاطها عن حالهم.

فَراغَ عَلَيْهِمْ فمال عليهم مستخفيا. و التعدية ب «على» للاستعلاء و إيصال المكروه. ضَرْباً بِالْيَمِينِ مصدر ل «راغ عليهم» لأنّه في معنى: ضربهم. أو لمضمر تقديره: فراغ عليهم يضربهم ضربا. و تقييده باليمين الّذي هو أقوى الجارحين و أشدّهما للدلالة على قوّته، فإنّ قوّة الآلة تستدعي قوّة الفعل. و عن

______________________________

(1) الأنبياء: 63.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 563

الفرّاء: اليمين بمعنى القوّة و المتانة. و قيل: معناه: بسبب الحلف. و هو قوله: وَ تَاللَّهِ لَأَكِيدَنَّ أَصْنامَكُمْ «1».

فَأَقْبَلُوا إِلَيْهِ إلى إبراهيم بعد ما رجعوا من عيدهم، فرأوا أصنامهم مكسّرة، و بحثوا عن كاسرها، فظنّوا أنّه كاسرها، فقالوا: أَ أَنْتَ فَعَلْتَ هذا بِآلِهَتِنا يا إِبْراهِيمُ «2» يَزِفُّونَ يسرعون. من زفيف النعام. و قرأ حمزة على بناء المفعول، من أزفّ إذا دخل في الزفيف، أو من أزفّه إذا حمله على الزفيف، أي: يحمل بعضهم بعضا على الزفيف.

قالَ على وجه الحجاج عليهم أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ ما تنحتونه من الأصنام. و الهمزة للإنكار و التوبيخ، أي: كيف يصحّ أن يعبد الإنسان ما يعمله؟

وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ أي: و مادّة ما تعملونه، فإنّ جوهرها بخلقه، و إن كان شكلها بفعلهم. و هذا كما يقال: عمل النجّار الباب و الكرسيّ، و عمل الصائغ السوار و الخلخال. و المراد عمل أشكال هذه الأشياء و صورها، دون جوهرها و مادّتها.

فاللّه خالق جواهر الأصنام، و هم عاملوا أشكالها، أي: مصوّروها و مشكّلوها بنحتهم.

و ليس لأهل الجبر

تمسّك بهذه الآية على أنّ اللّه خالق لأفعال العباد، فإنّ من المعلوم أنّ الكفّار لم يعبدوا نحتهم الّذي هو فعلهم، و إنّما كانوا يعبدون الأصنام الّتي هي الأجسام. و قوله: «و ما تعملون» ترجمة عن قوله: «ما تنحتون». فلأجل الطباق يجب أن يكون «ما» في «ما تعملون» أيضا موصولة، فالعدول بها إلى المصدريّة- كما قالت المجبّرة- تعسّف. و أيضا قد أضاف العمل إليهم بقوله: «تعملون»، فكيف يكون مضافا إلى اللّه تعالى؟ و هذا تناقض.

و لمّا لزمهم الحجّة قالُوا ابْنُوا لَهُ بُنْياناً فَأَلْقُوهُ فِي الْجَحِيمِ في النار

______________________________

(1) الأنبياء، 57 و 62.

(2) الأنبياء، 57 و 62.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 564

الشديدة. من الجحمة، و هي شدّة التأجّج. و عن الزجّاج: كلّ نار بعضها فوق بعض فهي جحيم. و اللام بدل الإضافة، أي: جحيم ذلك البنيان. و عن ابن عبّاس: بنوا حائطا من حجارة طوله في السماء ثلاثون ذراعا، و عرضه عشرون ذراعا، و ملؤه نارا و طرحوه فيها.

فَأَرادُوا بِهِ كَيْداً قصدوا حيلة و تدبيرا في إحراقه بالنار و إهلاكه، حين قهرهم بالحجّة، لئلّا يظهر للعامّة عجزهم فَجَعَلْناهُمُ الْأَسْفَلِينَ الأذلّين، بإبطال كيدهم، و جعله برهانا نيّرا على علوّ شأنه، حيث صيّرنا النار عليه بردا و سلاما، فنجّيناه و أخرجناه منها سالما.

وَ قالَ إِنِّي ذاهِبٌ إِلى رَبِّي إلى حيث أمرني ربّي. و هو الشام، أو حيث أتجرّد فيه لعبادته. سَيَهْدِينِ سيرشدني إلى ما فيه صلاح ديني. أو إلى مقصدي.

و إنّما بتّ القول لسبق وعده، أو لفرط توكّله، أو البناء على عادته معه في هدايته و إرشاده. و لم يكن كذلك حال موسى عليه السّلام حين قال: عَسى رَبِّي أَنْ يَهْدِيَنِي سَواءَ السَّبِيلِ «1». فلذلك ذكر بصيغة التوقّع.

و عن مقاتل: إبراهيم

أوّل من هاجر- و معه لوط و سارة- إلى الشام، و لمّا قدم الأرض المقدّسة الّتي هي من الشام سأل ربّه الولد، فقال:

رَبِّ هَبْ لِي مِنَ الصَّالِحِينَ بعض الصالحين، يعينني على الدعوة و الطاعة، و يؤنسني في الغربة. يعني: الولد، لأنّ لفظ الهبة غالب فيه. قال تعالى: وَ وَهَبْنا لَهُ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ «2» وَ وَهَبْنا لَهُ يَحْيى «3»، و إن كان قد جاء في الأخ في قوله: وَ وَهَبْنا لَهُ مِنْ رَحْمَتِنا أَخاهُ هارُونَ نَبِيًّا «4». و لقوله:

فَبَشَّرْناهُ بِغُلامٍ حَلِيمٍ فإنّه بشّره بالولد، و بأنّه ذكر يبلغ أوان الحلم، فإنّ

______________________________

(1) القصص: 22.

(2) الأنعام: 84.

(3) الأنبياء: 90.

(4) مريم: 53.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 565

الصبيّ لا يوصف بالحلم. و لا شبهة أنّ إسماعيل كان حليما- أيّ حليم- حين عرض عليه أبوه الذبح و هو مراهق، فقال: سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ «1».

و الحليم: هو الّذي لا يعجل في الأمر قبل وقته مع القدرة عليه. و قيل: لا يعجل بالعقوبة. و لعزّة وجوده في بني آدم ما وصف اللّه نبيّا بالحلم غير إبراهيم و ولده، في قوله: إِنَّ إِبْراهِيمَ لَحَلِيمٌ أَوَّاهٌ مُنِيبٌ «2». إِنَّ إِبْراهِيمَ لَأَوَّاهٌ حَلِيمٌ «3».

و قوله هاهنا في ابنه. و حالهما المذكورة بعد تشهد عليه.

[سورة الصافات (37): الآيات 102 الى 113]

فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ما ذا تَرى قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ (102) فَلَمَّا أَسْلَما وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ (103) وَ نادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ (104) قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (105) إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ (106)

وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ عَظِيمٍ (107) وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (108) سَلامٌ عَلى

إِبْراهِيمَ (109) كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (110) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (111)

وَ بَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ (112) وَ بارَكْنا عَلَيْهِ وَ عَلى إِسْحاقَ وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ وَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ مُبِينٌ (113)

______________________________

(1) الصافّات: 102.

(2) هود: 75.

(3) التوبة: 114.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 566

ثمّ أخبر سبحانه أنّ الغلام الّذي بشّره به ولد له و ترعرع، حيث قال: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ أي: فلمّا وجد و بلغ أن يسعى معه في أعماله. و «معه» متعلّق بمحذوف دلّ عليه السعي، لابه، لأنّ صلة المصدر لا تتقدّمه، و لا ب «بلغ»، لأنّ بلوغهما حدّ السعي لم يكن معا. كأنّه لمّا قال: فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ أي: الحدّ الّذي يقدر فيه على السعي- قيل: مع من؟ فقيل: مع أبيه. و تخصيص الأب لأنّه أرفق الناس به و أعطفهم عليه، و غيره ربما عنف به في الاستسعاء قبل أوانه، فلا يحتمله حين عدم استحكام قوّته. أو لأنّه استوهبه لذلك. و كان له يومئذ ثلاث عشرة سنة.

قالَ يا بُنَيَ و قرأ حفص وحده بفتح الياء إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ يحتمل أنّه رأى ذلك، و أنّه رأى ما هو تعبيره.

و قيل: إنّه رأى ليلة التروية أنّ قائلا يقول له: إنّ اللّه يأمرك بذبح ابنك هذا، فلمّا أصبح روّى «1» في أنّه أمن اللّه أو من الشيطان؟ و من ثمّ سمّي هذا اليوم التروية.

فلمّا أمسى رأى مثل ذلك، فعرف أنّه من اللّه، فمن ثمّ سمّي عرفة. ثمّ رأى مثله في الليلة الثالثة، فهمّ بنحره و قال له ذلك، فسمّي يوم النحر.

و قيل: إنّ الملائكة حين بشّرته بغلام حليم، قال: هو إذا ذبيح. فلمّا ولد و بلغ حدّ السعي، قيل له في المنام: أوف

بنذرك.

و اختلف في الذبيح على قولين:

______________________________

(1) روّى في الأمر: نظر فيه و تفكّر.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 567

أحدهما: أنّه إسحاق.

و الأظهر أنّ المخاطب كان إسماعيل عليه السّلام، لأنّه الّذي وهب له إثر الهجرة.

و لأن البشارة بإسحاق بعد معطوفة على البشارة بهذا الغلام. و

لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنا ابن الذبيحين».

فأحدهما جدّه إسماعيل، و الآخر أبوه عبد اللّه.

و

روي: أنّ أعرابيّا قال له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا ابن الذبيحين، فتبسّم. فسئل عن ذلك.

فقال: «إنّ عبد المطّلب نذر أن يذبح أحد ولده إن سهّل اللّه له حفر زمزم. فلمّا سهّل أقرع، فخرج السهم على عبد اللّه، فمنعه أخواله، و قالوا له: افد ابنك بمائة من الإبل، ففداه بمائة من الإبل، و لذلك سنّت الدية مائة».

و لأنّ ذلك كان بمكّة، و كان قرنا الكبش معلّقين بالكعبة، حتّى احترقا معها في أيّام ابن الزبير، و لم يكن ثمّة إسحاق.

و لأنّ البشارة بإسحاق كانت مقرونة بولادة يعقوب منه، فلا يناسبها الأمر بذبحه مراهقا.

و لأنّه مرويّ عن ابن عبّاس، و ابن عمر، و سعيد بن المسيّب، و الحسن، و الشعبي، و مجاهد، و الربيع بن أنس، و الكعبي، و محمد بن كعب. و قد رواه أصحابنا أيضا عن أئمّتنا عليهم السّلام.

و عن الأصمعي قال: سألت أبا عمرو بن العلاء عن الذبيح؟ فقال: يا أصمعي، أين ذهب عقلك؟ و متى كان إسحاق بمكّة؟ و إنّما كان بمكّة إسماعيل.

و هو الّذي بنى البيت مع أبيه. و المنحر بمكّة لا شكّ فيه.

و ما

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سئل أيّ النسب أشرف؟ قال: «يوسف صدّيق اللّه، بن يعقوب إسرائيل اللّه، بن إسحاق ذبيح اللّه، بن إبراهيم

خليل اللّه».

فالصحيح أنّه قال:

يوسف بن يعقوب بن إسحاق بن إبراهيم، و الزوائد من الراوي. و ما روي أنّ يعقوب كتب إلى يوسف مثل ذلك لم يثبت.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 568

و حجّة من قال إنّه إسحاق: أنّ أهل الكتابين أجمعوا على ذلك. و جوابه: أنّ إجماعهم ليس بحجّة، و قولهم غير مقبول.

و روى محمّد بن إسحاق، عن محمّد بن كعب القرظي، قال: كنت عند عمر بن عبد العزيز، فسألني عن الذبيح. فقلت: إسماعيل. و استدللت بقوله تعالى:

وَ بَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا «1». فأرسل إلى رجل بالشام كان يهوديّا فأسلم و حسن إسلامه، و كان يرى أنّه من علماء اليهود. فسأله عمر بن عبد العزيز عن ذلك و أنا عنده، فقال: إسماعيل. ثم قال: و اللّه يا أمير المؤمنين إنّ اليهود لتعلم ذلك، و لكنّهم يحسدونكم معشر العرب على أن يكون الذبيح أباكم. فهم يجحدون ذلك، و يزعمون أنّه إسحاق، لأنّ إسحاق أبوهم.

و قرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو فيهما بفتح الياء.

و معنى الآية: أنّ إبراهيم قال لابنه إسماعيل: إنّي أبصرت في المنام أنّي أذبحك. أو رأيت رؤيا تأويلها الأمر بذبحك. فَانْظُرْ ما ذا تَرى أي: أيّ شي ء تراه من الرأي. فيكون «ماذا» في موضع النصب بمنزلة اسم واحد. و لا يجوز أن يكون «ترى» بمعنى: تبصر، لأنّه لم يشر إلى شي ء يبصر بالعين. و لا يجوز أن يكون بمعنى: علم أو ظنّ أو اعتقد، لأنّ هذه الأشياء تتعدّى إلى مفعولين، و ليس هنا إلّا مفعول واحد، مع استحالة المعنى. فلم يبق إلّا أن يكون من الرأي.

و إنّما شاوره فيه و هو حتم من اللّه، ليعلم ما عنده فيما نزل من بلاء اللّه، فيثبت قدمه إن

جزع، و يأمن عليه الزلل إن سلّم نفسه للذبح، و ليوطّن نفسه عليه فيهون، و يكتسب المثوبة بالانقياد للّه قبل نزول البلاء.

و قرأ حمزة و الكسائي: «ما ذا تري» بضمّ التاء و كسر الراء خالصة. و الباقون بفتحهما. و أبو عمرو يميل فتحة الراء. و ورش بين بين. و الباقون بإخلاص فتحها.

______________________________

(1) الصافّات: 112.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 569

و لمّا فهم إسماعيل من كلام أبيه بأنّه يذبحه أنّه مأمور من عند اللّه قالَ يا أَبَتِ و قرأ ابن عامر بفتح التاء افْعَلْ ما تُؤْمَرُ أي: ما تؤمر به. فحذف الجارّ و المجرور دفعة، أو على الترتيب. أو افعل أمرك، على إضافة المصدر إلى المفعول به، و أراد منه المأمور به. و إنّما ذكر بلفظ المضارع لتكرّر الرؤيا. و رؤيا الأنبياء بمنزلة الوحي، كما روي عن سعيد بن جبير عن ابن عبّاس.

و قال في المجمع: «و الأولى أن يكون قد أوحى إليه في حال اليقظة، و تعبّده بأن يمضي ما يأمره به في حال نومه، من حيث إنّ منامات الأنبياء لا تكون إلّا صحيحة. و لو لم يأمره بذلك في حال اليقظة، لما كان يجوز أن يعمل على ما يراه في المنام» «1».

سَتَجِدُنِي إِنْ شاءَ اللَّهُ مِنَ الصَّابِرِينَ على الذبح، أو على قضاء اللّه. و قرأ نافع بفتح الياء.

فَلَمَّا أَسْلَما استسلما لأمر اللّه. و قال قتادة: أسلم إبراهيم ابنه، و أسلم إسماعيل نفسه. يقال: سلّم لأمر اللّه و استسلم بمعنى واحد، أي: انقاد له و خضع.

و حقيقة معناه: أخلص نفسه للّه، و جعلها سالمة له خالصة. وَ تَلَّهُ لِلْجَبِينِ صرعه على شقّه، فوقع جبينه على الأرض. و هو أحد جانبي الجبهة. و قيل: كبّ إبراهيم إسماعيل على

وجهه بإشارته، لئلّا يرى فيه تغيّرا يرقّ له فلا يذبحه.

روي: أنّه قال: اذبحني و أنا ساجد لا تنظر إلى وجهي، فعسى أن ترحمني فلا تذبحني. و كان ذلك عند الصخرة الّتي بمنى. و عن الحسن: في الموضع المشرف على مسجد منى. و عن الضحّاك: في المنحر الّذي ينحر فيه اليوم.

وَ نادَيْناهُ أَنْ يا إِبْراهِيمُ أي: بأن يا إبراهيم. يعني: بهذا الضرب من القول.

قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا بالعزم و الإتيان بالمقدّمات. و قد روي أنّه أمرّ السكّين بقوّته

______________________________

(1) مجمع البيان 8: 452.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 570

على حلقه مرارا فلم تقطع.

و جواب «لمّا» محذوف، تقديره: قد صدّقت الرؤيا كان ما كان ممّا لا يحيط به الوصف، من استبشارهما و شكرهما للّه على ما أنعم عليهما من دفع البلاء بعد حلوله، و التوفيق بما لم يوفّق غيرهما لمثله، و إظهار فضلهما به على العالمين، مع إحراز الثواب العظيم.

ثمّ علّل إفراج تلك الشدّة عنهما، و الظفر بالبغية عند اليأس، بإحسانهما، فقال: إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ أي: كما جزيناهما بالإخراج عن البلاء العظيم، و إعطاء الثواب الجزيل، نجزي من سلك طريقهما في الإحسان بالاستسلام، و الانقياد لأمر اللّه.

و احتجّ به من جوّز النسخ قبل وقوعه، فإنّه عليه السّلام كان مأمورا بالذبح، لقوله:

يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ و لم يحصل.

و أجيب عن ذلك بأنّه سبحانه لم يأمر إبراهيم بالذبح الّذي هو فري الأوداج، و إنّما أمره بمقدّمات الذبح، من الإضجاع و تناول المدية، و ما يجري مجرى ذلك.

و العرب قد تسمّي الشي ء باسم مقدّماته. أو أنّه أمر بصورة الذبح، و قد فعله، لأنّه فرى أوداج ابنه، و لكنّه كلّما فرى جزءا منه و جاوز إلى غيره عاد في الحال ملتحما.

أو أنّه

أمره بالذبح، إلّا أنّه سبحانه جعل على عنقه صفحة من نحاس، فكلّما أمرّ إبراهيم السكّين عليه لم يقطع، أو كان كلّما اعتمد على السكّين انقلب، على اختلاف الرواية فيه.

إِنَّ هذا لَهُوَ الْبَلاءُ الْمُبِينُ الامتحان البيّن و الاختبار الظاهر الّذي يتميّز فيه المخلص من غيره. أو المحنة البيّنة الصعوبة، فإنّه لا محنة أصعب منها.

وَ فَدَيْناهُ بِذِبْحٍ أي: جعلنا الذبح بدلا عنه، كالأسير يفدى بشي ء، فإنّ الفداء جعل الشي ء مكان الشي ء لرفع الضرر عنه. و الذبح: اسم ما يذبح. و المعنى:

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 571

و فديناه بما يذبح بدله، فيتمّ به الفعل. عَظِيمٍ ضخيم الجثّة، سمين البدن. أو عظيم القدر، لأنّه يفدي به اللّه نبيّا ابن نبيّ، و أيّ نبيّ! من نسله سيّد المرسلين صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و لأنّه من عند اللّه.

قيل: كان كبشا من الجنّة. و عن ابن عبّاس: هو الكبش الّذي قرّبه هابيل فتقبّل منه. و كان يرعى في الجنّة حتّى فدى به إسماعيل.

و عن الحسن: فدى بوعل «1» اهبط عليه من ثبير. و هو جبل بمكّة.

و

روي: أنّه هرب من إبراهيم عند الجمرة، فرماه بسبع حصيات حتّى أخذه، فصارت سنّة.

و

في رواية اخرى: أنّه رمى الشيطان حين تعرّض له بالوسوسة عند ذبح ولده.

و

روي: أنّه لمّا ذبحه قال جبرئيل: اللّه أكبر اللّه أكبر. فقال الذبيح: لا إله إلّا اللّه و اللّه أكبر. فقال إبراهيم عليه السّلام: اللّه أكبر للّه الحمد. فبقي سنّة. و الفادي على الحقيقة إبراهيم. و إنّما قال: و فديناه، لأنّه المعطي له و الآمر به، على التجوّز في الفداء أو في الإسناد.

و عن ابن عبّاس: لو تمّت تلك الذبيحة لصارت سنّة، و ذبح الناس أبناءهم.

و استدلّ به الحنفيّة على أن

من نذر ذبح ولده لزمه ذبح شاة، و ليس فيه ما يدلّ عليه.

و حكي في قصّة الذبيح أنّه حين أراد ذبحه قال: يا بنيّ خذ الحبل و المدية و انطلق بنا إلى الشعب نحتطب. فلمّا توسّطا شعب ثبير أخبره بما أمر. فقال له:

اشدد رباطي لا أضطرب. و اكفف عنّي ثيابك لا ينتضح عليها شي ء من دمي، فينقص أجري، و تراه أمّي فتحزن. و اشحذ شفرتك، و أسرع إمرارها على حلقي ليكون أهون عليّ، فإنّ الموت شديد. و اقرأ على امّي سلامي.

______________________________

(1) الوعل: تيس الجبل، أي: الذكر من المعز و الظباء.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 572

فقال إبراهيم: نعم العون أنت يا بنيّ على أمر اللّه. ثمّ أقبل عليه يقبّله و قد ربطه، و هما يبكيان. ثمّ وضع السكّين على حلقه فلم تعمل، لأنّ اللّه ضرب صفحة نحاس على حلقه.

فقال له: كبّني على وجهي، فإنّك إذا نظرت في وجهي رحمتني، و أدركتك رقّة تحول بينك و بين أمر اللّه.

ففعل. ثمّ وضع السكّين على قفاه فانقلب السكّين، و نودي من ميسر مسجد الخيف: «يا إِبْراهِيمُ قَدْ صَدَّقْتَ الرُّؤْيا» فنظر فإذا جبرئيل معه كبش «1» أقرن أملح، فكبّر جبرئيل. و كان يمشي في سواد، و ينظر في سواد، و يبعر و يبول في سواد.

فذبحه إبراهيم في منى بحيال الجمرة الوسطى، و تصدّق بلحمه على المساكين.

وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ الثناء الجميل فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِبْراهِيمَ سبق تفسيره في قصّة نوح «2» كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ يحتمل أنّه طرح عنه «إنّا» اكتفاء بذكره في هذه القصّة «3» إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ وَ بَشَّرْناهُ بِإِسْحاقَ نَبِيًّا مِنَ الصَّالِحِينَ أي: مقضيّا نبوّته، مقدّرا كونه من الصالحين. و بهذا التفسير وقعا حالين. و لا حاجة إلى

وجود المبشّر به وقت البشارة، فإنّ وجود ذي الحال غير شرط، بل الشرط مقارنة تعلّق الفعل بذي الحال، لاعتبار المعنى بالحال. فلا حاجة إلى تقدير مضاف يجعل عاملا فيهما، مثل: و بشّرناه بوجود إسحاق، أي: بأن يوجد إسحاق نبيّا من الصالحين، كما قال صاحب الكشّاف «4». و مع ذلك لا يصير نظير قوله: فَادْخُلُوها خالِدِينَ «5» فإن الداخلين مقدّرون خلودهم وقت دخولهم،

______________________________

(1) الكبش: الخروف إذا دخل في السنة الثانية أو الرابعة. و الأقرن: ماله قرنان. و يقال: كبش أملح: إذا كان أسود يعلو شعره بياض.

(2) راجع ص 588.

(3) الصافّات: 105.

(4) الكشّاف 4: 59.

(5) الزمر: 73.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 573

و إسحاق لم يكن مقدّرا نبوّة نفسه و صلاحها حينما يوجد. و من فسّر الذبيح بإسحاق جعل المقصود من البشارة نبوّته بعد ما امتحنه بذبحه. و في ذكر الصلاح بعد النبوّة تعظيم لشأنه، و إيماء بأنّه الغاية لها، لتضمّنها معنى الكمال و التكميل بالفعل على الإطلاق.

وَ بارَكْنا عَلَيْهِ على إبراهيم في أولاده وَ عَلى إِسْحاقَ بأن أخرجنا من صلبه أنبياء بني إسرائيل و غيرهم، كأيّوب و شعيب، و أفضنا عليهما بركات الدين و الدنيا، كقوله: وَ آتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ «1».

وَ مِنْ ذُرِّيَّتِهِما مُحْسِنٌ في عمله. أو إلى نفسه بالإيمان و الطاعة. وَ ظالِمٌ لِنَفْسِهِ بالكفر و المعاصي مُبِينٌ ظاهر ظلمه. و في ذلك تنبيه على أنّ النسب لا أثر له في الهدى و الضلال، بل إنّما يعاب لسوء فعله، و يعاقب على ما اجترحت يداه. و أنّ الظلم في أعقابهما لا يعود عليهما بنقيصة و عيب.

[سورة الصافات (37): الآيات 114 الى 122]

وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَ هارُونَ (114) وَ نَجَّيْناهُما وَ قَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ

الْعَظِيمِ (115) وَ نَصَرْناهُمْ فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ (116) وَ آتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ (117) وَ هَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ (118)

وَ تَرَكْنا عَلَيْهِما فِي الْآخِرِينَ (119) سَلامٌ عَلى مُوسى وَ هارُونَ (120) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (121) إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (122)

ثمّ عطف سبحانه على ما تقدّم بذكر موسى و هارون، فقال: وَ لَقَدْ مَنَنَّا عَلى مُوسى وَ هارُونَ

______________________________

(1) العنكبوت: 27.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 574

أنعمنا عليهما بالنبوّة و غيرها من المنافع الدينيّة و الدنيويّة وَ نَجَّيْناهُما وَ قَوْمَهُما مِنَ الْكَرْبِ الْعَظِيمِ من تغلّب فرعون، و تسخير قومه إيّاهم، و استعمالهم في الأعمال الشاقّة. و قيل: من الغرق. وَ نَصَرْناهُمْ الضمير لهما مع القوم، لقوله تعالى: وَ نَجَّيْناهُما وَ قَوْمَهُما. فَكانُوا هُمُ الْغالِبِينَ على فرعون و قومه، بعد أن كانوا مغلوبين مقهورين.

وَ آتَيْناهُمَا الْكِتابَ الْمُسْتَبِينَ البليغ في بيانه. و هو التوراة، كما قال: إِنَّا أَنْزَلْنَا التَّوْراةَ فِيها هُدىً وَ نُورٌ «1». وَ هَدَيْناهُمَا الصِّراطَ الْمُسْتَقِيمَ الطريق الموصل إلى الحقّ و الصواب. و هو صراط أهل الإسلام الّذين أنعم اللّه عليهم، غير المغضوب عليهم، و لا الضالّين.

وَ تَرَكْنا عَلَيْهِما الثناء الجميل فِي الْآخِرِينَ بأن قلنا سَلامٌ عَلى مُوسى وَ هارُونَ إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُما مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ قد سبق تفسير ذلك.

[سورة الصافات (37): الآيات 123 الى 132]

وَ إِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (123) إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ لا تَتَّقُونَ (124) أَ تَدْعُونَ بَعْلاً وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ (125) اللَّهَ رَبَّكُمْ وَ رَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (126) فَكَذَّبُوهُ فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (127)

إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (128) وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ (129) سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ (130) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (131) إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ (132)

______________________________

(1) المائدة: 44.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 575

ثمّ أقفاهما بقصّة إلياس فقال: وَ

إِنَّ إِلْياسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ هو الياس بن ياسين سبط هارون أخي موسى، بعث بعده. و قيل: هو إدريس. و يؤيّده ما وقع في قراءة أبيّ و مصحف ابن مسعود: و إنّ إدريس. و عن وهب: أنّه ذو الكفل. و الأوّل أشهر.

و قيل: إنّ إلياس استخلف اليسع ابن عمّه على بني إسرائيل، و رفعه اللّه تعالى من بين أظهرهم، و كساه الريش، و قطع عنه لذّة الطعام و الشراب، فصار إنسيّا ملكيّا، أرضيّا سماويّا. و سلّط اللّه على الملك و قومه عدوّا لهم، فقتل الملك و امرأته، و بعث اللّه اليسع رسولا، فآمنت به بنو إسرائيل.

و قيل: إلياس صاحب البراري، و الخضر صاحب الجزائر، و يجتمعان كلّ يوم عرفة بعرفات.

و قيل: إنّه بعث بعد حزقيل لمّا عظمت الأحداث في بني إسرائيل. و كان يوشع لمّا فتح الشام بوّأها «1» بني إسرائيل، و قسّمها بينهم، فأحلّ سبطا منهم ببعلبك، و هم سبط إلياس، فبعث فيهم نبيّا إليهم، فأجابه الملك. ثمّ إنّ امرأته حملته على أن ارتدّ و خالف إلياس، و طلبه ليقتله، فهرب إلى الجبال و البراري. و قرأ ابن ذكوان مع خلاف عنه بحذف همزة إلياس.

إِذْ قالَ لِقَوْمِهِ أَ لا تَتَّقُونَ عذاب اللّه أَ تَدْعُونَ بَعْلًا أ تعبدونه؟ أو أ تطلبون الخير منه؟ و هو اسم صنم كان لأهل «بك» من الشام، و هو البلد الّذي يقال له الآن:

بعلبك. و قيل: كان من ذهب، و كان طوله عشرين ذراعا، و له اربعة أوجه. فعظّموه حتّى أخدموه أربعمائة سادن «2»، و جعلوهم أنبياءه. فكان الشيطان يدخل في جوف بعل و يتكلّم بشريعة الضلالة، و السدنة يحفظونها، و يعلّمونها الناس.

______________________________

(1) أي: هيّأها لهم و أنزلهم فيها.

(2) السادن: خادم

الكعبة أو بيت الصنم.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 576

و قيل: البعل الربّ، بلغة اليمن. يقال: من بعل هذا الوادي؟ أي: من ربّه؟ فالمعنى: أ تدعون بعض البعول؟ وَ تَذَرُونَ أَحْسَنَ الْخالِقِينَ و تتركون عبادته. و قد أشار فيه إلى المقتضي للإنكار المعنيّ بالهمزة. ثمّ صرّح بهذا الإنكار بقوله: اللَّهَ رَبَّكُمْ خالقكم و رازقكم وَ رَبَّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ و خالق من مضى من آبائكم و أجدادكم. و قرأ حمزة و الكسائي و يعقوب و حفص بالنصب على البدل.

فَكَذَّبُوهُ فيما دعاهم إليه، و لم يصدّقوه فَإِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ أي: في العذاب. و إنّما أطلقه اكتفاء بالقرينة، أو لأنّ الإحضار المطلق مخصوص بالشرّ عرفا. إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ مستثنى من الواو، لا من المحضرين، لفساد المعنى.

وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ سَلامٌ عَلى إِلْ ياسِينَ لغة في إلياس، كسيناء و سينين. و قيل: جمع له، لأنّ المراد هو و أتباعه، كالمهلّبين. لكن فيه: أنّ العلم إذا جمع يجب تعريفه باللام، ليحصل كثرة و شيوع يبطل العلم.

أو للمنسوب «1» إليه، بحذف ياء النسبة. و هو قليل ملبس. و قرأ نافع و ابن عامر و يعقوب على إضافة «آل» إلى «ياسين»، لأنّهما في المصحف مفصولان.

فيكون ياسين أبا إلياس. و عن ابن عبّاس: آل يس آل محمد. و «يس» اسم من أسمائه.

و قيل: «يس» اسم القرآن، أو غيره من كتب اللّه. فكأنّه قال: سلام على من آمن بالقرآن و سائر كتب اللّه. و هذا لا يناسب نظم سائر القصص، و لا قوله: إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ إِنَّهُ مِنْ عِبادِنَا الْمُؤْمِنِينَ إذ الظاهر أنّ الضمير لإلياس.

______________________________

(1) أي: جمع إلياسي، كالأعجمين جمع الأعجمي.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 577

[سورة الصافات (37): الآيات 133 الى 138]

وَ إِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (133) إِذْ نَجَّيْناهُ وَ أَهْلَهُ

أَجْمَعِينَ (134) إِلاَّ عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ (135) ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ (136) وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ عَلَيْهِمْ مُصْبِحِينَ (137)

وَ بِاللَّيْلِ أَ فَلا تَعْقِلُونَ (138)

ثمّ عطف قصّة لوط على ما تقدّم، فقال: وَ إِنَّ لُوطاً لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ نَجَّيْناهُ اذكر يا محمّد حين نجّيناه وَ أَهْلَهُ أَجْمَعِينَ من عذاب الاستئصال إِلَّا عَجُوزاً فِي الْغابِرِينَ الباقين الّذين أهلكوا ثُمَّ دَمَّرْنَا الْآخَرِينَ أهلكناهم بعذاب الاستئصال وَ إِنَّكُمْ لَتَمُرُّونَ يا أهل مكّة عَلَيْهِمْ على منازلهم في متاجركم إلى الشام، فإنّ «سدوم» في طريقه مُصْبِحِينَ داخلين في الصباح وَ بِاللَّيْلِ و مساء. أو نهارا و ليلا. و هو عطف على «مصبحين» معنى، أي: ممسين. و لعلّ «سدوم» وقعت قريب منزل يمرّ بها المرتحل عنه صباحا، و القاصد لها مساء. أَ فَلا تَعْقِلُونَ أ فليس فيكم عقل تعتبرون به.

و الوجه في ذكر قصص الأنبياء و تكريرها التشويق إلى مثل ما كانوا عليه من مكارم الأخلاق و محاسن الخلال، و صرف الخلق عمّا كان عليه الكفّار من مساوئ الخصال و مقابح الأفعال.

[سورة الصافات (37): الآيات 139 الى 148]

وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ (139) إِذْ أَبَقَ إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ (140) فَساهَمَ فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ (141) فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ وَ هُوَ مُلِيمٌ (142) فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ (143)

لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (144) فَنَبَذْناهُ بِالْعَراءِ وَ هُوَ سَقِيمٌ (145) وَ أَنْبَتْنا عَلَيْهِ شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ (146) وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ أَوْ يَزِيدُونَ (147) فَآمَنُوا فَمَتَّعْناهُمْ إِلى حِينٍ (148)

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 578

وَ إِنَّ يُونُسَ لَمِنَ الْمُرْسَلِينَ إِذْ أَبَقَ هرب. و أصله الهرب من السيّد، لكن لمّا كان هربه من قومه بغير إذن ربّه حسن إطلاقه عليه على طريقة المجاز. إِلَى الْفُلْكِ الْمَشْحُونِ المملوء من الناس و الأحمال، خوفا

من أن ينزل العذاب بهم و هو مقيم فيهم فَساهَمَ فقارع أهله. من: استهم القوم إذا اقترعوا. فَكانَ مِنَ الْمُدْحَضِينَ فصار من المغلوبين بالقرعة. و أصله المزلق عن مقام الظفر و الغلبة.

روي: أنّه لمّا وعد قومه بالعذاب، خرج من بينهم قبل أن يأمره اللّه، فركب السفينة فوقفت. فقالوا: هاهنا عبد آبق من سيّده. و هذا ممّا يزعم البحّارون من أنّ السفينة إذا كان فيها آبق لم تجر. فاقترعوا، فخرجت القرعة عليه ثلاث مرّات.

فقال: أنا الآبق، فألقى نفسه في الماء.

فَالْتَقَمَهُ الْحُوتُ فابتلعه من اللقمة. و قيل: إنّ اللّه سبحانه أوحى إلى الحوت: أنّي لم أجعل عبدي رزقا لك، و لكن جعلت بطنك له محبسا، فلا تكسرنّ له شعرا، و لا تخدشنّ له جلدا. وَ هُوَ مُلِيمٌ داخل في الملامة. أو آت بما يلام عليه. أو مليم نفسه على خروجه من بين قومه بغير أمر ربّه. و عندنا أنّ ذلك إنّما وقع منه تركا للمندوب، و قد يلام الإنسان على ترك الندب. و من جوّز الصغيرة على الأنبياء، قال: وقع ذلك منه صغيرة مكفّرة.

و اختلف في مدّة لبثه في بطن الحوت، فعن مقاتل بن حيّان: كانت ثلاثة أيّام. و عن عطاء: سبعة. و عن الضحّاك: عشرين. و عن السدّي و مقاتل بن سليمان

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 579

و الكلبي: أربعين.

فَلَوْ لا أَنَّهُ كانَ مِنَ الْمُسَبِّحِينَ الذاكرين اللّه كثيرا بالتسبيح و التقديس مدّة عمره، أو في بطن الحوت. و هو قوله: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ «1». و قيل: من المصلّين، لما روي عن ابن عبّاس: كلّ تسبيح في القرآن فهو صلاة. و عن قتادة: كان كثير الصلاة في الرخاء. و يقال: إنّ العمل

الصالح يرفع صاحبه إذا صرع.

لَلَبِثَ فِي بَطْنِهِ حيّا. و قيل: ميّتا. إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ و فيه حثّ على إكثار المؤمن ذكر اللّه، و تعظيم لشأنه. و من أقبل عليه في السرّاء أخذ بيده عند الضرّاء.

فَنَبَذْناهُ بأن حملنا الحوت على لفظه «2» بِالْعَراءِ بالمكان الخالي عمّا يغطّيه من شجر أو نبت. و روي: أنّ الحوت سار مع السفينة، رافعا رأسه يتنفّس فيه يونس و يسبّح، حتّى انتهوا إلى البرّ، فلفظه سالما لم يتغيّر منه شي ء. و روي: أنّ الحوت قذفه بساحل قرية من الموصل. وَ هُوَ سَقِيمٌ مريض ممّا ناله. قيل: صار بدنه كبدن الطفل حين يولد. و عن ابن مسعود قال: خرج يونس من بطن الحوت كهيئة فرخ ليس عليه ريش.

وَ أَنْبَتْنا عَلَيْهِ أي: فوقه مظلّة عليه شَجَرَةً مِنْ يَقْطِينٍ من شجر ينبسط على وجه الأرض، و لا يقوم على ساقه، كشجر البطّيخ و القثّاء و الحنظل.

و هو يفعيل، من: قطن بالمكان إذا أقام به. و الأكثر على أنّها كانت الدبّاء «3»، غطّته بأوراقها. و فائدة الدبّاء أنّ الذباب لا يجتمع عنده. و يدلّ عليه أنّه

قيل

______________________________

(1) الأنبياء: 87.

(2) أي: قذفه.

(3) الدبّاء: القرع. زبدة التفاسير، ج 5، ص: 580

لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّك لتحبّ القرع؟ قال: «أجل، هي شجرة أخي يونس».

و قيل:

التين. و قيل: الموز. تغطّى بورقه، و استظلّ بأغصانه، و أفطر على ثماره.

و قيل: كان يستظلّ بالشجرة، و كانت و علة «1» تختلف إليه فيشرب من لبنها.

و روي: أنّه مرّ زمان على الشجرة فيبست، فبكى جزعا، فأوحى اللّه إليه: بكيت على شجرة، و لا تبكي على مائة ألف في يد الكافر.

وَ أَرْسَلْناهُ إِلى مِائَةِ أَلْفٍ هم قومه الّذين هرب

عنهم. و هم أهل نينوى من أرض الموصل. و المراد به ما سبق من إرساله، أو إرسال ثان إليهم أو إلى غيرهم.

أَوْ يَزِيدُونَ في مرأى الناظر، أي: إذا نظر إليهم قال: هم مائة ألف أو أكثر.

و المراد الوصف بالكثرة.

فَآمَنُوا فصدّقوه. أو فجدّدوا الإيمان به بمحضره. فَمَتَّعْناهُمْ بالمنافع و اللذّات إِلى حِينٍ إلى انقضاء آجالهم المسمّاة. و لعلّه إنّما لم يختم قصّته و قصّة لوط بما ختم به سائر القصص، تفرقة بينهما و بين أرباب الشرائع الكبرى و أولي العزم من الرسل، أو اكتفاء بالتسليم الشامل لكلّ الرسل المذكورين في آخر السورة.

[سورة الصافات (37): الآيات 149 الى 160]

فَاسْتَفْتِهِمْ أَ لِرَبِّكَ الْبَناتُ وَ لَهُمُ الْبَنُونَ (149) أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَ هُمْ شاهِدُونَ (150) أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ (151) وَلَدَ اللَّهُ وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (152) أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ (153)

ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (154) أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (155) أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ (156) فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (157) وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ نَسَباً وَ لَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ لَمُحْضَرُونَ (158)

سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ (159) إِلاَّ عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (160)

______________________________

(1) الوعلة أنثى الوعل. و هو تيس الجبل، له قرنان قويّان منحنيان.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 581

و اعلم أنّه سبحانه أمر رسوله في أوّل السورة «1» باستفتاء قريش عن وجه إنكارهم البعث، و ساق الكلام في تقريره إلى ما يلائمه من القصص موصولا بعضها ببعض، ثمّ أمر باستفتائهم عن وجه القسمة الضيزى، حيث جعلوا للّه البنات و لأنفسهم البنين. فقال عطفا على الأمر باستفتائهم المذكور:

فَاسْتَفْتِهِمْ أيّ: سلهم و اطلب الحكم منهم، تهكّما و تقريعا أَ لِرَبِّكَ الْبَناتُ وَ لَهُمُ الْبَنُونَ أي: كيف أضافوا البنات إلى اللّه تعالى، و اختاروا لأنفسهم البنين؟

و

هؤلاء زادوا على الشرك ضلالات أخر: التجسيم، و تجويز الفناء على اللّه تعالى، فإنّ الولادة مخصوصة بالأجسام الكائنة الفاسدة. و تفضيل أنفسهم عليه، حيث جعلوا أوضح الجنسين له، و أرفعهما لهم. و استهانتهم بالملائكة الّذين أكرم خلق اللّه و أقربهم إليه، حيث أنّثوهم. و لذلك كرّر اللّه تعالى إنكار ذلك و إبطاله في كتابه مرارا، و جعله ممّا تكاد السماوات يتفطّرن منه، و تنشقّ الأرض، و تخرّ الجبال هدّا.

أَمْ خَلَقْنَا أي: بل خلقنا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَ هُمْ شاهِدُونَ حاضرون عند خلقنا إيّاهم؟ أي: كيف يجعلونهم إناثا و لم يشهدوا خلقهم؟ و إنّما خصّ علم المشاهدة، لأنّ أمثال ذلك لا تعلم إلّا بها، فإنّ الأنوثة ليست من لوازم ذاتهم ليمكن

______________________________

(1) الصافّات: 11.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 582

معرفته بالعقل الصرف. مع ما فيه من الاستهزاء، و الإشعار بأنّهم لفرط جهلهم يقطعون به، كأنّهم قد شاهدوا خلقهم.

أَلا إِنَّهُمْ مِنْ إِفْكِهِمْ لَيَقُولُونَ وَلَدَ اللَّهُ لعدم ما يقتضيه، و قيام ما ينفيه وَ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ فيما يتديّنون به أَصْطَفَى الْبَناتِ عَلَى الْبَنِينَ استفهام إنكار و استبعاد.

و أسقطت همزة الوصل، تقديره: أ أصطفي؟ و الاصطفاء أخذ صفوة الشي ء. و عن نافع برواية ورش: كسر الهمزة، على حذف حرف الاستفهام، لدلالة «أم» بعدها عليها. أو على الإثبات بإضمار القول، أي: لكاذبون في قولهم: اصطفى البنات. أو إبداله من «ولد اللّه».

ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ بما لا يرتضيه عقل أَ فَلا تَذَكَّرُونَ أنّه منزّه عن ذلك، فتنتهون عن مثل هذا القول أَمْ لَكُمْ سُلْطانٌ مُبِينٌ حجّة واضحة نزلت عليكم من السماء بأنّ الملائكة بناته. و هذا كلّه إنكار في صورة الاستفهام.

فَأْتُوا بِكِتابِكُمْ الّذي أنزل عليكم في ذلك إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم. و المراد

أنّه لا دليل لكم على ما تقولونه من جهة العقل، و لا من جهة السمع. و هذه الآيات صادرة عن سخط عظيم، و إنكار فظيع، و استبعاد لأقاويلهم شديد.

وَ جَعَلُوا بَيْنَهُ وَ بَيْنَ الْجِنَّةِ أي: الملائكة نَسَباً يعني: جعلوا بما قالوا نسبة بين اللّه و بينهم، و أثبتوا له بذلك جنسيّة جامعة له و للملائكة. و ذكر الملائكة باسم جنسهم، وضعا منهم أن يبلغوا هذه المرتبة. مع أنّ فيه إشارة إلى أنّ من صفته الاجتنان و الاستتار، لا يصلح أن يناسب من لا يجوز عليه ذلك.

و قيل: قالوا إن اللّه صاهر الجنّ فخرجت الملائكة.

و قيل: قالت الزنادقة: إنّ اللّه و الشيطان أخوان، و إنّ اللّه خالق الخير، و إبليس خالق الشرّ.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 583

وَ لَقَدْ عَلِمَتِ الْجِنَّةُ إِنَّهُمْ إنّ الكفرة أو الجنّة، إن فسّرت بغير الملائكة لَمُحْضَرُونَ في العذاب. يعني: أنّهم يقولون ما يقولون في الملائكة، و قد علم الملائكة أنّهم في ذلك كاذبون مفترون، و أنّهم محضرون النار، معذّبون بما يقولون.

أو قد علمت الجنّة- و هم الجنّ الّذين دعوهم- أنّهم لمحضرون العذاب بدعائهم إلى هذا القول. و المراد المبالغة في التكذيب، حيث أضيف إلى علم الّذين ادّعوا لهم تلك النسبة.

سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ من الولد و النسب إِلَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ استثناء من المحضرين منقطع، أو متّصل إن فسّر الضمير بما يعمّهم، و ما بينهما اعتراض. أو من «يصفون» أي: يصفه هؤلاء بذلك، و لكنّ المخلصين برآء من أن يصفوه به.

[سورة الصافات (37): الآيات 161 الى 163]

فَإِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ (161) ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ بِفاتِنِينَ (162) إِلاَّ مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ (163)

ثمّ أعاد الخطاب إلى الكفّار بقوله: فَإِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ ما أَنْتُمْ عَلَيْهِ على اللّه بِفاتِنِينَ مفسدين

الناس بالإغواء. من قولك: فتن فلان على فلان امرأته إذا أفسدها عليه. و «أنتم» ضمير لهم و لآلهتهم، غلّب فيه المخاطب على الغائب.

و يجوز أن يكون الواو في «و ما تعبدون» بمعنى «مع»، كقولهم: كلّ رجل و ضيعته.

فكما جاز السكوت على «كلّ رجل و ضيعته» جاز أن يسكت على قوله: «فإنّكم و ما تعبدون» لأنّ قوله: «و ما تعبدون» سادّ مسدّ الخبر، لأنّ معناه: فإنّكم مع ما تعبدون، أي: مع آلهتكم. يعني: أنّكم قرناؤهم و أصحابهم لا تزالون تعبدونها. ثمّ قال: «ما أنتم عليه» أي: على ما تعبدون «بفاتنين» بباعثين، أو حاملين على طريق الفتنة و الإضلال.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 584

إِلَّا مَنْ هُوَ صالِ الْجَحِيمِ إلّا من سبق في علمه أنّه يصلى الجحيم لا محالة، أي: ضالّ مستوجب للنار مثلكم.

[سورة الصافات (37): الآيات 164 الى 166]

وَ ما مِنَّا إِلاَّ لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ (164) وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ (165) وَ إِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ (166)

ثمّ حكى عن اعتراف الملائكة بالعبوديّة ردّا على عبدتهم، فقال: وَ ما مِنَّا إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ أي: و ما منّا أحد إلّا له مقام معلوم في المعرفة و العبادة، و الانتهاء إلى أمر اللّه في تدبير العالم، مقصور عليه، لا يتجاوز ما أمر به و رتّب له، كما لا يتجاوز صاحب المقام مقامه الّذي حدّ له. فحذف الموصوف، و هو: أحد، و أقيمت الصفة- أعني: «إِلَّا لَهُ مَقامٌ مَعْلُومٌ»- مقامه. و مثله ما

روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «فمنهم سجود لا يركعون، و ركوع لا ينتصبون، و صافّون لا يتزايلون». «فمنهم راكع لا يقيم صلبه، و ساجد لا يرفع رأسه».

و يحتمل أن يكون هذا و ما قبله- من قوله: سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يَصِفُونَ يتّصل بقوله: وَ لَقَدْ

عَلِمَتِ الْجِنَّةُ. كأنّه قال: و لقد علمت الملائكة و شهدوا أنّ المشركين مفترون عليه في مناسبة ربّ العزّة، و قالوا: «سبحان اللّه» تنزيها له عنه.

ثمّ استثنوا المخلصين تبرئة لهم بهذا القول. ثمّ خاطبوا الكفرة بأنّ الافتتان بذلك للشقاوة المقدّرة. ثمّ اعترفوا بالعبوديّة، و بتفاوت مراتبهم فيها لا يتجاوزونها.

وَ إِنَّا لَنَحْنُ الصَّافُّونَ أقدامنا لأداء الطاعة و منازل العبادة، مذعنين خاضعين وَ إِنَّا لَنَحْنُ الْمُسَبِّحُونَ المنزّهون اللّه عمّا لا يليق به. و يمكن أن يكون الأوّل إشارة إلى درجاتهم في الطاعات، و هذا في المعارف. و «إنّ» و اللام و توسيط الفصل للتأكيد و الاختصاص الدالّين على أنّهم المواظبون على ذلك دائما من غير فترة دون غيرهم.

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 585

و قيل: هو من كلام النبيّ و المؤمنين. و المعنى: و ما من المسلمين أحد إلّا له مقام معلوم في الجنّة على قدر من عمله، و إنّا لنحن الصافّون له في الصلاة، و المنزّهون له عن السوء.

[سورة الصافات (37): الآيات 167 الى 179]

وَ إِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ (167) لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ (168) لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ (169) فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (170) وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ (171)

إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ (172) وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ (173) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (174) وَ أَبْصِرْهُمْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (175) أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ (176)

فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ (177) وَ تَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ (178) وَ أَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ (179)

وَ إِنْ كانُوا لَيَقُولُونَ «إن» هي المخفّفة من الثقيلة، و اللام هي الفارقة.

و المعنى: أنّ هؤلاء الكفّار- يعني: أهل مكّة- ليقولون لَوْ أَنَّ عِنْدَنا ذِكْراً مِنَ الْأَوَّلِينَ كتابا من الكتب الّتي نزلت عليهم لَكُنَّا عِبادَ اللَّهِ الْمُخْلَصِينَ لأخلصنا العبادة له، و لم

نخالف كما خالفوا. فلمّا جاءهم الذّكر الّذي هو أشرف الأذكار و الشاهد عليها فَكَفَرُوا بِهِ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ عاقبة كفرهم.

وَ لَقَدْ سَبَقَتْ كَلِمَتُنا لِعِبادِنَا الْمُرْسَلِينَ أي: ما وعدنا لهم بالنصر و الغلبة على عدوّهم في الدنيا، و علوّ درجاتهم عليهم في الآخرة. و هو قوله: إِنَّهُمْ لَهُمُ

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 586

الْمَنْصُورُونَ وَ إِنَّ جُنْدَنا لَهُمُ الْغالِبُونَ باعتبار الغالب. و إنّما سمّاها كلمة، و هي كلمات، لانتظامها في معنى واحد.

و عن الحسن: المراد بالآية نصرتهم بالحرب، فإنّه لم يقتل نبيّ من الأنبياء قطّ في الحرب، و إنّما قتل من قتل منهم غيلة، أو على وجه آخر في غير الحرب.

و إن مات نبيّ قبل النصرة أو قتل فقد أجرى اللّه تعالى العادة بأن ينصر قومه من بعده، فيكون في نصرة قومه نصرة له. فقد تحقّق قوله: «إِنَّهُمْ لَهُمُ الْمَنْصُورُونَ».

و عن ابن عبّاس: إن لم ينصروا في الدنيا نصروا في الآخرة. قال السدّي:

المراد بالآية النصر بالحجّة.

ثمّ قال لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فأعرض حَتَّى حِينٍ هو الموعد لنصرك عليهم. و هو يوم بدر. و قيل: يوم الفتح. و قيل: إلى يوم القيامة.

وَ أَبْصِرْهُمْ على ما ينالهم حينئذ من الأسر و القتل و العذاب في الآخرة. و المراد بالأمر بإبصارهم على الحالة المنتظرة الموعودة، الدلالة على أنّها كائنة الوقوع لا محالة، كأنّها قدّامه. و فيه تسلية له، و تنفيس عنه. فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ ما قضينا لك من التأييد و النصرة و الثواب في الآخرة. و «سوف» للوعيد لا للتبعيد. و في هذا إخبار بالغيب، فوافق المخبر الخبر.

روي أنّه لمّا نزل: «فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ» قالوا: متى هذا؟ استهزاء. فنزلت:

أَ فَبِعَذابِنا يَسْتَعْجِلُونَ و لمّا كانت العرب تفاجئ أعداءها

بالغارة صباحا، أخرج اللّه سبحانه الكلام على عادتهم، فقال: فَإِذا نَزَلَ بِساحَتِهِمْ فإذا نزل العذاب بفنائهم. شبّهه بجيش هجمهم فأناخ بفنائهم بغتة. و قيل: ضمير «نزل» للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فَساءَ صَباحُ الْمُنْذَرِينَ فبئس الصباح صباح من خوّفوا و حذّروا فلم يخافوا و لم يحذروا. و اللام للجنس. و الصباح مستعار من صباح الجيش المبيّت لوقت نزول العذاب. و لمّا كثر فيهم الهجوم و الغارة في الصباح، سمّوا الغارة صباحا

زبدة التفاسير، ج 5، ص: 587

و إن وقعت في وقت آخر.

وَ تَوَلَّ عَنْهُمْ حَتَّى حِينٍ وَ أَبْصِرْ فَسَوْفَ يُبْصِرُونَ كرّره تأكيدا إلى تأكيد، و تسلية على تسلية، و إطلاقا بعد تقييد، للإشعار بأنّه يبصر، و أنّهم يبصرون ما لا يحيط به الذكر من أصناف المسرّة له، و أنواع المساءة لهم. و قيل: الأوّل لعذاب الدنيا، و الثاني لعذاب الآخرة.

[سورة الصافات (37): الآيات 180 الى 182]

سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ عَمَّا يَصِفُونَ (180) وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ (181) وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (182)

ثمّ نزّه سبحانه نفسه عن وصفهم و بهتهم، فقال: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ تنزيها لربّك مالك العزّة عَمَّا يَصِفُونَ عمّا قاله المشركون فيه على ما حكى في الصورة. و إضافة الربّ إلى العزّة لاختصاصها به، إذ لا عزّة إلّا له أو لمن أعزّه، كما تقول: صاحب صدق، لاختصاصه بالصدق. و قد أدرج فيه جملة صفاته السلبيّة و الثبوتيّة مع الإشعار بالتوحيد.

وَ سَلامٌ عَلَى الْمُرْسَلِينَ تعميم للرسل بالتسليم بعد تخصيص بعضهم، أي:

سلامة و أمان لهم من أن ينصر عليهم أعداؤهم وَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ على ما أفاض عليهم، و على من اتّبعهم من النعم و حسن العاقبة. و لذلك أخّره عن التسليم. و المراد تعليم المؤمنين كيف

يحمدونه و يسلّمون على رسله.

و

روى الأصبغ بن نباتة عن عليّ عليه السّلام: «من أحبّ أن يكتال بالمكيال الأوفى من الأجر يوم القيامة، فليكن آخر كلامه من مجلسه: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ ...

إلى آخر السورة». و قد روي أيضا مرفوعا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

الجزء السادس

(38) سورة ص

اشارة

مكّيّة. و هي ثمان و ثمانون آية.

عن أبيّ بن كعب، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ سورة ص اعطي من الأجر بوزن كلّ جبل سخّره اللّه لداود حسنات، و عصمه اللّه أن يصرّ على ذنب، صغيرا أو كبيرا».

و

روى العيّاشي بإسناده عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من قرأ سورة ص في ليلة الجمعة، اعطي من خير الدنيا و الآخرة، ما لم يعط أحد من الناس، إلّا نبيّ مرسل أو ملك مقرّب، و أدخله اللّه الجنّة، و كلّ من أحبّ من أهل بيته، حتّى خادمه الّذي يخدمه، و إن كان ليس في حدّ عياله، و لا في حدّ من يشفع له».

[سورة ص (38): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ص وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ (1) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي عِزَّةٍ وَ شِقاقٍ (2) كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا وَ لاتَ حِينَ مَناصٍ (3) وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ وَ قالَ الْكافِرُونَ هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ (4)

أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ عُجابٌ (5)

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 6

و اعلم أنّ اللّه سبحانه لمّا ختم سورة الصافّات بذكر القرآن و الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إنكار الكفّار لما دعاهم إليه، افتتح هذه السورة بالقرآن ذي الذكر، و الردّ عليهم أيضا، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ص قد ذكر في أوّل سورة البقرة أنّ إيراد حروف التهجّي في أوائل السور على سبيل التحدّي و التنبيه على الإعجاز. ثمّ أتبعه القسم محذوف الجواب، لدلالة التحدّي عليه. كأنّه قال: وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ إنّه لكلام معجز. و يجوز أن تكون «ص» خبر مبتدأ محذوف، على أنّها اسم للسورة، كأنّه قال: هذه ص.

يعني: هذه السورة الّتي أعجزت العرب، و القرآن ذي الذكر. كما تقول: هذا حاتم و اللّه، تريد: هذا هو المشهور بالسخاء و اللّه. و كذلك إذا أقسم بها، كأنّه قال: أقسمت بصاد و القرآن ذي الذكر إنّه لمعجز. و إذا جعلتها مقسما بها، و عطفت عليها: «وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ» جاز لك أن تريد بالقرآن التنزيل كلّه، و أن تريد السورة بعينها. و معناه: أقسم بالسورة الشريفة، و القرآن ذي الذكر. كما تقول:

مررت بالرجل الكريم، و بالنسمة المباركة، و لا تريد بالنسمة غير الرجل.

و قيل: «صاد» رمز لصدق محمّد. و «الذكر» الشرف و الشهرة، كقولك: فلان مذكور. أو الذكرى و الموعظة. أو ذكر ما يحتاج إليه في الدين من الشرائع و غيرها، كأقاصيص الأنبياء، و الوعد و الوعيد.

و ما كفر به من كفر بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: كفروا به فِي عِزَّةٍ أي:

استكبار عن قبول الحقّ وَ شِقاقٍ خلاف للّه و رسوله، و لذلك كفروا به. و التنكير فيهما للدلالة على شدّتهما.

ثمّ أوعدهم على كفرهم بالقرآن استكبارا و شقاقا كَمْ أَهْلَكْنا مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ قَرْنٍ فَنادَوْا استغاثة، أو توبة، أو استغفارا وَ لاتَ حِينَ مَناصٍ أي: و ليس الحين حين مناص. و «لا» هي المشبّهة ب «ليس» زيدت عليها تاء التأنيث للتأكيد، كما

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 7

زيدت على «ربّ» و «ثمّ». و تغيّر بزيادة التاء حكم «لا»، حيث لم تدخل إلّا على الأحيان. و لم يبرز إلّا اسمها أو خبرها، و امتنع بروزهما جميعا.

و قيل: هي النافية للجنس، أي: و لا حين مناص لهم. و قيل: للفعل، و النصب بإضماره، أي: و لا أرى حين مناص. و تقف الكوفيّة على التاء بالهاء كالأسماء، و البصريّة بالتاء

كالأفعال.

و قيل: إنّ التاء مزيدة على «حين» لاتّصالها به في الإمام. و المناص: الملجأ.

من: ناصه ينوصه إذا فاته.

وَ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ بشر مثلهم، أو امّي من عدادهم وَ قالَ الْكافِرُونَ وضع فيه الظاهر موضع الضمير إظهارا للغضب عليهم و ذمّا لهم، و إشعارا بأنّ توغّلهم في الكفر و انهماكهم في الغيّ جسّرهم على هذا القول هذا ساحِرٌ فيما يظهره معجزة كَذَّابٌ فيما تقوّله على اللّه. و هل ترى كفرا أعظم و جهلا أبلغ من أن يسمّوا من صدّقه اللّه بوحيه كاذبا، و يتعجّبوا من التوحيد، و هو الحقّ الذي لا يصحّ غيره، و لا يتعجّبوا من الشرك، و هو الباطل الّذي لا وجه لصحّته أصلا؟! ثمّ بيّنوا تقوّله بقولهم: أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً بأن جعل الالوهيّة الّتي كانت لآلهتنا لواحد. و ذلك أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أبطل عبادة ما كانوا يعبدونه من الآلهة مع اللّه، و دعاهم إلى عبادة اللّه وحده. فتعجّبوا من ذلك، و قالوا: كيف جعل لنا إلها واحدا بعد ما كنّا نعبد آلهة؟

روي: أنّ عمر بن الخطّاب لمّا أظهر الإسلام شقّ على قريش و بلغ منهم، فاجتمع خمسة و عشرون نفسا من صناديدهم، منهم: الوليد بن المغيرة، و هو أكبرهم، و أبو جهل، و أبيّ و أميّة ابنا خلف، و عتبة و شيبة ابنا ربيعة، و النضر بن الحارث، و أتوا عند أبي طالب و قالوا: أنت شيخنا و كبيرنا، و قد علمت ما فعل هؤلاء السفهاء، يريدون: الّذين دخلوا في الإسلام، و جئناك لتقضي بيننا

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 8

و بين ابن أخيك.

فاستحضر أبو طالب رسول اللّه و قال: يا ابن أخي هؤلاء قومك يسألونك

السواء، فلا تمل كلّ الميل على قومك.

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ماذا يسألونني؟

قالوا: ارفضنا و ارفض ذكر آلهتنا ندعك و إلهك.

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أرأيتم إن أعطيتكم ما سألتم، أ معطيّ أنتم كلمة واحدة تملكون بها العرب و تدين لكم بها العجم؟

قالوا: نعم و عشرا، أي: نعطيكها و عشر كلمات معها.

فقال: قولوا لا إله إلّا اللّه.

فقاموا و قالوا: «أَ جَعَلَ الْآلِهَةَ إِلهاً واحِداً» إِنَّ هذا هذا الّذي يقوله محمّد من أنّ الإله واحد لَشَيْ ءٌ عُجابٌ بليغ في العجب، فإنّه خلاف ما أطبق عليه آباؤنا و ما نشاهده، من أنّ الواحد لا يفي علمه و قدرته بالأشياء الكثيرة.

روي: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم استعبر ثمّ قال: «يا عمّ و اللّه لو وضعت الشمس في يميني، و القمر في شمالي، ما تركت هذا القول حتّى أنفذه، أو أقتل دونه». فقال له أبو طالب: امض لأمرك، فو اللّه لا أخذلك أبدا.

[سورة ص (38): الآيات 6 الى 8]

وَ انْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أَنِ امْشُوا وَ اصْبِرُوا عَلى آلِهَتِكُمْ إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ يُرادُ (6) ما سَمِعْنا بِهذا فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ إِنْ هذا إِلاَّ اخْتِلاقٌ (7) أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ (8)

وَ انْطَلَقَ الْمَلَأُ مِنْهُمْ أشراف قريش من مجلس أبي طالب بعد ما بكّتهم

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 9

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و سمعوا ما قال أبو طالب، قائلين بعضهم لبعض: أَنِ امْشُوا اخرجوا من هذا المجلس وَ اصْبِرُوا و اثبتوا عَلى آلِهَتِكُمْ على عبادتها، و تحمّلوا المشاقّ لأجلها، فإنّه لا حيلة لكم في دفع أمر محمّد. و «أن»

هي المفسّرة، لأنّ الانطلاق عن مجلس التقاول يشعر بالقول.

و قيل: المراد بالانطلاق الاندفاع في القول. «و امشوا» من: مشت المرأة إذا كثرت أولادها. و منه: الماشية، أي: أكثروا و اجتمعوا للتقوّل.

إِنَّ هذا لَشَيْ ءٌ يُرادُ هذا الأمر الّذي نراه- من زيادة أصحاب محمّد- من نوائب الزمان يراد بنا، فلا مردّ له، و لا انفكاك لنا منه. أو إنّ هذا الّذي يدّعيه من التوحيد، أو يقصده من الرئاسة و الترفّع على العرب و العجم، لشي ء يتمنّى، أو يريده كلّ أحد. أو إنّ دينكم يطلب ليؤخذ منكم.

ما سَمِعْنا بِهذا الّذي يدعونا إليه محمّد من التوحيد و خلع الأنداد من اللّه فِي الْمِلَّةِ الْآخِرَةِ في الملّة الّتي أدركنا عليها آباءنا، أو في ملّة عيسى الّتي هي آخر الملل، فإنّ النصارى يثلّثون و لا يوحّدون. و يجوز أن يكون حالا من «هذا»، و لا يتعلّق ب «ما سمعنا». و المعنى: أنّا لم نسمع من أهل الكتاب و لا من الكهّان أنّه يحدث التوحيد في الملّة الآخرة. إِنْ هذا ما هذا الّذي يقوله محمّد إِلَّا اخْتِلاقٌ كذب اختلقه.

ثمّ أنكروا أن يختصّ عليه السّلام بشرف النبوّة و الوحي من بين رؤسائهم، و ينزل عليه الكتاب دونهم، و هو مثلهم أو أدون منهم في الشرف و الرئاسة، فقالوا:

أَ أُنْزِلَ عَلَيْهِ الذِّكْرُ مِنْ بَيْنِنا أي: كيف أنزل على محمّد القرآن من بيننا، و ليس بأكبر سنّا منّا، و لا بأعظم شرفا؟ و هذا دليل على أنّ مبدأ تكذيبهم لم يكن إلّا الحسد، و قصور النظر على الحطام الدنيوي. و قرأ قالون بمدّ الأولى و تليين الثانية شبه واو. و كذلك ابن كثير و أبو عمرو، إلّا أنّهم يقصرونها.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 10

ثمّ ردّ اللّه

عليهم قولهم بقوله: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ مِنْ ذِكْرِي من القرآن أو الوحي، لميلهم إلى التقليد، و إعراضهم عن الدليل. و ليس في عقيدتهم ما يبتّون به من قولهم: «هذا ساحِرٌ كَذَّابٌ» «إِنْ هذا إِلَّا اخْتِلاقٌ».

ثمّ هدّدهم بقوله: بَلْ لَمَّا يَذُوقُوا عَذابِ عذابي بعد، فإذا ذاقوه زال شكّهم.

و المراد: أنّهم لا يصدّقون بالقرآن حتّى يمسّهم العذاب فيلجئهم إلى تصديقه.

[سورة ص (38): الآيات 9 الى 15]

أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ الْعَزِيزِ الْوَهَّابِ (9) أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ (10) جُنْدٌ ما هُنالِكَ مَهْزُومٌ مِنَ الْأَحْزابِ (11) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ عادٌ وَ فِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ (12) وَ ثَمُودُ وَ قَوْمُ لُوطٍ وَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ أُولئِكَ الْأَحْزابُ (13)

إِنْ كُلٌّ إِلاَّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ عِقابِ (14) وَ ما يَنْظُرُ هؤُلاءِ إِلاَّ صَيْحَةً واحِدَةً ما لَها مِنْ فَواقٍ (15)

ثمّ أجابهم عن إنكارهم نبوّته صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقوله: أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَحْمَةِ رَبِّكَ بل أعندهم خزائن رحمته و في تصرّفهم حتّى يصيبوا بها من شاؤا، و يصرفوها عمّن شاؤا، فيتخيّروا للنبوّة بعض صناديدهم، و يترفّعوا بها عن محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟ و ليس الأمر كذلك، فإنّ النبوّة عطيّة من اللّه يتفضّل بها على من يشاء من عباده، لا مانع له.

الْعَزِيزِ الغالب الّذي لا يغلب الْوَهَّابِ الّذي له أن يهب كلّ ما شاء على حسب المصالح، فيختار للنبوّة من يشاء من عباده. و نظيره قوله: وَ لَقَدِ اخْتَرْناهُمْ

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 11

عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ «1».

و لمّا أنكر عليهم التصرّف في نبوّته، بأن ليس عندهم خزائن رحمته الّتي لا نهاية لها، أردف ترشيحا لهذا المعنى أَمْ لَهُمْ مُلْكُ السَّماواتِ

وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما أي: ليس لهم مدخل في أمر هذا العالم الجسماني الّذي هو جزء يسير من خزائنه، فمن أين لهم أن يتصرّفوا فيها؟

ثمّ تهكّم بهم غاية التهكّم، فقال: إن كان لهم ذلك فَلْيَرْتَقُوا فِي الْأَسْبابِ فليصعدوا في المعارج و الطرق الّتي يتوصّل بها إلى العرش حتّى يستووا عليه، و يدبّروا أمر العالم، فينزلوا الوحي إلى من يستصوبون. و السبب في الأصل هو الوصلة. و قيل: المراد بالأسباب السماوات، لأنّها أسباب الحوادث السفليّة.

ثمّ استصغرهم و استحقرهم عن هذا الأمر الجليل و الخطب العظيم، فقال:

جُنْدٌ ما «ما» مزيدة للتقليل، كقولك: أكلت شيئا ما، أي: هم جند قليل حقير جدّا هُنالِكَ إشارة إلى حيث وضعوا فيه أنفسهم من الانتداب لمثل هذا القول. أو إشارة إلى مصارعهم ببدر. مَهْزُومٌ مكسور عمّا قريب مِنَ الْأَحْزابِ من الكفّار المتحزّبين على الرسل، و أنت منصور عليهم مظفّر غالب، فمن أين لهم التدابير الإلهيّة و التصرّف في الأمور الربّانيّة؟ فلا تبال بما يقولون.

ثمّ هدّدهم باستئصال الأحزاب المكذّبين المعاندين في سالف زمانهم، فقال:

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قبل هؤلاء الكفّار قَوْمُ نُوحٍ وَ عادٌ وَ فِرْعَوْنُ ذُو الْأَوْتادِ ذو الملك الثابت بالأوتاد، كقوله:

و لقد غنوا فيها بأنعم عيشةفي ظلّ ملك ثابت الأوتاد

مأخوذ من ثبات البيت المطنّب بأوتاده. أو ذو الجموع الكثيرة. سمّوا بذلك لأنّهم يشدّون ملكه، و يقرّون أمره. أو لأنّ بعضهم يشدّ بعضا، كالوتد يشدّ البناء. أو

______________________________

(1) الدّخان: 32.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 12

لكثرة أوتاد خيامهم.

و قيل: نصب أربع سوار، و كان يمدّ يدي المعذّب و رجليه إليها، و يضرب عليها أوتادا، و يتركه حتّى يموت.

و قيل: كان يمدّه بين أربعة أوتاد في الأرض، و يرسل عليه الحيّات و العقارب.

و عن ابن عبّاس

و قتادة و عطاء: أنّه كانت له ملاعب من أوتاد يلعب له عليها.

وَ ثَمُودُ و هم قوم صالح وَ قَوْمُ لُوطٍ وَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ و أصحاب الغيضة «1». و هم قوم شعيب. و قرأ ابن كثير و نافع و ابن عامر: ليكة.

و لمّا ذكر هؤلاء المكذّبين، أعلمنا أنّ مشركي قريش حزب من هؤلاء الأحزاب، فقال: أُولئِكَ أي: أولئك المكذّبون المعاندون الْأَحْزابُ هم المتحزّبون على الرسل الّذين جعل الجند المهزوم منهم.

ثمّ صرّح بما أسند إليهم من التكذيب على الإبهام، فقال على أبلغ تأكيد:

إِنْ كُلٌ ما كلّ واحد من الأحزاب إِلَّا كَذَّبَ الرُّسُلَ كذّب جميع الرسل، لأنّهم إذا كذّبوا واحدا منهم فقد كذّبوهم جميعا. و يجوز أن يكون ذلك مقابلة الجمع بالجمع تسجيلا. و في تكرير التكذيب و إيضاحه بعد إبهامه، و التنويع في تكريره بالجملة الخبريّة أوّلا، و بالاستثنائيّة ثانيا، و ما في الاستثنائيّة من الوضع على وجه التوكيد و التخصيص، أنواع من المبالغة المسجّلة عليهم، باستحقاق أشدّ العقاب و أبلغه.

و لذلك رتّب عليه فَحَقَّ عِقابِ أي: فوجب أن أعاقبهم حقّ عقابهم.

وَ ما يَنْظُرُ هؤُلاءِ أي: و ما ينتظر قومك أو الأحزاب، فإنّهم كالحاضرين، لاستحضارهم بالذكر، أو حضورهم في علم اللّه إِلَّا صَيْحَةً واحِدَةً هي النفخة الأولى ما لَها مِنْ فَواقٍ من توقّف مقدار فواق. و هو ما بين جلستي الحالب

______________________________

(1) الغيضة: الأجمة، و مجتمع الشجر في مغيض الماء.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 13

و رضعتي الراضع. يعني: إذا جاء وقتها لم تستأخر هذا القدر من الزمان، كقوله تعالى: فَإِذا جاءَ أَجَلُهُمْ لا يَسْتَأْخِرُونَ ساعَةً وَ لا يَسْتَقْدِمُونَ «1».

و عن ابن عبّاس: ما لها من رجوع و ترداد. من: أفاق المريض إذا رجع إلى الصحّة. و فواق

الناقة ساعة يرجع اللبن إلى الضرع. يريد: أنّها نفخة واحدة فحسب، لا تثنّى و لا تردّد. و قرأ حمزة و الكسائي بالضمّ. و هما لغتان.

[سورة ص (38): الآيات 16 الى 20]

وَ قالُوا رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ (16) اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ ذَا الْأَيْدِ إِنَّهُ أَوَّابٌ (17) إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْراقِ (18) وَ الطَّيْرَ مَحْشُورَةً كُلٌّ لَهُ أَوَّابٌ (19) وَ شَدَدْنا مُلْكَهُ وَ آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ وَ فَصْلَ الْخِطابِ (20)

روي: أنّه لمّا نزل فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ ... وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ «2»، قالت قريش: زعمت يا محمّد أنّا نؤتى كتابنا بشمالنا، فعجّل لنا كتبنا الّتي نقرؤها في الآخرة، استهزاء منهم بهذا الوعيد و تكذيبا به. فنزلت:

وَ قالُوا

و قال هؤلاء الكفّار: رَبَّنا عَجِّلْ لَنا قِطَّنا قسطنا من العذاب الّذي توعدنا به. أو الجنّة الّتي تعدها للمؤمنين. و هو من: قطّه إذا قطعه. فسمّي القسط القطّ، لأنّه قطعة من الشي ء. و منه قطّ الصحيفة الجائزة، لأنّه قطعة من القرطاس. و قد فسّر بهما، أي: عجّل لنا صحيفة أعمالنا ننظر فيها. قَبْلَ يَوْمِ الْحِسابِ

______________________________

(1) الأعراف: 34.

(2) الحاقّة: 19 و 25.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 14

و لمّا كانوا استعجلوا ذلك استهزاء قال: اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ من تكذيبك، فإنّ و بال ذلك يعود عليهم وَ اذْكُرْ عَبْدَنا داوُدَ و اذكر لهم قصّة داود، تعظيما للمعصية في أعينهم، فإنّه مع علوّ شأنه و اختصاصه بعظائم النعم و المكرمات، و كمال زلفته عند اللّه سبحانه، لمّا زلّ زلّة من ترك الأولى، وبّخه الملائكة بالتمثيل و التعريض حتّى تفطّن فاستغفر ربّه و أناب، و وجد منه ما يحكي عن بكائه الدائم و غمّه الواصب

«1»، و لا يزال مجدّدا للندم عليها، فما الظنّ بكم مع كفركم و فرط معاصيكم؟! أو تذكّر قصّته، و صن نفسك أن تزلّ فيما كلّفت من مصابرتهم و تحمّل أذاهم، فيلقاك ما لقيه من المعاتبة على إهماله.

ذَا الْأَيْدِ ذا القوّة في الدين و العبادة. يقال: رجل أيد و ذو أيد و أياد، بمعنى ما يتقوّى به. و روي: أنّه يقوم نصف الليل، و يصوم نصف الدهر، كان يصوم يوما و يفطر يوما، و ذلك أشدّ الصوم.

و قيل: ذا القوّة على الأعداء و قهرهم. و ذلك لأنّه رمى بحجر من مقلاعه صدر رجل، فأنفذه من ظهره فأصاب آخر فقتله.

و قيل: معناه: ذا التمكين العظيم، و النعم الجليلة. و ذلك أنّه كان يبيت كلّ ليلة حول محرابه ألوف كثيرة من الرجال.

إِنَّهُ أَوَّابٌ توّاب، رجّاع عن كلّ ما يكره اللّه إلى ما يحبّ. من: آب يؤوب إذا رجع. و هذا تعليل للأيد، و دليل على أنّ المراد به القوّة في الدين.

إِنَّا سَخَّرْنَا الْجِبالَ مَعَهُ يُسَبِّحْنَ قد سبق «2» تفسير تسخير الجبال مع داود.

و «يسبّحن» حال وضع موضع: مسبّحات، لاستحضار الحال الماضية، و الدلالة على تجدّد التسبيح من الجبال حالا بعد حال.

______________________________

(1) أي: الدائم.

(2) راجع ج 4 ص 343، ذيل الآية 79 من سورة الأنبياء.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 15

بِالْعَشِيِّ وَ الْإِشْراقِ وقت دخول الشروق. يقال: أشرقت الشمس و لمّا تشرق. من: أشرق القوم إذا دخلوا في الشروق. و منه قوله تعالى: فَأَخَذَتْهُمُ الصَّيْحَةُ مُشْرِقِينَ «1». و قول الجاهليّة: أشرق ثبير «2» كيما نغير، أي: و ادخل في الضوء لنغير. و يراد وقت صلاة الفجر، لانتهائه بالشروق.

و المعنى: يسبّحن اللّه إذا سبّح وقت الرواح و الصباح. و ذلك إمّا بأن

خلق اللّه فيهنّ التسبيح، أو بنى فيها بنية يتأتّى منها التسبيح معجزة له عليه السّلام.

و كذلك قوله: وَ الطَّيْرَ مَحْشُورَةً مجموعة إليه من كلّ جانب. و إنّما لم يقل: يحشرن، مع أنّ فيه المطابقة بين الحالين، لأنّ الحشر جملة أدلّ على القدرة منه مدرّجا.

و عن ابن عبّاس: كان داود إذا سبّح جاوبته الجبال بالتسبيح، و اجتمعت إليه الطير فسبّحته، فذلك حشر الطير.

كُلٌّ لَهُ أي: كلّ واحد من الجبال و الطير لأجل داود- أي: لأجل تسبيحه- أَوَّابٌ رجّاع إلى التسبيح. و وضع الأوّاب موضع المسبّح، إمّا لأنّها كانت ترجّع التسبيح، و المرجّع رجّاع، لأنّه يرجع إلى فعله رجوعا بعد رجوع. و إمّا لأنّ الأوّاب- و هو التوّاب الكثير الرجوع إلى اللّه تعالى و طلب مرضاته- من عادته أن يكثر ذكر اللّه، و يديم تسبيحه و تقديسه.

و قيل: الضمير للّه، أي: كلّ منهما و من داود مرجّع للّه التسبيح. و الفرق بينه و بين «يسبّحن» أنّه يدلّ على الموافقة في التسبيح، و هذا يدلّ على المداومة عليها.

وَ شَدَدْنا مُلْكَهُ و قوّيناه بالحرس و الجنود و كثرة العدد و العدّة و الهيبة، بأن قذفنا في قلوب قومه هيبته.

______________________________

(1) الحجر: 73.

(2) ثبير: اسم جبل بمكّة.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 16

روي: أنّ رجلا ادّعى عنده بقرة على آخر، و عجز عن إقامة البيّنة، فأوحي إليه في المنام: أن اقتل المدّعى عليه. فقال: هذا منام. فأعيد الوحي في اليقظة، فأعلم الرجل. فقال: صدقت، إنّ اللّه لم يأخذني بهذا الذنب، و لكن بأنّي قتلت أبا هذا غيلة، و أخذت البقرة. فقتله، فعظمت بذلك هيبته.

و قيل: كان يبيت حول محرابه أربعون ألف مستلئم «1» يحرسونه.

وَ آتَيْناهُ الْحِكْمَةَ النبوّة. أو كمال العلم و إتقان العمل.

و قيل: كلّ كلام وافق الحقّ فهو حكمة. وَ فَصْلَ الْخِطابِ و فصل الخصام بتمييز الحقّ عن الباطل. و هو بمعنى المفعول، أي: كلام مفصول بعضه من بعض. فمعنى فصل الخطاب: الكلام المخلص الّذي ينبّه من يخاطب به على المقصود من غير التباس عليه. و من فصل الخطاب أن لا يخطئ صاحبه مظانّ الفصل و الوصل، و العطف و الاستئناف، و الإضمار و الإظهار، و الحذف و التكرار، و نحوها.

و يجوز أن يكون بمعنى الفاعل، كالصوم «2» و الزور. و المعنى: الكلام الفاصل بين الخطاب الّذي يفصل بين الصحيح و الفاسد، و الحقّ و الباطل، و الصواب و الخطأ.

و هو كلامه في القضايا و الحكومات و تدابير الملك. و سمّي به «أمّا بعد» لأنّه يفصل المقصود عمّا سبق مقدّمة له، من الحمد و الصلاة.

و قيل: هو الخطاب المتوسّط الّذي ليس فيه اختصار مخلّ، و لا إشباع مملّ.

كما جاء في وصف كلام الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: فصل، لا نزر، و لا هذر «3».

و

عن عليّ عليه السّلام: «هو قوله: البيّنة على المدّعي، و اليمين على المدّعى عليه».

روي: أنّه كان أهل زمان داود عليه السّلام يسأل بعضهم بعضا أن ينزل له عن امرأته، فيتزوّجها إذا أعجبته. و كانت لهم عادة في المواساة بذلك قد اعتادوها. و قد روي

______________________________

(1) أي: لابس اللأمة، و هي الدرع.

(2) يقال: هو صوم، أي: صائم. و رجل زور، أي: زائر.

(3) النزر: القليل. و الهذر: الكلام الردي ء الّذي لا يعبأ به.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 17

أنّ الأنصار أيضا كانوا يواسون المهاجرين مثل ذلك. فاتّفق «1» أنّ عين داود وقعت على امرأة رجل يقال له: أوريا، و قيل: هو أخوه، فأحبّها، فسأله

النزول له عنها، فاستحى أن يردّه ففعل، فتزوّجها، و هي أمّ سليمان. فعوتب بأنّك مع عظم منزلتك، و ارتفاع مرتبتك، و كبر شأنك، و كثرة نسائك، لم يكن ينبغي لك أن تسأل رجلا ليس له إلّا امرأة واحدة النزول، بل كان ملائم شأنك الرفيع مغالبة هواك، و قهر نفسك، و الصبر على ما امتحنت به. فعوتب على ذلك بنزول ملكين عليه، كما حكاه اللّه سبحانه، بعد أن أخبر أنّه أعطي الحكمة و فصل الخطاب.

[سورة ص (38): الآيات 21 الى 26]

وَ هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ (21) إِذْ دَخَلُوا عَلى داوُدَ فَفَزِعَ مِنْهُمْ قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ لا تُشْطِطْ وَ اهْدِنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ (22) إِنَّ هذا أَخِي لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً وَ لِيَ نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها وَ عَزَّنِي فِي الْخِطابِ (23) قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ لَيَبْغِي بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ قَلِيلٌ ما هُمْ وَ ظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ وَ خَرَّ راكِعاً وَ أَنابَ (24) فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَ حُسْنَ مَآبٍ (25)

يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِّ وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى فَيُضِلَّكَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا يَوْمَ الْحِسابِ (26)

______________________________

(1) هذه الرواية رواها البيضاوي في (أنوار التنزيل 5: 17) و غيره من المفسّرين. وليت المفسّر قدّس سرّه لم يذكرها أصلا، لأنّها تتنافى و قداسة الأنبياء عليهم السّلام و عصمتهم، و تتضمّن أفحش الافتراء و الظلم على داود عليه السّلام، و نسبة الخلاعة و المجون

و معاشقة حلائل الناس إليه، ممّا يتعاطاه الفسقة و المستهترين بحرمات اللّه تعالى. و في لفظ البيضاوي: فعشقها. مع أنّه روى ذيل هذه الرواية

عن عليّ عليه السّلام: «أنّ من حدّث بحديث داود على ما يرويه القصّاص جلدته مائة و ستّين».

و ناهيك بهذا حكما قاطعا، و عقابا صارما، و هو إمام المتّقين، و أقضى الأمّة، على ما نطق به الرسول الأعظم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و لعلّ جلد مائة و ستّين حدّ الفرية على الأنبياء.

فالرواية أشبه ما تكون من خرافات الجهّال و الدجّالين، و أساطير القصّاص و المشعوذين.

و رحم اللّه المفسّر، فما كان الأجدر و الأليق به أن يطوي عن ذكرها كشحا، و يتركها في قفص المهملات و الموضوعات.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 18

وَ هَلْ أَتاكَ نَبَأُ الْخَصْمِ معنى الاستفهام التعجيب، و التشويق إلى استماعه، و التنبيه على موضع إخلاله ببعض ما كان ينبغي أن يفعله. و الخصم في الأصل مصدر يقع على الواحد و الجمع، كالضيف في قول اللّه تعالى: حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ «1».

و المعنى: هل بلغك خبر الخصماء إِذْ تَسَوَّرُوا الْمِحْرابَ إذ تصعّدوا سور الغرفة، و هي مصلّاه. و السور الحائط المرتفع. و نظيره: تسنّمه إذا علا سنامه، و تفرّعه إذا علا فرعه «2».

و «إذ» متعلّق بمحذوف، أي: نبأ تحاكم الخصماء إذ تسوّروا. أو بالنبإ، على

______________________________

(1) الذاريات: 24.

(2) الفرع من كلّ شي ء: أعلاه المتفرّع من أصله.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 19

أنّ المراد به الواقع في عهد داود، و أنّ إسناد «أتى» إليه على حذف مضاف، أي:

قصّة نبأ الخصم. أو بالخصم، لما فيه من معنى الفعل. لا ب: أتى، لأنّ إتيانه الرسول عليه السّلام لم يكن حينئذ.

و «إذ» في قوله: إِذْ دَخَلُوا

عَلى داوُدَ بدل من الأولى، أو ظرف ل «تسوّروا» فَفَزِعَ مِنْهُمْ لأنّهم نزلوا عليه من فوق، في يوم الاحتجاب، و الحرس على الباب، لا يتركون من يدخل عليه. فإنّه كان جزّأ زمانه على أربعة أجزاء: يوما للعبادة، و يوما للقضاء، و يوما للوعظ، و يوما للاشتغال بخاصّته. فتسوّر عليه ملائكة على صورة الإنسان في يوم الخلوة.

قالُوا لا تَخَفْ خَصْمانِ نحن فوجان متخاصمان، على تسمية مصاحب الخصم خصما بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ و هو على الفرض و قصد التعريض إن كانوا ملائكة، و هو المشهور فَاحْكُمْ بَيْنَنا بِالْحَقِّ وَ لا تُشْطِطْ و لا تجر في الحكومة بالميل لأحدنا على صاحبه. من الشطط، و هو مجاوزة الحدّ. وَ اهْدِنا و أرشدنا إِلى سَواءِ الصِّراطِ إلى وسط الطريق الّذي هو طريق العدل.

فقال أحد الخصمين له: إِنَّ هذا أَخِي في الدين أو الصحبة لَهُ تِسْعٌ وَ تِسْعُونَ نَعْجَةً هي الأنثى من الضأن. و قد يكنّى بها عن المرأة، و الكناية و التمثيل فيما يساق للتعريض أبلغ في المقصود. وَ لِيَ قرأ حفص بفتح الياء نَعْجَةٌ واحِدَةٌ فَقالَ أَكْفِلْنِيها ملّكنيها. و حقيقته: اجعلني أكفلها كما أكفل ما تحت يدي. و قيل: معناه: اجعلها كفلي، أي: نصيبي. وَ عَزَّنِي فِي الْخِطابِ و غلبني في مخاطبته إيّاي محاجّة، بأن جاء بحجاج و جدال لم أقدر على ردّه. أو في مغالبته إيّاي في الخطبة. يقال: خطبت المرأة و خطبها هو فخاطبني خطابا، أي: غالبني في الخطبة فغلبني، حيث تزوّجها دوني.

قيل: إنّ الخصمين كانا من الإنس، و كانت الخصومة على الحقيقة بينهما، إمّا

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 20

كانا خليطين في الغنم، و إمّا كان أحدهما موسرا و له نسوان كثيرة من المهائر و السراري، و

الثاني معسرا ما له إلّا امرأة واحدة، فاستنزله عنها.

قالَ لَقَدْ ظَلَمَكَ بِسُؤالِ نَعْجَتِكَ إِلى نِعاجِهِ جواب قسم محذوف، قصد به المبالغة في إنكار فعل خليطه و تهجين طمعه. و لعلّه قال ذلك بعد اعتراف المدّعى عليه، أو على تقدير صدق المدّعي. و السؤال مصدر مضاف إلى مفعوله. و تعديته إلى مفعول آخر ب «إلى» لتضمّنه معنى الإضافة. كأنّه قال: بإضافة نعجتك إلى نعاجه على وجه السؤال و الطلب.

وَ إِنَّ كَثِيراً مِنَ الْخُلَطاءِ الشركاء الّذين خلطوا أموالهم. جمع خليط.

لَيَبْغِي ليتعدّى بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فإنّهم لا يظلم بعضهم بعضا وَ قَلِيلٌ ما هُمْ و هم قليل جدّا. و «ما» مزيدة للإبهام و التعجّب من قلّتهم. و المقصود من ذلك القول: الموعظة الحسنة، و الترغيب في إيثار عادة الخلطاء الصلحاء الّذين حكم لهم بالقلّة، و تكريه الظلم- الّذي أكثرهم عليه- إليهم، مع التأسّف على حالهم، و تسلية المظلوم عمّا جرى عليه من خليطه.

وَ ظَنَّ داوُدُ أَنَّما فَتَنَّاهُ ابتليناه بترك الأولى، أو امتحنّاه بتلك الحكومة هل يتنبّه بها؟ و لمّا كان غلبة الظنّ كالعلم استعير له. و المعنى: و علم داود و أيقن أنّما اختبرناه و ابتليناه لا محالة. فَاسْتَغْفَرَ رَبَّهُ لترك الأولى وَ خَرَّ راكِعاً ساجدا، على تسمية السجود ركوعا، لأنّه مبدؤه. أو خرّ للسجود راكعا، أي: مصلّيا، كأنّه أحرم بركعتي الاستغفار. وَ أَنابَ إليه. و قيل: سقط ساجدا للّه تعالى و رجع إليه.

و قد يعبّر عن السجود بالركوع.

و عن ابن مجاهد: مكث ساجدا أربعين يوما و ليلة، لا يرفع رأسه إلّا لصلاة مكتوبة، أو لحاجة لا بدّ منها. و لا يرقأ «1» دمعه حتّى نبت العشب من دمعه. و لم

______________________________

(1)

أي: لا يجفّ و لا ينقطع.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 21

يشرب ماء إلّا و ثلثاه دمع. و جهد نفسه راغبا إلى اللّه في العفو عنه، حتّى كاد يهلك.

و اشتغل بذلك عن الملك، حتّى و ثب ابن له يقال له: إيشا على ملكه، و دعا إلى نفسه، و اجتمع إليه أهل الزيغ من بني إسرائيل.

فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ أي: ما استغفر عنه وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى لقربة وَ حُسْنَ مَآبٍ مرجع في الجنّة. و لمّا غفر له حارب ابنه فهزمه. و قيل: إنّه نقش هذه الزلّة في كفّه حتّى لا ينساه.

و اختلف في أنّ استغفار داود من أيّ شي ء كان؟ فقيل: إنّه حصل منه على سبيل الانقطاع إلى اللّه تعالى، و الخضوع له، و التذلّل بالعبادة و السجود. كما حكى سبحانه عن إبراهيم عليه السّلام بقوله: وَ الَّذِي أَطْمَعُ أَنْ يَغْفِرَ لِي خَطِيئَتِي يَوْمَ الدِّينِ «1».

و أما قوله: فَغَفَرْنا لَهُ ذلِكَ فمعناه: أنّا قبلناه منه و أثبناه. و لمّا كان المقصود من الاستغفار و التوبة القبول، قيل في جوابه: غفرنا. و هذا قول من ينزّه الأنبياء عن جميع الذنوب، من الاماميّة و غيرهم.

و من جوّز على الأنبياء الصغائر قال: إنّ استغفاره كان لذنب صغير وقع منه.

و هو أنّ أوريا بن حيّان خطب امرأة، و كان أهلها أرادوا أن يزوّجوها منه، فبلغ داود جمالها، فخطبها أيضا فزوّجوها منه، و قدّموه على أوريا. فعوتب داود على حرصه على الدنيا، و على أن خطب على خطبة أخيه المؤمن مع كثرة نسائه.

و قيل: إنّه خرج أوريا إلى بعض ثغوره فقتل، فلم يجزع عليه جزعه على أمثاله من جنده، إذ مالت نفسه إلى نكاح امرأته، فعوتب على ذلك بنزول الملكين.

و قيل: إنّه

كان في شريعته أنّ الرجل إذا مات و خلّف امرأة فأولياؤه أحقّ بها، إلّا أن يرغبوا عن التزوّج بها، فحينئذ يجوز لغيرهم أن يتزوّج بها. فلمّا قتل أوريا خطب داود امرأته، و منعت هيبة داود و جلالته أولياءه أن يخطبوها،

______________________________

(1) الشعراء: 82.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 22

فعوتب على ذلك.

و قيل: إنّ داود كان متشاغلا بالعبادة، فأتاه رجل و امرأة متحاكمين إليه، فنظر إلى المرأة ليعرفها بعينها، و ذلك نظر مباح، فمالت نفسه إليها ميل الطباع، فعاد إلى عبادة ربّه، فشغله الفكر في أمرها عن بعض نوافله، فعوتب.

و قيل: إنّه عوتب على عجلته في الحكم قبل التثبّت، و كان يجب عليه حين سمع الدعوى من أحد الخصمين أن يسأل الآخر عمّا عنده فيها، و لا يحكم عليه قبل ذلك. و إنّما أنساه التثبّت في الحكم، فزعه من دخولهما عليه في غير وقت العادة.

و أمّا ما ذكر في القصّة: أنّ داود كان كثير الصلاة، فقال: يا ربّ فضّلت عليّ إبراهيم فاتّخذته خليلا، و فضّلت عليّ موسى فكلّمته تكليما. فقال: يا داود إنّا ابتليناهم بما لم نبتلك بمثله، فإن شئت ابتليتك. فقال: نعم، يا ربّ فابتلني.

فبينا هو في محرابه ذات يوم، إذ وقعت حمامة، فأراد أن يأخذها فطارت إلى كوّة المحراب، فذهب ليأخذها، فاطّلع من الكوّة فإذا امرأة أوريا بن حيّان تغتسل، فهواها و همّ بتزوّجها، فبعث باوريا إلى بعض سراياه، و أمر بتقديمه أمام التابوت الّذي فيه السكينة، ففعل ذلك و قتل، فلمّا انقضت عدّتها تزوّجها و بنى بها، فولد له منها سليمان. فبينا هو ذات يوم في محرابه يقرأ الزبور، إذ دخل عليه رجلان، ففزع منهما. فقالا: «لا تَخَفْ خَصْمانِ بَغى بَعْضُنا عَلى بَعْضٍ» إلى قوله: «وَ

قَلِيلٌ ما هُمْ». فنظر أحد الرجلين إلى صاحبه ثمّ ضحك.

فتنبّه داود على أنّهما ملكان، بعثهما اللّه إليه في صورة خصمين، ليبكّتاه على خطيئته.

فممّا «1» لا شبهة في فساد ذلك، فإنّه ممّا يقدح في العدالة. و كيف يجوز أن

______________________________

(1) خبر لقوله: و أمّا ما ذكر ...، في بداية الفقرة السابقة.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 23

يكون أنبياء اللّه تعالى الّذين هم أمناؤه على وحيه، و سفراؤه بينه و بين خلقه، بصفة من لا يجوز قبول شهادته، و على حالة تنفّر عن الاستماع إليه و القبول منه؟! جلّ أنبياء اللّه عن ذلك.

و

قد روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «لا اوتى برجل يزعم أن داود تزوّج امرأة أوريا، إلّا جلدته حدّين: حدّا للنبوّة، و حدّا للإسلام».

و

برواية عنه عليه السّلام: «من حدّث بحديث داود على ما يرويه القصّاص، جلدته مائة و ستّين».

و هي حدّ الفرية على الأنبياء.

ثمّ ذكر سبحانه إتمام نعمته على داود، فقال: يا داوُدُ إِنَّا جَعَلْناكَ خَلِيفَةً فِي الْأَرْضِ استخلفناك على الملك فيها لتدبير أمور العباد من قبلنا بأمرنا، كمن يستخلفه بعض السلاطين على بعض البلاد، و يملّكه عليها. و منه قولهم: خلفاء اللّه في أرضه. أو جعلناك خليفة ممّن كان قبلك من الأنبياء القائمين بالحقّ. و فيه دليل على أنّ حاله بعد الإنابة و التوبة عن ترك الأولى بقيت على ما كانت عليه لم تتغيّر.

فَاحْكُمْ بَيْنَ النَّاسِ بِالْحَقِ أي: بحكم اللّه، إذ كنت خليفته وَ لا تَتَّبِعِ الْهَوى ما تهوى الأنفس من مخالفة الحقّ. و هو يؤيّد ما قيل: إنّ زلّته المبادرة إلى تصديق المدّعي، و تظليم الآخر قبل مسألته. فَيُضِلَّكَ أي: إن اتّبعت الهوى فيعدل الهوى بك عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ عن دلائله الّتي نصبها

في العقول- أو في شرائعه بالوحي- على الحقّ.

إِنَّ الَّذِينَ يَضِلُّونَ عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ يعدلون عمّا أمرهم اللّه به لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بِما نَسُوا بسبب نسيانهم، أي: تركهم طاعات اللّه في الدنيا. و على هذا يكون قوله: يَوْمَ الْحِسابِ متعلّق ب «عذاب شديد». أولهم عذاب شديد بإعراضهم عن ذكر يوم القيامة. فيكون متعلّقا ب «نسوا».

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 24

[سورة ص (38): الآيات 27 الى 29]

وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلاً ذلِكَ ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ (27) أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ (28) كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ (29)

ثمّ نبّه العباد على وجوب ملازمة الحقّ و مخالفة الهوى، بقوله: وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما باطِلًا خلقا باطلا، أي: عبثا لا لغرض صحيح و حكمة بالغة، كما هو مقتضى الهوى. أو ذوي باطل، بمعنى: مبطلين عابثين، كقوله: وَ ما خَلَقْنَا السَّماءَ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ «1». أو عبثا، فوضع «باطلا» موضعه، كما وضعوا «هنيئا لك» موضع المصدر. بل خلقناهما بالحقّ الّذي هو مقتضى الدليل، من التوحيد و التدرّع بالشرع.

ذلِكَ إشارة إلى خلقهما باطلا ظَنُّ الَّذِينَ كَفَرُوا أي: مظنونهم فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنَ النَّارِ بسبب هذا الظنّ الباطل.

أَمْ نَجْعَلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ كَالْمُفْسِدِينَ فِي الْأَرْضِ «أم» منقطعة. و معنى الاستفهام فيها إنكار التسوية بين المؤمنين الصالحين و الكافرين المفسدين، الّتي دلّ على نفيها خلق السماوات و الأرض بالحقّ. و كذلك «أم» الّتي في قوله: أَمْ نَجْعَلُ الْمُتَّقِينَ كَالْفُجَّارِ. كأنّه أنكر التسوية أوّلا بين المؤمنين و الكافرين، ثمّ بين المتّقين من المؤمنين و المجرمين منهم.

و

يجوز أن يكون تكريرا للإنكار الأوّل باعتبار وصفين آخرين يمنعان

______________________________

(1) الأنبياء: 16.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 25

التسوية من الحكيم.

و المعنى: أنّه لو بطل الجزاء كما قال المشركون لاستوت عند اللّه أحوال من أصلح و أفسد، و اتّقى و فجر، و من سوّى بينهما كان سفيها و لم يكن حكيما.

و الآية تدلّ على صحّة القول بالحشر، فإنّ التفاضل بينهما إمّا أن يكون في الدنيا، و الغالب فيها عكس ما تقتضي الحكمة فيه، أو في غيرها، و ذلك يستدعي أن تكون دار اخرى يجازون فيها.

ثمّ خاطب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقوله: كِتابٌ أَنْزَلْناهُ إِلَيْكَ مُبارَكٌ نفّاع لِيَدَّبَّرُوا آياتِهِ وَ لِيَتَذَكَّرَ أُولُوا الْأَلْبابِ ليتفكّروا فيها، فيعرفوا ما يدبّر ظاهرها من التأويلات الصحيحة و المعاني الحسنة، فإنّ من اقتنع بظاهر المتلوّ، كان مثله كمثل من له لقحة «1» درور لا يحلبها، و مهرة نثور لا يستولدها.

و عن الحسن: قد قرأ هذا القرآن عبيد و صبيان لا علم لهم بتأويله، حفظوا حروفه و ضيّعوا حدوده، حتّى إنّ أحدهم ليقول: و اللّه لقد قرأت القرآن فما أسقطت منه حرفا. و قد و اللّه أسقطه كلّه، ما يرى للقرآن عليه أثر في خلق و لا عمل. و اللّه ما هو بحفظ حروفه و إضاعة حدوده. و اللّه ما هؤلاء بالحكماء و لا الوزعة «2»، لا كثّر اللّه في الناس مثل هؤلاء. اللّهمّ اجعلنا من العلماء المتدبّرين، و أعذنا من القرّاء المتكبّرين.

[سورة ص (38): الآيات 30 الى 40]

وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (30) إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ بِالْعَشِيِّ الصَّافِناتُ الْجِيادُ (31) فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ (32) رُدُّوها عَلَيَّ فَطَفِقَ مَسْحاً بِالسُّوقِ وَ الْأَعْناقِ (33) وَ

لَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ وَ أَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً ثُمَّ أَنابَ (34)

قالَ رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ (35) فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً حَيْثُ أَصابَ (36) وَ الشَّياطِينَ كُلَّ بَنَّاءٍ وَ غَوَّاصٍ (37) وَ آخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ (38) هذا عَطاؤُنا فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ (39)

وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى وَ حُسْنَ مَآبٍ (40)

______________________________

(1) اللقحة: الناقة الحلوب الغزيرة اللبن. و الدرور أيضا: الناقة الكثيرة الدرّ. و المهرة و المهر:

ولد الفرس. و النثور: الكثيرة الولد.

(2) الوزعة جمع الوازع، و هو الذي يكفّ عن الضرر، أو يزجر نفسه عن معاصي اللّه تعالى.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 26

ثمّ عطف سبحانه على قصّة داود حديث سليمان عليه السّلام، فقال: وَ وَهَبْنا لِداوُدَ سُلَيْمانَ نِعْمَ الْعَبْدُ أي: نعم العبد سليمان، إذ ما بعده تعليل للمدح. و هو بيان حال سليمان. إِنَّهُ أَوَّابٌ رجّاع إلى اللّه بالتوبة من ترك الأولى. أو مؤوّب للتسبيح مرجّع له.

إِذْ عُرِضَ عَلَيْهِ ظرف ل «أوّاب» أو ل «نعم» بِالْعَشِيِ بعد الظهر الصَّافِناتُ الصافن من الخيل: الّذي يقوم على ثلاث قوائم، و يضع طرف السنبك «1» الرابع على الأرض. و هو من الصّفات المحمودة في الخيل، لا يكاد يكون إلّا في العراب «2» الخلّص. الْجِيادُ جمع جواد أو جود. و هو الّذي يسرع في

______________________________

(1) السنبك: طرف الحافر. و الحافر: هو للدابّة بمنزلة القدم للإنسان.

(2) العراب من الخيل: ما كانت كرائم سالمة من الهجنة.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 27

جريه واسع الخطو. و قيل: الّذي يجود في الركض. و قيل: جمع جيّد. وصف الخيل بالصفون و الجودة، ليجمع لها بين الوصفين المحمودين واقفة و جارية. يعني: إذا وقفت كانت

ساكنة مطمئنّة في مواقفها، و إذا جرت كانت سراعا خفافا في جريها.

روي: أنّ سليمان عليه السّلام غزا دمشق و نصيبين، فأصاب ألف فرس. و قيل:

أصابها أبوه من العمالقة، فورثها منه فاستعرضها، فلم تزل تعرض عليه حتّى غربت الشمس، و غفل عن ورد من الذكر كان له وقت العشيّ.

و في روايات أصحابنا أنّه فاته العصر أوّل الوقت. و رووا عن قتادة و السدّي:

أنّ هذه الخيل شغلته عن صلاة العصر حتّى فات وقتها.

و عن الجبّائي: لم يفته الفرض، و إنّما فاته نفل كان يفعله آخر النهار، لاشتغاله بالخيل، فاغتمّ لما فاته، فاستردّها فعقرها تقرّبا للّه، و بقي مائة، فما بقي في أيدي الناس من الجياد فمن نسلها. و قيل: لمّا عقرها أبدله اللّه خيرا منها.

و قال الحسن: كانت خيلا خرجت من البحر لها أجنحة، و كان سليمان قد صلّى الصلاة الأولى، و قعد على كرسيّه، و الخيل تعرض عليه حتّى غابت الشمس.

فَقالَ إِنِّي أَحْبَبْتُ حُبَّ الْخَيْرِ عَنْ ذِكْرِ رَبِّي «أحببت» في الأصل متعدّ ب «على»، لأنّه بمعنى: آثرت، لكن لمّا أنيب مناب فعل يتعدّى ب «عن»، مثل: أنبت، عدّي تعديته. كأنّه قال: جعلت حبّ الخير نائبا أو مغنيا عن الطاعة. و قيل: هو بمعنى: تقاعدت. و نصبه على العلّية. و المفعول به محذوف، مثل: الخيل.

و الخير: المال الكثير، كقوله: إِنْ تَرَكَ خَيْراً «1». و قوله: وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ «2». و المراد به هاهنا الخيل الّتي شغلته. و يحتمل أنّه سمّاها خيرا لتعلّق الخير بها، كما

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الخيل معقود بنواصيها الخير إلى يوم القيامة».

______________________________

(1) البقرة: 180.

(2) العاديات: 8.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 28

و قرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو

بفتح الياء.

حَتَّى تَوارَتْ بِالْحِجابِ أي: غربت الشمس. شبّه غروبها بتواري الملك أو المخدّرة بحجابهما. و إضمارها من غير ذكر لدلالة العشيّ عليها. و قيل: الضمير للصافنات، أي: حتّى توارت بحجاب الليل، يعني: الظلام.

رُدُّوها عَلَيَ الضمير للصافنات. و

عن عليّ عليه السّلام: «الخطاب للملائكة، و الضمير للشمس»

أي: قيل للملائكة: ردّوا الشمس لأصلّي العصر، فردّت الشمس فَطَفِقَ فأخذ يمسح السيف مَسْحاً بِالسُّوقِ جمع ساق، كالأسد جمع أسد وَ الْأَعْناقِ جمع العنق، أي بسوقها و أعناقها، أي: يقطعها. من قولهم: مسح علاوته، أي: ضرب عنقه. و مسح المجلّد الكتاب، إذا قطع أطرافه بسيفه. و قيل:

جعل يمسح بيده أعناقها و سوقها حبّا لها، ثمّ جعلها مسبّلة في سبيل اللّه.

و عن ابن كثير: بالسّوق على همز الواو، لضمّة ما قبلها، كمؤسى. و عن أبي عمرو: بالسّؤوق، كغؤور، مصدر: غارت الشمس.

عن ابن عبّاس: سألت عليّا عليه السّلام عن هذه الآية. فقال: ما بلغك فيها يا ابن عبّاس؟ قلت: سمعت كعبا يقول: اشتغل سليمان بعرض الأفراس حتّى فاتته الصلاة، فقال: ردّوها عليّ- يعني: الأفراس- و كان أربعة عشر، فأمر بضرب سوقها و أعناقها بالسيف فقتلها، فسلبه اللّه ملكه أربعة عشر يوما، لأنّه ظلم بقتلها.

فقال عليّ عليه السّلام: كذب كعب، لكن اشتغل سليمان بعرض الأفراس ذات يوم، لأنّه أراد جهاد العدوّ، حتّى توارت الشمس بالحجاب، فقال بأمر اللّه للملائكة: ردّوا الشمس عليّ، فردّت، فصلّى العصر في وقتها. و إنّ أنبياء اللّه لا يظلمون، و لا يأمرون بالظلم، لأنّهم معصومون مطهّرون.

و

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّ سليمان عليه السّلام قال: «لأطوفنّ الليلة على سبعين امرأة، تأتي كلّ واحدة بفارس يجاهد في سبيل اللّه، و لم يقل: إن شاء اللّه. فطاف

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 29

عليهنّ، فلم تحمل إلّا امرأة واحدة جاءت بشقّ رجل. فو الّذي نفس محمّد بيده لو قال: إن شاء اللّه، لجاهدوا فرسانا أجمعين».

و

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنّه ولد له ابن، فقالت الشياطين: إن عاش لم ننفكّ من السخرة، فسبيلنا أن نقتله أو نخبّله. فعلم ذلك، فأشفق منهم عليه، فاسترضعه في المزن، و هو السحاب، فما أشعر به إلّا أن القي على كرسيّه ميّتا».

فتنبّه على ترك الأولى، بأن لم يتوكّل على اللّه، فاستغفر ربّه و تاب إليه. فأخبر اللّه سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بذلك ليتوكّل عليه، و لا يترك كلمة المشيئة في أمر من الأمور الّذي أراد فعله، فقال:

وَ لَقَدْ فَتَنَّا سُلَيْمانَ اختبرناه و ابتليناه، و شدّدنا المحنة عليه وَ أَلْقَيْنا و طرحنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً لا روح فيه ثُمَّ أَنابَ رجع إلى اللّه، و فزع إلى الصلاة و الدعاء على وجه الانقطاع إليه سبحانه. و هذا لا يقتضي أنّه وقع منه معصية صغيرة أو كبيرة، لأنّه عليه السّلام و إن لم يستثن ذلك لفظا، فلا بدّ من أن يكون قد استثناه ضميرا و اعتقادا، إلّا أنّه لمّا لم يذكر لفظة الاستثناء عوتب على ذلك، من حيث ترك ما هو مندوب إليه.

و قيل: فتن سليمان بعد ما ملك عشرين سنة، و ملك بعد الفتنة عشرين سنة.

و ما قيل: من أنّ سليمان بلغه خبر صيدون، و هي مدينة في بعض الجزائر، و أنّ بها ملكا عظيم الشأن لا يقوى عليه، لتحصّنه بالبحر. فخرج إليه تحمله الريح حتّى أناخ بها بجنوده، فقتل ملكها، و أصاب بنتا له اسمها جرادة، من أحسن الناس وجها، فاصطفاها لنفسه، و أسلمت

و أحبّها. و كان لا يرقأ دمعها جزعا على أبيها، فأمر الشياطين فمثّلوا لها صورة أبيها، فكستها مثل كسوته، و كانت تغدو إليها و تروح مع ولائدها- أي: جواريها- يسجدن له، كعادتهنّ في ملكه. فأخبره آصف سليمان بذلك، فكسر الصورة و ضرب المرأة، و خرج وحده إلى الفلاة باكيا، و فرش

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 30

له الرماد، فجلس عليه تائبا إلى اللّه متضرّعا.

و كانت له أمّ ولد اسمها أمينة، إذا دخل للطهارة أو لإصابة امرأة وضع خاتمه عندها، و كان ملكه فيه. فوضعه عندها يوما، فتمثّل لها بصورته شيطان هو صاحب البحر، اسمه صخر، فقال: يا أمينة أعطني خاتمي. فأخذ الخاتم فتختّم به، و جلس على كرسيّ سليمان، فاجتمع عليه الجنّ و الإنس و الطير، و نفذ حكمه في كلّ شي ء.

و غيّر سليمان عن هيئته، فأتاها لطلب الخاتم فطردته، فعرف أنّ الخطيئة قد أدركته. فكان يدور على البيوت يتكفّف «1»، فإذا قال: أنا سليمان حثوا عليه التراب و سبّوه. ثمّ عمد إلى السمّاكين ينقل لهم السموك، فيعطونه كلّ يوم سمكتين. فمكث على ذلك أربعين يوما، عدد ما عبدت الصورة في بيته.

فأنكر آصف و عظماء بني إسرائيل حكم الشيطان. و سأل آصف نساء سليمان، فقلن: ما يدع امرأة منّا في دمها، و لا يغتسل من جنابة. و قيل: بل نفذ حكمه في كلّ شي ء إلّا فيهنّ.

ثمّ طار الشيطان، و قذف الخاتم في البحر، فابتلعته سمكة. و كان سليمان يستطعم فلا يطعم، حتّى أعطته امرأة يوما حوتا، فشقّ بطنه فوجد خاتمه فيه، فتختّم و خرّ ساجدا، و رجع إليه الملك. و جاب «2» صخرة لصخر فجعله فيها، و سدّ عليه بأخرى، ثمّ أوثقهما بالحديد و الرصاص، و

قذفه في البحر.

لقد أبى «3» عقول العلماء الراسخين في العلم قبوله، و قالوا: هذا من أباطيل اليهود، و الشياطين لا يتمكّنون من مثل هذه الأفاعيل. كيف و تسليط اللّه إيّاهم على عباده حتّى يقعوا في تغيير الأحكام، و على نساء الأنبياء حتّى يفجروا بهنّ،

______________________________

(1) أي: يستعطي الناس بكفّه.

(2) جاب الصخرة: خرقها.

(3) خبر لقوله: و ما قيل ...، في بداية القصّة.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 31

و تمكينهم من التمثيل بصورة النبيّ، و من القعود على سريره، قبيح. و أيضا لا يجوز عقلا أن تكون النبوّة في الخاتم، و يسلبها عن النبيّ عند الخلع.

و أمّا اتّخاذ التماثيل، فيجوز أن تختلف فيه الشرائع. ألا ترى إلى قوله: مِنْ مَحارِيبَ وَ تَماثِيلَ «1». و أمّا السجود للصورة، فلا يظنّ بنبيّ اللّه أن يأذن فيه. و إذا كان بغير علمه فلا عليه. و قوله: «وَ أَلْقَيْنا عَلى كُرْسِيِّهِ جَسَداً» ناب و آب عن إفادة معنى إنابة الشيطان منابه نبوّا و إباء ظاهرا.

قالَ على وجه الانقطاع إلى اللّه رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ هَبْ لِي مُلْكاً لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ لا يتسهّل له و لا يكون، لعظمته مِنْ بَعْدِي أي: من دوني. و لا يستلزم منه الحسد و الحرص على الاستبداد بالنعم، حيث استعطى اللّه ما لا يعطيه غيره، لأنّه عليه السّلام كان ناشئا في بيت الملك و النبوّة، وارثا لهما. فأراد أن يطلب معجزة، فطلب على حسب ألفه «2» ملكا زائدا على الممالك، زيادة خارقة للعادة بالغة حدّ الإعجاز، ليكون ذلك دليلا على نبوّته قاهرا للمبعوث إليهم، و أن يكون معجزة تخرق العادات. فذلك معنى قوله: «لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي».

و قيل: كان ملكا عظيما، فخاف أن يعطى أحد مثله، فلا يحافظ على

حدود اللّه فيه.

و قيل: ملكا لا اسلبه و لا يقوم غيري فيه مقامي، كما سلبته مرّة و أقيم مقامي غيري.

و يجوز أن يقال: علم اللّه فيما اختصّه به من ذلك الملك العظيم مصالح في الدين، و علم أنّه لا يضطلع بأعبائه غيره، و أوجبت الحكمة استيهابه، فأمره أن يستوهبه إيّاه، فاستوهبه بأمر من اللّه على الصفة الّتي على اللّه أنّه لا يضبطه عليها إلّا

______________________________

(1) سبأ: 13.

(2) مصدر: ألف يألف ألفا.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 32

هو وحده دون سائر عباده.

أو أراد أن يقول: ملكا عظيما، فقال: «لا يَنْبَغِي لِأَحَدٍ مِنْ بَعْدِي». و لا يقصد بذلك إلّا عظم الملك وسعته، كما تقول: لفلان ما ليس لأحد من الفضل و المال، و ربّما كان للناس أمثال ذلك، و لكنّك تريد تعظيم ما عنده.

و كيف يكون نبيّ اللّه موصوفا بالصفات السيّئة الرديئة، من الحسد و الضنّة «1» و المنافسة، و الحال أنّ الغرض من بعثة الأنبياء تزكيتهم عن الأخلاق السيّئة المذمومة، و تعليمهم الأخلاق الحسنة المرضيّة؟! فكيف أمروا بما لم يتّصفوا به؟

و ما ذلك إلّا اعتقاد الزنادقة، و منهم الحجّاج لعنه اللّه حين قيل له: إنّك حسود، فقال:

أحسد منّي من قال: «هب لي ملكا». و من جرأته على اللّه و شيطنته أنّه قال: طاعتنا على العباد أوجب من طاعة اللّه عليهم، لأنّه شرط في طاعته فقال: فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ «2»، و أطلق طاعتنا فقال: وَ أُولِي الْأَمْرِ مِنْكُمْ «3».

و تقديم الاستغفار على الاستيهاب جريا على عادة الأنبياء و الصالحين في مزيد اهتمامهم بأمر دينهم، و تقديمه على أمور دنياهم، و وجوب تقديم ما يجعل الدعاء بصدد الإجابة. و قرأ نافع و أبو عمرو بفتح الياء. إِنَّكَ أَنْتَ الْوَهَّابُ المعطي

ما تشاء لمن تشاء.

ثمّ بيّن سبحانه أنّه أجاب دعاه بقوله: فَسَخَّرْنا لَهُ الرِّيحَ فذلّلناها لطاعته إجابة لدعوته تَجْرِي بِأَمْرِهِ رُخاءً من الرخاوة، أي: ليّنة لا تزعزع. أو مطيعة لا تخالف إرادته، كالمأمور المنقاد. حَيْثُ أَصابَ حيث قصد و أراد. من قولهم:

أصاب الصواب فأخطأ الجواب. عن رؤبة: أنّ رجلين من أهل اللغة قصداه ليسألاه

______________________________

(1) الضنّة: البخل.

(2) التغابن: 16.

(3) النساء: 59.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 33

عن هذه الكلمة، فخرج إليهما فقال: أين تصيبان؟ فقالا: هذه طلبتنا و رجعا.

و عن الحسن: كان سليمان عليه السّلام يغدو من إيليا، و يقيل بقزوين، و يبيت بكابل.

و اعلم أنّ الآية لا تنافي قوله تعالى: وَ لِسُلَيْمانَ الرِّيحَ عاصِفَةً «1»، لأنّ المراد أنّ اللّه تعالى جعلها عاصفة تارة و رخاء اخرى بحسب ما أراد سليمان. أو الرخاء كانت تحمل سريره لئلّا تضطرب، و العاصفة كانت تجريه على الهواء سريعا.

وَ الشَّياطِينَ عطف على الريح، أي: و سخّرنا له الشياطين أيضا كُلَّ بَنَّاءٍ وَ غَوَّاصٍ بدل الكلّ من الكلّ. روي: أنّهم كانوا يبنون لسليمان ما شاء من الأبنية الرفيعة، و بعضهم يغوصون له فيستخرجون اللؤلؤ. و هو أوّل من استخرج الدرّ من البحر.

وَ آخَرِينَ مُقَرَّنِينَ فِي الْأَصْفادِ عطف على «كلّ» داخل في حكم البدل.

كأنّه فصّل الشياطين إلى عملة استعملهم في الأعمال الشاقّة كالبناء و الغوص، و مردة قرن بعضهم مع بعض في السلاسل ليكفّوا عن الشرّ. و عن السدّي: كان يجمع أيديهم إلى أعناقهم مغلّلين في الأغلال. و الصفد: هو القيد. و سمّي به العطاء، لأنّه يرتبط به المنعم عليه. و فرّقوا بين فعليهما، فقالوا: صفده قيّده، و أصفده أعطاه، كوعده و أوعده، فإنّ الهمزة تكون للسلب.

هذا هذا الّذي أعطيناك عَطاؤُنا من الملك الّذي

لا ينبغي لأحد من بعدك، و البسطة في المال و الرجال و سائر المنال، و التسلّط على ما لم يسلّط به غيرك فَامْنُنْ فأعط من شئت. من المنّة، و هي العطاء. أَوْ أَمْسِكْ امنع من شئت بِغَيْرِ حِسابٍ حال من المستكن في الأمر، أي: غير محاسب على منّه و إمساكه، لتفويض التصرّف فيه إليك. أو حال من العطاء. أو صلة له، و ما بينهما اعتراض. و المعنى: أنّه عطاء كثير لا يكاد يمكن حصره.

______________________________

(1) الأنبياء: 81.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 34

و قيل: الإشارة إلى تسخير الشياطين. و المعنى: هذا التسخير عطاؤنا، فامنن على من شئت من الشياطين بالإطلاق، و أمسك من شئت منهم في الوثاق بغير حساب، أي: لا حساب عليك في ذلك.

وَ إِنَّ لَهُ عِنْدَنا لَزُلْفى أي: منزلته القربى. و هي النعمة الدائمة الباقية في الآخرة، مع ما له من الملك العظيم في الدنيا وَ حُسْنَ مَآبٍ و هو الجنّة.

[سورة ص (38): الآيات 41 الى 44]

وَ اذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ إِذْ نادى رَبَّهُ أَنِّي مَسَّنِيَ الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ وَ عَذابٍ (41) ارْكُضْ بِرِجْلِكَ هذا مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَ شَرابٌ (42) وَ وَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ رَحْمَةً مِنَّا وَ ذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (43) وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لا تَحْنَثْ إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً نِعْمَ الْعَبْدُ إِنَّهُ أَوَّابٌ (44)

ثمّ ذكر سبحانه قصّة أيّوب عليه السّلام، فقال: وَ اذْكُرْ عَبْدَنا أَيُّوبَ و هو ابن عيص بن رعوبك بن عنصو بن إسحاق صلوات اللّه عليهم. شرّفه سبحانه بإضافته إلى نفسه. و كان في زمن يعقوب بن إسحاق، و تزوّج ليا بنت يعقوب عليه السّلام. و المعنى: اذكر يا محمّد حال أيّوب في الصبر على الشدائد و اقتد به.

إِذْ نادى رَبَّهُ بدل اشتمال من

«عبدنا»، و «أيّوب» عطف بيان له، أي: اذكر حين دعا أيّوب ربّه رافعا صوته يقول: يا ربّ، لأنّ النداء هو الدعاء بطريقة: يا فلان أَنِّي مَسَّنِيَ بأنّي مسّني. و قرأ حمزة بإسكان الياء و إسقاطها في الوصل.

الشَّيْطانُ بِنُصْبٍ بتعب و مشقّة. و قرأ يعقوب: بنصب بفتحتين. و الباقون بضمّ النون و سكون الصاد، كالرشد و الرشد. و هما مترادفان. وَ عَذابٍ و ألم. و هذا حكاية لكلامه الّذي ناداه به، و لولا هي لقال: إنّه مسّه.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 35

و المراد من تعبه و ألمه مرضه، و ما كان يقاسي فيه من أنواع الوصب «1».

و قيل: النصب الضرّ في البدن، و العذاب في ذهاب الأهل و المال.

و إنّما نسبه إلى الشيطان، لما كان يوسوس به إليه في مرضه من تعظيم ما نزل به من البلاء، و يغريه على الجزع، فالتجأ إلى اللّه سبحانه في أن يكفيه ذلك بكشف البلاء، أو بالتوفيق في دفعه و ردّه بالصبر الجميل.

و عن مقاتل: يوسوسه بأن طال مرضك، و لا يرحمك ربّك.

و قيل: بأن يذكّره ما كان فيه من نعم اللّه، من الأهل و الولد و المال، ليزلّه بذلك.

و قيل: اشتدّ مرضه حتّى تجنّبه الناس، فوسوس الشيطان إلى الناس أن يستقذروه، و يخرجوه من بين أيديهم، و يمنعوا امرأته الّتي تخدمه أن تدخل عليه.

فكان أيّوب يتأذّى بذلك و يتألّم منه، و لم يشك الألم الّذي كان من أمر اللّه تعالى.

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: أنّه دام ذلك سبع سنين.

و قالت الاماميّة: إنّه لا يجوز أن يكون بصفة يستقذره الناس عليها، لأنّ في ذلك تنفيرا. و أمّا المرض و الفقر و ذهاب الأهل فيجوز أن يمتحنه اللّه بذلك.

فأجاب اللّه

تعالى دعاءه و قال: ارْكُضْ بِرِجْلِكَ اضرب برجلك الأرض.

فضربها، فنبعت عين. فقيل له: هذا هذا الموضع مُغْتَسَلٌ بارِدٌ وَ شَرابٌ فتغتسل به و تشرب منه، فيبرأ باطنك و ظاهرك.

و قيل: نبعت له عينان: حارّة و باردة، فاغتسل من الحارّة و شرب من الباردة، فذهب الداء من ظاهره و باطنه بإذن اللّه تعالى.

و قيل: ضرب برجله اليمنى فنبعت عين حارّة فاغتسل منها، ثمّ باليسرى فنبعت باردة فشرب منها.

______________________________

(1) الوصب: المرض، و الوجع الدائم، و نحول الجسم.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 36

وَ وَهَبْنا لَهُ أَهْلَهُ بأن أحييناهم بعد موتهم وَ مِثْلَهُمْ مَعَهُمْ حتّى كان له ضعف ما كان.

و

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «إنّ اللّه تعالى أحيا له أهله الّذين كانوا ماتوا قبل البليّة، و أحيا له أهله الّذين ماتوا و هو في البليّة».

رَحْمَةً مِنَّا لرحمتنا عليه وَ ذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ و لتذكير ذوي العقول الخالصة، لينتظروا الفرج بالصبر على البلاء و اللجأ إلى اللّه فيما يحيق بهم.

وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً عطف على «اركض» أي: و قلنا له ذلك. و الضغث:

الحزمة الصغيرة من الشماريخ «1» و الحشيش و ما أشبه ذلك. فَاضْرِبْ بِهِ دفعة واحدة وَ لا تَحْنَثْ في يمينك. و ذلك أنّ زوجته ليا بنت يعقوب- و قيل: رحمة بنت افرائيم بن يوسف- ذهبت لحاجة في مرضه، فأبطأت في الرجوع، فضاق صدر المريض، فحلف إن برى ء ضربها مائة ضربة، فحلّل اللّه يمينه بأهون شي ء عليه و عليها، لحسن خدمتها إيّاه و رضاه عنها.

و روي عن ابن عبّاس أنّه قال: سبب صدور هذا الحلف من أيّوب أنّ إبليس لقيها في صورة طبيب، فدعته لمداواة أيّوب. فقال: أداويه بشرط أنّه إذا برى ء قال:

أنت شفيتني، لا أريد جزاء سواه. قالت:

نعم. فأشارت إلى أيّوب بذلك، فحلف ليضربنّها. و هذه رخصة باقية في الحدود إلى الآن.

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنّه قد أتي بمخدج- أي: ناقص البدن- قد خبث بأمة، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «خذوا عثكالا «2» فيه مائة شمراخ، فاضربوه بها ضربة».

و

روى العيّاشي بإسناده أنّ عبّاد المكّي قال: قال لي سفيان الثوري: إنّي أرى لك من أبي عبد اللّه منزلة، فاسأله عن رجل زنى و هو مريض، فإن أقيم الحدّ عليه خافوا أن يموت، ما تقول فيه؟ قال: فسألته فقال لي: «هذه المسألة من تلقاء

______________________________

(1) الشماريخ جمع الشمراخ، و هو الغصن عليه تمر أو عنب.

(2) العثكال: هو في النخل بمنزلة العنقود في الكرم. زبدة التفاسير، ج 6، ص: 37

نفسك، أو أمرك به إنسان؟ فقلت: إنّ سفيان الثوري أمرني أن أسألك عنها. فقال:

إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أتي برجل قد استسقى بطنه، و بدت عروق فخذيه، و قد زنى بامرأة مريضة، فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأتي بعرجون فيه مائة شمراخ، و ضربه به ضربة و ضربها به ضربة، و خلّى سبيلهما. و ذلك قوله تعالى: «وَ خُذْ بِيَدِكَ ضِغْثاً فَاضْرِبْ بِهِ وَ لا تَحْنَثْ».

إِنَّا وَجَدْناهُ صابِراً فيما أصابه في النفس و الأهل و المال. و لا يخلّ به شكواه إلى اللّه من الشيطان، فإنّه لا يسمّى جزعا، كتمنّي العافية و طلب الشفاء. مع أنّه قال ذلك خيفة على قومه، حيث كان الشيطان يوسوس إليهم، كما كان يوسوس إليه أنّه لو كان نبيّا لما ابتلي بمثل ما ابتلي به. و أيضا أراد بذلك القول القوّة على الطاعة، فقد بلغ

أمره إلى أن لم يبق عضو غير مؤف إلّا القلب و اللسان.

و

روي: أنّه قال في مناجاته: إلهي قد علمت أنّه لم يخالف لساني قلبي، و لم يتّبع قلبي بصري، و لم يهبّني «1» ما ملكت يميني، و لم آكل إلّا و معي يتيم، و لم أبت شبعان و لا كاسيا و معي جائع أو عريان. فكشف اللّه عنه.

نِعْمَ الْعَبْدُ أيّوب إِنَّهُ أَوَّابٌ رجّاع إلى اللّه، منقطع إليه، مقبل بشراشره عليه.

[سورة ص (38): الآيات 45 الى 48]

وَ اذْكُرْ عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ أُولِي الْأَيْدِي وَ الْأَبْصارِ (45) إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ بِخالِصَةٍ ذِكْرَى الدَّارِ (46) وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ الْأَخْيارِ (47) وَ اذْكُرْ إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ وَ ذَا الْكِفْلِ وَ كُلٌّ مِنَ الْأَخْيارِ (48)

______________________________

(1) أي: لم يهيّجني و لم ينشطني. من: هبّ الرجل: نشط و أسرع. و هبّت الريح: هاجت.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 38

ثمّ عطف سبحانه على ما تقدّم حديث الأنبياء الصابرين على البلوى، فقال:

وَ اذْكُرْ يا محمّد لأمّتك عِبادَنا إِبْراهِيمَ وَ إِسْحاقَ وَ يَعْقُوبَ ليقتدوا بهم في حميد أفعالهم و كريم خلالهم، فيستحقّوا بذلك حسن الثناء في الدنيا و جزيل الثواب في العقبى، كما استحقّ هؤلاء الأنبياء.

و قرأ ابن كثير: عبدنا، فوضع الجنس موضع الجمع، على أنّ إبراهيم وحده- لمزيد شرفه- عطف بيان له، ثمّ عطف ذرّيّته على: عبدنا.

أُولِي الْأَيْدِي اولي القوّة في الطاعة وَ الْأَبْصارِ و اولي البصيرة في الدين. أو المعنى: اولي الأعمال الجليلة و العلوم الشريفة. و لمّا كانت أكثر الأعمال تباشر بالأيدي غلّبت، فقيل في كلّ عمل: هذا ممّا عملت أيديهم، و إن كان عملا لا يتأتّى فيه المباشرة بالأيدي، أو كان العمّال جذما «1» لا أيدي لهم.

و فيه تعريض بأنّ الّذين لا يعملون أعمال

الآخرة، و لا يجاهدون في اللّه، و لا يفكّرون أفكار ذوي الديانات، و لا يستبصرون، في حكم الزمنى «2» الّذين لا يقدرون على أعمال جوارحهم، و المسلوبي العقول الّذين لا استبصار لهم.

إِنَّا أَخْلَصْناهُمْ أي: جعلناهم خالصين لنا بِخالِصَةٍ بخصلة خالصة لا شوب فيها. يعني: بسبب هذه الخصلة أخلصناهم. أو أخلصناهم بتوفيقهم لها، و اللطف بهم في اختيارها.

ثمّ فسّر هذه الخصلة الخالصة بقوله: ذِكْرَى الدَّارِ تذكيرهم الآخرة، و ترغيبهم فيها، و تزهيدهم في الدنيا، كما هو شأن الأنبياء و ديدنهم. و إنّما قال:

خلوصهم في الطاعة بسبب التذكير، لأنّ مطمح نظرهم فيما يأتون و يذرون جوار اللّه و الفوز بلقائه، و ذلك في الآخرة.

______________________________

(1) أي: مقطوعي الأيدي.

(2) أي: المبتلين بالزمانة و تعطيل القوى.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 39

و قيل: ذكرى الدار: الثناء الجميل في الدنيا، و لسان الصدق الّذي ليس لغيرهم.

و إطلاق الدار للإشعار بأنّها الدار الحقيقيّة، فإنّ الدنيا معبر و ممرّ لا مقرّ، فإطلاق الدار عليها مجاز. يعني: إنّما همّهم ذكر الدار، لا غيرها من ذكر الدنيا.

و أضاف نافع و هشام «بخالصة» إلى «ذكرى» للبيان، أو لأنّه مصدر بمعنى الخلوص، فأضيف إلى فاعله.

وَ إِنَّهُمْ عِنْدَنا بحسب ما سبق في علمنا لَمِنَ الْمُصْطَفَيْنَ لمن المختارين من بين أمثالهم الْأَخْيارِ العاملون فعل الخيرات. جمع خير، كشرّ و أشرار. و قيل: جمع خيّر أو خير على تخفيفه، كأموات في جمع ميّت أو ميت.

وَ اذْكُرْ أيضا لأمّتك إِسْماعِيلَ وَ الْيَسَعَ و هو ابن أخطوب. استخلفه إلياس على بني إسرائيل، ثمّ استنبئ. و الظاهر أنّه اسم عجمي، فدخل عليه اللام، كما في قوله: رأيت الوليد بن اليزيد مباركا.

و قرأ حمزة و الكسائي: و الليسع، بإدخال حرف التعريف على ليسع، تشبيها بالمنقول، من:

ليسع، فيعل من اللسع.

وَ ذَا الْكِفْلِ ابن عمّ يسع، أو بشر بن أيّوب. و في نبوّته و لقبه اختلاف.

فقيل: فرّ إليه مائة نبيّ من بني إسرائيل من القتل، فآواهم و كفلهم. و قيل كفل بعمل رجل صالح كان يصلّي كلّ يوم مائة صلاة الجنّة. وَ كُلٌ التنوين عوض من المضاف إليه. و المعنى: و كلّهم مِنَ الْأَخْيارِ.

[سورة ص (38): الآيات 49 الى 64]

هذا ذِكْرٌ وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ (49) جَنَّاتِ عَدْنٍ مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ (50) مُتَّكِئِينَ فِيها يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَ شَرابٍ (51) وَ عِنْدَهُمْ قاصِراتُ الطَّرْفِ أَتْرابٌ (52) هذا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ (53)

إِنَّ هذا لَرِزْقُنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ (54) هذا وَ إِنَّ لِلطَّاغِينَ لَشَرَّ مَآبٍ (55) جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمِهادُ (56) هذا فَلْيَذُوقُوهُ حَمِيمٌ وَ غَسَّاقٌ (57) وَ آخَرُ مِنْ شَكْلِهِ أَزْواجٌ (58)

هذا فَوْجٌ مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ لا مَرْحَباً بِهِمْ إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ (59) قالُوا بَلْ أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ لَنا فَبِئْسَ الْقَرارُ (60) قالُوا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً فِي النَّارِ (61) وَ قالُوا ما لَنا لا نَرى رِجالاً كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ (62) أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا أَمْ زاغَتْ عَنْهُمُ الْأَبْصارُ (63)

إِنَّ ذلِكَ لَحَقٌّ تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ (64)

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 40

هذا إشارة إلى ما تقدّم من أمورهم ذِكْرٌ ذكر جميل و شرف لهم. أو نوع من الذكر، و هو القرآن.

و في الكشّاف: «لمّا أجرى ذكر الأنبياء و أتمّه، و هو باب من أبواب التنزيل، و نوع من أنواعه، و أراد أن يذكر على عقبه بابا آخر، و هو ذكر الجنّة و أهلها، و ما أعدّ لهم فيها، قال: هذا ذكر» «1».

ثمّ قال: وَ إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ لَحُسْنَ مَآبٍ مرجع حسن جَنَّاتِ

عَدْنٍ عطف بيان

______________________________

(1) الكشّاف 4: 100.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 41

ل «حسن مآب». و هو من الأعلام الغالبة، لقوله: جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدَ الرَّحْمنُ عِبادَهُ بِالْغَيْبِ «1». و العدن: بمعنى الإقامة و الخلود. و انتصب عنها مُفَتَّحَةً لَهُمُ الْأَبْوابُ على الحال. و العامل فيها ما في معنى المتّقين من معنى الفعل. كأنّه قيل:

جنّات عدن استقرّت للمتّقين، حال كونها مفتّحة لهم الأبواب، فيجدون أبوابها مفتوحة حين يرونها، و لا يحتاجون إلى الوقوف عند أبوابها حتّى يفتح. و في «مفتّحة» ضمير الجنّات. و «الأبواب» بدل من الضمير، تقديره: مفتّحة هي الأبواب، كقولك: ضرب زيد اليد و الرجل. و هو من بدل الاشتمال.

مُتَّكِئِينَ فِيها مستندين فيها إلى المساند، جالسين جلسة الملوك يَدْعُونَ فِيها بِفاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ وَ شَرابٍ أي: يتحكّمون في ثمارها و شرابها، فإذا قالوا لشي ء منها: أقبل، حصل عندهم.

و اعلم أنّ «متّكئين» و «يدعون» حالان متعاقبان أو متداخلان من الضمير في «لهم»، لا من «المتّقين» للفصل. و الأظهر أنّ «يدعون» استئناف لبيان حالهم فيها، و «متّكئين» حال من ضمير «يدعون». و الاقتصار على الفاكهة للإشعار بأنّ مطاعمهم لمحض التلذّذ، فإنّ التغذّي للتحلّل، و لا تحلّل ثمّة.

وَ عِنْدَهُمْ في هذه الجنان زوجات قاصِراتُ الطَّرْفِ قصرن طرفهنّ على أزواجهنّ، لا ينظرن إلى غير أزواجهنّ، راضيات بهم، ما لهنّ في غيرهم رغبة. و القاصر: نقيض المادّ. يقال: فلان قاصر طرفه عن فلان، و مادّ عينه إلى فلان. أَتْرابٌ لدات «2» لأزواجهنّ، أي: يكون أسنانهنّ كأسنانهم، لأنّ التحابّ بين الأقران أثبت. و اشتقاقه من التراب، فإنّه يمسّهم في وقت واحد.

و عن مجاهد: أي: متساويات في مقدار الشباب و الحسن، لا يكون لواحدة

______________________________

(1) مريم: 61.

(2) اللدات جمع اللدة: الترب، و هو الذي

ولد معك أو تربّى معك. يقال: هو لدتي، أي: تربي.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 42

على صاحبتها فضل في ذلك، و لا تكون فيهنّ عجوز و لا صبيّة.

هذا هذا الّذي ذكرنا ما تُوعَدُونَ لِيَوْمِ الْحِسابِ لأجل هذا اليوم، فإنّ الحساب علّة الوصول إلى الجزاء. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو بالياء «1» ليوافق ما قبله.

إِنَّ هذا هذا الّذي ذكرنا لَرِزْقُنا عطاؤنا ما لَهُ مِنْ نَفادٍ انقطاع.

و لمّا بيّن سبحانه أحوال أهل الجنّة و ما أعدّ لهم من جزيل الثواب، عقّبه ببيان أحوال أهل النار، و ما لهم من أليم العقاب و عظيم العذاب، فقال:

هذا أي: هذا ما ذكرناه للمتّقين. أو الأمر هذا، أو هذا كما ذكر، أو خذ هذا. ثمّ ابتدأ فقال: وَ إِنَّ لِلطَّاغِينَ للّذين طغوا على اللّه و كذّبوا رسله عنادا لَشَرَّ مَآبٍ و هو ضدّ مآب المتّقين جَهَنَّمَ يَصْلَوْنَها يدخلونها فيصيرون صلاء لها. و الجملة الفعليّة حال من «جهنّم»، و العامل فيها ما في «للطاغين» من معنى الاستقرار. فَبِئْسَ الْمِهادُ المهد و المفترش. فشبّه ما تحتهم من النار بالمهاد الّذي يفترشه النائم. و المخصوص بالذمّ محذوف، و هو «جهنّم»، لقوله: لَهُمْ مِنْ جَهَنَّمَ مِهادٌ وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ «2».

هذا أي: العذاب هذا فَلْيَذُوقُوهُ و يجوز أن يكون «هذا» بمنزلة:

وَ إِيَّايَ فَاتَّقُونِ «3» أي: فليذوقوا هذا. ثمّ ابتدأ فقال: حَمِيمٌ أي: هو ماء في غاية الحرارة وَ غَسَّاقٌ ما يغسق من صديد أهل النار. من: غسقت العين إذا سال دمعها.

و عن كعب: عين في جهنّم يسيل إليها سمّ كلّ ذات حمة. و عن ابن عبّاس و ابن مسعود: الغسّاق: الزمهرير.

______________________________

(1) أي: يوعدون.

(2) الأعراف: 41.

(3) البقرة: 41.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 43

و قيل: الحميم يحرق لشدّة

حرّه، و الغسّاق يحرق لغاية برده.

و قيل: لو قطرت قطرة في المشرق لنتنت أهل المغرب، و لو قطرت منه قطرة في المغرب لنتنت أهل المشرق.

و عن الحسن: الغسّاق عذاب لا يعلمه إلّا اللّه، إنّ الناس أخفوا للّه طاعة، فأخفى لهم ثوابا في قوله: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ «1». و أخفوا معصية، فأخفى لهم عقوبة.

و قرأ حفص و حمزة و الكسائي: و غسّاق بتشديد السين. و فيه مبالغة.

وَ آخَرُ أي: مذوق، أو عذاب آخر. و قرأ البصريّان: و اخرى، أي:

و مذوقات، أو أنواع عذاب أخر مِنْ شَكْلِهِ من مثل هذا المذوق، أو العذاب في الشدّة. و توحيد الضمير على تأويل: لما ذكر. أو لأنّه راجع إلى الشراب الشامل للحميم و الغسّاق، أو إلى الغسّاق. أَزْواجٌ أجناس متشابهة في الشدّة و الفظاظة.

و هذا خبر ل «آخر». أو صفة له، أو للثلاثة. و جمعه على قراءة «أخر» ظاهر. و على قراءة «آخر» لأنّ المراد منه ضروب و أنواع. أو مرتفع بالجار، و الخبر محذوف، مثل: لهم أزواج.

و لمّا دخل رؤساء الطاغين و قادة الضالّين النار، ثمّ يدخلها أتباعهم، فيقول بعضهم مع بعض، أو يقول الخزنة لهم: هذا فَوْجٌ المراد أتباع مُقْتَحِمٌ مَعَكُمْ قد اقتحموا النار معكم، أي: دخلوا النار في صحبتكم و قرانكم. و الاقتحام: ركوب الشدّة و الدخول فيها. و القحمة: الشدّة. يعني: أنّهم لمّا اقتحموا معهم الضلالة، اقتحموا معهم العذاب.

لا مَرْحَباً بِهِمْ دعاء من المتبوعين على أتباعهم. أو صفة ل «فوج». أو حال، أي: مقولا فيهم لا مرحبا، أي: لا نالوا سعة و كرامة. إِنَّهُمْ صالُوا النَّارِ

______________________________

(1) السجدة: 17.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 44

داخلون النار لازموها بأعمالهم مثلنا.

قالُوا يقول الأتباع لهم بَلْ

أَنْتُمْ لا مَرْحَباً بِكُمْ لا نلتم رحبا وسعة أَنْتُمْ قَدَّمْتُمُوهُ قدّمتم العذاب أو الصلى لَنا أي: بإغوائكم إيّانا على ما قدّم العذاب لنا، من العقائد الزائغة و الأعمال القبيحة الّتي أوجبت لنا هذا العذاب فَبِئْسَ الْقَرارُ فبئس المقرّ جهنّم. و على تقدير أن يكون «لا مرحبا بهم» من كلام الخزنة معناه: يقول الأتباع: هذا الّذي دعا به علينا الخزنة أنتم يا رؤساء أحقّ به منّا، لإغوائكم إيّانا، و تسبّبكم فيما نحن فيه من العذاب.

قالُوا أي: الأتباع أيضا رَبَّنا مَنْ قَدَّمَ لَنا هذا من سبّب لنا هذا العذاب بالإضلال و الإغواء فَزِدْهُ عَذاباً ضِعْفاً مضاعفا، أي: ذا ضعف فِي النَّارِ و ذلك أن يزيد على عذابه ضعفا مثله، فيصير ضعفين، أحدهما: لكفرهم باللّه، و الآخر:

لدعائهم إيّانا إلى الكفر. و نحوه قوله تعالى: رَبَّنا آتِهِمْ ضِعْفَيْنِ مِنَ الْعَذابِ «1».

رَبَّنا هؤُلاءِ أَضَلُّونا فَآتِهِمْ عَذاباً ضِعْفاً مِنَ النَّارِ «2». و قيل: عذابا ضعفا: حيّات و أفاعي.

وَ قالُوا أي: الطاغون ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ من الأراذل الّذين لا خير فيهم و لا جدوى، لأنّهم كانوا على خلاف ديننا أَتَّخَذْناهُمْ سِخْرِيًّا صفة اخرى ل «رجالا». يعنون فقراء المسلمين الّذين يسترذلونهم في الدنيا، و يسخرون بهم.

و قرأ الحجازيّان و ابن عامر بهمزة الاستفهام، على أنّه إنكار على أنفسهم، و تقريع لها في الاستسخار منهم. و قرأ نافع و حمزة و الكسائي: سخريّا بالضمّ. و قد

______________________________

(1) الأحزاب: 68.

(2) الأعراف: 38.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 45

سبق مثله في المؤمنين «1».

أَمْ زاغَتْ مالت عَنْهُمُ الْأَبْصارُ فلا نراهم. و «أم» متّصلة معادلة ل «ما لنا لا نرى» على أنّ المراد نفي رؤيتهم لغيبتهم. كأنّهم قالوا: أ ليسوا هاهنا، أم زاغت عنهم أبصارنا.

أو ل «اتّخذناهم» «2» على القراءة الثانية، بمعنى: أيّ الأمرين فعلنا بهم؟

الاستسخار منهم أم تحقيرهم؟ فإنّ زيغ الأبصار كناية عنه، على معنى إنكارهما على أنفسهم.

و عن الحسن: كلّ ذلك قد فعلوا، اتّخذوهم سخريّا، و زاغت عنهم أبصارهم محقّرة لهم.

أو منقطعة «3». و المراد الدلالة على أنّ استرذالهم و الاستسخار منهم كان لزيغ أبصارهم و قصور أنظارهم على رثاثة حالهم.

عن مجاهد: نزلت في أبي جهل و الوليد بن المغيرة و نظرائهما، يقولون: ما نرى عمّارا و خبابا و صهيبا و بلالا، الّذين كنّا نعدّهم في الدنيا من جملة الّذين يفعلون الشرّ و القبيح، و لا يفعلون الخير.

و

روى العيّاشي بالإسناد عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: «إنّ أهل النار يقولون:

ما لَنا لا نَرى رِجالًا كُنَّا نَعُدُّهُمْ مِنَ الْأَشْرارِ يعنونكم لا يرونكم في النار، لا يرون و اللّه أحدا منكم في النار».

إِنَّ ذلِكَ الّذي حكيناه عنهم لَحَقٌ لا بدّ أن يتكلّموا به. ثمّ بيّن ما هو، فقال: تَخاصُمُ أَهْلِ النَّارِ و هو بدل من «لحقّ». أو خبر محذوف، أي: هو تخاصمهم. شبّه تقاولهم و ما يجري بينهم من السؤال و الجواب بما يجري بين

______________________________

(1) المؤمنون: 110.

(2) عطف على قوله: معادلة ل «ما لنا لا نرى» قبل سطرين، أي: معادلة ل «اتّخذناهم».

(3) عطف على قوله: متّصلة معادلة، قبل سبعة أسطر.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 46

المتخاصمين من نحو ذلك. و لأنّ قول الرؤساء: «لا مرحبا بهم» و قول أتباعهم: «بل أنتم لا مرحبا بكم» من باب الخصومة. فسمّى التقاول كلّه تخاصما لأجل اشتماله على ذلك.

[سورة ص (38): الآيات 65 الى 85]

قُلْ إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ وَ ما مِنْ إِلهٍ إِلاَّ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (65) رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (66) قُلْ

هُوَ نَبَأٌ عَظِيمٌ (67) أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ (68) ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ (69)

إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلاَّ أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (70) إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ (71) فَإِذا سَوَّيْتُهُ وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي فَقَعُوا لَهُ ساجِدِينَ (72) فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ (73) إِلاَّ إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ وَ كانَ مِنَ الْكافِرِينَ (74)

قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ أَسْتَكْبَرْتَ أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ (75) قالَ أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ (76) قالَ فَاخْرُجْ مِنْها فَإِنَّكَ رَجِيمٌ (77) وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ (78) قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ (79)

قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ (80) إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ (81) قالَ فَبِعِزَّتِكَ لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ (82) إِلاَّ عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ (83) قالَ فَالْحَقُّ وَ الْحَقَّ أَقُولُ (84)

لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ أَجْمَعِينَ (85)

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 47

ثمّ خاطب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال تقريرا لألوهيّته و وحدانيّته: قُلْ يا محمّد للمشركين إِنَّما أَنَا مُنْذِرٌ أنذركم عذاب اللّه وَ ما مِنْ إِلهٍ يحقّ العبادة إِلَّا اللَّهُ الْواحِدُ الّذي لا يقبل الشركة و الكثرة في ذاته الْقَهَّارُ لكلّ شي ء.

رَبُّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا منه خلقها، و إليه أمرها الْعَزِيزُ الّذي لا يغلب إذا عاقب. و هو مع ذلك الْغَفَّارُ الّذي يغفر ما يشاء من الذنوب لمن التجأ إليه. يعني: أنذركم عقوبة من هذه صفته، فإنّ مثله حقيق بأن يخاف عقابه، كما هو حقيق بأن يرجى ثوابه. و في الآية تقرير للتوحيد، و وعد و وعيد للموحّدين و المشركين.

قُلْ هُوَ أي: ما أنبأتكم به

من أنّي أنذر من عقوبة من كان موصوفا بهذه الصفات، و أنّه واحد في الوهيّته. و قيل: ما بعده من نبأ آدم. نَبَأٌ عَظِيمٌ لا يعرض عن مثله إلّا غافل شديد الغفلة أَنْتُمْ عَنْهُ مُعْرِضُونَ لتمادي غفلتكم، فإنّ العاقل لا يعرض عن مثله، كيف و قد قامت عليه الحجج الواضحة. أمّا على التوحيد فما مرّ. و أمّا على النبوّة فقوله: ما كانَ لِي مِنْ عِلْمٍ بِالْمَلَإِ الْأَعْلى إِذْ يَخْتَصِمُونَ فإنّ الإخبار عن تقاول الملائكة و ما جرى بينهم، على ما ورد في الكتب المتقدّمة، من غير سماع و مطالعة كتب، لا يتصوّر إلّا بالوحي.

و «إذ» متعلّق ب «علم». أو بمحذوف، إذ التقدير: ما كان لي من علم بكلام الملأ الأعلى وقت اختصامهم.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 48

إِنْ يُوحى إِلَيَّ إِلَّا أَنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ أي: لأنّما أنا نذير. يعني: ما يوحى إليّ إلّا للإنذار، فحذف اللام و انتصب بإفضاء الفعل إليه. كأنّه لمّا نبّه على أنّ الوحي يأتيه، بيّن بذلك ما هو المقصود به تحقيقا لقوله: إنّما أنا منذر. و يجوز أن يرتفع «أنّما» بإسناد «يوحى» إليه، أي: ما يوحى إليّ إلّا أن أنذر و أبلّغ، و لا أفرط في ذلك، أي: ما اومر إلّا بهذا الأمر وحده، و ليس إليّ غير ذلك.

إِذْ قالَ رَبُّكَ لِلْمَلائِكَةِ إِنِّي خالِقٌ بَشَراً مِنْ طِينٍ بدل من «إِذْ يَخْتَصِمُونَ» مبيّن له، فإنّ القصّة الّتي دخلت عليها «إذ» مشتملة على تقاول الملائكة و إبليس في خلق آدم، و استحقاقه للخلافة و السجود، على ما مرّ في سورة البقرة «1». غير أنّها اختصرت اكتفاء بذلك، و اقتصارا على ما هو المقصود منها، و هو إنذار المشركين على استكبارهم على النبيّ صلّى اللّه

عليه و آله و سلّم، بمثل ما حاق بإبليس على استكباره على آدم.

و من الجائز أن يكون مقاولة اللّه إيّاهم بواسطة ملك، فكأنّ المقاول في الحقيقة هو الملك المتوسّط، فصحّ أنّ التقاول كان بين الملائكة و آدم و إبليس، و هم الملأ الأعلى. و المراد بالاختصام التقاول، على ما سبق. و أن يفسّر الملأ الأعلى بما يعمّ اللّه و الملائكة.

فَإِذا سَوَّيْتُهُ عدّلت خلقته، بأن تمّمت أعضاءه، و صوّرته على وجه الكمال وَ نَفَخْتُ فِيهِ مِنْ رُوحِي و أحييته بنفخ الروح فيه. و إضافته إلى نفسه لشرفه و طهارته. فَقَعُوا لَهُ فخرّوا له ساجِدِينَ تكرمة و تبجيلا له. و قد مرّ الكلام فيه في البقرة «2».

______________________________

(1) راجع ج 1 ص 120- 130.

(2) راجع ج 1 ص 120- 142، ذيل الآيات 30- 38 من سورة البقرة.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 49

فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ كُلُّهُمْ أَجْمَعُونَ ذكر «كلّ» للإحاطة، و «أجمعون» للاجتماع. فأفادا معا أنّهم سجدوا عن آخرهم، ما بقي منهم ملك إلّا سجد، و أنّهم سجدوا جميعا في وقت واحد غير متفرّقين في أوقات.

إِلَّا إِبْلِيسَ اسْتَكْبَرَ تعظّم وَ كانَ و صار مِنَ الْكافِرِينَ باستنكاره أمر اللّه، و استكباره عن المطاوعة. أو كان منهم في علم اللّه. و إبليس و إن لم يكن من الملائكة بل من الجنّ، إلّا أنّه قد أمر بالسجود معهم، فغلّبوا عليه في قوله: «فَسَجَدَ الْمَلائِكَةُ». ثمّ استثني كما استثني الواحد منهم استثناء متّصلا. و تفصيل ذلك أيضا قد مرّ في البقرة.

قالَ يا إِبْلِيسُ ما مَنَعَكَ أَنْ تَسْجُدَ لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَ تولّيت خلقه بنفسي من غير توسّط، كأب و أمّ. و التثنية لما في خلقه من مزيد القدرة. و قد سبق أنّ ذا اليدين يباشر أكثر

أعماله بيديه، فغلّب العمل باليدين على سائر الأعمال الّتي تباشر بغيرهما، حتّى قيل في عمل القلب: هو ممّا عملت يداك، و حتّى قيل لمن لا يدين له: فعلت يداك كذا و كذا، و حتّى لم يبق فرق بين قولك: هذا ممّا عملته يداك، و هذا ممّا عملته. و إطلاق لفظ اليد على القدرة و القوّة و القوّة في كلام العرب شائع.

و ترتيب الإنكار على قوله: «لِما خَلَقْتُ بِيَدَيَّ» للإشعار بأنّه المستدعي للتعظيم، أو بأنّه الّذي تشبّث به في تركه، و هو لا يصلح مانعا، إذ للسيّد أن يستخدم بعض عبيده لبعض، سيّما و له مزيد اختصاص.

أَسْتَكْبَرْتَ تكبّرت من غير استحقاق أَمْ كُنْتَ مِنَ الْعالِينَ ممّن علا و استحقّ التفوّق. و قيل: استكبرت الآن، أم لم تزل منذ كنت من المستكبرين؟

قالَ أي: أجاب إبليس بإظهار المانع أَنَا خَيْرٌ مِنْهُ ثمّ استدلّ على المانع بقوله: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ أي: لو كان مخلوقا من نار

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 50

لما سجدت له، لأنّه مثلي، فكيف أسجد لمن هو أدنى؟ لأنّه من طين، و النار تغلب الطين و تأكله. و أيضا النار جسم لطيف نورانيّ، و الطين جسم كثيف ظلماني. و هذه الجملة جرت مجرى عطف البيان من الجملة الأولى.

قالَ فَاخْرُجْ مِنْها من الجنّة، أو من السماء. و قيل: من الخلقة الّتي أنت فيها، لأنّه كان يفتخر بخلقته، فغيّر اللّه خلقته فاسودّ بعد ما كان أبيض، و قبح بعد أن كان حسنا، و أظلم بعد ما كان نورانيّا. فَإِنَّكَ رَجِيمٌ مرجوم مطرود من الرحمة و محلّ الكرامة. و أصل الرجم: الرمي بالحجارة.

وَ إِنَّ عَلَيْكَ لَعْنَتِي إِلى يَوْمِ الدِّينِ ليس معناه: أنّ لعنة إبليس غايتها يوم الدين

ثمّ تنقطع. و كيف تنقطع، و قد قال اللّه سبحانه: فَأَذَّنَ مُؤَذِّنٌ بَيْنَهُمْ أَنْ لَعْنَةُ اللَّهِ عَلَى الظَّالِمِينَ «1». بل المعنى: أنّ عليه اللعنة في الدنيا، فإذا كان يوم الدين اقترن له باللعنة ما ينسى عنده اللعنة الدنيويّة، فكأنّها انقطعت.

قالَ رَبِّ فَأَنْظِرْنِي إِلى يَوْمِ يُبْعَثُونَ فأخّرني إلى يوم يحشرون للحساب.

و هو يوم القيامة. قالَ فَإِنَّكَ مِنَ الْمُنْظَرِينَ المؤخّرين إِلى يَوْمِ الْوَقْتِ الْمَعْلُومِ الوقت الّذي تقع فيه النفخة الأولى. و يومه: اليوم الذي وقتها جزء من أجزائه.

فالإضافة هي إضافة الكلّ إلى جزئه. و معنى «المعلوم» أنّه معلوم عند اللّه معيّن لا يستقدم و لا يستأخر.

قالَ فَبِعِزَّتِكَ فبسلطانك و قهرك على جميع خلقك لَأُغْوِيَنَّهُمْ أَجْمَعِينَ يعني: بني آدم كلّهم إِلَّا عِبادَكَ مِنْهُمُ الْمُخْلَصِينَ الّذين أخلصوا قلوبهم. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و ابن عامر بفتح اللام، أي: الّذين أخلصهم اللّه تعالى لطاعته، و عصمهم من الضلالة.

______________________________

(1) الأعراف: 44.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 51

قالَ فَالْحَقُّ وَ الْحَقَّ أَقُولُ أي: فأحقّ الحقّ و أقوله. و قيل: الحقّ الأوّل اسم اللّه تعالى، كما في قوله تعالى: أَنَّ اللَّهَ هُوَ الْحَقُّ الْمُبِينُ «1». أو الحقّ الّذي هو نقيض الباطل. و نصبه بحذف حرف القسم. و على هذا قوله: «وَ الْحَقَّ أَقُولُ» معترض بين القسم و جوابه، و هو قوله: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنْكَ أي: من جنسك، ليتناول الشياطين وَ مِمَّنْ تَبِعَكَ مِنْهُمْ من الناس، إذ الكلام فيهم. أو من الثقلين. أَجْمَعِينَ تأكيد لضمير «منهم»، أو الكاف في «منك»، أولهما معا.

و معناه: لأملأنّ جهنّم من الشياطين المتبوعين أجمعين. أو التابعين من الناس أو الثقلين جميعا. أو من جميع المتبوعين و جميع التابعين. و الجملة تفسير للحقّ المقول.

و قرأ عاصم و حمزة برفع

الأوّل على الابتداء، أي: الحقّ يميني أو قسمي، أو الخبر، أي: أنا الحقّ.

[سورة ص (38): الآيات 86 الى 88]

قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَ ما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ (86) إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (87) وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ (88)

ثمّ خاطب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: قُلْ يا محمّد لكفّار مكّة ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أي: على القرآن أو تبليغ الوحي مِنْ أَجْرٍ من مال تعطونيه وَ ما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ المتّصفين بما ليسوا من أهله. و ما عرفتموني قطّ متصنّعا، و لا مدّعيا ما ليس عندي، حتّى أنتحل النبوّة و أتقوّل القرآن.

و

عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «للمتكلّف ثلاث علامات: ينازع من فوقه، و يتعاطى ما لا ينال، و يقول ما لا يعلم».

______________________________

(1) النور: 25.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 52

و

روى البخاري في الصحيح عن عبد اللّه بن مسعود أنّه قال: «يا أيّها الناس من علم شيئا فليقل به، و من لم يعلم فليقل: اللّه أعلم، فإنّ من العلم أن يقول لما لا يعلم: اللّه أعلم، فإنّ اللّه تعالى قال لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «قُلْ ما أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ مِنْ أَجْرٍ وَ ما أَنَا مِنَ الْمُتَكَلِّفِينَ» «1».

إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ عظة و نصيحة من اللّه لِلْعالَمِينَ للثقلين، أوحي إليّ فأنا أبلّغه. و قيل: ما القرآن إلّا شرف لمن آمن به. وَ لَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ أي: صدق خبر ما فيه من الوعد و الوعيد بإتيان ذلك بَعْدَ حِينٍ بعد الموت، أو يوم القيامة، أو عند ظهور الإسلام. و فيه تهديد.

______________________________

(1) صحيح البخاري 6: 156.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 53

(39) سورة الزمر

اشارة

و تسمّى أيضا سورة الغرف. و هي مكّيّة كلّها. و قيل: سوى ثلاث آيات نزلن بالمدينة في وحشي قاتل حمزة: «قُلْ يا عِبادِيَ ...» إلى آخرهنّ،

كما سيجي ء.

و قيل: غير آية «قُلْ يا عِبادِيَ». و آيها خمس و سبعون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ سورة الزمر لم يقطع اللّه رجاءه، و أعطاه ثواب الخائفين الّذين خافوا اللّه تعالى».

و

روى هارون بن خارجة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة الزمر أعطاه اللّه شرف الدنيا و الآخرة، و أعزّه بلا مال و لا عشيرة، حتّى يهابه من يراه، و حرّم جسده على النار. و يبني له في الجنّة ألف مدينة، في كلّ مدينة ألف قصر، في كلّ قصر مائة حوراء، و له مع ذلك عينان تجريان، و عينان نضّاختان، و جنّتان مدهامّتان، و حور مقصورات في الخيام».

[سورة الزمر (39): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (2) أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ ما نَعْبُدُهُمْ إِلاَّ لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ كَفَّارٌ (3) لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً لاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ (4)

خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَ يُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى أَلا هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفَّارُ (5)

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 54

و اعلم أنّه سبحانه لمّا ختم سورة «ص» بذكر القرآن، افتتح هذه السورة أيضا بذكره، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَنْزِيلُ الْكِتابِ خبر محذوف. أو مبتدأ، خبره مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ و هو على الأوّل صلة التنزيل، كما تقول: نزل

من عند اللّه.

أو خبر ثان، تقديره: هذا تنزيل الكتاب، هذا من اللّه. أو حال من التنزيل عمل فيها معنى الإشارة. و الظاهر أنّ الكتاب على الأوّل السورة. و المعنى: هذا إنزال السورة على محمّد شيئا فشيئا. و على الثاني القرآن، أي: إنزال القرآن على التدريج من اللّه المتعالي عن المثل و الشبه، الحكيم في أفعاله و أقواله. وصف نفسه هنا بالعزّة تحذيرا من مخالفة كتابه، و بالحكمة إعلاما بأنّه يحفظه حتّى يصل إلى المكلّفين من غير تغيير لشي ء منه.

إِنَّا أَنْزَلْنا إِلَيْكَ الْكِتابَ بِالْحَقِ ملتبسا بالأمر الحقّ، أي: بالدين الصحيح.

أو بسبب إثبات الحقّ و إظهاره و تفصيله.

فَاعْبُدِ اللَّهَ مُخْلِصاً ممحّضا لَهُ الدِّينَ من الشرك، بالتوحيد و تصفية السرّ. و تقديم الجارّ لتأكيد الاختصاص المستفاد من اللام، كما في قوله: أَلا لِلَّهِ الدِّينُ الْخالِصُ أي: ألا هو الّذي وجب اختصاصه بأن يخلص له الطاعة، فإنّه المتفرّد بصفات الألوهيّة، و الاطّلاع على الأسرار و الضمائر.

وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ يحتمل المتّخذين، و هم الكفرة. و الضمير راجع إلى الموصول. و المتّخذين، و هم الملائكة و عيسى و الأصنام. و الضمير راجع

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 55

إلى المشركين. و لم يجر ذكرهم لدلالة الميثاق عليهم. و الراجع إلى «الّذين» محذوف. و المعنى: و الّذين اتّخذهم المشركون أولياء.

و على الأوّل الموصول مبتدأ، خبره ما نَعْبُدُهُمْ إِلَّا لِيُقَرِّبُونا إِلَى اللَّهِ زُلْفى بإضمار القول، أو إِنَّ اللَّهَ يَحْكُمُ بَيْنَهُمْ و هو متعيّن على الثاني. و على هذا يكون القول المضمر بما في حيّزه حالا، أي: قائلين ذلك. أو بدلا من الصلة، فلا يكون له محلّ من الإعراب، كما أنّ المبدل منه كذلك.

فِي ما هُمْ فِيهِ يَخْتَلِفُونَ من الدين، بإدخال المحقّين الجنّة،

و المبطلين النار، مع الحجارة الّتي نحتوها و عبدوها من دون اللّه، فيعذّبهم بها حيث يجعلهم و إيّاها حصب جهنّم. و الضمير للكفرة و مقابليهم، أعني: المسلمين. و قيل: لهم و لمعبوديهم، فإنّهم يرجون شفاعتهم و هم يلعنونهم.

و قيل: كان المسلمون إذا قالوا لهم: من خلق السماوات و الأرض؟ أقرّوا و قالوا: اللّه. فإذا قالوا لهم: فما لكم تعبدون الأصنام؟ قالوا: ما نعبدهم إلّا ليقرّبونا إلى اللّه زلفى. فالضمير في «بينهم» عائد إليهم و إلى المسلمين. و المعنى: أنّ اللّه يحكم يوم القيامة بين المتنازعين من الفريقين.

إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ كاذِبٌ على اللّه و على رسوله كَفَّارٌ جاحد للوحدانيّة عنادا و لجاجا. و المراد بمنع الهداية: منع اللطف، تسجيلا عليهم بأن لا لطف لهم، و أنّهم في علم اللّه من الهالكين. أو المراد عدم هدايتهم إلى طريق الجنّة، أو عدم الحكم بهدايته إلى الحقّ.

و من جملة كذبهم على اللّه قولهم: الملائكة بنات اللّه، و قول النصارى:

المسيح ابن اللّه، و قول اليهود: عزير ابن اللّه. و لذلك عقّبه محتجّا عليهم بقوله: لَوْ أَرادَ اللَّهُ أَنْ يَتَّخِذَ وَلَداً كما زعموا لَاصْطَفى مِمَّا يَخْلُقُ ما يَشاءُ إذ لا موجود سواه إلّا و هو مخلوقه، لقيام الدلالة على امتناع وجود واجبين، و وجوب استناد ما عدا الواجب إليه. و من البيّن أنّ المخلوق لا يماثل الخالق، فيقوم مقام الولد له.

ثمّ قرّر ذلك بقوله: سُبْحانَهُ هُوَ اللَّهُ الْواحِدُ الْقَهَّارُ فإنّ الألوهيّة الحقيقيّة تتبع الوجوب المستلزم للوحدة الذاتيّة، و هي تنافي المماثلة فضلا عن التوالد الّذي يتوقّف على التجانس، لأنّ كلّ واحد من المثلين مركّب من الحقيقة المشتركة

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 56

و التعيين المخصوص، و القهّاريّة المطلقة تنافي قبول

الزوال المحوج إلى الولد.

ثمّ استدلّ على ذلك بقوله: خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِ أي: لم يخلقهما باطلا لغير غرض صحيح، بل خلقهما للغرض الحكمي.

يُكَوِّرُ اللَّيْلَ عَلَى النَّهارِ وَ يُكَوِّرُ النَّهارَ عَلَى اللَّيْلِ أي: يغشي كلّ واحد منهما الآخر، بأن يجعلهما خلفة يذهب هذا و يغشي مكانه هذا، و إذا غشى مكانه كأنّه يلفّه عليه لفّ اللباس على اللابس. يقال: كار العمامة على رأسه إذا لفّه و لواه. أو يغيّبه به، كما يغيّب الملفوف باللفافة عن مطامح الأبصار. أو يجعله كارّا عليه كرورا متتابعا، تتابع أكوار العمامة بعضها على إثر بعض.

وَ سَخَّرَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لِأَجَلٍ مُسَمًّى بأن أجراهما على وتيرة واحدة وفق المشيئة، لوقت معلوم في الشتاء و الصيف. و هو منتهى دورهما، أو منقطع حركته.

أَلا هُوَ الْعَزِيزُ القادر على كلّ ممكن، الغالب على كلّ شي ء الْغَفَّارُ حيث لم يعاجل بالعقوبة، و لم يسلب ما في هذه الصنائع من الرحمة و عموم المنفعة.

فسمّى الحلم مغفرة. و من قدر على خلق السماوات و الأرض، و تسخير الشمس و القمر، و إدخال الليل في النهار، فهو منزّه عن اتّخاذ الولد و الشريك، فإنّ ذلك من صفة المحتاجين.

[سورة الزمر (39): آية 6]

خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ لَهُ الْمُلْكُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُصْرَفُونَ (6)

ثمّ استدلّ استدلالا آخر بما أوجده في العالم السفلي مبدوءا به من خلق الإنسان، لأنّه أقرب و أكثر دلالة و أعجب، فقال:

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 57

خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ واحِدَةٍ و هو آدم عليه السّلام ثُمَّ جَعَلَ مِنْها زَوْجَها يعني: حوّاء، من

ضلع من أضلاعه. و قيل: من فضل طينته. و في خلق الإنسان ثلاث دلالات:

خلق آدم أوّلا من غير أب و أمّ. ثمّ خلق حوّاء من ضلعه الأسفل الّذي هو أقصر الأضلاع. ثمّ تشعيب الخلق الفائت للحصر منهما.

و «ثمّ» للعطف على محذوف هو صفة «نفس»، مثل: خلقها. أو على معنى «واحدة» أي: من نفس وحدت، ثمّ جعل منها زوجها، فشفّعها بها. أو على «خلقكم» لتفاوت ما بين الآيتين، فإنّ الأولى عادة مستمرّة دون الثانية. فهو من التراخي في الحال و المنزلة، لا من التراخي في الوجود.

و قيل: أخرج من ظهره ذرّيّته كالذرّ، ثمّ خلق حوّاء منه. و هذا ضعيف.

وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ و قضى لكم أو قسم، فإنّ قضاياه و قسمه توصف بالنزول من السماء، حيث كتب في اللوح كلّ كائن يكون. أو أحدث لكم بأسباب نازلة، كأشعّة الشمس و الأمطار، فإنّها لا تعيش إلّا بالنبات، و النبات لا يقوم إلّا بالماء، و هو نازل من السماء، فكأنّه أنزل الأنعام منها. و هذا كقوله: قَدْ أَنْزَلْنا عَلَيْكُمْ لِباساً «1» و لم ينزل اللباس، و لكن أنزل الماء الّذي هو سبب القطن و الصوف، و اللباس يكون منهما. فكذلك الأنعام تكون بالنبات، و النبات يكون بالماء.

ثَمانِيَةَ أَزْواجٍ ذكر أو أنثى، من الإبل و البقر و الضأن و المعز. و الزوج: اسم لواحد يكون معه آخر، فإذا انفرد فهو فرد و وتر. يَخْلُقُكُمْ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ بيان لكيفيّة خلق ما ذكر من الأناسيّ و الأنعام، إظهارا لما فيها من عجائب القدرة، غير أنّه غلّب أولي العقل، أو خصّهم بالخطاب، لأنّهم المقصودون خَلْقاً مِنْ بَعْدِ خَلْقٍ حيوانا سويّا، من بعد عظام مكسوّة لحما، من بعد عظام عارية، من

بعد مضغ، من

______________________________

(1) الأعراف: 26.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 58

بعد علق، من بعد نطف فِي ظُلُماتٍ ثَلاثٍ ظلمة البطن، و الرحم، و المشيمة. و قيل:

الصلب، و الرحم، و البطن.

ذلِكُمُ أي: الّذي هذه أفعاله اللَّهُ رَبُّكُمْ هو المستحقّ لعبادتكم، الّذي يملك التصرّف فيكم لَهُ الْمُلْكُ على جميع المخلوقات لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إذ لا يشاركه في الخلق غيره فَأَنَّى تُصْرَفُونَ يعدل بكم عن عبادته إلى الإشراك.

[سورة الزمر (39): آية 7]

إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ وَ لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ وَ إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (7)

إِنْ تَكْفُرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنْكُمْ عن إيمانكم، فإنّكم المحتاجون إليه، لاستضراركم بالكفر، و استنفاعكم بالإيمان وَ لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ فكيف يخلق الكفر، كما زعمت الأشاعرة وَ إِنْ تَشْكُرُوا يَرْضَهُ لَكُمْ أي: يرض الشكر لكم، لأنّه سبب فلا حكم. فإذن ما كره كفركم و لا رضي شكركم إلّا لكم و لصلاحكم، لا لأنّ منفعة ترجع إليه، فإنّه الغنيّ الّذي لا يجوز عليه الحاجة.

و قرأ ابن كثير و نافع في رواية و أبو عمرو و الكسائي بإشباع ضمّة الهاء، لأنّها صارت بحذف الألف موصولة بمتحرّك، فصارت مثل: له. و عن أبي عمرو و يعقوب إسكانها. و هو لغة فيها.

و اعلم أنّ منطوق هذا أوضح دلالة على أنّه سبحانه لا يريد الكفر الواقع من العباد، لأنّه لو أراده لوجب متى وقع أن يكون راضيا به لعبده، لأنّ الرضا بالفعل ليس إلّا ما ذكرناه. ألا ترى أنّه يستحيل أن نريد من غيرنا شيئا، و يقع منه على ما نريده، فلا نكون راضين به! أو أن نرضى شيئا، و

لم نرده البتّة. و لقد تمحّل بعض

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 59

الغواة ليثبت للّه ما نفاه عن ذاته من الرضا لعباده الكفر، فقال: هذا من العامّ الّذي أريد به الخاصّ، و ما أراد إلّا عباده الّذين عناهم في قوله: إِنَّ عِبادِي لَيْسَ لَكَ عَلَيْهِمْ سُلْطانٌ «1».

و تفصيل المبحث ذكره النيشابوري في تفسيره بهذه العبارة: «قال المعتزلة في قوله: «وَ لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ» دليل على أنّ الكفر ليس بقضائه، و إلّا لكان راضيا به. و أجاب الأشاعرة: بأنّه قد علم من اصطلاح القرآن أنّ العباد المضاف إلى اللّه أو إلى ضميره هم المؤمنون. قال: وَ عِبادُ الرَّحْمنِ الَّذِينَ يَمْشُونَ «2». عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ «3». فمعنى الآية: و لا يرضى لعباده المخلصين الكفر، و هذا ممّا لا نزاع فيه. أو نقول: سلّمنا أنّ كفر الكافر ليس برضا اللّه تعالى، بمعنى أنّه لا يمدحه عليه، و لا يترك اللوم و الاعتراض، إلّا أنّا ندّعي أنّه بإرادته، و ليس في الآية دليل على إبطاله» «4». انتهى كلامه.

و أقول: ضعف الجوابين ظاهر:

أما أولا: فلأنّ النيشابوري قال بعد هذا القول بورقة في آية ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ «5»: «إنّه قد مرّ أنّ العباد في القرآن إذا كان مضافا إلى ضمير اللّه اختصّ بأهل الإيمان عند أهل السنّة. و عندي لا مانع من التعميم هاهنا» «6». فظهر من كلامه القدح في الاصطلاح، و التعميم في العباد.

و ذكر بعد هذا الكلام بورقتين في تفسير الآية الكريمة: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ «7» ما يعضده، حيث جوّز التعميم، و قدّم

______________________________

(1) الحجر: 42.

(2) الفرقان: 63.

(3) الإنسان: 6.

(4) غرائب القرآن 5: 616.

(5) الزمر: 16 و

53.

(6) غرائب القرآن 5: 616.

(7) الزمر: 16 و 53.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 60

زبدة التفاسير ج 6 115

ما حقّه التقديم، قائلا: «ثمّ إن قلنا: العباد عامّ، فالإسراف على النفس يعمّ الشرك.

و لا نزاع أنّ عدم اليأس من الرحمة يكون مشروطا بالتوبة و الإيمان. و إن قلنا:

العباد المضاف في عرف القرآن مختصّ بالمؤمنين، فالإسراف إمّا بالصغائر، و لا خلاف في أنّها مكفّرة ما اجتنب الكبائر. و إمّا بالكبائر، و حينئذ يبقى النزاع بين الفريقين، فالمعتزلة شرطوا التوبة، و الأشاعرة العفو» «1».

و أمّا ثانيا: فلأنّه لا معنى لإرادة اللّه شيئا لا يرضى به كما مضى، فثبت أنّ الكفر ليس بقضائه، و أنّه أراد الإيمان من كلّ عباده. و الحمد للّه على حسن التوفيق و هداية الطريق.

وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى و لا تحمل حاملة ثقل اخرى، أي: لا يؤاخذ بالذنب إلّا من يرتكبه و يفعله ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ مَرْجِعُكُمْ مصيركم فَيُنَبِّئُكُمْ فيخبركم بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ ما عملتموه بالمحاسبة و المجازاة إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ فلا تخفى عليه خافية من أعمالكم.

[سورة الزمر (39): الآيات 8 الى 9]

وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ ثُمَّ إِذا خَوَّلَهُ نِعْمَةً مِنْهُ نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ مِنْ قَبْلُ وَ جَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً لِيُضِلَّ عَنْ سَبِيلِهِ قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلاً إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ (8) أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ آناءَ اللَّيْلِ ساجِداً وَ قائِماً يَحْذَرُ الْآخِرَةَ وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ (9)

______________________________

(1) غرائب القرآن 6: 10.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 61

وَ إِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعا رَبَّهُ مُنِيباً إِلَيْهِ لأنّه حين الاضطرار زال ما ينازع العقل في الدلالة على أنّ مبدأ الكلّ منه ثُمَّ

إِذا خَوَّلَهُ أعطاه. من الخول، و هو التعهّد، من قولهم: هو خائل مال و خال مال، إذا كان متعهّدا له حسن القيام به.

و منه: ما

روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه كان يتخوّل أصحابه بالموعظة.

أو من الخول، و هو الافتخار. يقال: خال يخول إذا اختال و افتخر.

نِعْمَةً مِنْهُ من اللّه، كالصّحة و الثروة و الأمن نَسِيَ ما كانَ يَدْعُوا إِلَيْهِ أي: الضرّ الّذي كان يدعو اللّه إلى كشفه. أو ربّه الّذي كان يتضرّع إليه. ف «ما» بمعنى «من» كما في قوله: وَ ما خَلَقَ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى «1». مِنْ قَبْلُ من قبل النعمة وَ جَعَلَ لِلَّهِ أَنْداداً أي: سمّى له أمثالا في توجيه عبادته إليها من الأصنام و الأوثان لِيُضِلَ ليضلّ الناس عَنْ سَبِيلِهِ عن دينه.

و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و ورويس بفتح الياء، أي: يضلّ هو عن الدين. يعني:

أنّ نتيجة جعله للّه أندادا ضلاله عن سبيل اللّه أو إضلاله.

قُلْ تَمَتَّعْ بِكُفْرِكَ قَلِيلًا أمر تهديد. و فيه إشعار بأنّ الكفر نوع تشهّ لا سند له. و إقناط للكافر من التمتّع في الآخرة. و لذلك علّله بقوله: إِنَّكَ مِنْ أَصْحابِ النَّارِ على سبيل الاستئناف للمبالغة. و هذا من باب الخذلان و التخلية. كأنّه قيل له: إذ قد أبيت قبول ما أمرت به من الإيمان و الطاعة، فمن حقّك أن لا تؤمر به بعد ذلك، و تؤمر بتركه، مبالغة في خذلانه و تخليته و شأنه، لأنّه لا مبالغة في الخذلان أشدّ من أن يبعث على عكس ما أمر به. و نظيره في المعنى قوله: مَتاعٌ قَلِيلٌ ثُمَّ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ «2».

أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ «أم» متّصلة بمحذوف، تقديره: أ هذا الكافر الّذي

______________________________

(1) الليل: 3.

(2) آل عمران: 197.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 62

ذكر وصفه خير «أَمَّنْ هُوَ قانِتٌ» أي: قائم بوظائف الطاعات، دائم على رسوم العبادات آناءَ اللَّيْلِ ساعاته. و قرأ الحجازيّان و حمزة بتخفيف الميم، أي:

أمّن هو قانت للّه كمن جعل له أندادا؟! ساجِداً تارة في الصلاة وَ قائِماً اخرى فيها. و هما حالان من ضمير «قانت». يعني: من صلّى صلاة الليل و يقنت في الوتر. و هو دعاء المصلّي قائما. و

في الحديث: «أفضل الصلاة طول القنوت».

يَحْذَرُ الْآخِرَةَ عذابها وَ يَرْجُوا رَحْمَةَ رَبِّهِ أي: يتردّد بين الخوف و الرجاء. و هما في موضع الحال، أو استئناف للتعليل.

ثمّ نفى استواء الفريقين باعتبار القوّة العلميّة، بعد نفي استوائهما باعتبار القوّة العمليّة، على وجه أبلغ، لمزيد فضل العلم، فقال:

قُلْ هَلْ يَسْتَوِي الَّذِينَ يَعْلَمُونَ وَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ و أراد بالّذين يعلمون العاملين من علماء الديانة، فكأنّه جعل من لا يعمل غير عالم. و فيه ازدراء عظيم بالّذين يقتنون العلوم، ثمّ لا يقتنون و يفتنون، ثمّ يفتنون بالدنيا، فهم عند اللّه جهلة، حيث جعل القانتين هم العالمين المتقنين.

و قيل: هذا تقرير للأوّل على سبيل التشبيه، أي: كما لا يستوي العالمون و الجاهلون، لا يستوي القانتون و العاصون.

إِنَّما يَتَذَكَّرُ أُولُوا الْأَلْبابِ بأمثال هذه البيانات.

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «نحن الّذين يعلمون، و عدوّنا الّذين لا يعلمون، و شيعتنا أولو الألباب».

[سورة الزمر (39): الآيات 10 الى 16]

قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ وَ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ (10) قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ (11) وَ أُمِرْتُ لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ (12) قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي عَذابَ

يَوْمٍ عَظِيمٍ (13) قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي (14)

فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ (15) لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَ مِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ يا عِبادِ فَاتَّقُونِ (16)

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 63

قُلْ يا عِبادِ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا رَبَّكُمْ عقاب ربّكم بلزوم طاعته و اجتناب معاصيه. و فيه دلالة على أنّ الإيمان يبقى مع المعصية.

ثمّ قال في مكافأة اتّقائهم: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا فِي هذِهِ الدُّنْيا حَسَنَةٌ مثوبة جميلة غير مكتنهة بالوصف في الآخرة. و هي الخلود في الجنّة. و قد علّق السدّي الظرف ب «حسنة». و معناه: لهم في هذه الدنيا ثناء حسن، و ذكر جميل، و صحّة و سلامة و عافية.

وَ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةٌ فمن تعسّر عليه التوفّر على الإحسان في وطنه، فليهاجر إلى حيث يتمكّن منه. يعني: لا عذر للمفرّطين في الإحسان البتّة، حتّى إن اعتلوا بأوطانهم و بلادهم، و أنّهم لا يتمكّنون فيها من التوفّر على الإحسان و صرف الهمم إليه، فعليهم التحوّل إلى بلاد أخر، و الاقتداء بالأنبياء الصالحين في مهاجرتهم

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 64

إلى غير بلادهم، ليزدادوا إحسانا إلى إحسانهم و طاعة إلى طاعتهم.

و قيل: نزلت في الّذين كانوا في بلاد المشركين، فأمروا بالمهاجرة عنه، كقوله تعالى: أَ لَمْ تَكُنْ أَرْضُ اللَّهِ واسِعَةً فَتُهاجِرُوا فِيها «1».

و قيل: هي أرض الجنّة. يعني: أرض الجنّة واسعة، فاطلبوها بالأعمال الصالحة.

إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ على مشاقّ الطاعة، من احتمال البلاء، و مهاجرة الأوطان و العشائر و الأصدقاء أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ أجرا لا يهتدي إليه حساب الحسّاب. و قيل: بغير مكيال و لا ميزان.

و

عن النبيّ صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ اللّه ينصب الموازين يوم القيامة، فيؤتى بأهل الصلاة فيوفّون أجورهم بالموازين، و يؤتى بأهل الصدقة فيوفّون أجورهم بالموازين، و يؤتى بأهل الحجّ فيوفّون أجورهم بالموازين، و يؤتى بأهل البلاء، فلا ينصب لهم ميزان و لا ينشر لهم ديوان، و يصبّ عليهم الأجر صبّا. قال اللّه تعالى: إِنَّما يُوَفَّى الصَّابِرُونَ أَجْرَهُمْ بِغَيْرِ حِسابٍ حتّى يتمنّى أهل العافية في الدنيا أنّ أجسادهم تقرض بالمقاريظ ممّا يذهب به أهل البلاء من الفضل».

و

روى العيّاشي أيضا بالإسناد عن عبد اللّه بن سنان، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إذا نشرت الدواوين، و نصبت الموازين، لم ينصب لأهل البلاء ميزان، و لم ينشر لهم ديوان. ثمّ تلا هذه الآية».

قُلْ إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ موحّدا له وَ أُمِرْتُ بذلك لِأَنْ أَكُونَ أَوَّلَ الْمُسْلِمِينَ لأجل أن أكون مقدّمهم في الدنيا و الآخرة، لأن قصب السبق في الدين بالإخلاص. أو لأن أكون من دعا نفسه إلى ما دعا إليه غيره، لأكون مقتدى بي في قولي و فعلي جميعا، و لا تكون صفتي صفة الملوك الّذين

______________________________

(1) النساء: 97.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 65

يأمرون بما لا يفعلون. أو أكون أوّل من خالف قريشا في خلع الأصنام و حطمها. أو أكون أوّل الّذين دعوتهم إلى الإسلام إسلاما.

و الأمران المذكوران ليسا بواحد، لاختلاف جهتيهما. و بيان ذلك: أنّ الأمر بالإخلاص و تكليفه شي ء، و الأمر به ليحرز القائم به قصب السبق في الدين شي ء.

و إذا اختلف وجها الشي ء و صفتاه، نزّل بذلك منزلة شيئين مختلفين، فعطف الأمر الثاني على الأوّل، لمغايرته إيّاه بتقييده بالعلّة. و فيه إشعار

بأنّ العبادة المقرونة بالإخلاص و إن اقتضت لذاتها أن يؤمر بها، فهي أيضا تقتضيه، لما يلزمها من السبق في الدين.

و يجوز أن تجعل اللام مزيدة، كما في: أردت لأن أفعل، كأنّها زيدت عوضا من ترك الأصل- الّذي هو المصدر- إلى ما يقوم مقامه، كما عوّض السين في:

اسطاع، عوضا من ترك الأصل الّذي هو: أطوع. و الدليل على هذا الوجه مجيئه بغير لام في قوله: وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُسْلِمِينَ «1» وَ أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ «2» أُمِرْتُ أَنْ أَكُونَ أَوَّلَ مَنْ أَسْلَمَ فيكون أمرا بالتقدّم في الإخلاص، و البدء بنفسه في الدعاء إليه بعد الأمر به.

قُلْ إِنِّي أَخافُ إِنْ عَصَيْتُ رَبِّي بترك الإخلاص، و الميل إلى ما أنتم عليه من الشرك و الرياء عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ لعظمة ما فيه.

قُلِ اللَّهَ أَعْبُدُ مُخْلِصاً لَهُ دِينِي أمر بالإخبار عن إخلاصه، و أن يكون مخلصا له دينه، بعد الأمر بالإخبار عن كونه مأمورا بالعبادة و الإخلاص، خائفا عن المخالفة من العقاب، قطعا لأطماعهم. و لذلك رتّب عليه قوله: فَاعْبُدُوا ما شِئْتُمْ مِنْ دُونِهِ تهديدا و خذلانا لهم. فمنطوق هذه الآية غير منطوق قوله:

______________________________

(1) يونس: 72 و 104.

(2) يونس: 72 و 104.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 66

إِنِّي أُمِرْتُ أَنْ أَعْبُدَ اللَّهَ مُخْلِصاً لَهُ الدِّينَ فلا يلزم التكرير.

قُلْ إِنَّ الْخاسِرِينَ الكاملين في الخسران، الجامعين لوجوهه و أسبابه الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ لوقوعها في هلكة لا هلكة بعدها بسبب الضلال وَ أَهْلِيهِمْ و خسروهم بالإضلال كما خسروا أنفسهم بالضلال يَوْمَ الْقِيامَةِ حين يدخلون النار بدل الجنّة.

و قيل: و خسروا أهليهم، لأنّهم إن كانوا من أهل النار فقد خسروهم كما خسروا أنفسهم، و إن كانوا من أهل الجنّة فقد ذهبوا عنهم ذهابا

لا رجوع بعده إليهم، فلا ينتفعون بأنفسهم، و لا يجدون في النار أهلا كما كان لهم في الدنيا أهل، فقد فاتتهم المنفعة بأنفسهم و أهليهم.

و عن ابن عبّاس: إنّ اللّه تعالى جعل لكلّ إنسان في الجنّة منزلا و أهلا، فمن عمل بطاعته كان له ذلك، و من عصاه دفع منزله إلى من أطاع. فذلك قوله. أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ «1» الآية.

أَلا ذلِكَ هُوَ الْخُسْرانُ الْمُبِينُ مبالغة في خسرانهم، حيث استأنف الجملة، و صدّرها بحرف التنبيه، و وسّط الفصل بين المبتدإ و الخبر، و عرّف الخسران، و وصفه بالمبين.

ثمّ شرح كمال خسرانهم بقوله: لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ أي: أطباق و سرادقات «2» مِنَ النَّارِ و دخانها وَ مِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ من النار، هي ظلل للآخرين، فإنّ النار أدراك ذلِكَ يُخَوِّفُ اللَّهُ بِهِ عِبادَهُ ذلك العذاب هو الّذي يخوّفهم به، ليجتنبوا ما يوقعهم فيه يا عِبادِ فَاتَّقُونِ و لا تتعرّضوا لما يوجب سخطي. و هذه نصيحة بالغة، و عظة بليغة من اللّه سبحانه.

______________________________

(1) المؤمنون: 10.

(2) سرادقات جمع سرادق: الفسطاط الّذي يمدّ فوق صحن البيت، أو الخيمة.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 67

[سورة الزمر (39): الآيات 17 الى 20]

وَ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ أَنْ يَعْبُدُوها وَ أَنابُوا إِلَى اللَّهِ لَهُمُ الْبُشْرى فَبَشِّرْ عِبادِ (17) الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ (18) أَ فَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَ فَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ (19) لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ مَبْنِيَّةٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَعْدَ اللَّهِ لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ (20)

و بعد ذكر التوعّد شرع في الوعد لمن اجتنب عن الشرك و سائر المعاصي، فقال: وَ الَّذِينَ اجْتَنَبُوا الطَّاغُوتَ البالغ غاية الطغيان. فعلوت منه، كالرحموت

و الملكوت بمعنى الرحمة الواسعة و الملك المبسوط، إلّا أنّ فيها قلبا بتقديم اللام على العين، فإنّ أصله الطغيوت أو الطغووت. و هي لمبالغة المصدر. و فيها مبالغات:

التسمية بالمصدر، كأنّ عين الشيطان طغيان، و البناء بناء المبالغة، و القلب. و هو للاختصاص، و لذلك اختصّ بالشيطان. و المراد بها هنا الجمع. و المعنى: كلّ من دعا إلى عبادة غير اللّه من شياطين الجنّ و الإنس.

أَنْ يَعْبُدُوها بدل اشتمال من الطاغوت، أي: اجتنبوا عبادتها وَ أَنابُوا إِلَى اللَّهِ و أقبلوا إليه بشراشرهم عمّا سواه لَهُمُ الْبُشْرى بالثواب على ألسنة الرسل، أو الملائكة عند حضور الموت و حين يحشرون، كقوله تعالى: يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ «1».

______________________________

(1) الحديد: 12.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 68

و

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنتم هم، و من أطاع جبّارا فقد عبده».

فَبَشِّرْ عِبادِ الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ وضع فيه الظاهر موضع ضمير «الَّذِينَ اجْتَنَبُوا» للدلالة على مبدأ اجتنابهم، و أنّهم نقّاد في الدين، يميّزون بين الحقّ و الباطل، و الحسن و الأحسن، و الفاضل و الأفضل. فإذا اعترضهم أمران: واجب و ندب، اختاروا الواجب. و كذلك اختاروا الندب على المباح، و العفو على القصاص، و الإغضاء على الانتصار، و الإخفاء على الإبداء، حراصا على ما هو أقرب عند اللّه و أكثر ثوابا، لقوله: وَ أَنْ تَعْفُوا أَقْرَبُ لِلتَّقْوى «1» وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ «2». و يدخل تحته المذاهب، و اختيار أثبتها و أقواها.

و قيل: معناه: يستمعون القرآن و غيره فيتّبعون القرآن.

روي عن أبي الدرداء قال: لولا ثلاث ما أحببت أن أعيش يوما واحدا:

الظمأ بالهواجر، و السجود في

جوف الليل، و مجالسة أقوام ينتقون من خير الكلام كما ينتقى طيّب التمر.

و عن ابن عبّاس: هو الرجل يجلس مع القوم، فيسمع الحديث فيه محاسن و مساوئ، فيحدّث بأحسن ما سمع، و يكفّ عمّا سواه.

قيل: هاتان الآيتان في ثلاث نفر كانوا يقولون في الجاهليّة: لا إله إلّا اللّه:

عمرو بن نفيل، و أبو ذرّ الغفاري، و سلمان الفارسي.

أُولئِكَ الَّذِينَ هَداهُمُ اللَّهُ لدينه وَ أُولئِكَ هُمْ أُولُوا الْأَلْبابِ من العقول السليمة عن منازعة الوهم و العادة. و في ذلك دلالة على أنّ الهداية تحصل بفعل اللّه و قبول النفس لها.

أَ فَمَنْ حَقَّ عَلَيْهِ كَلِمَةُ الْعَذابِ أَ فَأَنْتَ تُنْقِذُ مَنْ فِي النَّارِ جملة شرطيّة معطوفة على محذوف دلّ عليه سوق الكلام. تقديره: أ أنت مالك أمرهم؟ فمن حقّ عليه

______________________________

(1) البقرة: 237 و 271.

(2) البقرة: 237 و 271.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 69

العذاب فأنت تنقذه؟ فكرّرت الهمزة لتأكيد الإنكار و الاستبعاد. و وضع «مَنْ فِي النَّارِ» موضع الضمير لذلك، و للدلالة على أنّ من حكم عليه بالعذاب كالواقع فيه، لامتناع الخلف فيه، و أنّ اجتهاد الرسول في دعائهم إلى الايمان سعي في إنقاذهم من النار.

و يجوز أن يكون «أَ فَأَنْتَ تُنْقِذُ» جملة مستأنفة للدلالة على ذلك، و للإشعار بالجزاء المحذوف. تقديره: أ فمن حقّ عليه كلمة العذاب فأنت تخلّصه؟ أو كمن وجبت له الجنّة. و المراد بكلمة العذاب قوله: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ «1» الآية. و إنّما قال ذلك للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لحرصه على إسلام المشركين. و المعنى: إنّك لا تقدر على إدخال الإسلام في قلوبهم قسرا، فلا عليك إذا لم يؤمنوا. و هذا كقوله: فَلَعَلَّكَ باخِعٌ نَفْسَكَ عَلى آثارِهِمْ «2» الآية.

ثمّ بيّن سبحانه ما أعدّ

للمؤمنين، كما بيّن ما أعدّه للكفّار، فقال:

لكِنِ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ لَهُمْ غُرَفٌ مِنْ فَوْقِها غُرَفٌ علالي «3» بعضها فوق بعض مَبْنِيَّةٌ بنيت بناء المنازل على الأرض. و هذا في مقابلة قوله: «لَهُمْ مِنْ فَوْقِهِمْ ظُلَلٌ مِنَ النَّارِ وَ مِنْ تَحْتِهِمْ ظُلَلٌ». تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ أي: من تحت الغرف، فإنّ النظر من الغرف إلى الخضر و المياه أشهى و ألذّ وَعْدَ اللَّهِ مصدر مؤكّد، لأنّ قوله: «لهم غرف» في معنى الوعد، كأنّه قال: وعد اللّه وعدا لا يُخْلِفُ اللَّهُ الْمِيعادَ لأنّ الخلف نقص، و هو على اللّه محال.

روى أبو سعيد الخدري عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «إنّ أهل الجنّة ليتراءون الغرف من فوقهم، كما يتراءون الكوكب الدرّيّ في الأفق، من المشرق أو

______________________________

(1) السجدة: 13.

(2) الكهف: 6.

(3) علالي جمع علّيّة، و هي: بيت منفصل عن الأرض ببيت و نحوه. زبدة التفاسير، ج 6، ص: 70

المغرب، لتفاضل ما بينهم. قالوا: يا رسول اللّه تلك منازل الأنبياء لا يبلغها غيرهم.

قال: و الّذي نفسي بيده لرجال آمنوا باللّه و صدّقوا المرسلين».

[سورة الزمر (39): الآيات 21 الى 22]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً فَسَلَكَهُ يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (21) أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (22)

و لمّا قدّم سبحانه ذكر الدعاء إلى التوحيد، عقّبه بذكر دلائل التوحيد، فقال مخاطبا لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إن كان المراد جميع المكلّفين:

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ أَنْزَلَ مِنَ السَّماءِ ماءً هو المطر

فَسَلَكَهُ فأدخله و أجراه يَنابِيعَ فِي الْأَرْضِ عيونا و مجاري و مسالك كائنة فيها كالعروق في الأجساد.

و هو جمع الينبوع. أو مياه نابعات فيها، إذ الينبوع جاء للنابع. فنصبها على الحال.

ثُمَّ يُخْرِجُ بِهِ زَرْعاً مُخْتَلِفاً أَلْوانُهُ صنوفه من البرّ و الشعير و الأرز و غيرها.

يقال: هذا لون من الطعام. أو كيفيّاته من حمرة و خضرة و صفرة و غيرها. ثُمَّ يَهِيجُ يتمّ جفافه، لأنّه إذا تمّ جفافه حان له أن يثور عن منابته و يذهب فَتَراهُ مُصْفَرًّا من يبسه ثُمَّ يَجْعَلُهُ حُطاماً فتاتا.

إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لتذكيرا بأنّه لا بدّ من صانع حكيم دبّره و سوّاه. أو بأنّه مثل الحياة الدنيا، فلا تغترّ بها لِأُولِي الْأَلْبابِ لأولي العقول السليمة في معرفة الصانع المحدث للعالم، إذ لا يتذكّر به غيرهم.

و لمّا ذكر أدلّة التوحيد الّتي إذا تفكّر فيها متفكّر، انشرح صدره، و اطمأنّت

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 71

نفسه إلى التوحيد بلج «1» اليقين، قال عقيب ذلك:

أَ فَمَنْ شَرَحَ اللَّهُ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ أ فمن عرف اللّه أنّه من أهل اللطف به، بنصب الأدلّة و إزاحة العلّة، حتّى انشرح صدره و وسع قلبه لقبول الإسلام بيسر، فثبت عليه و تمكّن فيه فَهُوَ عَلى نُورٍ مِنْ رَبِّهِ يعني: المعرفة و الاهتداء إلى الحقّ، كمن لا لطف له، فهو حرج الصدر قاسي القلب. و نور اللّه هو لطفه، لأنّ به يعرف الحقّ، كما بالنور تعرف أمور الدنيا.

و

قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هذه الآية، فقيل: يا رسول اللّه كيف انشراح الصدر؟

قال: «إذا دخل النور القلب انشرح و انفسح. فقيل: يا رسول اللّه فما علامة ذلك؟ قال: الإنابة إلى دار الخلود، و التجافي عن دار الغرور، و

التأهّب للموت قبل نزوله».

و دلّ على حذف خبر «من»: فَوَيْلٌ لِلْقاسِيَةِ قُلُوبُهُمْ مِنْ ذِكْرِ اللَّهِ من أجل ذكره و بسببه. يعني: إذا ذكر اللّه عندهم أو آياته اشمأزّت قلوبهم و ازدادت قساوة، كقوله: فَزادَتْهُمْ رِجْساً إِلَى رِجْسِهِمْ «2». و هذا المعنى أبلغ من أن يكون «عن» مكان «من»، لأنّ القاسي من أجل الشي ء أشدّ تأبّيا عن قبوله من القاسي عنه لسبب آخر، و لهذا آثر «من» على «عن». و للمبالغة في وصف أولئك بالقبول و هؤلاء بالامتناع، ذكر شرح الصدر، و أسنده إلى اللّه، و قابله بقساوة القلب، و أسنده إليهم.

أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ يظهر ضلالهم للناظر بأدنى نظر. و الآية نزلت في حمزة و عليّ و أبي لهب و ولده.

______________________________

(1) بلج الحقّ بلجا: وضح و ظهر.

(2) التوبة: 125.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 72

[سورة الزمر (39): الآيات 23 الى 24]

اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ كِتاباً مُتَشابِهاً مَثانِيَ تَقْشَعِرُّ مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ قُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ ذلِكَ هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ مَنْ يَشاءُ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (23) أَ فَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ قِيلَ لِلظَّالِمِينَ ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ (24)

روي: أنّ أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ملّوا ملّة فقالوا: حدّثنا. فنزلت: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ

يعني: القرآن. و في الابتداء باسم اللّه، و بناء «نزّل» عليه، تأكيد للإسناد إليه تعالى، و أنّه من عنده، و أنّ مثله لا يجوز أن يصدر إلّا عنه، و تفخيم للمنزل، و استشهاد على مزيّة حسنه، و تنبيه على أنّه وحي معجز مباين لسائر الأحاديث.

كِتاباً مُتَشابِهاً بدل من «أحسن» أو حال منه. و تشابهه: تشابه أبعاضه في الإعجاز، و

تجاوب النظم، و صحّة المعنى و إحكامه، و بناؤه على الحقّ و الصدق، و الدلالة على المنافع العامّة، لاشتماله على جميع ما يحتاج إليه المكلّف، من التنبيه على أدلّة التوحيد و العدل، و بيان أحكام الشرع، و غير ذلك من المواعظ و قصص الأنبياء، و الترغيب و الترهيب.

مَثانِيَ جمع مثنّى، بمعنى المردّد و المكرّر. أو مثنى. وصف به «كتابا» مع أنّه جمع باعتبار تفاصيله، من الأقاصيص و الأحكام و المواعظ المكرّرة. و هذا كقولك: القرآن سور و آيات و أسباع و أخماس، و الإنسان: عظام و عروق و أعصاب.

أو جعل تمييزا من «متشابها» كقولك: رجلا حسنا شمائل. فالمعنى: كتابا متشابهة مثانيه.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 73

و فائدة التكرير في أقاصيصه و أحكامه و مواعظه ركزها في القلوب و غرسها في الصدور، فإنّ النفوس أنفر شي ء عن حديث الوعظ و النصيحة، فما لم يكرّر عليها عودا عن بدء لم يرسخ فيها و لم يعمل عمله. و من ثمّ كانت عادة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يكرّر عليهم ما كان يعظ به، و ينصح ثلاث مرّات و سبعا، ليركّزه في قلوبهم و يغرسه في صدورهم.

تَقْشَعِرُّ تتقبّض تقبّضا شديدا مِنْهُ جُلُودُ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ وقف شعرهم خوفا ممّا فيه من الوعيد. و هو مثل في شدّة الخوف. و تركيبه من حروف القشع، و هو الأديم اليابس، بزيادة الراء ليصير رباعيّا، و يدلّ على معنى زائد، كتركيب القمطر من القمط، و هو الشدّ. و يجوز أن يريد اللّه سبحانه به التمثيل، تصويرا لإفراط خشيتهم، و أن يريد التحقيق.

و المعنى: أنّهم إذا سمعوا بالقرآن و بآيات وعيده، أصابتهم خشية شديدة تقشعرّ منها جلودهم.

ثُمَّ تَلِينُ جُلُودُهُمْ وَ

قُلُوبُهُمْ إِلى ذِكْرِ اللَّهِ بالرحمة و عموم المغفرة.

و الاقتصار على ذكر اللّه من غير ذكر الرحمة، للإشعار بأنّ أصل أمره الرحمة و الرأفة، و إن سبقت رحمته غضبه، فلأصالة رحمته إذا ذكر لم يخطر بالبال قبل كلّ شي ء من صفاته إلّا كونه رؤوفا رحيما.

و تعدية «تلين» ب «إلى» لتضمّنه معنى السكون و الاطمئنان. فكأنّه قيل:

سكنت و اطمأنّت إلى ذكر اللّه، أي: بعد اقشعرار جلودهم منه، إذا ذكروا اللّه و رحمته وجوده بالمغفرة، لانت جلودهم و قلوبهم، و زال عنها ما كان بها من الخشية و القشعريرة.

و ذكر الجلود وحدها أوّلا، ثمّ قران القلوب بها ثانيا، لدلالة الخشية الّتي محلّها القلوب عليها، فهي في حكم الذكر. فكأنّه قيل: تقشعرّ جلودهم من آيات

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 74

الوعيد، و تخشى قلوبهم في أوّل وهلة، فإذا ذكروا اللّه و مبنى أمره على الرأفة و الرحمة، استبدلوا بالخشية رجاء في قلوبهم، و بالقشعريرة لينا في جلودهم.

روي عن العبّاس بن عبد المطّلب أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «إذا اقشعرّ جلد العبد من خشية اللّه، تحاتّت عنه ذنوبه كما يتحاتّ عن الشجرة اليابسة ورقها».

و عن قتادة: هذا نعت لأولياء اللّه، نعتهم اللّه بأن تقشعرّ جلودهم، و تطمئنّ قلوبهم إلى ذكر اللّه. و لم ينعتهم بذهاب عقولهم، و الغشيان عليهم، إنّما ذلك في أهل البدع، و هو من الشيطان.

ذلِكَ أي: ذلك الكتاب هُدَى اللَّهِ يَهْدِي بِهِ يوفّق به بنصب الأدلّة و إزاحة العلّة مَنْ يَشاءُ هدايته من عباده المتّقين الطالبين طريق الفوز و النجاة، كما قال: هُدىً لِلْمُتَّقِينَ «1» وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ من يخذله من أهل العناد و الفجور، بسبب عناده و فرط فجوره فَما لَهُ

مِنْ هادٍ يخرجهم من الضلال.

أو ذلك الكائن من الخشية و الرجاء هدى اللّه، أي: أثر هداه، و هو لطفه.

فسمّاه هدى، لأنّه حاصل بالهدى. يهدي بهذا الأثر من يشاء من عباده. يعني: من صحب أولئك و رءاهم خاشين راجين، فكان ذلك مرغّبا لهم في الاقتداء بسيرتهم و سلوك طريقتهم. «وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ» و من لم يؤثّر فيه ألطافه، لقسوة قلبه و إصراره على فجوره «فَما لَهُ مِنْ هادٍ» من مؤثّر فيه بشي ء قطّ.

أَ فَمَنْ يَتَّقِي بِوَجْهِهِ يجعله درقة «2» يقي به نفسه، لأنّه يكون يداه مغلولة إلى عنقه، فلا يقدر أن يتّقي إلّا بوجهه سُوءَ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ كمن هو آمن منه. فحذف الخبر كما حذف في نظائره المذكورة غير مرّة.

و تنقيح المعنى: أنّ الإنسان إذا لقي مخوفا من المخاوف استقبله بيده، و طلب

______________________________

(1) البقرة: 2.

(2) في هامش النسخة الخطّية: «الدّرقة: التّرس الّذي يتّخذ من الجلود. منه».

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 75

أن يقي بها وجهه، لأنّه أعزّ أعضائه عليه. و الّذي يلقى في النّار يلقى مغلولة يداه إلى عنقه، فلا يتهيّأ له أن يتّقي النار إلّا بوجهه الّذي كان يتّقي المخاوف بغيره، وقاية له و محاماة عليه. و قيل: المراد بالوجه الجملة، تسمية للشي ء بأشرف أجزائه.

وَ قِيلَ لِلظَّالِمِينَ أي: لهم. فوضع الظاهر موضع الضمير تسجيلا عليهم بالظلم، و إشعارا بالموجب لما يقال لهم، و هو ذُوقُوا ما كُنْتُمْ تَكْسِبُونَ أي: قال لهم خزنة النار، ذوقوا و بال ما كنتم تعملون. و الواو للحال، و «قد» مقدّرة.

[سورة الزمر (39): الآيات 25 الى 28]

كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَأَتاهُمُ الْعَذابُ مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ (25) فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (26) وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ

فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (27) قُرْآناً عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ (28)

ثمّ وعد كفّار قريش بذكر الأمم المكذّبة الماضية، و استئصالهم بالعذاب العاجل، و صليهم بالعذاب الآجل، فقال:

كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ بآيات اللّه و جحدوا رسله فَأَتاهُمُ الْعَذابُ عاجلا مِنْ حَيْثُ لا يَشْعُرُونَ من الجهة الّتي لا يخطر ببالهم أنّ الشرّ يأتيهم منها. يعني:

بينا هم آمنون رافهون إذ فوجؤا بالعذاب من مأمنهم.

فَأَذاقَهُمُ اللَّهُ الْخِزْيَ الذلّ و الصغار فِي الْحَياةِ الدُّنْيا كالمسخ و الخسف و القتل و السبي و الإجلاء، و ما أشبه ذلك من نكال اللّه وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ المعدّ لهم أَكْبَرُ لشدّته و دوامه لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ لو كانوا من أهل العلم و النظر لعلموا ذلك و اعتبروا به.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 76

وَ لَقَدْ ضَرَبْنا لِلنَّاسِ أي: بيّنّا بيانا بليغ الوضوح فِي هذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ يحتاج إليه الناظر في أمر دينه لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ يتدبّرون فيتّعظوا به.

قُرْآناً عَرَبِيًّا حال مؤكّدة من «هذا». و الاعتماد فيها على الصفة، كقولك:

جاءني زيد رجلا صالحا و إنسانا عاقلا. و يجوز أن ينتصب على المدح. غَيْرَ ذِي عِوَجٍ أي: لا اختلال فيه بوجه مّا، بريئا من التناقض و الاختلاف قطعا و رأسا.

و في إيثار «غير ذي عوج» على: غير معوجّ و على: «مستقيما» فائدتان:

إحداهما: نفي أن يكون فيه عوج قطّ، كما قال: وَ لَمْ يَجْعَلْ لَهُ عِوَجاً «1». و الثانية:

ليدلّ على أنّ استقامته من حيث المعنى، فإنّ لفظ العوج مختصّ بالمعاني دون الأعيان.

و قيل: العوج: الشكّ و اللبس، استشهادا بقوله:

و قد أتاك يقين غير ذي عوج من الإله و قول غير مكذوب

لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ لكي يتّقوا معاصي اللّه. و هذا علّة اخرى مرتّبة على

الأولى.

[سورة الزمر (39): آية 29]

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً رَجُلاً فِيهِ شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ وَ رَجُلاً سَلَماً لِرَجُلٍ هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلاً الْحَمْدُ لِلَّهِ بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ (29)

ثمّ مثّل حال من يثبت آلهة شتّى، و ما يلزمه من سوء العواقب، و من يتّخذ اللّه وحده إلها، و ما يتبعه من حسن الخواتيم، فقال:

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا رَجُلًا بدل من «مثلا» فِيهِ صلة قوله: شُرَكاءُ مُتَشاكِسُونَ من التشاكس بمعنى الاختلاف. و هذا مثل المشرك. وَ رَجُلًا سَلَماً أي: خالصا لِرَجُلٍ و هذا مثل الموحّد. و قرأ نافع و ابن عامر و الكوفيّون: سلما

______________________________

(1) الكهف: 1.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 77

بفتحتين، مصدر: سلم، نعت به. أو على حذف المضاف، أي: ذا سلامة و خلوص لرجل من غير شركة. و تخصيص الرجل لأنّه أفطن للضرّ و النفع.

و توضيح المعنى: أن اضرب يا محمّد لقومك مثلا، فقل لهم: ما تقولون في رجل من المماليك قد اشترك فيه شركاء بينهم اختلاف و تنازع، كلّ واحد منهم يدّعي أنّه عبده، فهم يتجاذبونه و يتعاورونه «1» في مهن شتّى و مشاغل كثيرة، و إذا عنت له حاجة تدافعوه، فهو متحيّر في أمره، و قد تشعّبت الهموم قلبه، و توزّعت أفكاره، و لا يدري أيّهم يرضى بخدمته، و على أيّهم يعتمد في حاجاته. و في رجل قد سلم لمالك واحد، و خلص له، فهو معتمد على المالك فيما يصلحه من صنوف الخدمة، فهمّه واحد، و قلبه مجتمع، أيّ هذين العبدين أحسن حالا و أحمد شأنا؟

روى الحاكم أبو الحسن الحسكاني بالإسناد عن عليّ عليه السّلام أنّه قال: «أنا ذلك الرجل السالم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم» «2».

و

روى العيّاشي بإسناده عن أبي خالد، عن أبي جعفر عليه السّلام قال:

«الرجل السلم لرجل عليّ حقّا و شيعته».

هَلْ يَسْتَوِيانِ مَثَلًا صفة أو حالا. و نصبه على التمييز. و وحّد لأنّه جنس.

و المعنى: هل يستوي هذان الرجلان صفة و شبها في حسن العاقبة و حصول المنفعة، أي: لا يستويان، فإنّ الخالص لمالك واحد يستحقّ من معونته و حياطته ما لا يستحقّه صاحب الشركاء المختلفين في أمره.

الْحَمْدُ لِلَّهِ كلّ الحمد للّه الواحد الّذي لا يشاركه فيه على الحقيقة سواه، لأنّه المنعم بالذات، و المالك على الإطلاق، أي: يجب أن يكون الحمد و العبادة متوجّها إليه وحده، فقد ثبت أنّه لا إله إلّا هو.

______________________________

(1) تعاور القوم الشي ء: تعاطوه و تداولوه.

(2) شواهد التنزيل 2: 176 ح 807.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 78

و قيل: معناه: احمدوا اللّه المستحقّ للشكر و الثناء على هذا المثل الّذي علّمكموه، فأزال به للمؤمنين الشبهة، و أوضح لهم الدلالة الهادية. أو احمدوا اللّه حيث لطف بكم حتّى عبدتموه وحده، و أخلصتم له الإيمان و التوحيد، فهي النعمة السابغة.

بَلْ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْلَمُونَ فيشركون به غيره من فرط جهلهم.

[سورة الزمر (39): الآيات 30 الى 35]

إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ (30) ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ (31) فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ وَ كَذَّبَ بِالصِّدْقِ إِذْ جاءَهُ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ (32) وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ (33) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ (34)

لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا وَ يَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (35)

روي: أنّ المشركين كانوا يتربّصون برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم موته، فأخبر سبحانه أنّ الموت يعمّهم، فلا معنى للتربّص و شماتة الباقي بالفاني، فقال:

إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ أي: إنّك و إيّاهم

و إن كنتم أحياء، فإنّكم بصدد الموت و في عداد الموتى، لأنّ ما هو كائن فكأن قد كان.

و الفرق بين الميّت و المائت: أنّ الميّت صفة لازمة كالسيّد، و أمّا المائت فصفة حادثة. تقول: زيد مائت غدا، كما تقول: سائد غدا، أي: سيموت و سيسود.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 79

و إذا قلت: زيد ميّت، فكما تقول: حيّ، في نقيضه، فيما يرجع إلى اللزوم و الثبوت.

ثُمَّ إِنَّكُمْ على تغليب المخاطب على الغيّب يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ فتحتجّ عليهم بأنّك كنت على الحقّ في التوحيد، و كانوا على الباطل في التشريك، و اجتهدت في الإرشاد و التبليغ، و لجّوا في التكذيب و العناد، و يعتذرون بالأباطيل الّتي لا طائل تحته، بأن يقول الأتباع: أطعنا سادتنا و كبراءنا، و يقول السادات: أغوتنا الشياطين و آباؤنا الأقدمون.

و قيل: المراد به اختصام الجميع، فإنّ الكفّار يخاصم بعضهم بعضا، حتّى يقال لهم: لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ «1». و المؤمنون الكافرين، يبكّتونهم بالحجج. و أهل القبلة يكون بينهم الخصام.

و قال أبو سعيد الخدري: كنّا نقول: ربّنا واحد، و نبيّنا واحد، و ديننا واحد، فما هذه الخصومة؟ فلمّا كان يوم صفّين، و شدّ- يعني: حمل- بعضنا على بعض بالسيوف، قلنا: نعم هو هذا.

و عن ابن عمر: كنّا نرى أنّ هذه الآية أنزلت فينا و في أهل الكتابين، و قلنا:

كيف نختصم نحن و نبيّنا واحد و كتابنا واحد، حتّى رأيت بعضنا يضرب وجوه بعض بالسيف، فعلمت أنّها فينا نزلت.

ثمّ بيّن سبحانه حال الفريقين، فقال: فَمَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ كَذَبَ عَلَى اللَّهِ بإضافة الولد و الشريك إليه وَ كَذَّبَ بِالصِّدْقِ بالأمر الّذي هو الصدق بعينه. و هو ما جاء به محمّد صلّى اللّه عليه و آله و

سلّم. إِذْ جاءَهُ من غير توقّف و تفكرّ في أمره، و اهتمام بتمييز بين حقّ و باطل، كما يفعل أهل النصفة فيما يسمعون.

ثمّ هدّد سبحانه من هذه صفته بأن قال: أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْكافِرِينَ الهمزة للتقرير، أي: يكفيهم ذلك مجازاة لأعمالهم. و اللام للعهد، أي: لهؤلاء الّذين

______________________________

(1) ق: 28.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 80

كذبوا على اللّه و كذّبوا بالصدق. أو لجنس الكفرة. و استدلّ به على تكفير المبتدعة، فإنّهم يكذّبون بما علم صدقه. و هو ضعيف، لأنّه مخصوص بمن فاجأ ما علم مجي ء الرسول به بالتكذيب بلا تفكّر فيه و تمييز.

وَ الَّذِي جاءَ بِالصِّدْقِ وَ صَدَّقَ بِهِ هو رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، جاء بالحقّ و آمن به.

و المراد هو و من تبعه، لقوله: أُولئِكَ هُمُ الْمُتَّقُونَ كما في قوله وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ «1». أو المراد جنس الرسل و المؤمنين.

و

قيل: الّذي جاء بالصدق محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و صدّق به عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.

و هذا منقول عن مجاهد. و رواه الضحّاك عن ابن عبّاس. و هو المرويّ عن أئمّة الهدى من آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

لَهُمْ ما يَشاؤُنَ من الثواب و أنواع النعيم في الجنّة عِنْدَ رَبِّهِمْ ينالونه من جهته ذلِكَ جَزاءُ الْمُحْسِنِينَ على إحسانهم.

لِيُكَفِّرَ اللَّهُ عَنْهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي عَمِلُوا خصّ الأسوأ للمبالغة، فإنّه إذا كفّر كان غيره أولى بذلك. أو للإشعار بأنّهم لاستعظامهم الذنوب يحسبون أنّهم مقصّرون مذنبون، و أنّ ما يفرط منهم من الصغائر أسوأ ذنوبهم. و يجوز أن يكون من قبيل إضافة الشي ء إلى ما هو بعضه من غير تفضيل. فيكون الأسوأ

بمعنى السيّ ء، كقولهم: الناقص و الأشجّ أعدلا بني مروان، يعني: عمر بن عبد العزيز و محمّد بن الخليفة عدلان من بينهم.

وَ يَجْزِيَهُمْ أَجْرَهُمْ و يعطيهم ثوابهم بِأَحْسَنِ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ فتعدّ لهم محاسن أعمالهم بأحسنها، في زيادة الأجر و عظمه، لفرط إخلاصهم فيها.

و المعنى: يجزيهم ثوابهم بالفرائض و النوافل. فهي أحسن أعمالهم، لأنّ المباح و إن كان حسنا فلا يستحقّ به ثواب و لا مدح.

______________________________

(1) المؤمنون: 49.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 81

[سورة الزمر (39): الآيات 36 الى 37]

أَ لَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ وَ يُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (36) وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍّ أَ لَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ ذِي انْتِقامٍ (37)

روي: أنّ قريشا قالوا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّا نخاف أن تخبّلك آلهتنا، لعيبك إيّاها. فنزلت: أَ لَيْسَ اللَّهُ بِكافٍ عَبْدَهُ

استفهام إنكار للنفي مبالغة في الإثبات.

و العبد رسول اللّه. و يحتمل الجنس. و يؤيّده قراءة حمزة و الكسائي بالجمع. و فسّر بالأنبياء. وَ يُخَوِّفُونَكَ يعني: قريشا بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يعني: الأوثان الّتي اتّخذوها آلهة من دونه.

و قيل: إنّه بعث خالدا ليكسر العزّى بالفأس، فقال له سادنها: أحذّركها، فإنّ لها شدّة، أي: حملة لا يقوم لها شي ء. فعمد إليها خالد فهشم أنفها. فقال اللّه عزّ و جل:

أليس اللّه بكاف نبيّه أن يعصمه من كلّ سوء، و يدفع عنه كلّ بلاء في مواطن الخوف؟ فنزّل تخويف خالد منزلة تخويفه، لأنّه الآمر له بما خوّف عليه. و فيه تهكّم بهم، لأنّهم خوّفوه بما لا يقدر على نفع و لا ضرّ. أو أليس اللّه بكاف أنبياءه؟

و لقد قالت أممهم نحو ذلك، فكفاهم اللّه. و ذلك قول هود: إِنْ نَقُولُ

إِلَّا اعْتَراكَ بَعْضُ آلِهَتِنا بِسُوءٍ «1».

وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ بالتخلية و الخذلان حتّى غفل عن كفاية اللّه له فَما لَهُ مِنْ هادٍ يهديه إلى الرشاد. أو من يضلل اللّه عن طريق الجنّة بكفره و فرط عناده و معاصيه فليس له هاد يهديه إليه. أو من وصف و حكم بأنّه ضالّ فليس له من يسمّيه هاديا.

______________________________

(1) هود: 54.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 82

وَ مَنْ يَهْدِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ مُضِلٍ أي: من يهده اللّه فاهتدى فلا يقدر أحد على صرفه عنه. أو من يهده إلى طريق الجنّة فلا أحد يضلّه عنها، إذ لا رادّ لفعله، كما قال: أَ لَيْسَ اللَّهُ بِعَزِيزٍ غالب قاهر منيع لا يقدر أحد على مغالبته ذِي انْتِقامٍ ينتقم من أعدائه. و فيه و عيد لقريش، و وعد للمؤمنين بأنّه ينتقم لهم منهم و ينصرهم عليهم.

[سورة الزمر (39): الآيات 38 الى 42]

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ قُلْ أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ (38) قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ إِنِّي عامِلٌ فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ (39) مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ (40) إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ بِالْحَقِّ فَمَنِ اهْتَدى فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ ضَلَّ فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (41) اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها فَيُمْسِكُ الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ وَ يُرْسِلُ الْأُخْرى إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (42)

ثمّ قال لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ

لَيَقُولُنَّ اللَّهُ

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 83

لوضوح البرهان على تفرّده بالخالقيّة قُلْ أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ بعد ما تحقّقتم أنّ خالق العالم هو اللّه تعالى إِنْ أَرادَنِيَ اللَّهُ بِضُرٍّ هَلْ هُنَّ كاشِفاتُ ضُرِّهِ فيكشفنه أَوْ أَرادَنِي بِرَحْمَةٍ هَلْ هُنَّ مُمْسِكاتُ رَحْمَتِهِ فيمسكنها عليّ.

و قرأ أبو عمرو: كاشفات ضرّه .... ممسكات رحمته، بالتنوين و نصب «ضرّه و رحمته» على الأصل.

و إنّما فرض المسألة في نفسه دونهم، لأنّهم خوّفوه معرّة «1» الأوثان، فامر بأن يقرّرهم أوّلا بأنّ خالق العالم هو اللّه تعالى وحده، ثم يقول لهم بعد التقرير: فإن أرادني خالق العالم الّذي أقررتم به بضرّ من مرض أو فقر، أو غير ذلك من النوازل، أو رحمة من صحّة أو غنى أو نحوهما، هل هؤلاء اللّاتي خوّفتموني إيّاهنّ كاشفات على ضرّه، أو ممسكات رحمته؟ حتّى إذا ألقمهم الحجر و قطعهم فلا يجيبوا بكلمة.

و إنّما قال: «كاشفات .... و ممسكات» على التأنيث، بعد قوله: «وَ يُخَوِّفُونَكَ بِالَّذِينَ مِنْ دُونِهِ»، ليضعّفها و يعجّزها زيادة تضعيف و تعجيز عن كشف الضرّ و إمساك الرحمة، لأنّ الأنوثة من باب اللين و الرخاوة، كما أنّ الذكورة من باب الشدّة و الصلابة. كأنّه قال: الإناث اللّاتي هنّ اللات و العزّى و مناة أضعف ممّا تدعون لهنّ و أعجز. و فيه تهكّم أيضا.

روي: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سألهم فسكتوا، فنزل: قُلْ حَسْبِيَ اللَّهُ

كافيا في إصابة الخير و دفع الضرّ، إذ تقرّر بهذا التقرير أنّه القادر الّذي لا مانع لما يريده من خير أو شرّ عَلَيْهِ يَتَوَكَّلُ الْمُتَوَكِّلُونَ لعلمهم بأنّ النفع و الضرّ منه.

ثمّ هدّدهم بقوله: قُلْ يا قَوْمِ اعْمَلُوا عَلى مَكانَتِكُمْ على حالاتكم الّتي أنتم

عليها، من العداوة الّتي تمكّنتم منها، و على قدر جهدكم و طاقتكم في إهلاكي.

و الأمر للتهديد. و المكانة اسم للمكان، استعير للحال، كما استعير «هنا» و «حيث»

______________________________

(1) المعرّة: المساءة و الإثم.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 84

من المكان للزمان. و قرأ أبو بكر: مكاناتكم. إِنِّي عامِلٌ أي: على مكانتي، فحذف للاختصار، و المبالغة في الوعيد، و الإشعار بأنّ حاله لا يقف، فإنّه تعالى يزيده كلّ يوم قوّة و نصرة. فلذلك توعّدهم بكونه منصورا عليهم في الدارين، فقال:

فَسَوْفَ تَعْلَمُونَ مَنْ يَأْتِيهِ عَذابٌ يُخْزِيهِ فإنّ خزي أعدائه دليل غلبته، و قد أخزاهم اللّه يوم بدر وَ يَحِلُّ عَلَيْهِ عَذابٌ مُقِيمٌ دائم. و هو عذاب النار.

إِنَّا أَنْزَلْنا عَلَيْكَ الْكِتابَ لِلنَّاسِ لأجلهم، فإنّه، مناط مصالحهم في معاشهم و معادهم، و لا حاجة لي إلى ذلك، فإنّي أنا الغنيّ بِالْحَقِ متلبّسا به، و ليس فيه شي ء من الباطل رأسا فَمَنِ اهْتَدى فمن اختار الهدى فَلِنَفْسِهِ أي: فقد نفع به نفسه وَ مَنْ ضَلَ و من اختار الضلالة فَإِنَّما يَضِلُّ عَلَيْها فقد ضرّها، فإنّ و باله لا يتخطّاها وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ و ما وكّلت عليهم لتجبرهم على الهدى، فإنّ التكليف مبنيّ على الاختيار دون الإجبار، و إنّما أمرت بالبلاغ و قد بلّغت، و جزاء أعمالهم على الّذي يقدر على إماتتهم و إحيائهم و حفظ أعمالهم، و هو اللّه سبحانه.

كما قال: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها أي: يقبضها عن الأبدان، بأن يقطع تعلّقها عنها، و تصرّفها فيها ظاهرا و باطنا عند موتها، أي: موت أبدانها وَ الَّتِي لَمْ تَمُتْ فِي مَنامِها و يقبضها عن الأبدان، و يقطع تعلّقها عنها و تصرّفاتها في النوم. فالنوم شبيه بالموت. و منه قوله تعالى: وَ هُوَ

الَّذِي يَتَوَفَّاكُمْ بِاللَّيْلِ «1» حيث لا يميّزون و لا يتصرّفون، كما أنّ الموتى كذلك فَيُمْسِكُ الأنفس الَّتِي قَضى عَلَيْهَا الْمَوْتَ الحقيقي، و لا يردّها إلى البدن إلى يوم القيامة. و قرأ حمزة و الكسائي: قضي، بضمّ القاف و كسر الضاد، و الموت بالرفع. وَ يُرْسِلُ الْأُخْرى أي: الأنفس النائمة إلى بدنها عند اليقظة إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى وقت مضروب لموته، و هو غاية جنس الإرسال.

______________________________

(1) الأنعام: 60.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 85

و قريب منه ما روي عن ابن عبّاس: أنّ في بني آدم نفسا و روحا بينهما مثل شعاع الشمس. فالنفس الّتي بها العقل و التمييز، و الروح الّتي بها النفس و الحياة، فيتوفّيان عند الموت، و تتوفّى النفس وحدها عند النوم.

و

روى العيّاشي بالإسناد عن الحسن بن محبوب، عن عمرو بن ثابت أبي المقدام، عن أبيه، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «ما من أحد ينام إلّا عرجت نفسه إلى السماء، و بقيت روحه في بدنه، و صار بينهما سبب كشعاع الشمس. فإن أذن اللّه في قبض الأرواح أجابت الروح النفس، و إن أذن اللّه في ردّ الروح أجابت النفس الروح. و هو قوله: اللَّهُ يَتَوَفَّى الْأَنْفُسَ حِينَ مَوْتِها الآية».

إِنَّ فِي ذلِكَ من التوفّي و الإمساك و الإرسال لَآياتٍ دالّة على كمال قدرته و حكمته لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ يجيلون أفكارهم في كيفيّة تعلّقها بالأبدان، و توفّيها عنها بالكلّيّة حين الموت، و إمساكها باقية لا تفنى بفنائها، و الحكمة في توفّيها عن ظواهرها، و إرسالها حينا بعد حين إلى توفّي آجالها.

[سورة الزمر (39): الآيات 43 الى 44]

أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ شُفَعاءَ قُلْ أَ وَ لَوْ كانُوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً وَ لا يَعْقِلُونَ (43) قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ثُمَّ

إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (44)

أَمِ اتَّخَذُوا بل اتّخذت قريش. و الهمزة للإنكار. مِنْ دُونِ اللَّهِ من دون إذنه شُفَعاءَ تشفع لهم عند اللّه، حيث قالوا: هؤلاء شفعاؤنا عند اللّه قُلْ أَ وَ لَوْ كانُوا أي: أ يشفعون و لو كانوا لا يَمْلِكُونَ شَيْئاً قطّ حتّى ملكوا الشفاعة وَ لا يَعْقِلُونَ و لا عقل لهم، لأنّهم جمادات، فلا يقدرون و لا يعلمون.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 86

قُلْ لِلَّهِ الشَّفاعَةُ جَمِيعاً لا يستطيع أحد شفاعته إلّا بإذنه. ثمّ قرّر ذلك فقال: لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فإنّه مالك الملك كلّه، لا يملك أحد أن يتكلّم في أمره دون إذنه و رضاه ثُمَّ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يوم القيامة، و لا يكون الملك في ذلك اليوم إلّا له، فله ملك الدنيا و الآخرة.

[سورة الزمر (39): آية 45]

وَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ اشْمَأَزَّتْ قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ إِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ (45)

ثمّ أخبر سبحانه عن سوء اعتقادهم و شدّة عنادهم، فقال: وَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ أي: إذا أفرد اللّه بالذكر و لم يذكر معه آلهتهم، بأن قيل: لا إله إلّا اللّه وحده لا شريك له اشْمَأَزَّتْ انقبضت و نفرت قُلُوبُ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ وَ إِذا ذُكِرَ الَّذِينَ مِنْ دُونِهِ يعني: آلهتهم، سواء ذكر اللّه معهم أم لم يذكر إِذا هُمْ يَسْتَبْشِرُونَ لفرط افتتانهم بها، و نسيانهم حقّ اللّه إلى هواهم فيها. و لقد بالغ في الأمرين حتّى بلغ الغاية فيهما، فإنّ الاستبشار أن يمتلئ القلب سرورا حتّى تنبسط بشرة الوجه، و الاشمئزاز أن يمتلئ غمّا و غيظا يظهر الانقباض في أديم الوجه.

و العامل في «إذا ذكر» المفاجأة، تقديره: وقت ذكر الّذين من دونه فاجئوا وقت الاستبشار.

[سورة الزمر (39): آية 46]

قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ عالِمَ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (46)

و لمّا بيّن أدلّة التوحيد بالطريق المذكور فلم ينظروا فيها، أمر نبيّه أن يحاكمهم إليه ليفعل بهم ما يستحقّونه، فقال:

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 87

قُلِ اللَّهُمَّ فاطِرَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يا خالقهما و منشئهما عالِمَ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ يا عالم ما غاب علمه عن جميع الخلق، و عالم ما شهدوه و علموه.

يعني: ألتجئ إلى اللّه بالدعاء، فإنّه القادر على الأشياء، و العالم بالأحوال كلّها أَنْتَ تَحْكُمُ بَيْنَ عِبادِكَ فأنت وحدك تقدر أن تحكم بينهم يوم القيامة أو الدنيا فِي ما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ في أمر دينهم و دنياهم، و تفصل بينهم بالحقّ في الحقوق و المظالم، فاحكم بيني و بين

قومي بالحقّ. و فيه وصف لحالهم، و إعذار له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و تسلية له، و بشارة للمؤمنين بالظفر و النصر، و وعيد للمشركين، لأنّه سبحانه إنّما أمره صلّى اللّه عليه و آله و سلّم به للإجابة لا محالة.

و عن سعيد بن المسيّب أنّه قال: إنّي لأعرف موضع آية لم يقرأها أحد قطّ، فسأل اللّه تعالى شيئا إلّا أعطاه، و قرأ هذه الآية.

و عن الربيع بن خثيم- و كان قليل الكلام-: أنّه أخبر بقتل الحسين عليه السّلام- و سخط على قاتله- و قالوا: الآن يتكلّم، فما زاد على أن قال: آه أوقد فعلوا؟ و قرأ هذه الآية. و

روي: أنّه قال على أثره: قتل من كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يجلسه في حجره، و يضع فاه على فيه.

[سورة الزمر (39): الآيات 47 الى 48]

وَ لَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ لافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ بَدا لَهُمْ مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ (47) وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (48)

ثمّ أخبر سبحانه عن وقوع العذاب الأليم و العقاب العظيم بالكفّار، و عن إقناط كلّي لهم من الخلاص، فقال:

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 88

وَ لَوْ أَنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً وَ مِثْلَهُ مَعَهُ زيادة عليه لَافْتَدَوْا بِهِ مِنْ سُوءِ الْعَذابِ يَوْمَ الْقِيامَةِ و قد مضى تفسيره وَ بَدا لَهُمْ و ظهر لهم يوم القيامة من صنوف العذاب مِنَ اللَّهِ ما لَمْ يَكُونُوا يَحْتَسِبُونَ من الخلاص. و هذا وعيد لهم لا كنه لفظاعته و شدّته. و هو نظير قوله في الوعد: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ

أَعْيُنٍ «1».

و المعنى: و ظهر لهم من سخط اللّه و عذابه ما لم يكن قطّ في حسابهم، و لم يحدّثوا به نفوسهم.

و قيل: عملوا أعمالا حسبوها حسنات، فإذا هي سيّئات.

و عن سفيان الثوري: أنّه قرأها فقال: ويل لأهل الرياء، ويل لأهل الرياء.

و جزع محمّد بن المنكدر عند موته فقيل له: فقال: أخشى آية من كتاب اللّه، و تلاها، ثمّ قال: أنا أخشى أن يبدوا لي من اللّه في ذلك ما لم أحتسبه.

وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا «ما» موصولة، أي: جزاء سيّئات أعمالهم. أو مصدريّة، أي: سيّئات كسبهم حين تعرض صحائفهم، و كانت خافية عليهم، كقوله:

أَحْصاهُ اللَّهُ وَ نَسُوهُ «2». أو أراد بالسيّئات أنواع العذاب الّتي يجازون بها على ما كسبوا. فسمّاها سيّئات، كما قال: وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «3».

وَ حاقَ بِهِمْ و أحاط بهم ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ جزاء هزئهم بما ينذرهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ممّا كانوا ينكرونه و يكذّبون به.

[سورة الزمر (39): الآيات 49 الى 52]

فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ نِعْمَةً مِنَّا قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (49) قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (50) فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَ الَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ هؤُلاءِ سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا وَ ما هُمْ بِمُعْجِزِينَ (51) أَ وَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ (52)

______________________________

(1) السجدة: 17.

(2) المجادلة: 6.

(3) الشورى: 40.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 89

ثمّ أخبر عن مناقضتهم و تعكيسهم في التسبّب، بأنّهم يشمئزّون عن ذكر اللّه وحده، و يستبشرون بذكر الآلهة، مع أنّهم في حالة الضرّ كانوا يدعون

اللّه وحده و يذرون آلهتهم. فقال عطفا على قوله: «وَ إِذا ذُكِرَ اللَّهُ وَحْدَهُ»:

فَإِذا مَسَّ الْإِنْسانَ ضُرٌّ دَعانا أي: دعا من اشمأزّ عن ذكره دون من استبشر بذكره. و ما بين المعطوف و المعطوف عليه اعتراض مؤكّد لإنكار ذلك عليهم. و السبب في عطف هذه الآية بالفاء السببيّة، و عطف مثلها في أوّل السورة «1» بالواو: أنّ هذه وقعت تعكيسا في التسبّب.

ثُمَّ إِذا خَوَّلْناهُ أعطيناه نِعْمَةً من الصحّة و السعة في الرزق و غير ذلك، تخويلا صادرا مِنَّا تفضّلا، فإنّ التخويل مختصّ بالتفضّل، يقال:

خوّلني إذا أعطاك على غير جزاء قالَ إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ على علم منّي بوجوه كسبه، كما قال قارون: عَلى عِلْمٍ عِنْدِي «2» يعني: الكيمياء. أو على علم من اللّه بي و استحقاقي. و الهاء ل «ما» إن جعلت موصولة. و إن جعلت كافّة فللنعمة. و تذكيره ذهابا إلى المعنى، لأنّ معنى قوله: «نعمة منّا» شيئا

______________________________

(1) الزمر: 8.

(2) القصص: 78.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 90

من النعمة و قسما منها.

ثمّ ردّ ما قاله بقوله: بَلْ هِيَ فِتْنَةٌ أي: امتحان و اختبار له أ يشكر أم يكفر؟ لنجازي بحسبها. و تأنيث الضمير باعتبار لفظ النعمة أو الخبر. وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ذلك. و هو دليل على أنّ الإنسان للجنس.

قَدْ قالَهَا الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ الهاء لقوله: «إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ» لأنّها كلمة أو جملة أو مقالة. «وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ» قارون و قومه، حيث قال: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ عِنْدِي و رضي له قومه، فكأنّهم قالوها. و يجوز أن يكون في الأمم الخالية آخرون قائلون مثلها. فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ من متاع الدنيا و يجمعون منه.

فَأَصابَهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا جزاء سيّئات أعمالهم، أو

جزاء أعمالهم.

و سمّاه سيّئة لأنّه في مقابلة أعمالهم السيّئة، رمزا إلى أنّ جميع أعمالهم سيّئة.

وَ الَّذِينَ ظَلَمُوا بالعتوّ مِنْ هؤُلاءِ المشركين. و «من» للبيان أو للتبعيض.

سَيُصِيبُهُمْ سَيِّئاتُ ما كَسَبُوا كما أصاب أولئك. و قد أصابهم، فإنّهم قحطوا سبع سنين، و قتل ببدر صناديدهم. وَ ما هُمْ بِمُعْجِزِينَ بفائتين، بأن يعجزوا اللّه بالخروج من قدرته.

أَ وَ لَمْ يَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ حيث حبس عنهم الرزق سبعا، ثمّ بسط لهم سبعا، بحسب ما يعلم من المصلحة إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لدلالات واضحات لِقَوْمٍ يُؤْمِنُونَ بذلك.

[سورة الزمر (39): الآيات 53 الى 59]

قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (53) وَ أَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ وَ أَسْلِمُوا لَهُ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ (54) وَ اتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (55) أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ يا حَسْرَتى عَلى ما فَرَّطْتُ فِي جَنْبِ اللَّهِ وَ إِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ (56) أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ (57)

أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ (58) بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي فَكَذَّبْتَ بِها وَ اسْتَكْبَرْتَ وَ كُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ (59)

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 91

روي: أنّ أهل مكّة قالوا: يزعم محمّد أنّ من عبد الوثن و قتل النفس بغير حقّ لم يغفر له، فكيف نغفر و لم نهاجر، و قد عبدنا الأوثان و قتلنا الأنفس؟! فنزلت:

قُلْ يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ

أفرطوا في الجناية عليها بالإسراف في المعاصي و التوغّل فيها. و قد مرّ «1» من قبل في

هذه السورة- حيث فسّرنا قوله تعالى: «وَ لا يَرْضى لِعِبادِهِ الْكُفْرَ»- قول الفاضل النيشابوري في تعميم العباد و تخصيصه في هذه الآية، و نعيده هنا لتحقيق المقام. قال: «ثمّ إن قلنا: العباد عامّ فالإسراف على النفس يعمّ الشرك، و لا نزاع أنّ عدم اليأس من الرحمة يكون مشروطا بالتوبة و الإيمان. و إن قلنا: العباد المضاف في عرف القرآن مختصّ بالمؤمنين، فالإسراف إمّا بالصغائر، و لا خلاف في أنّها مكفّرة ما اجتنب الكبائر.

______________________________

(1) راجع ص 58 ذيل الآية (7) من هذه السورة.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 92

و إمّا بالكبائر و حينئذ يبقى النزاع بين الفريقين، فالمعتزلة شرطوا التوبة، و الأشاعرة العفو» «1».

لا تَقْنَطُوا مِنْ رَحْمَةِ اللَّهِ لا تيأسوا من مغفرته إِنَّ اللَّهَ يَغْفِرُ الذُّنُوبَ جَمِيعاً يعني: بشرط التوبة. و قد تكرّر ذكر هذا الشرط في القرآن، فكان ذكره فيما ذكر فيه ذكرا له فيما لم يذكر فيه، لأنّ القرآن في حكم كلام واحد، و لا يجوز فيه التناقض. فإن مات الموحّد الفاسق من غير توبة فهو في مشيئته، إن شاء عذّبه بعدله، و إن شاء غفر له بفضله، كما قال: وَ يَغْفِرُ ما دُونَ ذلِكَ لِمَنْ يَشاءُ «2». إِنَّهُ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ على المبالغة و إفادة الحصر.

و اعلم أنّ في الآية اثني عشر شيئا يدلّ كلّ واحد منها على الرجاء على مغفرة جميع الذنوب:

الأوّل: إضافة العباد إلى ذاته المستلزمة للرحمة و الشفقة.

و الثاني: إيثار «أسرفوا» على: عصوا، فإنّ ذكر العصيان مشعر على القهر.

و الثالث: إيثاره على: أخطأوا، فإنّ «أسرفوا» مشتمل على رفق العتاب دون الإخطاء.

و الرابع: النهي عن القنوط من رحمته المستلزم لتحريم اليأس من المغفرة.

الخامس: تعليله بأنّ اللّه يغفر الذنوب.

السادس: وضع اسم اللّه موضع الضمير،

ليكون إسناد المغفرة إلى صريح اسمه.

السابع: استيعاب المغفرة بجميع الذنوب، بإيراد صيغة الجمع المحلّى باللام، لا ببعض غير بعض.

______________________________

(1) غرائب القرآن 6: 10.

(2) النساء: 48.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 93

الثامن: تأكيده بلفظ «جميعا».

التاسع: إيراد كلمة «إنّ» المفيدة للتأكيد.

العاشر: إيراد ضمير الفصل بين الاسم و الخبر الّذي يفيد الحصر.

الحادي عشر: تقديم المغفرة على الرحمة، لشدة عنايته بها.

الثاني عشر: ختم الآية بالرحمة دون بواقي الصفات.

روي عن ثوبان مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «ما أحبّ أنّ لي الدنيا و ما فيها بهذه الآية. فقال رجل يا رسول اللّه: و من أشرك؟ فسكت ساعة، ثمّ قال: ألا و من أشرك، ثلاث مرّات».

و على هذا يكون مخصوصا بشرط الإيمان.

و

عن أمير المؤمنين عليه السّلام قال: «ما في القرآن آية أوسع رحمة من «يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا» الآية».

قيل: إنّ الآية نزلت في وحشي قاتل حمزة حين أراد أن يسلم، و خاف أن لا تقبل توبته. فلمّا نزلت الآية أسلم. فقيل: يا رسول اللّه هذه له خاصّة أو للمسلمين عامّة؟ فقال: «بل للمسلمين عامّة».

و في سبب نزولها دلالة على أنّ المغفرة مشروطة بالتوبة. و كذا يدلّ عليها أنّه سبحانه دعا عباده إلى التوبة بعد هذه الآية، و أمرهم بالإنابة، فقال: وَ أَنِيبُوا إِلى رَبِّكُمْ و ارجعوا إليه من الشرك و المعاصي وَ أَسْلِمُوا لَهُ و انقادوا له بالطاعة، و أخلصوا له العمل مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ ثُمَّ لا تُنْصَرُونَ عند نزول العذاب بكم. فذكر الإنابة على أثر المغفرة، لئلّا يطمع طامع في حصولها بغير توبة، و يرتكب المعصية اتّكاء على ظاهر الآية المتقدّمة.

وَ اتَّبِعُوا أَحْسَنَ ما أُنْزِلَ إِلَيْكُمْ مِنْ رَبِّكُمْ من الحلال و الحرام، و الأمر

و النهي، و الوعد و الوعيد. فمن أتى بالمأمور به، و ترك المنهيّ عنه، فقد اتّبع أحسن ما أنزل.

أو اتّبعوا الواجبات و المندوبات الّتي هي الطاعات دون المباحات. و قيل: المراد

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 94

العزائم دون الرخص، أو الناسخ دون المنسوخ. و هذا مثل قوله: الَّذِينَ يَسْتَمِعُونَ الْقَوْلَ فَيَتَّبِعُونَ أَحْسَنَهُ «1». مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَكُمُ الْعَذابُ بَغْتَةً فجأة وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ بمجيئه، أي: لا تعرفون وقت نزوله بكم فتتداركوا.

أَنْ تَقُولَ نَفْسٌ كراهة أن تقول. و تنكير «نفس» لأنّ القائل بعض الأنفس، و هي نفس الكافر. و يجوز أن يراد نفس متميّزة من الأنفس، إمّا بفرط لجاج في الكفر و شدّة عناد في الطغيان، أو بعذاب عظيم و عقاب أليم. أو يراد به التكثير. يا حَسْرَتى يا ندامتي عَلى ما فَرَّطْتُ بما قصّرت. و «ما» مصدريّة، مثلها في بِما رَحُبَتْ «2». و المعنى: على تقصيري. فِي جَنْبِ اللَّهِ في جانبه، أي: في حقّه، و هو طاعته. و قيل: في ذاته، على تقدير مضاف كالطاعة. و قيل: في قربه و جواره، و هو الجنّة. يقال: فلان في جنب فلان، أي: في قربه و جواره. و منه قوله تعالى: وَ الصَّاحِبِ بِالْجَنْبِ «3». فيكون المعنى: على ما فرّطت في طلب جواره و قربه.

و

روى العيّاشي: بالإسناد عن أبي الجارود، عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: «نحن جنب اللّه».

وَ إِنْ كُنْتُ لَمِنَ السَّاخِرِينَ و إنّي كنت لمن المستهزئين بالقرآن و النبيّ و المؤمنين. و محلّ «إن كنت» نصب على الحال، كأنّه قال: فرّطت و أنا ساخر، أي:

فرّطت في حال سخريّتي.

و روي: أنّه كان في بني إسرائيل عالم ترك علمه و فسق، و أتاه إبليس و قال له: تمتّع

من الدنيا ثمّ تب، فأطاعه، و كان له مال فأنفقه في الفجور، فأتاه ملك

______________________________

(1) الزمر: 18.

(2) التوبة: 25.

(3) النساء: 36.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 95

الموت في ألّذ ما كان، فقال: يا حسرتى على ما فرّطت في جنب اللّه، ذهب عمري في طاعة الشيطان، و أسخطت ربّي، فندم حين لم ينفعه الندم، فأنزل اللّه خبره في القرآن.

أَوْ تَقُولَ لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي بالإرشاد إلى الحقّ لَكُنْتُ مِنَ الْمُتَّقِينَ من الشرك و المعاصي. و لا يخلو: إمّا أن يريد به الهداية بالإلجاء، أو بالألطاف، أو بالوحي. و الأوّل خارج عن المصلحة و الحكمة، لمنافاته التكليف الّذي هو مدار الشرع عليه. و الآخران قد حصلا لكنّه لم ينظر إليه و أعرض عنه، لأجل اشتغاله بالدنيا و الأباطيل.

أَوْ تَقُولَ حِينَ تَرَى الْعَذابَ لَوْ أَنَّ لِي كَرَّةً فَأَكُونَ مِنَ الْمُحْسِنِينَ في العقيدة و العمل. و «أو» للدلالة على أنّه لا يخلو من هذه الأقوال تحيّرا و تعلّلا بما لا طائل تحته، كما حكى عنهم الثعلّل بإغواء الرؤساء و الشياطين و نحو ذلك. و نحوه: لَوْ هَدانَا اللَّهُ لَهَدَيْناكُمْ «1».

فردّ اللّه عليه قوله: «لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي» المتضمّن معنى النفي، فقال: بَلى قَدْ جاءَتْكَ آياتِي أي: قد هديت بالوحي فَكَذَّبْتَ بِها وَ اسْتَكْبَرْتَ عن قبولها وَ كُنْتَ مِنَ الْكافِرِينَ و آثرت الكفر على الإيمان، و الضلالة على الهدى.

و تذكير الخطاب على المعنى. فهذه الآية جواب قوله: «لَوْ أَنَّ اللَّهَ هَدانِي»، و حقّها أن تذكر متّصلة به، لكن فصل بينهما، لأنّ تقديمه يفرّق القرائن الثلاث، و تأخير المردّد يخلّ بالنظم المطابق للواقع، لأنّه يتحسّر على التفريط في الطاعة، ثمّ يتعلّل بفقد الهداية، ثمّ يتمنّى الرجعة. فكان الصواب ما جاء عليه. و هو

أنّه حكى أقوال النفس على ترتيبها و نظمها، ثمّ أجاب من بينها عمّا اقتضى الجواب.

______________________________

(1) إبراهيم: 21.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 96

[سورة الزمر (39): آية 60]

وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً لِلْمُتَكَبِّرِينَ (60)

وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ بأن وصفوه بما لا يجوز عليه، و هو متعال عنه. فأضافوا إليه الولد و الشريك، و قالوا: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا «1».

و قالوا: لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ «2». و قالوا: وَ اللَّهُ أَمَرَنا بِها «3». و لا يبعد عنهم قوم ينسبون القبائح إليه، و يجوّزون أن يخلق خلقا لا لغرض، و يؤلم لا لعوض، و يكلّف ما لا يطاق، و يجسّمونه بكونه مرئيّا معاينا مدركا بالحاسّة، و يثبتون له قدما و يدا و جنبا، و يجعلون معاني قدماء، تعالى اللّه عمّا يقول الظالمون علوّا كبيرا.

وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ بما ينالهم من الشدّة، أو بما يتخيّل عليها من ظلمة الجهل. و الجملة حال، إذ الظاهر أن «ترى» من رؤية البصر. و اكتفى فيها بالضمير عن الواو. و يحتمل أن يكون من رؤية القلب. فهو مفعول ثان ل «ترى».

أَ لَيْسَ فِي جَهَنَّمَ مَثْوىً مقام لِلْمُتَكَبِّرِينَ عن الإيمان و الطاعة.

و الاستفهام تقرير، لأنّهم يرون كذلك.

و

روى العيّاشي بإسناده عن خثيمة قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول: من حدّث عنّا بحديث فنحن سائلوه عنه يوما، فإن صدق علينا فإنّما يصدق على اللّه و على رسوله، و إن كذب علينا فإنّما يكذب على اللّه و على رسوله، لأنّا إذا حدّثنا لا

______________________________

(1) يونس: 18.

(2) الزخرف: 20.

(3) الأعراف: 28. زبدة التفاسير، ج 6، ص: 97

نقول: قال فلان و قال فلان، بل إنّما نقول: قال اللّه و قال رسول اللّه. ثمّ

تلا هذه الآية: «وَ يَوْمَ الْقِيامَةِ تَرَى الَّذِينَ كَذَبُوا عَلَى اللَّهِ وُجُوهُهُمْ مُسْوَدَّةٌ». ثمّ أشار خثيمة إلى أذنيه، فقال: صمّتا إن لم أكن سمعته».

و

عن سورة بن كليب قال: سألت أبا جعفر عليه السّلام عن هذه الآية فقال: «كلّ إمام انتحل إمامة ليست له من اللّه. قلت: و إن كان علويّا؟ قال: و إن كان علويّا. قلت:

و إن كان فاطميّا؟ قال: و إن كان فاطميّا».

[سورة الزمر (39): آية 61]

وَ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا بِمَفازَتِهِمْ لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (61)

و لمّا أخبر سبحانه عن حال الكفّار، عقّبه بذكر حال الأتقياء الأبرار، فقال:

وَ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا معاصيه بِمَفازَتِهِمْ بسبب فلاحهم. مفعلة من الفوز. يقال: فاز بكذا، إذا أفلح به و ظفر بمراده منه. أو بسبب منجاتهم، من قوله تعالى: فَلا تَحْسَبَنَّهُمْ بِمَفازَةٍ مِنَ الْعَذابِ «1»، أي: بمنجاة منه. و قرأ الكوفيّون غير حفص بالجمع، تطبيقا له بالمضاف إليه. و الباء صلة ل «ينجّي»، أو لقوله: لا يَمَسُّهُمُ السُّوءُ المكروه و الشدّة وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ و هو حال، أو استئناف لبيان المفازة.

كأنّه قيل: و ما مفازتهم؟ فقيل: لا يمسّهم السوء، أي: ينجّيهم بنفي السوء و الحزن عنهم، و النجاة من أعظم الفلاح. و سبب نجاتهم العمل الصالح. و لهذا فسّر ابن عبّاس المفازة بالأعمال الحسنة، من قبيل تسمية المسبّب باسم السبب. و لا شبهة أنّ العمل الصالح سبب الفلاح، و هو دخول الجنّة.

______________________________

(1) آل عمران: 188.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 98

[سورة الزمر (39): الآيات 62 الى 63]

اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ (62) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (63)

و لمّا ذكر الوعد و الوعيد بيّن أنّه القادر على كلّ شي ء بقوله: اللَّهُ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ محدث كلّ شي ء و مبدعه وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ وَكِيلٌ مدبّر حافظ يتولّى التصرّف فيه.

لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا يملك أمرها و لا يتمكّن من التصرّف فيها غيره. و هو كناية عن قدرته و حفظه لهما. و فيها مزيد دلالة على الاختصاص، لأنّ الخزائن لا يدخلها و لا يتصرّف فيها إلّا من بيده مفاتيحها.

و لا واحد لها من

لفظها. و قيل: جمع مقليد أو مقلاد، من: قلدته إذا ألزمته.

و قيل: جمع إقليد معرّب اكليد على الشذوذ، كمذاكير. فالتعريب أحالها عربيّة.

و

سئل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن المقاليد فقال: «تفسيرها: لا إله إلّا اللّه، و اللّه أكبر، و سبحان اللّه و بحمده، و أستغفر اللّه، و لا حول و لا قوّة إلّا باللّه، هو الأوّل و الآخر، و الظاهر و الباطن، بيده الخير، يحيي و يميت، و هو على كلّ شي ء قدير».

و المعنى على هذا: أنّ للّه هذه الكلمات، يوحّد بها و يمجّد، و هي مفاتيح خير السماوات و الأرض، من تكلّم بها أصابه.

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ متّصل بقوله: «وَ يُنَجِّي اللَّهُ الَّذِينَ اتَّقَوْا». و المعنى: و ينجّي اللّه المتّقين بمفازتهم، و الّذين كفروا هم الخاسرون. و ما بينهما اعتراض للدلالة على أنّه هو خالق الأشياء كلّها، و مهيمن على العباد، مطّلع على أفعالهم، فلا يخفى عليه شي ء من أعمالهم، و ما

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 99

يستحقّون عليها من الجزاء.

و حقّ النظم أن يقال: و يحشر الّذين كفروا إلى النار. لكن غيّر للتصريح بالوعد و التعريض بالوعيد، قضيّة للكرم.

و على التفسير الثاني متّصل بقوله: «لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ». على معنى: أنّ من له المقاليد يليق بأن يؤمن به و بآياته، لينال خير الدارين. فمن كفر به يكون خاسرا، لأنّهم يخسرون على أنفسهم الجنّة و نعيمها، و يصلون النار و سعيرها.

و على هذا التفسير: المراد بآيات اللّه كلمات توحيده و تمجيده. و تخصيص الخسار بهم، لأنّ غيرهم ذو حظّ من الثواب و الرحمة.

[سورة الزمر (39): الآيات 64 الى 66]

قُلْ أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ (64) وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى

الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ (65) بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ (66)

قُلْ أَ فَغَيْرَ اللَّهِ تَأْمُرُونِّي أَعْبُدُ أَيُّهَا الْجاهِلُونَ منصوب ب «أعبد» أي: أ فغير اللّه أعبد بعد هذه الدلائل و المواعيد؟ و قوله: «تأمرونّي» اعتراض. و معناه: أ فغير اللّه أعبد بأمركم؟ و ذلك حين قال له المشركون عقيب ذلك: استلم بعض آلهتنا و نؤمن بإلهك، لفرط غباوتهم. و يجوز أن ينتصب بما دلّ عليه «تأمرونّي أعبد» لأنّه بمعنى:

تعبدونني و تقولون لي اعبد. على أنّ أصله: تأمرونني أن أعبد، فحذف «أن» و رفع الفعل، كقوله: ألا أيّهذا الزاجري أحضر الوغى «1».

و قرأ ابن عامر: تأمرونني، بإظهار النونين على الأصل. و نافع بحذف الثانية، فإنّها تحذف كثيرا.

______________________________

(1) لطرفة بن العبد. و عجزه: و أن أشهد اللذّات هل أنت مخلّدي

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 100

ثمّ قال لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قطعا لطمع الكفّار فيما قالوا له: وَ لَقَدْ أُوحِيَ إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ من الرسل لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ وَ لَتَكُونَنَّ مِنَ الْخاسِرِينَ كلام على سبيل فرض المحال، و الأمر المحال يصحّ فرضه لغرض من الأغراض.

ألا ترى إلى قوله: وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً «1». يعني: على سبيل الإلجاء، و لن يكون ذلك لامتناع الداعي إليه، و وجود الصارف عنه. و الغرض هاهنا من هذا الفرض تهييج الرسل، و إقناط المرسلين عنهم، و إشعار على تهديد الأمّة على الإشراك. و إفراد الخطاب باعتبار كلّ واحد. و اللام الأولى موطّئة للقسم المحذوف، و الثانية للجواب. و هذا الجواب سادّ مسدّ الجوابين، أعني: جوابي القسم و الشرط.

و إطلاق الإحباط

يحتمل أن يكون من خصائصهم، لأنّ شركهم أقبح. ألا ترى إلى قوله: إِذاً لَأَذَقْناكَ ضِعْفَ الْحَياةِ وَ ضِعْفَ الْمَماتِ «2». و أن يكون على التقييد بالموت، كما صرّح به في قوله: وَ مَنْ يَرْتَدِدْ مِنْكُمْ عَنْ دِينِهِ فَيَمُتْ وَ هُوَ كافِرٌ فَأُولئِكَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ «3». و ليس فيه ما يدلّ على صحّة القول بالإحباط على ما يذهب إليه أهل الوعيد، لأنّ المعنى فيه: أنّ من أشرك في عبادة اللّه غيره- من الأصنام و غيرها- وقعت عبادته على وجه لا يستحقّ عليها الثواب به. و لأجل ذلك وصفها بأنّها محبطة، إذ لو كانت العبادة خالصة لوجه اللّه لاستحقّ عليها الثواب.

و عطف الخسران عليه من عطف المسبّب على السبب.

ثمّ ردّ ما أمروه به من استلام بعض آلهتهم بقوله: بَلِ اللَّهَ فَاعْبُدْ كأنّه قال:

لا تعبد ما أمروك بعبادته، بل إن كنت عاقلا فاعبد اللّه. فحذف الشرط، و جعل

______________________________

(1) يونس: 99.

(2) الإسراء: 75.

(3) البقرة: 217.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 101

تقديم المفعول عوضا منه. وَ كُنْ مِنَ الشَّاكِرِينَ إنعامه عليك. و فيه إشارة إلى موجب اختصاص العبادة له.

[سورة الزمر (39): آية 67]

وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ (67)

و لمّا كان العظيم من الأشياء إذا عرفه الإنسان حقّ معرفته، و قدّره في نفسه حقّ تقديره، عظّمه حقّ تعظيمه، قيل: وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ أي:

ما قدروا عظمته في أنفسهم حقّ عظمته، حيث جعلوا له شركاء، و وصفوه بما لا يليق به.

ثمّ قال: وَ الْأَرْضُ جَمِيعاً قَبْضَتُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ وَ السَّماواتُ مَطْوِيَّاتٌ بِيَمِينِهِ تنبيها على عظمته، و حقارة الأفعال العظام الّتي تتحيّر فيها الأوهام بالإضافة إلى قدرته، و دلالة

على أنّ تخريب العالم أهون شي ء عليه، على طريقة التمثيل و التخييل، من غير اعتبار القبضة و اليمين حقيقة و لا مجازا.

و القبضة المرّة من القبض، كقوله: فَقَبَضْتُ قَبْضَةً مِنْ أَثَرِ الرَّسُولِ «1».

أطلقت بمعنى القبضة، و هي المقدار المقبوض بالكفّ، تسمية بالمصدر، أو بتقدير:

ذات قبضة.

و تأكيد الأرض بالجميع لأنّ المراد بها الأرضون السبع، أو جميع أبعاضها البادية «2» و الغائرة.

و الطيّ: ضدّ النشر، كما قال تعالى:

______________________________

(1) طه: 96.

(2) البادية: الصحراء. و الغائرة: ما انحدر و اطمأن من الأرض.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 102

يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ كَطَيِّ السِّجِلِّ لِلْكُتُبِ «1».

و ذكر اليمين مبالغة في الاقتدار، لأنّ معظم القدرة يصدر منه. و هذا كما قال:

أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُكُمْ «2» أي: ما كانت تحت قدرتكم. و ليس على معناه الحقيقي، إذ ليس الملك يختصّ باليمين دون الشمال و سائر الجسد.

و كذلك حكم ما

يروي: «أنّ حبرا من الأحبار جاء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال:

يا أبا القاسم إنّ اللّه تعالى يمسك السماوات يوم القيامة على أصبع، و الأرضين على أصبع، و الجبال على أصبع، و الشجر على أصبع، و سائر الخلق على أصبع. ثمّ يهزّهنّ فيقول: أنا الملك، أين المتكبّرون و الجبّارون؟ فضحك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تعجّبا ممّا قال، ثمّ قرأ تصديقا له: وَ ما قَدَرُوا اللَّهَ حَقَّ قَدْرِهِ «3».

و إنّما ضحك أفصح العرب و تعجّب، لأنّه لم يفهم منه إلّا ما يفهمه علماء البيان، من غير تصوّر إمساك و لا أصبع و لا هزّ و لا شي ء من ذلك، و لكن فهمه وقع أوّل شي ء و آخره على الزبدة و الخلاصة الّتي هي الدلالة على القدرة الباهرة، و

أنّ الأفعال العظام الّتي تتحيّر فيها الأذهان و لا تكتنهها الأوهام، هيّنة عليه هوانا لا يوصل السامع إلى الوقوف عليه، إلّا إجراء العبارة في مثل هذه الطريقة من التخييل.

و لا ترى بابا في علم البيان أدقّ و لا ألطف من هذا الباب، و لا أنفع و أعون على تعاطي تأويل المشتبهات، من كلام اللّه تعالى في القرآن و سائر الكتب السماويّة و كلام الأنبياء.

سُبْحانَهُ وَ تَعالى عَمَّا يُشْرِكُونَ ما أبعد من هذه قدرته و عظمته، و ما أعلاه عن إشراكهم. أو عمّا يضاف إليه من الشركاء.

______________________________

(1) الأنبياء: 104.

(2) النساء: 3.

(3) انظر صحيح البخاري 6: 157.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 103

[سورة الزمر (39): الآيات 68 الى 70]

وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلاَّ مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ (68) وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها وَ وُضِعَ الْكِتابُ وَ جِي ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَداءِ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (69) وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ (70)

وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ يعني: المرّة الأولى. و هو قرن ينفخ فيه إسرافيل. و وجه الحكمة في ذلك أنّها علامة جعلها اللّه تعالى ليعلم بها العقلاء آخر أمرهم في دار التكليف، فشبّه ذلك بما يتعارفوه من بوق الرحيل و النزول.

فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ خرّوا ميّتا، أو مغشيّا عليهم من شدّة تلك الصيحة. يقال: صعق فلان إذا مات بحال هائلة شبيهة بالصيحة العظيمة.

إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ قيل: جبرئيل و ميكائيل و إسرافيل و عزرائيل، فإنّهم لا يموتون بهذه الصيحة بعد. و قيل: حملة العرش.

و

عن ابن عبّاس عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و

سلّم: «أنّه سأل جبرئيل عن هذه الآية من الّذي لم يشأ اللّه أن يصعقهم؟ قال: هم الشهداء متقلّدون أسيافهم حول العرش».

ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى نفخة اخرى. و هي تدلّ على أنّ المراد بالأولى نفخة واحدة، كما نصّ به في مواضع «1» أخر. و قال قتادة: إنّ ما بين النفختين أربعين سنة.

فَإِذا هُمْ قِيامٌ قائمون من قبورهم. أو متوقّفون في مكانهم لتحيّرهم يَنْظُرُونَ حال من ضمير «قيام». و المعنى: يقلّبون أبصارهم في الجوانب كالمبهوتين، أو ينتظرون ما يفعل بهم. و في ذكر «إذا» المفاجأة إخبار عن سرعة إيجادهم. يعني: إذا

______________________________

(1) الحاقّة: 13.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 104

نفخ النفخة الثانية أعادهم اللّه تعالى عقيب ذلك دفعة يقومون من قبورهم أحياء.

وَ أَشْرَقَتِ الْأَرْضُ بِنُورِ رَبِّها بما أقام فيها من العدل. سمّاه نورا، لأنّه يزيّن البقاع و يظهر الحقوق، كما سمّى الظلم ظلمة. و ترى الناس يقولون للملك العادل:

أشرقت الآفاق بعدلك، و أضاءت الدنيا بقسطك، كما يقولون: أظلمت البلاد بجور فلان. و

في الحديث: «الظلم ظلمات يوم القيامة».

و أضاف اسمه إلى الأرض، لأنّه يزيّنها حيث ينشر فيها عدله، و ينصب فيها موازين قسطه، و يحكم بالحقّ بين أهلها. و لعمري إنّك لا ترى أزين للبقاع من العدل، و لا أعمر لها منه. أو المراد نور خلق فيها بلا توسّط أجسام مضيئة، و لذلك أضافه إلى نفسه.

وَ وُضِعَ الْكِتابُ للحساب و الجزاء. من: وضع المحاسب كتاب المحاسبة بين يديه. أو صحائف الأعمال الّتي كتبتها الملائكة على بني آدم توضع في أيديهم ليقرأوا منها أعمالهم. و اكتفي باسم الجنس عن الجمع. و قيل: اللوح المحفوظ يقابل به الصحائف.

وَ جِي ءَ بِالنَّبِيِّينَ وَ الشُّهَداءِ للأمم و عليهم، من الملائكة و الأوصياء و خيار المؤمنين. و

قيل: المستشهدون في سبيل اللّه، فإنّهم عدول الآخرة، يشهدون على الأمم بما شاهدوا. وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بين العباد بِالْحَقِ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ بنقص ثواب أو زيادة عقاب، على ما جرى به الوعد.

وَ وُفِّيَتْ كُلُّ نَفْسٍ ما عَمِلَتْ أي: جزاء ما عملت، على حذف المضاف وَ هُوَ أَعْلَمُ بِما يَفْعَلُونَ فلا يفوته شي ء من أفعالهم.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 105

[سورة الزمر (39): الآيات 71 الى 75]

وَ سِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا إِلى جَهَنَّمَ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها فُتِحَتْ أَبْوابُها وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا قالُوا بَلى وَ لكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ (71) قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (72) وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ زُمَراً حَتَّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها سَلامٌ عَلَيْكُمْ طِبْتُمْ فَادْخُلُوها خالِدِينَ (73) وَ قالُوا الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ (74) وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ حَافِّينَ مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ بِالْحَقِّ وَ قِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (75)

ثمّ فصّل التوفية بقوله: وَ سِيقَ الَّذِينَ كَفَرُوا و يساقون سوقا في عنف و هوان إِلى جَهَنَّمَ كما يفعل بالأسارى إذا سيقوا إلى حبس أو قتل زُمَراً أفواجا متفرّقة بعضها في أثر بعض، على تفاوت أقدامهم في الضلالة و الشرارة.

و هي جمع زمرة. و اشتقاقها من الزّمر، و هو الصوت، إذ الجماعة لا تخلو عنه. أو من قولهم: شاة زمرة: قليلة الشعر، و رجل زمر: قليل المروءة، فإنّ كلّ زمر قليل بالنسبة إلى كلّ الزمر.

حَتَّى إِذا جاؤُها انتهوا إلى جهنّم فُتِحَتْ أَبْوابُها ليدخلوها.

و هي سبعة أبواب، لقوله: لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ «1» الآية. و «حتّى» هي الّتي تحكي بعدها

______________________________

(1) الحجر: 44.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 106

الجمل. و الجملة المحكيّة بعدها هي الشرطيّة. و قرأ الكوفيّون: فتحت بتخفيف التاء.

وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها تقريعا و توبيخا أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ من جنسكم يَتْلُونَ عَلَيْكُمْ آياتِ رَبِّكُمْ حججه و ما يدلّ على معرفته وَ يُنْذِرُونَكُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا أي: لقاء وقتكم هذا. و هو وقت دخولهم النار، لا يوم القيامة. و قد جاء استعمال اليوم و الأيّام مستفيضا في أوقات الشدّة.

قالُوا بَلى أتونا و تلوا علينا وَ لكِنْ حَقَّتْ كَلِمَةُ الْعَذابِ عَلَى الْكافِرِينَ أي:

كلمة اللّه بالعذاب علينا. و هي قوله: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ أَجْمَعِينَ «1» لسوء أعمالنا، كما قالوا: غَلَبَتْ عَلَيْنا شِقْوَتُنا وَ كُنَّا قَوْماً ضالِّينَ «2». فذكروا عملهم الموجب لكلمة العذاب، و هو الكفر و الضلال. و المعنى: وجب العقاب على من كفر باللّه، لأنّه أخبر بذلك، و علم من يكفر و يوافي بكفره، فقطع على عقابه، فلم يكن شي ء يقع منه خلاف ما علمه و أخبر به، فصار كوننا في جهنّم موافقا لما أخبره به تعالى و لما علمه. و وضع الظاهر فيه موضع الضمير، للدلالة على اختصاص تلك الكلمة بالكفرة.

قِيلَ ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أبهم القائل لتهويل ما يقال لهم فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ اللام فيه للجنس. و المخصوص بالذمّ مخصوص سبق ذكره، و هو جهنّم. و لا ينافي إشعاره بأنّ مثواهم في النار لتكبّرهم عن الحقّ أن يكون دخولهم فيها، لأنّ كلمة العذاب حقّت عليهم، فإنّ تكبّرهم و سائر مقابحهم مسبّبة عنه.

وَ سِيقَ الَّذِينَ اتَّقَوْا رَبَّهُمْ إِلَى الْجَنَّةِ يساقون إسراعا بهم إلى دار الكرامة

______________________________

(1)

هود: 119.

(2) المؤمنون: 106.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 107

و الرضوان، كما يفعل بمن يشرّف و يكرّم من الوافدين على بعض الملوك، فشتّان بين سوقهم و سوق أهل النار. و قيل: سيق مراكبهم، إذ لا يذهب بهم إلّا راكبين.

و يجوز أن يكون ذكر السوق هاهنا على وجه الزواج و المقابلة لسوق الكافرين إلى النار. زُمَراً على تفاوت مراتبهم في الشرف و علوّ الطبقة.

حَتَّى إِذا جاؤُها وَ فُتِحَتْ أَبْوابُها و هي ثمانية، كما

نقل عن سهل بن سعد الساعدي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «إنّ في الجنّة ثمانية أبواب، منها باب يسمّى باب الريّان، لا يدخله إلّا الصائمون». رواه البخاري و مسلم في الصحيحين «1».

و حذف جواب «إذا» للدلالة على أنّ لهم حينئذ من الكرامة و التعظيم ما لا يحيط به الوصف. و لم يحذف الواو لتكون «فتحت» جزاء الشرط، للدلالة على أنّ أبواب الجنّة تفتح لهم قبل مجيئهم غير منتظرين. و قرأ الكوفيّون: فتحت بالتخفيف.

وَ قالَ لَهُمْ خَزَنَتُها عند استقبالهم سَلامٌ عَلَيْكُمْ سلمتم من الآفات، إذ لا يعتريكم بعد مكروه طِبْتُمْ طابت أنفسكم بدخول الجنّة. أو طبتم بالعمل الصالح في الدنيا، و طابت أعمالكم الصالحة و زكت. أو طهرتم من دنس المعاصي.

و

روي: أنّهم إذا قربوا من الجنّة يردون على عين من الماء فيغتسلون بها، و يشربون منها، فيطهّر اللّه أجوافهم، فلا يكون بعد ذلك منهم حدث و أذى، و لا تتغيّر ألوانهم، فيقول الملائكة لهم: طبتم.

فَادْخُلُوها خالِدِينَ مقدّرين الخلود فيها. و الفاء للدلالة على أنّ الطهارة عن المعصية سبب لدخولهم و خلودهم. فما هي إلّا دار الطيّبين و مثوى الطاهرين، لأنّها دار طهّرها اللّه من كلّ دنس، و طيّبها من كلّ قذر،

فلا يدخلها إلّا مناسب لها، موصوف بصفتها. فما أبعد أحوالنا من تلك المناسبة، و ما أضعف سعينا في اكتساب تلك الصفة، إلّا أن يهب لنا الوهّاب الكريم، و يوفّقنا الغفّار الرحيم، توبة نصوحا

______________________________

(1) صحيح البخاري 4: 145، صحيح مسلم 2: 808 ح 166.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 108

تنقّي «1» أنفسنا من درن الذنوب، و تميط و ضر هذه القلوب. و حينئذ لا يمنع دخول العاصي بعفوه المطهّر للذنوب المكفّر للمعاصي.

وَ قالُوا إذا دخلوها اعترافا بنعم اللّه تعالى عليهم الْحَمْدُ لِلَّهِ الَّذِي صَدَقَنا وَعْدَهُ على ألسنة الرسل بالبعث و الثواب وَ أَوْرَثَنَا الْأَرْضَ يريدون المكان الّذي استقرّوا فيه على الاستعارة، فإنّ إيراثها هاهنا بمعنى تمليكها. يعني: يمكّننا من التصرّف فيها تمكين الوارث فيما يرثه. و قيل: ذكر الإيراث لأنّهم ورثوها عن أهل النار. نَتَبَوَّأُ مِنَ الْجَنَّةِ حَيْثُ نَشاءُ أي: يتبوّأ كلّ منّا في أيّ مقام أراده من جنّته الواسعة. و

في الحديث: أقلّ منازل المؤمن فيها على سعة الدنيا سبع مرّات.

فَنِعْمَ أَجْرُ الْعامِلِينَ الجنّة.

وَ تَرَى الْمَلائِكَةَ أي: و من عجائب أمور الآخرة أنّك ترى الملائكة حَافِّينَ محدقين مِنْ حَوْلِ الْعَرْشِ «من» لابتداء الحفوف. و قيل: مزيدة، أي:

حوله. يُسَبِّحُونَ ينزّهون اللّه عمّا لا يليق به بِحَمْدِ رَبِّهِمْ ملتبسين بحمده.

و الجملة حال ثانية، أو مقيّدة للأولى.

و المعنى: ذاكرين له بوصفي جلاله و إكرامه، متلذّذين به لا متعبّدين. و فيه إشعار بأنّ منتهى درجات العلّيين، و أعلى لذائذهم، هو الاستغراق في صفات الحقّ. و قد عظّم اللّه سبحانه أمر القضاء في الآخرة بنصب العرش، و قيام الملائكة حوله معظّمين له سبحانه و مسبّحين، كما أنّ السلطان إذا أراد الجلوس للمظالم يفعل كذلك تعظيما لأمره، و إن استحال كونه عزّ و علا

على العرش، و الجلوس على العرش من صفات الأجسام، تعالى اللّه عن ذلك.

وَ قُضِيَ بَيْنَهُمْ فصل بين الخلق بإدخال بعضهم النار و بعضهم الجنّة. أو بين الملائكة بإقامتهم في منازلهم على حسب تفاضلهم في أعمالهم، فإنّ الملائكة

______________________________

(1) أي: تنظّف. و الدرن: الوسخ. و تميط أي: تذهب. و الوضر: الوسخ.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 109

و إن كانوا معصومين جميعا، لكن يفاضل بين مراتبهم على حسب مراتبهم في عبادتهم. بِالْحَقِ قضاء بالحقّ و العدل وَ قِيلَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ أي: على ما قضي بيننا بالحقّ. و القائلون هم المؤمنون من المقضيّ بينهم، أي: المؤمنون قالوا: الحمد للّه على قضائه بيننا، و إنزال كلّ منّا منزلته الّتي هي حقّه. أو القائلون الملائكة. و طيّ ذكرهم لتعيّنهم و تعظيمهم.

و قيل: إنّه من كلام اللّه تعالى. فقال في ابتداء الخلق: الحمد للّه الّذي خلق السماوات و الأرض. و قال بعد إفناء الخلق و بعثهم، و استقرار أهل الجنّة في الجنّة:

الحمد للّه ربّ العالمين. فوجب الأخذ بأدبه في ابتداء كلّ أمر بالحمد و ختمه بالحمد.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 111

(40) سورة المؤمن

اشارة

مكّيّة. و هي خمس و ثمانون آية.

روى أبو بريرة الأسلمي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من أحبّ أن يرتع في رياض الجنّة، فليقرأ الحواميم في صلاة الليل».

أنس بن مالك عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «الحواميم ديباج القرآن».

ابن عبّاس قال: لكلّ شي ء لباب، و لباب القرآن الحواميم.

ابن مسعود قال: إذا وقعت في «آل حم» وقعت في روضات دمثات «1»، أتأنّق فيهنّ.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأ سورة حم المؤمن، لم يبق روح نبيّ و لا

صدّيق و لا مؤمن إلّا صلّوا عليه، و استغفروا له».

و

روى أبو بشير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «الحواميم ريحان القرآن، فاحمدوا اللّه و اشكروه بحفظها و تلاوتها. و إنّ العبد ليقوم يقرأ الحواميم، فيخرج من فيه أطيب من المسك الأذفر «2» و العنبر. و إنّ اللّه ليرحم تاليها و قارئها، و يرحم جيرانه و أصدقاءه و معارفه، و كلّ حميم أو قريب له. و إنّه في القيامة يستغفر له العرش و الكرسيّ و ملائكة اللّه المقرّبون».

______________________________

(1) الدمث و الدمث: المكان الليّن السهل. و أرض دمثاء: ليّنة سهلة.

(2) أي: طيّب الريح.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 112

و

روى أبو الصباح عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من قرأ حم المؤمن في كلّ ثلاث، غفر اللّه له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر، و ألزمه التقوى، و جعل الآخرة خيرا له من الدنيا».

[سورة غافر (40): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (2) غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3)

و اعلم أنّ اللّه سبحانه لمّا ختم سورة الزمر بذكر الملائكة و الجنّة و النار، افتتح هذه السورة بمثل ذلك، فقال جلّ و عزّ:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم قد مضى ذكر الأقوال في الحروف المقطّعة في مفتتح سورة البقرة.

و قال القرظي: ها هنا أقسم اللّه سبحانه بحلمه و ملكه، لا يعذّب من عاذ به، و قال: لا إله إلّا اللّه مخلصا من قلبه.

و عن عطاء الخراساني: هو افتتاح أسمائه: حليم، حميد، حيّ، حكيم، حنّان، ملك، مجيد، مبدئ، معيد.

و عن الكلبي: معناه: حمّ أي: قضي في اللوح المحفوظ ما هو كائن من الحقائق و كتب فيه.

و أمال

ابن عامر و حمزة و الكسائي و أبو بكر ألف «حا» إمالة محضة. و نافع برواية و رش و أبو عمرو بين بين. و غيرهم فتحها.

تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ يحتمل أن يكون تخصيص الوصفين،

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 113

لما في القرآن من الإعجاز و الحكم الدالّ على كمال القدرة الكاملة و الحكمة البالغة.

غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ شَدِيدِ الْعِقابِ ذِي الطَّوْلِ صفات أخر لتحقيق ما في القرآن من الترغيب و الترهيب، و الحثّ على ما هو المقصود منه. و الإضافة فيها حقيقيّة، لأنّه لم يرد بها زمان مخصوص من ماض و مضارع، بل إنّما أريد ثبوت ذلك و دوامه، فكان حكمها حكم: إله الخلق و ربّ العرش. فيوافق موصوفها، لإفادتها التعريف.

و «شديد العقاب» و إن كان في تقدير النكرة- أعني: شديد عقابه، لا ينفكّ من هذا- و لكن يؤول إلى: الشديد عقابه، فحذف اللام ليزاوج ما قبله و ما بعده لفظا. و قد غيّروا كثيرا من كلامهم عن قوانينه لأجل الازدواج.

أو أبدال «1». و جعل «شديد العقاب» وحده بدلا مشوّش للنظم.

و توسيط الواو بين الأوّلين لإفادة الجمع بين محو الذنوب و قبول التوبة.

أو لتغاير الوصفين، إذ ربما يتوهّم الاتّحاد. أو لتغاير موقع الفعلين، لأنّ الغفر هو الستر، فيكون لذنب باق، و ذلك لمن لم يتب، فإنّ التائب من الذنب كمن لا ذنب له.

و التّوب مصدر، كالتوبة. و هو و الثّوب و الأوب أخوات في معنى الرجوع.

و قيل: جمع التوبة. و الطّول: التفضّل بترك العقاب المستحقّ. يقال: طال عليه و تطوّل إذا تفضّل. و في توحيد صفة العذاب مغمورة بصفات الرحمة دليل رجحانها.

روي عن ابن عبّاس أنّه قال: «غافر الذنب» لمن قال: لا إله إلّا

اللّه.

«شديد العقاب» لمن لم يقل: لا إله إلّا اللّه. «ذي الطول» ذي الغنى عمّن لم يقل.

______________________________

(1) عطف على قوله: صفات أخر ...، في بداية الفقرة السابقة.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 114

لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي: هو الموصوف بهذه الصفات دون غيره، و لا يستحقّ العبادة سواه، فيجب الإقبال الكلّي على عبادته إِلَيْهِ الْمَصِيرُ المرجع للجزاء، فيجازي المطيع و العاصي. و المعنى: أنّ الأمور تؤول إلى حيث لا يملك أحد النفع و الضرّ و الأمر و النهي غيره تعالى، و ذلك يوم القيامة.

[سورة غافر (40): الآيات 4 الى 6]

ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ إِلاَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ (4) كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ الْأَحْزابُ مِنْ بَعْدِهِمْ وَ هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ وَ جادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَّ فَأَخَذْتُهُمْ فَكَيْفَ كانَ عِقابِ (5) وَ كَذلِكَ حَقَّتْ كَلِمَةُ رَبِّكَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ (6)

و لمّا حقّق أمر التنزيل سجّل بالكفر على المجادلين فيه بالطعن، فقال: ما يُجادِلُ فِي آياتِ اللَّهِ أي: لإدحاض الحقّ، لقوله: وَ جادَلُوا بِالْباطِلِ لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ «1» إِلَّا الَّذِينَ كَفَرُوا فإنّ الجدال فيه لحلّ مشكلاته، و استنباط حقائقه، و إيضاح ملتبساته، و قطع تشبّث أهل الزيغ به، وردّ مطاعنهم فيه، فمن أعظم الطاعات. و لذلك

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ جدالا في القرآن كفر»

بالتنكير، فإنّ إيراده منكّرا تمييز بين جدال و جدال.

و لمّا كان الكفّار مشهودا عليهم من قبل اللّه بالكفر، و الكافر لا أحد أشقى منه

______________________________

(1) المؤمن: 5.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 115

عند اللّه، وجب على من تحقّق ذلك أن لا ترجّح أحوالهم في عينه، و لا يغرّه إقبالهم في دنياهم بوسيلة المكاسب المربحة. و لهذا عطف ذلك

على بيان مجادلتهم بالفاء العاطفة، فقال:

فَلا يَغْرُرْكَ تَقَلُّبُهُمْ فِي الْبِلادِ أي: إمهالهم في دنياهم، و تقلّبهم في بلاد الشام و اليمن بالتجارات المربحة، لأنّهم مأخوذون عمّا قريب بكفرهم أخذ من قبلهم، كما قال:

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ الْأَحْزابُ و الّذين تحزّبوا على الرسل و ناصبوهم، كعاد و ثمود مِنْ بَعْدِهِمْ بعد قوم نوح وَ هَمَّتْ كُلُّ أُمَّةٍ من هؤلاء بِرَسُولِهِمْ لِيَأْخُذُوهُ ليتمكّنوا من إصابته بما أرادوا من تعذيب و قتل. من الأخذ بمعنى الأسر.

وَ جادَلُوا بِالْباطِلِ بما لا حقيقة له لِيُدْحِضُوا بِهِ الْحَقَ ليزيلوه به فَأَخَذْتُهُمْ يعني: أنّهم قصدوا أخذ رسولهم، فجعلت جزاءهم على إرادة أخذه أن أخذتهم بالإهلاك. ثمّ قرّر ذلك فقال تعجيبا: فَكَيْفَ كانَ عِقابِ فإنّكم تمرّون على ديارهم، فتعاينون أثر ذلك.

وَ كَذلِكَ حَقَّتْ أي: كما وجب إهلاكهم في الدنيا بالعذاب المستأصل، كذلك وجب كَلِمَةُ رَبِّكَ أي: وعيده، أو قضاؤه بالعذاب عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا بكفرهم أَنَّهُمْ أَصْحابُ النَّارِ لأنّ علّة واحدة- و هي الكفر- تجمعهم أنّهم من أصحاب النار. و هذا بدل من «كلمة ربّك» بدل الكلّ على إرادة اللفظ، أي: وجب أنّهم أصحاب النار. أو الاشتمال على إرادة المعنى.

[سورة غافر (40): الآيات 7 الى 9]

الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ وَ مَنْ حَوْلَهُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ وَ قِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (7) رَبَّنا وَ أَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (8) وَ قِهِمُ السَّيِّئاتِ وَ مَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ رَحِمْتَهُ وَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) زبدة التفاسير ج 6 159

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 116

ثمّ أخبر سبحانه عن

حال المؤمنين، و أنّه يستغفر لهم الملائكة مع عظم منزلتهم عند اللّه، فحالهم بخلاف أحوال من تقدّم ذكرهم من الكفّار، فقال:

الَّذِينَ يَحْمِلُونَ الْعَرْشَ على عواتقهم امتثالا لأمر اللّه وَ مَنْ حَوْلَهُ من الملائكة المطيفين. و هم الكرّوبيّون سادة طبقات الملائكة. و حملهم العرش و حفيفهم حوله مجاز عن حفظهم و تدبيرهم له. أو كناية عن فرط قربهم من ذي العرش، و مكانتهم عنده، و توسّطهم في نفاذ أمره.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنّ حملة العرش أرجلهم في الأرض السفلى، و رؤوسهم قد خرقت العرش، و هم خشوع لا يرفعون طرفهم».

و أيضا

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا تتفكّروا في عظم ربّكم، و لكن تفكّروا فيما خلق اللّه من الملائكة».

فإنّ خلقا من الملائكة يقال له إسرافيل، زاوية من زوايا العرش على كاهله، و قدماه في الأرض السفلى، و قد مرق «1» رأسه من سبع سماوات. و إنّه ليتضاءل من عظمة اللّه حتّى يصير كأنّه الوصع «2».

و

في الحديث: «إنّ اللّه تعالى أمر جميع الملائكة أن يغدوا و يروحوا بالسلام

______________________________

(1) أي: خرج.

(2) الوصع: طائر أصغر من العصفور. زبدة التفاسير، ج 6، ص: 117

على حملة العرش، تفضيلا لهم على سائر الملائكة».

و قيل: خلق اللّه العرش من جوهرة خضراء، و بين القائمتين من قوائمه خفقان الطير المسرع ثمانين ألف عام.

و قيل: حول العرش سبعون ألف صنف من الملائكة، يطوفون به مهلّلين مكبّرين. و من ورائهم سبعون ألف صفّ قيام، قد وضعوا أيديهم على عواتقهم، رافعين أصواتهم بالتهليل و التكبير. و من ورائهم مائة ألف صفّ قد وضعوا الأيمان على الشمائل، ما منهم أحد إلّا و هو يسبّح بما لا يسبّح به الآخر.

و

عن مجاهد: بين الملائكة و بين العرش سبعون حجابا من نور.

يُسَبِّحُونَ ينزّهونه عمّا يصفه به هؤلاء المجادلون، ملتبسين بِحَمْدِ رَبِّهِمْ أي: يذكرون اللّه بمجامع الثناء، من صفات الجلال و الإكرام. و جعل التسبيح أصلا و التحميد حالا، لأنّ الحمد مقتضى حالهم، لإيجاد اللّه إيّاهم، و توفيقهم في العبادة، دون التسبيح.

وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ أخبر عنهم بالإيمان لإظهار شرفه و فضله و الترغيب فيه، كما وصف الأنبياء في مواضع من كتابه بالصلاح، لإظهار شرفه. و لمّا وصفوا به على سبيل الثناء عليهم، علم أنّ إيمانهم و إيمان من في الأرض و كلّ من غاب عن ذلك المقام سواء، في أنّ إيمان الجميع بطريق النظر و الاستدلال لا غير. و أنّه لا طريق إلى معرفته إلّا هذا. و أنّه منزّه عن صفات الأجسام و الأجرام.

و زعم الزمخشري «1» و العلّامة الرازي «2» أنّ في الآية ردّا على المجسّمة، كما أورده النيشابوري في تفسيره قائلا: «قال في الكشّاف: فيه تكذيب المجسّمة، فإنّ الأمر لو كان كما زعموا لكان الملائكة يشاهدونه، فلا يوصفون بالإيمان، لأنّه لا

______________________________

(1) الكشّاف 4: 152.

(2) التفسير الكبير 27: 32- 33.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 118

يوصف بالإيمان إلّا الغائب، فعلم أنّ إيمانهم كإيمان أهل الأرض و الكلّ سواء، في أنّ إيمانهم بطريق النظر و الاستدلال.

و استحسن هذا الكلام الامام فخر الدين الرازي في تفسيره الكبير حتّى ترحّم عليه، و قال: «لو لم يكن في كتابه إلّا هذه النكتة لكفى به فخرا و شرفا».

و أنا أقول: لا نسلّم أنّ الإيمان لا يكون إلّا بالغائب، و إلّا لم يكن الإيمان بالنبيّ وقت تحدّيه و بالقرآن. و إن شئت فتأمّل قوله تعالى: الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ «1». فلو لم يكن إيمان بالشهادة

لم يكن لقوله: «بالغيب» فائدة. على أنّه يحتمل أن يشاهد الربّ و ينكر كونه ربّا و إلها. و يمكن أن يكون محمول الشي ء محجوبا عن ذلك الشي ء. فمن أين يلزم تكذيب المجسّمة؟

و زعم الإمام فخر الدين أنّ في الآية دلالة اخرى على إبطال قول أهل التجسيم أنّ الإله على العرش، فإنّه لو كان كما زعموا- و حامل الشي ء حامل لكلّ ما على ذلك الشي ء- لزم أن يكون الملائكة حاملين لإله العالم حافظين له، و الحافظ أولى بالإلهيّة من المحفوظ.

قلت: لا شكّ أنّ هذه مغالطة، جاز الحمل لأجل العظمة و إظهار الكبرياء على ما يزعم الخصم، كيف يلزم منه ذلك؟! و هل يزعم عاقل أنّ الحمار أشرف من الإنسان الراكب عليه من جهة الركوب عليه» «2».

انتهى كلامه المصرّح بتخطئتهما. و الحقّ أنّهما زلقا و عثرا، سيّما الرازي، فإنّه خبط خبط عشواء، و ركب متن عمياء، و إن ذيّل النيشابوري كلامه بقوله: «و إنّما ذكرت ما ذكرت لكونه واردا على كلام الإمامين، مع وفور فضلهما و بعد غورهما، لا لأنّي مائل في المسألة إلى غير معتقدهما».

______________________________

(1) البقرة: 3.

(2) غرائب القرآن للنيسابوري 6: 23.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 119

و لأجل أنّ المشاركة في الإيمان توجب النصح و الشفقة و إن تخالفت الأجناس، لأنّها أقوى المناسبات، كما قال تعالى: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ «1»، يطلب الملائكة من اللّه المغفرة لأهل الإيمان من الثقلين، كما قال عزّ اسمه:

وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا كأنّه قيل: و يؤمنون به و يستغفرون لمن في مثل حالهم و صفتهم من أهل الأرض، و إن تباعدت الأماكن بينهم و بين الثقلين. فبين قوله:

«وَ يُؤْمِنُونَ بِهِ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا» غاية التناسب و التجانس.

رَبَّنا أي: يقولون ربّنا. و هذا

بيان ل «يستغفرون» مرفوع المحلّ مثله.

وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً أي: وسعت رحمتك و علمك، فأزيل الكلام عن أصله، بأن أسند الفعل إلى صاحب الرحمة و العلم. و أخرجا منصوبين على التمييز، للإغراق في وصفه بالرحمة و العلم، كأنّ ذاته رحمة و علم واسعان كلّ شي ء.

و تقديم الرحمة على العلم، لأنّها المقصودة بالذات هاهنا.

فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ للّذين علمت منهم التوبة و اتّباع سبيل الحقّ. و هو دين الإسلام. فما بعد الفاء مشتمل على حديث الرحمة و العلم، لا الغفران وحده. فيطابق قوله: «وَسِعْتَ كُلَّ شَيْ ءٍ رَحْمَةً وَ عِلْماً».

وَ قِهِمْ عَذابَ الْجَحِيمِ و احفظهم عنه. و هو تصريح بعد إشعار، للتأكيد و الدلالة على شدّة العذاب. و الفائدة في استغفارهم لهم و هم تائبون صالحون موعودون: زيادة الكرامة و الثواب. أو الدلالة على أنّ إسقاط العقاب عند التوبة تفضّل من اللّه تعالى، إذ لو كان واجبا لكان لا يحتاج إلى مسألتهم، بل كان يفعله اللّه سبحانه لا محالة.

رَبَّنا وَ أَدْخِلْهُمْ جَنَّاتِ عَدْنٍ الَّتِي وَعَدْتَهُمْ إيّاها على ألسن الرسل وَ مَنْ صَلَحَ مِنْ آبائِهِمْ وَ أَزْواجِهِمْ وَ ذُرِّيَّاتِهِمْ عطف على «هم» الأوّل، أي: أدخل هؤلاء

______________________________

(1) الحجرات: 10.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 120

معهم ليتمّ سرورهم. أو الثاني، لبيان عموم الوعد. إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الملك الّذي لا يغلب، و لا يمتنع عليه مقدور الْحَكِيمُ الّذي لا يفعل إلّا ما تقتضيه الحكمة، و من ذلك الوفاء بالوعد.

وَ قِهِمُ السَّيِّئاتِ العقوبات. أو جزاء السيّئات، فحذف المضاف. و هذا تعميم بعد تخصيص، أو مخصوص بمن صلح. و الوقاية منها: التكفير، أو قبول التوبة. أو المعاصي نفسها في الدنيا. و على هذا، معنى قوله: وَ مَنْ تَقِ السَّيِّئاتِ يَوْمَئِذٍ فَقَدْ

رَحِمْتَهُ من تقها في الدنيا فقد رحمته في الآخرة. كأنّهم طلبوا السبب بعد ما سألوا المسبّب. و على الأوّل: و من تق العقوبات أو جزاء المعاصي يوم القيامة فقد رحمته. وَ ذلِكَ يعني: الرحمة، أو الوقاية، أو مجموعهما هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ

[سورة غافر (40): الآيات 10 الى 12]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ إِذْ تُدْعَوْنَ إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ (10) قالُوا رَبَّنا أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ مِنْ سَبِيلٍ (11) ذلِكُمْ بِأَنَّهُ إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ كَفَرْتُمْ وَ إِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا فَالْحُكْمُ لِلَّهِ الْعَلِيِّ الْكَبِيرِ (12)

ثمّ عاد الكلام إلى من تقدّم ذكرهم من الكفّار، فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا يُنادَوْنَ أي: يناديهم الملائكة يوم القيامة، فيقولون لهم: لَمَقْتُ اللَّهِ أَكْبَرُ مِنْ مَقْتِكُمْ أَنْفُسَكُمْ أي: لمقت اللّه أنفسكم أشدّ ممّا تمقتون اليوم و أنتم في النار من مقتكم أنفسكم الأمّارة بالسوء. و المقت: أشدّ البغض. فوضع في موضع أبلغ الإنكار و أشدّه.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 121

و عن الحسن: لمّا رأوا أعمالهم الخبيثة مقتوا أنفسهم، فنودوا:

«لمقت اللّه».

و قيل: معناه: لمقت اللّه إيّاكم الآن أكبر من مقت بعضكم لبعض، كقوله تعالى:

يَكْفُرُ بَعْضُكُمْ بِبَعْضٍ وَ يَلْعَنُ بَعْضُكُمْ بَعْضاً «1».

إِذْ تُدْعَوْنَ ظرف. و عامله فعل دلّ عليه المقت الأوّل، لا هو، لأنّه أخبر عنه، و قد فصل بينه و بين الظرف خبره، أعني «أكبر»، فلا يجوز. و لا المقت الثاني، لأنّ مقتهم أنفسهم يوم القيامة حين عاينوا جزاء أعمالهم الخبيثة. فالمعنى: مقتكم اللّه حين كان الأنبياء يدعونكم إِلَى الْإِيمانِ فَتَكْفُرُونَ فتأبون قبوله، و تختارون عليه الكفر. أو تعليل للحكم، و زمان المتقين واحد.

ثمّ حكى سبحانه عن الكفّار الّذين تقدّم وصفهم بعد حصولهم في النار، بأنّهم قالُوا رَبَّنا

أَمَتَّنَا اثْنَتَيْنِ إماتتين، بأن خلقتنا أمواتا أولا، ثمّ صيّرتنا أمواتا عند انقضاء آجالنا، فإنّ الإماتة جعل الشي ء عادم الحياة ابتداء، فيصحّ أن يسمّى خلقهم أمواتا إماتة، كما يصحّ أن تقول: سبحان من صغّر البعوض و كبّر الفيل، و تقول للحفّار: ضيّق فم الركيّة «2» و وسّع أسفلها، و ليس ثمّ نقل من كبر إلى صغر، و لا من صغر إلى كبر، و لا من ضيق إلى سعة، و لا من سعة إلى ضيق، و إنّما أردت الإنشاء على تلك الصفات. و السبب في صحّته أنّ الصغر و الكبر جائزان معا على المصنوع الواحد من غير ترجّح لأحدهما، و كذلك الضيق و السعة، فإذا اختار الصانع أحد الجائزين و هو متمكّن منهما على السواء، فقد صرف المصنوع عن الجائز الآخر، فجعل صرفه عنه كنقله منه.

وَ أَحْيَيْتَنَا اثْنَتَيْنِ الإحياءة الأولى، و إحياءة البعث. و ناهيك تفسيرا لذلك

______________________________

(1) العنكبوت: 25.

(2) الركيّة: البئر ذات الماء.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 122

قوله تعالى: وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يُحْيِيكُمْ «1». و كذا عن ابن عبّاس و أئمّة التفسير.

و عن السدّي: أنّ المراد بالإماتتين: الّتي بعد حياة الدنيا، و الّتي بعد حياة القبر. و لزمه إثبات ثلاث إحياءات: إحياءة في ظهر الأرض، و إحياءة في القبر للسؤال، و إحياءة للحشر. و هو خلاف ما في القرآن، إلّا أن يتمحّل فيجعل حياة القبر غير معتدّ بها، لقلّة زمانها.

و مقصودهم من هذا القول اعترافهم بعد المعاينة بما غفلوا عنه و لم يكترثوا به، و لذلك تسبّبوا بقولهم: فَاعْتَرَفْنا بِذُنُوبِنا فإنّ اقترافهم لها من اغترارهم بالدنيا و إنكارهم البعث. و تبع ذلك من الذنوب ما لا يحصى، لأنّ من لم يخش العاقبة توسّع

في المعاصي. فلمّا رأوا الإماتة و الإحياء تكرّرا عليهم، علموا بأن اللّه قادر على الإعادة قدرته على الإنشاء، فاعترفوا بذنوبهم الّتي اقترفوها من إنكار البعث و ما تبعه من معاصيهم.

فَهَلْ إِلى خُرُوجٍ نوع خروج سريع أو بطي ء من النار مِنْ سَبِيلٍ طريق فنسلكه. و ذلك إنّما يقولونه من فرط قنوطهم تعلّلا و تحيّرا. و لذلك أجيبوا بقوله: ذلِكُمْ الّذي أنتم فيه من أنّه لا سبيل لكم إلى خروج من سبيل بِأَنَّهُ بسبب أنّه إِذا دُعِيَ اللَّهُ وَحْدَهُ متّحدا. أو توحّد وحده، فحذف الفعل و أقيم مقامه في الحاليّة. كَفَرْتُمْ بالتوحيد وَ إِنْ يُشْرَكْ بِهِ تُؤْمِنُوا بالإشراك فَالْحُكْمُ لِلَّهِ المستحقّ للعبادة، حيث حكم عليكم بالعذاب السرمد الْعَلِيِ القادر على كلّ شي ء، ليس فوقه من هو أقدر منه، أو من يساويه في مقدوره. و نقلت هذه اللفظة من علوّ المكان إلى علوّ الشأن، و لذلك جاز وصفه سبحانه بذلك، كما يقال: استعلى فلان عليه بالقوّة و بالحجّة. الْكَبِيرِ

______________________________

(1) البقرة: 28.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 123

العظيم في صفاته الّتي لا يشاركه فيها غيره، و من أن يشرك به و يسوّى به بعض مخلوقاته.

[سورة غافر (40): الآيات 13 الى 17]

هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ وَ يُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً وَ ما يَتَذَكَّرُ إِلاَّ مَنْ يُنِيبُ (13) فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (14) رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ (15) يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْ ءٌ لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ (16) الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ لا ظُلْمَ الْيَوْمَ إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ (17)

هُوَ الَّذِي يُرِيكُمْ آياتِهِ مصنوعاته الدالّة على توحيده و كمال قدرته، من الريح

و السحاب و الرعد و البرق و الصواعق و الشمس و القمر و النجوم، و سائر ما في السماوات و الأرض وَ يُنَزِّلُ لَكُمْ مِنَ السَّماءِ رِزْقاً أسباب رزق، كالمطر، مراعاة لمعاشكم.

وَ ما يَتَذَكَّرُ و ما يعتبر و يتّعظ بالآيات الّتي هي كالمركوزة في العقول، لظهورها المغفول عنها، للانهماك في التقليد و اتّباع الهوى إِلَّا مَنْ يُنِيبُ يرجع عن الإنكار و العناد بالإقبال عليها و التفكّر فيها، فإنّ المعاند لا سبيل إلى تذكّره و اتّعاظه، و الجازم بشي ء لا ينظر فيما ينافيه.

ثمّ قال لمن ينيب: فَادْعُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ من الشرك وَ لَوْ كَرِهَ

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 124

الْكافِرُونَ إخلاصكم، و شقّ عليهم.

رَفِيعُ الدَّرَجاتِ ذُو الْعَرْشِ خبران آخران لقوله: «هو». أو خبران لمبتدأ محذوف، للدلالة على علوّ صمديّته، من حيث المعقول و المحسوس الدالّ على تفرّده في الألوهيّة، فإنّ من ارتفعت درجات كماله و مراتب عزّته و ملكوته بحيث لا يحيط العقل بكنهه، و كان العرش الّذي هو أصل العالم الجسماني في قبضة قدرته، لا يصحّ أن يشرك به.

و قيل: معناه: رافع درجات مراتب المخلوقات من الأنبياء و الأولياء في الجنّة. أو درجات ثوابه الّتي ينزلها أولياءه في الجنّة.

يُلْقِي الرُّوحَ مِنْ أَمْرِهِ خبر رابع للدلالة على أنّ الروحانيّات أيضا مسخّرات لأمره. و المراد بالروح الوحي. و تسميته بالروح لأنّه يحيي القلوب من موت الكفر. و «من» لابتداء الغاية. يعني: يلقي الوحي الّذي مبدؤه من أمره.

أو بيانيّة. و المعنى: هو يلقي الوحي الّذي هو أمره بالخير.

عَلى مَنْ يَشاءُ مِنْ عِبادِهِ على قلب من يشاء ممّن يراه أهلا للنبوّة. يقال:

ألقيت عليه كذا، أي: فهّمته لِيُنْذِرَ غاية الإلقاء. و المستكين فيه للّه، أو ل «من»، أو ل

«الروح». أي: لينذر اللّه بالروح، أو الملقى عليه به، أو الروح. يَوْمَ التَّلاقِ يوم القيامة، فإنّ فيه تتلاقى الأرواح و الأجساد، و أهل السماء و الأرض. أو المعبودون و العبّاد. أو العمّال و الأعمال.

يَوْمَ هُمْ بارِزُونَ خارجون من قبورهم. أو ظاهرون لا يسترهم شي ء، من جبل أو أكمة «1» أو بناء، لأنّ الأرض يومئذ تكون قاعا صفصفا. أو لا عليهم ثياب، بل إنّما هم عراة مكشوفون، كما

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «يحشرون عراة حفاة

______________________________

(1) الأكمة: التلّ، أو الموضع الّذي يكون أكثر ارتفاعا ممّا حوله. زبدة التفاسير، ج 6، ص: 125

غرلا»

«1». أو ظاهرة نفوسهم، لا تحجبهم غواشي الأبدان الكثيفة. أو أعمالهم و سرائرهم.

لا يَخْفى عَلَى اللَّهِ مِنْهُمْ شَيْ ءٌ من أعيانهم و أعمالهم. و هذا تقرير لقوله:

«هم بارزون»، و إزاحة لنحو ما يتوهّم في الدنيا. يعني: أنّهم كانوا يتوهّمون في الدنيا إذا استتروا بالحيطان و الحجب أنّ اللّه لا يراهم، و تخفى عليه أعمالهم، فهم اليوم صائرون من البروز و الانكشاف إلى حال لا يتوهّمون فيها مثل ما كانوا يتوهّمونه. قال اللّه تعالى: وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ «2».

لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ فيقرّ المؤمنون و الكافرون لِلَّهِ الْواحِدِ الْقَهَّارِ و هذا حكاية لما يسأل عنه في ذلك اليوم، و لما يجاب به. و معناه: أنّه ينادي مناد فيقول:

لمن الملك اليوم. فيجيبه أهل المحشر: للّه الواحد القهّار.

و قيل: يجمع اللّه الخلائق يوم القيامة في صعيد واحد بأرض بيضاء، كأنّها سبيكة فضّة لم يعص اللّه فيها قطّ، فأوّل ما يتكلّم به أن ينادي مناد: لمن الملك اليوم للّه الواحد القهّار.

و قال القرظي: يقول اللّه تعالى ذلك بين النفختين حين يفني الخلائق كلّها،

ثمّ يجيب نفسه، لأنّه بقي وحده.

و يضعّف هذا القول، إذ بيّن أنّه يقول ذلك يوم التلاق، يوم يبرز العباد فيه من قبورهم. و إنّما خصّ ذلك اليوم بأنّ له الملك فيه، لأنّه قد ملك العباد بعض الأمور في الدنيا، و لا يملك أحد شيئا ذلك اليوم. أو حكاية لما دلّ عليه ظاهر الحال فيه من زوال الأسباب و ارتفاع الوسائط، و أمّا حقيقة الحال فناطقة بذلك دائما.

و لمّا قرّر أنّ الملك للّه وحده في ذلك اليوم، عدّد نتائج ذلك بقوله:

______________________________

(1) غرل جمع أغرل، و هو الصبي الذي لم يختن.

(2) فصلت: 22.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 126

الْيَوْمَ تُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ يجزي المحسن بإحسانه، و المسي ء بإساءته. و تحقيقه:

أنّ النفوس تكتسب بالعقائد و الأعمال هيئات توجب لذّتها و ألمها، لكنّها لا تشعر بها في الدنيا لعوائق تشغلها، فإذا قامت قيامتها زالت العوائق و أدركت لذّتها و ألمها.

و

في الحديث: «إنّ اللّه تعالى يقول: أنا الملك، أنا الديّان، لا ينبغي لأحد من أهل الجنّة أن يدخل الجنّة، و لا لأحد من أهل النار أن يدخل النار، و عنده مظلمة حتّى أقضيه منه. و تلا هذه الآية».

لا ظُلْمَ الْيَوْمَ بنقص الثواب و زيادة العذاب إِنَّ اللَّهَ سَرِيعُ الْحِسابِ إذ لا يشغله شأن عن شأن، فيصل إليهم ما يستحقّونه سريعا في وقت واحد، و هو أسرع الحاسبين. و عن ابن عبّاس: إذا أخذ في حسابهم لم يقل «1» أهل الجنّة إلّا فيها، و لا أهل النار إلّا فيها.

[سورة غافر (40): الآيات 18 الى 20]

وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ كاظِمِينَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ (18) يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ وَ ما تُخْفِي الصُّدُورُ (19) وَ اللَّهُ يَقْضِي بِالْحَقِّ وَ الَّذِينَ

يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ لا يَقْضُونَ بِشَيْ ءٍ إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (20)

ثمّ أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يخوّف المكلّفين يوم القيامة، فقال: وَ أَنْذِرْهُمْ يَوْمَ الْآزِفَةِ أي: القيامة سمّيت بها لأزوفها، أي: قربها. و يجوز ان يريد بيوم الآزفة وقت الخطّة الآزفة، و هي مشارفتهم دخول النار. إِذِ الْقُلُوبُ لَدَى الْحَناجِرِ فإنّها

______________________________

(1) من: قال يقيل قيلولة: نام في القائلة، أي: في منتصف النهار.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 127

ترتفع عن مقارّها فتلتصق بحلوقهم، فلا هي تخرج فيموتوا، و لا ترجع إلى موضعها فيتنفّسوا و يتروّحوا، و لكنّها معترضة كالشجا «1».

كاظِمِينَ ممتلئين غمّا و خوفا. حال من أصحاب القلوب على المعنى، لأنّ المعنى: إذ قلوبهم لدى حناجرهم كاظمين عليها. و يجوز أن يكون حالا من القلوب، أي: حال كون القلوب كاظمة على غمّ و كرب فيها مع بلوغها الحناجر.

و إنّما جمع جمع السلامة، لأنّه وصفها بالكظم الّذي هو من أفعال العقلاء، كما قال:

رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ «2». و قال: فَظَلَّتْ أَعْناقُهُمْ لَها خاضِعِينَ «3». أو من مفعول «أنذرهم» على أنّه حال مقدّرة، أي: أنذرهم مقدّرين أو مشارفين الكظم، كقوله:

فَادْخُلُوها خالِدِينَ «4».

ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ حَمِيمٍ قريب مشفق وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ أي: شفيع يشفع، فإنّ المطاع مجاز في المشفع، لأنّ حقيقة الطاعة نحو حقيقة الأمر، في أنّها لا تكون إلّا لمن فوقك، فلو كان المطاع على حقيقته لكان اللّه مطيعا، و المطيع يكون أدنى مرتبة، تعالى اللّه عن ذلك. و الضمائر إن كانت للكفّار- و هو الظاهر- كان وضع الظالمين موضع ضميرهم، للدلالة على اختصاص ذلك بهم، و أنّه لظلمهم.

و اعلم أنّ معنى قوله: «وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ» نفي الشفاعة و الطاعة معا، لا

نفي الطاعة دون الشفاعة. كما تقول: ما عندي كتاب يباع. فهو محتمل نفي البيع وحده، و أنّ عندك كتابا إلّا أنّك لا تبيعه، و نفيهما جميعا، بأن لا كتاب عندك، و لا كونه مبيعا. لأنّ الشفعاء هم أولياء اللّه، و أولياء اللّه لا يحبّون و لا يرضون إلّا من أحبّه اللّه

______________________________

(1) الشجا: ما اعترض في الحلق من عظم و نحوه.

(2) يوسف: 4.

(3) الشعراء: 4.

(4) الزمر: 73.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 128

و رضيه، و أنّ اللّه لا يحبّ الظالمين، فلا يحبّونهم، و إذا لم ينصروهم و لم يشفعوا لهم. قال اللّه تعالى: وَ ما لِلظَّالِمِينَ مِنْ أَنْصارٍ «1». و قال: وَ لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى «2». و لأنّ الشفاعة لا تكون إلّا في زيادة التفضّل، و أهل التفضّل و زيادته إنّما هم أهل الثواب، بدليل قوله: وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ «3». و عن الحسن:

و اللّه ما يكون لهم شفيع البتّة.

و الفائدة في ذكر الصفة و نفيها- مع أنّ الغرض حاصل بذكر الشفيع و نفيه فقط- إقامة انتفاء الموصوف مقام الشاهد على انتفاء الصفة، لأن الصفة لا تتأتّى بدون موصوفها، فيكون ضمّها إليه إزالة لتوهّم وجود الموصوف. بيانه: إنّك إذا عوتبت على القعود عن الغزو فقلت: ما لي فرس أركبه، و لا معي سلاح أحارب به، فقد جعلت عدم الفرس و فقد السلاح علّة مانعة من الركوب و المحاربة. كأنّك تقول:

كيف يتأتّى منّي الركوب و المحاربة و لا فرس لي و لا سلاح معي؟ فكذلك قوله:

«وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ» معناه: كيف يتأتّى التشفيع و لا شفيع؟

يَعْلَمُ خائِنَةَ الْأَعْيُنِ أي: النظرة الخائنة، كالنظرة الثانية إلى غير المحرم، و استراق النظر إليه، على أن تكون صفة للنظرة. أو

خيانة الأعين، على أن تكون مصدرا بمعنى الخيانة، كالعافية بمعنى المعافاة. و لا يحسن أن يراد الخائنة من الأعين، لأنّه لا يساعد عليه قوله: وَ ما تُخْفِي الصُّدُورُ من الضمائر.

و الجملة خبر خامس، للدلالة على أنّها ما من خفيّ إلّا و هو متعلّق العلم و الجزاء، مثل «يلقي الروح»، و لكن «يلقي الروح» قد علّل بقوله: «لِيُنْذِرَ يَوْمَ التَّلاقِ». ثمّ استطرد ذكر أحوال يوم التلاق إلى قوله: «وَ لا شَفِيعٍ يُطاعُ»، فبعد

______________________________

(1) البقرة: 270.

(2) الأنبياء: 28.

(3) النساء: 173.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 129

لذلك عن أخواته.

وَ اللَّهُ و الّذي هذه صفاته يَقْضِي يفصل بين الخلائق بِالْحَقِ فيوصل كلّ ذي حقّ إلى حقّه، لأنّه المالك الحاكم على الإطلاق، المستغني عن الجور، فلا يقضي بشي ء إلّا و هو حقّ وَ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ من الأصنام لا يَقْضُونَ بِشَيْ ءٍ تهكّم بهم، لأنّ الجماد لا يقال فيه إنّه يقضي أو لا يقضي. و قرأ نافع و هشام بالتاء، على الالتفات، أو إضمار: قل.

إِنَّ اللَّهَ هُوَ السَّمِيعُ فيسمع المسموعات الْبَصِيرُ يبصر المبصرات.

و هذا تقرير لعلمه بخائنة الأعين و ما تخفي الصدور، و قضائه بالحقّ. و وعيد لهم على ما يقولون و يفعلون. و تعريض بحال ما يدعون من دونه من الأصنام، و أنّها لا تسمع و لا تبصر. و هاتان الصفتان إذا أطلقتا على اللّه يرجعان إلى كونه حيّا عالما بجميع المسموعات و المبصرات، لاستغنائه عن آلتي السمع و البصر.

[سورة غافر (40): الآيات 21 الى 22]

أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ آثاراً فِي الْأَرْضِ فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَ ما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ (21) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ

فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ إِنَّهُ قَوِيٌّ شَدِيدُ الْعِقابِ (22)

ثمّ نبّههم سبحانه على أن ينظروا في حال الأمم المكذّبة الخالية نظر اعتبار و تفكّر، فقال:

أَ وَ لَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ كانُوا مِنْ قَبْلِهِمْ مآل حال الّذين كذّبوا الرسل قبلهم، كعاد و ثمود كانُوا هُمْ أَشَدَّ مِنْهُمْ قُوَّةً قدرة و تمكّنا.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 130

و إنّما جي ء بالفصل بين معرفة و غير معرفة، و حقّه أن يقع بين معرفتين، لمضارعة «افعل من» للمعرفة في امتناع دخول اللام عليه، فأجري مجراه. و قرأ ابن عامر:

أشدّ منكم بالكاف. وَ آثاراً فِي الْأَرْضِ مثل القلاع و المدائن الحصينة. و قيل:

المعنى: و أكثر آثارا، كقوله: متقلّدا سيفا و رمحا «1»، أي: و حاملا رمحا، لأنّ الرمح لا يتقلّد. فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ بِذُنُوبِهِمْ وَ ما كانَ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ واقٍ يمنع العذاب عنهم.

ذلِكَ الأخذ بِأَنَّهُمْ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الباهرات، و الأحكام الواضحات فَكَفَرُوا فَأَخَذَهُمُ اللَّهُ أهلكهم عقوبة على كفرهم إِنَّهُ قَوِيٌ قادر على الانتقام منهم، متمكّن ممّا يريده غاية التمكّن شَدِيدُ الْعِقابِ لا يؤبه بعقاب دون عقابه.

[سورة غافر (40): الآيات 23 الى 28]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ (23) إِلى فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ قارُونَ فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ (24) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِّ مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَ اسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ وَ ما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (25) وَ قالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي أَقْتُلْ مُوسى وَ لْيَدْعُ رَبَّهُ إِنِّي أَخافُ أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ (26) وَ قالَ مُوسى إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ (27)

وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ يَكْتُمُ إِيمانَهُ أَ تَقْتُلُونَ رَجُلاً

أَنْ يَقُولَ رَبِّيَ اللَّهُ وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ مِنْ رَبِّكُمْ وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ (28)

______________________________

(1) صدره: و رأيت زوجك في الوغى متقلّدا ....

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 131

ثمّ ذكر قصّة موسى و فرعون لينظروا فيها نظر اعتبار، فقال: وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا يعني: المعجزات وَ سُلْطانٍ مُبِينٍ و حجّة ظاهرة. و العطف لتغاير الوصفين، أو لإفراد بعض المعجزات كالعصا، تقديما لشأنه.

إِلى فِرْعَوْنَ وَ هامانَ وَ قارُونَ كان موسى عليه السّلام رسولا إلى كافّتهم، إلّا أنّه خصّ فرعون و هامان و قارون بالذكر، لأنّ فرعون رئيسهم، و كان هامان وزيره، و قارون صاحب كنوزه، و الباقون تبع لهم فَقالُوا ساحِرٌ كَذَّابٌ يعنون: موسى عليه السّلام.

و فيه تسلية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و بيان لعاقبة من هو أشدّ من الّذين كانوا من قبلهم بطشا و أقربهم زمانا.

فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْحَقِ بالنبوّة مِنْ عِنْدِنا قالُوا اقْتُلُوا أَبْناءَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ وَ اسْتَحْيُوا نِساءَهُمْ أي: أعيدوا عليهم ما كنتم تفعلون بهم أوّلا، كي يصدّوا عن مظاهرة موسى وَ ما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ في ضياع. يعني: أنّهم باشروا قتلهم أوّلا فما أغنى عنهم، و نفذ قضاء اللّه بإظهار من خافوه، فما يغني عنهم هذا القتل الثاني. و وضع الظاهر فيه موضع الضمير لتعميم الحكم، و الدلالة على العلّة.

وَ قالَ فِرْعَوْنُ ذَرُونِي اتركوني أَقْتُلْ مُوسى كانوا يكفّونه عن قتله، و يقولون: إنّه ليس الّذي تخافه، و هو أقلّ من ذلك و أضعف، و ما هو إلّا بعض السحرة، و مثله لا يقاوم إلّا ساحرا مثله، و لو

قتلته أدخلت الشبهة على الناس أنّك عجزت عن معارضته بالحجّة.

و الظاهر أنّ فرعون كان قد استيقن أنّه نبيّ، و أنّ ما جاء به آيات و ما هو

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 132

بسحر، و لكنّه كان فيه خبّ «1» و جربزة، و كان قتّالا سفّاكا للدماء في أهون شي ء، فكيف لا يقتل من أحسّ منه بأنّه هو الّذي يثلّ «2» عرشه و يهدم ملكه؟! و لكنّه كان يخاف إن همّ بقتله لا يتيسّر له و يعاجل بالهلاك.

و قوله: وَ لْيَدْعُ رَبَّهُ شاهد صدق على فرط خوفه منه و من دعوته ربّه.

و كان قوله: «ذروني أقتل موسى» تمويها على قومه، و إيهاما أنّهم هم الّذين يكفّونه، و ما كان يكفّه إلّا ما في نفسه من هول الفزع.

إِنِّي أَخافُ إن لم أقتله أَنْ يُبَدِّلَ دِينَكُمْ أن يغيّر ما أنتم عليه من عبادتي و عبادة الأصنام، لقوله: وَ يَذَرَكَ وَ آلِهَتَكَ «3» أَوْ أَنْ يُظْهِرَ فِي الْأَرْضِ الْفَسادَ ما يفسد دنياكم من التفاتن «4» و التهارج الّذي يذهب معه الأمن، و تتعطّل المزارع و المكاسب و المعايش، و يهلك الناس قتلا و ضياعا، إن لم يقدر أن يبدلّ دينكم بالكلّيّة.

و قرأ ابن كثير و نافع و أبو عمرو و ابن عامر «5» بالواو، على معنى الجمع. و ابن كثير و ابن عامر و الكوفيّون غير حفص بفتح الياء و الهاء و رفع «الفساد».

وَ قالَ مُوسى أي: لقومه لمّا سمع كلام فرعون إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ مِنْ كُلِّ مُتَكَبِّرٍ عن الإذعان للحقّ. و هو أقبح استكبار و أدلّه على دناءة صاحبه و مهانة نفسه، و على فرط ظلمه.

ثمّ قال لا يُؤْمِنُ بِيَوْمِ الْحِسابِ لأنّه إذا اجتمع في الرجل التجبّر و

التكذيب

______________________________

(1) الخبّ: الخديعة. و رجل خبّ: خدّاع.

(2) أي: يهدم و يسقط.

(3) الأعراف: 127.

(4) أي: الوقوع في الفتنة و التحارب. و التهارج: القتال و المهارشة.

(5) أي: و أن يظهر ....

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 133

بالجزاء، و قلّة المبالاة بالعاقبة، فقد استكمل أسباب القسوة و الجراءة على اللّه و عباده، و لم يترك معصية عظيمة إلّا ارتكبها. و صدّر الكلام ب «إنّ» تأكيدا و إشعارا على أنّ السبب المؤكّد في دفع الشرّ هو العياذ باللّه. و خصّ اسم الربّ، لأنّ المطلوب هو الحفظ و التربية. و إضافته إليه و إليهم حثّا لهم على اقتدائهم به، فيعوذوا به عياذه، لما في تظاهر الأرواح من استجلاب الإجابة. و لم يسمّ فرعون، و ذكر و صفا يعمّه و غيره، لتعميم الاستعاذة، و الدلالة على الحامل له على هذا القول.

و قرأ أبو عمرو و حمزة و الكسائي: عدتّ- فيه و في الدخان «1»- بالإدغام.

و عن نافع مثله.

و لمّا قصد فرعون قتل موسى و عظه المؤمن من آله، كما قال عزّ اسمه:

وَ قالَ رَجُلٌ مُؤْمِنٌ مِنْ آلِ فِرْعَوْنَ و كان قبطيّا ابن عمّ لفرعون، آمن بموسى سرّا.

و قيل: «من» متعلّق بقوله: يَكْتُمُ إِيمانَهُ من آل فرعون على وجه التقيّة. اسمه سمعان، أو حبيب، أو خربيل. و قيل: حزبيل.

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «التقيّة من ديني و دين آبائي». و «لا دين لمن لا تقيّه له».

و «التقيّة ترس اللّه في أرضه، لأنّ مؤمن آل فرعون لو أظهر الإسلام لقتل».

و قال ابن عبّاس: لم يكن من آل فرعون مؤمن غيره، و غير امرأة فرعون، و غير المؤمن الّذي أنذر موسى، و هو الّذي جاء من أقصى المدينة.

أَ تَقْتُلُونَ رَجُلًا أ تقصدون قتله أَنْ

يَقُولَ لأن يقول، أو وقت أن يقول، من غير رؤية و تأمّل في أمره رَبِّيَ اللَّهُ وحده. و هو في الدلالة على الحصر مثل:

صديقي زيد. و فيه إنكار منه عظيم، و تبكيت شديد. كأنّه قال: أ ترتكبون الفعلة الشنعاء الّتي هي قتل نفس محرّمة، و ما لكم علّة قطّ في ارتكاب قتلها إلّا كلمة الحقّ الّتي نطق بها، و هي قوله: «ربّي اللّه»؟!

______________________________

(1) الدخان: 20.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 134

وَ قَدْ جاءَكُمْ بِالْبَيِّناتِ المتكثّرة على صدقه، من المعجزات و الاستدلالات، أي: لم يحضر لتصحيح قوله بيّنة واحدة، و لكن بيّنات عدّة مِنْ رَبِّكُمْ أضافه إليهم بعد ذكر البيّنات احتجاجا عليهم، و استدراجا لهم إلى الاعتراف به.

ثمّ أخذهم بالاحتجاج على طريقة التقسيم من باب الاحتياط، فقال: لا يخلو من أن يكون كاذبا أو صادقا وَ إِنْ يَكُ كاذِباً فَعَلَيْهِ كَذِبُهُ يعود عليه، و لا يتخطّاه و بال كذبه، فيحتاج في دفعه إلى قتله وَ إِنْ يَكُ صادِقاً يُصِبْكُمْ بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ فلا أقلّ من أن يصيبكم بعضه إن تعرّضتم له.

و فيه مبالغة في التحذير، و إظهار للإنصاف و المداراة و التلطّف و عدم التعصّب، كقوله: وَ إِنَّا أَوْ إِيَّاكُمْ لَعَلى هُدىً أَوْ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ «1». فجاء بما علم أنّه أقرب إلى تسليمهم لقوله، و أدخل في تصديقهم له و قبولهم منه، و لذلك قدّم كونه كاذبا. ثمّ قال: «بَعْضُ الَّذِي يَعِدُكُمْ»، و لم يقل: يصبكم جميع الّذي يعدكم، مع أنّ موسى نبيّ صادق لا بدّ لما يعدهم أن يصيبهم كلّه. و المراد بالبعض: عذاب الدنيا، و هو بعض مواعيده. كأنّه خوّفهم بما هو أظهر احتمالا عندهم.

إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ كَذَّابٌ احتجاج ثالث. و

معناه: لو كان موسى مسرفا كذّابا لما هداه اللّه إلى ما يدّعي من النبوّة، و لما عضده بتلك المعجزات.

و يحتمل أن يكون معناه: أنّ من خذله اللّه و أهلكه و لم يستقم له أمر فلا حاجة لكم إلى قتله. و لعلّه أراد به المعنى الأوّل، و خيّل إليهم الثاني لتلين شكيمتهم، و عرّض به لفرعون بأنّه مسرف كذّاب لا يهديه اللّه سبيل الصواب و طريق النجاة. و يجوز أن يكون ذلك ابتداء كلام من اللّه تعالى.

______________________________

(1) سبأ: 24.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 135

[سورة غافر (40): الآيات 29 الى 35]

يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ فِي الْأَرْضِ فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ إِنْ جاءَنا قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ إِلاَّ ما أَرى وَ ما أَهْدِيكُمْ إِلاَّ سَبِيلَ الرَّشادِ (29) وَ قالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ (30) مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ وَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ (31) وَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ (32) يَوْمَ تُوَلُّونَ مُدْبِرِينَ ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ هادٍ (33)

وَ لَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ مِنْ قَبْلُ بِالْبَيِّناتِ فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍّ مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ حَتَّى إِذا هَلَكَ قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مُرْتابٌ (34) الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ وَ عِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا كَذلِكَ يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ (35)

ثمّ ذكّرهم مؤمن من آل فرعون ما هم فيه من الملك ليشكروا اللّه تعالى على ذلك بالإيمان به، فقال:

يا قَوْمِ لَكُمُ الْمُلْكُ الْيَوْمَ ظاهِرِينَ عالين على الناس غالبين فِي الْأَرْضِ

أرض مصر فَمَنْ يَنْصُرُنا مِنْ بَأْسِ اللَّهِ عذابه إِنْ جاءَنا أي: فلا تفسدوا

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 136

أمركم، و لا تعرّضوا لبأس اللّه بقتله، فإنّه إن جاءنا لم يمنعنا منه أحد. و إنّما أدرج نفسه في الضميرين، لأنّه كان منهم في القرابة، و ليريهم أنّه معهم و مساهمهم فيما ينصح لهم.

قالَ فِرْعَوْنُ ما أُرِيكُمْ ما أشير عليكم إِلَّا ما أَرى لنفسي، و أستصوبه من قتله وَ ما أَهْدِيكُمْ و ما أعلمكم إِلَّا سَبِيلَ الرَّشادِ إلّا ما علمت من طريق الصواب. و لا أدّخر منه شيئا، و لا أسرّ عنكم خلاف ما أظهر. يعني: أنّ قلبي و لساني متواطئان على ما أقول لكم. و قد كذب لعنه اللّه، فإنّه كان مستشعرا للخوف الشديد من جهة موسى، و لكنّه كان يتجلّد، و لولا استشعاره لم يستشر أحدا، و لم يقف الأمر على الإشارة.

وَ قالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ في تكذيبه. و التعرّض له مِثْلَ يَوْمِ الْأَحْزابِ مثل أيّام الأمم الماضية. يعني: وقائعهم. و جمع الأحزاب مع التفسير أغنى عن جمع اليوم، فإنّه لم يلبس أنّ كلّ حزب منهم كان له يوم دمار.

مِثْلَ دَأْبِ قَوْمِ نُوحٍ وَ عادٍ وَ ثَمُودَ مثل جزاء ما كانوا عليه دائبا- أي: دائما- من الكفر و إيذاء الرسل، و لا يفترون عنه ساعة وَ الَّذِينَ مِنْ بَعْدِهِمْ كقوم لوط عليه السّلام وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ يعني: أنّ تدميرهم كان عدلا و قسطا، فلا يعاقبهم بغير ذنب، و لا يخلّي الظالم منهم بغير انتقام. و هو أبلغ من قوله: وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ «1»، من حيث جعل المنفيّ إرادة الظلم، لأنّ من كان عن إرادة الظلم بعيدا كان عن

الظلم أبعد. و في هذا أوضح دليل على فساد قول المجبّرة القائلة بأنّ كلّ ظلم يكون في العالم فهو بإرادة اللّه تعالى.

ثمّ حذّرهم من عذاب الآخرة أيضا، فقال: وَ يا قَوْمِ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ يَوْمَ التَّنادِ يوم القيامة ينادي بعضهم بعضا للاستغاثة، أو يتصايحون بالويل و الثبور. أو

______________________________

(1) فصّلت: 46.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 137

يتنادى أصحاب الجنّة و أصحاب النار، كما حكى في الأعراف في قوله: وَ نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابَ النَّارِ «1» وَ نادى أَصْحابُ النَّارِ أَصْحابَ الْجَنَّةِ «2».

يَوْمَ تُوَلُّونَ عن الموقف مُدْبِرِينَ منصرفين عنه إلى النار. و قيل:

فارّين عنها. ما لَكُمْ مِنَ اللَّهِ مِنْ عاصِمٍ يعصمكم من عذابه وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ خذلانا و تخلية، لفرط عناده. أو عن طريق الجنّة. فَما لَهُ مِنْ هادٍ يهديه.

وَ لَقَدْ جاءَكُمْ يُوسُفُ بن يعقوب، على أنّ فرعونه فرعون موسى، أو على نسبة أحوال الآباء إلى الأولاد. أو سبطه يوسف بن إبراهيم بن يوسف بن يعقوب.

أقام فيهم نبيّا عشرين سنة. مِنْ قَبْلُ من قبل موسى بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات، فشككتم فيها فَما زِلْتُمْ فِي شَكٍ فلم تزالوا شاكّين كافرين مِمَّا جاءَكُمْ بِهِ من الدين حَتَّى إِذا هَلَكَ مات قُلْتُمْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ مِنْ بَعْدِهِ رَسُولًا ضمّا إلى تكذيب رسالته تكذيب رسالة من بعده. أو جزما بأن لا يبعث من بعده رسول مع الشكّ في رسالته، حكما من عند أنفسكم من غير برهان منكم على تكذيب الرسل.

كَذلِكَ مثل ذلك الضلال، أي: الخذلان يُضِلُّ اللَّهُ يخذل اللّه في العصيان لفرط العناد مَنْ هُوَ مُسْرِفٌ مفرط فيه مُرْتابٌ شاكّ فيما تشهد به البيّنات، لغلبة الوهم و الانهماك في التقليد.

الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بدل من الموصول الأوّل، لأنّه بمعنى الجمع، فكأنّه قال: كلّ

مسرف بِغَيْرِ سُلْطانٍ بغير حجّة، بل إمّا بتقليد أو بشبهة داحضة أَتاهُمْ كَبُرَ فيه ضمير «من». و إفراده للفظ، كما جمع البدل منه للمعنى. و ليس ببدع أن يحمل على اللفظ تارة، و على المعنى اخرى. مَقْتاً تمييز عِنْدَ اللَّهِ وَ عِنْدَ الَّذِينَ آمَنُوا و يجوز أن يكون مبتدأ خبره «كبر» على حذف مضاف، أي:

و جدال الّذين يجادلون كبر مقتا. أو خبره «بغير سلطان» و فاعل «كبر» كَذلِكَ

______________________________

(1) الأعراف: 44 و 50.

(2) الأعراف: 44 و 50.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 138

أي: كبر مقتا مثل ذلك الجدال. فيكون قوله: يَطْبَعُ اللَّهُ عَلى كُلِّ قَلْبِ مُتَكَبِّرٍ جَبَّارٍ استئنافا للدلالة على الموجب لجدالهم. و الطبع بمعنى الخذلان و التخلية، كما مرّ غير مرّة.

و قرأ أبو عمرو و ابن ذكوان: قلب بالتنوين، على وصفه بالتكبّر و التجبّر، لأنّه منبعهما، كقولهم: رأت عيني، و سمعت أذني. أو على حذف مضاف، أي: كلّ ذي قلب متكبّر.

[سورة غافر (40): الآيات 36 الى 40]

وَ قالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ ابْنِ لِي صَرْحاً لَعَلِّي أَبْلُغُ الْأَسْبابَ (36) أَسْبابَ السَّماواتِ فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً وَ كَذلِكَ زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَ صُدَّ عَنِ السَّبِيلِ وَ ما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلاَّ فِي تَبابٍ (37) وَ قالَ الَّذِي آمَنَ يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ سَبِيلَ الرَّشادِ (38) يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ وَ إِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ (39) مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلاَّ مِثْلَها وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ (40)

ثمّ بيّن سبحانه ما موّه به فرعون على قومه، لمّا وعظه المؤمن، و خوّفه من قتل موسى، و انقطعت حجّته، فقال:

وَ قالَ فِرْعَوْنُ يا هامانُ

ابْنِ لِي صَرْحاً بناء مكشوفا عاليا مشيّدا بالآجرّ.

من: صرح الشي ء إذا ظهر، أي: بناء ظاهرا لا يخفى على الناظر. لَعَلِّي أَبْلُغُ

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 139

الْأَسْبابَ الطرق. و كلّ ما أوصلك إلى شي ء فهو سبب إليه.

أَسْبابَ السَّماواتِ بيان لها. و في إبهامها ثمّ إيضاحها تفخيم لشأنها، و تشويق للسامع إلى معرفتها، فإنّه لمّا كان بلوغها أمرا عجيبا، أراد أن يورده على نفس متشوّفة «1» إليه، ليعطيه السامع حقّه من التعجّب، فأبهمه ليشوّف إليه نفس هامان.

ثمّ أوضحه فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى عطف على «أبلغ». و قرأ حفص بالنصب، على جواب الترجّي. و لعلّه أراد أن يبني له رصدا في موضع عال، يرصد منه أحوال الكواكب، الّتي هي أسباب سماويّة تدلّ على الحوادث الأرضيّة، فيرى هل فيها ما يدلّ على إرسال اللّه إيّاه؟! أو أن يرى فساد قول موسى، بأنّ إخباره من إله السماء يتوقّف على اطّلاعه و وصوله إليه، و ذلك لا يتأتّى إلّا بالصعود إلى السماء، و هو ممّا لا يقوى عليه الإنسان. و ذلك لجهله باللّه، و كيفيّة استنبائه.

وَ إِنِّي لَأَظُنُّهُ كاذِباً في دعوى الرسالة وَ كَذلِكَ و مثل ذلك التزيين زُيِّنَ لِفِرْعَوْنَ سُوءُ عَمَلِهِ وَ صُدَّ عَنِ السَّبِيلِ سبيل الرشاد. و مزيّنه هو الشيطان بوسوسته، كقوله: وَ زَيَّنَ لَهُمُ الشَّيْطانُ أَعْمالَهُمْ فَصَدَّهُمْ عَنِ السَّبِيلِ «2». أو اللّه على وجه التخلية، فإنّه مكّن الشيطان و أمهله. و مثله: زَيَّنَّا لَهُمْ أَعْمالَهُمْ فَهُمْ يَعْمَهُونَ «3».

و قرأ الحجازيّان و الشامي و أبو عمرو: و صدّ، على أنّ فرعون صدّ الناس عن الهدى بأمثال هذه التمويهات و الشبهات. و يؤيّده وَ ما كَيْدُ فِرْعَوْنَ إِلَّا فِي تَبابٍ

______________________________

(1) تشوّف إلى الشي ء: تطلّع إليه.

(2) النمل: 24 و 4.

(3)

النمل: 24 و 4.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 140

في خسار و هلاك.

ثمّ عاد الكلام إلى ذكر نصيحة مؤمن آل فرعون، فقال: وَ قالَ الَّذِي آمَنَ يعني: مؤمن آل فرعون. و قيل: موسى عليه السّلام. يا قَوْمِ اتَّبِعُونِ أَهْدِكُمْ بالدلالة سَبِيلَ الرَّشادِ سبيلا يصل سالكه إلى المقصود.

و فيه تعريض بأنّ ما عليه فرعون و قومه سبيل الغيّ. و تكرّر النداء لزيادة تنبيه لهم، و إيقاظ عن سنة الغفلة، و أنّهم قومه و عشيرته، و هم فيما يوبقهم، و هو يعلم وجه خلاصهم، و نصيحتهم عليه واجبة، فهو يتحزّن لهم و يتلطّف بهم، و يستدعي بذلك أن لا يتّهموه، و أن يتنبّهوا على أنّ سرورهم سروره، و غمّهم غمّه، و ينزلوا على تنصيحه لهم. كما كرّر إبراهيم عليه السّلام في نصيحة أبيه: يا أَبَتِ «1».

فلأجل ذلك كرّر النداء مرّة اخرى بقوله: يا قَوْمِ إِنَّما هذِهِ الْحَياةُ الدُّنْيا مَتاعٌ تمتّع يسير، لسرعة زوالها.

ثمّ ذكّرهم تعظيم الآخرة و الاطّلاع على حقيقتها، و أنّها هي الوطن الحقيقي و المستقرّ الأصلي. و ذكر الأعمال سيّئها و حسنها، و عاقبة كلّ منهما، ليثبّط عمّا يتلف، و ينشط لما يزلف، فقال:

وَ إِنَّ الْآخِرَةَ هِيَ دارُ الْقَرارِ لخلودها مَنْ عَمِلَ سَيِّئَةً فَلا يُجْزى إِلَّا مِثْلَها عدلا من اللّه. و فيه دليل على أنّ الجنايات تغرم بمثلها. وَ مَنْ عَمِلَ صالِحاً مِنْ ذَكَرٍ أَوْ أُنْثى وَ هُوَ مُؤْمِنٌ فَأُولئِكَ يَدْخُلُونَ الْجَنَّةَ يُرْزَقُونَ فِيها بِغَيْرِ حِسابٍ بغير تقدير و موازنة بالعمل، بل أضعافا مضاعفة، فضلا منه و رحمة. و تقسيم العمّال، و جعل الجزاء جملة اسميّة مصدّرة باسم الاشارة، و تفضيل الثواب، لتغليب الرحمة. و جعل العمل عمدة و الإيمان حالا، للدلالة على أنّه شرط في اعتبار

العمل، و أنّ ثوابه أعلى من ذلك.

______________________________

(1) مريم: 42- 45.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 141

[سورة غافر (40): الآيات 41 الى 46]

وَ يا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ وَ تَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ (41) تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ وَ أُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ عِلْمٌ وَ أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ (42) لا جَرَمَ أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَ لا فِي الْآخِرَةِ وَ أَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ وَ أَنَّ الْمُسْرِفِينَ هُمْ أَصْحابُ النَّارِ (43) فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ (44) فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا وَ حاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ سُوءُ الْعَذابِ (45)

النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ أَشَدَّ الْعَذابِ (46)

ثمّ وازى بين الدعوتين: دعوته إلى دين اللّه الّذي ثمرته النجاة، و دعوتهم إلى اتّخاذ الأنداد الّذي عاقبته النار، فقال:

وَ يا قَوْمِ ما لِي أَدْعُوكُمْ إِلَى النَّجاةِ من النار بالإيمان باللّه وَ تَدْعُونَنِي إِلَى النَّارِ إلى الشرك الّذي يوجب النار. وبّخهم بذلك على ما يقابلون به نصحه.

و عطفه على النداء الثاني، لأنّه داخل على ما هو بيان لما قبله. و لم يعطف الثاني على الأوّل، لأنّ ما بعده أيضا تفسير لما أجمل فيه تصريحا أو تعريضا.

تَدْعُونَنِي لِأَكْفُرَ بِاللَّهِ بدل أو بيان فيه تعليل. و الدعاء كالهداية في التعدية ب «إلى» و اللام. فيقال: دعاه إلى كذا و دعا له، كما يقال: هداه إلى الطريق و هدى له.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 142

وَ أُشْرِكَ بِهِ ما لَيْسَ لِي بِهِ بربوبيّته عِلْمٌ المراد بنفي العلم نفي المعلوم. كأنّه قال: و أشرك به ما ليس بإله، و ما ليس بإله كيف يصحّ أن يعلم إلها. و فيه إشعار

بأنّ الألوهيّة لا بدّ لها من برهان، فاعتقادها لا يصحّ إلّا عن إيقان. وَ أَنَا أَدْعُوكُمْ إِلَى الْعَزِيزِ الْغَفَّارِ المستجمع لصفات الألوهيّة، من كمال القدرة و الغلبة، و ما يتوقّف عليه من العلم و الإرادة، و التمكّن من المجازاة، و القدرة على التعذيب و الغفران.

لا جَرَمَ لا ردّ لما دعاه إليه قومه. و «جرم» فعل بمعنى: حقّ، و فاعله أَنَّما تَدْعُونَنِي إِلَيْهِ لَيْسَ لَهُ دَعْوَةٌ فِي الدُّنْيا وَ لا فِي الْآخِرَةِ أي: حقّ و وجب عدم دعوة آلهتكم إلى عبادتها أصلا، لأنّها جمادات ليس لها ما يقتضي ألوهيّتها. أو عدم دعوة مستجابة. أو عدم استجابة دعوة لها.

و قيل: «جرم» بمعنى: كسب، من قوله تعالى: وَ لا يَجْرِمَنَّكُمْ شَنَآنُ قَوْمٍ أَنْ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أَنْ تَعْتَدُوا «1». و فاعله مستكن في «تدعونني» أي:

كسب ذلك الدعاء إليه أن لا دعوة له. بمعنى: ما حصل من ذلك إلّا ظهور بطلان دعوته.

و قيل: «لا جرم» نظير: لا بدّ، فعل من الجرم بمعنى القطع، كما أنّ بدّا فعل من التبديد، و هو التفريق. و المعنى: لا قطع لبطلان دعوى ألوهيّة الأصنام، أي: لا تزال باطلة، لا ينقطع ذلك في وقت مّا فينقلب حقّا. و يؤيّده قولهم: لا جرم أنّه يفعل، فإنّه لغة فيه، كالرشد و الرشد.

وَ أَنَّ مَرَدَّنا إِلَى اللَّهِ أي: وجب أنّ مرجعنا و مصيرنا إلى اللّه بالموت، فيجازي كلّا بما يستحقّه وَ أَنَّ الْمُسْرِفِينَ و وجب أنّ المسرفين في الضلالة و الطغيان، كالإشراك و سفك الدماء. و قيل: الّذين غلب شرّهم خيرهم. هُمْ أَصْحابُ النَّارِ ملازموها.

______________________________

(1) المائدة: 2.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 143

ثمّ قال لهم على وجه التخويف و الوعظ: فَسَتَذْكُرُونَ ما أَقُولُ لَكُمْ صحّة ما أقول لكم

من النصيحة إذا حصلتم في العذاب بكفركم. ثمّ أظهر إيمانه بقوله:

وَ أُفَوِّضُ أَمْرِي إِلَى اللَّهِ ليعصمني من كلّ سوء. و الأمر: اسم جنس. إِنَّ اللَّهَ بَصِيرٌ بِالْعِبادِ عالم بأحوالهم و بما يفعلونه من الطاعة و المعصية.

و هذا جواب توعّدهم المفهوم من قوله: فَوَقاهُ اللَّهُ سَيِّئاتِ ما مَكَرُوا صرف اللّه عنه شدائد مكرهم، و ما همّوا به من إلحاق أنواع العذاب بمن خالفهم، فنجا مع موسى حتّى عبر البحر وَ حاقَ بِآلِ فِرْعَوْنَ بفرعون و قومه. و استغنى بذكرهم عن ذكره، للعلم بأنّه أولى بذلك. و قيل: بطلبة المؤمن من قومه، فإنّه فرّ إلى جبل، فبعث فرعون بطائفة فوجدوه يصلّي و الوحوش صفوف حوله، فرجعوا رعبا، فقتلهم.

سُوءُ الْعَذابِ الغرق، أو القتل، أو النار.

النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها غُدُوًّا وَ عَشِيًّا جملة مستأنفة. أو «النار» خبر محذوف، و «يعرضون» استئناف للبيان. أو بدل من «سوء العذاب»، و «يعرضون» حال من النار، أو من الآل. و المراد بعرضهم على النار إحراقهم بها. من قولهم:

عرض الأسارى على السيف إذا قتلوا به. و ذلك لأرواحهم، كما روى ابن مسعود:

أنّ أرواحهم في أجواف طيور سود، تعرض على النار بكرة و عشيّا إلى يوم القيامة.

و ذكر الوقتين يحتمل التخصيص و التأبيد. و فيه دليل على بقاء النفس و عذاب القبر.

و

عن نافع، عن ابن عمر أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «إنّ أحدكم إذا مات عرض عليه مقعده بالغداة و العشيّ، إن كان من أهل الجنّة فمن الجنّة، و إن كان من أهل النار فمن النار. فيقال: هذا مقعدك حتّى يبعثك اللّه يوم القيامة». أورده البخاري «1» و مسلم في الصحيح. و قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: ذلك في البرزخ.

وَ

يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ أي: هذا ما دامت الدنيا، فإذا قامت الساعة قيل لهم:

______________________________

(1) صحيح البخاري 2: 124. صحيح مسلم 4: 2199 ح 65.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 144

أَدْخِلُوا آلَ فِرْعَوْنَ يا آل فرعون «1» أَشَدَّ الْعَذابِ عذاب جهنّم، فإنّه أشدّ ممّا كانوا فيه. أو أشدّ عذاب جهنّم.

و قرأ نافع و حمزة و الكسائي و يعقوب و حفص: أدخلوا، على أمر الملائكة بإدخالهم النار.

[سورة غافر (40): الآيات 47 الى 52]

وَ إِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ (47) قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌّ فِيها إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ (48) وَ قالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً مِنَ الْعَذابِ (49) قالُوا أَ وَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا بَلى قالُوا فَادْعُوا وَ ما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلاَّ فِي ضَلالٍ (50) إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ (51)

يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ وَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ (52)

ثمّ ذكر سبحانه ما يجري بين أهل النار من الحجاج، فقال: وَ إِذْ يَتَحاجُّونَ فِي النَّارِ و اذكر لقومك وقت تخاصمهم فيها. و يحتمل عطفه على «غدوّا».

ثمّ فصّل التخاصم بقوله: فَيَقُولُ الضُّعَفاءُ و هم الأتباع لِلَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا و هم الرؤساء إِنَّا كُنَّا لَكُمْ تَبَعاً أتباعا، كخدم جمع خادم. أو ذوي

______________________________

(1) هذا التفسير على قراءة: ادخلوا.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 145

تبع، على إضمار مضاف، بمعنى: أتباع. أو وصف بالمصدر تجوّزا. فَهَلْ أَنْتُمْ مُغْنُونَ عَنَّا نَصِيباً مِنَ النَّارِ بالدفع أو الحمل، فإنّه يلزم الرئيس الدفع أو الحمل عن أتباعه و المنقادين لأمره. و «نصيبا» مفعول به لما دلّ عليه «مغنون عنّا»

من معنى الدفع أو الحمل. أو مصدر، كشيئا في قوله: لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً «1». و «من» صلة «مغنون».

قالَ الَّذِينَ اسْتَكْبَرُوا إِنَّا كُلٌ التنوين عوض عن المضاف إليه. و التقدير:

كلّنا. يعني: نحن و أنتم. فِيها في النّار، فكيف نغني عنكم؟! و لو قدرنا لأغنينا عن أنفسنا. و «كلّ فيها» مبتدأ و خبر في موضع رفع بأنّه خبر «إنّ». و المعنى: إنّا مجتمعون في النار. إِنَّ اللَّهَ قَدْ حَكَمَ بَيْنَ الْعِبادِ بأن أدخل أهل الجنّة الجنّة، و أهل النار النار، و لا معقّب لحكمه. أو بأن لا يتحمّل أحد عن أحد، و أنّه يعاقب من أشرك به و عبد معه غيره لا محالة.

وَ قالَ الَّذِينَ فِي النَّارِ أي: المتبوعون و الأتباع لِخَزَنَةِ جَهَنَّمَ لقوّام تعذيب أهل النار. و وضع جهنّم موضع الضمير للتهويل، أو لبيان محلّهم فيها، إذ يحتمل أن تكون جهنّم أبعد دركاتها قعرا، من قولهم: بئر جهنّام بعيدة القعر، و فيها أعتى الكفّار و أطغاهم، فلعلّ الملائكة الموكّلين بعذاب أولئك أقرب إجابة للدعوة، لزيادة قربهم من اللّه، فلهذا تعمّدهم أهل النار بطلب الدعوة منهم. ادْعُوا رَبَّكُمْ يُخَفِّفْ عَنَّا يَوْماً قدر يوم مِنَ الْعَذابِ شيئا من العذاب. و يجوز أن يكون المفعول «يوما» بحذف المضاف، و «من العذاب» بيانه.

قالُوا أَ وَ لَمْ تَكُ تَأْتِيكُمْ رُسُلُكُمْ بِالْبَيِّناتِ أي: بالحجج و الدلالات الواضحة على صحّة التوحيد و النبوّات. أرادوا به إلزامهم للحجّة، و توبيخهم على إضاعتهم أوقات الدعاء، و تعطيلهم أسباب الإجابة.

______________________________

(1) آل عمران: 10.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 146

قالُوا بَلى جاءتنا الرسل و البيّنات، فكذّبناهم و جحدنا نبوّتهم.

قالُوا فَادْعُوا أنتم فإنّا لا نجترئ فيه، أو لم يؤذن لنا في الدعاء لأمثالكم.

و

فيه إقناط لهم عن الإجابة، و دلالة على الخيبة، فإنّ الملك المقرّب إذا لم يسمع دعاؤه فكيف يسمع دعاء الكافر؟! كما قال: وَ ما دُعاءُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ في ضياع لا يجاب.

إِنَّا لَنَنْصُرُ رُسُلَنا وَ الَّذِينَ آمَنُوا بالحجّة و الظفر و النصرة و الغلبة، و الانتقام لهم من الكفرة فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ يَوْمَ يَقُومُ الْأَشْهادُ أي: في الدارين، و إن غلبوا في الدنيا في بعض الأحيان امتحانا من اللّه، فالعاقبة لهم، فإنّه يتيح اللّه من يقتصّ من أعدائهم، كما نصر يحيى بن زكريّا- لمّا قتل- حين قتل به سبعون ألفا. فهم لا محالة منصورون في الدنيا. و الأشهاد جمع شاهد، كصاحب و أصحاب. و المراد بهم من يقوم يوم القيامة للشهادة على الناس، من الملائكة و الأنبياء و المؤمنين.

ثمّ أخبر سبحانه عن ذلك اليوم بقوله: يَوْمَ لا يَنْفَعُ الظَّالِمِينَ مَعْذِرَتُهُمْ بدل من الأوّل. و عدم نفع المعذرة لأنّها باطلة، أو لأنّه لم يؤذن لهم فيعتذروا. و قرأ غير الكوفيّين و نافع بالتاء. وَ لَهُمُ اللَّعْنَةُ البعد من الرحمة وَ لَهُمْ سُوءُ الدَّارِ سوء دار الآخرة. و هو عذابها.

[سورة غافر (40): الآيات 53 الى 55]

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْهُدى وَ أَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ (53) هُدىً وَ ذِكْرى لِأُولِي الْأَلْبابِ (54) فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكارِ (55)

ثمّ ذكر حسن عاقبة موسى و قومه و نجاتهم من فرعون، فقال: وَ لَقَدْ

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 147

آتَيْنا مُوسَى الْهُدى ما يهتدي به في الدين، من المعجزات و صحف التوراة و الشرائع، بعد استئصال آل فرعون وَ أَوْرَثْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ و تركنا عليهم بعده ذلك التوراة هُدىً هداية يعرفون بها معالم دينهم

وَ ذِكْرى و تذكرة لهم بها و عبرة. أو هاديا و مذكّرا. لِأُولِي الْأَلْبابِ لذوي العقول السليمة.

ثمّ أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالصبر على تحمّل أذى قومه، فإنّ الصبر مفتاح الفرج، و لكلّ عسر يسر، و لكلّ نازلة حسن عاقبة، كعواقب أمور موسى بعد تحمّل المشاقّ من آل فرعون، فقال:

فَاصْبِرْ على أذى المشركين في تكذيبهم إيّاك إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بنصرة الرسل حَقٌ واجب عليه ثابت لا يخلفه. و استشهد بموسى و ما آتاه من أسباب الهدى و النصرة على فرعون و جنوده، و إبقاء آثار هداه في بني إسرائيل. فاللّه ناصرك كما نصرهم، و مظهرك على الدين كلّه، و مبلغ ملك أمّتك مشارق الأرض و مغاربها.

وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ و أقبل على أمر دينك، و تدارك فرطاتك- كترك الأولى- بالاستغفار، فإنّه تعالى كافيك في النصر و إظهار الأمر. و مثل هذا تعبّد من اللّه سبحانه لنبيّه، لكي يزيد في الدرجات، و ليصير سنّة لمن بعده. وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ بِالْعَشِيِّ وَ الْإِبْكارِ و دم على التسبيح و التحميد لربّك. و قيل: من زوال الشمس إلى الليل، و من طلوع الفجر إلى طلوع الشمس. و عن ابن عبّاس: يريد الصلوات الخمس. و قيل: صلّ لهذين الوقتين، إذ كان الواجب بمكّة ركعتين بكرة و ركعتين عشيّا.

و

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «قال اللّه عزّ و جل: يا ابن آدم اذكرني بعد الغداة ساعة، و بعد العصر ساعة، أكفك ما أهمّك».

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 148

[سورة غافر (40): الآيات 56 الى 60]

إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ بِغَيْرِ سُلْطانٍ أَتاهُمْ إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلاَّ كِبْرٌ ما هُمْ بِبالِغِيهِ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (56)

لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (57) وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ لا الْمُسِي ءُ قَلِيلاً ما تَتَذَكَّرُونَ (58) إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ (59) وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ (60)

إِنَّ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ في دفعها بِغَيْرِ سُلْطانٍ بغير حجّة أَتاهُمْ عامّ في كلّ مجادل مبطل، و إن نزلت في مشركي مكّة و اليهود حين قالوا:

سيخرج صاحبنا المسيح بن داود- يريدون الدجّال- و يبلغ سلطانه البرّ و البحر، و تسير معه الأنهار، و هو آية من آيات اللّه، فيرجع إلينا الملك. فسمّى اللّه تمنّيهم ذلك كبرا، و نفى أن يبلغوا متمنّاهم، و قال: إِنْ فِي صُدُورِهِمْ إِلَّا كِبْرٌ إلّا تكبّر عن الحقّ، و تعظّم عن التفكّر و التعلّم. أو إرادة التقدّم و الرئاسة. ما هُمْ بِبالِغِيهِ ببالغي موجب الكبر و مقتضيه. و هو الرئاسة أو النبوّة. أو ببالغي دفع الآيات.

فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ فالتجئ إليه من كيد من يحسدك و يبغي عليك إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ بما تعمل و يعملون. فهو ناصرك عليهم، و عاصمك من شرّهم.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 149

و لمّا كانت مجادلتهم في آيات اللّه مشتملة على إنكار البعث، و هو أصل المجادلة و مدار المخاصمة، فاحتجّ بخلق السماوات و الأرض، لأنّهم كانوا مقرّين بأنّ اللّه خالقهما، فقال:

لَخَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أَكْبَرُ مِنْ خَلْقِ النَّاسِ فمن قدر على خلقهما مع عظمهما من غير أصل، و وقوفهما بغير عمد، قدر على خلق الإنسان مع مهانته وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لأنّهم لا

ينظرون و لا يتأمّلون، لفرط غفلتهم و اتّباعهم أهواءهم. يعني: أنّهم إذا أقرّوا بأنّ اللّه تعالى خلق السماوات و الأرض، فكيف أنكروا قدرته على إحياء الموتى؟! و لكنّهم أعرضوا عن التدبّر، فحلّوا محلّ الجاهل الّذي لا يعلم شيئا.

وَ ما يَسْتَوِي الْأَعْمى وَ الْبَصِيرُ الغافل المتكبّر و العاقل المستبصر، أي: لا يستوي من أهمل نفسه و من تفكّر فعرف الحقّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ لَا الْمُسِي ءُ أي: المحسن و المسي ء، في الكرامة و الإهانة، و الهدى و الضلال. فينبغي أن يكون لهم حال يظهر فيها التفاوت، و هي فيما بعد البعث.

و زيادة لفظة «لا» في «المسي ء» لأنّ المقصود نفي مساواة المسي ء للمحسن فيما له من الفضل و الكرامة. و العاطف الثاني عطف الموصول بما عطف عليه على الأعمى و البصير، لتغاير الوصفين في المقصود، أو الدلالة بالصراحة و التمثيل.

قَلِيلًا ما تَتَذَكَّرُونَ أي: تذكّرا قليلا يتذكّرون. أو قليلا تذكّرهم. و الضمير للناس، أو الكفّار. و قرأ الكوفيّون بالتاء، على تغليب المخاطب، أو الالتفات، أو أمر الرسول بالمخاطبة.

إِنَّ السَّاعَةَ لَآتِيَةٌ لا رَيْبَ فِيها لا شكّ في مجيئها، لوضوح الدلالة على جوازها، و إجماع الرسل على الوعد بوقوعها وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يُؤْمِنُونَ لا يصدّقون بها، لقصور نظرهم على ظاهر ما يحسّون به.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 150

وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي اعبدوني. و عن الحسن- و قد سئل عنها-: اعملوا و أبشروا، فإنّه حقّ على اللّه أن يستجيب للّذين آمنوا و عملوا الصالحات، و يزيدهم من فضله.

و عن الثوري أنّه قيل له: ادع اللّه. فقال: إنّ ترك الذنوب هو الدعاء.

و

في الحديث: «إذا شغل عبدي طاعتي عن الدعاء، أعطيته أفضل ما أعطي السائلين».

و

عن النعمان بن بشير عن

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «الدعاء هو العبادة. ثمّ قرأ:

«وَ قالَ رَبُّكُمُ ادْعُونِي».

أَسْتَجِبْ لَكُمْ أثب لكم لقوله: إِنَّ الَّذِينَ يَسْتَكْبِرُونَ عَنْ عِبادَتِي سَيَدْخُلُونَ جَهَنَّمَ داخِرِينَ صاغرين. و قرأ ابن كثير و أبو بكر بضمّ الياء و فتح الخاء.

و عن ابن عبّاس: وحّدوني أغفر لكم. و هذا تفسير للدعاء بالعبادة، ثمّ للعبادة بالتوحيد.

و يجوز أن يريد الدعاء و الاستجابة على ظاهرهما، و يريد ب «عبادتي» دعائي، لأنّ الدعاء باب من العبادة، و من أفضل أبوابها. و يصدّقه قول ابن عبّاس:

«أفضل العبادة الدعاء». و على هذا؛ استجابته مشروط باقتضاء المصلحة.

و عن كعب: أعطى اللّه هذه الأمّة ثلاث خلال لم يعطهنّ إلّا نبيّا مرسلا. كان يقول لكلّ نبيّ: أنت شاهدي على خلقي. و قال لهذه الأمّة: لِتَكُونُوا شُهَداءَ عَلَى النَّاسِ «1». و كان يقول: ما عليك من حرج. و قال لها: ما يُرِيدُ اللَّهُ لِيَجْعَلَ عَلَيْكُمْ مِنْ حَرَجٍ «2». و كان يقول: ادعني أستجب لك. و قال لها: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ».

و على القول الأخير؛ الآية دالّة على عظم قدر الدعاء عند اللّه تعالى، و على

______________________________

(1) البقرة: 143.

(2) المائدة: 6.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 151

فضل الانقطاع إليه. و

قد روي عن معاوية بن عمّار قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام:

جعلني اللّه فداك ما تقول في رجلين دخلا المسجد جميعا، كان أحدهما أكثر صلاة، و الآخر أكثر دعاء، فأيّهما أفضل؟ قال: كلّ حسن. قلت: قد علمت، و لكن أيّهما أفضل؟ قال: أكثرهما دعاء. أما تسمع قول اللّه تعالى: «ادْعُونِي أَسْتَجِبْ لَكُمْ» إلى آخر الآية. و قال: هي العبادة الكبرى».

و

روى زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام أيضا في هذه الآية قال: «هو الدعاء. و أفضل العبادة الدعاء».

و

روى

حنان بن سدير، عن أبيه، قال: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: أيّ العبادة أفضل؟ قال: ما من شي ء أحبّ إلى اللّه من أن يسأل و يطلب ما عنده. و ما أحد أبغض إلى اللّه عزّ و جلّ ممّن يستكبر عن عبادته، و لا يسأل ما عنده.»

[سورة غافر (40): الآيات 61 الى 63]

اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ لِتَسْكُنُوا فِيهِ وَ النَّهارَ مُبْصِراً إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ (61) ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ (62) كَذلِكَ يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ (63)

ثمّ ذكر ما يدلّ على توحيده، فقال: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ اللَّيْلَ و هو ما بين غروب الشمس إلى طلوع الفجر الثاني لِتَسْكُنُوا فِيهِ لتستريحوا فيه، بأن خلقه باردا مظلما ليؤدّي إلى ضعف المحرّكات و هدوء الحواسّ وَ النَّهارَ مُبْصِراً أي:

مضيئا تبصرون فيه مواضع حاجاتكم. و إسناد الإبصار إلى النهار مجاز، لأنّ الإبصار في الحقيقة لأهل النهار، فعدل إلى المجاز مبالغة، و لذلك لم يقل: لتبصروا

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 152

فيه، ليقابل قوله: «لتسكنوا».

إِنَّ اللَّهَ لَذُو فَضْلٍ عَلَى النَّاسِ لا يوازيه فضل. و للإشعار بهذا المعنى- الّذي هو مفاد تنكير الفضل- لم يقل: لمفضّل أو لمتفضّل. وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَشْكُرُونَ لجهلهم بالمنعم، و إغفالهم مواقع النعم. و تكرير الناس، و عدم الاكتفاء بالضمير، لتخصيص الكفران بالناس، كقوله: إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ «1». إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ «2». إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ «3».

ذلِكُمُ المخصوص بهذه الأفعال المقتضية للألوهيّة و الربوبيّة اللَّهُ رَبُّكُمْ خالِقُ كُلِّ شَيْ ءٍ من السماوات و الأرض و ما بينهما لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أخبار مترادفة تخصّص اللاحقة السابقة و تقرّرها، أي: هو الجامع لهذه

الأوصاف، من الإلهيّة و الربوبيّة، و خلق كلّ شي ء و إنشائه بحيث لا يمتنع عليه شي ء، و الوحدانيّة الّتي لا ثاني له فَأَنَّى تُؤْفَكُونَ فكيف و من أيّ وجه تصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره، مع وضوح الدلالة على توحيده؟! كَذلِكَ مثل ما أفك و صرف هؤلاء يُؤْفَكُ الَّذِينَ كانُوا بِآياتِ اللَّهِ يَجْحَدُونَ أي: يؤفك عن الحقّ كلّ من جحد بآيات اللّه و لم يتأمّلها، و لم يكن همّه طلب الحقّ و خشية العاقبة. و هم من تقدّمهم من أكابرهم و رؤسائهم، فإنّهم هم الّذين صرفوهم عن الحقّ.

[سورة غافر (40): الآيات 64 الى 68]

اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَ السَّماءَ بِناءً وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (64) هُوَ الْحَيُّ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَادْعُوهُ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ (65) قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي وَ أُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (66) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلاً ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ وَ لِتَبْلُغُوا أَجَلاً مُسَمًّى وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (67) هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ فَإِذا قَضى أَمْراً فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ (68)

______________________________

(1) الحجّ: 66.

(2) العاديات: 6.

(3) إبراهيم: 34.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 153

ثمّ ذكر سبحانه استدلالا آخر بأفعال أخر مخصوصة على توحيده، فقال:

اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ قَراراً وَ السَّماءَ بِناءً أي: قبّة. و منه: أبنية العرب لمضاربهم، لأنّ السماء في منظر العين كقبّة مضروبة على وجه الأرض. وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ بأن خلقكم منتصبي القامة، بادي البشرة، متناسبي الأعضاء

و التخطيطات، متهيّئين لمزاولة الصنائع و اكتساب الكمالات. قيل لم يخلق حيوانا أحسن صورة من الإنسان.

و عن ابن عبّاس: خلق ابن آدم قائما معتدلا، يأكل بيده، و يتناول بيده، و كلّ ما خلق اللّه غيره يتناول بفيه.

وَ رَزَقَكُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ اللذائذ، فإنّه ليس شي ء من الحيوان له طيّبات المآكل و المشارب مثل ما خلق اللّه سبحانه لابن آدم، فإنّ أنواع اللذّات و الطيّبات الّتي خلقها اللّه تعالى لهم- من الثمار و فنون النبات و اللحوم و غير ذلك- ممّا لا

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 154

يحصى كثرة.

ذلِكُمُ أي: فاعل هذه الأشياء اللَّهُ رَبُّكُمْ فَتَبارَكَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ فإنّ كلّ ما سواه مربوب؛ مفتقر بالذات، معرض للزوال.

هُوَ الْحَيُ المتفرّد بالحياة الذاتيّة لا إِلهَ إِلَّا هُوَ إذ لا موجود يساويه أو يدانيه في ذاته و صفاته فَادْعُوهُ فاعبدوه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ أي: الطاعة، من الشرك و الرياء. قائلين الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعالَمِينَ عن ابن عبّاس: من قال لا إله إلّا اللّه فليقل على أثرها: الحمد للّه ربّ العالمين.

قُلْ إِنِّي نُهِيتُ أَنْ أَعْبُدَ الَّذِينَ تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ لَمَّا جاءَنِي الْبَيِّناتُ مِنْ رَبِّي من الحجج العقليّة و الآيات السمعيّة، فإنّها مقوّية لأدلّة العقل، و مؤكّدة لها، و مضمّنة ذكرها، نحو قوله تعالى: أَ تَعْبُدُونَ ما تَنْحِتُونَ وَ اللَّهُ خَلَقَكُمْ وَ ما تَعْمَلُونَ «1». و أشباه ذلك من التنبيهات على أدلّة العقل. و لا شبهة أنّ تناصر الأدلّة العقليّة و السمعيّة أقوى في إبطال مذهبهم، و إن كانت أدلّة العقل وحدها كافية.

وَ أُمِرْتُ أَنْ أُسْلِمَ لِرَبِّ الْعالَمِينَ أن أنقاد له. أو أخلص له ديني.

هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ تُرابٍ ثُمَّ مِنْ نُطْفَةٍ ثُمَّ مِنْ عَلَقَةٍ ثُمَّ يُخْرِجُكُمْ طِفْلًا أطفالا.

و التوحيد لإرادة الجنس،

أو على تأويل كلّ واحد منكم ثُمَّ لِتَبْلُغُوا أَشُدَّكُمْ يتعلّق اللام فيه بمحذوف تقديره: ثمّ يبقيكم لتبلغوا. و كذا في قوله: ثُمَّ لِتَكُونُوا شُيُوخاً و يجوز عطفه على «لتبلغوا». و قرأ نافع و أبو عمرو و حفص و هشام:

شيوخا بضمّ الشين. وَ مِنْكُمْ مَنْ يُتَوَفَّى مِنْ قَبْلُ من قبل الشيخوخة. أو قبل بلوغ الأشدّ. أو من قبل هذه الأحوال إذا خرج سقطا. وَ لِتَبْلُغُوا أي: و يفعل ذلك لتبلغوا أَجَلًا مُسَمًّى هو وقت الموت. و قيل: يوم القيامة. وَ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ ما في ذلك من الحجج و العبر.

هُوَ الَّذِي يُحْيِي وَ يُمِيتُ يحييكم و يميتكم. فأوّلكم من تراب، و آخركم إلى

______________________________

(1) الصافّات: 95- 96.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 155

تراب. فَإِذا قَضى أَمْراً فإذا أراده فَإِنَّما يَقُولُ لَهُ كُنْ فَيَكُونُ فإنّما يكوّنه من غير كلفة و لا معاناة، و لا مدّة و لا عدّة، و من غير أن يتعذّر بل يتعسّر عليه. فهو بمنزلة ما يقال له: كن فيكون، لأنّه سبحانه يخاطب المعدوم بالتكوّن. و الفاء الأولى للدلالة على أنّ ذلك نتيجة ما سبق من قدرته على الإحياء و الإماتة، و سائر أفعاله المحكمة المتقنة، من حيث إنّه يقتضي قدرة ذاتيّة غير متوقّفة على العدد و الموادّ.

كأنّه قال: فلذلك الاقتدار الذاتي إذا قضى أمرا كان أهون شي ء و أسرعه.

[سورة غافر (40): الآيات 69 الى 76]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ أَنَّى يُصْرَفُونَ (69) الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ وَ بِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (70) إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ وَ السَّلاسِلُ يُسْحَبُونَ (71) فِي الْحَمِيمِ ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ (72) ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ (73)

مِنْ دُونِ اللَّهِ قالُوا ضَلُّوا عَنَّا بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ

شَيْئاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ (74) ذلِكُمْ بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ بِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ (75) ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ (76)

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِ اللَّهِ في إبطالها و دفعها أَنَّى يُصْرَفُونَ أين يقلبون عن التصديق به؟ و لو كانوا يخاصمون في آيات اللّه بالنظر في صحّتها و الفكر فيها، لما ذمّهم اللّه تعالى. و كرّر «1» ذمّ المجادلة لتعدّد المجادل، أو

______________________________

(1) في الآية 35 و 56 و 69.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 156

المجادل فيه، أو للتوكيد.

ثمّ وصفهم بالتكذيب فقال: الَّذِينَ كَذَّبُوا بِالْكِتابِ بالقرآن، أو بجنس الكتب السماويّة وَ بِما أَرْسَلْنا بِهِ رُسُلَنا من سائر الكتب، أو الوحي و الشرائع فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ جزاء تكذيبهم، فيعرفون أنّ ما دعوتهم إليه حقّ، و ما ارتكبوه ضلال و فساد.

إِذِ الْأَغْلالُ فِي أَعْناقِهِمْ ظرف ل «يعلمون» إذ المعنى على الاستقبال، و إن كان «إذ» للمضيّ. و التعبير عن الاستقبال بلفظ المضيّ لتيقّنه، فلا يكون ذلك مثل قولك: سوف أصوم أمس. وَ السَّلاسِلُ عطف على الأغلال. أو مبتدأ خبره يُسْحَبُونَ فِي الْحَمِيمِ و العائد محذوف، تقديره: يسحبون- أي: يجرّون- بها في الماء الحارّ الّذي قد انتهت حرارته. و هو على الأوّل حال.

ثُمَّ فِي النَّارِ يُسْجَرُونَ أي: يقذفون و توقد بهم في جميع جوانبهم. من:

سجر التنّور إذا ملأه بالوقود. و منه: السجير للصديق، كأنّه سجر بالحبّ، أي:

ملي ء. و المعنى: أنّهم في النار، فهي محيطة بهم، و هم مسجورون بالنار، مملوءة بها أجوافهم. و منه: قوله: نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ «1». و المراد:

تعذيبهم بأنواع من العذاب، و ينقلون من بعضها إلى بعض.

ثُمَّ قِيلَ لَهُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ تُشْرِكُونَ مِنْ دُونِ

اللَّهِ من الأصنام قالُوا ضَلُّوا عَنَّا غابوا عن عيوننا، فلا نراهم لننتفع بهم بَلْ لَمْ نَكُنْ نَدْعُوا مِنْ قَبْلُ شَيْئاً بل تبيّن لنا أنّا لم نكن نعبد شيئا بعبادتهم، كقولك: حسبت أنّ فلانا شي ء، فإذا هو ليس بشي ء، إذا لم تر عنده خيرا.

كَذلِكَ مثل ضلال آلهتهم عنهم يُضِلُّ اللَّهُ الْكافِرِينَ يضلّهم عن آلهتهم، حتّى لو طلبوا الآلهة أو طلبتهم الآلهة لم يتصادفوا. أو المعنى: كما أضلّ اللّه أعمال هؤلاء و أبطل ما كانوا يؤمّلونه، كذلك يفعل بجميع من يتديّن بالكفر، فلا ينتفعون

______________________________

(1) الهمزة: 6- 7.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 157

بشي ء من أعمالهم.

و قيل: يضلّ الكافرين عن طريق الجنّة و الثواب، كما أضلّهم عمّا اتّخذوه إلها، بأن صرفهم عن الطمع في نيل منفعة من جهتها.

و الآية لا تنافي تفسير قوله تعالى: إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ «1» بأنّهم مقرونون بآلهتهم، لجواز أن يضلّوا عنهم حين وبّخوا و قيل لهم:

أينما كنتم تشركون من دون اللّه فيغيثوكم و يشفعوا لكم، و أن يكونوا معهم في سائر الأوقات.

ذلِكُمْ الإضلال بِما كُنْتُمْ تَفْرَحُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ و هو الشرك و الطغيان وَ بِما كُنْتُمْ تَمْرَحُونَ تتوسّعون في الفرح تبطّرا و تكبّرا، و العدول إلى الخطاب للمبالغة في التوبيخ.

ثمّ حكى سبحانه عن هؤلاء الكفّار أنّه يقال لهم: ادْخُلُوا أَبْوابَ جَهَنَّمَ الأبواب السبعة المقسومة لكم في قوله تعالى: لَها سَبْعَةُ أَبْوابٍ لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ «2» خالِدِينَ فِيها مقدّرين الخلود فَبِئْسَ مَثْوَى الْمُتَكَبِّرِينَ عن الحقّ جهنّم. و كان مقتضى النظم: فبئس مدخل المتكبّرين، كما تقول: زر بيت اللّه فنعم المزار، و لكن لمّا كان الدخول المقيّد بالخلود سبب الثواء- أي: الإقامة- عبّر بالمثوى. و إنّما أطلق

عليه اسم «بئس» مع كونه حسنا، لأنّ الطبع ينفر عنه كما ينفر العقل عن القبيح.

[سورة غافر (40): آية 77]

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ (77)

______________________________

(1) الأنبياء: 98.

(2) الحجر: 44.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 158

و بعد تهديد الكفّار أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالصبر على مقاساته أذيّتهم، فقال:

فَاصْبِرْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالنصر لأنبيائه، و الانتقام من أعدائه حَقٌ كائن لا محالة. أو ما وعد اللّه به المؤمنين على الصبر- من الثواب في الجنّة- حقّ لا شكّ فيه.

فَإِمَّا نُرِيَنَّكَ في حياتك. أصله: إن نرك. و «ما» مزيدة لتأكيد الشرطيّة، و لذلك لحقت النون الفعل، و لا تلحق مع «إن» وحدها بدون «ما»، فلا يقال: إن تكرمنّي أكرمك، و لكن: إمّا تكرمنّي أكرمك. بَعْضَ الَّذِي نَعِدُهُمْ و هو القتل و الأسر. و إنّما قال: «بعض الّذي» لأنّ المعجّل من عذابهم في الدنيا هو بعض ما يستحقّونه.

أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ قبل أن تراه فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ يوم القيامة، فننتقم منهم أشدّ الانتقام، و لا يفوتوننا. و نحوه قوله تعالى: فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ* أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ «1». و هو جواب «نتوفّينّك». و جواب «نرينّك» محذوف، مثل: فذاك. و يجوز أن يكون جوابا لهما، بمعنى: إن نعذّبهم في حياتك أو لم نعذّبهم، فإنّا نعذّبهم في الآخرة أشدّ العذاب. و يدلّ على شدّته الاقتصار بذكر الرجوع في هذا المعرض.

[سورة غافر (40): آية 78]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلاً مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ قُضِيَ بِالْحَقِّ وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ (78)

______________________________

(1) الزخرف: 41- 42.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 159

روي: أنّ المشركين قد اقترحوا بالمعجزات عنادا بعد ظهور ما يغنيهم عنها، فقال

سبحانه تسلية لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلًا مِنْ قَبْلِكَ مِنْهُمْ مَنْ قَصَصْنا عَلَيْكَ أخبارهم وَ مِنْهُمْ مَنْ لَمْ نَقْصُصْ عَلَيْكَ ذكرهم، إذ على المشهور عدد الأنبياء مائة ألف و أربعة و عشرون ألفا، و المذكور قصصهم أشخاص معدودة.

و قيل: إنّ عددهم ثمانية آلاف نبيّ، أربعة آلاف من بني إسرائيل، و أربعة آلاف من غيرهم.

وَ ما كانَ لِرَسُولٍ أَنْ يَأْتِيَ بِآيَةٍ بمعجزة إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ و أمره، فإنّ المعجزات عطايا قسّمها بينهم على ما اقتضته حكمته كسائر القسم، ليس لهم اختيار في إيثار بعضها و الاستبداد بإتيان المقترح بها.

فَإِذا جاءَ أَمْرُ اللَّهِ بالعذاب في الدنيا أو الآخرة قُضِيَ بِالْحَقِ بإنجاء المحقّ و تعذيب المبطل وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْمُبْطِلُونَ المعاندون باقتراح الآيات، فأنكروها و سمّوها سحرا. و المبطل بمعنى صاحب الباطل، أو الّذي يخسر الجنّة، و يدخل في النار بدلا منها.

[سورة غافر (40): الآيات 79 الى 81]

اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ لِتَرْكَبُوا مِنْها وَ مِنْها تَأْكُلُونَ (79) وَ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ وَ لِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ وَ عَلَيْها وَ عَلَى الْفُلْكِ تُحْمَلُونَ (80) وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ تُنْكِرُونَ (81)

ثمّ عدّد سبحانه نعمه على خلقه فقال: اللَّهُ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَنْعامَ من الإبل و البقر و الغنم لِتَرْكَبُوا مِنْها وَ مِنْها تَأْكُلُونَ فإنّ من جنسها ما يؤكل كالغنم، و منها

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 160

زبدة التفاسير ج 6 209

ما يؤكل و يركب، كالإبل و البقر.

و قيل: المراد بالأنعام هاهنا الإبل خاصّة، لأنّها الّتي تركب و يحمل عليها في أكثر العادات.

وَ لَكُمْ فِيها مَنافِعُ كالألبان و الجلود و الأوبار و الأصواف و الأشعار وَ لِتَبْلُغُوا عَلَيْها حاجَةً فِي صُدُورِكُمْ بأن تركبوها و تبلغوا المواضع الّتي

تقصدونها بحوائجكم بالمسافرة عليها وَ عَلَيْها في البرّ وَ عَلَى الْفُلْكِ في البحر تُحْمَلُونَ

و إنّما قال: «وَ عَلَى الْفُلْكِ» و لم يقل: في الفلك، للمزاوجة. أو لأنّ معنى الإيعاء «1» و معنى الاستعلاء كلاهما مستقيم، لأنّ الفلك وعاء لمن يكون فيها حمولة له يستعليها. فلمّا صحّ المعنيان صحّت العبارتان، كما قال: قُلْنَا احْمِلْ فِيها مِنْ كُلٍّ زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ «2».

و لم يقل: و لتأكلوا، ليكون موافقا لما قبله و ما بعده في التعليل، كما هو مقتضى النظم، لأنّ الركوب قد يكون في الحجّ و الغزو، و في بلوغ الحاجة: الهجرة من بلد إلى بلد لإقامة دين أو طلب علم. و هذه أغراض دينيّة إمّا واجبة أو مندوبة ممّا يتعلّق به إرادة الحكيم. و أمّا الأكل و إصابة المنافع فمن جنس المباح الّذي لا يتعلّق به أمره، لأنّ الأمر لا يكون إلّا بما فيه ترجيح من واجب أو ندب، و المباح إنّما يكون مساوي الطرفين لا رجحان فيهما أصلا في نظر الشرع. فلأجل ذلك الفرق أورد الغرض في الركوب، و ترك في الأكل. أو للفرق بين العين و المنفعة.

وَ يُرِيكُمْ آياتِهِ دلالة الدالّة على كمال قدرته و فرط رحمته فَأَيَّ آياتِ اللَّهِ جاءت على اللغة المستفيضة المشهورة. و قولك: فأيّة آيات اللّه، قليل، لأنّ

______________________________

(1) أوعيت الزاد و المتاع في الوعاء، إذا جعلته في الوعاء و أدخلته فيه.

(2) هود: 40.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 161

التفرقة بين المذكّر و المؤنّث في الأسماء غير الصفات- نحو: حمار و حمارة- غريب، و هي في «أيّ» أغرب، لإبهامه. و المعنى: أيّ آية من تلك الآيات تُنْكِرُونَ فإنّها لظهورها لا تقبل الإنكار. و هو ناصب «أيّ»، إذ لو قدّرته متعلّقا بضميره كان

الأولى رفعه.

[سورة غافر (40): الآيات 82 الى 85]

أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَ أَشَدَّ قُوَّةً وَ آثاراً فِي الْأَرْضِ فَما أَغْنى عَنْهُمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (82) فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَرِحُوا بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (83) فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ (84) فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ (85)

ثمّ قال سبحانه مخاطبا للكفّار الّذين جحدوا آيات اللّه، و أنكروا أدلّته الدالّة على توحيده: أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَ أَشَدَّ قُوَّةً وَ آثاراً فِي الْأَرْضِ ما بقي منهم من القصور و المصانع و نحوهما.

و قيل: آثار أقدامهم في الأرض، لعظم أجرامهم. فَما أَغْنى عَنْهُمْ نافية، أو استفهاميّة منصوبة ب «أغنى»، أي: أيّ شي ء أغنى عنهم؟! ما كانُوا يَكْسِبُونَ موصولة، أو مصدريّة مرفوعة به، أي: مكسوبهم، أو كسبهم.

فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات أو الآيات الواضحات فَرِحُوا

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 162

بِما عِنْدَهُمْ مِنَ الْعِلْمِ و استحقروا علم الرسل. و المراد بالعلم عقائدهم الزائغة و شبههم الداحضة، كقوله تعالى: بَلِ ادَّارَكَ عِلْمُهُمْ فِي الْآخِرَةِ «1». و هو قولهم: لا نبعث و لا نعذّب. وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى «2». وَ لَئِنْ رُدِدْتُ إِلى رَبِّي لَأَجِدَنَّ خَيْراً مِنْها مُنْقَلَباً «3». و كانوا يفرحون بذلك، و يدفعون به البيّنات و علم الأنبياء، كما قال عزّ و جلّ كُلُّ حِزْبٍ بِما لَدَيْهِمْ فَرِحُونَ «4». و سمّاها علما على زعمهم تهكّما

بهم.

أو «5» العلوم الطبيعيّة و الفلسفة و التنجيم، و علوم الدهريّين من بني يونان.

و كانوا إذا سمعوا بوحي اللّه دفعوه، و صغّروا علم الأنبياء إلى علمهم.

و عن سقراط: أنّه سمع بموسى عليه السّلام، و قيل له: لو هاجرت إليه. فقال: نحن قوم مهذّبون، فلا حاجة إلى من يهذّبنا.

أو علمهم بأمور الدنيا، و معرفتهم بتدبيرها، كما قال تعالى: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ هُمْ عَنِ الْآخِرَةِ هُمْ غافِلُونَ «6». ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ «7». فلمّا جاءهم الرسل بعلوم الديانات- و هي أبعد شي ء من علمهم، لبعثها على رفض الدنيا، و ذمّ الملاذّ و الشهوات- لم يلتفتوا إليها، و صغّروها و استهزؤا بها، و اعتقدوا أنّه لا علم أنفع و أجلب للفوائد من علمهم، ففرحوا به.

أو علم الأنبياء. و فرحهم به ضحكهم منه و استهزاؤهم به. و يؤيّده وَ حاقَ

______________________________

(1) النمل: 66.

(2) فصّلت: 50.

(3) الكهف: 36.

(4) الروم: 32.

(5) عطف على قوله: و المراد بالعلم عقائدهم ...، في بداية الفقرة السابقة.

(6) الروم: 7.

(7) النجم: 30.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 163

و حلّ و نزل بِهِمْ ما كانُوا بِهِ جزاء ما كانوا به يَسْتَهْزِؤُنَ

و قيل: الفرح أيضا للرسل، فإنّهم لمّا رأوا تمادي جهل الكفّار و سوء عاقبتهم، فرحوا بما أوتوا من العلم، و شكروا اللّه عليه، و حاق بالكافرين جزاء جهلهم و استهزائهم.

فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا شدّة عذابنا. و منه قوله تعالى: بِعَذابٍ بَئِيسٍ «1».

قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ وَ كَفَرْنا بِما كُنَّا بِهِ مُشْرِكِينَ يعنون أصنامهم.

فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ لَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا لامتناع قبوله حينئذ، لأنّ فعل الملجأ لا يقبل، و لا يستحقّ به المدح. و لذلك قال: «فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ» بمعنى: لم يصحّ و لم يستقم. و لم

يقل: فلم ينفعهم إيمانهم.

و ترادف هذه الفاءات، أمّا في قوله: «فَما أَغْنى عَنْهُمْ» فلأنّه نتيجة قوله:

«كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ». و أمّا في قوله: «فَلَمَّا جاءَتْهُمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ» فجار مجرى البيان و التفسير لقوله: «فَما أَغْنى عَنْهُمْ». كقولك: رزق زيد المال، فمنع المعروف، فلم يحسن إلى الفقراء. و قوله «فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا» تابع لقوله «فَلَمَّا جاءَتْهُمْ». كأنّه قال: فكفروا، فلمّا رأوا بأسنا آمنوا. و كذلك: «فَلَمْ يَكُ يَنْفَعُهُمْ إِيمانُهُمْ» تابع لإيمانهم لمّا رأوا بأس اللّه.

سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ فِي عِبادِهِ أي: سنّ اللّه ذلك سنّة ماضية في العباد.

و المراد الطريقة المستمرّة من فعله بأعدائه الجاحدين. و هي من المصادر المؤكّدة.

وَ خَسِرَ هُنالِكَ الْكافِرُونَ أي: وقت رؤيتهم البأس. اسم مكان استعير للزمان.

______________________________

(1) الأعراف: 165.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 165

(41) سورة حم السجدة «فصّلت»

اشارة

مكّيّة. و هي أربع و خمسون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأ حم السجدة اعطي بعدد كلّ حرف منها عشر حسنات».

و

روى ذريح المحاربي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ حم السجدة كانت له نورا يوم القيامة مدّ بصره و سرورا، و عاش في هذه الدنيا محمودا مغبوطا».

[سورة فصلت (41): الآيات 1 الى 7]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (1) تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ (2) كِتابٌ فُصِّلَتْ آياتُهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ (3) بَشِيراً وَ نَذِيراً فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ (4)

وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ فَاعْمَلْ إِنَّنا عامِلُونَ (5) قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ وَ اسْتَغْفِرُوهُ وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ (6) الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ (7)

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 166

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة المؤمن بذكر المنكرين لآيات اللّه، افتتح هذه السورة بمثل ذلك، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم إن جعل اسما للسورة كان مبتدأ، و خبره تَنْزِيلٌ مِنَ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ و إن جعل تعديدا للحروف، ف «تنزيل» خبر محذوف.

أو مبتدأ، لتخصّصه بالصفة، و خبره كِتابٌ و هو على الأوّلين بدل منه، أو خبر بعد خبر، أو خبر مبتدأ محذوف. و قد تقدّم «1» القول فيه.

و قيل في وجه الاشتراك في افتتاح هذه السور السبع ب «حم» و تسميتها به:

إنّها مصدّرة ببيان الكتاب، متشاكلة في النظم و المعنى. و إضافة التنزيل إلى الرحمن الرحيم، للدلالة على أنّه مناط المصالح الدينيّة و الدنيويّة.

فُصِّلَتْ آياتُهُ ميّزت باعتبار اللفظ، و جعلت تفاصيل في معان مختلفة، من أحكام

و أمثال و مواعظ و وعد و وعيد و غير ذلك.

قُرْآناً عَرَبِيًّا نصب على المدح أو الحال من «فصّلت». و فيه امتنان بسهولة قراءته و فهمه.

لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ لقوم عرب يعلمون ما نزل عليهم من الآيات المفصّلة المبيّنة بلسانهم العربيّ المبين، لا يلتبس عليهم شي ء منه. أو لأهل العلم و النظر.

و هو صفة اخرى ل «قرآنا». أو صلة ل «تنزيل» أو ل «فصّلت» أي: تنزيل من اللّه لأجلهم، أو فصّلت آياته لهم. و الأجود أن يكون صفة، لوقوعه بين الصفات.

و المعنى: قرآنا عربيّا كائنا لقوم يعلمون.

بَشِيراً للعاملين به وَ نَذِيراً للمخالفين له فَأَعْرَضَ أَكْثَرُهُمْ عن تدبّره و قبوله فَهُمْ لا يَسْمَعُونَ سماع تأمّل و طاعة، فكأنّهم لا يسمعونه رأسا. من قولك: تشفّعت إلى فلان فلم يسمع قولي. و لقد سمعه، و لكنّه لمّا لم يقبله و لم يعمل

______________________________

(1) راجع ص 54، ذيل الآية 1 من سورة الزمر.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 167

بمقتضاه فكأنّه لم يسمعه.

وَ قالُوا قُلُوبُنا فِي أَكِنَّةٍ أغطية جمع كنان، و هو الغطاء مِمَّا تَدْعُونا إِلَيْهِ وَ فِي آذانِنا وَقْرٌ صمم. و أصله الثقل. وَ مِنْ بَيْنِنا وَ بَيْنِكَ حِجابٌ يمنعنا عن التواصل. «من» لإفادة أنّ الحجاب ابتدأ منّا و ابتدأ منك، بحيث استوعب المسافة المتوسّطة، و لم يبق فراغ.

و هذه تمثيلات لنبوّ قلوبهم عن إدراك ما يدعوهم إليه و اعتقادهم، كأنّها في غلف و أغطية تمنع من نفوذه فيها، كقوله: وَ قالُوا قُلُوبُنا غُلْفٌ «1». و مجّ أسماعهم له، كأنّ بها صمما عنه. و امتناع مواصلتهم و موافقتهم للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. يعني: لأجل تباعد المذهبين كأنّ بينهم و ما هم عليه، و بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه

و آله و سلّم و ما هو عليه، حجابا ساترا و حاجزا منيعا من جبل و نحوه.

فَاعْمَلْ على دينك، أو في إبطال أمرنا إِنَّنا عامِلُونَ على ديننا، أو في إبطال أمرك. قيل: إنّ أبا جهل رفع ثوبا بينه و بين النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا محمد أنت من ذلك الجانب و نحن من هذا الجانب، فاعمل أنت على دينك و مذهبك، إنّنا عاملون على ديننا و مذهبنا.

قُلْ إِنَّما أَنَا بَشَرٌ مِثْلُكُمْ يُوحى إِلَيَّ أَنَّما إِلهُكُمْ إِلهٌ واحِدٌ لست ملكا و لا جنّيّا لا يمكنكم التلقّي منه، و لا أدعوكم إلى ما تنبو عنه العقول و الأسماع، و إنّما أدعوكم إلى التوحيد و الاستقامة في العمل، و قد يدلّ عليهما دلائل العقل و شواهد النقل.

فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ فاستقيموا في أفعالكم متوجّهين إليه. أو فاستووا إليه بالتوحيد و الإخلاص، غير ذاهبين يمينا و شمالا، و لا ملتفتين إلى ما يسوّل لكم الشيطان وَ اسْتَغْفِرُوهُ و توبوا إليه ممّا أنتم عليه من سوء العقيدة و العمل.

ثمّ هدّدهم على ذلك بقوله: وَ وَيْلٌ لِلْمُشْرِكِينَ من فرط جهالتهم

______________________________

(1) البقرة: 88.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 168

و استخفافهم باللّه تعالى الَّذِينَ لا يُؤْتُونَ الزَّكاةَ لبخلهم، و عدم إشفاقهم على الخلق، و حرصهم على حبّ الدنيا، و ذلك من أعظم الرذائل، و أقرب الأسباب إلى، الكفر.

و فيه دليل على أنّ الكفّار مخاطبون بالفروع، و حثّ شديد على أداء الزكاة، و تخويف بليغ من منعها، حيث جعله مقرونا بالكفر.

و عن عطاء عن ابن عبّاس أنّ معناه: لا يفعلون ما يزكّي أنفسهم، و هو الإيمان و الطاعة.

وَ هُمْ بِالْآخِرَةِ هُمْ كافِرُونَ حال مشعرة بأنّ امتناعهم عن الزكاة لاستغراقهم في طلب الدنيا

و إنكارهم الآخرة، فإنّ المال أحبّ الأشياء إلى الإنسان، فإذا بذله في سبيل اللّه دلّ ذلك على ثباته في الدين و صدق نيّته.

و عن الفرّاء: أن ذكر الزكاة في هذا الموضع لأجل أنّ قريشا كانت تطعم الحاجّ و تسقيهم، فحرّموا ذلك على من آمن بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[سورة فصلت (41): الآيات 8 الى 10]

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (8) قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ فِي يَوْمَيْنِ وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً ذلِكَ رَبُّ الْعالَمِينَ (9) وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ مِنْ فَوْقِها وَ بارَكَ فِيها وَ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ سَواءً لِلسَّائِلِينَ (10)

ثمّ عقّب ما ذكره من وعيد الكافرين بذكر الوعد للمؤمنين، فقال: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ لا يمنّ به عليهم. من المنّ، و أصله القطع، من: مننت الحبل إذا قطعته.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 169

و قيل: نزلت في المرضى و الهرمى و الزمنى، إذا عجزوا عن الطاعة كتب لهم الأجر كأصحّ ما كانوا يعملون.

قُلْ أَ إِنَّكُمْ لَتَكْفُرُونَ بِالَّذِي خَلَقَ الْأَرْضَ بتحقيق الهمزتين، أو الثانية بين بين، أو بألف بينهما. و الاستفهام للتعجيب. و المعنى: كيف تستجيزون أن تكفروا بمن خلق الأرضين السبع فِي يَوْمَيْنِ في مقدار يومين. أو نوبتين، بأن خلق في كلّ نوبة ما خلق في أسرع ما يكون.

و يحتمل أن يكون المراد من الأرض ما في جهة السفل من الأجرام البسيطة، و من خلقها في يومين أنّه خلق لها أصلا مشتركا، ثمّ خلق لها صورا بها صارت أنواعا، و كفرهم به إلحادهم في ذاته و صفاته.

وَ تَجْعَلُونَ لَهُ أَنْداداً أمثالا و أشباها، و لا يصحّ أن يكون له ندّ ذلِكَ الّذي

خلق الأرض في يومين رَبُّ الْعالَمِينَ خالق جميع ما وجد من الممكنات و مربّيها، و مالك التصرّف فيهم.

وَ جَعَلَ فِيها رَواسِيَ جبالا ثابتات. استئناف غير معطوف على «خلق» للفصل بما هو خارج عن الصلة. مِنْ فَوْقِها مرتفعة عليها ليظهر ما فيها من وجوه الاستبصار، و تكون منافعها معرّضة للطلّاب، حاضرة لمحصّليها.

و ليبصر أنّ الأرض و الجبال أثقال على أثقال، كلّها مفتقرة إلى ممسك لا بدّ لها منه، و هو ممسكها عزّ و علا بقدرته. و لو كانت تحتها كالأساطين لاستقرّت الأرض عليها، أو كانت مركوزة فيها كالمسامير لمنعت من الميدان. و أيضا لفاتت الفوائد المذكورة.

وَ بارَكَ فِيها و أكثر خيرها و أنماها، بأن خلق فيها أنواع النباتات و الحيوانات وَ قَدَّرَ فِيها أَقْواتَها أرزاق أهلها و معايشهم و ما يصلحهم، بأن عيّن لكلّ نوع ما يصلحه و يعيش به. أو أقواتا تنشأ منها، بأن خصّ حدوث كلّ

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 170

قوت بقطر من أقطارها.

فِي أَرْبَعَةِ أَيَّامٍ في تتمّة أربعة أيّام من حين ابتداء الخلق. فاليومان الأوّلان داخلان فيها، كما تقول: سرت من البصرة إلى بغداد في عشرة أيّام، و إلى الكوفة في خمسة عشر، أي: في تتمّة خمسة عشر. و لم يقل: في يومين كما في الأوّل، للإشعار باتّصالهما باليومين الأوّلين، و التصريح على الفذلكة لمدّة خلق اللّه الأرض و ما فيها.

سَواءً أي: استوت سواء، بمعنى استواء. و الجملة صفة «أيّام». و يدل عليه قراءة يعقوب بالجرّ. و المعنى: أربعة أيّام كاملة مستوية بلا زيادة و لا نقصان.

و قيل: حال من الضمير في «أقواتها» أي: قدّر الأقوات في الأرض حال كون الأرض مستوية في هذا الحكم.

لِلسَّائِلِينَ متعلّق بمحذوف تقديره: هذا الحصر لأجل من سأل:

في كم خلقت الأرض و ما فيها؟ أو ب «قدّر» أي: قدّر فيها الأقوات لأجل الطالبين لها، المحتاجين إليها من المقتاتين.

و إنّما خلق الأرض و ما فيها في هذه المدّة على التأنّي و التدريج، مع أنّه كان قادرا على إيجادها لحظة واحدة، ليعلم أنّ من الصواب التأنيّ في الأمور، و ترك الاستعجال فيها، كما

في الحديث: «التأنّي من الرحمن، و العجلة من الشيطان».

و ليعلم بذلك أنّها صادرة عن قادر مختار عالم بالمصالح و بوجوه الأحكام، إذ لو صدرت عن مطبوع أو موجب لحصلت في حالة واحدة.

و

روى عكرمة عن ابن عبّاس، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنّ اللّه تعالى خلق الأرض في يوم الأحد و الاثنين، و خلق الجبال يوم الثلاثاء، و خلق الشجرة و الماء و العمران و الخراب يوم الأربعاء. فتلك أربعة أيّام. و خلق يوم الخميس السماوات، و خلق يوم الجمعة الشمس و القمر و النجوم و الملائكة و آدم».

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 171

[سورة فصلت (41): الآيات 11 الى 14]

ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ وَ هِيَ دُخانٌ فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا طَوْعاً أَوْ كَرْهاً قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ (11) فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فِي يَوْمَيْنِ وَ أَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها وَ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَ حِفْظاً ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ (12) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ (13) إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (14)

و لمّا بيّن خلق الأرض و ما فيها، ذكر خلق السماوات، فقال: ثُمَّ اسْتَوى إِلَى السَّماءِ قصد نحوها. من قولهم: استوى إلى مكان كذا، إذا توجّه إليه توجّها لا

يلوي على غيره. و هو من الاستواء الّذي هو ضدّ الاعوجاج. و نحوه قولهم: استقام إليه و امتدّ إليه. و منه قوله تعالى: فَاسْتَقِيمُوا إِلَيْهِ «1».

و المعنى: ثمّ دعاه داعي الحكمة إلى خلق السماء بعد خلق الأرض و ما فيها، من غير صارف يصرفه عن ذلك. و الظاهر أنّ «ثمّ» لتفاوت ما بين الخلقين، لا للتراخي في المدّة، لقوله: وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها «2». و دحوها متقدّم على خلق الجبال من فوقها.

وَ هِيَ دُخانٌ ظلمانيّ. قيل: كان عرشه قبل خلق السماوات و الأرض على

______________________________

(1) فصّلت: 6.

(2) النازعات: 30.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 172

الماء، فأخرج من الماء دخانا، فارتفع فوق الماء و علا عليه، فأيبس الماء فجعله أرضا واحدة، ثمّ فتقها فجعلها أرضين، ثمّ خلق السماء من الدخان المرتفع.

و يحتمل أنّه أراد بالدخان مادّتها و الأجزاء المتصغّرة الّتي تركّبت منها.

فَقالَ لَها وَ لِلْأَرْضِ ائْتِيا بما خلقت فيكما من التأثير و التأثّر، و أبرزا ما أودعتكما من الأوضاع المختلفة و الكائنات المتنوّعة. و المعنى: ائتيا على ما ينبغي أن تأتيا عليه من الشكل و الوصف، أي: ائتي يا أرض مدحوّة قرارا و مهادا لأهلك، و ائتي يا سماء مقبّبة سقفا لهم. أو ائتيا في الوجود، على أنّ الخلق السابق بمعنى التقدير.

و قيل: إتيان السماء حدوثها، و إتيان الأرض أن تصير مدحوّة.

و يجوز أن يكون المعنى: لتأت كلّ واحدة منكما صاحبتها الإتيان الّذي أريده و تقتضيه حكمتي و تدبيري، من كون الأرض قرارا للسماء، و كون السماء سقفا للأرض.

طَوْعاً أَوْ كَرْهاً أي: شئتما ذلك أو أبيتما. و المراد إظهار كمال قدرته، و وجوب وقوع مراده، لا إثبات الطوع و الكره لهما. و هما مصدران وقعا موقع الحال،

أي: طائعين أو كارهين.

قالَتا أَتَيْنا طائِعِينَ منقادين بالذات. و الأظهر أنّ المراد تصوير تأثير قدرته فيهما، و تأثّرهما بالذات عن قدرته، من غير أن يحقّق شي ء من الخطاب و الجواب. و نحوه قول القائل: قال الجدار للوتد: لم تشقّني؟ قال الوتد: سل من يدقّني فلم يتركني. أو تمثيلهما بأمر المطاع و إجابة المطيع الطائع، كقوله: «كن فيكون». فمعنى إتيانهما و امتثالهما: أنّه أراد تكوينهما فلم يمتنعا عليه، و وجدتا كما أرادهما، و كانتا في ذلك كالمأمور المطيع إذا ورد عليه فعل الآمر المطاع. فهو من المجاز الّذي يسمّى التمثيل. و ما قيل: إنّه تعالى خاطبهما و أقدرهما على الجواب

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 173

إنّما يتصوّر على الوجه الأوّل و الأخير لا المتوسّط، لأنّ الإقدار فرع الوجود.

و إنّما قال: «طائعين» و لم يقل: طائعتين على اللفظ، أو طائعات على المعنى، لأنّهما سماوات و أرضون، باعتبار كونهما مخاطبتين، فتكونا كقوله:

وَ الشَّمْسَ وَ الْقَمَرَ رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ «1».

فَقَضاهُنَّ سَبْعَ سَماواتٍ فخلقهنّ خلقا إبداعيّا، و أتقن أمرهنّ. و الضمير للسماء على المعنى، أو مبهم. و «سبع سموات» حال على الأوّل، و تمييز على الثاني. فِي يَوْمَيْنِ قيل: خلق السماوات يوم الخميس، و الشمس و القمر و النجوم يوم الجمعة. وَ أَوْحى فِي كُلِّ سَماءٍ أَمْرَها شأنها و ما يتأتّى منها، بأن حملها عليه اختيارا أو طبعا. و قيل: أوحى إلى أهلها بأوامره.

وَ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ فإنّ الكواكب كلّها ترى كأنّها تتلألأ عليها وَ حِفْظاً و حفظناها من الآفات أو من المسترقة حفظا. و قيل: مفعول له على المعنى، كأنّه قال: و خصّصنا السماء الدّنيا بمصابيح زينة و حفظا. ذلِكَ تَقْدِيرُ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ البالغ في القدرة و العلم.

فَإِنْ أَعْرَضُوا

عن الإيمان بعد هذا البيان فَقُلْ أَنْذَرْتُكُمْ صاعِقَةً مهلكة تنزل بكم كما نزلت بمن قبلكم. أو فحذّرهم أن يصيبهم عذاب شديد الوقع كأنّه صاعقة. مِثْلَ صاعِقَةِ عادٍ وَ ثَمُودَ.

إِذْ جاءَتْهُمُ الرُّسُلُ حال من «صاعِقَةِ عادٍ». و لا يجوز جعله صفة ل «صاعقة»، أو ظرفا ل «أنذرتكم»، لفساد المعنى. مِنْ بَيْنِ أَيْدِيهِمْ وَ مِنْ خَلْفِهِمْ أتوهم من جميع جوانبهم، و اجتهدوا بهم من كلّ جهة. أو من جهة الزمن الماضي بالإنذار عمّا جرى فيه على الكفّار، و من جهة المستقبل بالتحذير عمّا أعدّ لهم في الآخرة. و كلّ من اللفظين يحتملهما. أو من قبلهم و من بعدهم، إذ قد بلغهم خبر

______________________________

(1) يوسف: 4.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 174

المتقدّمين، و أخبرهم هود و صالح عن المتأخّرين، داعيين إلى الإيمان بهم أجمعين.

و يحتمل أن يكون عبارة عن الكثرة، كقوله تعالى: يَأْتِيها رِزْقُها رَغَداً مِنْ كُلِّ مَكانٍ «1».

أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ بأن لا تعبدوا. أو أي: لا تعبدوا. أو مخفّفة من الثقيلة، أصله: بأنّه لا تعبدوا، أي: بأنّ الشأن و الحديث قولنا لكم: لا تعبدوا.

قالُوا لَوْ شاءَ رَبُّنا إرسال الرسل لَأَنْزَلَ مَلائِكَةً برسالته فَإِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ على زعمكم كافِرُونَ إذ أنتم بشر مثلنا، لا فضل لكم علينا.

[سورة فصلت (41): الآيات 15 الى 18]

فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ قالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً وَ كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (15) فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى وَ هُمْ لا يُنْصَرُونَ (16) وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (17) وَ نَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا

وَ كانُوا يَتَّقُونَ (18)

فَأَمَّا عادٌ فَاسْتَكْبَرُوا فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ فتعظّموا فيها على أهلها بغير استحقاق وَ قالُوا مَنْ أَشَدُّ مِنَّا قُوَّةً اغترارا بقوّتهم و شوكتهم. قيل: كان من قوّتهم أنّ الرجل منهم ينزع الصخرة فيقتلعها بيده. أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَهُمْ هُوَ أَشَدُّ مِنْهُمْ قُوَّةً

______________________________

(1) النحل: 112.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 175

قدرة، فإنّه قادر بالذات، مقتدر على ما لا يتناهى، قويّ على ما لا يقدر عليه أحد غيره وَ كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ يعرفون أنّها حقّ فينكرونها. و هو عطف على «فاستكبروا».

فَأَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً باردة تهلك بشدّة بردها. من الصرّ، و هو البرد الّذي يصرّ، أي: يجمع. أو شديدة الصوت في هبوبها. من الصرير. فِي أَيَّامٍ نَحِساتٍ جمع نحسة، من: نحس نحسا، نقيض: سعد سعدا. و قرأ الحجازيّان و البصريّان بالسكون، على التخفيف، أو النعت على فعل، أو الوصف بالمصدر.

و قيل: كنّ آخر الشوّال، من الأربعاء إلى الأربعاء. و ما عذّب قوم إلّا في يوم الأربعاء.

لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا أضاف العذاب إلى الخزي- و هو الذلّ- على قصد وصفه به، من إضافة الموصوف إلى الصفة، لقوله: وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى و هو في الأصل صفة المعذّب، و إنّما وصف به العذاب على الإسناد المجازي للمبالغة. وَ هُمْ لا يُنْصَرُونَ بدفع العذاب عنهم.

وَ أَمَّا ثَمُودُ فَهَدَيْناهُمْ فدللناهم على الحقّ، بنصب الحجج و إرسال الرسل فَاسْتَحَبُّوا الْعَمى عَلَى الْهُدى فاختاروا الضلالة على الهدى، و الكفر على الإيمان فَأَخَذَتْهُمْ صاعِقَةُ الْعَذابِ الْهُونِ صاعقة من السماء فأهلكتهم. و إضافتها إلى العذاب و وصفه بالهون للمبالغة، أو بحذف المضاف، أي: ذي الهون، و هو الهوان- أي: العذاب- الّذي يهينهم. بِما كانُوا يَكْسِبُونَ من اختيار الضلالة

و الكفر.

وَ نَجَّيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا وَ كانُوا يَتَّقُونَ من تلك الصاعقة.

[سورة فصلت (41): الآيات 19 الى 24]

وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ فَهُمْ يُوزَعُونَ (19) حَتَّى إِذا ما جاؤُها شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (20) وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (21) وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لا أَبْصارُكُمْ وَ لا جُلُودُكُمْ وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ (22) وَ ذلِكُمْ ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ (23)

فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ وَ إِنْ يَسْتَعْتِبُوا فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ (24)

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 176

وَ يَوْمَ يُحْشَرُ أَعْداءُ اللَّهِ إِلَى النَّارِ و قرأ نافع: نحشر، بالنون المفتوحة و ضمّ الشين، و نصب «أعداء». فَهُمْ يُوزَعُونَ يحبس أوّلهم على آخرهم لئلّا يتفرّقوا.

و هو عبارة عن كثرة أهل النار.

حَتَّى إِذا ما جاؤُها إذا حضروها. و «ما» مزيدة لتأكيد اتّصال الشهادة بالحضور. شَهِدَ عَلَيْهِمْ سَمْعُهُمْ وَ أَبْصارُهُمْ وَ جُلُودُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ بأن ينطقها اللّه، أو يظهر عليها آثارا تدلّ على ما اقترف بها، فينطق بلسان الحال.

وَ قالُوا لِجُلُودِهِمْ لِمَ شَهِدْتُمْ عَلَيْنا سؤال توبيخ أو تعجّب. و لعلّ المراد بالجلود النفس الحيوانيّة. قالُوا أَنْطَقَنَا اللَّهُ الَّذِي أَنْطَقَ كُلَّ شَيْ ءٍ أي: ما نطقنا باختيارنا، بل أنطقنا اللّه الّذي أنطق كلّ شي ء. أو ليس نطقنا بعجب من قدرة اللّه الّذي أنطق كلّ حيّ. و لو أوّل الجواب و النطق بدلالة الحال بقي الشي ء عامّا في الموجودات الممكنة. وَ هُوَ خَلَقَكُمْ أَوَّلَ مَرَّةٍ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يحتمل أن يكون تمام كلام الجلود، و أن يكون استئنافا.

زبدة

التفاسير، ج 6، ص: 177

وَ ما كُنْتُمْ تَسْتَتِرُونَ أَنْ يَشْهَدَ عَلَيْكُمْ سَمْعُكُمْ وَ لا أَبْصارُكُمْ وَ لا جُلُودُكُمْ أي:

كنتم تستترون عن الناس عند ارتكاب الفواحش مخافة الفضاحة، و ما ظننتم أنّ أعضاءكم تشهد عليكم بها، فما استترتم عنها. و فيه تنبيه على أنّ المؤمن ينبغي أن يتحقّق أنّه لا يمرّ عليه حال إلا و هو عليه رقيب. وَ لكِنْ ظَنَنْتُمْ أَنَّ اللَّهَ لا يَعْلَمُ كَثِيراً مِمَّا تَعْمَلُونَ فلذلك اجترأتم على ما فعلتم.

وَ ذلِكُمْ إشارة إلى ظنّهم هذا. و هو مبتدأ، و قوله: ظَنُّكُمُ الَّذِي ظَنَنْتُمْ بِرَبِّكُمْ أَرْداكُمْ خبران له. و يجوز أن يكون «ظنّكم» بدلا، و «أرداكم» خبرا.

فَأَصْبَحْتُمْ مِنَ الْخاسِرِينَ إذ صار ما منحوا للاستسعاد به في الدارين سببا لشقاء المنزلين.

فَإِنْ يَصْبِرُوا فَالنَّارُ مَثْوىً لَهُمْ لا خلاص لهم عنها وَ إِنْ يَسْتَعْتِبُوا يسألوا العتبى. و هي الرجوع إلى ما يحبّون. فَما هُمْ مِنَ الْمُعْتَبِينَ المجابين إليها.

و نظيره قوله تعالى حكاية: أَ جَزِعْنا أَمْ صَبَرْنا ما لَنا مِنْ مَحِيصٍ «1».

[سورة فصلت (41): الآيات 25 الى 29]

وَ قَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ ما خَلْفَهُمْ وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (25) وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ (26) فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ (27) ذلِكَ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ النَّارُ لَهُمْ فِيها دارُ الْخُلْدِ جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ (28) وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلاَّنا مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ (29)

______________________________

(1) إبراهيم: 21.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 178

وَ قَيَّضْنا أي: قدّرنا لَهُمْ للكفرة قُرَناءَ أخدانا «1» من الشياطين يستولون

عليهم استيلاء القيض على البيض، و هو القشر. و قيل: أصل القيض البدل.

و منه: المقايضة للمعاوضة. فَزَيَّنُوا لَهُمْ ما بَيْنَ أَيْدِيهِمْ من أمر الدنيا و اتّباع الشهوات وَ ما خَلْفَهُمْ من أمر الآخرة و إنكاره. فدعوهم إلى التكذيب به، و أن لا جنّة و لا نار، و لا بعث و لا حساب.

وَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي: كلمة العذاب فِي أُمَمٍ في جملة أمم بالخسران و الهلاك. و هو حال من الضمير المجرور في «عليهم». قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ و قد عملوا مثل أعمالهم إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ تعليل لاستحقاقهم العذاب. و الضمير لهم و للأمم.

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَسْمَعُوا لِهذَا الْقُرْآنِ وَ الْغَوْا فِيهِ و عارضوه بالهذيان. أو ارفعوا أصواتكم بها لتشوّشوه على القارئ. يقال: لغي يلغى، و لغا يلغو، إذا هذى.

لَعَلَّكُمْ تَغْلِبُونَ أي: تغلبونه على قراءته.

فَلَنُذِيقَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا عَذاباً شَدِيداً المراد بهم هؤلاء القائلون، أو عامّة الكفّار وَ لَنَجْزِيَنَّهُمْ أَسْوَأَ الَّذِي كانُوا يَعْمَلُونَ جزاء سيّئات أعمالهم. و قد سبق مثله.

ذلِكَ إشارة إلى الأسوأ، مبتدأ جَزاءُ أَعْداءِ اللَّهِ خبره النَّارُ عطف بيان للجزاء، أو خبر محذوف لَهُمْ فِيها في النار دارُ الْخُلْدِ فإنّها دار إقامتهم.

و هو كقولك: في هذه الدار دار سرور، و تعني بالدار عينها، على أنّ المقصود هو

______________________________

(1) أخدان جمع خدن، و هو الحبيب و الصاحب.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 179

الصفة. جَزاءً بِما كانُوا بِآياتِنا يَجْحَدُونَ ينكرون الحقّ. أو يلغون، و ذكر الجحود الّذي هو سبب اللغو.

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا رَبَّنا أَرِنَا الَّذَيْنِ أَضَلَّانا مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ يعني: شيطاني النوعين الحاملين على الضلالة و العصيان. و قيل: هما إبليس و قابيل، فإنّهما سنّا الكفر و القتل.

و قرأ ابن كثير

و ابن عامر و يعقوب و أبو بكر و السوسي: أرنا بالتخفيف، كفخذ في فخذ. و قرأ الدوري باختلاس «1» كسرة الراء.

نَجْعَلْهُما تَحْتَ أَقْدامِنا ندوسهما انتقاما منهما. و قيل: نجعلهما في الدرك الأسفل. لِيَكُونا مِنَ الْأَسْفَلِينَ مكانا، أو ذلّا.

[سورة فصلت (41): الآيات 30 الى 36]

إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ أَلاَّ تَخافُوا وَ لا تَحْزَنُوا وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ (30) نَحْنُ أَوْلِياؤُكُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ فِي الْآخِرَةِ وَ لَكُمْ فِيها ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ وَ لَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ (31) نُزُلاً مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ (32) وَ مَنْ أَحْسَنُ قَوْلاً مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ وَ عَمِلَ صالِحاً وَ قالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (33) وَ لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لا السَّيِّئَةُ ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ (34)

وَ ما يُلَقَّاها إِلاَّ الَّذِينَ صَبَرُوا وَ ما يُلَقَّاها إِلاَّ ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ (35) وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (36)

______________________________

(1) اختلس القارئ الحركة: لم يبلّغها. و يقابله الإشباع. و هو تبليغ الحركة حتّى تصير حرف مدّ.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 180

و لمّا ذكر سبحانه و عيد الكفّار، عقّبه بذكر الوعد للمؤمنين، فقال: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ اعترافا بربوبيّته، و إقرارا بوحدانيّته ثُمَّ اسْتَقامُوا ثبتوا على الإقرار و مقتضياته، من فعل الأعمال الصالحة، و ترك الأفعال السيّئة. و «ثمّ» لتراخي الاستقامة عن الإقرار في الرتبة و فضلها عليه، من حيث إنّ الإقرار مبدأ الاستقامة، أو لأنّها عسر قلّما تتبع الإقرار.

و

عن عليّ عليه السّلام معناه: «أدّوا الفرائض بعد الإقرار».

و

قال سفيان بن عبد اللّه الثقفي: «قلت: يا رسول اللّه أخبرني بأمر أعتصم به.

قال: قل: ربّي اللّه ثمّ استقم.

قال: فقلت: ما أخوف ما تخاف عليّ. فأخذ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بلسان نفسه فقال: هذا».

و

عن أنس قال: قرأ علينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم هذه الآية ثمّ قال: «قد قالها ناس ثمّ كفر أكثرهم. فمن قالها حتّى يموت فهو ممّن استقام عليها».

و

روى محمّد بن الفضيل قال: «سألت أبا الحسن الرضا عليه السّلام عن الاستقامة، فقال: هي و اللّه ما أنتم عليه».

تَتَنَزَّلُ عَلَيْهِمُ الْمَلائِكَةُ عند الموت، و في القبر، و إذا قاموا من قبورهم أَلَّا تَخافُوا ما تقدمون عليه وَ لا تَحْزَنُوا على ما خلّفتم. و الخوف: غمّ يلحق لتوقّع المكروه. و الحزن: غمّ يلحق لوقوعه، من فوات نافع أو حصول ضارّ. و المعنى: إنّ اللّه كتب لكم الأمن من كلّ غمّ، فلن تذوقوه أبدا. و «أن» مصدريّة، أو مخفّفة مقدّرة بالباء. و أصله: بأنّه لا تخافوا. أو مفسّرة. وَ أَبْشِرُوا بِالْجَنَّةِ الَّتِي كُنْتُمْ تُوعَدُونَ في الدنيا على لسان الرسل.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 181

نَحْنُ معاشر الملائكة أَوْلِياؤُكُمْ أنصاركم و أحبّاؤكم فِي الْحَياةِ الدُّنْيا نتولّى إيصال الخيرات إليكم من قبل اللّه تعالى، و نلهمكم الحقّ، و نحملكم على الخير، بدل ما كانت الشياطين تفعل بالكفرة وَ فِي الْآخِرَةِ بالشفاعة و الكرامة، حيثما يتعادى الكفرة و قرناؤهم، و لا نفارقكم إلى أن ندخلكم الجنّة وَ لَكُمْ فِيها في الآخرة ما تَشْتَهِي أَنْفُسُكُمْ من اللذائذ وَ لَكُمْ فِيها ما تَدَّعُونَ ما تتمنّون. من الدعاء بمعنى الطلب. و هو أعمّ من الأوّل.

نُزُلًا مِنْ غَفُورٍ رَحِيمٍ حال من «ما تدّعون» للإشعار بأنّ ما يتمنّون بالنسبة إلى ما يعطون ممّا لا يخطر ببالهم كالنزل، أي: كرزق النزيل، و هو الضيف.

وَ مَنْ أَحْسَنُ

قَوْلًا صورته صورة الاستفهام، و المراد به النفي. و تقديره:

و ليس أحد أحسن قولا مِمَّنْ دَعا إِلَى اللَّهِ إلى عبادته وَ عَمِلَ صالِحاً فيما بينه و بين ربّه وَ قالَ إِنَّنِي مِنَ الْمُسْلِمِينَ المستسلمين لأمر اللّه تعالى، المنقادين لطاعته. و ليس الغرض أنّه تكلّم بهذا الكلام، بل المراد أنّه اتّخذ دين الإسلام مذهبه، كما تقول: هذا قول فلان، و المراد مذهبه.

و الآية عامّة في كلّ من جمع بين هذه الثلاث، و هي: أن يكون موحّدا، معتقدا لدين الإسلام، عاملا بالخير، داعيا إليه. و ما هم إلّا طبقة العالمين العاملين من أهل العدل و التوحيد، الدعاة إلى دين اللّه.

و عن ابن عبّاس: نزلت في النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قيل: في المؤذّنين.

و في هذه الآية دلالة على أنّ الدعاء إلى الدّين من أعظم الطاعات و أجلّ الواجبات. و الداعي يجب أن يكون عاملا بعلمه، ليكون الناس إلى القبول منه أقرب، و إليه أسكن.

وَ لا تَسْتَوِي الْحَسَنَةُ وَ لَا السَّيِّئَةُ في الجزاء و حسن العاقبة. و «لا» الثانية

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 182

مزيدة لتأكيد النفي. ادْفَعْ بِالَّتِي هِيَ أَحْسَنُ ادفع السيّئة حيث اعترضتك بالحسنة الّتي هي أحسن منها، على أنّ المراد بالأحسن الزائد مطلقا. أو بأحسن ما يمكن دفعها به من الحسنات. و مثال ذلك: رجل أساء إليك إساءة، فالحسنة أن تعفو عنه، و الّتي هي أحسن أن تحسن إليه مكان إساءته إليك، مثل أن يذمّك فتمدحه، و يقتل و لدك فتفتدي ولده من يد عدوّه.

و إنّما لم يقل: فادفع، لأنّه أخرجه مخرج الاستئناف، على أنّه جواب من قال: كيف أصنع؟ للمبالغة. و لهذا آثر «أحسن» على الحسنة ليكون أبلغ في الدفع بالحسنة، لأنّ

من دفع بالحسنى هان عليه الدفع بما دونها.

و عن ابن عبّاس: «الّتي هي أحسن» الصبر عند الغضب، و الحلم عند الجهل، و العفو عند الإساءة.

و

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنّ الحسنة التقيّة، و السيّئة الإذاعة».

فَإِذَا الَّذِي بَيْنَكَ وَ بَيْنَهُ عَداوَةٌ كَأَنَّهُ وَلِيٌّ حَمِيمٌ أي: إذا فعلت ذلك صار عدوّك المشاقّ مثل الوليّ الشفيق و الحميم الشقيق.

وَ ما يُلَقَّاها و ما يلقّى هذه السجيّة الّتي هي مقابلة الإساءة بالإحسان إِلَّا الَّذِينَ صَبَرُوا فإنّها تحبس النفس عن الانتقام وَ ما يُلَقَّاها إِلَّا ذُو حَظٍّ عَظِيمٍ من الخير و كمال النفس. و قيل: الحظّ العظيم الجنّة.

وَ إِمَّا يَنْزَغَنَّكَ و إن يصبك مِنَ الشَّيْطانِ نَزْغٌ نخس. شبّه به وسوسته، لأنّها تبعث الإنسان على ما لا ينبغي، كالدفع بما هو أسوأ. و جعل النزغ نازغا، على طريقة: جدّ جدّه. أو أريد به نازغ، وصفا للشيطان بالمصدر للمبالغة.

و المعنى: و إن صرفك الشيطان عمّا وصّيت به من الدفع بالّتي هي أحسن فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ من شرّه، و لا تطعه، و امض على شأنك إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ لاستعاذتك الْعَلِيمُ بنيّتك، أو بصلاحك.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 183

[سورة فصلت (41): الآيات 37 الى 42]

وَ مِنْ آياتِهِ اللَّيْلُ وَ النَّهارُ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ وَ اسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَّ إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ (37) فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ يُسَبِّحُونَ لَهُ بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ هُمْ لا يَسْأَمُونَ (38) وَ مِنْ آياتِهِ أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ وَ رَبَتْ إِنَّ الَّذِي أَحْياها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (39) إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا أَ فَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ

الْقِيامَةِ اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (40) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا جاءَهُمْ وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ (41)

لا يَأْتِيهِ الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ حَمِيدٍ (42)

ثمّ ذكر دلالات التوحيد فقال: وَ مِنْ آياتِهِ أي: حججه الدالّة على وحدانيّته، و أدلّته على صفاته الّتي باين به جميع خلقه اللَّيْلُ بذهاب الشمس عن بسيط الأرض وَ النَّهارُ بطلوعها على وجهها، و تقديرهما على وجه مستقرّ، و تدبيرهما على نظام مستمرّ وَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ و ما اختصّا به من النور، و ما ظهر فيهما من التدبير في المسير، و التصريف في فلك التدوير.

لا تَسْجُدُوا لِلشَّمْسِ وَ لا لِلْقَمَرِ و إن كان فيهما منافع كثيرة، لأنّهما مخلوقان

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 184

مأموران مثلكم وَ اسْجُدُوا لِلَّهِ الَّذِي خَلَقَهُنَ الضمير للأربعة المذكورة، فإنّ حكم جماعة ما لا يعقل حكم الأنثى أو الإناث، يقال: الأقلام بريتها و بريتهنّ. أو لمّا قال: «و من آياته» كنّ في معنى الآيات، فقيل: «خلقهنّ». و المقصود تعليق الفعل بهما إشعارا بأنّهما من عداد ما لا يعلم. إِنْ كُنْتُمْ إِيَّاهُ تَعْبُدُونَ إن كنتم تقصدون بعبادتكم اللّه كما تزعمون فاسجدوا له، فإنّ السجود أخصّ العبادات.

و الآية نزلت في ناس منهم كانوا يسجدون للشمس و القمر، كالصابئين في عبادتهم الكواكب، و يزعمون أنّهم يقصدون بالسجود لهما السجود للّه، فنهوا عن هذه الواسطة، و أمروا أن يقصدوا بسجودهم وجه اللّه خالصا إن كانوا إيّاه يعبدون، و كانوا موحّدين غير مشركين.

و هذا موضع السجود عندنا و عند الشافعي، للأمر به. و عند أبي حنيفة الآية الاخرى، لأنّها من تمام المعنى.

فَإِنِ اسْتَكْبَرُوا و لم يمتثلوا ما أمروا به، و أبوا إلّا الواسطة،

فدعهم و شأنهم فَالَّذِينَ عِنْدَ رَبِّكَ من الملائكة. و هذا عبارة عن الزلفى و مزيّة المكانة و الكرامة.

يُسَبِّحُونَ لَهُ ينزّهونه عن الأنداد بِاللَّيْلِ وَ النَّهارِ أي: دائما، لقوله: وَ هُمْ لا يَسْأَمُونَ لا يملّون.

وَ مِنْ آياتِهِ الدالّة على ربوبيّته أَنَّكَ تَرَى الْأَرْضَ خاشِعَةً يابسة متطامنة. مستعار من الخشوع بمعنى التذلّل. و صفها بالهمود في قوله تعالى:

وَ تَرَى الْأَرْضَ هامِدَةً «1». و هو خلاف وصفها بالاهتزاز و الربوّ في قوله: فَإِذا أَنْزَلْنا عَلَيْهَا الْماءَ اهْتَزَّتْ تزخرفت بالنبات، كأنّها بمنزلة المختال في زيّه وَ رَبَتْ و انتفخت به إِنَّ الَّذِي أَحْياها بعد موتها لَمُحْيِ الْمَوْتى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ من الإحياء و الإماتة.

______________________________

(1) الحجّ: 5.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 185

إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ يميلون عن الاستقامة فِي آياتِنا يقال: ألحد الحافر و لحد، إذا مال عن الاستقامة، فحفر في شقّ. فاستعير للانحراف في تأويل آيات القرآن عن جهة الصحّة و الاستقامة، و الطعن فيها، و إلقاء المزخرفات، و فعل المكاء «1» و الصفير في أثناء قراءتها. لا يَخْفَوْنَ عَلَيْنا فنجازيهم على إلحادهم.

أَ فَمَنْ يُلْقى فِي النَّارِ خَيْرٌ و هم الملحدون أَمْ مَنْ يَأْتِي آمِناً يَوْمَ الْقِيامَةِ من عذاب اللّه. و هم المؤمنون المطيعون. و الاستفهام للتقرير، أي:

لا يستويان أصلا. قابل الإلقاء في النار بالإتيان آمنا مبالغة في إحماد حال المؤمنين. اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ تهديد شديد إِنَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ عالم لا يخفى عليه شي ء منها.

ثمّ أخبر عنهم مهجّنا لهم، فقال: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِالذِّكْرِ لَمَّا بعد إذ جاءَهُمْ بدل من قوله: «إِنَّ الَّذِينَ يُلْحِدُونَ فِي آياتِنا». أو مستأنف. و خبر «إنّ» محذوف، مثل: معاندون، أو يجازون بكفرهم. و عن أبي عمرو بن العلاء النحويّ:

أنّ خبره أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ

مَكانٍ بَعِيدٍ «2». و المراد بالذكر القرآن، لأنّهم- لكفرهم به- طعنوا فيه و حرّفوا تأويله. وَ إِنَّهُ لَكِتابٌ عَزِيزٌ كثير النفع، عديم النظير، أو منيع محميّ بحماية اللّه من التغيير و التبديل.

لا يَأْتِيهِ لا يتطرّق إليه الْباطِلُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ لا مِنْ خَلْفِهِ و هذا مثل، كأنّ الباطل لا يتطرّق إليه، و لا يجد إليه سبيلا من جهة من الجهات حتّى يصل إليه و يتعلّق به. أو المراد:

ليس في إخباره عمّا مضى باطل، و لا في إخباره عمّا يكون

______________________________

(1) مكا مكاء: صفر بفيه.

(2) فصّلت: 44. زبدة التفاسير، ج 6، ص: 186

في المستقبل باطل، بل أخباره كلّها موافقة لمخبراتها. و هذا القول مرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.

و قيل: إنّ الباطل الشيطان. و معناه: لا يقدر الشيطان أن ينقص منه حقّا، أو يزيد فيه باطلا. و الطاعنون المبطلون و إن كانوا يطعنون فيه و يتأوّلونه بالباطل، لكنّ اللّه حماه عن تعلّق باطلهم به، بأن قيّض قوما عارضوهم بإبطال تأويلهم و إفساد أقاويلهم، فلم يخلّوا طعن طاعن إلّا ممحوقا، و لا قول مبطل إلّا مضمحلّا. و نحوه قوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَ إِنَّا لَهُ لَحافِظُونَ «1».

تَنْزِيلٌ مِنْ حَكِيمٍ أيّ حكيم حَمِيدٍ يحمده كلّ مخلوق بما ظهر عليه من نعمه.

[سورة فصلت (41): آية 43]

ما يُقالُ لَكَ إِلاَّ ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ وَ ذُو عِقابٍ أَلِيمٍ (43)

ثمّ سلّى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن تكذيب المبطلين، فقال: ما يُقالُ لَكَ أي: ما يقول لك كفّار قومك إِلَّا ما قَدْ قِيلَ لِلرُّسُلِ مِنْ قَبْلِكَ إلّا مثل ما قال لهم كفّار قومهم.

و قيل: معناه: ما يقول اللّه لك إلّا

مثل ما قال لهم، و هو الأمر بالدعاء إلى الحقّ في عبادة اللّه و لزوم طاعته، فهذا القرآن موافق لما قبله من الكتب. إِنَّ رَبَّكَ لَذُو مَغْفِرَةٍ لذو رحمة سابغة لأنبيائه وَ ذُو عِقابٍ أَلِيمٍ لأعدائهم. و هو على الثاني يحتمل أن يكون مقول القول. يعني: أنّ حاصل ما أوحي إليك و إليهم وعد المؤمنين بالمغفرة، و وعيد الكافرين بالعقوبة. فمن حقّه أن يرجوه أهل طاعته، و يخافه أهل معصيته.

______________________________

(1) الحجر: 9.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 187

[سورة فصلت (41): آية 44]

وَ لَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ ءَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً وَ شِفاءٌ وَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ (44)

روي: أنّ المعاندين لفرط تعنّتهم كانوا يقولون: هلّا نزّل عليك القرآن بلغة العجم. فنزلت: وَ لَوْ جَعَلْناهُ قُرْآناً أَعْجَمِيًّا الضمير للذكر لَقالُوا لَوْ لا فُصِّلَتْ آياتُهُ بيّنت بلسان نفقهه ءَ أَعْجَمِيٌّ وَ عَرَبِيٌ أ كلام أعجميّ و مخاطب عربيّ؟

و الهمزة للإنكار. و الأعجميّ يقال للّذي لا يفهم كلامه.

و هذا قراءة أبي بكر و حمزة و الكسائي. و قرأ قالون و أبو عمرو بالمدّ و التسهيل. و ورش بالمدّ و إبدال الثانية ألفا. و ابن كثير و ابن ذكوان و حفص بتسهيل الثانية بغير مدّ. و هشام: أعجميّ، على الإخبار.

و المعنى: إنّ القوم غير طالبين للحقّ، و إنّما يتّبعون أهواءهم الباطلة و آراءهم الزائغة. فآيات اللّه على أيّ طريقة جاءتهم كانوا غير منفكّين عن التعنّت فيها، مقترحين غيرها، لفرط العناد و اللجاج.

لا يقال: كيف يقال عربيّ و الحال أنّ الآية نزلت في أمّة العرب؟

لأنّا نقول: مبنى الإنكار على تنافر حالتي الكتاب و المكتوب

إليه، لا على أنّ المكتوب إليه واحد أو جماعة، فوجب أن يجرّد لما سيق إليه من الغرض، و لا يوصل به ما يخيّل غرضا آخر. ألا تراك تقول- و قد رأيت لباسا طويلا على امرأة قصيرة-: اللباس طويل و اللابس قصير. و لو قلت: و اللابسة قصيرة، جئت بما هو لكنة و فضول قول، لأنّ الكلام لم يقع في ذكورة اللابس و أنوثته، و إنّما وقع في غرض غيرهما.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 188

قُلْ هُوَ أي: القرآن لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً إلى الحقّ وَ شِفاءٌ لما في الصدور من كلّ شكّ و شبهة. سمّي اليقين شفاء، كما سمّي الشكّ مرضا في قوله:

فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ «1». وَ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ مبتدأ خبره فِي آذانِهِمْ وَقْرٌ على تقدير: هو في آذانهم ثقل وَ هُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى و ذلك لتصامّهم عن سماعه، و تعاميهم عمّا يريهم من الآيات. و من جوّز العطف على عاملين عطف قوله:

الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ على لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدىً أي: هو للّذين لا يؤمنون في آذانهم و قر. أُولئِكَ يُنادَوْنَ مِنْ مَكانٍ بَعِيدٍ أي: انّهم لا يقبلونه، و لا يرعونه أسماعهم، فمثلهم في شدّة إعراضهم عنه، مثل من يصاح به من مسافة بعيدة لا يسمع من مثلها الصوت، فلا يسمع النداء.

[سورة فصلت (41): الآيات 45 الى 46]

وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (45) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها وَ ما رَبُّكَ بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (46)

ثمّ سلّى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن جحود قومه له و إنكارهم لنبوّته بقوله: وَ لَقَدْ آتَيْنا مُوسَى الْكِتابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ بالتصديق و التكذيب، كما اختلف

في القرآن، فلا تحزن و لا تبخع «2» نفسك عليهم حسرات وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ و هي العدة بالقيامة، و فصل الخصومة في ذلك اليوم. أو تقدير الآجال. لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ في الدنيا باستئصال المكذّبين قبل انقضاء آجالهم. و مثل ذلك قوله تعالى:

______________________________

(1) البقرة: 10.

(2) بخع نفسه: نهكها و كاد يهلكها من غضب أو غمّ.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 189

وَ لكِنْ يُؤَخِّرُهُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى «1». و قوله: بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ «2». وَ إِنَّهُمْ و إنّ اليهود، أو الّذين لا يؤمنون مطلقا لَفِي شَكٍّ مِنْهُ من التوراة، أو القرآن مُرِيبٍ موجب للاضطراب و قلق النفس، موقع لهم الريبة، و هي أفظع الشك و أبلغه.

مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ نفعه، لأنّ ثواب ذلك و اصل إليه قطعا وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ضرّه، لأنّ عقابه يلحق به دون غيره وَ ما رَبُّكَ بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فيفعل بهم ما ليس له أن يفعله، بأن يعذّب غير المسي ء، و غير ذلك.

و إنّما قال بصيغة المبالغة، مع أنّه لا يظلم مثقال ذرّة، للإشعار بأنّ من فعل الظلم و إن قلّ- و هو عالم بقبحه، و بأنّه غنيّ عنه- لكان ظلّاما.

و قيل: هذا على طريق الجواب لمن زعم أنّه يظلم العباد، فيأخذ أحدا بذنب غيره، و يثيبه بطاعة غيره، و لا شكّ أنّ ذلك غاية الظلم و نهاية التعدّي.

[سورة فصلت (41): الآيات 47 الى 48]

إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ ما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَ لا تَضَعُ إِلاَّ بِعِلْمِهِ وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ أَيْنَ شُرَكائِي قالُوا آذَنَّاكَ ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ (47) وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما كانُوا يَدْعُونَ مِنْ قَبْلُ وَ ظَنُّوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (48)

ثمّ بيّن سبحانه أنّه العالم بوقت

القيامة دون غيره، فقال: إِلَيْهِ يُرَدُّ عِلْمُ السَّاعَةِ أي: قل ذلك لهم إذا سألوا عنها، إذ لا يعلمها إلّا هو وَ ما تَخْرُجُ مِنْ ثَمَراتٍ مِنْ أَكْمامِها من أوعيتها. جمع كمّ بالكسر، و هو وعاء الثمرة. و قرأ نافع و ابن عامر

______________________________

(1) النحل: 61.

(2) القمر: 46.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 190

و حفص: من ثمرات بالجمع، لاختلاف الأنواع.

و «ما» نافية. و «من» الأولى زائدة للاستغراق. و يحتمل أن تكون موصولة معطوفة على «الساعة». و «من» مبيّنة، بخلاف قوله: وَ ما تَحْمِلُ مِنْ أُنْثى وَ لا تَضَعُ بمكان، أي: ما يحدث شي ء من خروج ثمرة، و لا حمل حامل، و لا وضع واضع إِلَّا بِعِلْمِهِ إلّا مقرونا بعلمه واقعا حسب تعلّقه به. فيعلم سبحانه قدر الثمار و أجزاءها و كيفيّتها، من طعومها و روائحها و ألوانها. و يعلم ما في بطون الحبالى، و أنواع انتقاله من حال إلى حال، و كيفيّته من الطول و القصر و الوسط، و من الخداج «1» و التمام، و الذكورة و الأنوثة، و الحسن و القبح.

وَ يَوْمَ يُنادِيهِمْ ينادي المشركين أَيْنَ شُرَكائِي أضافهم إليه تعالى على زعمهم. و بيانه في قوله: أَيْنَ شُرَكائِيَ الَّذِينَ كُنْتُمْ تَزْعُمُونَ «2» و فيه تهكّم و تقريع.

قالُوا آذَنَّاكَ أعلمناك ما مِنَّا مِنْ شَهِيدٍ من أحد يشهد لهم بالشركة، إذ تبرّأنا عنهم لمّا جاءنا، فما منّا اليوم إلّا من هو موحّد لك. فيكون السؤال عنهم للتوبيخ. أو من أحد يشاهدهم، لأنّهم ضلّوا عنّا.

و قيل: هو قول الشركاء، أي: ما منّا من شهيد يشهد لهم بأنّهم كانوا محقّين فيما أضافوا إلينا من الشركة.

وَ ضَلَّ عَنْهُمْ ما أي: آلهة غير اللّه كانُوا يَدْعُونَ يعبدون مِنْ قَبْلُ في الدنيا، أي: لا يرونهم،

أو لا ينفعونهم، فكأنّهم ضلّوا عنهم على التفسير الأخير وَ ظَنُّوا و أيقنوا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ مهرب من عذاب اللّه. و الظنّ معلّق عنه بحرف النفي.

______________________________

(1) الخداج: كلّ نقصان في شي ء.

(2) القصص: 62.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 191

[سورة فصلت (41): الآيات 49 الى 52]

لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ وَ إِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ فَيَؤُسٌ قَنُوطٌ (49) وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ لَيَقُولَنَّ هذا لِي وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِما عَمِلُوا وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ (50) وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ وَ نَأى بِجانِبِهِ وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ (51) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ (52)

ثمّ بيّن سبحانه طريقتهم المذمومة في الدنيا بقوله: لا يَسْأَمُ الْإِنْسانُ لا يملّ مِنْ دُعاءِ الْخَيْرِ من طلب السعة في النعمة وَ إِنْ مَسَّهُ الشَّرُّ الضيقة فيها فَيَؤُسٌ شديد اليأس قَنُوطٌ من فضل اللّه و رحمته. و قد بولغ فيه من طريقين: بناء فعول، و من طريق التكرير. و القنوط: أن يظهر عليه أثر اليأس فيتضاءل و ينكسر، أي: يقطع الرجاء من فضل اللّه و روحه.

و هذه صفة الكافر، لقوله تعالى: إِنَّهُ لا يَيْأَسُ مِنْ رَوْحِ اللَّهِ إِلَّا الْقَوْمُ الْكافِرُونَ «1».

وَ لَئِنْ أَذَقْناهُ رَحْمَةً مِنَّا مِنْ بَعْدِ ضَرَّاءَ مَسَّتْهُ أي: إذا فرّجنا عنه بصحّة بعد مرض، أو سعة بعد ضيق لَيَقُولَنَّ هذا لِي حقّي أستحقّه، لما لي من الفضل و أعمال البرّ. أو هذا لي لا يزول عنّي. و نحوه قوله تعالى:

______________________________

(1) يوسف: 87.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 192

فَإِذا جاءَتْهُمُ الْحَسَنَةُ قالُوا لَنا

هذِهِ «1».

وَ ما أَظُنُّ السَّاعَةَ قائِمَةً تقوم وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى أي: و لئن قامت- على طريق التوهّم- كان لي عند اللّه الحالة الحسنى من الكرامة. و ذلك لاعتقاده أنّ ما أصابه من نعم الدنيا فلاستحقاق لا ينفكّ عنه، أو لقياس أمر الآخرة على أمر الدنيا. و عن بعضهم: للكافر أمنيتان، يقول في الدنيا:

وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ لَلْحُسْنى و يقول في الآخرة: يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً «2». و قيل: نزلت في الوليد بن المغيرة.

فَلَنُنَبِّئَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا فلنخبرنّهم بِما عَمِلُوا بحقيقة أعمالهم، و لنبصرنّهم عكس ما اعتقدوا فيها من أنّهم يستوجبون عليها كرامة عند اللّه. و ذلك أنّهم كانوا ينفقون أموالهم رئاء الناس، و طلبا للافتخار و الاستكبار لا غير. و كانوا يحسبون أنّ ما هم عليه سبب الغنى و الصحّة، و أنّهم محقوقون بذلك وَ لَنُذِيقَنَّهُمْ مِنْ عَذابٍ غَلِيظٍ شديد متراكم، لا يمكنهم التفصّي عنه.

وَ إِذا أَنْعَمْنا عَلَى الْإِنْسانِ أَعْرَضَ عن الشكر، و أبطرته النعمة حتّى كأنّه لم يلق بؤسا قطّ، فنسي المنعم وَ نَأى بِجانِبِهِ عطفه. و هذا عبارة عن الانحراف، كما قالوا: ثنّى عطفه، و تولّى بركنه. فالمعنى: انحرف عنه تكبّرا و تجبّرا عن الاعتراف بنعم اللّه تعالى، و أعرض و تباعد عنه تكبّرا و تعظّما. أو الجانب مجاز عن النفس، كالجنب في قوله فِي جَنْبِ اللَّهِ «3». فكأنّه قال: و نأى بنفسه، كقولهم في المتكبّر:

ذهب بنفسه، و ذهبت به الخيلاء كلّ مذهب.

وَ إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ الضرّ فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ كثير. مستعار ممّا له عرض متّسع، للإشعار بكثرته و استمراره، كما استعير الغلظ لشدّة العذاب. و هو أبلغ من

______________________________

(1) الأعراف: 131.

(2) النبأ: 40.

(3)

الزمر: 56.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 193

الطويل، إذ الطول أطول الامتدادين، فإذا كان عرضه كذلك فما ظنّك بطوله؟! قُلْ أَ رَأَيْتُمْ أخبروني إِنْ كانَ أي: القرآن مِنْ عِنْدِ اللَّهِ ثُمَّ كَفَرْتُمْ بِهِ من غير نظر و اتّباع دليل مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ هُوَ فِي شِقاقٍ بَعِيدٍ أي: من أضلّ منكم.

فوضع الموصول موضع الصلة شرحا لحالهم، و تعليلا لمزيد ضلالهم.

و توضيح المرام في هذا المقام: أنّ اللّه سبحانه أمر حبيبه بأن يقول لأهل الشرك: إنّ ما أنتم عليه من إنكار القرآن و تكذيبه ليس بأمر صادر عن حجّة قاطعة حصلتم منها على اليقين و ثلج «1» الصدور، و إنّما هو قبل النظر و اتّباع الدليل أمر محتمل، يجوز أن يكون من عند اللّه و أن لا يكون من عنده. و أنتم لم تنظروا و لم تفحصوا، فما أنكرتم أن يكون حقّا و قد كفرتم به؟ فأخبروني من أضلّ منكم و أبعد في المشاقّة و المناصبة في أمر الحقّ، فأهلكتم بذلك أنفسكم؟

[سورة فصلت (41): الآيات 53 الى 54]

سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ وَ فِي أَنْفُسِهِمْ حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُّ أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (53) أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ أَلا إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطٌ (54)

سَنُرِيهِمْ آياتِنا فِي الْآفاقِ يعني: ما أخبرهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم به من الحوادث الآتية، و آثار النوازل الماضية، و ما يسّر اللّه له و لأمّته من الفتوح و الظهور على الجبابرة و الأكاسرة، و تغليب قليلهم على كثيرهم، و تسليط ضعافهم على أقويائهم، و نشر دعوة الإسلام في أقطار المعمورة، و بسط دولته في الشرق و الغرب على وجه خارق للعادة.

______________________________

(1) أي: ارتياحها و اطمئنانها.

زبدة التفاسير، ج 6،

ص: 194

وَ فِي أَنْفُسِهِمْ ما ظهر فيها بين أهل مكّة، و ما حلّ بهم من عجائب الصنع الدالّة على كمال قدرته. و الاستقراء يطلعك- في التواريخ و الكتب المدوّنة في مشاهد أهل الإسلام و أيّامهم- على عجائب، بحيث لا ترى وقعة من وقائعهم إلّا علما من أعلام اللّه و آية من آياته، يقوى معها اليقين، و يزداد بها الإيمان.

حَتَّى يَتَبَيَّنَ لَهُمْ أَنَّهُ الْحَقُ الضمير للقرآن أو الرسول، أي: يظهر لهم أنّ دين الإسلام هو دين الحقّ الّذي لا يحيد «1» عنه إلّا مكابر حسّه، مغالط نفسه.

و عن عطاء معنى الآية: سنريهم حججنا و دلائلنا على التوحيد في آفاق العالم و أقطار السماء و الأرض، من الشمس و القمر و النجوم و النباتات و الأشجار و الجبال، و في أنفسهم ما فيها من لطائف الصنع و بدائع الحكم الّتي بيّنت جملة منها في علم التشريح، حتّى يظهر لهم أنّ اللّه هو الحقّ. و ما الثبات و الاستقامة إلّا صفة الحقّ و الصدق، كما أنّ الاضطراب و التزلزل صفة الفرية و التزوير، و أنّ للباطل ريحا تخفق ثمّ تسكن، و دولة تظهر ثمّ تضمحلّ.

أَ وَ لَمْ يَكْفِ بِرَبِّكَ أو لم يكف ربّك. و الباء مزيدة للتأكيد، كأنّه قيل: أو لم تحصل الكفاية به. و معنى كفايته سبحانه هاهنا: أنّه بيّن للناس ما فيه كفاية، من الدلالة على توحيده و تصحيح نبوّة رسله. و لا تكاد تزاد الباء في الفاعل إلا مع «كفى». أَنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ بدل منه. و المعنى: أو لم يكفك أنّه تعالى على كلّ شي ء شهيد محقّق له، فيحقّق أمرك بإظهار الآيات الموعودة، كما حقّق سائر الأشياء الموعودة.

و محصول المعنى: أنّ هذا الموعود

من إظهار آيات اللّه في الآفاق و في أنفسهم سيرونه و يشاهدونه، فيتبيّنون عند ذلك أنّ القرآن تنزيل عالم الغيب الّذي هو على كلّ شي ء شهيد، أي: مطّلع مهيمن، يستوي عنده غيبه و شهادته. فيكفيهم

______________________________

(1) أي: لا يميل عنه.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 195

ذلك دليلا على أنّه حقّ، و أنّه من عنده، و لو لم يكن كذلك لما قوي هذه القوّة، و لما نصر حاملوه هذه النصرة. أو المعنى: أو لم يكف الإنسان رادعا عن المعاصي أنّه تعالى مطّلع على كلّ شي ء، لا يخفى عليه خافية.

أَلا إِنَّهُمْ فِي مِرْيَةٍ شكّ مِنْ لِقاءِ رَبِّهِمْ لقاء مجازاة ربّهم يوم البعث أَلا كلمة تنبيه إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ مُحِيطٌ عالم بجمل الأشياء و تفاصيلها، ظواهرها و بواطنها، مقتدر عليها، لا يفوته شي ء منها، فهو مجازيهم على كفرهم.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 197

(42) سورة حم عسق

اشارة

و تسمّى سورة الشورى أيضا. مكّيّة. و عن ابن عبّاس و قتادة: إلّا أربع آيات نزلت بالمدينة: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى «1». قال ابن عبّاس:

و لمّا نزلت هذه الآية قال رجل: و اللّه ما أنزل اللّه هذه الآية. فأنزل اللّه تعالى: أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً «2». ثمّ إنّ الرجل تاب و قدم فنزل: وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ إلى قوله لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ «3».

و عدد آيها ثلاث و خمسون.

أبيّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأ سورة حم عسق كان ممّن يصلّي عليه الملائكة، و يستغفرون له و يسترحمون».

و

روى سيف بن عميرة، عن أبي عبد اللّه قال: «من قرأ حم عسق بعثه اللّه تعالى يوم القيامة و وجهه كالقمر ليلة البدر، حتّى يقف بين يدي

اللّه عزّ و جلّ فيقول:

عبدي أدمنت قراءة حم عسق و لم تدر ما ثوابها، أما لو دريت ما هي و ما ثوابها لما مللت من قراءتها، و لكن سأجزيك جزاءك، أدخلوه الجنّة، و له فيها قصر من ياقوتة حمراء أبوابها و شرفها و درجها، منها يرى ظاهرها من باطنها، و باطنها من ظاهرها.

و له فيها حوراوان من الحور العين، و ألف جارية، و ألف غلام من الولدان المخلّدين الّذين وصفهم اللّه تعالى».

______________________________

(1) الشورى: 23 و 24.

(2) الشورى: 23 و 24.

(3) الشورى: 25- 26.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 198

[سورة الشورى (42): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (1) عسق (2) كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ (4)

تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْ فَوْقِهِنَّ وَ الْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (5) وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ (6)

و اعلم أنّه سبحانه لمّا ختم سورة السجدة بذكر القرآن، افتتح هذه السورة بذكره أيضا، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم عسق لعلّهما اسمان للسورة، و لذلك فصل بينهما، و عدّا آيتين. و إن كانا اسما واحدا فالفصل ليطابق سائر الحواميم.

و قيل: إنّما فضّلت هذه السورة من بين سائر الحواميم ب «عسق»، لأنّ جميعها استفتح بذكر الكتاب على التصريح به إلّا هذه، فذكر عسق ليكون دلالة على الكتاب، لأنّه اسم من أسماء القرآن. و هو معنى قول قتادة، فإنّه قال: هو اسم القرآن.

و قيل: إنّ هذه السورة انفردت بأنّ معانيها أوحيت إلى سائر الأنبياء، فلذلك خصّت بهذه التسمية.

و قال عطاء: هي

حروف مقطّعة منبئة عن حوادث الزمان. فالحاء من حرب، و الميم من تحويل ملك، و العين من عدوّ مقهور، و السين من الاستئصال بسنين

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 199

كسنيّ يوسف، و القاف من قدرة اللّه عزّ و جلّ و قهّاريّته على الجبابرة في الأرض.

و قال النيشابوري في تفسيره: «قيل: رموز إلى فتن كان عليّ عليه السّلام يعرفها.

و قيل: الحاء حكم اللّه، و الميم ملكه، و العين علمه، و السّين سناؤه، و القاف قدرته.

و قيل: الحاء حرب عليّ و معاوية، و الميم ولاية المروانيّة، و العين ولاية العبّاسيّة، و السين ولاية السفيانيّة، و القاف قدرة المهديّ. و هذه الأقاويل ممّا لا معوّل عليها.

و قال أهل التصوّف: حاء حبّه، و ميم محبوبيّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و عين عشقه إلى سيّده، و قاف قربه إلى سيّده، أقسم أنّه يوحي إليه و إلى سائر الأنبياء من قبله، أنّه محبوبه في الأزل، و بتبعيّته خلق الكائنات» «1».

و باقي الأقوال في ذلك مذكورة في أوّل البقرة.

كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ اللَّهُ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ أي: مثل ما في هذه السورة من المعاني، أو مثل ذلك الوحي أوحى اللّه إليك و إلى الرسل من قبلك.

يعني: أنّ اللّه تعالى كرّر هذه المعاني في القرآن و في جميع الكتب السماويّة، لما فيها من التنبيه البليغ و اللطف العظيم لعباده من الأوّلين و الآخرين.

و عن عطاء، عن ابن عبّاس قال: ما من نبيّ أنزل اللّه عليه الكتاب، إلّا أنزل عليه معاني هذه السورة بلغاتهم.

و إنّما ذكر بلفظ المضارع على حكاية الحال الماضية، للدلالة على استمرار الوحي، و أنّ إيحاء مثله عادة اللّه سبحانه.

و قرأ ابن كثير: يوحى بالفتح،

على أنّ «كذلك» مبتدأ، و «يوحى» خبره المسند إلى ضميره، أي: مثل ذلك يوحى. أو مصدر، و «يوحى» مسند إلى «إليك»،

______________________________

(1) غرائب القرآن للنيسابوري 6: 67.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 200

أي: إيحاء مثل إيحاء هذه السورة يوحى إليك.

و «اللّه» مرفوع بما دلّ عليه «يوحى». كأنّ قائلا قال: من الموحي؟ فقيل:

اللّه. كقراءة السلمي وَ كَذلِكَ زَيَّنَ لِكَثِيرٍ مِنَ الْمُشْرِكِينَ قَتْلَ أَوْلادِهِمْ شُرَكاؤُهُمْ «1»، على البناء للمفعول و رفع «شركاؤهم»، على معنى: زيّنه لهم شركاؤهم.

و «العزيز الحكيم» صفتان له، مقرّرتان لعلوّ شأن الموحى به، أي: القرآن نزل من القادر الّذي لا يغالب، المحكم لأفعاله، كما مرّ في السورة السابقة.

أو بالابتداء «2»، كما مرّ في قراءة «نوحي» بالنون. و «العزيز» و ما بعده أخبار.

أو «العزيز الحكيم» صفتان له، و قوله: لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ خبران له. و على الوجوه الأخر استئناف مقرّر لعزّته و حكمته.

تَكادُ السَّماواتُ و قرأ نافع و الكسائي بالياء يَتَفَطَّرْنَ أي: يتشقّقن من علوّ شأن اللّه و عظمته. و يدلّ عليه مجيئه بعد قوله: «الْعَلِيُّ الْعَظِيمُ». و قيل: من دعائهم له ولدا، كقوله: تَكادُ السَّماواتُ يَتَفَطَّرْنَ مِنْهُ «3».

و قرأ البصريّان و أبو بكر: ينفطرن. و الأوّل أبلغ، لأنّه مطاوع: فطّر.

مِنْ فَوْقِهِنَ أي: يبتدئ الانفطار من جهتهنّ الفوقانيّة. و تخصيصها على الأوّل، لأنّ أعظم الآيات و أدلّها على علوّ شأنه من فوق السماوات، و هي العرش و الكرسي و صفوف الملائكة القائلين بالتسبيح و التقديس حول العرش، و ما لا يعلم كنهه إلّا اللّه تعالى من آثار ملكوته العظمى. و على الثاني، ليدلّ على الانفطار من تحتهنّ بالطريق الأولى. و قيل: الضمير للأرض.

وَ الْمَلائِكَةُ يُسَبِّحُونَ بِحَمْدِ رَبِّهِمْ وَ يَسْتَغْفِرُونَ

لِمَنْ فِي الْأَرْضِ بالسعي فيما

______________________________

(1) الأنعام: 137.

(2) عطف على قوله: بما دلّ عليه، قبل خمسة أسطر.

(3) مريم: 90.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 201

يستدعي مغفرتهم، من استدعاء الحلم منه تعالى، و إعداد الأسباب المقرّبة إلى الطاعة. و هذا المعنى يعمّ المؤمن و الكافر. بل لو فسّر الاستغفار بالسعي فيما يدفع الخلل المتوقّع عمّ الحيوان، بل الجماد. و الأصحّ أنّ المراد بهم المؤمنون، لقوله:

وَ يَسْتَغْفِرُونَ لِلَّذِينَ آمَنُوا «1». و حكايته عنهم: فَاغْفِرْ لِلَّذِينَ تابُوا وَ اتَّبَعُوا سَبِيلَكَ «2». فالمراد بالاستغفار الشفاعة.

أَلا إِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ إذ ما من مخلوق إلّا و هو ذو حظّ من رحمته.

و الآية على الأوّل «3» زيادة تقرير لعظمته. فكأنّه قيل: تكاد السماوات يتفطّرن هيبة من جلاله، و احتشاما من كبريائه، و الملائكة الّذين هم مل ء السبع الطباق، و حافّون حول العرش صفوفا بعد صفوف، يداومون- خضوعا لعظمته- على عبادته و تسبيحه و تحميده، و يستغفرون لمن في الأرض خوفا عليهم من سطواته.

و على الثاني «4»؛ دلالة على تقدّسه عمّا نسب إليه. فكأنّه قيل: يكدن ينفطرن من إقدام أهل الشرك على تلك الكلمة الشنعاء، و الملائكة يوحّدون اللّه و ينزّهونه عمّا لا يجوز عليه من الصفات الّتي يضيفها إليه الجاهلون به، حامدين له على ما أولاهم من ألطافه الّتي علم أنّهم عندها يستعصمون، مختارين غير ملجئين، و يستغفرون لمؤمني أهل الأرض الّذين تبرّؤا من تلك الكلمة و من أهلها. أو يطلبون من ربّهم أن يحلم عن أهل الأرض، و لا يعاجلهم بالعقاب، لما عرفوا في ذلك من المصالح، و حرصا على نجاة الخلق، و طمعا في توبة الكفّار و الفسّاق منهم.

وَ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ شركاء و أندادا اللَّهُ حَفِيظٌ عَلَيْهِمْ رقيب

______________________________

(1) غافر: 7.

(2) غافر: 7.

(3) أي: على قراءة: يتفطّرن.

(4) أي: على قراءة: ينفطرن.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 202

على أحوالهم و أعمالهم، لا يفوته منها شي ء، فيجازيهم بها وَ ما أَنْتَ يا محمّد عَلَيْهِمْ بِوَكِيلٍ بموكّل بهم، أو بموكل و مفوّض إليك أمرهم، و لا قسرهم على الإيمان، بل إنّما أنت منذر فحسب، فلا يضيقنّ صدرك بتكذيبهم إيّاك. و فيه تسلية له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

[سورة الشورى (42): الآيات 7 الى 9]

وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ قُرْآناً عَرَبِيًّا لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى وَ مَنْ حَوْلَها وَ تُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ لا رَيْبَ فِيهِ فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ (7) وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً وَ لكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ الظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (8) أَمِ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُّ وَ هُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (9)

وَ كَذلِكَ الإشارة إلى مصدر: يوحي، أي: مثل ذلك الإيحاء البيّن المفهم أَوْحَيْنا إِلَيْكَ أو إلى معنى الآية المتقدّمة من أنّ اللّه هو الرقيب عليهم و ما أنت برقيب عليهم و لكن نذير لهم، فإنّ هذا المعنى كرّره اللّه في كتابه في مواضع جمّة.

فيكون الكاف مفعولا به ل «أوحينا»، و قوله: قُرْآناً عَرَبِيًّا حالا منه، أي: أوحيناه إليك و هو قرآن عربيّ بيّن لا لبس فيه عليك، لتفهم ما يقال لك، و لا تتجاوز حدّ الإنذار.

لِتُنْذِرَ أُمَّ الْقُرى أهل امّ القرى. و هي مكّة. وَ مَنْ حَوْلَها من العرب وَ تُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ يوم القيامة يجمع فيه الخلائق، أو الأرواح و الأشباح، أو العمّال و الأعمال. يقال: أنذرته كذا، و أنذرته بكذا. و قد عدّي الأوّل- أعني «لِتُنْذِرَ

زبدة التفاسير،

ج 6، ص: 203

أُمَّ الْقُرى - إلى المفعول الأوّل، و الثاني- و هو قوله: «وَ تُنْذِرَ يَوْمَ الْجَمْعِ»- إلى المفعول الثاني. فحذف ثاني مفعولي الأوّل، و أوّل مفعولي الثاني، للتهويل و إيهام التعميم.

لا رَيْبَ فِيهِ اعتراض لا محلّ له فَرِيقٌ فِي الْجَنَّةِ وَ فَرِيقٌ فِي السَّعِيرِ أي: يجمعون في الموقف أوّلا ثمّ يفرّقون. و التقدير: منهم فريق. و الضمير للمجموعين، لدلالة الجمع عليه، فإنّه في معنى: يوم جمع الخلائق.

وَ لَوْ شاءَ اللَّهُ لَجَعَلَهُمْ أُمَّةً واحِدَةً أي: مؤمنين كلّهم على القسر و الإكراه، كقوله: وَ لَوْ شِئْنا لَآتَيْنا كُلَّ نَفْسٍ هُداها «1». و قوله: وَ لَوْ شاءَ رَبُّكَ لَآمَنَ مَنْ فِي الْأَرْضِ كُلُّهُمْ جَمِيعاً «2». و الدليل على أنّ المعنى هو الإلجاء إلى الإيمان قوله:

أَ فَأَنْتَ تُكْرِهُ النَّاسَ حَتَّى يَكُونُوا مُؤْمِنِينَ «3». و إدخال همزة الإنكار على المكره دون فعله، دليل على أنّ اللّه وحده هو القادر على هذا الإكراه دون غيره. فالمعنى:

و لو شاء ربّك مشيئة قدرة لقسرهم جميعا على الإيمان.

وَ لكِنْ يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ مشيئة حكمة. فكلّفهم و بنى أمرهم على ما يختارون، ليدخل المؤمنين في رحمته، و هم المرادون بمن يشاء. و تغيير المقابلة لأجل ذلك، أو للمبالغة في الوعيد، إذ الكلام في الإنذار. ألا ترى أنّه وضعهم في مقابلة الظالمين، و ترك الظالمين بغير وليّ و لا نصير في عذابه، بقوله: وَ الظَّالِمُونَ ما لَهُمْ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ أي: يدعهم بغير من يتولّى أمرهم و ينصرهم.

أَمِ اتَّخَذُوا أم منقطعة. و معنى الهمزة فيها للإنكار، أي: بل اتّخذوا مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءَ كالأصنام فَاللَّهُ هُوَ الْوَلِيُ هو الّذي يجب أن يتولّى وحده، و يعتقد أنّه المولى و السيّد. و ذكر الفاء

لأنّه جواب شرط محذوف، كأنّه قيل بعد إنكار كلّ

______________________________

(1) السجدة: 13.

(2) يونس: 99.

(3) يونس: 99.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 204

وليّ سواه: إن أرادوا وليّا بحقّ فاللّه الوليّ بالحقّ، لا وليّ سواه.

وَ هُوَ يُحْيِ الْمَوْتى وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ كالتقرير لكونه حقيقا بالولاية، أي: و من شأن هذا الوليّ أنّه يحيي الموتى للمجازاة، قادر على كلّ من الإحياء و الإماتة و غير ذلك. فهو الحقيق بأن يتّخذ وليّا، دون من لا يقدر على شي ء.

[سورة الشورى (42): الآيات 10 الى 12]

وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ فِيهِ مِنْ شَيْ ءٍ فَحُكْمُهُ إِلَى اللَّهِ ذلِكُمُ اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ (10) فاطِرُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ أَزْواجاً وَ مِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ (11) لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (12)

ثمّ حكى اللّه سبحانه قول رسوله للمؤمنين، فقال: وَ مَا اخْتَلَفْتُمْ أنتم و الكفّار فِيهِ مِنْ شَيْ ءٍ من أمر من أمور الدنيا أو الدين فَحُكْمُهُ فحكم ذلك المختلف فيه مفوّض إِلَى اللَّهِ يميّز بين المحقّ و المبطل بالنصر، أو بالإثابة و المعاقبة.

و قيل: و ما اختلفتم فيه من تأويل متشابه فارجعوا إلى المحكم من كتاب اللّه، و إلى الظاهر من سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و قيل: و ما تنازعتم من الخصومات فتحاكموا فيه إلى رسول اللّه، و لا تؤثروا على حكومته حكومة غيره، كقوله: فَإِنْ تَنازَعْتُمْ فِي شَيْ ءٍ فَرُدُّوهُ إِلَى اللَّهِ

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 205

وَ الرَّسُولِ «1».

و قيل: و ما وقع بينكم الخلاف فيه من العلوم الّتي لا تتّصل بتكليفكم، و لا طريق لكم إلى علمه، فقولوا: اللّه

أعلم، كمعرفة الروح. قال اللّه تعالى: وَ يَسْئَلُونَكَ عَنِ الرُّوحِ قُلِ الرُّوحُ مِنْ أَمْرِ رَبِّي «2».

ذلِكُمُ الحاكم بينكم اللَّهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ في ردّ كيد أعداء الدين، و في سائر مجامع الأمور وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ أرجع في كفاية شرّهم، و غيرها من المعضلات.

فاطِرُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ خبر آخر ل «ذلكم». أو مبتدأ خبره جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنْفُسِكُمْ من جنسكم أَزْواجاً نساء لتسكنوا إليها وَ مِنَ الْأَنْعامِ أَزْواجاً أي: خلق للأنعام من جنسها أزواجا. أو خلق لكم من الأنعام أصنافا، أو ذكورا و إناثا. يَذْرَؤُكُمْ يكثّركم. يقال: ذرأ اللّه الخلق: بثّهم و كثّرهم. من الذرء، و هو البثّ. و في معناه: الذرو و الذرّ. و الضمير راجع إلى المخاطبين و الأنعام، مغلّبا فيه المخاطبون العقلاء على الغيب ممّا لا يعقل. فِيهِ في جعل الناس و الأنعام أزواجا ليكون بينهم توالد. و إيثار «فيه» على: به، لإفادة أنّ هذا التدبير كالمنبع و المعدن للبثّ و التكثير.

لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ أي: شي ء يزاوجه و يناسبه. و المراد من مثله ذاته، كما في قولهم: مثلك لا يبخل، فنفوا البخل عن مثله، و هم يريدون نفيه عن ذاته على قصد المبالغة في نفيه، فسلكوا به طريق الكناية، لأنّهم إذا نفوه عمّن يناسبه و يسدّ مسدّه، و يكون على أخصّ أوصافه، فقد نفوه عنه بطريق أولى.

فإذا علم أنّه من باب الكناية لم يقع فرق بين قوله: ليس كاللّه شي ء، و بين

______________________________

(1) النساء: 59.

(2) الإسراء: 85.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 206

قوله: «لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْ ءٌ» إلّا ما تعطيه الكناية من فائدتها، فكأنّهما عبارتان معتقبتان على معنى واحد، و هو نفي المماثلة عن ذاته. و نحوه قوله تعالى: بَلْ يَداهُ مَبْسُوطَتانِ «1»، فإنّ معناه: بل

هو جواد من غير تصوّر يد و لا بسطها، لأنّهما وقعتا عبارة عن الجود، لا يقصدون شيئا آخر، حتّى إنّهم استعملوها فيمن لا يد له، فكذلك استعمل هذا فيمن له مثل و من لا مثل له.

و من قال: الكاف فيه زائدة، لعلّه عنى أنّه يعطي معنى: ليس مثله، غير أنّه أكّد لما ذكرناه. و قيل: مثله صفته، أي: ليس كصفته صفة.

وَ هُوَ السَّمِيعُ الْبَصِيرُ أي: العالم بكلّ ما يسمع و يبصر.

لَهُ مَقالِيدُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ خزائنها يَبْسُطُ الرِّزْقَ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَقْدِرُ يوسّع و يضيّق على وفق مشيئته إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ فيفعله على ما ينبغي. فإذا علم أنّ الغنى خير للعبد أغناه، و إلّا أفقره.

[سورة الشورى (42): الآيات 13 الى 15]

شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي إِلَيْهِ مَنْ يُنِيبُ (13) وَ ما تَفَرَّقُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (14) فَلِذلِكَ فَادْعُ وَ اسْتَقِمْ كَما أُمِرْتَ وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ وَ قُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (15)

______________________________

(1) المائدة: 64.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 207

شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ ما وَصَّى بِهِ نُوحاً وَ الَّذِي أَوْحَيْنا إِلَيْكَ وَ ما وَصَّيْنا بِهِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى وَ عِيسى

أي: شرع لكم من الدين، دين نوح و محمّد عليهما السّلام، و من بينهما من أرباب الشرائع، و هو الأصل المشترك فيما بينهم.

ثمّ فسّر الشرع الّذي اشترك هؤلاء الأعلام من رسله فيه بقوله: أَنْ أَقِيمُوا الدِّينَ و هو الإيمان بما يجب تصديقه، من توحيد اللّه و كتبه و رسله و حججه و يوم الجزاء، و سائر ما يكون الرجل بإقامته مؤمنا. و لم يرد الشرائع الّتي هي مصالح للأمم على حسب أحوالها من فروعات الإسلام، فإنّها مختلفة متفاوتة. قال اللّه تعالى: لِكُلٍّ جَعَلْنا مِنْكُمْ شِرْعَةً وَ مِنْهاجاً «1». و محلّه النصب على البدل من مفعول «شرع». أو الرفع على الاستئناف. كأنّه قيل: و ما ذلك المشروع؟ فقيل: هو إقامة الدين. أو الجرّ على البدل من هاء «به».

وَ لا تَتَفَرَّقُوا فِيهِ و لا تختلفوا في هذا الأصل كَبُرَ عَلَى الْمُشْرِكِينَ عظم و شقّ عليهم ما تَدْعُوهُمْ إِلَيْهِ من التوحيد اللَّهُ يَجْتَبِي إِلَيْهِ يجتلب إلى ما تدعوهم. أو إلى الدين بالتوفيق و التسديد. مَنْ يَشاءُ من ينفع فيهم توفيقه، و يجدي عليهم لطفه، من أصحاب الاسترشاد وَ يَهْدِي إِلَيْهِ بالإرشاد و التوفيق مَنْ يُنِيبُ من يقبل إليه.

______________________________

(1) المائدة: 48.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 208

وَ ما تَفَرَّقُوا يعني: الأمم السالفة. و قيل: أهل الكتاب، لقوله تعالى: وَ مَا اخْتَلَفَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ «1». إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ أي: العلم بأن التفرّق ضلال متوعّد عليه على ألسنة الأنبياء. أو العلم بمبعث الرسول، أو أسباب العلم من الرسل و الكتب و غيرهما، فلم يلتفتوا إليها بَغْياً بَيْنَهُمْ عداوة، أو طلبا للدنيا.

وَ لَوْ لا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ بالإمهال إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو يوم القيامة، أو آخر أعمارهم المقدّرة لَقُضِيَ

بَيْنَهُمْ باستئصال المبطلين حين افترقوا، لعظم ما اقترفوا وَ إِنَّ الَّذِينَ أُورِثُوا الْكِتابَ مِنْ بَعْدِهِمْ يعني: أهل الكتاب الّذين كانوا في عهد الرسول، أو المشركين الّذين أورثوا القرآن من بعد أهل الكتاب لَفِي شَكٍّ مِنْهُ من الكتاب، لا يعلمونه كما هو، أو لا يؤمنون به حقّ الإيمان. أو من القرآن.

مُرِيبٍ مقلق، أو مدخل في الريبة.

و قيل: كان الناس أمّة واحدة مؤمنين، بعد أن أهلك اللّه أهل الأرض أجمعين بالطوفان، فلمّا مات الآباء اختلف الأبناء فيما بينهم، و ذلك حين بعث اللّه إليهم النبيّين مبشّرين و منذرين، و جاءهم العلم، و إنّما اختلفوا للبغي بينهم.

فَلِذلِكَ فلأجل ذلك التفرّق، و لما حدث بسببه من تشعّب الكفر شعبا. أو لأجل ذلك الكتاب، أو العلم الذي أوتيته. فَادْعُ إلى الاتّفاق على الملّة الحنيفيّة القديمة. أو للاتّباع لما أوتيت فادع. و على هذا يجوز أن تكون اللام في موضع «إلى» لإفادة الصلة، فإنّه يفيد معنى كون ما دخل عليه اللام معمولا متقدّما، فكأنّه قال: ادع إلى الاتّباع، لأنّه يقال: دعا إليه.

وَ اسْتَقِمْ على الدعوة كَما أُمِرْتَ كما أمرك اللّه وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَهُمْ المختلفة الباطلة.

وَ قُلْ آمَنْتُ بِما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنْ كِتابٍ أيّ كتاب صحّ أنّ اللّه أنزله. يعني:

______________________________

(1) آل عمران: 19.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 209

الإيمان بجميع الكتب المنزلة، لا كالكفّار الّذين آمنوا ببعض و كفروا ببعض، كقوله:

وَ يَقُولُونَ نُؤْمِنُ بِبَعْضٍ وَ نَكْفُرُ بِبَعْضٍ إلى قوله: هُمُ الْكافِرُونَ حَقًّا «1».

وَ أُمِرْتُ لِأَعْدِلَ بَيْنَكُمُ في تبليغ الحكومات و الشرائع. و الأوّل إشارة إلى كمال القوّة النظريّة، و هذا إشارة إلى كمال القوّة العمليّة.

اللَّهُ رَبُّنا وَ رَبُّكُمْ خالق الكلّ و متولّي أمره. و إنّما قال ذلك لأنّ المشركين قد اعترفوا بأنّ اللّه

هو الخالق. لَنا أَعْمالُنا وَ لَكُمْ أَعْمالُكُمْ و كلّ مجازى بعمله، و لا يؤاخذ أحد بذنب غيره، فلا يضرّنا إصراركم على الكفر. لا حُجَّةَ بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ لا حجاج بمعنى: لا خصومة، إذ الحقّ قد ظهر، و لم يبق للمحاجّة مجال، و لا للخلاف مبدأ، سوى العناد، فلا حاجة إلى المحاجّة.

اللَّهُ يَجْمَعُ بَيْنَنا يوم القيامة، فيفصل بيننا، و ينتقم لنا منكم وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ مرجع الكلّ لفصل القضاء.

و هذه محاجزة في مواقف المقاولة لا المقاتلة، و متاركة بعد ظهور الحقّ و قيام الحجّة و الإلزام. فليس في الآية ما يدلّ على متاركة الكفّار رأسا، حتّى تكون منسوخة بآية القتال «2».

[سورة الشورى (42): الآيات 16 الى 20]

وَ الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ حُجَّتُهُمْ داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ وَ عَلَيْهِمْ غَضَبٌ وَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (16) اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ بِالْحَقِّ وَ الْمِيزانَ وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ (17) يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها وَ الَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها وَ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُّ أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (18) اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ وَ هُوَ الْقَوِيُّ الْعَزِيزُ (19) مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الْآخِرَةِ نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ (20)

______________________________

(1) النساء: 150- 151.

(2) التوبة: 29.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 210

زبدة التفاسير ج 6 259

و لمّا تقدّم ظهور الحجّة و انقطاع المحاجّة، عقّبه بذكر من يحاجّ بالباطل، فقال: وَ الَّذِينَ يُحَاجُّونَ فِي اللَّهِ في دينه مِنْ بَعْدِ ما اسْتُجِيبَ لَهُ من بعد ما استجاب له الناس و دخلوا في الإسلام، ليردّوهم إلى دين الجاهليّة، كقوله: وَدَّ كَثِيرٌ مِنْ أَهْلِ

الْكِتابِ لَوْ يَرُدُّونَكُمْ مِنْ بَعْدِ إِيمانِكُمْ كُفَّاراً «1».

و قيل: نزلت في اليهود و النصارى كانوا يقولون للمؤمنين: كتابنا قبل كتابكم، و نبيّنا قبل نبيّكم، و نحن خير منكم.

و قيل: من بعد ما استجاب اللّه لرسوله، و أظهر دينه بنصره يوم بدر. أو من بعد ما استجاب له أهل الكتاب، بأن أقرّوا بنبوّته و استفتحوا به.

حُجَّتُهُمْ أي: ما سمّوه حجّة على اعتقادهم داحِضَةٌ عِنْدَ رَبِّهِمْ زائلة باطلة وَ عَلَيْهِمْ غَضَبٌ لمعاندتهم وَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ على كفرهم.

اللَّهُ الَّذِي أَنْزَلَ الْكِتابَ جنس الكتاب بِالْحَقِ ملتبسا بالحقّ، مقترنا به، بعيدا من الباطل. أو بالغرض الصحيح كما اقتضته الحكمة، أو بالواجب من التحليل و التحريم، و غير ذلك من العقائد و الأحكام. وَ الْمِيزانَ و الشرع الّذي توزن به الحقوق، و يسوّى بين الناس. أو العدل. و معنى إنزاله: أنّه أمر به في كتبه المنزلة.

______________________________

(1) البقرة: 109.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 211

و قيل: الّذي توزن به الأجناس. و إنزاله الوحي بإعداده و الأمر به في الكتب السماويّة.

وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّ السَّاعَةَ قَرِيبٌ إتيانها، فاتّبع الكتاب، و اعمل بالشرع، و واظب على العدل، قبل أن يفاجئك اليوم الّذي توزن فيه أعمالك و توفى جزاؤك.

و قيل: تذكير القريب لأنّه بمعنى: ذات قرب، أو لأنّ الساعة بمعنى البعث.

يَسْتَعْجِلُ بِهَا الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِها استهزاء وَ الَّذِينَ آمَنُوا مُشْفِقُونَ مِنْها خائفون من مجيئها، مع اعتنائهم بها، لتوقّع الثواب وَ يَعْلَمُونَ أَنَّهَا الْحَقُ الكائن لا محالة أَلا إِنَّ الَّذِينَ يُمارُونَ فِي السَّاعَةِ يجادلون فيها، فيخاصمون في مجيئها على وجه الإنكار لها. من المرية، أي: يدخلهم المرية و الشكّ. أو من: مريت الناقة، إذا مسحت ضرعها بشدّة للحلب، لأنّ كلّا من المتجادلين يستخرج ما عند صاحبه

بكلام فيه شدّة. لَفِي ضَلالٍ بَعِيدٍ عن الحقّ، لأنّ قيام الساعة غير مستبعد من قدرة اللّه، و لدلالة الكتاب المعجز على أنّها آتية، و لشهادة العقول على أنّه لا بدّ من دار جزاء. فالبعث أشبه الغائبات إلى المحسوسات، فمن لم يهتد لتجويزه فهو أبعد عن الاهتداء إلى ما وراءه.

اللَّهُ لَطِيفٌ بِعِبادِهِ برّ بهم بصنوف من البرّ بحيث لا تبلغها الأفهام. أو عالم بخفيّات الأمور و الغيوب، فيوصل النعمة إلى العباد من وجه يدقّ إدراكه، بأن يعطيهم النعم الّتي لا يترقّبونها، و يصرف الآفات عنهم، و يدخل السرور و الملاذّ إليهم، بحيث خفي أسبابها عنهم، و غير ذلك من الألطاف الّتي لا يوقف على كنهها لغموضها.

يَرْزُقُ مَنْ يَشاءُ أي: يرزقه كما يشاء، فيخصّ كلّا من عباده بنوع من البرّ على ما اقتضته حكمته. يعني: كلّهم مبرورون بحيث لا يخلو أحد من برّه، إلّا أنّ البرّ أصناف، و له أوصاف، و القسمة بين العباد تتفاوت على حسب تفاوت قضايا

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 212

الحكمة و التدبير، فيطير «1» لبعض العباد صنف من البرّ لم يطر مثله لآخر، و يصيب هذا حظّ له وصف ليس ذلك الوصف لحظّ صاحبه. فمن قسّم له منهم ما لم يقسّم للآخر فقد رزقه، كما يرزق أحد الأخوين ولدا دون الآخر، على أنّه أصابه بنعمة اخرى لم يرزقها صاحب الولد. أو معناه: يوسع الرزق على من يشاء. يقال: فلان مرزوق، إذا وصف بسعة الرزق.

و قيل: معناه: يرزق من يشاء في خفض و دعة، و من يشاء في كدّ و تعب.

و كلّ من يرزقه اللّه من ذي روح، فهو ممّن يشاء أن يرزقه.

وَ هُوَ الْقَوِيُ الباهر القدرة الْعَزِيزُ المنيع الغالب الّذي لا يغلب.

مَنْ كانَ يُرِيدُ

حَرْثَ الْآخِرَةِ ثوابها، أو العمل الّذي يوجب ثوابها. شبّهه بالزرع من حيث إنّه فائدة تحصل بعمل الدنيا، و لذلك قيل: الدنيا مزرعة الآخرة.

و الحرث في الأصل إلقاء البذر في الأرض. و يقال للزرع الحاصل منه أيضا. نَزِدْ لَهُ فِي حَرْثِهِ فنعطه بالواحد عشرا إلى سبعمائة فما فوقها. أو نوفّقه في عمله، فضوعفت حسناته. فسمّى ما يعمله العامل ممّا يبغي به الفائدة و الزكاء حرثا على المجاز.

وَ مَنْ كانَ يُرِيدُ حَرْثَ الدُّنْيا نُؤْتِهِ مِنْها شيئا منها، لا ما يريده و يبتغيه. و هو رزقه الّذي قسمنا له. وَ ما لَهُ فِي الْآخِرَةِ مِنْ نَصِيبٍ إذ الأعمال بالنيّات، و لكلّ امرئ ما نوى.

و قيل: معناه من قصد بالجهاد وجه اللّه فله سهم الغانمين و الثواب في الآخرة، و من قصد به الغنيمة لم يحرم ذلك، و حصل له سهمه من الغنيمة، و لكن لا نصيب له من الثواب في الآخرة.

و

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «من كانت نيّته الآخرة جمع اللّه شمله،

______________________________

(1) أي: يقسم، من: أطار المال: قسمه. زبدة التفاسير، ج 6، ص: 213

و جعل غناه في قلبه، و أتته الدنيا و هي راغمة. و من كانت نيّته الدنيا فرّق اللّه عليه أمره، و جعل الفقر بين عينيه، و لم يأته من الدنيا إلّا ما كتب له».

و عن الحسن: من كان يعمل للآخرة نال الدنيا و الآخرة، و من عمل للدنيا فلا حظّ له في الآخرة، لأنّ الأعلى لا يجعل تبعا للأدون.

[سورة الشورى (42): الآيات 21 الى 23]

أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ شَرَعُوا لَهُمْ مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ وَ لَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (21) تَرَى الظَّالِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا

كَسَبُوا وَ هُوَ واقِعٌ بِهِمْ وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ ذلِكَ هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ (22) ذلِكَ الَّذِي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلاَّ الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ شَكُورٌ (23)

و لمّا أخبر سبحانه أنّ من يطلب الدنيا بأعماله فلا حظّ له في الآخرة، قال:

أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ بل ألهم شركاء. و الهمزة للتقريع و التقرير. و شركاؤهم شياطينهم.

شَرَعُوا لَهُمْ بالتزيين مِنَ الدِّينِ ما لَمْ يَأْذَنْ بِهِ اللَّهُ كالشرك، و إنكار البعث، و العمل للدنيا.

و قيل: شركاؤهم أوثانهم. و إضافتها إليهم لأنّهم متّخذوها شركاء للّه، فتارة تضاف إليهم لهذه الملابسة، و تارة إلى اللّه. و إسناد الشرع إليها لأنّها سبب ضلالتهم

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 214

و افتتانهم بما تديّنوا به، فكأنّها شارعة لهم دين الكفر، كما قال إبراهيم عليه السّلام: رَبِّ إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً مِنَ النَّاسِ «1». أو صور من سنّه لهم، كما قيل: إنّ جمشيد أخذ تماثيل مصوّرة بصورته، فأرسلها إلى الأقاليم ليعظّموها.

وَ لَوْ لا كَلِمَةُ الْفَصْلِ أي: القضاء السابق بتأجيل الجزاء، أو العدّة بأنّ الفصل يكون يوم القيامة لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ بين الكافرين و المؤمنين، أو المشركين و شركائهم وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ

تَرَى الظَّالِمِينَ في القيامة مُشْفِقِينَ خائفين خوفا شديدا أرقّ «2» قلوبهم مِمَّا كَسَبُوا من السيّئات وَ هُوَ واقِعٌ بِهِمْ أي: و باله لا حق بهم، و واصل إليهم، لا بدّ لهم منه، أشفقوا أولم يشفقوا وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فِي رَوْضاتِ الْجَنَّاتِ في أطيب بقاعها و أنزهها، فإنّ الروضة الأرض الخضرة بحسن النبات

و الأشجار المثمرة المورقة المونقة لَهُمْ ما يَشاؤُنَ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي: ما يشتهونه ثابت لهم عند ربّهم ذلِكَ إشارة إلى ما للمؤمنين هُوَ الْفَضْلُ الْكَبِيرُ الّذي يصغر عنده ما لغيرهم في الدنيا.

ذلِكَ الَّذِي ذلك الثواب الّذي يُبَشِّرُ اللَّهُ عِبادَهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي: يبشّرهم اللّه به، فحذف الجارّ ثمّ العائد. أو ذلك التبشير الّذي يبشّره اللّه عباده، ليستعجلوا بذلك السرور في الدنيا.

و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و حمزة و الكسائي: يبشر، من بشره. و من شدّد الشين أراد به التكثير، و من خفّفها فلأنّه يدلّ على القليل و الكثير.

روي: أنّه اجتمع المشركون في مجمع لهم فقال بعضهم لبعض: أ ترون محمّدا يسأل على ما يتعاطاه أجرا؟ فنزلت: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ

على ما أتعاطاه من

______________________________

(1) إبراهيم: 36.

(2) أي: ألانه.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 215

التبليغ و البشارة أَجْراً نفعا منكم إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى إلّا أن تودّوا أهل قرابتي. و لم يكن هذا أجرا في الحقيقة، لأنّ قرابته قرابتهم، فكانت صلتهم لازمة لهم في المروءة. و يجوز أن يكون منقطعا، أي: لا أسألكم أجرا قطّ، و لكن أسألكم أن تودّوا قرابتي الّذين هم قرابتكم، و لا تؤذوهم.

و لم يقل: إلّا مودّة القربى، أو إلّا المودّة للقربى، بل قال: إلّا المودّة في القربى، لإفادة أنّهم جعلوا مكانا للمودّة و مقرّا لها، كقولك: لي في آل فلان مودّة، و لي فيهم هوى و حبّ شديد. تريد: أحبّهم، و هم مكان حبّي و محلّه. و ليست «في» بصلة للمودّة، كاللام إذا قلت: إلّا المودّة للقربى، بل هي متعلّقة بمحذوف تعلّق الظرف به في قولك: المال في الكيس. و تقديره: إلّا المودّة ثابتة في القربى و

متمكّنة فيها. و القربى مصدر كالزلفى و البشرى، بمعنى القرابة. و المراد: في أهل القربى، كما فسّرنا به.

روي عن قيس، عن الأعمش، عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس أنّها لمّا نزلت قيل: يا رسول اللّه من قرابتك هؤلاء الّذين وجبت علينا مودّتهم؟ قال:

«عليّ، و فاطمة، و ابناهما».

قال النيشابوري في تفسيره بعد ذكر هذا الحديث: «و لا ريب أنّ هذا فخر عظيم و شرف تامّ. و يؤيّده ما

روي عن عليّ عليه السّلام: شكوت إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حسد الناس لي، فقال: «أما ترضى أن تكون رابع أربعة: أوّل من يدخل الجنّة أنا و أنت و الحسن و الحسين، و أزواجنا عن أيماننا و شمائلنا، و ذرّيّتنا خلف أزواجنا» «1».

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «حرّمت الجنّة على من ظلم أهل بيتي و آذاني في عترتي.

و من اصطنع صنيعة إلى أحد من ولد عبد المطّلب، و لم يجازه عليها، فأنا أجازيه عليها غدا إذا لقيني يوم القيامة».

______________________________

(1) غرائب القرآن 6: 74.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 216

و

قال النيشابوري: إنّه كان يقول: «فاطمة بضعة منّي، يؤذيني ما يؤذيها».

و

ثبت بالنقل المتواتر أنّه كان يحبّ عليّا و الحسن و الحسين،

و إذا كان كذلك وجب علينا محبّتهم، لقوله: فَاتَّبِعُوهُ «1». و كفى شرفا لآل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و فخرا ختم التشهّد بذكرهم، و الصلاة عليهم في كلّ صلاة» «2». انتهى كلامه.

و

ورد من طرق الخاصّة و العامّة أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «مثل أهل بيتي كمثل سفينة نوح، من ركب فيها نجا، و من تخلّف عنها غرق».

فنحن نركب سفينة حبّ آل محمد صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم، لنتخلّص في بحر التكليف و ظلمة الجهالة من أمواج الشبه و الضلالة.

و

روي: أنّ الأنصار قالوا: فعلنا و فعلنا، كأنّهم افتخروا. فقال عبّاس: لنا الفضل عليكم. فبلغ ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فأتاهم في مجالسهم، فقال: «يا معشر الأنصار الم تكونوا أذلّة فأعزّكم اللّه بي؟

قالوا: بلى يا رسول اللّه.

قال: ألم تكونوا ضلّالا فهداكم اللّه بي؟

قالوا: بلى يا رسول اللّه.

قال: أ فلا تجيبونني؟ يعني: لم لم تفتخروا أنتم أيضا؟

قالوا: ما نقول يا رسول اللّه؟

قال: ألا تقولون: ألم يخرجك قومك فآويناك؟ أولم يكذّبوك فصدّقناك؟ أو لم يخذلوك فنصرناك؟

قال: فما زال يقول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى جثوا على الركب و قالوا: أموالنا و ما في أيدينا للّه و لرسوله». فنزلت الآية.

______________________________

(1) الأنعام: 153.

(2) غرائب القرآن 6: 74.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 217

و

روى الزمخشري و الثعلبي في تفسيريهما أنّه قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من مات على حبّ آل محمد مات شهيدا، ألا و من مات على حبّ آل محمّد مات مغفورا له، ألا و من مات على حبّ آل محمّد مات تائبا، ألا و من مات على حبّ آل محمد مات مؤمنا مستكمل الإيمان، ألا و من مات على حبّ آل محمّد بشّره ملك الموت بالجنّة، ثمّ منكر و نكير، ألا و من مات على حبّ آل محمّد يزفّ إلى الجنّة كما تزفّ العروس إلى بيت زوجها، ألا و من مات على حبّ آل محمّد فتح له في قبره بابان إلى الجنّة، ألا و من مات على حبّ آل محمّد جعل اللّه قبره مزار ملائكة الرحمة، ألا و من مات

على حبّ آل محمّد مات على السنّة و الجماعة، ألا و من مات على بغض آل محمّد جاء يوم القيامة مكتوب بين عينيه: آيس من رحمة اللّه، ألا و من مات على بغض آل محمّد مات كافرا، ألا و من مات على بغض آل محمّد لم يشمّ رائحة الجنّة» «1».

و قيل: لم يكن بطن من بطون قريش إلّا و بين رسول اللّه و بينهم قربى، فلمّا كذّبوه و أبوا أن يبايعوه نزلت. و المعنى: إلّا أن تودّوني في القربى، أي: في حقّ القربى و من أجلها، كما تقول: الحبّ في اللّه و البغض في اللّه، بمعنى: في حقّه و من أجله. يعني: أنّكم قومي و أحقّ من أجابني و أطاعني، فإذا قد أبيتم ذلك فاحفظوا حقّ القربى، و لا تؤذوني، و لا تهيّجوا عليّ.

و

قيل: أتت الأنصار رسول اللّه بمال جمعوه و قالوا: يا رسول اللّه قد هدانا اللّه بك، أنت ابن أختنا و تعروك نوائب و حقوق و مالك سعة، فاستعن بهذا على ما ينوبك. فنزلت، وردّه.

و قيل: «القربى» التقرّب إلى اللّه، أي: لا أسألكم على تبليغ الرسالة و تعليم الشريعة أجرا، إلّا أن تحبّوا اللّه و رسوله في تقرّبكم إليه بالطاعة و العمل الصالح.

______________________________

(1) الكشّاف 4: 220- 221.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 218

و القول الأوّل منقول عن عليّ بن الحسين، و سعيد بن جبير، و عمرو بن شعيب، و جماعة كثيرة. و هو المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.

و

في شواهد التنزيل مرفوعا إلى أبي امامة الباهلي قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ اللّه خلق الأنبياء من أشجار شتّى، و خلقت أنا و عليّ من شجرة

واحدة. فأنا أصلها، و عليّ فرعها، و فاطمة لقاحها، و الحسن و الحسين ثمارها، و أشياعنا أوراقها. فمن تعلّق بغصن من أغصانها نجا، و من زاغ عنها هوى. و لو أنّ عبدا عبد اللّه بين الصفا و المروة ألف عام ثمّ ألف عام ثمّ ألف عام، حتّى يصير كالشنّ «1» البالي، ثمّ لم يدرك محبّتنا، أكبّه اللّه في النار على منخريه. ثمّ تلا: قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً الآية» «2».

و

روي عن عليّ عليه السّلام قال: «فينا في آل حم آية، لا يحفظ مودّتنا إلّا كلّ مؤمن. ثمّ قرأ هذه الآية».

وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً و من يكتسب طاعة سيّما حبّ آل الرسول نَزِدْ لَهُ فِيها في الحسنة حُسْناً بمضاعفة الثواب إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لمن أذنب شَكُورٌ لمن أطاع، بتوفية الثواب و التفضّل عليه بالزيادة، فإنّ الشكور في صفة اللّه مجاز للاعتداد بالطاعة، و توفية ثوابها، و التفضّل على المثاب.

و عن السدّي: أنّها- أي: الحسنة- المودّة لآل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و

صحّ عن الحسن بن عليّ أنّه عليه السّلام خطب الناس فقال في خطبته: «أنا من أهل البيت الّذين افترض اللّه مودّتهم على كلّ مسلم، فقال: «قُلْ لا أَسْئَلُكُمْ عَلَيْهِ أَجْراً إِلَّا الْمَوَدَّةَ فِي الْقُرْبى وَ مَنْ يَقْتَرِفْ حَسَنَةً نَزِدْ لَهُ فِيها حُسْناً» فاقتراف الحسنة مودّتنا أهل البيت».

______________________________

(1) الشنّ: القربة البالية الصغيرة.

(2) شواهد التنزيل 2: 203 ح 837.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 219

و

روى إسماعيل بن عبد الخالق، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إنّها نزلت فينا أهل البيت أصحاب الكساء».

و الظاهر العموم في أيّ حسنة كانت، إلّا أنّها لمّا ذكرت عقيب ذكر المودّة في القربى، دلّ ذلك على أنّها تناولت المودّة تناولا أوّليّا،

و كان سائر الحسنات لها توابع.

[سورة الشورى (42): الآيات 24 الى 26]

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ وَ يَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَ يُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (24) وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ وَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ (25) وَ يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ وَ الْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ (26)

أَمْ يَقُولُونَ افْتَرى بل أ يقولون افترى محمّد عَلَى اللَّهِ كَذِباً بدعوى النبوّة أو القرآن. ف «أم» منقطعة، و الهمزة للتوبيخ. كأنّه قيل: أ يتمالكون أن ينسبوا مثل الرسول إلى الافتراء، ثم إلى الافتراء على اللّه الّذي هو أعظم الفري و أفحشها؟

فَإِنْ يَشَإِ اللَّهُ يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ استبعاد للافتراء عن مثله، مع الإشعار على أنّه إنّما يجترئ عليه من كان مختوما على قلبه جاهلا بربّه، فأمّا من كان ذا بصيرة و معرفة فلا. و كأنّه قال: إن يشأ اللّه يجعلك من المختوم على قلوبهم، حتّى تفتري عليه الكذب، فإنّه لا يجترئ على افتراء الكذب على اللّه إلّا من كان في مثل حالهم.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 220

و عن قتادة: معنى «يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ» ينسك القرآن، و يقطع عنك الوحي.

يعني: لو حدّث نفسك بأن تفتري على اللّه كذبا لطبع اللّه على قلبك، و لأنساك القرآن. و هذا كقوله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ «1».

و قيل: «يَخْتِمْ عَلى قَلْبِكَ» يربط عليه بالصبر، حتّى لا يشقّ عليك أذاهم.

وَ يَمْحُ اللَّهُ الْباطِلَ وَ يُحِقُّ الْحَقَّ بِكَلِماتِهِ استئناف لنفي الافتراء عمّا يقوله، بأنّه لو كان مفترى لمحقه، إذ من عادته تعالى محو الباطل و إثبات الحقّ بوحيه أو بقضائه، كقوله: بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْباطِلِ فَيَدْمَغُهُ «2». يعني: لو

كان مفتريا كما تزعمون لكشف اللّه افتراءه و محقه، و قذف بالحقّ على باطله فدمغه. و يجوز أن يكون عدة لرسول اللّه بأنّه يمحو الباطل الّذي هم عليه من البهتان و التكذيب، و تثبيت الحقّ الّذي أنت عليه بالقرآن و بقضائه الّذي لا مردّ له من نصرك عليهم.

إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بما في صدرك و صدورهم، فيجري الأمر على حسب ذلك. و سقوط الواو من «يمح» في بعض المصاحف لاتّباع اللفظ، كما في قوله: وَ يَدْعُ الْإِنْسانُ «3» و سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ «4».

وَ هُوَ الَّذِي يَقْبَلُ التَّوْبَةَ عَنْ عِبادِهِ بالتجاوز عمّا تابوا عنه و إن عظمت معاصيهم. فكأنّه قال: من نسب محمّدا إلى الافتراء ثمّ تاب قبلت توبته و إن جلّت معصيته. و القبول يعدّى إلى مفعول ثان ب «من» و «عن»، لتضمّنه معنى الأخذ و الإبانة. يقال: قبلت منه الشي ء، و قبلته عنه. فمعنى قبلته منه: أخذته منه، و جعلته مبدأ قبولي و منشأه. و معنى قبلته عنه: عزلته و أبنته عنه. و التوبة أن يرجع عن

______________________________

(1) الزمر: 65.

(2) الأنبياء: 18.

(3) الإسراء: 11.

(4) العلق: 18.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 221

القبيح، و عن الإخلال بالواجب، بالندم عليهما، و العزم على أن لا يعاود.

و

روى جابر: أنّ أعرابيّا دخل مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قال: اللّهمّ إنّي أستغفرك و أتوب إليك، و كبّر. فلمّا فرغ من صلاته قال له عليّ عليه السّلام: «يا هذا إنّ سرعة اللسان بالاستغفار توبة الكذّابين، و توبتك تحتاج إلى التوبة.

فقال: يا أمير المؤمنين و ما التوبة؟

قال: اسم يقع على ستّة معان: على الماضي من الذنوب الندامة، و لتضييع الفرائض الإعادة، و ردّ المظالم، و إذابة النفس في

الطاعة كما ربّيتها في المعصية، و إذاقتها مرارة الطاعة كما أذقتها حلاوة المعصية، و البكاء بدل كلّ ضحك ضحكته».

وَ يَعْفُوا عَنِ السَّيِّئاتِ عن الكبائر إذا تيب عنها، و عن الصغائر إذا اجتنبت الكبائر. أو يعفو عن الكبائر و الصغائر مطلقا لمن يشاء تفضّلا. وَ يَعْلَمُ ما تَفْعَلُونَ من خير و شرّ، فيجازيهم على ذلك، و يتجاوز عنهم على مقتضى حكمته. و قرأ حمزة و حفص و الكسائي: ما تفعلون بالتاء.

وَ يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي: يستجيب اللّه لهم، فحذف اللام كما حذف في وَ إِذا كالُوهُمْ «1». و المراد إجابة الدعاء أو الإثابة على الطاعة، فإنّها كدعاء و طلب لما يترتّب عليها. و منه

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أفضل الدعاء الحمد للّه».

أو يستجيبون اللّه بالطاعة إذا دعاهم إليها. وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ على ما سألوا و استحقّوا من الثواب و استوجبوا له.

و روي عن ابن عبّاس: أنّ معنى «وَ يَسْتَجِيبُ الَّذِينَ آمَنُوا» أن يشفّعهم في إخوانهم. «وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ» يشفّعهم في إخوان إخوانهم.

و

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و آله في قوله:

وَ يَزِيدُهُمْ مِنْ فَضْلِهِ الشفاعة لمن وجبت له النار ممّن أحسن إليهم في الدنيا».

______________________________

(1) المطفّفين: 3.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 222

وَ الْكافِرُونَ لَهُمْ عَذابٌ شَدِيدٌ بدل ما للمؤمنين من الثواب و التفضّل.

[سورة الشورى (42): الآيات 27 الى 29]

وَ لَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ وَ لكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ ما يَشاءُ إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ بَصِيرٌ (27) وَ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا وَ يَنْشُرُ رَحْمَتَهُ وَ هُوَ الْوَلِيُّ الْحَمِيدُ (28) وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ

وَ ما بَثَّ فِيهِما مِنْ دابَّةٍ وَ هُوَ عَلى جَمْعِهِمْ إِذا يَشاءُ قَدِيرٌ (29)

و لمّا بيّن سبحانه أنّه يزيد المؤمنين من فضله، أخبر عقيبه أنّ الزيادة في الأرزاق في الدنيا تكون على حسب المصالح، فقال:

وَ لَوْ بَسَطَ اللَّهُ الرِّزْقَ لِعِبادِهِ لَبَغَوْا فِي الْأَرْضِ لبغى بعضهم على بعض استيلاء و استعلاء. أو لتكبّروا و أفسدوا فيها بطرا، فإنّ الغنى مبطرة مأشرة «1». و كفى بحال قارون عبرة. و هذا على الغالب. و

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أخوف ما أخاف على أمّتي زهرة الدنيا و كثرتها».

و أصل البغي طلب التجاوز عن الاقتصاد فيما يتحرّى كمّيّة و كيفيّة.

وَ لكِنْ يُنَزِّلُ بِقَدَرٍ بتقدير ما يَشاءُ كما اقتضته مشيئته إِنَّهُ بِعِبادِهِ خَبِيرٌ عليم بخفايا أمرهم و جلايا حالهم بَصِيرٌ بما يصلحهم و ما يفسدهم في عواقب أمورهم. فيقدّر لهم ما هو أصلح لهم و أقرب إلى جمع شملهم، فيفقر و يغني، و يمنع و يعطي، و يقبض و يبسط، كما توجبه الحكمة الربّانيّة. و لو أغناهم جميعا لبغوا، و لو أفقرهم جميعا لهلكوا.

______________________________

(1) الأشر: البطر. و البطر: التكبّر عن الحقّ و عدم قبوله.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 223

قيل: نزلت في قوم من أهل الصفّة تمنّوا سعة الرزق و الغنى. قال خبّاب بن الأرتّ: فينا نزلت، و ذلك أنّا نظرنا إلى أموال بني قريظة و النضير و بني قينقاع فتمنّيناها.

و قيل: نزلت في العرب كانوا إذا أخصبوا تحاربوا، و إذا أجدبوا انتجعوا. و لا شبهة في أنّ البغي مع الفقر أقلّ، و مع البسط أكثر و أغلب، فلو عمّ البسط لغلب البغي حتّى ينقلب الأمر إلى عكس ما عليه الآن، فلأجل ذلك الفقراء أكثر من الأغنياء.

روى أنس

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، عن جبرئيل، عن اللّه عزّ و جلّ: «إنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا السقم، و لو صححته لأفسده. و إنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا الصحّة، و لو أسقمته لأفسده. و إنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا الغنى، و لو أفقرته لأفسده.

و إنّ من عبادي من لا يصلحه إلّا الفقر، و لو أغنيته لأفسده. و ذلك أنّي أدبّر عبادي لعلمي بقلوبهم.

و متى قيل: نحن نرى كثيرا ممّن يوسّع عليه الرزق يبغي في الأرض.

قلنا: إذا علمنا على الجملة أنّه سبحانه يدبّر أمور عباده بحسب ما يعلم من مصالحهم، فلعلّ هؤلاء كان يستوي حالهم في البغي، وسّع عليهم أو لم يوسّع. أو لعلّهم لو لم يوسّع عليهم لكانوا أسوأ حالا في البغي، فلذلك وسّع عليهم. و اللّه أعلم بتفاصيل أحوالهم.

ثمّ بيّن حسن نظره بعباده، فقال: وَ هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ الْغَيْثَ المطر الّذي يغيثهم من الجدب، و لذلك خصّ بالنافع. و قرأ نافع و ابن عامر و عاصم بالتشديد.

مِنْ بَعْدِ ما قَنَطُوا أيسوا منه. و وجه إنزاله بعد القنوط: أنّه أدعى إلى شكر الآتي به و تعظيمه، و المعرفة بموقع إحسانه. وَ يَنْشُرُ رَحْمَتَهُ أي: يفرّق و يبسط بركات الغيث و منافعه، و ما يحصل به من الخصب في كلّ شي ء، من السهل و الجبل و النبات

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 224

و الحيوان وَ هُوَ الْوَلِيُ الّذي يتولّى عباده بإحسانه و نشر رحمته الْحَمِيدُ المستحقّ للحمد على ذلك.

وَ مِنْ آياتِهِ خَلْقُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فإنّها بذاتها و صفاتها تدلّ على وجود صانع قادر حكيم وَ ما بَثَّ فِيهِما مجرور أو مرفوع عطفا على «السموات» أو «خلق»

مِنْ دابَّةٍ من حيّ، على إطلاق اسم المسبّب على السبب. أو ممّا يدبّ على الأرض. و ما يكون في أحد الشيئين يصدق أنّه فيهما في الجملة، كقوله تعالى:

يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ «1». و إنّما يخرج من الملح. فلا يقال: لم قيل فيهما «من دابّة» و الدوابّ في الأرض وحدها؟ و أيضا يجوز أن يكون للملائكة عليهم السّلام مشي مع الطيران، فيوصفوا بالدبيب كما يوصف به الأناسي. و لا يبعد أيضا أن يخلق في السماوات حيوانا يمشي فيها مشي الأناسي على الأرض. سبحان الّذي خلق ما نعلم و ما لا نعلم من أصناف الخلق.

وَ هُوَ عَلى جَمْعِهِمْ حشرهم إلى الموقف بعد إماتتهم إِذا يَشاءُ في أيّ وقت يشاء قَدِيرٌ متمكّن منه. و «إذا» كما تدخل على الماضي تدخل على المضارع. قال اللّه تعالى: وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى «2».

[سورة الشورى (42): الآيات 30 الى 35]

وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ (30) وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍّ وَ لا نَصِيرٍ (31) وَ مِنْ آياتِهِ الْجَوارِ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (32) إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ الرِّيحَ فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ عَلى ظَهْرِهِ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ شَكُورٍ (33) أَوْ يُوبِقْهُنَّ بِما كَسَبُوا وَ يَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ (34)

وَ يَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ (35)

______________________________

(1) الرحمن: 22.

(2) الليل: 1.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 225

و لمّا بيّن سبحانه عظيم نعمه على العباد، بيّن بعده أنّه لا يعاقبهم إلّا على معاصيهم، فقال:

وَ ما أَصابَكُمْ مِنْ مُصِيبَةٍ من بلوى في نفس أو مال فَبِما كَسَبَتْ أَيْدِيكُمْ فبسبب معاصيكم. و ذكر الفاء بناء على تضمين «ما» معنى الشرط. و لم يذكرها نافع و

ابن عامر استغناء بما في الباء من معنى السببيّة. وَ يَعْفُوا عَنْ كَثِيرٍ من الذنوب، فلا يعاقب عليها. و الآية مخصوصة بالمجرمين. و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما من اختلاج عرق و لا خدش عود و لا نكبة حجر إلّا بذنب».

و أمّا ما أصاب غيرهم، من الأنبياء و سائر المعصومين من الأئمّة، و من الأطفال و المجانين، فلأسباب أخر، منها تعريضه للأجر العظيم بالصبر عليه.

و عن بعضهم: من لم يعلم أنّ ما وصل إليه من الفتن و المصائب باكتسابه، و أنّ ما عفا عنه مولاه أكثر، كان قليل النظر في إحسان ربّه إليه.

و عن بعض آخر: العبد ملازم للجنايات في كلّ أوان، و جناياته في طاعاته أكثر من جناياته في معاصيه، لأنّ جناية المعصية من وجه، و جناية الطاعة من وجوه، و اللّه يطهّر عبده من جناياته بأنواع من المصائب، ليخفّف عنه أثقاله في القيامة، و لو لا عفوه و رحمته لهلك في أوّل خطوة.

و

عن عليّ عليه السّلام، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من عفي عنه في الدنيا عفي عنه في الآخرة، و من عوقب في الدنيا لم تثنّ عليه العقوبة في الآخرة».

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 226

و

عنه عليه السّلام: «هذه أرجى آية للمؤمنين في القرآن».

وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ فائتين، أي: لا تعجزونني حيث ما كنتم، فلا تسبقونني هربا في الأرض عمّا قضي عليكم من المصائب وَ ما لَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ مِنْ وَلِيٍ متولّ بالرحمة يحرسكم عنها وَ لا نَصِيرٍ يدفعها عنكم.

وَ مِنْ آياتِهِ الْجَوارِ السفن الجارية فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ كالجبال الطوال.

قالت الخنساء:

و إن صخرا لتأتمّ الهداة به كأنّه علم في رأسه نار

إِنْ يَشَأْ يُسْكِنِ

الرِّيحَ و قرأ نافع وحده: الرياح فَيَظْلَلْنَ رَواكِدَ ثوابت لا تجري عَلى ظَهْرِهِ ظهر البحر إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِكُلِّ صَبَّارٍ على بلاء اللّه شَكُورٍ لنعمائه. و هما صفتا المؤمن المخلص، فجعلهما كناية عنه، فإنّه هو الّذي و كل همّته و حبس نفسه على النظر في آيات اللّه و التفكّر فيها. و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الإيمان نصفان: نصف صبر، و نصف شكر».

أَوْ يُوبِقْهُنَ عطف على «يسكن» لأنّ أصل الكلام: أو يرسلها فيوبقهنّ، أي: يهلكهنّ بإرسال الريح العاصفة المغرقة، لأنّه قسيم «يسكن»، فاقتصر على المقصود.

و خلاصة المعنى: أنّه سبحانه إن يشأ يبتل المسافرين في البحر بإحدى بليّتين: إمّا أن يسكن الريح فيركد الجواري على متن البحر و يمنعهنّ من الجري، و إمّا أن يرسل الريح عاصفة فيهلكهنّ إغراقا. و المراد إهلاك أهلها، لقوله: بِما كَسَبُوا من المعاصي وَ يَعْفُ عَنْ كَثِيرٍ عطف على «يوبقهنّ». و أصل الكلام: أو يرسله عاصفة فيوبق ناسا بذنوبهم، و ينج ناسا على طريق العفو منهم.

وَ يَعْلَمَ الَّذِينَ يُجادِلُونَ فِي آياتِنا عطف على علّة مقدّرة، مثل: لينتقم منهم و يعلم. و نحوه في العطف على التعليل المذكور غير عزيز في القرآن. أو على

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 227

الجزاء. و نصب نصب الواقع جوابا للأشياء الستّة، نحو: إن تأتني آتك و أعطيك.

و قرأ نافع و ابن عامر بالرفع على الاستئناف. ما لَهُمْ مِنْ مَحِيصٍ ملجأ يلجؤن إليه من العذاب.

[سورة الشورى (42): الآيات 36 الى 43]

فَما أُوتِيتُمْ مِنْ شَيْ ءٍ فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ وَ أَبْقى لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ (36) وَ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَواحِشَ وَ إِذا ما غَضِبُوا هُمْ يَغْفِرُونَ (37) وَ الَّذِينَ اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ

وَ أَقامُوا الصَّلاةَ وَ أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ (38) وَ الَّذِينَ إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ (39) وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها فَمَنْ عَفا وَ أَصْلَحَ فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ (40)

وَ لَمَنِ انْتَصَرَ بَعْدَ ظُلْمِهِ فَأُولئِكَ ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ (41) إِنَّمَا السَّبِيلُ عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ وَ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (42) وَ لَمَنْ صَبَرَ وَ غَفَرَ إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ (43)

ثمّ خاطب سبحانه من تقدّم وصفهم، فقال: فَما أُوتِيتُمْ أيّها المشركون مِنْ شَيْ ءٍ من الغنى و البسطة فَمَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا تمتّعون به مدّة حياتكم ثمّ تموتون فيبقى عنكم، أو يهلك المال قبل موتكم وَ ما عِنْدَ اللَّهِ من ثواب الآخرة

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 228

خَيْرٌ وَ أَبْقى من هذه المنافع لِلَّذِينَ آمَنُوا وَ عَلى رَبِّهِمْ يَتَوَكَّلُونَ لخلوص نفعه و دوامه. و «ما» الأولى موصولة تضمّنت معنى الشرط، من حيث إنّ إيتاء ما أوتوا سبب للتمتّع بها في الحياة الدنيا، فجاءت الفاء في جوابها، بخلاف الثانية.

وَ الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَواحِشَ عطف على «لِلَّذِينَ آمَنُوا» أي:

و ما عند اللّه خير و أبقى للمؤمنين المتوكّلين على ربّهم، المجتنبين الآثام الكبيرة، و الأعمال الفاحشة، و الأفعال القبيحة شرعا و عقلا وَ إِذا ما غَضِبُوا هُمْ ممّا يفعل بهم من الظلم يَغْفِرُونَ يتجاوزون عنه. و الإتيان ب «هم» و إيقاعه مبتدأ، و إسناد «يغفرون» إليه، للدلالة على أنّهم الأخصّاء بالمغفرة في حال الغضب. و مثله «هم ينتصرون» «1». و قرأ حمزة و الكسائي: كبير الإثم. و عن ابن عبّاس: «كبير الإثم» هو الشرك. و المراد بالمغفرة ما يتعلّق بالإساءة إلى نفوسهم، فمتى عفوا عنها كانوا

ممدوحين. فأمّا ما يتعلّق بحقوق اللّه و الحدود الواجبة، فليس للإمام تركها و لا العفو عنها، فلا يجوز له العفو عن المرتدّ و عمّن جرى مجراه.

ثمّ زاد سبحانه في صفاتهم بقوله: وَ الَّذِينَ أي: و للّذين اسْتَجابُوا لِرَبِّهِمْ وَ أَقامُوا الصَّلاةَ قيل: نزلت في الأنصار، دعاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى الإيمان به و طاعته، فاستجابوا له بالإيمان و الإطاعة و إقامة الصلوات الخمس.

و كانوا إذا أرادوا أمرا قبل الإسلام و قبل قدوم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اجتمعوا و تشاوروا ثمّ عملوا عليه، فأثنى اللّه عليهم بقوله: وَ أَمْرُهُمْ شُورى بَيْنَهُمْ ذو شورى، لا ينفردون برأي حتّى يتشاوروا و يجتمعوا عليه، و ذلك من فرط تدبّرهم و تيقّظهم في الأمور. و هي مصدر كالفتيا بمعنى التشاور، و هو المفاوضة في الكلام ليظهر الحقّ.

و عن الضحّاك: هو تشاور الأنصار حين سمعوا بظهور رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ورود

______________________________

(1) الشورى: 39.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 229

النقباء عليه، حتّى اجتمعوا في دار أبي أيّوب على الإيمان به و النصرة له.

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «ما من رجل يشاور أحدا إلّا هدي إلى الرشاد».

وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ في سبيل الخير.

وَ الَّذِينَ و للّذين إِذا أَصابَهُمُ الْبَغْيُ هُمْ يَنْتَصِرُونَ ممّن بغى عليهم، على ما جعله اللّه لهم من القوّة و التسلّط، كراهة التذلّل. و هو وصفهم بالشجاعة بعد وصفهم بسائر أمّهات الفضائل. كما نقل عن النخعي أنّه كان إذا قرأها قال: كانوا يكرهون أن يذلّوا أنفسهم، فيجترئ عليهم الفسّاق. و المعنى: أنّه يجب إذا قوبلت الإساءة أن تقابل بمثلها من غير

زيادة، فإذا قال: أخزاك اللّه، قال: أخزاك اللّه، من غير أن يعتدي. و هو لا يخالف وصفهم بالغفران، فإنّه ينبئ عن عجز المغفور، و الانتصار عن مقاومة الخصم. و الحلم عن العاجز محمود، و عن المتغلّب مذموم، لأنّه إجراء و إغراء على البغي.

ثمّ عقّب وصفهم بالانتصار بقوله: وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها للمنع عن التعدّي. و سمّي الثانية سيّئة للازدواج، أو لأنّها تسوء من تنزل به. فَمَنْ عَفا عمّاله المؤاخذة به وَ أَصْلَحَ بينه و بين عدوّه فَأَجْرُهُ عَلَى اللَّهِ عدة مبهمة تدلّ على عظم الموعود إِنَّهُ لا يُحِبُّ الظَّالِمِينَ المبتدئين بالسيّئة، و المتجاوزين في الانتقام.

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إذا كان يوم القيامة نادى مناد: من كان له على اللّه أجر فليقم. قال: فيقوم خلق، فيقال لهم: ما أجركم على اللّه؟ فيقولون: نحن الذين عفونا عمّن ظلمنا. فيقال لهم: ادخلوا الجنّة بإذن اللّه».

وَ لَمَنِ انْتَصَرَ لنفسه و انتصف بَعْدَ ظُلْمِهِ أي: بعد ما ظلم، فإنّه من إضافة المصدر إلى المفعول فَأُولئِكَ إشارة إلى معنى «من» دون لفظه ما عَلَيْهِمْ مِنْ سَبِيلٍ بالمعاتبة و المعاقبة.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 230

إِنَّمَا السَّبِيلُ أي: الإثم و العقاب عَلَى الَّذِينَ يَظْلِمُونَ النَّاسَ يبتدؤنهم بالإضرار وَ يَبْغُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِ يطلبون ما لا يستحقّونه تجبّرا عليهم أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ على ظلمهم و بغيهم.

وَ لَمَنْ صَبَرَ على الظلم و الأذى وَ غَفَرَ و لم ينتصر إِنَّ ذلِكَ إنّ ذلك الصبر و التجاوز منه، فحذف كما حذف في قولهم: السمن منوان بدرهم، للعلم به لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ من ثابت الأمور الّتي أمر اللّه بها، فلم تنسخ.

و قيل: عزم الأمور هو الأخذ بأعلاها في باب نيل الثواب

و الأجر.

و يحكي: أنّ رجلا سبّ رجلا في مجلس الحسن البصري، و كان المسبوب يكظم، و يعرق فيمسح العرق، ثمّ قام فتلا هذه الآية. فقال الحسن: عقلها و اللّه و فهمها إذ ضيّعها الجاهلون.

[سورة الشورى (42): الآيات 44 الى 48]

وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ وَ تَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ (44) وَ تَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها خاشِعِينَ مِنَ الذُّلِّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍّ وَ قالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ وَ أَهْلِيهِمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ (45) وَ ما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ (46) اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ يَوْمَئِذٍ وَ ما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ (47) فَإِنْ أَعْرَضُوا فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً إِنْ عَلَيْكَ إِلاَّ الْبَلاغُ وَ إِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً فَرِحَ بِها وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ (48)

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 231

وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ يخذله اللّه و يخلّيه بينه و بين نفسه فَما لَهُ مِنْ وَلِيٍّ مِنْ بَعْدِهِ من ناصر يتولّاه من بعد خذلان اللّه إيّاه وَ تَرَى الظَّالِمِينَ لَمَّا رَأَوُا الْعَذابَ حين يرونه، فذكر بلفظ الماضي تحقيقا يَقُولُونَ هَلْ إِلى مَرَدٍّ مِنْ سَبِيلٍ أي: إلى رجعة إلى الدنيا.

وَ تَراهُمْ يُعْرَضُونَ عَلَيْها على النار قبل دخولهم فيها. و يدلّ عليه العذاب.

خاشِعِينَ متذلّلين متقاصرين مِنَ الذُّلِ ممّا يلحقهم من الذلّ يَنْظُرُونَ مِنْ طَرْفٍ خَفِيٍ أي: يبتدئ نظرهم إلى النار من تحريك لأجفانهم خفيّ ضعيف بمسارقة، كالمصبور «1» ينظر إلى السيف. و هكذا نظر

الناظر إلى المكاره لا يقدر أن يفتح أجفانه عليها، و يملأ عينيه منها.

وَ قالَ الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ الْخاسِرِينَ في الحقيقة الَّذِينَ خَسِرُوا أَنْفُسَهُمْ بالتعريض للعذاب المخلّد، و تفويتهم الانتفاع بنعيم الجنّة وَ أَهْلِيهِمْ و أولادهم و أزواجهم و أقاربهم، لا ينتفعون بهم يَوْمَ الْقِيامَةِ إمّا أن يتعلّق ب «خسروا»، و يكون من قول المؤمنين في الدنيا. أو يتعلّق ب «قال» أي: يقولون إذا رأوا عظيم ما نزل بالظالمين يوم القيامة أَلا إِنَّ الظَّالِمِينَ فِي عَذابٍ مُقِيمٍ المقيم: الدائم الذي لا زوال له. هذا تمام كلامهم، أو تصديق من اللّه لهم.

وَ ما كانَ لَهُمْ مِنْ أَوْلِياءَ ممّا عبدوه و أطاعوه في المعصية نصّار يَنْصُرُونَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ وَ مَنْ يُضْلِلِ اللَّهُ يخذله تخلية فَما لَهُ مِنْ سَبِيلٍ إلى الهدى، أو النجاة.

______________________________

(1) المصبور: المحبوس للقتل.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 232

اسْتَجِيبُوا لِرَبِّكُمْ أجيبوا داعي ربّكم- يعني: محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- فيما دعاكم إليه و رغّبكم فيه من المصير إلى طاعته مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ يَوْمٌ لا مَرَدَّ لَهُ مِنَ اللَّهِ لا يردّه بعد ما حكم به. و «من» صلة ل «مردّ». و قيل: صلة «يأتي» أي: من قبل أن يأتي يوم من اللّه لا يقدر أحد على ردّه ما لَكُمْ مِنْ مَلْجَإٍ مفرّ يَوْمَئِذٍ وَ ما لَكُمْ مِنْ نَكِيرٍ إنكار لما اقترفتموه، أي: لا تقدرون أن تنكروا شيئا منه، لأنّه مدوّن في صحائف أعمالكم، و تشهد عليه ألسنتكم و جوارحكم.

فَإِنْ أَعْرَضُوا أعرض الكفّار، أي: عدلوا عمّا دعوتهم إليه فَما أَرْسَلْناكَ عَلَيْهِمْ حَفِيظاً رقيبا، أي: مأمورا بحفظهم لئلّا يخرجوا عمّا دعوتهم إليه، كما يحفظ الراعي غنمه لئلّا يتفرّقوا، فلا تحزن لإعراضهم إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ ليس

عليك إلّا إيصال المعنى إلى أفهامهم، و البيان لما فيه رشدهم، و قد بلّغت.

وَ إِنَّا إِذا أَذَقْنَا الْإِنْسانَ مِنَّا رَحْمَةً أي: إذا أوصلنا إليه نعمة، من الصحّة و الغنى و الأمن فَرِحَ بِها بطرا أو أشرا. و أراد بالإنسان الجنس لا الواحد، لقوله:

وَ إِنْ تُصِبْهُمْ سَيِّئَةٌ من المرض و الفقر و المخاوف بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ أيدي المجرمين فَإِنَّ الْإِنْسانَ كَفُورٌ بليغ الكفران، ينسى النعمة رأسا، و يذكر البليّة و يعظّمها، و لا يتأمّل سببها. و هذا و إن اختصّ بالمجرمين، لكن جاز إسناده إلى الجنس، لغلبتهم و اندراجهم فيه.

و تصدير الشرطيّة الأولى ب «إذا» و الثانية ب «أن» لأنّ إذاقة النعمة محقّقة، من حيث إنّها عادة مقتضاة بالذات، بخلاف إصابة البليّة. و إقامة علّة الجزاء مقامه، و وضع الظاهر موضع المضمر في الثانية، للدلالة على أنّ هذا الجنس موسوم بكفران النعمة، كما قال: إِنَّ الْإِنْسانَ لَظَلُومٌ كَفَّارٌ «1». إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ «2».

______________________________

(1) إبراهيم: 34.

(2) العاديات: 6.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 233

[سورة الشورى (42): الآيات 49 الى 50]

لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَخْلُقُ ما يَشاءُ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ (49) أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَ إِناثاً وَ يَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً إِنَّهُ عَلِيمٌ قَدِيرٌ (50)

و لمّا ذكر إذاقة الإنسان الرحمة و إصابته بضدّها، أتبع ذلك أنّ له الملك، و أنّه يقسّم النعمة و البلاء كيف أراد وفق الحكمة و المصلحة، فقال:

لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ له التصرّف فيهما و فيما بينهما بما تقتضيه الحكمة، فله أن يقسّم النعمة بين العباد كيف يشاء يَخْلُقُ ما يَشاءُ من أنواع الخلق من غير مجال اعتراض. ثمّ قال إبدالا من «يخلق» إبدال البعض: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ من خلقه إِناثاً فلا يولد

له ذكر وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ فلا يولد له أنثى.

أَوْ يُزَوِّجُهُمْ ذُكْراناً وَ إِناثاً أو يجمع لهم بين البنين و البنات. تقول العرب:

زوّجت إبلي، أي: جمعت بين صغارها و كبارها. وَ يَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً لا يلد و لا يولد له.

و تنقيح المعنى: أنّه سبحانه يجعل أحوال العباد في الأولاد مختلفة على مقتضى المشيئة، فيهب لبعض إمّا صنفا واحدا من ذكر أو أنثى، أو الصنفين جميعا، و يعقم آخرين.

و لعلّ تقديم الإناث لأنّها أكثر لتكثير النسل. أو لأنّ مساق الآية للدلالة على أنّ الواقع ما يتعلّق به مشيئة اللّه، لا مشيئة الإنسان و الإناث كذلك. أو لأنّ الكلام في البلاء، و العرب تعدّهنّ بلاء. أو لتطييب قلوب آبائهنّ. و لمّا أخّر الذكور لذلك، تدارك تأخيرهم و هم أحقّاء بالتقديم بتعريفهم، لأنّ التعريف تنويه و تشهير.

و يحتمل أن يكون تأخير الذكور ثمّ تعريفهم لرعاية الفواصل.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 234

ثمّ قدّم الذكران على الإناث لإعطاء كلا الجنسين حقّه من التقديم، للإشعار بأنّ تقديمهنّ أوّلا لم يكن لتقدمهنّ، و لكن لمقتض آخر، فقال: ذُكْراناً وَ إِناثاً كما قال: إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى «1» فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى «2».

و تغيير العاطف في ذكر تزويج الذكران و الإناث، لأنّه قسيم المشترك بين القسمين. و لم يحتج إليه الرابع «3»، لإفصاحه بأنّه قسيم المشترك بين الأقسام المتقدّمة.

إِنَّهُ عَلِيمٌ بمصالح العباد قَدِيرٌ على تكوين ما يصلحهم.

قيل: نزلت في الأنبياء صلوات اللّه و سلامه عليهم، حيث وهب لشعيب و لوط إناثا، و لإبراهيم ذكورا، و لمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذكورا و إناثا، و جعل يحيى و عيسى عقيمين.

[سورة الشورى (42): الآيات 51 الى 53]

وَ ما كانَ لِبَشَرٍ أَنْ يُكَلِّمَهُ

اللَّهُ إِلاَّ وَحْياً أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أَوْ يُرْسِلَ رَسُولاً فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ إِنَّهُ عَلِيٌّ حَكِيمٌ (51) وَ كَذلِكَ أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لا الْإِيمانُ وَ لكِنْ جَعَلْناهُ نُوراً نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (52) صِراطِ اللَّهِ الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ (53)

______________________________

(1) الحجرات: 13.

(2) القيامة: 39.

(3) و هو قوله تعالى: وَ يَجْعَلُ مَنْ يَشاءُ عَقِيماً باعتباره الجملة الرابعة في الآية الشريفة.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 235

ثمّ ذكر ما كان أجلّ النعم المذكورة، و هي النبوّة، فقال: وَ ما كانَ لِبَشَرٍ و ما صحّ لأحد من البشر أَنْ يُكَلِّمَهُ اللَّهُ إِلَّا وَحْياً إلّا أن يوحي إليه وحيا، أي:

كلاما خفيّا يدرك بسرعة. و هو عبارة عن الإلهام، أي: قذف المعنى و إلقاؤه في القلب يقظة أو نوما، كما أوحى إلى أمّ موسى عليه السّلام، و إلى إبراهيم عليه السّلام في ذبح ولده.

و عن مجاهد: أوحى اللّه الزبور إلى داود عليه السّلام في صدره.

أَوْ مِنْ وَراءِ حِجابٍ أي: إلّا أن يكلّمه من ورائه، كما يكلّم الملك بعض خواصّه و هو من وراء الحجاب، فيسمع صوته و لا يرى شخصه. و منه الأحاديث المعراجيّة. أو يسمع الكلام الّذي يخلق في الأجسام الجماديّة، كما اتّفق لموسى عليه السّلام في الطور.

أَوْ يُرْسِلَ رَسُولًا أي: إلّا أن يرسل ملكا من الملائكة فَيُوحِيَ بِإِذْنِهِ ما يَشاءُ فيوحي الملك إلى الأنبياء ما يشاء اللّه، أي: يبلّغ وحيه على وفق ما أمره، كجبرئيل أرسل إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و اعلم أنّ «وحيا» و ما عطف عليه منتصب

بالمصدر، لأنّ «وحيا» نوع من الكلام كما فسّرنا به، و «مِنْ وَراءِ حِجابٍ» صفة كلام محذوف، و المعطوف و المعطوف عليه واقعان موقع الحال. و التقدير: و ما صحّ أن يكلّم أحدا إلّا موحيا، أو مسمعا من وراء الحجاب، أو مرسلا. و الإرسال أيضا نوع من الكلام، كما تقول:

لا أكلّمه إلّا جهرا و إلّا إخفاتا، لأنّ الجهر و الإخفات ضربان من الكلام. و قرأ نافع:

أو يرسل برفع اللام.

إِنَّهُ عَلِيٌ عن الإدراك بالأبصار و سائر صفات المخلوقين حَكِيمٌ يفعل ما تقتضيه حكمته من التكلّم بأحد الأنحاء الثلاثة.

و

روي: أنّ اليهود قالت للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ألا تكلّم اللّه و تنظر اليه إن كنت نبيّا، كما كلّمه موسى و نظر إليه، فإنّا لن نؤمن لك حتّى تفعل ذلك؟ فقال: «لم ينظر موسى

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 236

إلى الله» فنزلت.

و

عن عائشة: من زعم أنّ محمّدا رأى ربّه فقد أعظم على اللّه الفرية. ثمّ قالت: أولم تسمعوا ربّكم يقول: فتلت هذه الآية.

وَ كَذلِكَ و مثل ما أوحينا إلى الأنبياء قبلك أَوْحَيْنا إِلَيْكَ رُوحاً مِنْ أَمْرِنا يعني: ما أوحي إليه. و سمّاه روحا، لأنّ القلوب تحيا به كما يحيا الجسد بالروح.

و قيل: جبرئيل. و المعنى: أرسلناه إليك بالوحي.

و

عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام أنّهما قالا: «هو ملك أعظم من جبرئيل و ميكائيل، كان مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لم يصعد إلى السماء، و إنّه لفينا».

ما كُنْتَ تَدْرِي قبل الوحي مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ أي: الإيمان بما لا طريق إليه إلّا السمع من فروع الإسلام، فإنّه ما كان له فيه علم حتّى كسبه بالوحي، كالعلم بالصلاة و الصوم

و الزكاة و الحجّ و غيرها. لا الإيمان الذي منشأه العقل، كالعلم بالصانع و صفاته و غيره من الأحكام العقليّة.

وَ لكِنْ جَعَلْناهُ أي: الروح، أو الكتاب، أو الإيمان نُوراً لأنّه طريق النجاة نَهْدِي بِهِ مَنْ نَشاءُ مِنْ عِبادِنا بالتوفيق و اللطف، فإنّ من لا لطف له- لفرط عناده و التوغّل في مكابرته- فلا هداية له وَ إِنَّكَ لَتَهْدِي إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ هو الإسلام.

صِراطِ اللَّهِ بدل من الأوّل الَّذِي لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ خلقا و ملكا أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ بارتفاع الوسائط و التعلّقات، فلا يملك ذلك غيره يوم القيامة. و فيه وعد و وعيد للمطيعين و المجرمين.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 237

(43) سورة الزخرف

اشارة

مكّيّة. و هي تسع و ثمانون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ سورة الزخرف كان ممّن يقال له يوم القيامة: يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ «1» ادخلوا الجنّة بغير حساب».

و

عن أبي بصير قال: قال أبو جعفر عليه السّلام: «من أدمن قراءة حم الزخرف آمنه اللّه في قبره من هو امّ الأرض، و من ضمّة القبر، حتّى يقف بين يدي اللّه عزّ و جلّ، ثمّ جاءت حتّى تكون هي الّتي تدخله الجنّة بأمر اللّه سبحانه».

[سورة الزخرف (43): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (1) وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (3) وَ إِنَّهُ فِي أُمِّ الْكِتابِ لَدَيْنا لَعَلِيٌّ حَكِيمٌ (4)

أَ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ صَفْحاً أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ (5)

______________________________

(1) الزخرف: 68.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 238

و لمّا ختم اللّه تعالى سورة حم عسق بذكر القرآن و الوحي، افتتح هذه السورة بذلك، أيضا، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ إِنَّا جَعَلْناهُ قُرْآناً عَرَبِيًّا أقسم بالقرآن على أنّه جعله قرآنا عربيّا. و هو من الأيمان الحسنة البديعة، لتناسب القسم و المقسم عليه، و كونهما من واد واحد. و نظيره قول أبي تمام: و ثناياك إنّها إغريض «1». و هو البرد.

و لعلّ إقسام اللّه بالقرآن من حيث إنّه معجز مبيّن لطرق الهدى و ما تحتاج إليه الأمّة في أبواب الديانة. أو أنّه بيّن للعرب ما يدلّ على أنّه تعالى صيّره قرآنا عربيّا.

لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ لكي تفهموا معانيه، لأنّه بلغتهم و أساليبهم. و يجوز أن يكون «جعلنا» بمعنى: خلقنا. و حينئذ «قرآنا عربيّا» حال من الضمير. و «لعلّ» مستعار لمعنى الإرادة ليلاحظ معناها و معنى

الترجّي. و المعنى: خلقناه عربيّا غير عجميّ إرادة أن تعقله العرب، و لئلّا يقولوا: لو لا فصّلت آياته.

و في هذه الآية دلالة على حدوث القرآن، لأنّ المجعول هو المحدث بعينه.

وَ إِنَّهُ عطف على «إنّا» فِي أُمِّ الْكِتابِ في اللوح المحفوظ، فإنّه أصل الكتب السماويّة، فإنّها كلّها تنسخ منه، و كتب فيه ما كان و ما يكون إلى يوم القيامة.

و قرأ حمزة و الكسائي: أمّ الكتاب بالكسر. لَدَيْنا محفوظا عندنا عن التغيير لَعَلِيٌ رفيع الشأن في الكتب، لكونه معجزا من بينها حَكِيمٌ ذو حكمة بالغة.

أو محكم لا ينسخه غيره.

و اعلم أنّ «في امّ الكتاب» متعلّق ب «عليّ» و اللام لا تمنعه. أو حال منه، و «لدينا» بدل منه، أو حال من «أمّ الكتاب».

______________________________

(1) و عجزه: و لآل نوّار أرض و ميض.

و النوّار: نور الشجر. و الوميض: شديد البريق و اللمعان.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 239

أَ فَنَضْرِبُ عَنْكُمُ الذِّكْرَ فننحّيه و نبعّده عنكم. مجاز من قولهم: ضرب الغرائب- أي: الإبل الغريبة- عن الحوض. و منه قول الحجّاج: و لأضربنّكم ضرب غرائب الإبل. و الفاء للعطف على محذوف، تقديره: أنهملكم فنضرب عنكم الذكر، أي: القرآن. و صَفْحاً مصدر من غير لفظه. فإنّ تنحية الذكر عنهم إعراض. أو مفعول له. أو حال بمعنى: صافحين. و أصله: أن تولّي الشي ء صفحة عنقك. و قيل:

إنّه بمعنى الجانب. فيكون ظرفا، كما تقول: ضعه جانبا، و امش جانبا. و المراد إنكار أن يكون الأمر على خلاف ما ذكر من إنزال الكتاب.

أَنْ كُنْتُمْ قَوْماً مُسْرِفِينَ أي: لأن كنتم. و هو في الحقيقة علّة مقتضية لترك الإعراض عنهم. و قرأ نافع و حمزة و الكسائي: إن بالكسر، على أنّ الجملة شرطيّة مخرجة للمحقّق مخرج المشكوك استجهالا

لهم، و ما قبلها دليل الجزاء. و ذلك كما يقول الأجير: إن كنت عملت لك فوفّني حقّي، و هو عالم بذلك، و لكنّه يخيّل في كلامه أن تفريطك في الخروج عن الحقّ، فعل من له شكّ في الاستحقاق مع وضوحه، استجهالا له.

[سورة الزخرف (43): الآيات 6 الى 14]

وَ كَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ (6) وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلاَّ كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (7) فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ بَطْشاً وَ مَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ (8) وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ الْعَلِيمُ (9) الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً وَ جَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلاً لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ (10)

وَ الَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً بِقَدَرٍ فَأَنْشَرْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ تُخْرَجُونَ (11) وَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَ الْأَنْعامِ ما تَرْكَبُونَ (12) لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ وَ تَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَ ما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ (13) وَ إِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ (14)

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 240

ثمّ سلّى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن استهزاء قومه بقوله: وَ كَمْ أَرْسَلْنا مِنْ نَبِيٍّ فِي الْأَوَّلِينَ في الأمم الماضية وَ ما يَأْتِيهِمْ مِنْ نَبِيٍّ إِلَّا كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ حكاية حال ماضية مستمرّة. يعني: من الأمم الخالية كفرت بالأنبياء و سخرت منهم، لفرط جهلهم، و استهزأت بهم كما استهزأ قومك بك، أي: فلم نضرب عنهم صفحا لاستهزائهم برسلهم، بل كرّرنا الحجج و أعدنا الرسل.

فَأَهْلَكْنا أَشَدَّ مِنْهُمْ أي: من القوم المسرفين من قومك، لأنّه صرف الخطاب عنهم إلى الرسول مخبرا عنهم بَطْشاً قوّة و منعة، فلا يغترّ هؤلاء المشركون بالقوّة و النجدة وَ مَضى مَثَلُ الْأَوَّلِينَ و

سلف في القرآن قصّتهم العجيبة الّتي حقّها أن تسير مسير المثل لغرابته. و فيه وعد للرسول، و وعيد لهم. يعني: لمّا أهلكوا أولئك بتكذيبهم رسلهم و عملهم القبيح، فعاقبة هؤلاء أيضا الإهلاك.

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ سألت قومك مَنْ خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ لَيَقُولُنَّ خَلَقَهُنَّ الْعَزِيزُ القادر الّذي لا يقهر الْعَلِيمُ بمصالح العباد. لعلّ ذلك لازم مقولهم، أو ما دلّ عليه إجمالا، أقيم مقامه تقريرا لإلزام الحجّة عليهم. فكأنّهم قالوا: اللّه، كما حكى عنهم في مواضع أخر. و معناه: لينسبنّ خلقها إلى الّذي هذه أوصافه.

و هذا إخبار عن غاية جهلهم، إذ اعترفوا بأنّ اللّه خالق السماوات و الأرض، ثمّ عبدوا معه غيره، و أنكروا قدرته على البعث. و يجوز أن يكون هذا مقولهم، و ما بعده استئناف.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 241

الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً فتستقرّون فيها. و قرأ الحرميّان و أبو عمرو و ابن عامر: مهادا. وَ جَعَلَ لَكُمْ فِيها سُبُلًا تسلكونها لَعَلَّكُمْ تَهْتَدُونَ لكي تهتدوا إلى مقاصدكم، أو إلى حكمة الصانع بالنظر في ذلك.

وَ الَّذِي نَزَّلَ مِنَ السَّماءِ ماءً غيثا بِقَدَرٍ بمقدار ينفع و لا يضرّ، بأن يسلم معه البلاد و العباد فَأَنْشَرْنا بِهِ فأحيينا بذلك المطر بَلْدَةً مَيْتاً أرضا جافّة يابسة، بإخراج النبات و الأشجار و الزروع. و تذكير الميّت لأنّ البلدة بمعنى البلد و المكان. كَذلِكَ مثل ذلك الإخراج و الإنشار تُخْرَجُونَ تنشرون من قبوركم. و قرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي بفتح التاء و ضمّ الراء.

وَ الَّذِي خَلَقَ الْأَزْواجَ كُلَّها أصناف المخلوقات، فمن الحيوان الذكر و الأنثى، و من غيره ممّا هو كالمقابل، كالحلو و المرّ، و الرطب و اليابس، و غير ذلك وَ جَعَلَ لَكُمْ مِنَ الْفُلْكِ وَ الْأَنْعامِ ما

تَرْكَبُونَ ما تركبونه، على تغليب المتعدّي بنفسه- و هو الركوب على الأنعام- على المتعدّي بغيره، و هو الركوب على السفينة، إذ يقال: ركبت الدابّة، و ركبت في السفينة. أو المخلوق للركوب على المصنوع له. أو الغالب على النادر. و لذلك قال:

لِتَسْتَوُوا عَلى ظُهُورِهِ أي: ظهور ما تركبون. و هو الفلك و الأنعام. و جمعه للمعنى. ثُمَّ تَذْكُرُوا نِعْمَةَ رَبِّكُمْ إِذَا اسْتَوَيْتُمْ عَلَيْهِ تذكروها بقلوبكم معترفين بها حامدين عليها وَ تَقُولُوا سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا وَ ما كُنَّا لَهُ مُقْرِنِينَ مقاومين في القوّة. من: أقرن الشي ء إذا أطاقه. و أصله: وجده قرينته، إذ الصعب لا يكون قرينة الضعيف.

وَ إِنَّا إِلى رَبِّنا لَمُنْقَلِبُونَ أي: راجعون. و اتّصاله بذلك لأنّ الركوب للتنقّل، و النقلة العظمى هو الانقلاب إلى اللّه في مركب الجنازة. أو لأنّه مخطر نفسه، فكم

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 242

من راكب دابّة عثرت به أو شمست «1» أو تقحمّت، أو طاح من ظهرها فهلك. فكان من حقّ الراكب أن لا ينسى عند الركوب يوم هلاكه و منقلبه إلى اللّه، حتّى يكون مستعدّا للقاء اللّه بإصلاحه من نفسه، و الحذر من أن يكون ركوبه ذلك من أسباب موته في علم اللّه و هو غافل عنه.

و

عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه كان إذا وضع رجله في الركاب قال: بسم اللّه. فإذا استوى على الدابّة قال: الحمد للّه على كلّ حال، سبحان الّذي سخّر لنا هذا إلى قوله:

لمنقلبون، و كبّر ثلاثا، و هلّل ثلاثا. و إذا ركب في السفينة قال: بِسْمِ اللَّهِ مَجْراها وَ مُرْساها إِنَّ رَبِّي لَغَفُورٌ رَحِيمٌ «2».

و

روى العيّاشي بإسناده عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «ذكر النعمة أن تقول: الحمد للّه

الّذي هدانا للإسلام، و علّمنا القرآن، و منّ علينا بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و تقول بعده:

سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا الآية».

و

عن الحسن بن عليّ عليهما السّلام: «أنّه رأى رجلا ركب دابّة فقال: سُبْحانَ الَّذِي سَخَّرَ لَنا هذا. فقال عليه السّلام: أ بهذا أمرتم؟ فقال: و بم أمرنا؟ قال: أن تذكروا نعمة ربّكم».

كان قد أغفل التحميد فنبّهه عليه. و هذا من حسن مراعاتهم لآداب اللّه، و محافظتهم على دقيقها و جليلها. جعلنا اللّه من المقتدين بهم، و السائرين بسيرتهم.

فما أحسن بالعاقل النظر في لطائف الصناعات، فكيف بالنظر في لطائف الديانات؟

[سورة الزخرف (43): الآيات 15 الى 25]

وَ جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ (15) أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَ أَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ (16) وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلاً ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا وَ هُوَ كَظِيمٌ (17) أَ وَ مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ وَ هُوَ فِي الْخِصامِ غَيْرُ مُبِينٍ (18) وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ وَ يُسْئَلُونَ (19)

وَ قالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ ما عَبَدْناهُمْ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَخْرُصُونَ (20) أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ (21) بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ (22) وَ كَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ مِنْ نَذِيرٍ إِلاَّ قالَ مُتْرَفُوها إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ (23) قالَ أَ وَ لَوْ جِئْتُكُمْ بِأَهْدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ كافِرُونَ (24)

فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ (25)

______________________________

(1) شمس الفرس: منع ظهره، و كان لا يمكّن أحدا من ركوبه، و

لا يكاد يستقرّ. و تقحّم الفرس براكبه: ألقاه على وجهه.

(2) هود: 41.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 243

ثمّ عاد سبحانه إلى ذكر الكفّار الّذين تقدّم ذكرهم، فقال: وَ جَعَلُوا لَهُ مِنْ عِبادِهِ جُزْءاً. هذا متّصل بقوله: «وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ» أي: و لئن سألتهم عن خالق السماوات و الأرض ليعترفنّ به، و قد جعلوا له مع ذلك الاعتراف من عباده ولدا، فقالوا: الملائكة بنات اللّه، فوصفوه بصفات المخلوقين. و سمّاه جزءا كما سمّي

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 244

بعضا، لأنّه بضعة من الوالد. و في هذه التسمية دلالة على استحالة الولد على الواحد الحقّ في ذاته. و قرأ أبو بكر جزءا بضمّتين.

إِنَّ الْإِنْسانَ لَكَفُورٌ مُبِينٌ ظاهر الكفران. و من ذلك نسبة الوالد إلى اللّه، لأنّها من فرط الجهل به و التحقير لشأنه، و هو أصل الكفران.

ثمّ أنكر سبحانه عليهم قولهم، فقال: أَمِ اتَّخَذَ مِمَّا يَخْلُقُ بَناتٍ وَ أَصْفاكُمْ بِالْبَنِينَ معنى الهمزة في «أم» الإنكار و التعجّب من شأنهم و التجهيل لهم، حيث لم يقنعوا بأن جعلوا له جزءا، حتّى جعلوا له من مخلوقاته أجزاء أخسّ ممّا اختير لهم و أبغض الأشياء إليهم، بحيث إذا بشّر أحدهم بها اشتدّ غمّه به، كما قال:

وَ إِذا بُشِّرَ أَحَدُهُمْ بِما ضَرَبَ لِلرَّحْمنِ مَثَلًا بالجنس الّذي جعله له مثلا و شبها، إذ الولد لا بدّ و أن يماثل الوالد. و المعنى: أنّهم نسبوا إليه هذا الجنس، و من حالهم أنّ أحدهم إذا قيل له: قد ولدت لك بنت ظَلَّ وَجْهُهُ مُسْوَدًّا صار وجهه أسود في الغاية، لما يعتريه من الكآبة و فرط الغمّ وَ هُوَ كَظِيمٌ مملوء قلبه من الكرب غيضا و تأسّفا. و في ذلك دلالات على فساد ما قالوه. و تنكير «بنات»

و تعريف «البنين»، و تقديمهنّ في الذكر، لما مرّ في قوله: يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ إِناثاً وَ يَهَبُ لِمَنْ يَشاءُ الذُّكُورَ «1».

ثمّ وبّخهم بما افتروه، فقال: أَ وَ مَنْ يُنَشَّؤُا فِي الْحِلْيَةِ أي: أو جعلوا له، أو اتّخذ من يتربّى في الزينة و الترفّه، يعني: البنات وَ هُوَ فِي الْخِصامِ في المخاصمة غَيْرُ مُبِينٍ أي: ليس عندهنّ بيان، و لا يأتين ببرهان يحججن به من يخاصمنه، لضعف عقولهنّ، و نقصانهنّ عن فطرة الرجال، و ضعف رأيهنّ. فهذا مقرّر لما يدّعيه من نقصان العقل و ضعف الرأي.

و يجوز أن يكون «من» مبتدأ محذوف الخبر، أي: أو من هذا حالة ولده.

______________________________

(1) الشورى: 49.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 245

و «في الخصام» متعلّق ب « «مبين». و إضافة «غير» إليه لا تمنعه، لما عرفت.

و قرأ حمزة و الكسائي و حفص: ينشّأ، أي: يربّى.

و عن قتادة: قلّما تكلّمت امرأة فأرادت أن تتكلّم بحجّتها إلّا تكلّمت بالحجّة عليها.

و فيه أنّه جعل النش ء في الزينة و النعومة من المعايب و المذامّ، و أنّه من صفة ربّات الحجال، فعلى الرجل أن يجتنب ذلك و يأنف منه.

ثمّ بيّن كفرا آخر تضمّنه مقالتهم الشنيعة، فقال: وَ جَعَلُوا الْمَلائِكَةَ الَّذِينَ هُمْ عِبادُ الرَّحْمنِ إِناثاً أي: جعلوا أكمل العباد و أكرمهم على اللّه تعالى أنقصهم رأيا و أخسّهم صنفا. فهم جمعوا في كفرة ثلاث كفرات، و ذلك أنّهم نسبوا إلى اللّه الولد، و نسبوا إليه أخسّ النوعين، و جعلوه من الملائكة الّذين هم أكرم عباد اللّه على اللّه، و استحقروهم و استخفّوا بهم.

و قرأ الحجازيّان و ابن عامر و يعقوب: عند الرحمن، على تمثيل زلفاهم و اختصاصهم.

ثمّ ردّ ذلك عليهم بقوله: أَ شَهِدُوا خَلْقَهُمْ أحضروا خلق اللّه إيّاهم فشاهدوهم

إناثا، فإنّ ذلك ممّا لا يعلم إلّا بالمشاهدة. و هو تجهيل و تهكّم بهم.

يعني: أنّهم يقولون ذلك من غير أن يستند قولهم إلى علم، فإنّ اللّه تعالى لم يضطرّهم إلى علم ذلك، و لا تطرّقوا إليه باستدلال، و لا أحاطوا به عن خبر يوجب العلم، فلم يبق إلّا أن يشاهدوا خلقهم، فيخبروا عن هذه المشاهدة. و هذا كقوله: أَمْ خَلَقْنَا الْمَلائِكَةَ إِناثاً وَ هُمْ شاهِدُونَ «1».

و عن نافع: أشهدوا على افعلوا، بضمّ الهمزة و سكون الشين، و قبلها همزة الاستفهام مفتوحة، ثمّ تخفّف الثانية بين بين. و آأشهدوا، بمدّة بينهما برواية قالون.

______________________________

(1) الصافّات: 150.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 246

سَتُكْتَبُ شَهادَتُهُمْ الّتي شهدوا بها على الملائكة من أنوثتهم وَ يُسْئَلُونَ أي: عنها يوم القيامة. و هذا وعيد.

وَ قالُوا لَوْ شاءَ الرَّحْمنُ أي: لو شاء عدم عبادة الملائكة ما عَبَدْناهُمْ و ذلك لزعمهم الباطل أنّ عبادتهم بمشيئة اللّه ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ أي: لا يعلمون صحّة ما يقولون، فقولهم باطل، لأنّه لم يصدر عن علم إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ كاذبون، كما يقول إخوانهم المجبّرة. و لا دليل على أنّهم قالوه مستهزئين لا جادّين، ليكونوا عند المجبّرة مؤمنين، و ادّعاء ما لا دليل عليه باطل. على أنّ اللّه قد حكى عنهم على سبيل الذمّ و الشهادة بالكفر: أنّهم جعلوا له من عباده جزءا، و أنّه اتّخذ بنات و أصفاهم بالبنين، و أنّهم جعلوا الملائكة المكرّمين إناثا، و أنّهم عبدوهم.

و أيضا لو كانت هذه الكلمة الّتي نطقوا بها هزءا، لم يكن لقوله تعالى: ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ معنى.

و لمّا بين أقوالهم الزائغة، و نفى أن يكون لهم بذلك علم من طريق العقل، أضرب عنه

إلى إنكار أن يكون لهم سند من جهة النقل، فقال:

أَمْ آتَيْناهُمْ كِتاباً مِنْ قَبْلِهِ من قبل القرآن فَهُمْ بِهِ مُسْتَمْسِكُونَ بذلك الكتاب متمسّكون. و معلوم أنّهم لم يمكنهم ادّعاء أنّ اللّه تعالى أنزل بذلك كتابا، فعلم أنّ ذلك من تخرّصهم.

و لمّا لم يكن لهم على ذلك حجّة عقليّة و لا نقليّة، جنحوا إلى تقليد آبائهم الجهلة، كما حكى اللّه سبحانه عنهم بقوله: بَلْ قالُوا إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ أي:

ملّة و طريقة تؤمّ، أي: تقصد، كالرحلة للمرحول إليه وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُهْتَدُونَ

ثمّ سلّى سبحانه رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على أنّ التقليد في نحو ذلك ضلال قديم، و أنّ مقدّميهم أيضا لم يكن لهم سند منظور إليه، فقال:

وَ كَذلِكَ ما أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ فِي قَرْيَةٍ في مجمع من الناس مِنْ نَذِيرٍ أي:

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 247

نذيرا، لأنّ «من» زائدة إِلَّا قالَ مُتْرَفُوها متنعّموها الّذين أترفتهم النعمة، أي:

أبطرتهم، فلا يحبّون إلّا الشهوات و الملاهي إِنَّا وَجَدْنا آباءَنا عَلى أُمَّةٍ وَ إِنَّا عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ تخصيص المترفين إشعار بأنّ التنعّم و حبّ البطالة صرفهم عن النظر إلى التقليد. و قوله: «عَلى آثارِهِمْ مُقْتَدُونَ» خبر ل «إنّ»، أو الظرف صلة ل «مقتدون».

ثمّ قال للنذير: قالَ لهم أَ وَ لَوْ جِئْتُكُمْ أي: أ تتّبعون آباءكم و لو جئتكم بِأَهْدى بدين أهدى مِمَّا وَجَدْتُمْ عَلَيْهِ آباءَكُمْ من دين آبائكم. و هو حكاية أمر ماض أوحي إلى النذير. و فيه حسن التلطّف في الاستدعاء إلى الحقّ، و هو أنّه لو كان ما يدّعونه حقّا و هدى، و كان ما جئتكم به من الحقّ أهدى منه، كان أوجب أن يتّبع و يرجع إليه. و يجوز أن يكون

ذلك خطابا لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و يؤيّد الأوّل أنّه قرأ ابن عامر و حفص: قال.

و قوله: قالُوا إِنَّا بِما أُرْسِلْتُمْ بِهِ أيّها المرسلون كافِرُونَ أي: إنّا ثابتون على دين آبائنا، لا ننفكّ عنه و إن جئتنا بما هو أهدى. و هذا إقناط للنذير من أن ينظروا أو يتفكّروا فيه.

ثمّ ذكر سبحانه ما فعل بهم، فقال: فَانْتَقَمْنا مِنْهُمْ بالاستئصال فَانْظُرْ كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الْمُكَذِّبِينَ لأنبياء اللّه و الجاحدين لهم، فلا تبال بتكذيبهم. و في هذا إشارة إلى أنّ العاقبة المحمودة تكون لأهل الحقّ و المصدّقين لرسل اللّه.

[سورة الزخرف (43): الآيات 26 الى 35]

وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ لِأَبِيهِ وَ قَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ (26) إِلاَّ الَّذِي فَطَرَنِي فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ (27) وَ جَعَلَها كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (28) بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ وَ آباءَهُمْ حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُّ وَ رَسُولٌ مُبِينٌ (29) وَ لَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُّ قالُوا هذا سِحْرٌ وَ إِنَّا بِهِ كافِرُونَ (30)

وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ (31) أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ (32) وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ سُقُفاً مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعارِجَ عَلَيْها يَظْهَرُونَ (33) وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَ سُرُراً عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ (34) وَ زُخْرُفاً وَ إِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا وَ الْآخِرَةُ عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ (35)

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 248

ثمّ دلّ على بطلان التقليد بقوله: وَ إِذْ قالَ إِبْراهِيمُ و اذكر وقت قوله هذا ليروا كيف تبرّأ أشرف آبائهم عن التقليد و

تمسّك بالدليل، حيث قال لِأَبِيهِ أي:

لعمّه الّذي هو بمنزلة أبيه في تربيته وَ قَوْمِهِ إِنَّنِي بَراءٌ مِمَّا تَعْبُدُونَ بري ء من عبادتكم أو معبودكم من الأصنام و الكواكب. مصدر نعت به، و لذلك استوى فيه الواحد و المتعدّد، و المذكّر و المؤنّث.

إِلَّا الَّذِي فَطَرَنِي منصوب على أنّه استثناء منقطع، كأنّه قال: لكن أعبد

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 249

الّذي فطرني فَإِنَّهُ سَيَهْدِينِ أي: سيثبّتني على الهداية على الاستقبال، كما هداني في الماضي و الحال. أو سيهديني إلى ما وراء ما هداني إليه. و يحتمل أن يكون مجرورا بدلا من المجرور ب «من»، على أنّه استثناء متّصل. و ذلك لأنّهم- كما قيل- كانوا يعبدون اللّه مع أوثانهم. و أن تكون «إلّا» صفة بمعنى غير، على أن «ما» في «ما تعبدون» موصوفة، تقديره: إنّني براء من آلهة تعبدونها غير الّذي فطرني.

فهو نظير قوله: لَوْ كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ لَفَسَدَتا «1».

وَ جَعَلَها و جعل إبراهيم أو اللّه كلمة التوحيد كَلِمَةً باقِيَةً فِي عَقِبِهِ في ذرّيّته، فيكون فيهم أبدا من يوحّد اللّه و يدعو إلى توحيده لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ يرجع من أشرك منهم بدعاء من وحّده و تاب عمّا هو عليه.

و

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «الكلمة هي الامامة إلى يوم القيامة».

و عن السدّي: أنّ المراد بالذرّيّة هم آل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

ثمّ ذكر سبحانه نعمه على قريش، و هم من أعقاب إبراهيم، فقال:

بَلْ مَتَّعْتُ هؤُلاءِ أي: هؤلاء المعاصرين من قريش وَ آباءَهُمْ بالمدّ في العمر و النعمة، و لم أعاجلهم بالعقوبة لكفرهم، فاغترّوا بذلك، و شغلوا بالتنعّم و اتّباع الشهوات و طاعة الشيطان عن كلمة التوحيد حَتَّى جاءَهُمُ الْحَقُ دعوة التوحيد أو القرآن وَ رَسُولٌ مُبِينٌ ظاهر

الرسالة بما له من المعجزات البيّنة. أو مبين للتوحيد بالحجج و الآيات.

وَ لَمَّا جاءَهُمُ الْحَقُ لينبّههم عن غفلتهم قالُوا هذا سِحْرٌ وَ إِنَّا بِهِ كافِرُونَ أي: زادوا شرارة، فضمّوا إلى شركهم معاندة الحقّ و الاستخفاف به، فسمّوا القرآن سحرا و كفروا به، و استحقروا الرسول.

وَ قالُوا لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ من إحدى القريتين:

______________________________

(1) الأنبياء: 22.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 250

مكّة و الطائف عَظِيمٍ بالجاه و المال، كالوليد بن المغيرة المخزومي من مكّة، و عروة بن مسعود الثقفي، و حبيب بن عمرو بن عمير الثقفي، و عتبة بن أبي ربيعة من مكّة، و كنانة بن عبد ياليل من الطائف. و كان الوليد يقول: لو كان حقّا ما يقول محمّد لنزل هذا القرآن عليّ أو على أبي مسعود الثقفي، فإنّ الرسالة منصب عظيم لا يليق إلّا بعظيم. و لم يعلموا أنّها رتبة روحانيّة تستدعي عظم النفس بالتحلّي بالفضائل و الكمالات القدسيّة، لا التزخرف بالزخارف الدنيويّة.

فردّ اللّه سبحانه ذلك عليهم، فقال إنكارا و تجهيلا و تعجيبا من تحكّمهم:

أَ هُمْ يَقْسِمُونَ رَحْمَتَ رَبِّكَ أي: النبوّة نَحْنُ قَسَمْنا بَيْنَهُمْ مَعِيشَتَهُمْ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا و هم عاجزون عن تدبيرها، و هي خويصّة «1» أمرهم و ما يصلحهم في دنياهم، و لو وكلهم إلى أنفسهم و ولّاهم تدبير أمرهم لضاعوا و هلكوا. فإذا كانوا في تدبير أمر المعيشة الدنيّة في الحياة الدنيا على هذه الصفة، فما ظنّك بهم في أن يدبّروا أمر النبوّة الّتي هي أعلى المراتب الإنسيّة، و رحمة اللّه الكبرى، و رأفته العظمى، و ما يتبعها من الفوز و الفلاح في دار السلام.

إن قيل: المراد بالمعيشة ما يعيشون به من المنافع، فمنهم من يعيش بالحلال، و

منهم من يعيش بالحرام، فإذن قد قسّم اللّه الحرام كما قسّم الحلال.

فأجيب بأن اللّه قسّم لكلّ عبد معيشته، و هي مطاعمه و مشاربه و ما يصلحه من المنافع، و أذن له في تناولها، و لكن كلّفه أن يسلك في تناولها الطريق الّتي شرعها، فإذا سلكها فقد تناول قسمته من المعيشة حلالا، و سمّاها رزق اللّه، و إذا لم يسلكها تناولها حراما، و ليس له أن يسمّيها رزق اللّه. فاللّه تعالى قاسم المعايش و المنافع، و لكنّ العباد يكسبونها صفة الحرام بسوء تناولهم، و هو عدولهم عمّا شرعه اللّه إلى ما لم يشرعه.

______________________________

(1) أي: الّذين يختصّ بهم. و هي تصغير خاصّة.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 251

وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ بَعْضٍ دَرَجاتٍ بأن أوقعنا بينهم التفاوت في الرزق و غيره، فجعلنا منهم أقوياء و ضعفاء، و أغنياء و محاويج، و موالي و خدما لِيَتَّخِذَ بَعْضُهُمْ بَعْضاً سُخْرِيًّا ليتسخّر بعضهم بعضا في أشغالهم و حوائجهم، فيحصل بينهم تآلف و تضامّ ينتظم بذلك نظام العالم، لا لكمال في الموسع، و لا لنقص في المقتر وَ رَحْمَتُ رَبِّكَ يعني: النبوّة و ما يتبعها خَيْرٌ مِمَّا يَجْمَعُونَ من حطام الدنيا.

ثمّ أخبر سبحانه عن هوان الدنيا عليه، و قلّة مقدارها عنده، فقال:

وَ لَوْ لا أَنْ يَكُونَ النَّاسُ أُمَّةً واحِدَةً لولا كراهة أن يرغبوا في الكفر إذا رأوا الكفّار في سعة و تنعّم لحبّهم الدنيا، فيجتمعوا عليه لَجَعَلْنا لِمَنْ يَكْفُرُ بِالرَّحْمنِ لِبُيُوتِهِمْ بدل من «لمن» بدل الاشتمال. و يجوز أن يكون علّة، مثل اللامين في قولك: و هبت له ثوبا لقميصه، أي: لأجل قميصه. سُقُفاً جمع سقف. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو: سقفا، اكتفاء بجمع البيوت. مِنْ فِضَّةٍ وَ مَعارِجَ و مصاعد.

جمع معرج. عَلَيْها يَظْهَرُونَ يعلون السطوح، لحقارة الدنيا وَ لِبُيُوتِهِمْ أَبْواباً وَ سُرُراً أي: من فضّة. حذفت اكتفاء بذكرها أوّلا. عَلَيْها يَتَّكِؤُنَ

وَ زُخْرُفاً و زينة، عطف على «سقفا». أو ذهبا، عطف على محلّ «من فضّة». و في معناه

قول رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لو وزنت الدنيا عند اللّه جناح بعوضة ما سقى الكافر منها شربة ماء».

و إنّما لم يوسع الدنيا على المسلمين ليرغب الكفّار في الإسلام، لأنّ التوسعة عليهم مفسدة أيضا، لما تؤدّي إليه من الدخول في الإسلام لأجل الدنيا لا محض القربة، فكانت الحكمة فيما دبّر، حيث جعل في الفريقين أغنياء و فقراء، و غلّب الفقر على الغنى.

وَ إِنْ كُلُّ ذلِكَ لَمَّا مَتاعُ الْحَياةِ الدُّنْيا «إن» هي المخفّفة، و اللام هي الفارقة.

و قرأ عاصم و حمزة و هشام بخلاف عنه: لمّا بالتشديد، بمعنى «إلّا»، و «إن» نافية.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 252

وَ الْآخِرَةُ و الجنّة الباقية عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُتَّقِينَ خاصّة لهم. و في الآية دلالة على اللطف، و أنّه تعالى لا يفعل المفسدة و ما يدعو إلى الكفر، و إذا لم يفعل ما يؤدّي إلى الكفر فلأن لا يفعل الكفر و لا يريده أولى.

[سورة الزخرف (43): الآيات 36 الى 39]

وَ مَنْ يَعْشُ عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ (36) وَ إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ عَنِ السَّبِيلِ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ (37) حَتَّى إِذا جاءَنا قالَ يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ فَبِئْسَ الْقَرِينُ (38) وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ إِذْ ظَلَمْتُمْ أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ (39)

و لمّا تقدّم ذكر الوعد للمتّقين، عقّبه بذكر الوعيد لمن هو على ضدّ صفتهم، فقال:

وَ مَنْ يَعْشُ يتعام و يعرض عَنْ ذِكْرِ الرَّحْمنِ أي: يعرف أنّه الحقّ ثمّ

يتجاهل و يتغابى «1»، كقوله: وَ جَحَدُوا بِها وَ اسْتَيْقَنَتْها أَنْفُسُهُمْ «2». و ذلك لفرط اشتغاله بالمحسوسات و انهماكه في الشهوات. نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً نقدّر له، بمعنى: نخذله و نخلّ بينه و بين الشيطان، كقوله: وَ قَيَّضْنا لَهُمْ قُرَناءَ «3» فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ يوسوسه و يغويه دائما. و قرأ يعقوب بالياء، على إسناده إلى ضمير الرحمان.

وَ إِنَّهُمْ لَيَصُدُّونَهُمْ جمع الضمير للمعنى، إذ المراد جنس العاشي

______________________________

(1) أي: يتغافل.

(2) النمل: 14.

(3) فصّلت: 25.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 253

و الشيطان المقيّض له. و المعنى: أنّ الشياطين المقيّضين ليصدّون العاشين عَنِ السَّبِيلِ عن الطريق الّذي من حقّه أن يسبل وَ يَحْسَبُونَ و يحسب العاشون أَنَّهُمْ مُهْتَدُونَ أنّهم على الهدى فيتّبعونهم.

حَتَّى إِذا جاءَنا أي: العاشي. و قر الحجازيّان و ابن عامر و أبو بكر:

جاءانا، أي: العاشي و الشيطان قالَ أي: العاشي للشيطان يا لَيْتَ بَيْنِي وَ بَيْنَكَ بُعْدَ الْمَشْرِقَيْنِ بعد المشرق من المغرب، و المغرب من المشرق. فلمّا غلّب المشرق، و جمع المفترقين بالتثنية، أضاف البعد إليهما. فَبِئْسَ الْقَرِينُ أنت.

وَ لَنْ يَنْفَعَكُمُ الْيَوْمَ أي: ما أنتم عليه من تمنّي مباعدة القرين إِذْ ظَلَمْتُمْ إذ صحّ أنّكم ظلمتم أنفسكم في الدنيا. بدل من اليوم. أَنَّكُمْ فِي الْعَذابِ مُشْتَرِكُونَ لأنّ حقّكم أن تشتركوا أنتم و شياطينكم في العذاب، كما كنتم مشتركين في سببه، و هو الكفر. و يجوز أن يسند الفعل إليه، بمعنى: و لن ينفعكم كونكم مشتركين في العذاب، كما ينفع الواقعين في الأمر الصعب اشتراكهم فيه، لتعاونهم في تحمّل أعبائه، و تقسّمهم لشدّته و عنائه، و ذلك أنّ كلّ واحد منكم به من العذاب ما لا تبلغه طاقته.

[سورة الزخرف (43): الآيات 40 الى 45]

أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ وَ مَنْ كانَ فِي ضَلالٍ

مُبِينٍ (40) فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ (41) أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ (42) فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (43) وَ إِنَّهُ لَذِكْرٌ لَكَ وَ لِقَوْمِكَ وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ (44)

وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا أَ جَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ (45)

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 254

روي: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يجدّ و يجتهد و يكدّ روحه في دعاء قومه، و هم لا يزيدون على دعائه إلّا تصميما على الكفر و تماديا في الغيّ، فأنكر سبحانه عليه بقوله: أَ فَأَنْتَ تُسْمِعُ الصُّمَّ أَوْ تَهْدِي الْعُمْيَ

إنكار و تعجّب من أن يكون هو الّذي يقدر على هدايتهم، بعد تمرّنهم على الكفر و استغراقهم في الضلال، بحيث صار عشاهم «1» عمى مقرونا بالصم وَ مَنْ كانَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ عطف على العمى باعتبار تغاير الوصفين.

و فيه إشعار بأنّ الموجب لذلك تمكّنهم في ضلال لا يخفى، فلا يضيقنّ صدرك تصميمهم على الكفر، فإنّه لا يقدر على هدايتهم إلّا اللّه وحده على سبيل الإلجاء و القسر، كقوله: إِنَّ اللَّهَ يُسْمِعُ مَنْ يَشاءُ وَ ما أَنْتَ بِمُسْمِعٍ مَنْ فِي الْقُبُورِ «2».

و لمّا وصفهم بشدّة الشكيمة بالكفر و الضلال، أتبعه شدّة الوعيد بعذاب الدنيا و الآخرة، فقال:

فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ «ما» مزيدة بمنزلة لام القسم في استجلاب النون المؤكّدة.

و المعنى: فإن قبضناك قبل أن ننصرك عليهم، و نشفي صدور المؤمنين منهم فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ بأشدّ الانتقام في الآخرة. كقوله: أَوْ نَتَوَفَّيَنَّكَ فَإِلَيْنا يُرْجَعُونَ «3».

أَوْ نُرِيَنَّكَ الَّذِي وَعَدْناهُمْ أو إن أردنا أن نريك ما وعدناهم من العذاب.

و قرأ يعقوب برواية رويس: أو نرينك، بإسكان النون. و كذا: نذهبن.

فَإِنَّا عَلَيْهِمْ مُقْتَدِرُونَ لا يفوتوننا.

قال الحسن و قتادة: إنّ اللّه أكرم نبيّه بأن لم يره تلك النقمة، و لم ير في أمّته

______________________________

(1) عشي يعشى عشا: ساء بصره بالليل و النهار.

(2) فاطر: 22.

(3) غافر: 77.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 255

إلّا ما قرّت به عينه. و قد كان بعده عليه و آله السلام نقمة شديدة. و

قد روي أنه صلوات اللّه عليه و آله أري ما تلقى أمّته بعده، فما زال منقبضا، و لم ينبسط ضاحكا حتّى لقي اللّه تعالى.

و

روى جابر بن عبد اللّه الأنصاري قال: «إنّي لأدناهم من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في حجّة الوداع بمنى، حتّى قال: لألفينّكم ترجعون بعدي كفّارا يضرب بعضكم رقاب بعض. و أيم اللّه لئن فعلتموها لتعرفنّني في الكتيبة الّتي تضاربكم. ثمّ التفت إلى خلفه فقال: أو عليّ أو عليّ، ثلاث مرّات. فرأينا أنّ جبرائيل غمزه، فأنزل اللّه على أثر ذلك: «فَإِمَّا نَذْهَبَنَّ بِكَ فَإِنَّا مِنْهُمْ مُنْتَقِمُونَ» بعليّ بن أبي طالب».

و

قيل: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أري الانتقام منهم، و هو ما كان من نقمة اللّه من المشركين يوم بدر بعد أن أخرجوه من مكّة، فقد أسر منهم و قتل مع قلّة أصحابه و ضعف منّتهم «1»، و كثرة الكفّار و شدّة شوكتهم.

ثمّ أمره سبحانه بالتمسّك بالقرآن، فقال: فَاسْتَمْسِكْ بِالَّذِي أُوحِيَ إِلَيْكَ فكن متمسّكا بما أوحينا إليك من الآيات و الشرائع و بالعمل به إِنَّكَ عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ لا عوج له، و لا يحيد عنه إلّا ضالّ شقيّ. فزد كلّ يوم صلابة في المحاماة على دين اللّه، و لا يخرجك الضجر بأمرهم إلى شي ء من اللين و الرخاوة في أمرك.

وَ إِنَّهُ و إنّ

الّذي أوحي إليك لَذِكْرٌ لشرف لَكَ وَ لِقَوْمِكَ وَ سَوْفَ تُسْئَلُونَ أي: عنه يوم القيامة، و عن قيامكم بحقّه، و عن تعظيمكم له، و شكركم على أن رزقتموه و خصصتم به من بين العالمين.

وَ سْئَلْ مَنْ أَرْسَلْنا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رُسُلِنا ليس المراد بسؤال الرسل حقيقة السؤال، لإحالته، بل في الكلام مضاف مقدّر، تقديره: و اسأل أممهم و علماء دينهم.

فإذا سألهم فكأنّه سأل الأنبياء. و قرأ ابن كثير و الكسائي بتخفيف الهمزة.

______________________________

(1) المنة: القوة.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 256

أَ جَعَلْنا مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ آلِهَةً يُعْبَدُونَ هل حكمنا بعبادة الأوثان؟ و هل جاءت في ملّة من مللهم؟

و

قيل: إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جمع له تسعون نبيّا- منهم موسى و عيسى- ليلة الإسراء في بيت المقدس فأمّهم، و قيل له: سلهم، فلم يشكّ و لم يسأل.

و قيل: السؤال مجاز عن النظر في أديانهم و الفحص عن مللهم، هل جاءت عبادة الأوثان قطّ في ملّة من ملل الأنبياء؟ و كفاه نظرا و فحصا نظره في كتاب اللّه المعجز المصدّق لما بين يديه، و إخبار اللّه فيه بأنّهم لا يعبدون إلّا اللّه. و هذه الآية كافية في نفسها، لا حاجة إلى غيرها. و السؤال الواقع مجازا عن النظر، حيث لا يصحّ السؤال على الحقيقة، كثير منه مساءلة الشعراء الديار و الرسوم و الأطلال. و منه قول من قال: سل الأرض من شقّ أنهارك، و غرس أشجارك، و جنى ثمارك؟ فإنّها إن لم تجبك حوارا «1» أجابتك اعتبارا. و القول الأوّل قول أكثر المفسّرين.

[سورة الزخرف (43): الآيات 46 الى 56]

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلائِهِ فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ (46) فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ (47)

وَ ما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلاَّ هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها وَ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (48) وَ قالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ ادْعُ لَنا رَبَّكَ بِما عَهِدَ عِنْدَكَ إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ (49) فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ (50)

وَ نادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ قالَ يا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هذِهِ الْأَنْهارُ تَجْرِي مِنْ تَحْتِي أَ فَلا تُبْصِرُونَ (51) أَمْ أَنَا خَيْرٌ مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ وَ لا يَكادُ يُبِينُ (52) فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ (53) فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فَأَطاعُوهُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (54) فَلَمَّا آسَفُونا انْتَقَمْنا مِنْهُمْ فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ (55)

فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً وَ مَثَلاً لِلْآخِرِينَ (56)

______________________________

(1) أي: مخاطبة بالنطق، و مجاوبة للكلام.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 257

و لمّا تقدّم سؤال الرسول عن أحوال الرسل و ما جاؤا به، اتّصل به- استشهادا بصحّة دعوته إلى التوحيد- حديث موسى و عيسى، لأنّ أهل الكتابين إليهما ينتسبون، فذكر قصّتهما مع أمّتهما تصديقا لنبيّه في دعواه، فقال:

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا مُوسى بِآياتِنا إِلى فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِ أي: أشراف قومه. و خصّهم بالذكر و إن كان مرسلا أيضا إلى غيرهم، لأنّ من عداهم تبع لهم. فَقالَ إِنِّي رَسُولُ رَبِّ الْعالَمِينَ أرسلني إليكم.

فَلَمَّا جاءَهُمْ بِآياتِنا و أظهرها عليهم إِذا هُمْ مِنْها يَضْحَكُونَ أي: فاجئوا وقت ضحكهم استهزاء بها أوّل ما رأوها و لم يتأمّلوا فيها.

وَ ما نُرِيهِمْ مِنْ آيَةٍ إِلَّا هِيَ أَكْبَرُ مِنْ أُخْتِها إلّا و هي بالغة أقصى درجات الإعجاز، بحيث يحسب الناظر فيها أنّها أكبر ممّا يقاس إليها من الآيات. و المراد وصف الكلّ بالكبر. يعني: أنّ الآيات موصوفات بفرط الكبر، لا يكدن يتفاوتن فيه. و كذلك الأشياء الّتي تتلاقى في

الفضل، كقولك: رأيت رجالا بعضهم أفضل من بعض. أو إلّا و هي مختصّة بنوع من الإعجاز مفضّلة على غيرها بذلك الاعتبار. فلا

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 258

يقال: إنّ هذا الكلام متناقض، لأنّ معناه: ما من آية من التسع إلّا و هي أكبر من كلّ واحدة منها، فتكون واحدة منها فاضلة و مفضولة في حالة واحدة.

وَ أَخَذْناهُمْ بِالْعَذابِ كالسنين و الطوفان و الجراد لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ أي:

على وجه يرجى رجوعهم.

وَ قالُوا يا أَيُّهَا السَّاحِرُ نادوه بذلك في تلك الحال لشدّة شكيمتهم و فرط حماقتهم. أو لأنّهم كانوا يسمّون العالم الماهر ساحرا، لاستعظامهم السحر، فلم يكن صفة ذمّ. ادْعُ لَنا رَبَّكَ فيكشف عنّا العذاب بِما عَهِدَ عِنْدَكَ بعهده عندك من النبوّة كما زعمت. أو من أن يستجيب دعوتك. أو أن يكشف العذاب عمّن اهتدى. أو بما عهد عندك فوفيت به، و هو الإيمان و الطاعة. إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ

و قال بعضهم «1» في تطبيق تسميتهم موسى بالساحر مع قولهم: «إنّنا لمهتدون»: إنّ قولهم هذا وعد منويّ إخلافه، و عهد معزوم على نكثه، كما دلّ عليه قوله: فَلَمَّا كَشَفْنا عَنْهُمُ الْعَذابَ بدعاء موسى إِذا هُمْ يَنْكُثُونَ فاجئوا نكث عهدهم بالاهتداء. فما كانت تسميتهم إيّاه بالساحر بمنافية لقولهم: «إِنَّنا لَمُهْتَدُونَ».

و في هذا تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإنّ المعنى: اصبر يا محمد على أذى قومك، فإنّ حالك معهم كحال موسى مع قومه، فيؤول أمرك إلى الاستعلاء على قومك كما آل أمره إلى ذلك.

وَ نادى فِرْعَوْنُ فِي قَوْمِهِ جعلهم محلّا لندائه و موقعا له. و المعنى: نادى فرعون بنفسه في مجامع قومه عند عظماء القبط، فيرفع صوته بذلك فيما بينهم، ثمّ ينشر عنه في جموع القبط، فكأنّه نودي به

بينهم. أو أمر بالنداء في مجامعهم من نادى بذلك، فأسند النداء إليه، كقولك: قطع الأمير اللصّ، إذا أمر بقطعه.

قالَ يا قَوْمِ أَ لَيْسَ لِي مُلْكُ مِصْرَ وَ هذِهِ الْأَنْهارُ أنهار النيل. و معظمها أربعة

______________________________

(1) الكشّاف 4: 257.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 259

أنهر: نهر الملك، و نهر طولون، و نهر دمياط، و نهر تنّيس. تَجْرِي مِنْ تَحْتِي تحت قصري، أو سريري، أو أمري، أو بين يديّ في جناني. و الواو إمّا عاطفة ل «هذه الأنهار» على «ملك مصر» و «تجري» حال منها. أو «هذه» مبتدأ، و «الأنهار» صفتها، و «تجري» خبرها. أَ فَلا تُبْصِرُونَ هذا الملك العظيم، و شدّة قوّتي و تسلّطي، و ضعف موسى.

أَمْ أَنَا خَيْرٌ مع هذه المملكة و البسطة مِنْ هذَا الَّذِي هُوَ مَهِينٌ ضعيف حقير لا يستعدّ للرئاسة. من المهانة، و هي: القلّة. و قيل: المهين الفقير الّذي يمتهن نفسه في جميع ما يحتاج إليه، ليس له من يكفيه أمره. وَ لا يَكادُ يُبِينُ الكلام، لما به من العقدة الّتي في لسانه، فكيف يصلح للرسالة؟ يريد: أنّه ليس معه من العدد و آلات الملك و السياسة ما يعتضد به. و هو في نفسه مخلّ بما ينعت به الرجال من الفصاحة. و كانت الأنبياء أبيناء «1» بلغاء.

و عن الحسن: كانت العقدة زالت عن لسانه حين أرسله اللّه، كما قال مخبرا عن نفسه: وَ احْلُلْ عُقْدَةً مِنْ لِسانِي «2»، ثمّ قال: قَدْ أُوتِيتَ سُؤْلَكَ يا مُوسى «3».

و لكن لم يعلم قومه بذلك، فعيّره بما كان في لسانه قبل.

و قيل: كان في لسانه لثغة «4»، فرفعها اللّه تعالى و بقي فيه ثقل مّا.

و «أم» منقطعة، و الهمزة للتقرير، إذ قدّم أسباب فضله، من ملك مصر و

جري الأنهار تحته، و نادى بذلك في مجامعهم و قال: أنا خير. كأنّه يقول: أثبت عندكم و استقرّ أنّي أنا خير؟ أو متّصلة، على إقامة المسبّب مقام السبب. و المعنى: أ فلا تبصرون، أم تبصرون فتعلمون أنّي خير منه؟ فوضع موضع: تبصرون، قوله: «أنا

______________________________

(1) أبيناء جمع بيّن، من: بان الشي ء: اتّضح، مثل: هيّن و أهيناء.

(2) طه: 27 و 36.

(3) طه: 27 و 36.

(4) اللثغة: النطق بالسين كالثاء، أو بالراء كالغين، إلى غير ذلك. أو ثقل اللسان بالكلام.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 260

زبدة التفاسير ج 6 299

خير».

و لمّا وصف نفسه بالملك و العزّة، و وازن بينه و بين موسى عليه السّلام، و وصفه بالضعف و قلّة الأعضاد، اعترض فقال:

فَلَوْ لا أُلْقِيَ عَلَيْهِ أَسْوِرَةٌ مِنْ ذَهَبٍ أي: فهلّا إن كان صادقا ألقى اللّه عليه مقاليد الملك و سوّده و سوّره، إذ كانوا إذا سوّدوا رجلا سوّروه و طوّقوه بطوق من ذهب. و أساور «1» جمع أسورة، جمع سوار. و قرأ يعقوب و حفص: أسورة. أَوْ جاءَ مَعَهُ الْمَلائِكَةُ مُقْتَرِنِينَ مقرونين يعينونه، أو يصدّقونه. من: قرنته به فاقترن. أو متقارنين، من: اقترن بمعنى: تقارن.

فَاسْتَخَفَّ قَوْمَهُ فطلب منهم الخفّة، و حملهم على أن يخفّوا له في مطاوعته. أو فاستخفّ أحلامهم. فَأَطاعُوهُ فيما أمرهم به إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ فلذلك أطاعوا ذلك الفاسق.

فَلَمَّا آسَفُونا أغضبونا بالإفراط في العناد و العصيان. منقول من: أسف إذا اشتدّ غضبه. انْتَقَمْنا مِنْهُمْ أي: لمّا أفرطوا في المعاصي و العدوان، فاستوجبوا أن لا نحلم عنهم، فنعجّل لهم عذابنا و انتقامنا. و معنى غضبه على العصاة إرادة عقابهم، كما أن رضاه عن المطيعين إرادة ثوابهم الّذي يستحقّونه على طاعاتهم. و قيل: معناه آسفوا رسلنا، لأنّ الأسف

بمعنى الحزن لا يجوز على اللّه تعالى. فَأَغْرَقْناهُمْ أَجْمَعِينَ في اليمّ، ما نجا منهم أحد.

فَجَعَلْناهُمْ سَلَفاً قدوة لمن بعدهم من الكفّار يقتدون بهم في استحقاق مثل عذابهم. مصدر نعت به. أو جمع سالف، كخدم و خادم. و قرأ حمزة و الكسائي بضمّ السين و اللام جمع سليف، كرغيف و رغف، أو سالف كصابر و صبر، أو سلف كخشب و خشب. و المعنى: و جعلناهم متقدّمين إلى النار. وَ مَثَلًا لِلْآخِرِينَ عبرة

______________________________

(1) أي: في قراءة: أساور.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 261

لهم. أو حديثا عجيب الشأن سائرا مسير المثل يحدّثون به.

[سورة الزخرف (43): الآيات 57 الى 62]

وَ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلاً إِذا قَوْمُكَ مِنْهُ يَصِدُّونَ (57) وَ قالُوا أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلاَّ جَدَلاً بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ (58) إِنْ هُوَ إِلاَّ عَبْدٌ أَنْعَمْنا عَلَيْهِ وَ جَعَلْناهُ مَثَلاً لِبَنِي إِسْرائِيلَ (59) وَ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ مَلائِكَةً فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ (60) وَ إِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ فَلا تَمْتَرُنَّ بِها وَ اتَّبِعُونِ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (61)

وَ لا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ (62)

روي: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا قرأ على قريش إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ «1» امتعضوا «2» من ذلك امتعاضا شديدا.

فقال عبد اللّه بن الزبعرى: يا محمد أ خاصّة لنا و لآلهتنا، أم لجميع الأمم؟

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: هو لكم و لآلهتكم و لجميع الأمم.

فقال: خصمتك و ربّ الكعبة، أ لست تزعم أنّ عيسى بن مريم نبيّ و تثني عليه خيرا و على أمّه؟ و قد علمت أنّ النصارى يعبدونهما، و عزير يعبد، و الملائكة يعبدون، فإن كان هؤلاء في النار فقد رضينا

أن نكون نحن و آلهتنا معهم.

______________________________

(1) الأنبياء: 98.

(2) امتعض من الأمر: غضب منه و شقّ عليه. زبدة التفاسير، ج 6، ص: 262

ففرحوا و ضحكوا، و سكت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فأنزل اللّه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى أُولئِكَ عَنْها مُبْعَدُونَ «1». ثمّ نزلت:

وَ لَمَّا ضُرِبَ ابْنُ مَرْيَمَ مَثَلًا

أي: مثلا ضربه ابن الزبعرى إِذا قَوْمُكَ قريش مِنْهُ من هذا المثل يَصِدُّونَ يضجّون فرحا و ضحكا، لظنّهم أنّ الرسول صار ملزما به.

و قرأ نافع و ابن عامر و الكسائي بالضمّ من الصدود، أي: يصدّون عن الحقّ و يعرضون عنه. و قيل: هما لغتان، نحو يعكف و يعكف.

وَ قالُوا أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ أي: آلهتنا خير عندك أم عيسى، فإن كان عيسى في النار فلتكن آلهتنا معه ما ضَرَبُوهُ لَكَ إِلَّا جَدَلًا ما ضربوا هذا المثل إلّا لأجل الجدل و الغلبة، لا لتمييز الحقّ من الباطل بَلْ هُمْ قَوْمٌ خَصِمُونَ شداد الخصومة، حراص على اللجاج، كقوله تعالى: قَوْماً لُدًّا «2».

و لا شبهة أنّ قوله: إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ «3» ما أريد به إلّا الأصنام. و كذلك

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «هو لكلم و لآلهتكم و لجميع الأمم»

إنّما قصد به الأصنام، و محال أن يقصد به الأنبياء و الملائكة. إلّا أنّ ابن الزبعرى لخداعه و خبث دخلته «4»، لمّا رأى كلام اللّه و رسوله محتملا لفظه وجه العموم، مع علمه بأنّ المراد به أصنامهم لا غير، وجد للحيلة مساغا، فصرف معناه إلى الشمول و الإحاطة بكلّ معبود غير اللّه، على طريق فرط الجدال و حبّ المكابرة و المغالبة، و توقّح «5» في ذلك، فتوقّر رسول

______________________________

(1) الأنبياء: 101.

(2) مريم:

97.

(3) الأنبياء: 98.

(4) الدخلة: باطن الأمر.

(5) أي: قلّ حياؤه و أظهر الوقاحة.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 263

اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى أجاب عنه ربّه: إِنَّ الَّذِينَ سَبَقَتْ لَهُمْ مِنَّا الْحُسْنى «1». فدلّ به على أنّ الآية خاصّة في الأصنام. على أنّ ظاهر قوله: «وَ ما تَعْبُدُونَ» لغير العقلاء.

و قيل: لمّا سمعوا قوله: إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ كَمَثَلِ آدَمَ «2» قالوا: نحن أهدى من النصارى، لأنّهم عبدوا آدميّا و نحن نعبد الملائكة، فنزلت. و قوله:

«أَ آلِهَتُنا خَيْرٌ أَمْ هُوَ» على هذا القول تفضيل لآلهتهم على عيسى، لأنّ المراد بهم الملائكة.

و قيل: لمّا نزلت: «إِنَّ مَثَلَ عِيسى عِنْدَ اللَّهِ» قالوا: ما يريد محمّد بهذا إلّا أن نعبده، و أنّه يستأهل أن يعبد و إن كان بشرا، كما عبدت النصارى المسيح و هو بشر.

فالضمير في «أم هو» لمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و غرضهم بالموازنة بينه و بين آلهتهم السخريّة به و الاستهزاء.

و

روى سادة أهل البيت عليهم السّلام عن عليّ عليه السّلام أنّه قال: «جئت إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوما فوجدته في ملأ من قريش، فنظر إليّ ثمّ قال: يا عليّ مثلك في هذه الأمّة كمثل عيسى بن مريم، أحبّه قوم فأفرطوا في حبّه فهلكوا، و أبغضه قوم فأفرطوا في بغضه فهلكوا، و اقتصد فيه قوم فنجوا. فعظم ذلك عليهم و ضحكوا و قالوا: يشبّهه بالأنبياء و الرسل. فنزلت الآية.

إِنْ هُوَ و ما عيسى إِلَّا عَبْدٌ كسائر العبيد أَنْعَمْنا عَلَيْهِ بالنبوّة و خلقه من غير أب وَ جَعَلْناهُ مَثَلًا لِبَنِي إِسْرائِيلَ أمرا عجيبا لهم، بأن خلقناه من غير سبب كما خلقنا آدم، و صيّرناه عبرة عجيبة

كالمثل السائر. و هو كالجواب المزيح لتلك الشبهة.

ثمّ قال سبحانه دالّا على كمال قدرته، و على أنّه لا يفعل إلّا الأصلح:

______________________________

(1) الأنبياء: 101.

(2) آل عمران: 59.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 264

وَ لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْنا مِنْكُمْ لولدنا منكم يا رجال مَلائِكَةً كما ولدنا عيسى من غير أب، لقدرتنا على عجائب الأمور و بدائع الفطر. أو لجعلنا بدلا منكم ملائكة فِي الْأَرْضِ يَخْلُفُونَ يخلفونكم في الأرض، بأن أهلكناكم و جعلنا الملائكة بدلكم سكّان الأرض يعمرونها و يعبدون اللّه.

و المعنى: أنّ حال عيسى و إن كانت عجيبة، فاللّه تعالى قادر على ما هو أعجب من ذلك. و أنّ الملائكة مثلكم، من حيث إنّها ذوات ممكنة و أجسام حادثة يحتمل خلقها توليدا كما جاز خلقها إبداعا، و ذات القديم متعالية عن الحدوث و الإمكان، فمن أين لهم استحقاق الألوهيّة و الانتساب إلى اللّه سبحانه؟

وَ إِنَّهُ لَعِلْمٌ لِلسَّاعَةِ و إنّ عيسى، أي: نزوله من السماء شرط من أشراطها، يعلم منه دنوّها. فسمّى الشرط علما لحصول العلم به. أو إحياؤه الموتى يدلّ على قدرة اللّه على النشر الّذي هو أوّل ساعات القيامة. و الأوّل أكثر و أشهر.

و

أورد مسلم في الصحيح قال ابن جريج: أخبرني أبو الزبير أنه سمع جابر بن عبد اللّه يقول: سمعت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «ينزل عيسى بن مريم فيقول أميرهم:

تعال صلّ بنا. فيقول: لا إنّ بعضكم على بعض أمراء، تكرمة من اللّه لهذه الأمّة» «1».

و

في الحديث أيضا: «ينزل عيسى على ثنيّة بالأرض المقدّسة يقال لها:

أفيق، و عليه ممصرتان، أي: حلّتان، و شعر رأسه دهين، و بيده حربة، و بها يقتل الدجّال. فيأتي بيت المقدس و الناس في صلاة الصبح و الإمام يؤمّ بهم،

فيتأخّر الإمام، فيقدّمه عيسى و يصلّي خلفه على شريعة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. ثمّ يقتل الخنازير، و يكسر الصليب، و يخرب البيع و الكنائس، و يقتل النصارى إلّا من آمن به».

و عن الحسن: الضمير للقرآن، فإنّ فيه الإعلام بالساعة و الدلالة عليها. و

في حديث آخر: «كيف أنتم إذا نزل فيكم ابن مريم و إمامكم منكم».

______________________________

(1) صحيح مسلم 1: 137 ح 156.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 265

فَلا تَمْتَرُنَّ بِها فلا تشكّنّ فيها. من المرية، و هي الشكّ. وَ اتَّبِعُونِ و اتّبعوا هداي، أو شرعي، أو رسولي. و قيل: هو قول الرسول، أمر أن يقول:

اتّبعوني هذا أي: هذا الّذي أدعوكم إليه. أو هذا القرآن إن جعل الضمير في «و إنّه» للقرآن. صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ لا يضلّ سالكه. و قرأ أبو عمرو: فاتّبعوني.

وَ لا يَصُدَّنَّكُمُ الشَّيْطانُ عن المتابعة إِنَّهُ لَكُمْ عَدُوٌّ مُبِينٌ بانت عداوته لكم، إذ أخرج أباكم من الجنّة، و نزع عنه اللباس، و عرّضكم للبليّة.

[سورة الزخرف (43): الآيات 63 الى 66]

وَ لَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ (63) إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ هذا صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ (64) فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ مِنْ بَيْنِهِمْ فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ (65) هَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ (66)

ثمّ أخبر سبحانه عن حال عيسى عليه السّلام حين بعثه اللّه نبيّا، فقال: وَ لَمَّا جاءَ عِيسى بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات، أو بآيات الإنجيل، أو بالشرائع الواضحات قالَ قَدْ جِئْتُكُمْ بِالْحِكْمَةِ بالإنجيل، أو بالشريعة وَ لِأُبَيِّنَ لَكُمْ بَعْضَ الَّذِي تَخْتَلِفُونَ فِيهِ و هو ما يكون من أمر الدين، لا ما يتعلّق بأمر الدنيا، فإنّ الأنبياء لم

يبعثوا لبيانه، و لذلك

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنتم أعلم بأمر دنياكم»

فَاتَّقُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُونِ فيما أبلغه عنه.

ثمّ بيّن ما أمرهم بالطاعة فيه بقوله: إِنَّ اللَّهَ هُوَ رَبِّي وَ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ كأنّه قال: ما أمركم هو اعتقاد التوحيد و التعبّد بالشرائع هذا إشارة إلى مجموع

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 266

الأمرين صِراطٌ مُسْتَقِيمٌ يفضي بكم إلى الجنّة. و هذا من تتمّة كلام عيسى، أو استئناف من اللّه يدلّ على ما هو المقتضي للطاعة في ذلك.

فَاخْتَلَفَ الْأَحْزابُ الفرق المتحزّبة بعد عيسى مِنْ بَيْنِهِمْ من بين النصارى، أو اليهود و النصارى من بين قومه المبعوث هو إليهم فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا من المتحزّبين مِنْ عَذابِ يَوْمٍ أَلِيمٍ هو يوم القيامة.

هَلْ يَنْظُرُونَ هل ينظر قريش، أو الّذين ظلموا إِلَّا السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بدل من «الساعة». و المعنى: ما ينظرون إلّا إتيان الساعة بَغْتَةً فجأة وَ هُمْ لا يَشْعُرُونَ غافلون عنها، لاشتغالهم بأمور الدنيا، و إنكارهم لها.

[سورة الزخرف (43): الآيات 67 الى 73]

الْأَخِلاَّءُ يَوْمَئِذٍ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ إِلاَّ الْمُتَّقِينَ (67) يا عِبادِ لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ (68) الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا وَ كانُوا مُسْلِمِينَ (69) ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَ أَزْواجُكُمْ تُحْبَرُونَ (70) يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ مِنْ ذَهَبٍ وَ أَكْوابٍ وَ فِيها ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ وَ أَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ (71)

وَ تِلْكَ الْجَنَّةُ الَّتِي أُورِثْتُمُوها بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (72) لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها تَأْكُلُونَ (73)

الْأَخِلَّاءُ الأحبّاء يَوْمَئِذٍ متعلّق ب «عدوّ» في قوله: بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ عَدُوٌّ أي: يتعادون يومئذ، لأنّه ينقطع فيه كلّ خلّه بين المتخالّين في غير ذات اللّه، و ينقلب عداوة و مقتا، لأنّه ظهر عليهم في ذلك اليوم أنّ ما كانوا يتخالّون له صار

زبدة التفاسير،

ج 6، ص: 267

سببا للعذاب إِلَّا الْمُتَّقِينَ إلّا خلّة المتصادقين في اللّه، فإنّها لمّا كانت في اللّه تبقى نافعة أبد الآباد، بل تصير زائدة إذا رأوا ثواب التحابّ في اللّه و التباغض في اللّه.

و قيل: «إلّا المتّقين» إلّا المجتنبين أخلّاء السوء. و قيل نزلت: في أبيّ بن خلف و عقبة بن أبي معيط.

ثمّ حكى عمّا ينادى به المتّقون المتحابّون في اللّه يومئذ بقوله: يا عِبادِ أي: يقال لهم: يا عبادي لا خَوْفٌ عَلَيْكُمُ الْيَوْمَ وَ لا أَنْتُمْ تَحْزَنُونَ من فوات الثواب. و قرأ ابن كثير و حمزة و الكسائي و حفص بحذف الياء من: عباد.

ثمّ وصف المنادون بقوله: الَّذِينَ آمَنُوا بِآياتِنا صدّقوا بدلائلنا و حججنا و اتّبعوها. و هو منصوب المحلّ، لأنّه صفة منادى مضاف. وَ كانُوا مُسْلِمِينَ حال من الواو، أي: الّذين آمنوا مخلصين وجوههم لنا، جاعلين أنفسهم سالمة لطاعتنا.

غير أنّ هذه العبارة آكد و أبلغ.

قيل: إذا بعث اللّه الناس فزع كلّ أحد، فينادي مناد: يا عبادي، فيرجوها الناس كلّهم. ثمّ يتبعها: الّذين آمنوا، فييأس الناس منها غير المسلمين.

ادْخُلُوا الْجَنَّةَ أَنْتُمْ وَ أَزْواجُكُمْ نساؤكم المؤمنات تُحْبَرُونَ تسرّون سرورا بحيث يظهر حباره- أي: أثره- على وجوهكم، كقوله: تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ «1». أو تزيّنون، من الحبر، و هو حسن الهيئة. قال الزجّاج:

تكرمون إكراما يبالغ فيه. و الحبرة المبالغة فيما وصف بجميل.

يُطافُ عَلَيْهِمْ بِصِحافٍ بقصاع- جمع صحفة- مأخوذة مِنْ ذَهَبٍ فيها ألوان الأطعمة وَ أَكْوابٍ كيزان لا عرى لها. جمع كوب. و هو كوز لا عروة له. وَ فِيها و في الجنّة ما تَشْتَهِيهِ الْأَنْفُسُ من أنواع النعم المشروبة

______________________________

(1) المطفّفين: 24.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 268

و المطعومة و المشمومة و الملبوسة و غيرها. و قرأ نافع و

ابن عامر و حفص: تشتهيه على الأصل.

وَ تَلَذُّ الْأَعْيُنُ ما تلذّه العيون بالنظر إليه. و إنّما أضاف الالتذاذ إلى الأعين، و إنّما المتلذّذ في الحقيقة هو الإنسان، لأنّ المناظر الحسنة سبب من أسباب اللذّة، فإضافة اللّذة إلى الموضع الّذي يلتذّ الإنسان به أحسن، لما في ذلك من البيان مع الإيجاز. و قد جمع اللّه تعالى بهاتين اللفظتين ما لو اجتمع الخلائق كلّهم على أن يصفوا ما في الجنّة من أنواع النعم لم يزيدوا على ما انتظمتاه.

وَ أَنْتُمْ فِيها خالِدُونَ فإنّ كلّ نعيم زائل موجب لكلفة الحفظ و خوف الزوال، و مستعقب للتحسّر في ثاني الحال.

وَ تِلْكَ الإشارة إلى الجنّة المذكورة وقعت مبتدأ، خبره الْجَنَّةُ. و قوله:

الَّتِي أُورِثْتُمُوها صفتها. أو «الجنّة» صفة «تلك» و «الّتي» خبرها، أو صفة «الجنّة» و الخبر بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ و على هذا تتعلّق الباء بمحذوف لا ب «أورثتموها» كما في الظروف الّتي تقع أخبارا، تقديره: حاصلة بما كنتم. و على الوجه الأوّل تتعلّق ب «أورثتموها». و شبّهت الجنّة في بقائها على أهلها بالميراث الباقي على الورثة. و عن ابن عباس: الكافر يرث نار المؤمن، و المؤمن يرث جنّة الكافر. و هذا كقوله: أُولئِكَ هُمُ الْوارِثُونَ «1».

لَكُمْ فِيها فاكِهَةٌ كَثِيرَةٌ مِنْها بعضها تَأْكُلُونَ لكثرتها و دوام نوعها. و لعلّ تخصيص التنعّم بالمطاعم و الملابس، و تكريره في القرآن، و هو حقير بالإضافة إلى سائر نعائم الجنّة، لما كان بهم من الشدّة و الفاقة في الدنيا. و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا ينزع رجل في الجنّة من ثمرها إلّا نبت مكانها مثلاها».

______________________________

(1) المؤمنون: 10.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 269

[سورة الزخرف (43): الآيات 74 الى 80]

إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ (74) لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ وَ

هُمْ فِيهِ مُبْلِسُونَ (75) وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ (76) وَ نادَوْا يا مالِكُ لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ قالَ إِنَّكُمْ ماكِثُونَ (77) لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَكُمْ لِلْحَقِّ كارِهُونَ (78)

أَمْ أَبْرَمُوا أَمْراً فَإِنَّا مُبْرِمُونَ (79) أَمْ يَحْسَبُونَ أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ وَ نَجْواهُمْ بَلى وَ رُسُلُنا لَدَيْهِمْ يَكْتُبُونَ (80)

ثمّ أخبر سبحانه عن أحوال أهل النار، فقال: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ الكاملين في الإجرام. و هم الكفّار، لأنّه جعل قسيم المؤمنين بالآيات، و حكى عنهم ما يخصّ بالكفّار، و هو قوله: فِي عَذابِ جَهَنَّمَ خالِدُونَ خبر «إنّ». أو «خالدون» خبر، و الظرف متعلّق به.

لا يُفَتَّرُ عَنْهُمْ لا يخفّف. من: فترت عنه الحمّى إذا سكنت قليلا.

و التركيب للضعف. وَ هُمْ فِيهِ في العذاب مُبْلِسُونَ آيسون من النجاة. و عن الضحّاك: يجعل المجرم في تابوت من نار، ثمّ يردم عليه، فيبقى فيه خالدا لا يرى و لا يرى.

و لمّا بيّن سبحانه ما يفعله بالمجرمين، بيّن أنّه لم يظلمهم بذلك، فقال: وَ ما ظَلَمْناهُمْ وَ لكِنْ كانُوا هُمُ الظَّالِمِينَ على أنفسهم بما جنوا عليها من العذاب. مرّ مثله غير مرّة. و «هم» فصل عند البصريّين، عماد عند الكوفيّين.

وَ نادَوْا يا مالِكُ هو خازن جهنّم لِيَقْضِ عَلَيْنا رَبُّكَ أي: سل ربّك أن يقضي علينا، أي: يميتنا حتّى نتخلّص من هذا العذاب. مأخوذ من: قضى عليه إذا

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 270

أماته. و منه قوله تعالى: فَوَكَزَهُ مُوسى فَقَضى عَلَيْهِ «1». و هو لا ينافي إبلاسهم، لأنّهم معذّبون أزمنة متطاولة و أحقابا ممتدّة، فتختلف بهم الأحوال، فيسكتون أوقاتا لغلبة اليأس عليهم، و علمهم أنّه لا فرج لهم، و يغوّثون «2» أوقاتا لشدّة ما بهم.

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و

سلّم: «يلقى على أهل النار الجوع حتّى يعدل ما هم فيه من العذاب، فيقولون: ادعوا مالكا. فيدعون: يا مالك ليقض علينا ربّك».

قالَ أي: قال اللّه، أو مالك إِنَّكُمْ ماكِثُونَ لا خلاص لكم بموت و لا غيره.

لَقَدْ جِئْناكُمْ بِالْحَقِ بالإرسال و الإنزال. و هو تتمّة الجواب إن كان في «قال» ضمير اللّه، و إلّا فجواب منه. فكأنّه تعالى تولّى جوابهم بعد جواب مالك.

وَ لكِنَّ أَكْثَرَكُمْ معاشر الخلق لِلْحَقِّ كارِهُونَ لما في اتّباعه من إتعاب النفس و إدءاب «3» الجوارح، و لألفتكم بالباطل فكرهتم مفارقته. عن ابن عبّاس: إنّما يجيبهم بهذا الجواب بعد ألف سنة.

أَمْ أَبْرَمُوا إضراب عن الكلام السابق، أي: ما سمعوا هذا القول بسمع القبول، بل أحكموا أَمْراً من كيدهم و مكرهم بالرسول، و لم يقتصروا على كراهة الحقّ فَإِنَّا مُبْرِمُونَ كيدنا بهم في مجازاة ما أبرموا من كيدهم، كقوله: أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ «4».

أَمْ يَحْسَبُونَ بل أ يظنّ هؤلاء الكفّار أَنَّا لا نَسْمَعُ سِرَّهُمْ حديث أنفسهم بذلك، أو تحديثهم غيرهم في مكان خال وَ نَجْواهُمْ و تناجيهم، أي: ما تكلّموا به فيما بينهم بَلى نسمعهما و نطّلع عليهما وَ رُسُلُنا و الحفظة مع ذلك

______________________________

(1) القصص: 15.

(2) أي: يقولون: وا غوثاه.

(3) أدأب إدآبا: أتعب.

(4) الطور: 42.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 271

لَدَيْهِمْ ملازمة لهم يَكْتُبُونَ ذلك.

و عن يحيى بن معاذ الرازي: من ستر من الناس ذنوبه، و أبداها للّذي لا يخفى عليه شي ء في السماوات، فقد جعله أهون الناظرين إليه، و هو من علامات النفاق.

[سورة الزخرف (43): الآيات 81 الى 89]

قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ (81) سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ (82) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ

(83) وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ وَ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (84) وَ تَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما وَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ (85)

وَ لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ إِلاَّ مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِّ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (86) وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَهُمْ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ (87) وَ قِيلِهِ يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ (88) فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَ قُلْ سَلامٌ فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ (89)

قُلْ إِنْ كانَ لِلرَّحْمنِ وَلَدٌ أي: صحّ ذلك و ثبت ببرهان صحيح توردونه، و حجّة واضحة تدلون بها فَأَنَا أَوَّلُ الْعابِدِينَ أي: أنا أوّل من يعظّم ذلك الولد، و أسبقكم إلى طاعته و الانقياد له، كما يعظّم الرجل ولد الملك، فإنّ النبيّ يكون أعلم باللّه.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 272

و هذا كلام وارد على سبيل الفرض و التمثيل لغرض، و هو المبالغة في نفي الولد على أبلغ الوجوه. و ذلك أنّه علّق العبادة بكينونة الولد، و هي محال في نفسها، فكان المعلّق بها محالا مثلها. فهو في صورة إثبات كينونة الولد و العبادة، و في معنى نفيهما، على أبلغ الوجوه و أقواها. و نظيره أن يقول العدليّ للمجبّر: إن كان اللّه خالقا للكفر في القلوب، و معذّبا عليه عذابا سرمدا، فأنا أوّل من يقول: هو شيطان و ليس بإله.

فمعنى هذا الكلام و ما وضع له أسلوبه و نظمه: نفي أن يكون اللّه خالقا للكفر، و تنزيهه عن ذلك و تقديسه، على طريق المبالغة فيه من الوجه الّذي ذكرنا. مع الدلالة على سماجة المذهب و ضلاله الذاهب إليه، و الشهادة القاطعة بإحالته، و الإفصاح عن نفسه بالبراءة منه، و غاية

النفار و الاشمئزاز من ارتكابه.

و قد تمحّل الناس بما أخرجوه به من هذا الأسلوب الشريف، الملي ء بالنكت و الفوائد المستقلّة بإثبات التوحيد على أبلغ وجوهه. فقيل: إن كان للرحمن ولد في زعمكم، فأنا أوّل الآنفين من أن يكون له ولد. من: عبد يعبد إذا اشتدّ أنفه، فهو عبد و عابد.

و قيل: «إن» نافية، أي: ما كان للرحمن ولد، فأنا أوّل من قال بذلك و عبد و وحّد.

و قرأ حمزة و الكسائي: ولد، بالضمّ و سكون اللام.

ثمّ نزّه سبحانه نفسه عن ذلك فقال: سُبْحانَ رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ رَبِّ الْعَرْشِ عَمَّا يَصِفُونَ عن كونه ذا ولد، فإنّ هذه الأجسام لكونها أصولا ذات استمرار تبرّأت عمّا يتّصف به سائر الأجسام من توليد المثل، فما ظنّك بمبدعها و خالقها؟! ثمّ خاطب نبيّه على وجه التهديد للكفّار، فقال: فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا في

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 273

باطلهم وَ يَلْعَبُوا في دنياهم حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ و هو دلالة على أنّ قولهم هذا جهل و اتّباع هوى، و أنّهم مطبوع على قلوبهم خذلانا و تخلية، كقوله:

اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ «1». و إيعاد بالشقاء الأبدي في العاقبة.

و لمّا بيّن سبحانه وحدانيّته عقّبه تأكيدا لها قوله: وَ هُوَ الَّذِي فِي السَّماءِ إِلهٌ وَ فِي الْأَرْضِ إِلهٌ أي: مستحقّ لأن يعبد فيهما. و الظرف متعلّق به، لأنّه بمعنى المعبود، أو متضمّن معناه، كقولك: هو حاتم في البلد، على تضمين معنى الجواد الّذي شهر به، كأنّك قلت: هو جواد في البلد.

و الراجع إلى الموصول مبتدأ محذوف، لطول الصلة بمتعلّق الخبر و العطف عليه. و يجوز أن يكون «في السماء» صلة «الّذي» و «إله» خبر مبتدأ محذوف، على أنّ الجملة بيان للصلة، و أنّ كونه في

السماء على سبيل الإلهيّة و الربوبيّة، لا على معنى الاستقرار. و فيه نفي الآلهة السماويّة و الأرضيّة، و اختصاصه باستحقاق الألوهيّة.

و كرّر لفظ «إله» لأمرين، أحدهما: التأكيد، ليتمكّن المعنى في النفس.

و الثاني: لأنّ المعنى: هو إله في السماء يجب على الملائكة عبادته، و إله في الأرض يجب على الإنس و الجنّ عبادته.

وَ هُوَ الْحَكِيمُ في جميع أفعاله الْعَلِيمُ بمصالح عباده. و هذا كالدليل على وحدانيّته في الألوهيّة.

ثمّ نزّه ذاته عن الشركة بقوله: وَ تَبارَكَ الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما كالهواء، أي: جلّ عن أن يكون له ولد أو شبيه من له التصرّف في السماوات و الأرض و فيما بينهما، بلا دافع و لا منازع. أو دامت بركته. وَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ العلم بالساعة الّتي تقوم القيامة فيها، لأنّه لا يعلم وقته على التعيين غيره

______________________________

(1) فصّلت: 40.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 274

وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ يوم القيامة، فيجازي كلّا على قدر عمله. و قرأ نافع و ابن عامر و أبو عمرو و عاصم بالتاء، على الالتفات للتهديد.

وَ لا يَمْلِكُ الَّذِينَ يَدْعُونَ مِنْ دُونِهِ الشَّفاعَةَ كما زعموا أنّهم شفعاؤهم عند اللّه. و هي مسألة الطالب العفو عن غيره و إسقاط العقاب عنه. إِلَّا مَنْ شَهِدَ بِالْحَقِ و هو توحيد اللّه وَ هُمْ يَعْلَمُونَ و هو يعلم ما يشهد به عن بصيرة و إخلاص.

و توحيد الضمير ثمّ جمعه باعتبار اللفظ و المعنى. و الاستثناء متّصل إن أريد بالموصول كلّ ما عبد من دون اللّه، لاندراج الملائكة و المسيح فيه. و منفصل إن خصّ بالأصنام.

روي: أنّ النضر بن الحارث و نفرا من قريش قالوا: إن كان ما يقوله محمد حقّا فنحن نتولّى الملائكة، و هم أحقّ

بالشفاعة لنا منه. فنزلت الآية.

فالمعنى: أنّهم يشفعون للمؤمنين بإذن اللّه. و فيه دلالة على أنّ حقيقة الإيمان هو الاعتقاد بالقلب و المعرفة.

وَ لَئِنْ سَأَلْتَهُمْ سألت العابدين، أو المعبودين مَنْ خَلَقَهُمْ من أخرجهم من العدم إلى الوجود لَيَقُولُنَّ اللَّهُ لتعذّر المكابرة فيه من فرط ظهوره فَأَنَّى يُؤْفَكُونَ فكيف يصرفون عن عبادته إلى عبادة غيره؟! وَ قِيلِهِ و قول الرسول. عن الأخفش: أنّ نصبه للعطف على سِرَّهُمْ «1» أي: أم يحسبون أنّا لا نسمع قوله. و عنه أيضا: أنّه منصوب بإضمار فعله، أي: و قال قيله. و عن الزجّاج: أنّه معطوف على محلّ السَّاعَةِ «2» كما تقول: عجبت من ضرب زيد و عمرا. و جرّه عاصم و حمزة عطفا على لفظ «الساعة». يا رَبِّ إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ

قال صاحب الكشّاف بعد نقل هذه الأقوال: «و الّذي قالوه ليس بقويّ في

______________________________

(1) الزخرف: 80 و 85.

(2) الزخرف: 80 و 85.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 275

المعنى، مع وقوع الفصل بين المعطوف و المعطوف عليه بما لا يحسن اعتراضا، و مع تنافر النظم. و أقوى من ذلك و أوجه أن يكون الجرّ و النصب على إضمار حرف القسم و حذفه. و يكون قوله: «إِنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ لا يُؤْمِنُونَ» جواب القسم. كأنّه قيل:

و أقسم بقيله يا ربّ إنّ هؤلاء قوم لا يؤمنون و إقسام اللّه بقيله رفع منه، و تعظيم لدعائه و التجائه إليه» «1».

فَاصْفَحْ عَنْهُمْ فأعرض عن دعوتهم آيسا عن إيمانهم، و ودّعهم «2» و تاركهم وَ قُلْ سَلامٌ تسلّم «3» منكم و متاركة. و قيل: معناه: قل ما تسلم به من شرّهم و أذاهم. فَسَوْفَ يَعْلَمُونَ و عيد من اللّه لهم، و تسلية للرسول. و قرأ نافع و

ابن عامر بالتاء، على أنّه من المأمور بقوله.

و هذه الآية منسوخة بآية السيف «4». و قيل: معناه: فاصفح عن سفههم، و لا تقابلهم بمثله. فلا يكون منسوخا.

______________________________

(1) الكشّاف 4: 268.

(2) ودّع فلانا: هجره.

(3) تسلّم منه: تبرّأ.

(4) التوبة: 5 و 29.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 277

(44) سورة الدخان

اشارة

مكّيّة. و هي تسع و خمسون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ سورة الدخان في ليلة الجمعة غفر له».

أبو هريرة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ حم الدخان في ليلة، أصبح يستغفر له سبعون ألف ملك».

و

عنه عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأها في ليلة الجمعة أصبح مغفورا له».

أبو امامة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ حم الدخان ليلة الجمعة و يوم الجمعة، بنى اللّه له بيتا في الجنّة».

و

روى أبو حمزة الثمالي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من قرأ سورة الدخان في فرائضه و نوافله، بعثه اللّه من الآمنين يوم القيامة، و أظلّه تحت ظلّ عرشه، و حاسبه حسابا يسيرا، و اعطي كتابه بيمينه».

[سورة الدخان (44): الآيات 1 الى 16]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (1) وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ (2) إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ (3) فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ (4)

أَمْراً مِنْ عِنْدِنا إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ (5) رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ الْعَلِيمُ (6) رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ (7) لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ يُحْيِي وَ يُمِيتُ رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ (8) بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ (9)

فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ بِدُخانٍ مُبِينٍ (10) يَغْشَى النَّاسَ هذا عَذابٌ أَلِيمٌ (11) رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ إِنَّا مُؤْمِنُونَ (12) أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى وَ قَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ (13) ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ وَ قالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ (14)

إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ قَلِيلاً إِنَّكُمْ عائِدُونَ (15) يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى إِنَّا مُنْتَقِمُونَ (16)

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 278

و لمّا ختم

اللّه سبحانه سورة الزخرف بالوعيد و التهديد، افتتح هذه السورة أيضا بمثل ذلك في الإنذار بالعذاب الشديد، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم وَ الْكِتابِ الْمُبِينِ القرآن. و الواو للقسم إن جعلت «حم» تعديدا للحروف، أو اسما للسورة، مرفوعا على خبر الابتداء المحذوف. و للعطف إن كانت «حم» مقسما بها. و الجواب قوله: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ أي: في ليلة القدر. و قيل: هي ليلة النصف من شعبان. و لها أربعة أسماء:

الليلة المباركة، و ليلة البراءة، و ليلة الصكّ، و ليلة الرحمة. و قيل: في تسميتها بها: إنّ البندار- أي: من في يده الخراج- إذا استوفى الخراج من أهله كتب لهم البراءة، كذلك اللّه عزّ و جلّ يكتب لعباده المؤمنين البراءة في هذه الليلة.

و معنى إنزال القرآن فيها: أنّ اللّه سبحانه ابتدأ فيها إنزاله، أو أنزل فيها جملة

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 279

إلى السماء الدنيا من اللوح الّذي يكون في السماء السابعة، ثمّ أنزله على رسول اللّه نجوما نجوما.

و معنى المباركة: الكثيرة الخير. و من بركتها إنزال القرآن فيها، فإنّ نزوله سبب للمنافع الدينيّة و الدنيويّة. و لو لم يوجد فيها إلّا إنزاله لكفى به بركة. قيل: بدأ في استنساخ القرآن من اللوح المحفوظ في ليلة البراءة، و وقع الفراغ في ليلة القدر.

إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ استئناف يبيّن المقتضي للإنزال. و كذا قوله: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ فإنّ كونها مفرّق الأمور المحكمة أو الملتبسة بالحكمة، يستدعي أن ينزّل فيها القرآن الّذي هو من عظائمها. و يجوز أن يكون صفة «لَيْلَةٍ مُبارَكَةٍ» و ما بينهما اعتراض.

و قيل: في ليلة القدر تدفع نسخة الأرزاق إلى ميكائيل، و نسخة الحروب إلى جبرائيل، و كذلك الزلازل و الصواعق و الخسف،

و نسخة الأعمال إلى إسماعيل صاحب الدنيا، و هو ملك عظيم، و نسخة المصائب إلى ملك الموت.

و قيل: يعطى كلّ عامل بركات أعماله، فيلقى على ألسنة الخلق مدحه، و على القلوب هيبته.

و قيل: بركة هذه الليلة في أنّها مختصّة بخمس خصال:

تفريق كلّ أمر حكيم.

و فضيلة العبادة فيها.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من صلّى في هذه الليلة مائة ركعة، أرسل اللّه إليه مائة ملك: ثلاثون يبشّرونه بالجنّة، و ثلاثون يؤمنونه من عذاب النار، و ثلاثون يدفعون عنه آفات الدنيا، و عشرة يدفعون عنه مكائد الشيطان».

و نزول الرحمة.

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ اللّه يرحم أمّتي في هذه الليلة بعدد شعر أغنام بني كلب».

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 280

و حصول المغفرة.

قال عليه السّلام: «إنّ اللّه يغفر لجميع المسلمين في هذه الليلة، إلّا لكاهن، أو ساحر، أو مشاحن «1»، أو مدمن خمر، أو عاقّ للوالدين، أو مصرّ على الزنا».

و ما أعطي فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من تمام الشفاعة. و ذلك أنّه سأل ليلة الثالث عشر من شعبان في أمّته، فاعطي الثلث منها. ثمّ سأل ليلة الرابع عشر، فاعطي الثلثين. ثمّ سأل ليلة الخامس عشر، فاعطي الجميع، إلّا من شرد عن اللّه شراد البعير. و من عادة اللّه في هذه الليلة أن يزيد ماء زمزم زيادة ظاهرة.

و القول الأكثر أنّ المراد بالليلة المباركة ليلة القدر، لقوله تعالى: إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ «2». و لمطابقة قوله: «فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ» لقوله: تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ «3». و قوله: شَهْرُ رَمَضانَ الَّذِي أُنْزِلَ فِيهِ الْقُرْآنُ «4». و ليلة القدر في

أكثر الأقوال في شهر رمضان.

و هذا أصحّ القولين، لأنّه منقول عن ابن عبّاس و قتادة و ابن زيد، و مرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.

أَمْراً مِنْ عِنْدِنا نصب على الاختصاص، أي: أعني بهذا الأمر أمرا حاصلا من عندنا على مقتضى حكمتنا. و هو مزيد تفخيم للأمر. و يجوز أن يكون حالا من «كلّ»، أو «أمر»، أو من ضميره المستكن في «حكيم»، لأنّه موصوف. أو حالا من أحد ضميري «أنزلناه»، يعني: آمرين أو مأمورا. و أن يراد به ما يقابل النهي، وقع مصدرا ل «يفرق»، لأنّ الأمر و الفرقان واحد، من حيث إنّه إذا حكم بالشي ء و كتبه فقد أمر به و أوجبه. أو مصدر لفعله مضمرا، من حيث إنّ الفرق به، أي: أمرنا أمرا

______________________________

(1) المشاحن: المباغض الشديد العداوة.

(2) القدر: 1 و 4.

(3) القدر: 1 و 4.

(4) البقرة: 185.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 281

من لدنّا.

إِنَّا كُنَّا مُرْسِلِينَ بدل من «إِنَّا كُنَّا مُنْذِرِينَ» أي: إنّا أنزلنا القرآن لأنّ من عادتنا إرسال الرسل بالكتب إلى عبادنا.

رَحْمَةً مِنْ رَبِّكَ لأجل الرحمة عليهم. و وضع الربّ موضع الضمير، إشعارا بأنّ الربوبيّة تقتضي الرحمة على المربوبين، فإنّه أعظم أنواع التربية. أو علّة ل «يفرق» أو «أمرا». و «رحمة» مفعول به. إِنَّهُ هُوَ السَّمِيعُ يسمع أقوال العباد الْعَلِيمُ و يعلم أحوالهم. و هو بما بعده تحقيق لربوبيّته، و إيذان بأنّها لا تحقّ إلّا لمن هذه صفاته.

رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُما خبر آخر، أو استئناف. و قرأ الكوفيّون بالجرّ بدلا من «ربّك». إِنْ كُنْتُمْ مُوقِنِينَ أي: إن كنتم من أهل الإيقان في العلوم.

أو كنتم موقنين في إقراركم إذا سئلتم من خلقها؟ فقلتم: اللّه، علمتم أنّ الأمر كما قلنا،

كما تقول: إنّ هذا إنعام زيد الّذي تسامع الناس بكرمه و اشتهر و إسخاؤه، إن بلغك حديثه و حدّثت بقصّته. و فائدة الشرطيّة التنبيه للمخاطب بأنّ من حقّك أن تكون عالما به، و لا تكون غافلا عن مثله. أو إن كنتم مريدين اليقين فاعلموا ذلك.

لا إِلهَ إِلَّا هُوَ لا يستحقّ العبادة غيره، إذ لا خالق سواه يُحْيِي وَ يُمِيتُ كما تشاهدون رَبُّكُمْ وَ رَبُّ آبائِكُمُ الْأَوَّلِينَ

ثمّ ردّ أن يكونوا موقنين بقوله: بَلْ هُمْ فِي شَكٍّ يَلْعَبُونَ أي: إقرارهم غير صادر عن علم و تيقّن، و لا عن جدّ و حقيقة، بل قول مخلوط بهزء و لعب.

فَارْتَقِبْ يَوْمَ تَأْتِي السَّماءُ فانتظرهم في هذا اليوم. و يجوز أنّه منصوب بأنّه مفعول به. يقال: رقبته و ارتقبته، نحو: نظرته و انتظرته، أي: انتظر يوم تأتي السماء بِدُخانٍ مُبِينٍ أي: يوم شدّة و مجاعة، فإنّ الجائع يرى بينه و بين السماء كهيئة الدخان من ضعف بصره. أو لأنّ الهواء يظلم عام القحط، لقلّة الأمطار و كثرة

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 282

الغبار. أو لأنّ العرب تسمّي الشرّ الغالب دخانا، و قد قحطوا حتّى أكلوا جيف الكلاب و عظامها.

و

يروى أنّه قيل لابن مسعود: إنّ قاصّا عند أبواب كندة يقول: إنّه دخان يأتي يوم القيامة فيأخذ بأنفاس الخلق. فقال: من علم علما فليقل به، و من لم يعلم فليقل: اللّه أعلم، فإنّ من علم الرجل أن يقول لشي ء لا يعلمه: اللّه أعلم. ثمّ قال: ألا و سأحدّثكم أنّ قريشا لمّا استعصت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دعا عليهم فقال: اللّهمّ اشدد وطأتك على مضر، و اجعلها عليهم سنين كسنيّ يوسف. فأصابهم الجهد حتّى أكلوا الجيف و العلهز

«1». و كان الرجل يرى بين السماء و الأرض الدخان، و كان يحدّث الرجل فيسمع كلامه و لا يراه من الدخان، فمشى إليه أبو سفيان و نفر معه، و ناشدوه اللّه و الرحم، و واعدوه إن دعا لهم و كشف عنهم أن يؤمنوا، فلمّا كشف عنهم رجعوا إلى شركهم.

و إسناد الإتيان إلى السماء لأنّها تكفّ الأمطار الّتي هي سبب الغبار الّذي يشبهه الدخان. أو المراد يوم ظهور الدخان المعدود في أشراط الساعة، لما

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا قال: «أوّل الآيات الدخان، و نزول عيسى، و نار تخرج من قعر عدن أبين، تسوق الناس إلى المحشر». قال حذيفة: ما الدخان يا رسول اللّه؟ فتلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الآية و قال: «يملأ ما بين المشرق و المغرب، يمكث أربعين يوما و ليلة. أمّا المؤمن فيصيبه كهيئة الزكام. و أمّا الكافر فهو كالسكران، يخرج من منخريه و أذنيه و دبره».

و

روي أيضا عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «أنّه دخان يأتي من السماء قبل يوم القيامة، يدخل في أسماع الكفرة، حتّى يكون رأس الواحد منهم كالرأس الحنيذ «2».

______________________________

(1) العلهز: طعام كانوا يتّخذونه من الدم و وبر البعير في زمن المجاعة.

(2) الحنيذ: المشويّ. زبدة التفاسير، ج 6، ص: 283

و يعتري المؤمن منه كهيئة الزكام. و تكون الأرض كلّها كبيت أو قد فيه خصاص» «1».

يَغْشَى النَّاسَ يحيط بهم. في محلّ الجرّ على أنّه صفة للدخان. و قوله:

هذا عَذابٌ أَلِيمٌ أي: قائلين ذلك رَبَّنَا اكْشِفْ عَنَّا الْعَذابَ منصوب المحلّ بفعل مضمر، و هو: يقولون. و «يقولون» منصوب على الحال. إِنَّا مُؤْمِنُونَ وعد بالإيمان إن كشف العذاب عنهم.

أَنَّى لَهُمُ الذِّكْرى من أين لهم و

كيف يتذكّرون بهذه الحالة وَ قَدْ جاءَهُمْ رَسُولٌ مُبِينٌ بيّن لهم ما هو أعظم من كشف الدخان، و هو ما ظهر على رسول اللّه من الآيات الباهرة و المعجزات الظاهرة.

ثُمَّ تَوَلَّوْا عَنْهُ فلم يذّكّروا وَ قالُوا مُعَلَّمٌ مَجْنُونٌ فقال بعضهم: يعلّمه عداس، غلام أعجميّ لبعض ثقيف. و قال آخرون: إنّه مجنون.

إِنَّا كاشِفُوا الْعَذابِ بدعاء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإنّه لمّا دعا رفع القحط قَلِيلًا كشفا قليلا، أو زمانا قليلا، و هو ما بقي من أعمارهم إِنَّكُمْ عائِدُونَ إلى الكفر غبّ الكشف. و من فسّر الدخان بما هو من الأشراط قال: إذا جاء الدخان غوّث «2» الكفّار بالدعاء، فيكشفه اللّه عنهم بعد أربعين يوما، فريثما يكشفه عنهم يرتدّون لا يتمهّلون. و من فسّره بما في يوم القيامة أوّله بالشرط. و التقدير: يَوْمَ نَبْطِشُ الْبَطْشَةَ الْكُبْرى يوم القيامة، أو يوم بدر. ظرف لفعل دلّ عليه إِنَّا مُنْتَقِمُونَ لا ل «منتقمون» فإنّ «إنّ» تحجزه عنه. أو بدل من «يوم تأتي». و البطش هو شدّة الألم.

[سورة الدخان (44): الآيات 17 الى 24]

وَ لَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ وَ جاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ (17) أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ (18) وَ أَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (19) وَ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ أَنْ تَرْجُمُونِ (20) وَ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ (21)

فَدَعا رَبَّهُ أَنَّ هؤُلاءِ قَوْمٌ مُجْرِمُونَ (22) فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلاً إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ (23) وَ اتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ (24)

______________________________

(1) الخصاص: الفرج في البناء و ما شاكله.

(2) أي: قالوا: وا غوثاه.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 284

ثمّ شبّه حالهم بحال المعاندين الّذين كانوا من قبلهم، فقال: وَ لَقَدْ فَتَنَّا قَبْلَهُمْ قَوْمَ فِرْعَوْنَ امتحنّاهم

بالإمهال و توسيع الرزق عليهم، ليشكروا على ما أنعمنا عليهم و يطيعونا، فبدّلوا الشكر بالكفران، و عصوا أمرنا بالثبات على الكفر وَ جاءَهُمْ رَسُولٌ كَرِيمٌ على اللّه، أو على المؤمنين، أو في نفسه، لشرف نسبه و فضل حسبه، لأنّ اللّه لم يبعث نبيّا إلّا من سراة قومه و كرامهم.

أَنْ أَدُّوا إِلَيَّ عِبادَ اللَّهِ بأن أدّوهم إليّ، و أرسلوهم معي. و هم بنو إسرائيل، كقوله تعالى: أَرْسِلْ مَعَنا بَنِي إِسْرائِيلَ «1». و لا تعذّبهم. أو بأن أدّوا إليّ حقّ اللّه، من الإيمان و قبول الدعوة يا عباد اللّه. و يجوز أن تكون «أن» مخفّفة، أي: و جاءهم بأنّ الشأن أدّوا إليّ. أو مفسّرة، لأنّ مجي ء الرسول متضمّن لمعنى القول، لأنّه لا يجيئهم إلّا مبشّرا و نذيرا و داعيا إلى اللّه. إِنِّي لَكُمْ رَسُولٌ أَمِينٌ غير متّهم، لدلالة المعجزات على صدقه، أو لائتمان اللّه إيّاه على وحيه. و هو علّة الأمر.

وَ أَنْ لا تَعْلُوا عَلَى اللَّهِ و لا تتكبّروا عليه. بالاستهانة بوحيه و رسوله.

و «أن» كالأولى في وجهيها. إِنِّي آتِيكُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ بحجّة واضحة يظهر الحقّ معها. و هذا علّة للنهي. و لذكر الأمين مع الأداء، و السلطان المبين مع العلاء،

______________________________

(1) الشعراء: 17.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 285

شأن لا يخفى.

فلمّا قال ذلك توعّدوه بالقتل و الرجم، فقال: وَ إِنِّي عُذْتُ بِرَبِّي وَ رَبِّكُمْ التجأت إليه توكّلا عليه أَنْ تَرْجُمُونِ أن تؤذوني ضربا أو شتما، أو تقتلوني.

و قرأ أبو عمرو و حمزة و الكسائي: عتّ بالإدغام «1».

وَ إِنْ لَمْ تُؤْمِنُوا لِي فَاعْتَزِلُونِ فكونوا بمعزل منّي، و اقطعوا أسباب الوصلة عنّي. أو فخلّوني و اتركوني لا عليّ و لا لي، و لا تتعرّضوا لي بسوء، فإنّه ليس جزاء من دعاكم

إلى ما فيه فلاحكم.

فَدَعا رَبَّهُ بعد ما كذّبوه و يئس من أن يؤمنوا به أَنَّ هؤُلاءِ بأنّ هؤلاء قَوْمٌ مُجْرِمُونَ و هو تعريض بالدعاء عليهم بذكر ما استوجبوه به، و لذلك سمّاه دعاء.

قيل: كان دعاؤه: اللّهمّ عجّل لهم ما يستحقّونه بإجرامهم. و قيل. هو قوله:

رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلْقَوْمِ الظَّالِمِينَ «2». و ما دعا عليهم إلّا بعد أن أذن له في ذلك.

فَأَسْرِ بِعِبادِي لَيْلًا أي: فقال: أسر. أو قال: إن كان الأمر كذلك فأسر ببني إسرائيل. و قرأ ابن كثير و نافع بوصل الهمزة، من: سرى. إِنَّكُمْ مُتَّبَعُونَ يتّبعكم فرعون و جنوده إذا علموا بخروجكم.

وَ اتْرُكِ الْبَحْرَ رَهْواً مفتوحا ذا فجوة واسعة. أو ساكنا على هيئته، قارّا على حاله، من انتصاب الماء، و كون الطريق يبسا بعد ما جاوزته، و لا تضربه بعصاك، و لا تغيّر منه شيئا ليدخله القبط، و يطمع فرعون في دخوله. فقد روي: أنّ موسى عليه السّلام لمّا جاوز البحر أراد أن يضربه بعصا فينطبق كما ضربه فانفلق، فقال سبحانه: اتركه يا موسى. إِنَّهُمْ جُنْدٌ مُغْرَقُونَ أي: سيغرقهم اللّه.

______________________________

(1) أي: بإدغام الذال في التاء.

(2) يونس: 85.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 286

[سورة الدخان (44): الآيات 25 الى 29]

كَمْ تَرَكُوا مِنْ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (25) وَ زُرُوعٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ (26) وَ نَعْمَةٍ كانُوا فِيها فاكِهِينَ (27) كَذلِكَ وَ أَوْرَثْناها قَوْماً آخَرِينَ (28) فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ وَ ما كانُوا مُنْظَرِينَ (29)

ثمّ أخبر سبحانه عن حالهم بعد إهلاكهم، فقال: كَمْ تَرَكُوا كثيرا تركوا مِنْ جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ وَ زُرُوعٍ وَ مَقامٍ كَرِيمٍ محافل مزيّنة و منازل حسنة. و عن ابن عبّاس: منابر الخطباء. وَ نَعْمَةٍ أي: تنعّم كانُوا فِيها فاكِهِينَ متنعّمين كما يتنعّم الآكل بأنواع الفواكه.

كَذلِكَ مثل

ذلك الإخراج أخرجناهم منها. أو الأمر كذلك. وَ أَوْرَثْناها عطف على الفعل المقدّر، أو على «تركوا». و إيراث النعمة تصييرها إلى الثاني بعد الأول بغير مشقّة، كما يصير الميراث إلى أهله على تلك الصفة. فلمّا كانت نعمة قوم فرعون وصلت بعد هلاكهم إلى غيرهم، كان ذلك إيراثا من اللّه لهم. قَوْماً آخَرِينَ لبسوا منهم في شي ء من قرابة و لا دين و لا ولاء. و هم بنو إسرائيل، كانوا متسخّرين مستعبدين في أيديهم، فأهلكهم اللّه على أيديهم، و أورثهم ملكهم و ديارهم. و قيل:

غيرهم، لأنّهم لم يعودوا إلى مصر.

فَما بَكَتْ عَلَيْهِمُ السَّماءُ وَ الْأَرْضُ مجاز عن عدم المبالاة بهلاكهم، و عدم الاعتداد بوجودهم، كما قالت العرب على سبيل التمثيل و التخييل، مبالغة في وجوب البكاء و الجزع على موت رجل خطير و تعظيم مهلكه: بكت عليه السماء و الأرض، و بكته الريح و أظلمت له الشمس، في نقيض ذلك. و منه ما

روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما من مؤمن مات في غربة غابت فيها بواكيه، إلّا بكت عليه

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 287

السماء و الأرض».

و كذلك يروى عن ابن عبّاس: أنّ المؤمن ليبكي عليه مصلّاه، و موضع عبادته، و مصعد عمله، و مهبط رزقه.

و

عن السدّي: لمّا قتل الحسين بن عليّ عليه السّلام بكت السماء عليه، و بكاؤها حمرة أطرافها.

و

روى زرارة بن أعين عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «بكت السماء على يحيى بن زكريّا و على الحسين بن عليّ عليه السّلام أربعين صباحا، و لم تبك إلّا عليهما. قلت: فما بكاؤها؟ قال: كانت تطلع حمراء و تغيب حمراء».

و قيل: تقديره: فما بكت عليهم أهل السماء و الأرض،

بل كانوا بهلاكهم مسرورين.

وَ ما كانُوا مُنْظَرِينَ ممهلين إلى وقت آخر، بل عوجلوا بالعقوبة.

[سورة الدخان (44): الآيات 30 الى 42]

وَ لَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ (30) مِنْ فِرْعَوْنَ إِنَّهُ كانَ عالِياً مِنَ الْمُسْرِفِينَ (31) وَ لَقَدِ اخْتَرْناهُمْ عَلى عِلْمٍ عَلَى الْعالَمِينَ (32) وَ آتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ (33) إِنَّ هؤُلاءِ لَيَقُولُونَ (34)

إِنْ هِيَ إِلاَّ مَوْتَتُنَا الْأُولى وَ ما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ (35) فَأْتُوا بِآبائِنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (36) أَ هُمْ خَيْرٌ أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أَهْلَكْناهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ (37) وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما لاعِبِينَ (38) ما خَلَقْناهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (39)

إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ مِيقاتُهُمْ أَجْمَعِينَ (40) يَوْمَ لا يُغْنِي مَوْلًى عَنْ مَوْلًى شَيْئاً وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (41) إِلاَّ مَنْ رَحِمَ اللَّهُ إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ الرَّحِيمُ (42)

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 288

وَ لَقَدْ نَجَّيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ مِنَ الْعَذابِ الْمُهِينِ من استعباد فرعون و قتله أبناءهم مِنْ فِرْعَوْنَ بدل من «العذاب» على حذف المضاف، أي: عذاب فرعون. أو على جعل فرعون نفس العذاب، لإفراطه في التعذيب. أو حال من «المهين» يعني: واقعا من جهته. إِنَّهُ كانَ عالِياً متكبّرا متغلّبا مِنَ الْمُسْرِفِينَ المجاوزين الحدّ في العتوّ و الشرارة. و هو خبر ثان، أي: كان متكبّرا مسرفا. أو حال من الضمير في «عاليا» أي: كان رفيع الطبقة في الإسراف حال كونه من بينهم.

وَ لَقَدِ اخْتَرْناهُمْ اخترنا بني إسرائيل بالنجاة عن الغرق، و إعطاء التوراة، و كثرة الأنبياء منهم عَلى عِلْمٍ عالمين بأنّهم أحقّاء بذلك. أو مع علم منّا بأنّهم يزيغون في بعض الأحوال. عَلَى الْعالَمِينَ على عالمي زمانهم وَ آتَيْناهُمْ مِنَ الْآياتِ كفلق البحر، و تظليل الغمام،

و إنزال المنّ و السلوى ما فِيهِ بَلؤُا مُبِينٌ نعمة جليّة، أو اختبار ظاهر.

إِنَّ هؤُلاءِ يعني: كفّار قريش، لأنّ الكلام فيهم. و قصّة فرعون و قومه مسوقة للدلالة على أنّهم مثلهم في الإصرار على الضلالة، و الإنذار عن مثل ما حلّ بهم. لَيَقُولُونَ إِنْ هِيَ إِلَّا مَوْتَتُنَا الْأُولى أي: إذا قيل لهم: إنّكم تموتون موتة يتعقّبها حياة، كما تقدّمتكم موتة قد تعقّبتها حياة، قالوا: إن هي إلّا موتتنا الأولى، أي: ما الموتة الّتي من شأنها أن يتعقّبها حياة إلّا الموتة الأولى للحياة الدنيويّة دون الموتة الثانية وَ ما نَحْنُ بِمُنْشَرِينَ بمبعوثين. يقال: أنشر اللّه الموتى و نشرهم إذا بعثهم.

فَأْتُوا بِآبائِنا خطاب لمن وعدهم بالنشور من الرسول و المؤمنين، أي:

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 289

فعجّلوا لنا إحياء من مات من آبائنا بسؤالكم ربّكم ذلك إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في وعدكم، ليكون دليلا على أنّ ما تعدونه من قيام الساعة و بعث الموتى حقّ.

و قيل: كانوا يطلبون من المؤمنين أن يدعوا اللّه فينشر لهم قصيّ بن كلاب ليشاوروه، فإنّه كان كبيرهم و مشاورهم في النوازل و معاظم الشؤن.

و لمّا تركوا الحجّة، و عدلوا إلى الشبهة جهلا، عدل سبحانه في إجابتهم إلى الوعيد و الوعظ، فقال:

أَ هُمْ خَيْرٌ أ مشركو قريش خير في القوّة و المنعة و العدد و العدد أَمْ قَوْمُ تُبَّعٍ هو تبّع الحميري. و كان مؤمنا و قومه كافرين، و لذلك ذمّهم دونه. و

عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما أدري أ كان تبّع نبيّا أو غير نبيّ».

و

عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا تسبّوا تبّعا، فإنّه كان قد أسلم».

و عن ابن عبّاس: كان نبيّا. و قيل: نظر ابن عبّاس إلى قبرين بناحية

حمير فقال: هذا قبر رضوى، و قبر حبى بنت تبّع، و لا تشركان باللّه شيئا. و قيل: هو الّذي كسا البيت.

و

عن الصادق عليه السّلام: «إنّ تبّع قال للأوس و الخزرج، كونوا ها هنا حتّى يخرج هذا النبيّ. أما أنا فلو أدركته لخدمته و خرجت معه».

و هو الّذي سار بالجيوش، و حيّر الحيرة، و بنى سمرقند. و قيل: هدمها ثمّ بناها. و كان إذا كتب قال: بسم اللّه الّذي ملك برّا و بحرا، و ضحّا «1» و ريحا. و سمّي تبّعا لكثرة أتباعه من الناس. و قيل: لأنّه تبع من قبله من ملوك اليمن. و اسمه أسعد أبو كرب. و قيل لملوك اليمن: التبابعة، كما قيل: الأقيال، لأنّهم يتقيّلون، أي:

يتبعون. و سمّي الظلّ تبعا، لأنّه يتبع الشمس.

وَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ كعاد و ثمود أَهْلَكْناهُمْ استئناف بمآل قوم تبّع

______________________________

(1) الضحّ: الشمس.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 290

و الّذين من قبلهم، هدّد به كفّار قريش. أو حال بإضمار «قد». أو خبر من الموصول إن استؤنف به. إِنَّهُمْ كانُوا مُجْرِمِينَ كافرين. فليحذر هؤلاء أن ينالهم مثل ما نال أولئك. و هذا بيان للجامع المقتضي للإهلاك.

وَ ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما و ما بين الجنسين لاعِبِينَ لاهين، بل خلقناهما لغرض حكمي، و هو أن ننفع المكلّفين بذلك و نعرّضهم للثواب. و هو دليل على صحّة الحشر، كما مرّ في سورة الأنبياء «1» و غيرها.

ما خَلَقْناهُما إِلَّا بِالْحَقِ إلّا بسبب الحقّ الّذي اقتضاه الدليل، من الإيمان و الطاعة، أو البعث و الجزاء. أو بالأمر و النهي، و التمييز بين المحسن و المسي ء.

وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ صحّة ما قلناه، لعدولهم عن النظر فيه و الاستدلال على صحّته.

إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ

فصل الحقّ عن الباطل. أو المحقّ عن المبطل بالجزاء. أو فصل الرجل عن أقاربه و أحبّائه. مِيقاتُهُمْ وقت موعدهم أَجْمَعِينَ و هو يوم القيامة.

و لمّا ذكر سبحانه أنّ يوم الفصل ميقات الخلق يحشرهم فيه، بيّن أيّ يوم هو، فقال:

يَوْمَ لا يُغْنِي بدل من «يوم الفصل» أو صفة ل «ميقاتهم». أو ظرف لما دلّ عليه «الفصل» لا له، للفصل. تقديره: يفصل الحقّ من الباطل يوم لا يدفع عذاب اللّه. مَوْلًى هو الصاحب الّذي من شأنه أن يتولّى معونة صاحبه على أموره، من قريب و حليف و غيرهما ممّن هذه صفته عَنْ مَوْلًى أيّ مولى كان شَيْئاً من الإغناء، أي: قليلا منه وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ الضمير ل «مولى» الأوّل باعتبار المعنى، لأنّه في المعنى كثير، لتناول اللفظ على الإبهام و الشياع كلّ مولى.

______________________________

(1) الأنبياء: 16.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 291

إِلَّا مَنْ رَحِمَ اللَّهُ رحمة بالعفو عنه و قبول الشفاعة فيه، من فسّاق أهل الإيمان. و شفعاؤهم الأنبياء و الأوصياء و صلحاء المؤمنين. و محلّه الرفع على البدل من الواو، أي: لا يمنع من العذاب إلّا من رحمه اللّه. أو النصب على الاستثناء. إِنَّهُ هُوَ الْعَزِيزُ لا ينصر منه من أراد تعذيبه الرَّحِيمُ لمن أراد أن يرحمه.

[سورة الدخان (44): الآيات 43 الى 50]

إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ (43) طَعامُ الْأَثِيمِ (44) كَالْمُهْلِ يَغْلِي فِي الْبُطُونِ (45) كَغَلْيِ الْحَمِيمِ (46) خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ (47)

ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ (48) ذُقْ إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ (49) إِنَّ هذا ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ (50)

ثمّ وصف سبحانه ما يفصل به بين الفريقين، فقال: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ قد سبق تفسيره في سورة الصّافّات «1». و قد مرّ فيها أيضا أنّ ابن الزبعرى قال: إنّ أهل اليمن

يدعون أكل الزبد و التمر التزقّم، فدعا أبو جهل بتمر و زبد و قال: تزقّموا، فإنّ هذا هو الّذي يخوّفكم به محمّد. فنزلت: «إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ». طَعامُ الْأَثِيمِ الفاجر الكثير الآثام. و المراد به الكافر، لدلالة ما قبله و ما بعده عليه.

كَالْمُهْلِ و هو ما يمهل في النار حتّى يذوب، من النحاس أو الرصاص أو الذهب أو الفضّة. و قيل: درديّ «2» الزيت. يَغْلِي فِي الْبُطُونِ إذا حصلت في أجواف أهل النار. و قرأ ابن كثير و حفص و رويس بالياء، على أنّ الضمير للطعام أو الزقّوم لا للمهل، إذ الأظهر أنّ الجملة حال من أحدهما، لأنّ المهل إنّما ذكر للتشبيه

______________________________

(1) راجع ج 5 ص 554- 555، ذيل الآية: 62 من سورة الصافّات.

(2) الدرديّ من الزيت و نحوه: الكدر الراسب في أسفله.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 292

به في الذوب كَغَلْيِ الْحَمِيمِ غليانا مثل غلي الحميم. و هو الماء الحارّ الّذي انتهى غليانه.

ثمّ يقال للزبانية: خُذُوهُ فَاعْتِلُوهُ فجرّوه. و العتل: الأخذ بمجامع الشي ء و جرّه بقهر. و عن مجاهد: جرّوه على وجهه. و قرأ الحجازيّان و ابن عامر و يعقوب بالضمّ. و هما لغتان. إِلى سَواءِ الْجَحِيمِ وسطه. سمّي وسط الشي ء سواء، لاستواء المسافة بينه و بين أطرافه المحيطة به. و السواء العدل.

ثُمَّ صُبُّوا فَوْقَ رَأْسِهِ مِنْ عَذابِ الْحَمِيمِ كان أصله: يصبّ من فوق رؤوسهم الحميم، لأنّ الحميم حقيقة هو المصبوب لا عذابه. فقيل استعارة: يصبّ من فوق رؤوسهم عذاب هو الحميم للمبالغة. ثمّ أضيف العذاب إلى الحميم للتخفيف. و زيد «من» للدلالة على أنّ المصبوب بعض هذا النوع، فيكون أهول و أهيب.

و عن مقاتل: إنّ خازن النار يمرّ به على رأسه، فيذهب رأسه عن دماغه،

و يقول له استهزاء و تقريعا على ما كان عليه من التعزّز و التكرّم على قومه: ذُقْ أي: ذق هذا العذاب الشديد إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْكَرِيمُ على قومك، أو على زعمك.

و

روي: أنّ أبا جهل قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما بين جبليها- يعني: جبلي أبي قبيس و ثور- أعزّ و لا أكرم منّي، فو اللّه ما تستطيع أنت و لا ربّك أن تفعلا بي شيئا.

و قيل: إنّك أنت الذليل المهين، إلّا أنّه قيل على هذا الوجه للاستخفاف به.

و قرأ الكسائي: أنّك بالفتح، أي: ذق لأنّك، أو عذاب أنّك. و

عن الحسن بن علي عليه السّلام: أنّه قرأ بفتح «أنّك» على المنبر.

[سورة الدخان (44): الآيات 51 الى 59]

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ أَمِينٍ (51) فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (52) يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَ إِسْتَبْرَقٍ مُتَقابِلِينَ (53) كَذلِكَ وَ زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (54) يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ آمِنِينَ (55)

لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلاَّ الْمَوْتَةَ الْأُولى وَ وَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (56) فَضْلاً مِنْ رَبِّكَ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (57) فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ (58) فَارْتَقِبْ إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ (59)

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 293

إِنَّ هذا أي: إنّ هذا العذاب ما كُنْتُمْ بِهِ تَمْتَرُونَ تشكّون و تمارون فيه.

و بعد ذكر وعيد الكافرين المعاندين، وعد المؤمنين المطيعين، فقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي مَقامٍ في موضع القيام. و المراد المكان. و هو من الخاصّ الّذي وقع مستعملا في معنى العموم، أي: في جميع الأمكنة و إن لم يكن ثمّة قيام. و قرأ نافع و ابن عامر بضمّ الميم. و هو موضع الإقامة. أَمِينٍ يأمن صاحبه عن الآفة و الانتقال. من قولك: أمن الرجل أمانة فهو أمين. و هو ضدّ الخائن. فوصف به المكان استعارة، لأنّ

المكان المخيف كأنّما يخون صاحبه بما يلقى فيه من المكاره.

فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ بدل من «مقام» جي ء به للدلالة على نزاهته، و اشتماله على ما يستلذّ به من المآكل و المشارب.

يَلْبَسُونَ مِنْ سُندُسٍ وَ إِسْتَبْرَقٍ خبر ثان. أو حال من الضمير في الجارّ و المجرور. أو استئناف. و السندس ما رقّ من الحرير. و الإستبرق ما غلظ منه. و هو تعريب استبر. و إذا عرّب خرج من أن يكون عجميّا، لأنّ معنى التعريب أن يجعل عربيّا بالتصرّف فيه، و تغييره عن منهاجه، و إجرائه على أوجه الإعراب، فلا يلزم أن يقع في القرآن العربيّ المبين لفظ أعجميّ. و قيل: هو مشتقّ من البراقة. فعربيّ محض. مُتَقابِلِينَ في مجالسهم، ليستأنس بعضهم ببعض. و قيل: متقابلين بالمحبّة، لا متدابرين بالبغضة.

كَذلِكَ الأمر كذلك. أو آتيناهم مثل ذلك. وَ زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 294

قرنّاهم بهنّ. و لذلك عدّي بالباء. و الحور جمع الحوراء، بمعنى البيضاء.

و العين جمع العيناء، بمعنى عظيمة العينين. و اختلف في أنّهنّ نساء الدنيا أو غيرهنّ.

يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ يطلبون و يأمرون بإحضار ما يشتهون من الفواكه، لا يتخصّص شي ء منها بمكان و لا زمان آمِنِينَ من نفادها و مضرّتها.

لا يَذُوقُونَ فِيهَا الْمَوْتَ إِلَّا الْمَوْتَةَ الْأُولى بل يحيون فيها دائما. و الاستثناء منقطع أو متّصل. و الضمير للآخرة. و الموت أوّل أحوالها. أو الجنّة، و المؤمن يشاهدها عنده، فكأنّه فيها. أو الاستثناء للمبالغة في تعميم النفي و امتناع الموت، فكأنّه قال: لا يذوقون فيها الموت إلّا إذا أمكن ذوق الموتة الأولى في المستقبل.

فهو من باب التعليق بالمحال. و شبّه الموت بالطعام الّذي يذاق و يتكرّه عند المذاق، ثمّ نفى أن يكون ذلك في

الجنّة.

و إنّما خصّهم بأنّهم لا يذوقون الموت، مع أنّ جميع أهل الآخرة لا يذوقون الموت، لما في ذلك من البشارة لهم بالحياة الهنيئة في الجنّة، فأمّا من يكون فيما هو كالموت في الشدّة، فإنّه لا يطلق له هذه الصفة، لأنّه يموت موتات كثيرة بما يقاسيه من العقوبة.

وَ وَقاهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ و صرف عنهم عذاب النار. و هذه الآية مختصّة بمن لا يستحقّ دخول النار فلا يدخلها، أو بمن استحقّ النار فتفضّل اللّه عليه بالعفو فلم يدخلها. و يجوز أن يكون المراد: و وقاهم عذاب الجحيم على وجه التأبيد، أو على الوجه الّذي يعذّب عليه الكفّار. و على أحد هذه الوجوه؛ ليس للمعتزلة أن يتمسّكوا بها على أنّ الفاسق الملّي لا يخرج من النار، لأنّه يكون قد وقي النار.

فَضْلًا مِنْ رَبِّكَ أي: أعطوا كلّ ذلك عطاء و تفضّلا منه ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لأنّه خلاص عن المكاره، و فوز بالمطالب.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 295

فَإِنَّما يَسَّرْناهُ بِلِسانِكَ سهّلناه حيث أنزلناه بلغتك. و هو فذلكة للسورة.

و معناها: ذكّرهم بالكتاب المبين. لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ إرادة أن يفهمه قومك، فيتذكّروا ما فيه من الأمر و النهي و الوعد و الوعيد. فلمّا لم يتذكّروا به فَارْتَقِبْ فانتظر ما يحلّ بهم من عذاب اللّه إِنَّهُمْ مُرْتَقِبُونَ منتظرون ما يحلّ بك، متربّصون بك الدوائر.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 297

(45) سورة الجاثية

اشارة

و تسمّى أيضا سورة الشريعة، لقوله فيها: ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ «1».

و هي مكّيّة. و آيها سبع و ثلاثون آية، كوفي.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ حم الجاثية ستر اللّه عورته، و سكّن روعته عند الحساب».

و

روى أبو بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال:

«من قرأ سورة الجاثية كان ثوابها أن لا يرى النار أبدا، و لا يسمع زفير جهنّم و لا شهيقها، و هو مع محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

[سورة الجاثية (45): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) إِنَّ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لِلْمُؤْمِنِينَ (3) وَ فِي خَلْقِكُمْ وَ ما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ آياتٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (4)

وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ (5)

______________________________

(1) الجاثية: 18.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 298

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة الدخان بذكر القرآن، افتتح هذه السورة أيضا بذكره، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم إن جعلتها اسما مبتدأ، و خبرها تَنْزِيلُ الْكِتابِ احتجت إلى إضمار مثل: تنزيل حم. و إن جعلتها تعديدا للحروف، كان «تنزيل» مبتدأ خبره مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ القادر الّذي لا يغالب الْحَكِيمِ العالم الّذي أفعاله كلّها حكمة و صواب. و على الأوّل الجارّ صلة للتنزيل.

و قيل: «حم» مقسم به، و «تَنْزِيلُ الْكِتابِ» صفته، و جواب القسم إِنَّ فِي السَّماواتِ و هو يحتمل أن يكون على ظاهره الذوات. و أن يكون المعنى: إنّ في خلق السماوات وَ الْأَرْضِ لَآياتٍ لدلالات واضحات على أنّ لهما مدبّرا صانعا قادرا عالما لِلْمُؤْمِنِينَ المنتفعين بالآيات.

و يؤيّد الاحتمال الثاني قوله: وَ فِي خَلْقِكُمْ وَ ما يَبُثُّ مِنْ دابَّةٍ عطف على «خلقكم». و لا يحسن عطفه على الضمير المجرور، لأنّهم استقبحوا أن يقال:

مررت بك و زيد، و هذا أبوك و عمرو.

و لا شبهة أنّ في بثّ الدوابّ و تنوّعها و منافعها، و المقاصد المطلوبة منها في المعاش آياتٌ دلائل على وجود الصانع

المختار لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ يطلبون علم اليقين بالتفكّر و التدبّر. و رفعه محمول على محلّ «إنّ» و اسمها.

و قرأ حمزة و الكسائي و يعقوب بالنصب حملا على الاسم، كقولك: إنّ زيدا في الدار و عمرا في السوق، أو عمرو في السوق.

وَ اخْتِلافِ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ و في ذهاب الليل و النهار و مجيئهما على وتيرة واحدة. أو في اختلاف حالهما من الطول و القصر. أو في اختلافهما في أنّ أحدهما نور و الآخر ظلمة.

وَ ما أَنْزَلَ اللَّهُ مِنَ السَّماءِ مِنْ رِزْقٍ من مطر. و سمّاه رزقا لأنّه سببه. فَأَحْيا بِهِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها يبسها.

وَ تَصْرِيفِ الرِّياحِ باختلاف جهاتها و أحوالها. و قرأ حمزة و الكسائي:

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 299

و تصريف الريح. آياتٌ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ فيه القراءتان. و يلزمهما العطف على عاملين مختلفين، و هما: «في» و الابتداء، أو «إنّ». و هذا على مذهب الأخفش سديد لا مقال فيه. و قد أباه سيبويه. فتوجيه الآية عنده أن يكون على إضمار: في، أو ينصب «آيات» على الاختصاص، أو يرفع بإضمار: هي.

و لعلّ اختلاف الفواصل لاختلاف الآيات في الدقّة و الظهور، فإنّ معنى الآيات الثلاث أن المنصفين من العباد إذا نظروا في السماوات و الأرض النظر الصحيح علموا أنّها مصنوعة، و أنّه لا بدّ لها من صانع، فآمنوا باللّه و أقرّوا. فإذا نظروا في خلق أنفسهم، و تنقّلها من حال إلى حال، و هيئة إلى هيئة، و في خلق ما على ظهر الأرض من صنوف الحيوان، ازدادوا إيمانا و أيقنوا، و انتفى عنهم اللبس.

فإذا نظروا في سائر الحوادث الّتي تتجدّد في كلّ وقت، كاختلاف الليل و النهار، و نزول الأمطار، و حياة الأرض بها بعد موتها، و تصريف الرياح

جنوبا و شمالا، و قبولا و دبورا، عقلوا و استحكم علمهم، و خلص يقينهم.

[سورة الجاثية (45): الآيات 6 الى 11]

تِلْكَ آياتُ اللَّهِ نَتْلُوها عَلَيْكَ بِالْحَقِّ فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَ آياتِهِ يُؤْمِنُونَ (6) وَيْلٌ لِكُلِّ أَفَّاكٍ أَثِيمٍ (7) يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ مُسْتَكْبِراً كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (8) وَ إِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً اتَّخَذَها هُزُواً أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (9) مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ وَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ ما كَسَبُوا شَيْئاً وَ لا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ (10)

هذا هُدىً وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ (11)

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 300

زبدة التفاسير ج 6 349

و لمّا قدّم سبحانه ذكر الأدلّة، عقّب. ذلك بالوعيد لمن أعرض عنها و لم يتفكّر فيها، فقال:

تِلْكَ آياتُ اللَّهِ أي: تلك الآيات دلائله الّتي نصبها للمكلّفين نَتْلُوها عَلَيْكَ حال، و عاملها معنى الإشارة بِالْحَقِ ملتبسين به، أو ملتبسة به فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَ اللَّهِ وَ آياتِهِ يُؤْمِنُونَ أي: بعد آياته. و تقديم اسم «اللّه» للمبالغة و التعظيم، كما في قولك: أعجبني زيد و كرمه، تريد: أعجبني كرم زيد. أو بعد حديث اللّه، و هو القرآن، كقوله: اللَّهُ نَزَّلَ أَحْسَنَ الْحَدِيثِ «1». و آياته دلائله المتلوّة، أو القرآن.

و العطف لتغاير الوصفين، فإنّ الحديث قصص يستخرج منه عبر تبيّن الحقّ من الباطل، و الآيات هي الأدلّة الفاصلة بين الصحيح و الفاسد. و قرأ الحجازيّان و حفص و أبو عمرو و روح: يؤمنون بالياء، ليوافق ما قبله.

وَيْلٌ كلمة وعيد يتلقّى بها الكفّار و مستحقّو العذاب. و قيل: هو واد سائل من صديد جهنّم. لِكُلِّ أَفَّاكٍ كذّاب. و يطلق ذلك على من يكثر كذبه، أو يعظم

كذبه، و إن كان في خبر واحد، ككذب مسيلمة في ادّعاء النبوّة أَثِيمٍ كثير الآثام.

يَسْمَعُ آياتِ اللَّهِ آيات القرآن الّتي فيها الحجّة تُتْلى عَلَيْهِ ثُمَّ يُصِرُّ يقيم على كفره مُسْتَكْبِراً عن الإيمان بالآيات، مزدريا لها، معجبا بما عنده. و «ثمّ» للاستبعاد و الإصرار بعد سماع الآيات، كقوله: يرى غمرات الموت ثمّ يزورها «2».

و ذلك أنّ غمرات الموت حقيقة بأن ينجو رائيها بنفسه و يطلب الفرار عنها، و أمّا

______________________________

(1) الزمر: 23.

(2) لجعفر بن علبة الحارثي. و صدره: لا يكشف الغمّاء إلّا ابن حرّةيرى غمرات ..........

و ابن حرّة كناية عن الكريم. و الغمّاء: الداهية. و غمرات الموت: شدائده، كأحوال المعركة الشديدة. و عطف ب «ثمّ» لما في لقاء الأهوال و الغمرات و زيارتها بعد رؤيتها من الاستبعاد.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 301

زيارتها و الإقدام على مزاولتها فأمر مستبعد. فمعنى «ثمّ» الإيذان بأن فعل المقدم عليها بعد ما رآها و عاينها شي ء يستبعد في العادات و الطباع. و كذلك آيات اللّه الواضحة الناطقة بالحقّ، من تليت عليه و سمعها، كان مستبعدا في العقول إصراره على الضلالة عندها، و استكباره عن الإيمان بها.

كَأَنْ لَمْ يَسْمَعْها أي: كأنّه، فخفّفت و حذف ضمير الشأن. و الجملة في موضع الحال، أي: يصرّ مثل غير السامع. فَبَشِّرْهُ بِعَذابٍ أَلِيمٍ على إصراره.

و البشارة للتهكّم، أو على الأصل، فإنّها ما يظهر أثره على البشرة مهما كان، و إن غلب استعماله في السرور.

قيل: نزلت في النضر بن الحارث، و ما كان يشتري من أحاديث الأعاجم، و يشغل الناس بها عن استماع القرآن. و الآية عامّة في كلّ من كان مضارّا لدين اللّه.

وَ إِذا عَلِمَ مِنْ آياتِنا شَيْئاً و إذا بلغه شي ء من آياتنا و علم أنّه

منها اتَّخَذَها هُزُواً لذلك العلم، من غير أن يرى فيها ما يناسب الهزء، و ليري العوام أنّه لا حقيقة لها، كما فعله أبو جهل حين سمع قوله: إِنَّ شَجَرَةَ الزَّقُّومِ طَعامُ الْأَثِيمِ «1».

أو كما فعله النضر بن الحارث حين كان يقابل القرآن بأحاديث الفرس. و الضمير ل «آياتنا». و لم يقل: اتّخذه راجعا إلى «شيئا»- كما هو مقتضى الظاهر- إشعارا بأنّه إذا سمع كلاما و علم أنّه من الآيات، بادر إلى الاستهزاء بالآيات كلّها، و لم يقتصر على ما سمعه، لفرط العناد و التوغّل في اللجاج. أو الضمير راجع إلى «شيئا» و تأنيثه لأنّه بمعنى الآية.

أُولئِكَ لَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ مِنْ وَرائِهِمْ جَهَنَّمُ من قدّامهم، لأنّهم متوجّهون إليها.

أو من خلفهم، لأنّها بعد آجالهم، فإنّ الوراء اسم للجهة الّتي يواريها الشخص من خلف أو قدّام. وَ لا يُغْنِي و لا يدفع عَنْهُمْ ما كَسَبُوا من الأموال و الأولاد

______________________________

(1) الدخان: 43- 44.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 302

شَيْئاً من عذاب اللّه وَ لا مَا اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ أَوْلِياءَ أي: الأصنام وَ لَهُمْ عَذابٌ عَظِيمٌ لا يتحمّلونه.

هذا هُدىً الإشارة إلى القرآن، أي: هذا القرآن كامل في الهداية، كما تقول: زيد رجل، تريد: كامل في الرجوليّة. و يدلّ عليه قوله: وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِ رَبِّهِمْ أي: القرآن لَهُمْ عَذابٌ مِنْ رِجْزٍ أَلِيمٌ و قرأ ابن كثير و يعقوب و حفص برفع «أليم». و الرجز أشدّ العذاب.

[سورة الجاثية (45): الآيات 12 الى 13]

اللَّهُ الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ (12) وَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً مِنْهُ إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ (13)

ثمّ نبّه سبحانه خلقه على وجه الدلالة على توحيده، فقال:

اللَّهُ

الَّذِي سَخَّرَ لَكُمُ الْبَحْرَ بأن جعله أملس السطح، يطفو عليه ما يتخلخل كالأخشاب، و لا يمنع الغوص فيه لِتَجْرِيَ الْفُلْكُ فِيهِ بِأَمْرِهِ بتسخيره و أنتم راكبوها وَ لِتَبْتَغُوا مِنْ فَضْلِهِ و لتطلبوا بركوبها في أسفاركم من الأرباح، بالتجارة و غوص اللآلئ و الجواهر و صيد اللحم الطريّ، و غير ذلك من المنافع وَ لَعَلَّكُمْ تَشْكُرُونَ هذه النعم.

وَ سَخَّرَ لَكُمْ ما فِي السَّماواتِ من الشمس، و القمر، و النجوم، و المطر، و الثلج، و البرد، و غير ذلك وَ ما فِي الْأَرْضِ من الجمادات، و النباتات، و الحيوانات جَمِيعاً خلقها جميعا لانتفاعنا بها، فهي مسخّرة لنا من حيث إنّا ننتفع بها على الوجه الّذي نريده مِنْهُ حال من «ما» أي: كائنة منه، حاصلة من

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 303

عنده. يعني: أنّه مكوّنها و موجدها بقدرته و حكمته، ثمّ مسخّرها لخلقه. و يجوز أن يكون خبرا لمبتدأ محذوف، أي: هي جميعا منه. أو خبر ل «ما في السموات»، و «سخّر لكم» تكرير للتأكيد. إِنَّ فِي ذلِكَ لَآياتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ في صنائعه.

[سورة الجاثية (45): الآيات 14 الى 15]

قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لِيَجْزِيَ قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) مَنْ عَمِلَ صالِحاً فَلِنَفْسِهِ وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ (15)

و لمّا بيّن وحدانيّته و علمه و حكمته، خاطب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال:

قُلْ لِلَّذِينَ آمَنُوا يَغْفِرُوا حذف المقول لدلالة الجواب عليه. و المعنى: قل لهم اغفروا يغفروا، أي: يصفحوا. لِلَّذِينَ لا يَرْجُونَ أَيَّامَ اللَّهِ لا يتوقّعون وقائعه بأعدائه. من قولهم: أيّام العرب لوقائعهم. أو لا يأملون الأوقات الّتي وقّتها اللّه لنصر المؤمنين و ثوابهم و وعدهم بها. قيل: إنّها منسوخة بآية القتال «1». لِيَجْزِيَ

قَوْماً بِما كانُوا يَكْسِبُونَ علّة للأمر. و القوم هم المؤمنون، أو الكافرون، أو كلاهما. فيكون التنكير للتعظيم، أو التحقير، أو الشيوع. و الكسب: المغفرة، أو الإساءة، أو ما يعمّهما. و قرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي: لنجزي بالنون.

مَنْ عَمِلَ صالِحاً طاعة و برّا فَلِنَفْسِهِ إذ ثواب ذلك العمل عائد إليه وَ مَنْ أَساءَ فَعَلَيْها إذ وبال إساءته و عقابه عليه ثُمَّ إِلى رَبِّكُمْ تُرْجَعُونَ أي: يوم القيامة إلى حيث لا يملك أحد النفع و الضرّ و النهي و الأمر غيره سبحانه، فيجازيكم على قدر أعمالكم.

______________________________

(1) التوبة: 5 و 29.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 304

[سورة الجاثية (45): الآيات 16 الى 20]

وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ وَ الْحُكْمَ وَ النُّبُوَّةَ وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ وَ فَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ (16) وَ آتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ فَمَا اخْتَلَفُوا إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ بَغْياً بَيْنَهُمْ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ (17) ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ فَاتَّبِعْها وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ (18) إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا عَنْكَ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ (19) هذا بَصائِرُ لِلنَّاسِ وَ هُدىً وَ رَحْمَةٌ لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ (20)

و لمّا تقدّم ذكر النعم و مقابلتهم إيّاها بالكفران و الطغيان، بيّن عقيب ذلك ذكر ما كان من بني إسرائيل أيضا في مقابلة النعم بالكفران، فقال:

وَ لَقَدْ آتَيْنا بَنِي إِسْرائِيلَ الْكِتابَ التوراة وَ الْحُكْمَ و الحكمة النظريّة و العمليّة في الدين. أو فصل الخصومات. وَ النُّبُوَّةَ إذ كثر فيهم الأنبياء ما لم يكثروا في غيرهم. و قد روي أنّه كان فيهم ألف نبيّ. وَ رَزَقْناهُمْ مِنَ الطَّيِّباتِ ممّا أحلّ اللّه لهم من أنواع الأرزاق

وَ فَضَّلْناهُمْ عَلَى الْعالَمِينَ على عالمي زمانهم، حيث آتيناهم ما لم نؤت غيرهم.

و قيل: فضّلناهم في كثرة الأنبياء منهم على سائر الأمم، و إن كان أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أفضل منهم في كثرة المطيعين المخبتين الأخيار من آله، و كثرة المطيعين للّه و المجتهدين العلماء فيهم. و هذا كما يقال: هذا أفضل في علم النحو،

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 305

و ذاك في علم الفقه. و الفضل الخير الزائد على غيره. فأمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أفضل بفضل محمّد و آله، و كثرة العلماء الراسخين منهم.

وَ آتَيْناهُمْ بَيِّناتٍ مِنَ الْأَمْرِ أدلّة في أمر الدين. و يندرج فيها المعجزات.

و قيل: آيات من أمر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، مبيّنات لصدقه فَمَا اخْتَلَفُوا في ذلك الأمر إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَهُمُ الْعِلْمُ ما هو موجب لزوال الخلاف، و هو العلم بحقيقة الحال.

بَغْياً بَيْنَهُمْ عداوة و حسدا، و طلبا للرئاسة، و أنفة من الإذعان للحقّ إِنَّ رَبَّكَ يَقْضِي بَيْنَهُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ فِيما كانُوا فِيهِ يَخْتَلِفُونَ بالمؤاخذة و المجازاة له.

ثُمَّ جَعَلْناكَ عَلى شَرِيعَةٍ مِنَ الْأَمْرِ على طريقة و منهاج من أمر الدين بعد موسى و قومه، فإنّ الشريعة السنّة الّتي من سلك طريقها أدّته إلى البغية، كالشريعة الّتي هي طريق إلى الماء. فهي علامة منصوبة على الطريق- من الأمر و النهي- يؤدّي إلى الجنّة، كما يؤدّي ذلك إلى الوصول إلى الماء.

فَاتَّبِعْها فاتّبع شريعتك الثابتة بالحجج، و اعمل بها وَ لا تَتَّبِعْ أَهْواءَ الَّذِينَ لا يَعْلَمُونَ آراء الجهّال التابعة للشهوات، من أهل الكتاب الّذين غيّروا التوراة اتّباعا لهواهم، و حبّا للرئاسة، و استتباعا للعوام.

إِنَّهُمْ لَنْ يُغْنُوا لن يدفعوا عَنْكَ مِنَ

اللَّهِ من عذابه شَيْئاً ممّا أراد بك إن اتّبعت أهواءهم وَ إِنَّ الظَّالِمِينَ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ إذ الجنسيّة علّة الضمّ، فلا توالهم باتّباع أهوائهم وَ اللَّهُ وَلِيُّ الْمُتَّقِينَ ناصرهم و حافظهم. فلا تشغل قلبك بتناصرهم و تعاديهم عليك، فإنّ اللّه ينصرك و يحفظك. فواله بالتقى و اتّباع الشريعة.

هذا أي: القرآن، أو اتّباع الشريعة بَصائِرُ لِلنَّاسِ بيّنات تبصّرهم أمور دينهم. جعل سبحانه ما فيه من معالم الدين و الشرائع بمنزلة البصائر في القلوب، كما جعله روحا و حياة وَ هُدىً من الضلالة وَ رَحْمَةٌ و نعمة من اللّه لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ يطلبون اليقين، لأنّهم هم المنتفعون به.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 306

[سورة الجاثية (45): الآيات 21 الى 23]

أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ أَنْ نَجْعَلَهُمْ كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ سَواءً مَحْياهُمْ وَ مَماتُهُمْ ساءَ ما يَحْكُمُونَ (21) وَ خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (22) أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ عَلى عِلْمٍ وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ أَ فَلا تَذَكَّرُونَ (23)

ثمّ قال سبحانه للكفّار على سبيل التوبيخ لهم: أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ اجْتَرَحُوا السَّيِّئاتِ «أم» منقطعة. و معنى الهمزة فيها إنكار الحسبان. و الاجتراح:

الاكتساب. و منه: الجوارح. و فلان جارحة أهله، أي: كاسبهم. أَنْ نَجْعَلَهُمْ أن نصيّرهم كَالَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أي: مثلهم. و هو ثاني مفعولي «نجعل». و الجملة الّتي هي قوله: سَواءً مَحْياهُمْ وَ مَماتُهُمْ بدل من الكاف، لأنّ الجملة تقع مفعولا ثانيا، فكانت في حكم المفرد. ألا ترى لو قلت: أن نجعلهم سواء محياهم و مماتهم، كان سديدا، كما تقول: ظننت زيدا أبوه منطلق.

و قرأ

حمزة و الكسائي و حفص: سواء بالنصب- بمعنى: مستويا- على البدل، و محياهم و مماتهم على الفاعليّة. فكان مفردا غير جملة. أو على الحال من الضمير في الكاف، أو المفعوليّة، و الكاف حال.

و المعنى: إنكار أن يستوي المسيئون و المحسنون محيا، و أن يستووا مماتا، لافتراق أحوالهم أحياء، حيث ينصر اللّه المؤمنين في الدنيا، و يمكّنهم من المشركين، و لا ينصر الكافرين، و لا يمكّنهم من المسلمين، و ينزّل الملائكة عند

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 307

الموت على المؤمنين بالبشرى، و على الكافرين بضرب وجوههم و أدبارهم. أو حيث عاش هؤلاء على القيام بالطاعات، و أولئك على ركوب المعاصي، و مات هؤلاء على البشرى بالرحمة و الوصول إلى ثواب اللّه و رضوانه، و أولئك على اليأس من رحمة اللّه و الوصول إلى هول ما أعدّ لهم.

و قيل: معناه إنكار أن يستووا في الممات كما استووا في الحياة، لأنّ المسيئين و المحسنين مستو محياهم في الرزق و الصحّة، و إنّما يفترقون في الممات.

و قيل: سواء محياهم و مماتهم كلام مستأنف، على معنى: أنّ محيا المسيئين و مماتهم سواء، و كذلك محيا المحسنين و مماتهم، فإنّ كلّا يموت على حسب ما عاش عليه، فلا يكون حال هؤلاء مساوية لهؤلاء.

و قيل: الضمير للكفّار. و المعنى: أنّهم يتساوون محيا و مماتا، لأنّ الحيّ متى لم يفعل الطاعة فهو بمنزلة الميّت.

ساءَ ما يَحْكُمُونَ ساء حكمهم هذا. أو بئس شيئا حكموا به ذلك.

و

عن تميم الداري: أنّه كان يصلّي ذات ليلة عند المقام، فبلغ هذه الآية، فجعل يبكي و يردّدها إلى الصباح.

و

عن الفضيل: أنّه بلغها فجعل يردّدها و يبكي و يقول: يا فضيل، ليت شعري من أيّ الفريقين أنت.

وَ خَلَقَ اللَّهُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ

بِالْحَقِ أي: لم يخلقهما عبثا، و إنّما خلقهما لنفع خلقه، بأن يكلّفهم و يعرّضهم للثواب الجزيل. و هذا كالدليل على الحكم السابق، من حيث إنّ خلق ذلك بالحقّ المقتضي للعدل يستدعي انتصار المظلوم من الظالم، و التفاوت بين المسي ء و المحسن في المحيا و بعد الممات.

وَ لِتُجْزى كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ عطف على «بالحقّ» لأنّه في معنى العلّة. أو على علّة محذوفة، مثل: ليدلّ بها على قدرته. أو ليعدل و لتجزى. وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ بنقص ثواب و تضعيف عقاب.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 308

أَ فَرَأَيْتَ مَنِ اتَّخَذَ إِلهَهُ هَواهُ بأن يكون مطواعا لهوى النفس، يتّبع كلّ ما تدعوه إليه، فيترك متابعة الهدى رأسا إلى مطاوعة الهوى، فلا يهوى شيئا إلّا ركبه، فكأنّه يعبده كما يعبد الرجل إلهه وَ أَضَلَّهُ اللَّهُ و خذله و خلّاه عَلى عِلْمٍ عالما بأنّ اللطف لا يجديه، و يستحقّ التخلية و الخذلان. أو مع علمه بوجوه الهداية، و إحاطته بأنواع الألطاف المحصّلة و المقرّبة.

وَ خَتَمَ عَلى سَمْعِهِ وَ قَلْبِهِ خذلانا. فلا يبالي بالمواعظ، و لا يتفكّر في الآيات. وَ جَعَلَ عَلى بَصَرِهِ غِشاوَةً تخلية. فلا ينظر بعين الاستبصار و الاعتبار.

و مرّ تفسير «1» الطبع و الختم و الإضلال و الغشاوة غير مرّة. و قرأ حمزة و الكسائي:

غشوة.

فَمَنْ يَهْدِيهِ مِنْ بَعْدِ اللَّهِ من بعد إضلاله و منع ألطافه. أَ فَلا تَذَكَّرُونَ أ فلا تتّعظون بهذه المواعظ؟ و هذا استبطاء بالتذكّر منهم.

[سورة الجاثية (45): الآيات 24 الى 26]

وَ قالُوا ما هِيَ إِلاَّ حَياتُنَا الدُّنْيا نَمُوتُ وَ نَحْيا وَ ما يُهْلِكُنا إِلاَّ الدَّهْرُ وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ مِنْ عِلْمٍ إِنْ هُمْ إِلاَّ يَظُنُّونَ (24) وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ ما كانَ حُجَّتَهُمْ إِلاَّ أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا إِنْ

كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ ثُمَّ يُمِيتُكُمْ ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ لا رَيْبَ فِيهِ وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ (26)

______________________________

(1) راجع ج 1 ص 60، ذيل الآية 7 من سورة البقرة، و غيرها.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 309

ثمّ أخبر سبحانه عن منكري البعث فقال: وَ قالُوا ما هِيَ ما الحياة أو الحال إِلَّا حَياتُنَا الدُّنْيا الّتي نحن فيها نَمُوتُ وَ نَحْيا أي: نكون أمواتا نطفا و ما قبلها، و نحيا بعد ذلك. أو نموت بأنفسنا، و نحيا ببقاء أولادنا. أو يموت بعضنا، و يحيا بعضنا. أو يصيبنا الموت و الحياة فيها، و ليس وراء ذلك حياة. و يحتمل أنّهم أرادوا به التناسخ، فإنّه عقيدة أكثر عبدة الأوثان.

وَ ما يُهْلِكُنا إِلَّا الدَّهْرُ إلّا مرور الزمان. و هو في الأصل مدّة بقاء العالم، من: دهره إذا غلبه.

و المعنى: أنّهم قالوا: المؤثّر في هلاك أنفسنا ليس إلّا مرور الزمان، و كرور الليالي و الأيّام. فينكرون ملك الموت، و قبضه الأرواح بأمر اللّه. و كانوا يضيفون كلّ حادثة تحدث إلى الدهر و الزمان. و ترى أشعارهم ناطقة بشكوى الزمان. و منه

قوله عليه السّلام: «لا تسبّوا الدهر هو اللّه».

أي: فإنّ اللّه هو الآتي بالحوادث لا الدهر.

وَ ما لَهُمْ بِذلِكَ بنسبة الحوادث إلى حركات الأفلاك و ما يتعلّق بها مِنْ عِلْمٍ أي: ما يقولون ذلك عن علم، و لكن عن ظنّ و تخمين إِنْ هُمْ إِلَّا يَظُنُّونَ إذ لا دليل لهم عليه، و إنّما قالوه بناء على التقليد.

وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ واضحات الدلالة على ما يخالف معتقدهم.

أو مبيّنات له. ما كانَ حُجَّتَهُمْ ما كان لهم ما يتمسّك به في مقابلتها إِلَّا أَنْ قالُوا ائْتُوا بِآبائِنا أي:

أحيوهم حتّى نعلم أنّ اللّه قادر على بعثنا إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ

و إنّما سمّاه حجّة و ليس بحجّة، لأنّه في حسبانهم حجّة، فساقه مساقها. أو لأنّه في أسلوب قوله: تحيّة بينهم ضرب وجيع «1». كأنّه قيل: إلّا ما ليس بحجّة.

______________________________

(1) لعمرو بن معد يكرب. و صدره: و خيل قد دلفت لها بخيل.

و تقدّم شرحه في ج 2 ص 288.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 310

و المراد نفي أن يكون لهم حجّة البتّة. فسمّيت حجّة على سبيل التهكّم.

و إنّما لم يجبهم اللّه إلى ذلك، لأنّهم إنّما قالوا ذلك متعنّتين مقترحين، لا طالبين الرشد. و لهذا خاطب سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رادّا عليهم قولهم بقوله: قُلِ اللَّهُ يُحْيِيكُمْ في دار الدنيا، لأنّه لا يقدر على الإحياء أحد سواه ثُمَّ يُمِيتُكُمْ عند انقضاء آجالكم ثُمَّ يَجْمَعُكُمْ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ بأن يبعثكم و يعيدكم أحياء لا رَيْبَ فِيهِ لقيام الحجّة على أنّ من قدر على فعل الحياة في وقت، قدر على فعلها في كلّ وقت. فلمّا كان يقدر على الإبداء، فلا ريب أنّه يقدر على الإعادة، بل كانت أهون عليه من الإبداء. و أيضا الحكمة اقتضت الجمع للمجازاة على ما مرّ مرارا، و الوعد المصدّق بالآيات دلّ على وقوعها، و إذا كان كذلك أمكن الإتيان بآبائهم، لكنّ الحكمة اقتضت أن يعادوا يوم الجمع للجزاء.

وَ لكِنَّ أَكْثَرَ النَّاسِ لا يَعْلَمُونَ لقلّة تفكّرهم، و قصور نظرهم على ما يحسّونه.

[سورة الجاثية (45): الآيات 27 الى 37]

وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ (27) وَ تَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (28) هذا كِتابُنا يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِّ إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ ما

كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (29) فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ (30) وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَ فَلَمْ تَكُنْ آياتِي تُتْلى عَلَيْكُمْ فَاسْتَكْبَرْتُمْ وَ كُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ (31)

وَ إِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ وَ السَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ إِنْ نَظُنُّ إِلاَّ ظَنًّا وَ ما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ (32) وَ بَدا لَهُمْ سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (33) وَ قِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا وَ مَأْواكُمُ النَّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ (34) ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً وَ غَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ (35) فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَ رَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ (36)

وَ لَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (37)

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 311

وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ تعميم المقدرة بعد تخصيصها وَ يَوْمَ تَقُومُ السَّاعَةُ يَوْمَئِذٍ يَخْسَرُ الْمُبْطِلُونَ أي: و يخسر العادلون عن الحقّ الفاعلون للباطل يوم تقوم الساعة. و «يومئذ» بدل منه.

وَ تَرى كُلَّ أُمَّةٍ جاثِيَةً مجتمعة. من الجثوة، و هي الجماعة. و جمعها: جثيّ.

و

في الحديث: «من جثى جهنّم» «1».

أو باركة مستوفزة «2» على الركب. كُلُّ أُمَّةٍ تُدْعى إِلى كِتابِهَا صحائف أعمالها. فاكتفى باسم الجنس، كقوله:

______________________________

(1) هذه قطعة من

حديث الحرث بن الحرث الأشعري قال: «قال رسول الله صلى الله عليه و آله و سلم: من دعا بدعوى الجاهلية فإنه من جثى جهنم ...»

: و جثى جمع الجثوة، و هي: الحجارة المجموعة.

انظر مسند أحمد 4: 130.

(2) استوفز في قعدته: قعد غير مطمئن، كأنه يتهيأ للوثوب.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 312

وَ وُضِعَ الْكِتابُ

فَتَرَى الْمُجْرِمِينَ مُشْفِقِينَ مِمَّا فِيهِ «1». و قرأ يعقوب: كلّ، على أنّه بدل الأولى.

و «تدعى» صفة، أو مفعول ثان. الْيَوْمَ تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ محمول على القول، تقديره: يقال لهم هذا القول. و إضافة الكتاب إليهم للملابسة، فإنّ أعمالهم مثبتة فيه. و قيل: المراد كتابها المنزل على رسولها ليسألوا عمّا عملوا به.

هذا كِتابُنا أضاف صحائف أعمالهم إلى نفسه، لأنّه أمر الكتبة أن يكتبوا فيها أعمالهم يَنْطِقُ عَلَيْكُمْ بِالْحَقِ يشهد عليكم بما عملتم بلا زيادة و لا نقصان إِنَّا كُنَّا نَسْتَنْسِخُ نستكتب الملائكة ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أعمالكم.

و عن ابن عبّاس: المراد بالكتاب اللوح المحفوظ، يشهد بما قضي فيه من خير و شرّ. و على هذا؛ فيكون معنى «نستنسخ»: أنّ الحفظة تستنسخ الخزنة ما هو مدوّن عنده من أحوال العباد، من الكافرين و المؤمنين.

فَأَمَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَيُدْخِلُهُمْ رَبُّهُمْ فِي رَحْمَتِهِ في جنّته ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْمُبِينُ الفلاح الظاهر، لخلوصه عن الشوائب.

وَ أَمَّا الَّذِينَ كَفَرُوا أَ فَلَمْ تَكُنْ آياتِي أي: فيقال لهم: ألم يأتكم رسلي، فلم تكن آياتي تُتْلى عَلَيْكُمْ فحذف القول و المعطوف عليه، اكتفاء بالمقصود، و استغناء بالقرينة فَاسْتَكْبَرْتُمْ عن الإيمان بها، و تعظّمتم عن قبولها وَ كُنْتُمْ قَوْماً مُجْرِمِينَ أي: كافرين، كما قال: أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ «2».

وَ إِذا قِيلَ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ يحتمل الموعود به، أي: ما وعد اللّه به من الثواب و العقاب. أو المصدر. حَقٌ كائن هو أو متعلّقه لا محالة وَ السَّاعَةُ لا رَيْبَ فِيها في حصولها. إفراد للمقصود، عطفا على محلّ «إنّ» و اسمها. و قرأ حمزة بالنصب، عطفا على اسمها.

______________________________

(1) الكهف: 49.

(2) القلم: 35.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 313

قُلْتُمْ ما نَدْرِي مَا السَّاعَةُ أيّ شي ء الساعة؟ استغرابا

لها إِنْ نَظُنُّ إِلَّا ظَنًّا أصله: نظنّ ظنّا، فأدخل حرفا النفي و الاستثناء لإثبات الظنّ و نفي ما عداه، كأنّه قال: ما نحن إلّا نظنّ ظنّا. أو لنفي ظنّهم فيما سوى ذلك مبالغة. ثمّ أكّده بقوله:

وَ ما نَحْنُ بِمُسْتَيْقِنِينَ أي: لإمكانه.

وَ بَدا لَهُمْ ظهر لهم سَيِّئاتُ ما عَمِلُوا على ما كانت عليه، بأن عرفوا قبحها، و عاينوا و خامة عاقبتها. أو جزاؤها. و تسميته بها من قبيل وَ جَزاءُ سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ مِثْلُها «1». وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ أي: جزاء استهزائهم.

وَ قِيلَ الْيَوْمَ نَنْساكُمْ نترككم في العذاب ترك ما ينسى كَما نَسِيتُمْ لِقاءَ يَوْمِكُمْ هذا كما تركتم مقتضى عدته، و لم تبالوا به. و إضافة اللقاء إلى اليوم إضافة المصدر إلى ظرفه، كمعنى إضافة المكر في قوله: مَكْرُ اللَّيْلِ وَ النَّهارِ «2» أي:

نسيتم لقاء جزاء اللّه في يومكم هذا. وَ مَأْواكُمُ النَّارُ وَ ما لَكُمْ مِنْ ناصِرِينَ يخلّصونكم منها، و يدفعونها عنكم.

ذلِكُمْ بِأَنَّكُمُ اتَّخَذْتُمْ آياتِ اللَّهِ هُزُواً استهزأتم بها، و لم تتفكّروا فيها وَ غَرَّتْكُمُ الْحَياةُ الدُّنْيا بحسنها و زينتها، فحسبتم أن لا حياة سواها فَالْيَوْمَ لا يُخْرَجُونَ مِنْها و قرأ حمزة و الكسائي بفتح الياء و ضمّ الراء. وَ لا هُمْ يُسْتَعْتَبُونَ و لا يطلب منهم أن يعتبوا ربّهم- أي: يرضوه- لفوات أوانه. يقال: أعتبني فلان، إذا عاد إلى مسرّتي راجعا عن الإساءة.

فَلِلَّهِ الْحَمْدُ رَبِّ السَّماواتِ وَ رَبِّ الْأَرْضِ رَبِّ الْعالَمِينَ إذ الكلّ نعمة منه، و دالّ على كمال قدرته. فاحمدوه، فإنّ مثل هذه الربوبيّة العامّة يوجب الحمد و الثناء على كلّ مربوب.

______________________________

(1) الشورى: 40.

(2) سبأ: 33.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 314

وَ لَهُ الْكِبْرِياءُ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إذ ظهر فيها آثار كبريائه

و عظمته.

فكبّروه، فإنّ حقّ مثله أن يكبّر و يعظّم. و

في الحديث: «يقول اللّه سبحانه: الكبرياء ردائي، و العظمة إزاري، فمن نازعني واحدة منهما ألقيته في جهنّم».

وَ هُوَ الْعَزِيزُ الّذي لا يغلب الْحَكِيمُ فيما قدّر و قضى. فاحمدوه، و كبّروه، و أطيعوا له.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 315

(46) سورة الأحقاف

اشارة

مكّيّة. قال ابن عبّاس و قتادة: إلّا آية منها نزلت بالمدينة: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ «1» في عبد اللّه بن سلام.

و هي خمس و ثلاثون آية.

أبيّ بن كعب، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ سورة الأحقاف، اعطي من الأجر بعدد كلّ رمل في الدنيا عشر حسنات، و محي عنه عشر سيّئات، و رفع له عشر درجات».

و

عن عبد اللّه بن أبي يعفور، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ كلّ ليلة أو كلّ جمعة سورة الأحقاف، لم يصبه اللّه بروعة في الدنيا، و آمنه من فزعه يوم القيامة».

[سورة الأحقاف (46): الآيات 1 الى 8]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

حم (1) تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (2) ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلاَّ بِالْحَقِّ وَ أَجَلٍ مُسَمًّى وَ الَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا مُعْرِضُونَ (3) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (4)

وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ وَ هُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ (5) وَ إِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً وَ كانُوا بِعِبادَتِهِمْ كافِرِينَ (6) وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا بَيِّناتٍ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (7) أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ وَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ (8)

______________________________

(1) الأحقاف: 10.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 316

و لمّا ختم اللّه سورة الجاثية بذكر التوحيد، و ذمّ

أهل الشرك و الوعيد، افتتح هذه السورة أيضا بالتوحيد، ثمّ بالتوبيخ لأهل الكفر من العبيد، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ قد مرّ «1» تفسيره ما خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما إِلَّا بِالْحَقِ إلّا خلقا ملتبسا بالحقّ.

و هو ما تقتضيه الحكمة و المعدلة. و فيه دلالة على وجود الصانع الحكيم، و البعث للمجازاة، على ما قرّرناه مرارا. وَ أَجَلٍ مُسَمًّى و بتقدير أجل مسمّى ينتهي إليه الكلّ. و هو يوم القيامة. أو أجل كلّ واحد. و هو آخر مدّة بقائه المقدّرة له.

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا عَمَّا أُنْذِرُوا أنذروه من هول ذلك اليوم الّذي لا بدّ لكلّ خلق من انتهائه إليه. و يجوز أن تكون «ما» مصدريّة، أي: عن إنذارهم ذلك اليوم.

______________________________

(1) راجع ص 298، ذيل الآية 2 من سورة الجاثية.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 317

مُعْرِضُونَ عادلون عن أن يتفكّروا فيه، و يستعدّوا لحلوله.

قُلْ لهؤلاء الكفرة أَ رَأَيْتُمْ ما تَدْعُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ من الأصنام أَرُونِي ما ذا خَلَقُوا مِنَ الْأَرْضِ أَمْ لَهُمْ شِرْكٌ فِي السَّماواتِ أي: أخبروني عن حال آلهتكم بعد التأمّل فيها، هل يعقل أن يكون لها في أنفسها مدخل في خلق شي ء من أجزاء العالم، فتستحقّ به العبادة؟ و تخصيص الشرك بالسماوات احتراز عمّا يتوهّم أنّ للوسائط شركة في إيجاد الحوادث السفليّة.

ائْتُونِي بِكِتابٍ مِنْ قَبْلِ هذا من قبل هذا الكتاب، يعني: القرآن، فإنّه ناطق بالتوحيد و إبطال الشرك، فإنّه ما من كتاب أنزل من قبله من كتب اللّه إلّا و هو ناطق بمثل ذلك، فأتوا بكتاب واحد منزل من قبله شاهد بصحّة ما أنتم عليه من عبادة غير اللّه.

أَوْ أَثارَةٍ مِنْ عِلْمٍ أو بقيّة من علم بقيت عليكم

من علوم الأوّلين. هل فيها ما يدلّ على استحقاقهم للعبادة؟ من قولهم: سمنت الناقة على أثارة من شحم، أي:

على بقيّة شحم كانت بها. إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في دعواكم، أي: هاتوا إحدى هذه الحجج الثلاث. أولاها: دليل العقل. و الثانية: الكتاب. و الثالثة: الخبر المتواتر. فإذا لم يمكنكم شي ء من ذلك فقد وضح بطلان دعواكم.

وَ مَنْ أَضَلُّ مِمَّنْ يَدْعُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ من الجنّ و الإنس و الأوثان. و معنى الاستفهام فيه: إنكار أن يكون أحد أضلّ من المشركين، حيث تركوا عبادة السميع المجيب الخبير، القادر على تحصيل كلّ بغية و مرام، إلى عبادة مَنْ لا يَسْتَجِيبُ لَهُ دعاءه، فضلا أن يعلم سرائره، و يراعي مصالحه إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ أي: أبدا ما دامت الدنيا وَ هُمْ عَنْ دُعائِهِمْ غافِلُونَ لأنّهم إمّا جمادات، و إمّا عباد مشتغلون بأحوالهم.

وَ إِذا حُشِرَ النَّاسُ كانُوا لَهُمْ أَعْداءً يضرّونهم و لا ينفعونهم، كقوله تعالى:

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 318

وَ يَكُونُونَ عَلَيْهِمْ ضِدًّا «1» وَ كانُوا و كانت آلهتهم بِعِبادَتِهِمْ بعبادة عبدتهم كافِرِينَ مكذّبين بلسان الحال أو المقال. و قيل: الضمير للعابدين. و هو كقوله:

وَ اللَّهِ رَبِّنا ما كُنَّا مُشْرِكِينَ «2». و على الأوّل كنّي عن الآلهة بالواو و النون، لأنّه أضيف إليها ما يكون للعقلاء، كقوله: رَأَيْتُهُمْ لِي ساجِدِينَ «3».

وَ إِذا تُتْلى عَلَيْهِمْ آياتُنا حجج و شواهد من القرآن، و سائر المعجزات الّتي ظهرت على يد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بَيِّناتٍ واضحات، أو مبيّنات قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلْحَقِ لأجله و في شأنه. فاللام فيه كما في قوله: وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً «4». و المراد بالحقّ الآيات، و بالّذين كفروا المتلوّ عليهم. فوضع الظاهران

موضع الضميرين، للتسجيل عليها بالحقّ، و عليهم بالكفر و الانهماك في الضلالة لَمَّا جاءَهُمْ أي: بادروه بالجحود ساعة أتاهم و أوّل ما سمعوه، من غير نظر و تأمّل، عنادا و لجاجا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ ظاهر بطلانه.

أَمْ يَقُولُونَ افْتَراهُ إضراب عن ذكر تسميتهم إيّاه سحرا إلى ذكر ما هو أشنع منه، و هو إسناد الافتراء إلى محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و معنى الهمزة الإنكار و التعجيب.

كأنّه قيل: دع هذا و اسمع قولهم المستنكر الموجب للتعجّب. و ذلك أنّ محمدا كان لا يقدر عليه حتّى يقوله و يفتريه على اللّه، و ذلك باطل، لأنّه قدر عليه دون أمّة العرب، فكانت قدرته عليه معجزة، لخرقها العادة، و إذا كانت معجزة كانت تصديقا من اللّه له، و الحكيم لا يصدّق الكاذب، فلا يكون مفتريا.

قُلْ إِنِ افْتَرَيْتُهُ على الفرض فَلا تَمْلِكُونَ لِي مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أي: إن

______________________________

(1) مريم: 82.

(2) الأنعام: 23.

(3) يوسف: 4.

(4) الأحقاف: 11.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 319

عاجلني اللّه بعقوبة الافتراء، فلا تقدرون على دفع شي ء منها، فكيف أجترئ عليه، و أعرض نفسي للعقاب، من غير توقّع نفع و لا دفع ضرّ من قبلكم؟! هُوَ أَعْلَمُ بِما تُفِيضُونَ فِيهِ تندفعون فيه من القدح في آياته، بتسميتها سحرا تارة و افتراء اخرى كَفى بِهِ شَهِيداً بَيْنِي وَ بَيْنَكُمْ يشهد لي بالصدق و البلاغ، و عليكم بالكذب و الإنكار. و هو وعيد بجزاء إفاضتهم. وَ هُوَ الْغَفُورُ الرَّحِيمُ وعد بالمغفرة و الرحمة لمن تاب و آمن، و إشعار بحلم اللّه عنهم مع عظم جرأتهم.

[سورة الأحقاف (46): آية 9]

قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ إِنْ أَتَّبِعُ إِلاَّ ما يُوحى إِلَيَّ وَ

ما أَنَا إِلاَّ نَذِيرٌ مُبِينٌ (9)

روي: أنّهم كانوا يقترحون عليه الآيات، و يسألونه عمّا لم يوح به إليه من الغيوب، فنزلت:

قُلْ ما كُنْتُ بِدْعاً مِنَ الرُّسُلِ البدع بمعنى البديع، كالخفّ بمعنى الخفيف.

و المعنى: ما كنت بديعا- أي: لست بأوّل رسول بعث- فآتيكم بكلّ ما تقترحونه، و أخبركم بكلّ ما تسألون عنه من المغيّبات، فإنّ الرسل لم يكونوا يأتون إلّا بما آتاهم اللّه من آياته، و لا يخبرون إلّا بما أوحى إليهم، و لم يقدروا على المقترحات إلّا بمشيئة اللّه، فكيف أقدر على مقترحاتكم؟! وَ ما أَدْرِي ما يُفْعَلُ بِي وَ لا بِكُمْ ما يصير إليه أمري و أمركم في الدنيا. فلا أدري أ أموت أم أقتل؟ و لا أدري أيّها المكذّبون أ ترمون بالحجارة من السماء أم يخسف بكم؟ أو غير ذلك من أنواع العقاب على الأمم المكذّبة في الدنيا، إذ لا علم لي بالغيب. و أمّا في الآخرة؛ فإنّه قد علم أنّه في الجنّة، و أنّ من كذّبه في النار.

و هذا الوجه منقول عن الحسن و السدّي.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 320

و

عن الكلبي: قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أصحابه- و قد ضجروا من أذى المشركين-: حتّى متى نكون على هذا؟ فقال: «ما أدري ما يفعل بي و لا بكم، أ أترك بمكّة، أم أؤمر بالمهاجرة عنها إلى بلد آخر؟».

و عن ابن عبّاس معناه: لا أعلم ما يفعل بي و لا بكم في الآخرة. ثمّ قال: هي منسوخة بقوله: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ «1».

و يجوز أن يكون نفيا للدراية المفصّلة، أي: لا أدري ما يصنع بي و بكم على التفصيل؟ لأنّه عالم بحاله و حالهم

على الإجمال.

و اعلم أنّ لفظة «لا» مزيدة لتأكيد النفي المشتمل على «ما يفعل بي». و «ما» إمّا موصولة منصوبة، أو استفهاميّة مرفوعة.

إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا ما يُوحى إِلَيَ لا أتجاوزه. و هو جواب عن اقتراحهم الإخبار عمّا لم يوح إليه من الغيوب، أو استعجال المسلمين أن يتخلّصوا من أذى المشركين. وَ ما أَنَا إِلَّا نَذِيرٌ من عقاب اللّه مُبِينٌ بيّن الإنذار بالشواهد المبيّنة و المعجزات المصدّقة.

[سورة الأحقاف (46): آية 10]

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ وَ كَفَرْتُمْ بِهِ وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ عَلى مِثْلِهِ فَآمَنَ وَ اسْتَكْبَرْتُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (10)

روي: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا قدم من مكّة إلى المدينة، نظر ابن سلام إلى وجهه، فعلم أنّه ليس بوجه كذّاب. و تأمّله فتحقّق أنّه هو النبيّ المنتظر. و قال له: إنّي سائلك عن ثلاث لا يعلمهنّ إلّا نبيّ. ما أوّل أشراط الساعة؟ و ما أوّل طعام يأكله أهل الجنّة؟ و الولد ينزع إلى أبيه أو إلى أمّه؟

______________________________

(1) الفتح: 2. زبدة التفاسير، ج 6، ص: 321

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أمّا أوّل أشراط الساعة فنار تحشرهم من المشرق إلى المغرب.

و أمّا أوّل طعام يأكله أهل الجنّة فزيادة كبد حوت. و أمّا الولد؛ فإذا سبق ماء الرجل نزعه، و إن سبق ماء المرأة نزعته.

فقال: أشهد أنّك رسول اللّه حقّا. ثمّ قال: يا رسول اللّه إنّ اليهود قوم بهت «1»، فإن علموا بإسلامي قبل أن تسألهم عنّي بهتوني عندك.

فجاءت اليهود، فقال لهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أيّ رجل عبد اللّه فيكم؟

قالوا: خيرنا و ابن خيرنا، و سيّدنا و ابن سيّدنا، و أعلمنا و

ابن أعلمنا.

قال: أرأيتم إن أسلم عبد اللّه؟

قالوا: أعاذه اللّه من ذلك.

فخرج إليهم عبد اللّه فقال: أشهد أن لا إله إلّا اللّه، و أشهد أنّ محمّدا رسول اللّه.

فقالوا: شرّنا و ابن شرّنا، و انتقصوه.

قال: هذا ما كنت أخاف يا رسول اللّه و أحذر.

قال سعد بن أبي وقّاص: ما سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول لأحد يمشي على الأرض: إنّه من أهل الجنّة، إلّا لعبد اللّه بن سلام. و فيه نزلت:

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ

أخبروني، أي: ماذا تقولون إِنْ كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ أي: القرآن وَ كَفَرْتُمْ بِهِ و قد كفرتم به. و يجوز أن تكون الواو عاطفة على الشرط. و كذا الواو في قوله: وَ شَهِدَ شاهِدٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ إلّا أنّها تعطفه بما عطف عليه- و هو قوله: «فَآمَنَ وَ اسْتَكْبَرْتُمْ»- على جملة ما قبله، و هو قوله: «كانَ مِنْ عِنْدِ اللَّهِ».

و الشاهد عبد اللّه بن سلام. و عن مسروق: هو موسى. و شهادته: ما في التوراة من نعت الرسول.

______________________________

(1) بهت جمع بهّات و بهوت، و هو الّذي يبهت السامع بما يفتري عليه من الكذب.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 322

عَلى مِثْلِهِ مثل القرآن. و هو ما في التوراة من المعاني المصدّقة للقرآن المطابقة له، من التوحيد و الوعد و الوعيد، و غير ذلك. و يدلّ عليه قوله تعالى:

وَ إِنَّهُ لَفِي زُبُرِ الْأَوَّلِينَ «1». إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى «2». كَذلِكَ يُوحِي إِلَيْكَ وَ إِلَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِكَ «3».

و يجوز أن يكون المعنى: إن كان من عند اللّه و كفرتم به، و شهد شاهد على نحو ذلك. يعني: كونه من عند اللّه. فَآمَنَ فآمن الشاهد بالقرآن لمّا رآه من جنس الوحي مطابقا للحقّ

وَ اسْتَكْبَرْتُمْ عن الإيمان. و جواب الشرط محذوف، تقديره: ألستم ظالمين؟ و يدلّ على حذفه قوله: إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ فإنّه استئناف مشعر بأنّ كفرهم به لضلالهم المسبّب عن ظلمهم.

[سورة الأحقاف (46): الآيات 11 الى 12]

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا لَوْ كانَ خَيْراً ما سَبَقُونا إِلَيْهِ وَ إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ (11) وَ مِنْ قَبْلِهِ كِتابُ مُوسى إِماماً وَ رَحْمَةً وَ هذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لِساناً عَرَبِيًّا لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا وَ بُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ (12)

ثمّ أخبر سبحانه عن الكفّار الّذى جحدوا وحدانيّته، فقال:

وَ قالَ الَّذِينَ كَفَرُوا لِلَّذِينَ آمَنُوا أي: لأجلهم و في حقّهم لَوْ كانَ الإيمان، أو ما أتى به محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خَيْراً نفعا عاجلا ما سَبَقُونا إِلَيْهِ يعني:

______________________________

(1) الشعراء: 196.

(2) الأعلى: 18.

(3) الشورى: 3.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 323

قالت كفّار مكّة في حقّ من يتّبع محمّدا من الفقراء و الموالي و الرعاة- مثل: عمّار، و صهيب، و ابن مسعود، و أمثالهم من السقّاط-: لو كان ما جاء به خيرا ما سبقنا إليه هؤلاء الفقراء الأذلّاء.

و قيل: لمّا أسلمت جهينة و مزينة و أسلم و غفار، قالت بنو عامر و غطفان و أسد و أشجع: لو كان خيرا ما سبقنا إليه رعاء البهم «1».

و قيل: هذا قول اليهود حين أسلم ابن سلام و أصحابه.

وَ إِذْ لَمْ يَهْتَدُوا بِهِ بالقرآن حيث لم يتدبّروا فيه. و الظرف متعلّق بمحذوف تقديره: و إذ لم يهتدوا به ظهر عنادهم. و قوله: فَسَيَقُولُونَ هذا إِفْكٌ قَدِيمٌ مسبّب عنه. و هذا كقولهم: أساطير الأوّلين.

وَ مِنْ قَبْلِهِ و من قبل القرآن. و هو خبر لقوله: كِتابُ مُوسى ناصب لقوله: إِماماً وَ رَحْمَةً على الحال، كقولك: في الدار

زيد قائما. و المعنى: قدوة يؤتمّ به في دين اللّه و شرائعه، كما يؤتمّ بالإمام. و رحمة لمن آمن به و عمل بما فيه.

وَ هذا كِتابٌ مُصَدِّقٌ لكتاب موسى، أو لما بين يديه لِساناً عَرَبِيًّا حال من ضمير «كتاب» في «مصدّق». أو «كتاب» لتخصّصه بالصفة. و عاملها معنى الإشارة. و ذكر اللسان توكيد، كما تقول: جاءني زيد رجلا صالحا، فتذكر «رجلا» توكيدا. و فائدة هذه الحال الإشعار بالدلالة على أنّه مع كونه مصدّقا للتوراة، مفهوم المراد لكفّار قريش، لأنّه نزل بلغتهم على أفصح الكلام و أبلغ البيان.

و قيل: مفعول «مصدّق». و المعنى: يصدّق ذا لسان عربيّ بإعجازه، و هو الرسول.

لِيُنْذِرَ الَّذِينَ ظَلَمُوا علّة «مصدّق». و فيه ضمير الكتاب، أو اللّه، أو الرسول. و يؤيّد الأخير قراءة نافع و ابن عامر و البزّي بخلاف عنه و يعقوب بالتاء.

وَ بُشْرى لِلْمُحْسِنِينَ عطف على محلّ «لينذر» لأنّه مفعول له.

______________________________

(1) رعاء جمع راعي. و البهم: أولاد البقر و المعز و الضأن. و الواحد: البهمة.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 324

[سورة الأحقاف (46): الآيات 13 الى 14]

إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ (13) أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ خالِدِينَ فِيها جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (14)

إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا أي: جمعوا بين التوحيد الّذي هو خلاصة العلم، و الاستقامة في الأمور الّتي هي منتهى العمل. و «ثمّ» للدلالة على تأخّر رتبة العمل، و توقّف اعتباره على التوحيد. فَلا خَوْفٌ عَلَيْهِمْ من لحوق مكروه وَ لا هُمْ يَحْزَنُونَ على فوات محبوب. و الفاء لتضمّن الموصول معنى الشرط.

أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ المنعّمون فيها خالِدِينَ فِيها حال من المستكن في «أصحاب» جَزاءً مصدر لفعل دلّ عليه الكلام، أي: جوزوا جزاء بِما كانُوا يَعْمَلُونَ

من اكتساب الفضائل العلميّة و العمليّة.

[سورة الأحقاف (46): الآيات 15 الى 20]

وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ ثَلاثُونَ شَهْراً حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَّ وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ وَ إِنِّي مِنَ الْمُسْلِمِينَ (15) أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا وَ نَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ وَعْدَ الصِّدْقِ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (16) وَ الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما أَ تَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ وَ قَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي وَ هُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ وَيْلَكَ آمِنْ إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ حَقٌّ فَيَقُولُ ما هذا إِلاَّ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (17) أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ (18) وَ لِكُلٍّ دَرَجاتٌ مِمَّا عَمِلُوا وَ لِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ (19)

وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَذْهَبْتُمْ طَيِّباتِكُمْ فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ بِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ (20)

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 325

وَ وَصَّيْنَا الْإِنْسانَ بِوالِدَيْهِ إِحْساناً و قرأ الكوفيّون: إحسانا حَمَلَتْهُ أُمُّهُ كُرْهاً وَ وَضَعَتْهُ كُرْهاً انتصابهما على الحال أو على المصدر، أي: ذات كره، أو حملا و وضعا ذاكره. و الكره هو المشقّة، فإنّ الحمل موجب لثقل الولد عليها، و الوضع موجب لشدّة الطلق. و قرأ الحجازيّان و أبو عمرو و هشام بالفتح. و هما لغتان، كالفقر و الفقر.

وَ حَمْلُهُ وَ فِصالُهُ أي: مدّتهما ثَلاثُونَ شَهْراً و قرأ يعقوب: و فصله، كالفطام و الفطم، بناء و

معنى. و المراد بالفصال الرضاع، فإنّه لمّا كان الرضاع يليه الفصال و يلابسه، لأنّه ينتهي به و يتمّ، سمّي فصالا. و فائدة تسمية الرضاع به الدلالة على الرضاع التامّ المنتهي بالفصال. و كلّ ذلك بيان لما تكابده الأمّ في تربية الولد، مبالغة في التوصية بها.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 326

و فيه دليل على أنّ أقلّ مدّة الحمل ستّة أشهر، لأنّه إذا حطّ منه للفصال حولان- لقوله: حَوْلَيْنِ كامِلَيْنِ لِمَنْ أَرادَ أَنْ يُتِمَّ الرَّضاعَةَ «1»- بقي ستّة أشهر. و به قال الأطبّاء. و لعلّ تخصيص أقلّ الحمل و أكثر الرضاع لانضباطهما، و تحقّق ارتباط حكم النسب و الرضاع بهما.

حَتَّى إِذا بَلَغَ أَشُدَّهُ إذا اكتهل «2» و استوفى السنّ الّتي تستحكم فيها قوّته و عقله و تمييزه، و ذلك إذا أناف «3» على الثلاثين و ناطح الأربعين. و عن ابن عبّاس و قتادة: ثلاث و ثلاثون سنة. و وجهه: أن يكون ذلك أوّل الأشدّ، و غايته الأربعين.

و لهذا عطف عليه عطفا تفسيريّا فقال: وَ بَلَغَ أَرْبَعِينَ سَنَةً فإنّه بيان لزمان كمال الأشدّ. و قيل: لم يبعث نبيّ إلّا بعد الأربعين.

قالَ رَبِّ أَوْزِعْنِي ألهمني. و أصله: أولعني، من: أوزعته بكذا. أَنْ أَشْكُرَ نِعْمَتَكَ الَّتِي أَنْعَمْتَ عَلَيَّ وَ عَلى والِدَيَ يعني: نعمة الإسلام، أو ما يعمّها و غيرها.

و جمع بين شكري النعمة عليه و على والديه، لأنّ النعمة عليهما نعمة عليه.

وَ أَنْ أَعْمَلَ صالِحاً تَرْضاهُ نكّره للتعظيم، أو لأنّه أراد نوعا من الجنس يستجلب رضا اللّه عزّ و جلّ. و قيل: هو الصلوات الخمس.

وَ أَصْلِحْ لِي فِي ذُرِّيَّتِي و اجعل لي الصلاح واقعا ساريا في ذرّيّتي راسخا فيهم إِنِّي تُبْتُ إِلَيْكَ عمّا لا ترضاه، أو يشغل عنك وَ إِنِّي مِنَ

الْمُسْلِمِينَ المنقادين لأمرك، المخلصين لك.

أُولئِكَ الَّذِينَ نَتَقَبَّلُ عَنْهُمْ أَحْسَنَ ما عَمِلُوا يعني: طاعاتهم الواجبة و المندوبة بإيجاب الثواب لهم، فإنّ المباح حسن و لا يثاب عليه وَ نَتَجاوَزُ عَنْ سَيِّئاتِهِمْ

______________________________

(1) البقرة: 233.

(2) أي: صار كهلا. و الكهل: من كانت سنو عمره بين الثلاثين و الخمسين تقريبا.

(3) أي: زاد. و ناطح كناية عن الوصول، من: نطح الثور إذا أصاب بقرنه.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 327

لتوبتهم، أو تفضّلا عليهم. و قرأ حمزة و الكسائي و حفص بالنون فيهما.

فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ في محلّ النصب على الحال، أي: كائنين في عدادهم، أو مثابين، أو معدودين فيهم وَعْدَ الصِّدْقِ مصدر مؤكّد لنفسه، فإنّ قوله: «نتقبّل» و «نتجاوز» وعد من اللّه لهم بالتقبّل و التجاوز الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ أي: في الدنيا، بأن يتقبّل من محسنهم و يتجاوز عن مسيئهم إذا تابوا، أو إذا شاء أن يتفضّل عليهم.

وَ الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما مبتدأ خبره «أولئك» الآتي، فإنّ المراد بالموصول الجنس. و الأفّ صوت إذا صوّت به الإنسان علم أنّه متضجّر. فهي كلمة تبرّم يقصد بها إظهار التسخّط. و اللام للبيان. و معناه: بعدا لكما. و قيل: معناه: نتنا و قذرا لكما، كما يقال عند شمّ الرائحة الكريهة. و وجوه قراءاته قد مرّت في سورة بني إسرائيل «1». أَ تَعِدانِنِي أَنْ أُخْرَجَ أبعث حيّا. و قرأ هشام: أ تعدانّي، بنون واحدة مشدّدة. وَ قَدْ خَلَتِ الْقُرُونُ مِنْ قَبْلِي فما أخرجوا، و لم يرجع أحد منهم.

وَ هُما يَسْتَغِيثانِ اللَّهَ يطلبان منه الغوث و يقولان: الغياث باللّه منك. أو يسألانه أن يغيثه بالتوفيق للإيمان. وَيْلَكَ آمِنْ أي: يقولان له: ويلك. و هو دعاء عليه بالثبور. و المراد به الحثّ على ما يخاف على تركه

من الايمان، لا حقيقة الهلاك. إِنَّ وَعْدَ اللَّهِ بالبعث و النشور و الثواب و العقاب حَقٌ ثابت واقع.

فَيَقُولُ هو في جوابهما ما هذا إِلَّا أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أباطيلهم الّتي سطّروها، و ليس لها حقيقة.

و قيل: إنّ الآية نزلت في عبد الرحمن بن أبي بكر، قال له أبواه: أسلم، و ألحّا عليه. فقال: أحيوا لي عبد اللّه بن جدعان و مشايخ قريش حتّى أسألهم عمّا تقولون.

و روي: أنّ معاوية حين كتب إلى مروان بأن يبايع الناس ليزيد، قال عبد الرحمن: لقد جئتم بها هرقليّة، أ تبايعون لأبنائكم؟ فقال مروان: يا أيّها الناس

______________________________

(1) راجع ج 4 ص 23، ذيل الآية 23 من سورة بني إسرائيل.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 328

هو الّذي قال اللّه فيه: «وَ الَّذِي قالَ لِوالِدَيْهِ أُفٍّ لَكُما». فسمعت عائشة فغضبت و قالت: و اللّه ما هو به، و لو شئت أن أسمّيه لسمّيته، و لكنّ اللّه لعن أباك و أنت في صلبه، فأنت فضض «1» من لعنة اللّه.

و الأصحّ: أنّ الآية عامّة في كلّ كافر عاقّ لوالديه، كما يدلّ عليه قوله:

أُولئِكَ الَّذِينَ حَقَّ عَلَيْهِمُ الْقَوْلُ أي: كلمة العذاب بأنّهم أهل النار فِي أُمَمٍ قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلِهِمْ كقوله: «فِي أَصْحابِ الْجَنَّةِ» مِنَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ بيان للأمم. و المعنى:

حالهم على مثل حال أولئك، و اعتقادهم كاعتقادهم. إِنَّهُمْ كانُوا خاسِرِينَ لأنفسهم. تعليل للحكم على الاستئناف.

وَ لِكُلٍ من الفريقين، أعني: المؤمنين البررة، و الكافرين الفجرة دَرَجاتٌ مراتب عالية مِمَّا عَمِلُوا من جزاء ما عملوا من الخير و الشرّ. أو من أجل ما عملوا منهما. و الدرجات غالبة في المثوبة، و ها هنا جاءت على التغليب.

و حقيقة المعنى: قدّر جزاءهم على مقادير أعمالهم، فجعل الثواب درجات، و العقاب

دركات. وَ لِيُوَفِّيَهُمْ أَعْمالَهُمْ وَ هُمْ لا يُظْلَمُونَ بعقاب لا يستحقّونه، أو بمنع ثواب يستحقّونه. و قرأ نافع و حمزة و الكسائي و ابن ذكوان بالنون.

وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ يعذّبون بها، كما يقال: عرض بنو فلان على السيف، إذا قتلوا به. و منه قوله: النَّارُ يُعْرَضُونَ عَلَيْها «2». أو يكون المعنى: عرضت النار عليهم قبل أن يدخلوها ليروا أهوالها.

أَذْهَبْتُمْ أي: يقال لهم: أذهبتم. و هو ناصب اليوم. و قرأ ابن كثير و ابن عامر و يعقوب بالاستفهام، غير أنّ ابن كثير يقرأ بهمزة ممدودة، و هما يقرآن بها و بهمزتين محقّقين. طَيِّباتِكُمْ لذائذكم فِي حَياتِكُمُ الدُّنْيا باستيفائها

______________________________

(1) الفضض: كلّ متفرّق و منتشر. أي: أنت حصيلة تلك اللعنة، فضضت و تفرّقت منها.

(2) غافر: 46.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 329

وَ اسْتَمْتَعْتُمْ بِها انتفعتم بها، فما بقي لكم منها شي ء.

و المعنى: ما كتب لكم حظّ من الطيّبات إلّا ما قد أصبتموه في دنياكم، و قد ذهبتم به و أخذتموه، فلم يبق لكم بعد استيفاء حظّكم شي ء منها.

و قيل: معناه: أنفقتم طيّبات ما رزقتم في شهواتكم و في ملاذّ الدنيا، و لم تنفقوها في مرضات اللّه عزّ و جل.

فَالْيَوْمَ تُجْزَوْنَ عَذابَ الْهُونِ الهوان بِما كُنْتُمْ تَسْتَكْبِرُونَ فِي الْأَرْضِ بِغَيْرِ الْحَقِّ وَ بِما كُنْتُمْ تَفْسُقُونَ بسبب الاستكبار الباطل، و الفسوق عن طاعة اللّه.

و اعلم أنّ اللّه سبحانه لمّا وبّخ الكفّار بالتمتّع بالطيّبات و اللذّات في هذه الدار، آثر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أمير المؤمنين عليه السّلام الزهد و التعفّف، و اجتناب الترفّه و النعمة. و

قد ورد في الحديث أنّ عمر بن الخطّاب قال: استأذنت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و

سلّم، فدخلت عليه في مشربة أمّ إبراهيم، و إنّه لمضطجع على خصفة «1»، و إنّ بعضه لعلى التراب، و تحت رأسه و سادة محشوّة ليفا. فسلّمت ثمّ جلست فقلت: يا رسول اللّه أنت نبيّ اللّه و صفوته و خيرته من خلقه، و كسرى و قيصر على سرر الذهب و فرش الديباج و الحرير. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أولئك قوم عجّلت طيّباتهم، و هي و شيكة الانقطاع، و إنّما أخّرت لنا طيّباتنا».

و

قال عليّ بن أبي طالب عليه السّلام في بعض خطبه: «و اللّه لقد رقعت مدرعتي «2» هذه حتّى استحييت من راقعها. و لقد قال لي قائل: الا تنبذها؟ فقلت: اعزب «3» عنّي، فعند الصباح يحمد القوم السرى».

و

روى محمد بن قيس عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: «و اللّه كان عليّا عليه السّلام ليأكل

______________________________

(1) الخصفة: الثوب الغليظ، أو جلّة تعمل من الخوص.

(2) المدرعة: جبّة مشقوقة المقدّم.

(3) أي: ابتعد عنّي. زبدة التفاسير، ج 6، ص: 330

أكلة العبد، و يجلس جلسة العبد. و إن كان ليشتري القميصين فيخيّر غلامه خيرهما، ثمّ يلبس الآخر، فإذا جاز أصابعه قطعه، و إذا جاز كعبه حذفه. و لقد ولي خمس سنين ما وضع آجرّة على آجرّة، و لا لبنة على لبنة، و لا أورث بيضاء و لا حمراء.

و كان يطعم الناس خبز البرّ و اللحم، و ينصرف إلى منزله فيأكل خبز الشعير و الزيت و الخلّ. و ما ورد عليه أمران كلاهما للّه عزّ و جلّ فيه رضا، إلّا أخذ بأشدّهما على بدنه.

و لقد أعتق ألف مملوك من كدّ يمينه، تربت منه يداه، و عرق فيه وجهه. و ما أطاق عمله أحد من الناس بعده.

ثمّ

إنّه قد اشتهر

في الرواية أنّه عليه السّلام لمّا دخل على العلاء بن زياد بالبصرة يعوده قال له العلاء: يا أمير المؤمنين أشكو إليك أخي عاصم بن زياد، لبس العباءة و تخلّى من الدنيا.

فقال عليه السّلام: عليّ به. فلمّا جاء به قال: يا عديّ «1» نفسه لقد استهام بك الخبيث، أما رحمت أهلك و ولدك. أ ترى اللّه أحلّ لك الطيّبات و هو يكره أن تأخذها؟! أنت أهون على اللّه من ذلك.

قال: يا أمير المؤمنين هذا أنت في خشونة ملبسك، و جشوبة «2» مأكلك! قال: ويحك! إنّي لست كأنت، إنّ اللّه تعالى فرض على أئمّة الحقّ أن يقدّروا أنفسهم بضعفة الناس، كيلا يتبيّغ «3» بالفقير فقره.

روي: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم دخل على أهل الصفّة «4» و هم يرقّعون ثيابهم

______________________________

(1) أي: مبغض نفسه. من: عدي لفلان: أبغضه. فهو على زنة: وفيّ. و استهام بك الخبيث أي:

وسوس فيك الشيطان، فذهب فؤادك، و سلب عقلك. من: استهيم فؤاده أي: ذهب فؤاده و سلب عقله من الحبّ أو غيره.

(2) جشب الطعام: غلظ. فهو جشب.

(3) أي: يهيج و يثور. من: باغ الدم أي: هاج و ثار.

(4) أهل الصفّة: فقراء كانوا يجلسون في صفّة مسجد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و صفّة المسجد: مقعد بالقرب منه مظلّل. زبدة التفاسير، ج 6، ص: 331

بالأدم «1»، ما يجدون لها رقاعا، فقال: «أ أنتم اليوم خير أم يوم يغدو أحدكم في حلّة «2» و يروح في اخرى، و يغدى عليه بجفنة «3» و يراح عليه بأخرى، و يستر بيته كما تستر الكعبة؟ قالوا: نحن يومئذ خير. قال: بل أنتم اليوم خير».

[سورة الأحقاف (46): الآيات 21 الى 28]

وَ اذْكُرْ أَخا عادٍ إِذْ أَنْذَرَ

قَوْمَهُ بِالْأَحْقافِ وَ قَدْ خَلَتِ النُّذُرُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ أَلاَّ تَعْبُدُوا إِلاَّ اللَّهَ إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ (21) قالُوا أَ جِئْتَنا لِتَأْفِكَنا عَنْ آلِهَتِنا فَأْتِنا بِما تَعِدُنا إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ (22) قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَ أُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ (23) فَلَمَّا رَأَوْهُ عارِضاً مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ رِيحٌ فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ (24) تُدَمِّرُ كُلَّ شَيْ ءٍ بِأَمْرِ رَبِّها فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلاَّ مَساكِنُهُمْ كَذلِكَ نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ (25)

وَ لَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ وَ جَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَ أَبْصاراً وَ أَفْئِدَةً فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَ لا أَبْصارُهُمْ وَ لا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ (26) وَ لَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ مِنَ الْقُرى وَ صَرَّفْنَا الْآياتِ لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ (27) فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ وَ ذلِكَ إِفْكُهُمْ وَ ما كانُوا يَفْتَرُونَ (28)

______________________________

(1) الأدم جمع الأديم. و هو: الجلد المدبوغ.

(2) الحلّة: كلّ ثوب جديد، أو الثوب الساتر لجميع البدن.

(3) الجفنة: القصعة الكبيرة، أي: آنية الطعام.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 332

ثمّ خوّف سبحانه كفّار مكّة بما وقع على قوم هود لعنادهم، فقال:

وَ اذْكُرْ يا محمد لأهل مكّة أَخا عادٍ يعني: هودا إِذْ أَنْذَرَ قَوْمَهُ خوّفهم باللّه تعالى بِالْأَحْقافِ جمع حقف. و هو رمل مستطيل مرتفع، فيه انحناء.

من: احقوقف الشي ء إذا اعوجّ. و كانوا يسكنون بين رمال مشرفة على البحر بأرض يقال لها: الشحر، من بلاد اليمن. و قيل: بين عمان و مهرة.

وَ قَدْ خَلَتِ النُّذُرُ جمع نذير بمعنى المنذر، أي:

الرسل المنذرون مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ قبل هود و بعده. يعني: الرسل الّذين بعثوا قبل هود و الّذين بعثوا بعده. و الجملة حال، أو اعتراض بين قوله: «أَنْذَرَ قَوْمَهُ» و أَلَّا تَعْبُدُوا إِلَّا اللَّهَ «أن» مفسّرة للإنذار. و المعنى: أنّ هودا عليه السّلام قد أنذرهم فقال لهم: لا تعبدوا إلّا اللّه، فإنّ النهي عن الشي ء إنذار من مضرّته إِنِّي أَخافُ عَلَيْكُمْ عَذابَ يَوْمٍ عَظِيمٍ هائل بسبب شرككم.

قالُوا أَ جِئْتَنا لِتَأْفِكَنا لتصرفنا عَنْ آلِهَتِنا عن عبادته. يقال: أفكه عن رأيه إذا صرفه عنه فَأْتِنا بِما تَعِدُنا من معاجلة العذاب على الشرك إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ في وعدك.

قالَ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ لا علم لي بوقت عذابكم، و لا مدخل لي فيه فأستعجل به، و إنّما علمه عند اللّه، فيأتيكم به في وقته المقدّر له وَ أُبَلِّغُكُمْ ما أُرْسِلْتُ بِهِ و ما على الرسول إلّا البلاغ وَ لكِنِّي أَراكُمْ قَوْماً تَجْهَلُونَ لا تعلمون

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 333

أنّ الرسل بعثوا مبلّغين منذرين، لا معذّبين مقترحين غير ما أذن لهم فيه.

فَلَمَّا رَأَوْهُ رأوا ما يوعدون. و الهاء تعود إلى «ما تعدنا». عارِضاً سحابا عرض في أفق السماء مُسْتَقْبِلَ أَوْدِيَتِهِمْ متوجّه أوديتهم. و الإضافة فيه لفظيّة. و كذا في قوله: قالُوا هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا أي: يأتينا بالمطر.

روي: كانت عاد قد حبس عنهم المطر أيّاما، فساق اللّه إليهم سحابة سوداء خرجت عليهم من واد لهم يقال له: المغيث، فلمّا رأوه عارضا مستقبل أوديتهم استبشروا و قالوا: هذا سحاب عارض ممطرنا. فقال هود: ليس الأمر كما زعمتم بَلْ هُوَ مَا اسْتَعْجَلْتُمْ بِهِ من العذاب رِيحٌ هي ريح. و يجوز أن يكون بدل «ما» فِيها عَذابٌ أَلِيمٌ صفتها. و كذا

قوله: تُدَمِّرُ تهلك كُلَّ شَيْ ءٍ من نفوسهم و أموالهم بِأَمْرِ رَبِّها. و إضافة الربّ إلى الريح دلالة على أنّ الريح و تصريف أعنّتها ممّا يشهد لعظم قدرته، لأنّها من أعاجيب خلقه و أكابر جنوده.

و ذكر الأمر، و كونها مأمورة من جهته عزّ و علا، يعضد ذلك و يقوّيه.

فَأَصْبَحُوا لا يُرى إِلَّا مَساكِنُهُمْ أي: فجاءتهم الريح فدمّرتهم، فأصبحوا بحيث لو حضرت بلادهم لما ترى إلّا مساكنهم. و قرأ عاصم و حمزة: لا يرى إلّا مساكنهم، بالياء المضمومة، و رفع مساكنهم.

روي: أنّ الريح كانت تحمل الفسطاط و الظعينة «1» فترفعها في الجوّ حتّى ترى كأنّها جرادة.

و قيل: أوّل من أبصر العذاب امرأة منهم قالت: رأيت ريحا فيها كشهب النار.

و روي: أوّل ما عرفوا به أنّه عذاب: رأوا ما كان في الصحراء من رحالهم و مواشيهم تطير به الريح بين السماء و الأرض، فدخلوا بيوتهم و غلّقوا أبوابهم، فقلعت الريح الأبواب و صرعتهم، و أمال اللّه عليهم الأحقاف، فكانوا تحتها سبع ليال

______________________________

(1) الظعينة: الهودج.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 334

و ثمانية أيّام لهم أنين، ثمّ كشفت الريح عنهم، فاحتملتهم فطرحتهم في البحر.

و روي: أنّ هودا لمّا أحسّ بالريح خطّ على نفسه و على المؤمنين خطّا إلى جنب عين تنبع.

و عن ابن عبّاس: اعتزل هود و من معه في حظيرة ما يصيبهم من الريح إلّا ما يلين على الجلود و تلذّه الأنفس، و إنّها لتمرّ من عاد بالظعن بين السماء و الأرض، و تدمغهم بالحجارة.

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه كان إذا رأى الريح فزع و قال: اللّهمّ إنّي أسألك خيرها و خير ما أرسلت به، و أعوذ بك من شرّها و شرّ ما أرسلت به.

و إذا رأى مخيلة «1» قام و قعد، و جاء و ذهب، و تغيّر لونه. فيقال له: يا رسول اللّه ما تخاف؟ فيقول: إنّي أخاف أن يكون مثل قوم عاد حيث قالوا: «هذا عارِضٌ مُمْطِرُنا».

كَذلِكَ مثل ما أهلكنا أهل الأحقاف، و جازيناهم بالعذاب نَجْزِي الْقَوْمَ الْمُجْرِمِينَ الكافرين الّذين يسلكون مسالكهم.

وَ لَقَدْ مَكَّنَّاهُمْ فِيما إِنْ مَكَّنَّاكُمْ فِيهِ «إن» نافية. و هي أحسن من «ما» في اللفظ، لما في مجامعة «ما» مثلها من التكرير المستبشع، و مثله مجتنب. ألا ترى أنّ الأصل في «مهما»: ماما، فلبشاعة التكرير قلبوا الألف هاء. أو شرطيّة محذوفة الجواب. و التقدير: و لقد مكّنّاهم في الّذي أو في شي ء إن مكّنّاكم فيه كان بغيكم أكثر.

و قيل: زائدة، مثلها فيما أنشده الأخفش:

يرجّي المرء ما إن لا يراه و تعرض دون أدناه الخطوب

و المعنى: مكّنّاهم من الطاعات، و جعلناهم قادرين متمكّنين بنصب الأدلّة على التوحيد، و التمكين من النظر فيها، و الترغيب و الترهيب، و إزاحة العلل في

______________________________

(1) المخيلة: السحابة الّتي تحسبها ما طرة.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 335

جميع ذلك، كما مكّنّاكم بها.

و الأوّل أظهر و أوفق، لقوله: هُمْ أَحْسَنُ أَثاثاً وَ رِءْياً «1». كانُوا أَكْثَرَ مِنْهُمْ وَ أَشَدَّ قُوَّةً وَ آثاراً «2». و هو أبلغ في التوبيخ، و أدخل في الحثّ على الاعتبار.

فمعنى الآية: و لقد مكّنّاهم في الشي ء الّذي لم نمكّنكم فيه، من قوّة الأبدان، و بسطة الأجسام، و طول العمر، و كثرة المال.

وَ جَعَلْنا لَهُمْ سَمْعاً وَ أَبْصاراً وَ أَفْئِدَةً ليعرفوا بذلك النعم، و يستدلّوا بها على واهبها، و يواظبوا على شكرها فَما أَغْنى عَنْهُمْ سَمْعُهُمْ وَ لا أَبْصارُهُمْ وَ لا أَفْئِدَتُهُمْ مِنْ شَيْ ءٍ من الإغناء. و هو القليل منه، إذ

لم يستعملوا هذه القوى في النظر و التفكّر فيما يدلّهم على التوحيد، فلم ينفعهم جميع ذلك.

إِذْ كانُوا يَجْحَدُونَ بِآياتِ اللَّهِ صلة ل «ما أغنى». و هو ظرف جرى مجرى التعليل. و كذلك «حيث». و ذلك لاستواء التعليل و الظرف في قولك: ضربته لإساءته، و ضربته إذا أساء، لأنّك إذا ضربته في وقت إساءته، فإنّما ضربته فيه لوجود إساءته فيه، إلّا أنّ «إذ» و «حيث» غلبتا- دون سائر الظروف- في ذلك.

وَ حاقَ بِهِمْ ما كانُوا جزاء ما كانوا بِهِ يَسْتَهْزِؤُنَ من العذاب.

وَ لَقَدْ أَهْلَكْنا ما حَوْلَكُمْ يا أهل مكّة مِنَ الْقُرى أي: من أهل القرى.

و هم: قوم هود كانوا باليمن، و قوم صالح بالحجر، و قوم لوط على طريقهم إلى الشام. وَ صَرَّفْنَا الْآياتِ أي: نكرّرها تارة في الإعجاز، و تارة في الإهلاك، و تارة في التذكير بالنعم، و تارة في التذكير بالنقم، و تارة في وصف الأبرار ليقتدى بهم، و تارة في وصف الفجّار ليجتنب مثل فعلهم لَعَلَّهُمْ يَرْجِعُونَ لكي يرجعوا عن كفرهم.

______________________________

(1) مريم: 74.

(2) غافر: 82.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 336

فَلَوْ لا نَصَرَهُمُ الَّذِينَ اتَّخَذُوا مِنْ دُونِ اللَّهِ قُرْباناً آلِهَةً فهلّا منعتهم من الهلاك آلهتهم الّذين يتقرّبون بهم إلى اللّه، حيث قالوا: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ «1».

و القربان ما يتقرّب به إلى اللّه. و أوّل مفعولي «اتّخذوا» الراجع إلى الموصول محذوف. و ثانيهما «قربانا». و «آلهة» بدل، أو عطف بيان. أو المفعول الثاني «آلهة» و «قربانا» حال، أو مفعول له، على أنّه بمعنى التقرّب.

بَلْ ضَلُّوا عَنْهُمْ غابوا عن نصرهم، فلم تنفعهم عند نزول العذاب بهم، و امتنع أن يستمدّوا بهم امتناع الاستمداد بالضالّ وَ ذلِكَ الاتّخاذ الّذي هذا أثره إِفْكُهُمْ صرفهم عن الحقّ وَ ما

كانُوا يَفْتَرُونَ و افتراؤهم على اللّه الكذب من كونه ذا شركاء.

[سورة الأحقاف (46): الآيات 29 الى 32]

وَ إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِّ يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ فَلَمَّا حَضَرُوهُ قالُوا أَنْصِتُوا فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ (29) قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ يَهْدِي إِلَى الْحَقِّ وَ إِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ (30) يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ وَ آمِنُوا بِهِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (31) وَ مَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ وَ لَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أُولئِكَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (32)

ثمّ بيّن سبحانه أنّ في الجنّ مؤمنين و كافرين كما في الإنس، فقال:

______________________________

(1) يونس: 18.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 337

وَ إِذْ صَرَفْنا إِلَيْكَ نَفَراً مِنَ الْجِنِ أملناهم إليك، و أقبلنا بهم نحوك. و النفر دون العشرة.

و جمعه أنفار. يَسْتَمِعُونَ الْقُرْآنَ حال محمولة على المعنى فَلَمَّا حَضَرُوهُ أي: القرآن، أي: فلمّا كان بمسمع منهم. أو الرسول. قالُوا أَنْصِتُوا قال بعضهم لبعض: اسكتوا لنسمعه فَلَمَّا قُضِيَ أتمّ و فرغ من قراءته، على بناء الفاعل، و هو ضمير الرسول وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ أي: منذرين إيّاهم بما يسمعوا.

عن سعيد بن جبير و الزهري و جماعة: أنّه لمّا توفّي أبو طالب اشتدّ البلاء على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فعمد ليقف بالطائف رجاء أن يؤووه، فوجد ثلاثة نفر منهم، هم سادة، و هم إخوة: عبد ياليل، و مسعود، و حبيب بنو عمرو. فعرض عليهم نفسه.

فقال أحدهم: أنا أسرق ثياب الكعبة إن كان اللّه بعثك بشي ء قطّ.

و قال الآخر: أعجز على اللّه أن يرسل غيرك.

و قال الآخر: و اللّه لا أكلّمك بعد مجلسك هذا أبدا. فلئن

كنت رسولا كما تقول، فأنت أعظم خطرا من أن يردّ عليك الكلام. و إن كنت تكذب على اللّه، فما ينبغي لي أن أكلّمك بعد.

و تهزّؤا به، و أفشوا في قومه ما راجعوه به. فقعدوا له صفّين على طريقه، فلمّا مرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بين صفّيهم جعلوا لا يرفع رجليه و لا يضعهما إلّا رضخوهما بالحجارة، حتّى أدموا رجليه، فخلص منهم و هما تسيلان دما.

فعمد إلى حائط من حوائطهم، و استظلّ في ظلّ نخلة منه، و هو مكروب موجع، تسيل رجلاه دما، فإذا في الحائط عتبة بن ربيعة و شيبة بن ربيعة، فلمّا رآهما كره مكانهما، لما يعلم من عداوتهما للّه و رسوله. فلمّا رأياه أرسلا إليه غلاما لهما يدعى عداس، معه عنب، و هو نصرانيّ من أهل نينوى. فلمّا جاءه قال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من أيّ أرض أنت؟

قال: من أهل نينوى.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 338

قال عليه السّلام: من مدينة العبد الصالح يونس بن متّى؟

فقال له عداس: و ما يدريك من يونس بن متّى؟

قال: أنا رسول اللّه، و اللّه تعالى أخبرني خبر يونس بن متّى. فلمّا أخبره بما أوحى اللّه إليه من شأن يونس، خرّ عداس ساجدا للّه و لرسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و جعل يقبّل قدميه، و هما يسيلان الدم.

فلمّا أبصر عتبة و شيبة ما يصنع غلامهما سكتا. فلمّا أتاهما قالا: ما شأنك سجدت لمحمّد، و قبّلت قدميه، و لم نرك فعلت ذلك بأحد منّا.

قال: هذا رجل صالح أخبرني بشي ء عرفته من شأن رسول بعثه اللّه إلينا، يدعى: يونس بن متّى.

فضحكا و قالا: لا يفتننّك عن نصر انيّتك،

فإنّه رجل خدّاع.

فرجع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى مكّة، حتّى إذا كان بنخلة قام في جوف الليل يصلّي، فمرّ به نفر من جنّ أهل نصيبين- و قيل: من اليمن- فوجدوه يصلّي صلاة الغداة و يتلو القرآن، فاستمعوا له.

و

روي: أنّ الجنّ كانت تسترق السمع، فلمّا حرست السماء و رجموا بالشهب قالوا: ما هذا إلّا لنبأ حدث. فنهض سبعة أو تسعة من أشراف جنّ نصيبين أو نينوى- منهم زوبعة- فضربوا حتّى بلغوا تهامة، ثمّ اندفعوا إلى وادي نخلة، فوافوا رسول اللّه و هو قائم في جوف الليل يصلّي، أو في صلاة الفجر، فاستمعوا لقراءته.

و

قال آخرون: أمر رسول اللّه أن ينذر الجنّ و يدعوهم إلى اللّه، و يقرأ عليهم القرآن. فصرف اللّه إليه نفرا من الجنّ من نينوى. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّي أمرت أن أقرأ على الجنّ الليلة، فأيّكم يتبعني؟ قالها ثلاثا. فأطرقوا إلّا عبد اللّه بن مسعود.

قال: و لم يحضر معه أحد غيري، فانطلقنا حتّى إذا كنّا بأعلى مكّة، و دخل نبيّ اللّه شعبا يقال له شعب الحجون، فخطّ لي خطّا ثمّ أمرني أن أجلس فيه، و قال:

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 339

لا تخرج منه حتّى أعود إليك. ثمّ انطلق حتّى قام، فافتتح القرآن فغشيته أسودة كثيرة حالت بيني و بينه، حتّى لم أسمع صوته. ثمّ انطلقوا و طفقوا يتقطّعون مثل قطع السحاب ذاهبين.

فقال لي رسول اللّه: هل رأيت شيئا؟

فقلت: نعم، رأيت رجالا سودا مستثفري «1» ثياب بيض.

قال: أولئك جنّ نصيبين. و كانوا اثني عشر ألفا. و السورة الّتي قرأها عليهم «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ».

و

روى علقمة عن عبد اللّه قال: لم أكن مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله

و سلّم ليلة الجنّ، و وددت أنّي كنت معه.

و

روي عن ابن عبّاس: أنّهم كانوا سبعة نفر من جنّ نصيبين، فجعلهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رسلا إلى قومهم.

و قال زرّ بن حبيش: كانوا تسعة نفر، منهم زوبعة.

و

روى محمد بن المنكدر عن جابر بن عبد اللّه قال: لمّا قرأ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الرحمن على الناس سكتوا، فلم يقولوا شيئا. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الجنّ كانوا أحسن جوابا منكم، لمّا قرأت عليهم: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ قالوا: لا و لا بشي ء من آلائك ربّنا نكذّب».

ثمّ بيّن سبحانه تمام خبر الجنّ، فقال حاكيا عنهم: قالُوا يا قَوْمَنا إِنَّا سَمِعْنا كِتاباً أُنْزِلَ مِنْ بَعْدِ مُوسى يعنون القرآن. عن عطاء: إنّما قالوا ذلك لأنّهم كانوا يهودا. و عن ابن عبّاس: لأنّهم ما سمعوا بأمر عيسى مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيْهِ لما تقدّمه من الكتب يَهْدِي إِلَى الْحَقِ من أصول العقائد الحقّة وَ إِلى طَرِيقٍ مُسْتَقِيمٍ من فروع الشرائع.

______________________________

(1) الاستثفار: أن يدخل إزاره بين فخذيه ملويا، كما يفعل الكلب بذنبه.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 340

يا قَوْمَنا أَجِيبُوا داعِيَ اللَّهِ يعنون محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، إذ دعاهم إلى توحيده و خلع الأنداد دونه وَ آمِنُوا بِهِ باللّه يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ بعض ذنوبكم، و هو ما يكون في خالص حقّ اللّه، فإنّ المظالم لا تغفر بالإيمان. و نحوه قوله تعالى: أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ «1». وَ يُجِرْكُمْ و يخلّصكم مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ هو معدّ للكفّار.

وَ مَنْ لا يُجِبْ داعِيَ اللَّهِ فَلَيْسَ بِمُعْجِزٍ فِي الْأَرْضِ فلا يعجز اللّه،

إذ لا ينجى منه مهرب، و لا يسبق قضاءه سابق. و نحوه قوله تعالى: وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَ لَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً «2». وَ لَيْسَ لَهُ مِنْ دُونِهِ أَوْلِياءُ أنصار يمنعونه من اللّه، و يدفعون عنه العذاب أُولئِكَ يعني: الّذين لا يجيبون داعي اللّه فِي ضَلالٍ مُبِينٍ حيث أعرضوا عن إجابة من هذا شأنه.

و اعلم أنّه اختلف في أنّه هل للجنّ ثواب كالإنس؟ فقال أبو حنيفة: لا ثواب لهم إلّا النجاة من النار، لقوله: وَ يُجِرْكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ «3». و الصحيح: أنّهم في حكم بني آدم، لأنّهم مكلّفون مثلهم.

و

عن عليّ بن إبراهيم قال: «فجاؤا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و آمنوا به، و علّمهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم شرائع الإسلام، فأنزل اللّه تعالى: قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ «4» إلى آخر السورة، و كانوا يعودون إلى رسول اللّه في كلّ وقت» «5».

و في هذا دلالة على أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان مبعوثا إلى الجنّ، كما كان مبعوثا إلى

______________________________

(1) نوح: 3- 4.

(2) الجنّ: 12.

(3) الأحقاف: 31.

(4) الجنّ: 1.

(5) تفسير عليّ بن إبراهيم 2: 299- 300.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 341

الإنس. و لم يبعث اللّه نبيّا إلى الإنس و الجنّ قبله.

[سورة الأحقاف (46): الآيات 33 الى 35]

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَّ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى بَلى إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (33) وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِّ قالُوا بَلى وَ رَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ (34) فَاصْبِرْ كَما صَبَرَ أُولُوا

الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ وَ لا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ ساعَةً مِنْ نَهارٍ بَلاغٌ فَهَلْ يُهْلَكُ إِلاَّ الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ (35)

و لمّا صدّر السورة بتحقيق المبدأ، أراد ختمها بإثبات المعاد، فقال:

أَ وَ لَمْ يَرَوْا أولم يعلموا أَنَّ اللَّهَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ لَمْ يَعْيَ بِخَلْقِهِنَ أي: لم يصبه في خلق ذلك إعياء و لا تعب، و لم يعجز عنه. يقال: فلان عيّ بأمره، إذا لم يهتد له و لم يقدر عليه، أي: قدرته التامّة ثابتة على حالها بعد خلق السماوات و الأرض، و لا تنقص و لا تنقطع بإيجادهما.

بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى في محلّ الرفع على أنّه خبر «أنّ». و يدلّ عليه قراءة يعقوب: يقدر. و إنّما دخلت الباء المزيدة عليه، لاشتمال النفي في أوّل الآية على «أنّ» و ما في حيّزها، كأنّه قال: أليس اللّه بقادر. و لذلك أجاب عنه بقوله: بَلى هو قادر عليه إِنَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ تقريرا للقدرة على وجه عامّ يكون كالبرهان على المقصود، و هو قدرته على البعث.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 342

وَ يَوْمَ يُعْرَضُ الَّذِينَ كَفَرُوا عَلَى النَّارِ منصوب بقول مضمر مقوله أَ لَيْسَ هذا بِالْحَقِ و الإشارة إلى العذاب، بدليل قوله: قالُوا بَلى وَ رَبِّنا قالَ فَذُوقُوا الْعَذابَ بِما كُنْتُمْ تَكْفُرُونَ بكفركم في الدنيا. و معنى الأمر هو الإهانة بهم، و التوبيخ لهم على استهزائهم بوعد اللّه و وعيده، و قولهم: وَ ما نَحْنُ بِمُعَذَّبِينَ «1».

فَاصْبِرْ يا محمد على أذى هؤلاء الكفّار، و على ترك إجابتهم لك كَما صَبَرَ أُولُوا الْعَزْمِ مِنَ الرُّسُلِ أولوا الثبات و الجدّ منهم، فإنّك من جملتهم. و «من» للتبيين. و قيل: للتبعيض. و

أولوا العزم أصحاب

الشرائع اجتهدوا في تأسيسها و تقريرها، و صبروا على تحمّل مشاقّها و معاداة الطاعنين فيها. و مشاهيرهم: نوح، و إبراهيم، و موسى، و عيسى، و محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و هو المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.

و مرويّ أيضا عن ابن عبّاس و قتادة.

و قيل: الصابرون على بلاء اللّه، كنوح صبر على أذى قومه، كانوا يضربونه حتّى يغشى عليه. و إبراهيم على النار، و ذبح ولده. و الذبيح على الذبح. و يعقوب على فقد الولد، و ذهاب بصره. و يوسف على الجبّ و السجن. و أيّوب على الضرّ.

و موسى قال له قومه: إِنَّا لَمُدْرَكُونَ قالَ كَلَّا إِنَّ مَعِي رَبِّي سَيَهْدِينِ «2». و داود بكى على ترك ندبه أربعين سنة. و عيسى لم يضع لبنة على لبنة. قال: إنّها معبر، فاعبروها و لا تعمروها. و قال اللّه تعالى في آدم: وَ لَمْ نَجِدْ لَهُ عَزْماً «3». و في يونس وَ لا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ «4».

وَ لا تَسْتَعْجِلْ لَهُمْ لكفّار قريش بالعذاب، أي: لا تدع عليهم بتعجيله، فإنّه

______________________________

(1) الصافّات: 59.

(2) الشعراء: 61- 62.

(3) طه: 115.

(4) القلم: 48.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 343

نازل بهم لا محالة و إن تأخّر كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَ ما يُوعَدُونَ من العذاب في الآخرة لَمْ يَلْبَثُوا في الدنيا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ أي: إذا عاينوا العذاب استقصروا من هوله مدّة لبثهم في الدنيا و البرزخ، حتّى يحسبوها ساعة من نهار.

بَلاغٌ هذا الّذي وعظتم به أو هذه السورة بلاغ، أي: كفاية. أو هذا تبليغ من الرسول. و قيل: مبتدأ خبره «لهم»، و ما بينهما اعتراض، أي: لهم وقت يبلغون إليه، كأنّهم إذا بلغوه و رأوا ما فيه

استقصروا مدّة عمرهم. فَهَلْ يُهْلَكُ أي: لا يهلك إِلَّا الْقَوْمُ الْفاسِقُونَ الخارجون من أمر اللّه، المتمرّدون في الفسق و المعاصي.

و عن الزجّاج: ما جاء في رجاء رحمة اللّه شي ء أبلغ من هذه الآية.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 345

(47) سورة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

اشارة

و تسمّى سورة القتال. و هي مدنيّة. و

قال ابن عبّاس و قتادة: غير آية منها نزلت على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو يريد التوجّه إلى المدينة من مكّة، و جعل ينظر إلى البيت و هو يبكي حزنا عليه، فنزلت: وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الآية.

و هي ثمان و ثلاثون آية.

أبيّ بن كعب قال: «قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من قرأ سورة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان حقّا على اللّه أن يسقيه من أنهار الجنّة».

و

روى أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأها لم يدخله شكّ في دينه أبدا، و لم يزل محفوظا من الشرك و الكفر أبدا حتّى يموت، فإذا مات و كلّ اللّه به في قبره ألف ملك يصلّون في قبره، و يكون ثواب صلواتهم له، و يشيّعونه حتّى يوقفوه موقف الأمن عند اللّه، و يكون في أمان اللّه و أمان محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

و

قال عليه السّلام: «من أراد أن يعرف حالنا و حال أعدائنا فليقرأ سورة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإنّه يراها آية فينا و آية فيهم».

[سورة محمد (47): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (1) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ آمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ وَ هُوَ الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ أَصْلَحَ بالَهُمْ (2) ذلِكَ بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ كَذلِكَ يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ أَمْثالَهُمْ (3)

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 346

و اعلم أنّ اللّه سبحانه لمّا ختم

تلك السورة بوعيد الكفّار، افتتح هذه السورة بمثلها، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ امتنعوا عن الدخول في الإسلام و سلوك طريقه، أو منعوا الناس عنه. و هم المطعمون يوم بدر.

و كانوا عشرة أنفس، أطعم كلّ واحد منهم الجند يوما. و عن مقاتل: كانوا اثني عشر رجلا من أهل الشرك، يصدّون الناس عن الإسلام، و يأمرونهم بالكفر. أو شياطين قريش. أو المصرّون من أهل الكتاب، صدّوا من أراد منهم و من غيرهم أن يدخل في الإسلام. أو عامّ في جميع من كفر و صدّ.

أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ أي: جعل مكارمهم- كصلة الرحم، و فكّ الأسارى، و حفظ الجوار- ضالّة، أي: ضائعة محبطة بالكفر. أو جعلها ضالّة في كفرهم و معاصيهم، كالضالّة من الإبل الّتي هي مضيّعة لا ربّ لها يحفظها و يعتني بأمرها. أو مغلوبة مغمورة في الكفر، كما يضلّ الماء في اللبن. أو ضلالا، حيث لم يقصدوا به وجه اللّه. أو أبطل ما عملوه من الكيد لرسوله و الصدّ عن سبيله، بنصر رسوله، و إظهار دينه على الدين كلّه.

وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ يعمّ المهاجرين و الأنصار و الّذين آمنوا من أهل الكتاب و غيرهم وَ آمَنُوا بِما نُزِّلَ عَلى مُحَمَّدٍ تخصيص للمنزل عليه ممّا

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 347

يجب الإيمان به تعظيما له، و إشعارا بأنّ الإيمان لا يتمّ بدونه، و أنّه الأصل فيه.

و لذلك أكّده بالجملة الاعتراضيّة الّتي هي قوله: وَ هُوَ أي: و ما نزل على محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الْحَقُّ مِنْ رَبِّهِمْ و حقيقته بكونه ناسخا لا ينسخ كَفَّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ سترها، و غفر لهم بالإيمان و عملهم الصالح ما كان منهم من

الكفر و المعاصي، لرجوعهم عنها و توبتهم وَ أَصْلَحَ بالَهُمْ شأنهم و حالهم في الدين و الدنيا، بالتوفيق و اللطف في امور الدين، و بالتسليط على الدنيا بما أعطاهم من النصرة و التأييد.

ذلِكَ إشارة إلى ما مرّ من إضلال أعمال أحد الفريقين، و تكفير سيّئات الثاني، و الإصلاح. و هو مبتدأ خبره بِأَنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا اتَّبَعُوا الْباطِلَ وَ أَنَّ الَّذِينَ آمَنُوا اتَّبَعُوا الْحَقَّ مِنْ رَبِّهِمْ أي: ذلك كائن بسبب اتّباع هؤلاء الباطل، و اتّباع هؤلاء الحقّ. و هذا تصريح بما أشعر به ما قبلها، و لذلك سمّي تفسيرا.

كَذلِكَ مثل ذلك الضرب يَضْرِبُ اللَّهُ لِلنَّاسِ يبيّن لهم أَمْثالَهُمْ أحوال الفريقين، أو أحوال الناس. أو يضرب أمثالهم، بأن جعل اتّباع الباطل مثلا لعمل الكفّار، و الإضلال مثلا لخيبتهم، و اتّباع الحقّ مثلا للمؤمنين، و تكفير السيّئات مثلا لفوزهم، لرجوعهم عنها و توبتهم.

[سورة محمد (47): الآيات 4 الى 9]

فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا فَضَرْبَ الرِّقابِ حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَ إِمَّا فِداءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها ذلِكَ وَ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لانْتَصَرَ مِنْهُمْ وَ لكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ وَ الَّذِينَ قُتِلُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ (4) سَيَهْدِيهِمْ وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ (5) وَ يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ يَنْصُرْكُمْ وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ (7) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ وَ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ (8)

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (9)

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 348

ثمّ أمر سبحانه بقتال الكفّار، فقال: فَإِذا لَقِيتُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا في المحاربة فَضَرْبَ الرِّقابِ أصله: فاضربوا الرقاب ضربا، فحذف الفعل، و قدّم المصدر، و أنيب منابه، مضافا إلى المفعول. ففيه اختصار، مع معنى التوكيد. و التعبير به عن القتل

إشعار بأنّه ينبغي أن يكون بضرب الرقبة حيث أمكن، إن اختاره الإمام عندنا.

و تصوير له بأشنع صورة، لأنّ في هذه العبارة من الغلظة و الشدّة ما ليس في لفظ القتل، و هو حزّ العنق، و إطارة العضو الّذي هو رأس البدن و علوه «1» و أوجه أعضائه. و لقد زاد في هذه الغلظة في قوله تعالى: فَاضْرِبُوا فَوْقَ الْأَعْناقِ وَ اضْرِبُوا مِنْهُمْ كُلَّ بَنانٍ «2».

حَتَّى إِذا أَثْخَنْتُمُوهُمْ أكثرتم قتلهم و أغلظتموه. من الثخين، و هو الغليظ.

أو أثقلتموهم بالقتل و الجراح حتّى أذهبتم عنهم النهوض. فَشُدُّوا الْوَثاقَ فأسروهم و احفظوهم. و الوثاق بالفتح و الكسر اسم ما يوثق به. فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ فإمّا تمنّون منّا وَ إِمَّا فِداءً و إمّا تفدون فداء.

و المراد التخيير بعد الأسر بين المنّ و الإطلاق، و بين أخذ الفداء. و هو ثابت عند الشافعيّة، فإنّ الذكر الحرّ المكلّف إذا أسر تخيّر الامام بين القتل و المنّ و الفداء

______________________________

(1) علو الشي ء: نقيض سفله و سفالته.

(2) الأنفال: 12.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 349

و الاسترقاق. و عند الحنفيّة يتخيّر بين القتل و الاسترقاق. فعلى قولهم الآية منسوخة، أو مخصوصة بحرب بدر. و ظاهر الآية قريب من مذهب الشافعيّة.

و في التحقيق الآية تمنع القتل بعد الإثخان و الأسر، لتقييد المنّ و الفداء بكونه بعد الأسر، و لم يذكر معهما القتل. و على التقادير؛ فالاسترقاق علم بالسنّة. هذا، و قد قيل: إنّ الأسر كان محرّما بقوله: ما كانَ لِنَبِيٍّ أَنْ يَكُونَ لَهُ أَسْرى «1». حتّى نسخ بهذه الآية.

حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزارَها أي: يضع أهل الحرب آلاتها و أثقالها الّتي لا تقوم الحرب إلّا بها، كالسلاح و الخيل و الركاب، أي: تنقضي الحرب و لم يبق إلّا مسلم

أو مسالم. و سمّيت أوزارها، لأنّه لمّا لم يكن لها بدّ من جرّها فكأنّها تحملها و تستقلّ بها، فإذا انقضت فكأنّها وضعتها. و قيل: آثامها. و المعنى: حتّى يضع أهل الحرب شركهم و معاصيهم. و هو غاية للضرب، أو الشدّ، أو للمنّ و الفداء، أو للمجموع. يعني: أنّ هذه الأحكام جارية فيهم حتّى لا يكون حرب مع المشركين بزوال شوكتهم. و قيل: بنزول عيسى.

و قال الحسن: إنّ الامام مخيّر بين المنّ و الفداء و الاسترقاق، و ليس له القتل بعد الأسر. فكأنّه جعل في الآية تقديما و تأخيرا، تقديره: فضرب الرقاب حتّى تضع الحرب أوزارها. ثمّ قال: حتّى إذا أثخنتموهم فشدّوا الوثاق فإمّا منّا و إمّا فداء.

و قيل: حكم الآية منسوخ بآية السيف «2». و ليس بشي ء، لأصالة عدم النسخ.

و التخصيص خير منه.

و

المنقول عن أهل البيت عليهم السّلام: أنّ الأسير إن أخذ و الحرب قائمة، كان الإمام

______________________________

(1) الأنفال: 67.

(2) التوبة: 5 و 29. زبدة التفاسير، ج 6، ص: 350

زبدة التفاسير ج 6 399

مخيّرا بين أن يقتله، أو يقطع يده و رجله من خلاف، و يتركه حتّى ينزف و يموت.

و إن أخذ بعد انقضاء الحرب تخيّر الامام بين المنّ و الفداء و الاسترقاق، و لا يجوز القتل. و لو حصل منه الإسلام في الحالين منع القتل خاصّة.

فعلى هذا يكون قول الحسن موافقا لمذهبنا. و يقوى القول بالتقديم و التأخير، و لا حرج في ذلك.

ذلِكَ أي: الأمر ذلك، أو افعلوا بهم ذلك وَ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ لَانْتَصَرَ مِنْهُمْ لانتقم منهم ببعض أسباب الهلكة، من خسف، أو رجفة، أو حاصب، أو غرق، أو موت مستأصل وَ لكِنْ لِيَبْلُوَا بَعْضَكُمْ بِبَعْضٍ و لكن أمركم بالقتال ليبلو المؤمنين بالكافرين،

بأن يجاهدوهم فيستوجبوا الثواب العظيم، و الكافرين بالمؤمنين، بأن يعاجلهم على أيديهم ببعض عذابهم كي يرتدع بعضهم عن الكفر.

«و الذين قاتلوا» جاهدوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ قرأ البصريّان و حفص: قتلوا، أي: استشهدوا فَلَنْ يُضِلَّ أَعْمالَهُمْ فلن يضيّعها سَيَهْدِيهِمْ إلى الثواب، أو سيثبت هدايتهم وَ يُصْلِحُ بالَهُمْ بالرسوخ على العقيدة الحقّة وَ يُدْخِلُهُمُ الْجَنَّةَ عَرَّفَها لَهُمْ و قد عرّفها لهم في الدنيا حتّى اشتاقوا إليها، فعملوا ما استحقّوها به. أو بيّنها لهم بحيث يعلم كلّ واحد منزله و يهتدي إليه.

قال مجاهد: يهتدي أهل الجنّة إلى مساكنهم منها لا يخطئون، كأنّهم كانوا سكّانها منذ خلقوا.

و عن مقاتل: إنّ الملك الّذي و كلّ بحفظ عمله في الدنيا يمشي بين يديه، فيعرّفه كلّ شي ء أعطاه اللّه.

أو طيّبها لهم، من العرف و هو طيب الرائحة. أو حدّدها لهم بحيث يكون لكلّ جنّة مفرزة عن غيرها.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ تَنْصُرُوا اللَّهَ أي: إن تنصروا دينه و رسوله يَنْصُرْكُمْ على عدوّكم وَ يُثَبِّتْ أَقْدامَكُمْ في مواطن الحرب، بالتشجيع و تقوية القلوب و تثبيتها. أو على محجّة الإسلام، و القيام بحقوقه.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 351

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا فَتَعْساً لَهُمْ فعثورا و انحطاطا و هلاكا. و نقيضه: لعا له، أي:

نجاة. و تقول للعاثر: لعا لك، إذا دعوت بالانتعاش و الثبات. و انتصابه بفعله الواجب إضماره سماعا، تقديره: فقال: تعسا لهم، أو فقضى تعسا لهم، أو أتعسهم اللّه فتعسوا تعسا. و الجملة خبر «الّذين كفروا». وَ أَضَلَّ أَعْمالَهُمْ عطف عليه. و عن ابن عبّاس: يريد: في الدنيا القتل، و في الآخرة التردّي في النار.

ذلِكَ التعس و الإضلال بِأَنَّهُمْ كَرِهُوا ما أَنْزَلَ اللَّهُ القرآن، لما فيه من التوحيد و التكاليف المخالفة لما ألفوه و اشتهته

أنفسهم، من الإهمال و إطلاق العنان في الشهوات و الملاذّ، فشقّ ذلك عليهم و تعاظمهم. و هذا تصريح بسببيّة الكفر بالقرآن للتعس و الإضلال. فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ كرّره إشعارا بأنّ إحباط الأعمال يلزم الكفر، و لا ينفكّ عنه بحال.

[سورة محمد (47): الآيات 10 الى 11]

أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ لِلْكافِرِينَ أَمْثالُها (10) ذلِكَ بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وَ أَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ (11)

ثمّ نبّههم سبحانه على الاستدلال على صحّة ما دعاهم إليه من التوحيد و إخلاص العبادة للّه، فقال:

أَ فَلَمْ يَسِيرُوا فِي الْأَرْضِ فَيَنْظُرُوا كَيْفَ كانَ عاقِبَةُ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ دَمَّرَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ استأصل عليهم ما اختصّ بهم من أنفسهم و أهليهم و أموالهم وَ لِلْكافِرِينَ من وضع الظاهر موضع الضمير أَمْثالُها أمثال تلك العاقبة المذكورة. أو العقوبة.

أو الهلكة، لأنّ التدمير يدلّ عليها. أو السنّة، لقوله: سُنَّتَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ «1».

______________________________

(1) غافر: 85.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 352

سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا «1».

ذلِكَ أي: الّذي فعلناه في الفريقين بِأَنَّ اللَّهَ مَوْلَى الَّذِينَ آمَنُوا وليّهم و ناصرهم على أعدائهم و حافظهم وَ أَنَّ الْكافِرِينَ لا مَوْلى لَهُمْ ينصرهم، فيدفع العذاب عنهم عاجلا أو آجلا. و هو لا يخالف قوله: وَ رُدُّوا إِلَى اللَّهِ مَوْلاهُمُ الْحَقِ «2» فإنّ المولى فيه بمعنى المالك.

[سورة محمد (47): الآيات 12 الى 15]

إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ وَ يَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ وَ النَّارُ مَثْوىً لَهُمْ (12) وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ أَهْلَكْناهُمْ فَلا ناصِرَ لَهُمْ (13) أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (14) مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ وَ أَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ وَ أَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ وَ أَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى وَ لَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ وَ مَغْفِرَةٌ

مِنْ رَبِّهِمْ كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَ سُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ (15)

______________________________

(1) الأحزاب: 38.

(2) يونس: 30.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 353

ثمّ ذكر مآل حال الفريقين بقوله: إِنَّ اللَّهَ يُدْخِلُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ من تحت أشجارها و أبنيتها وَ الَّذِينَ كَفَرُوا يَتَمَتَّعُونَ ينتفعون بمتاع الدنيا أيّاما قلائل وَ يَأْكُلُونَ كَما تَأْكُلُ الْأَنْعامُ في مسارحها و معالفها، غافلة عمّا هي بصدده من النحر و الذبح. فهم أيضا يكونون حريصين غافلين عن و خامة العاقبة، غير مفكّرين فيها. وَ النَّارُ مَثْوىً لَهُمْ منزل و مقام لهم.

وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ هِيَ أَشَدُّ قُوَّةً مِنْ قَرْيَتِكَ الَّتِي أَخْرَجَتْكَ على حذف المضاف و إجراء أحكامه على المضاف إليه. كأنّه قال: و كم من قرية هم أشدّ قوّة من قومك الّذين أخرجوك، أي: كانوا سبب خروجك. أَهْلَكْناهُمْ بأنواع العذاب فَلا ناصِرَ لَهُمْ يدفع عنهم العذاب. و هو كالحال المحكيّة، كقولك: أهلكناهم فهم لا ينصرون.

ثمّ قال سبحانه على وجه التهجين و التوبيخ للكفّار و المنافقين:

أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ حجّة واضحة من عنده. و هو القرآن المعجز و سائر المعجزات. أو ما يعمّه من الحجج العقليّة للمؤمنين. كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ من الشرك و المعاصي. و هم أهل مكّة الّذين زيّن لهم الشيطان شركهم و عداوتهم للّه و رسوله. وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ شهواتهم في ذلك، لا شبهة لهم عليه فضلا عن حجّة. و توحيد الضمير أوّلا و جمعه ثانيا على اللفظ و المعنى.

مَثَلُ الْجَنَّةِ الَّتِي وُعِدَ الْمُتَّقُونَ صفة الجنّة العجيبة الشأن فيما قصصنا عليك. و قيل: هو مبتدأ خبره «كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ» الآتي بعد.

و هذا كلام صورته الإثبات، و معناه

النفي و الإنكار، لانطوائه تحت حكم كلام مصدّر بحرف الإنكار، و دخوله في حيّزه، و انخراطه في سلكه. فهو كقوله:

أَ فَمَنْ كانَ عَلى بَيِّنَةٍ مِنْ رَبِّهِ كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ فكأنّه قيل: أمثل أهل الجنّة

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 354

كمثل من هو خالد؟ أو أمثل الجنّة كمثل جزاء من هو خالد؟ و حذف ما حذف استغناء بجري مثله.

و في تعريته من حرف الإنكار زيادة تصوير لمكابرة من يسوّي بين المتمسّك بالبيّنة و التابع لهواه، و أنّه بمنزلة من يسوّي بين الجنّة الّتي تجري فيها تلك الأنهار، و بين النار الّتي يسقى أهلها الحميم. و نظيره: قول القائل:

أفرح أن أرزأ الكرام و أن أورث ذودا «1» شصائصا نبلا

فإنّه كلام منكر للفرح برزيّة الكرام و وراثة الذود، مع تعرّيه عن حرف الإنكار، لانطوائه تحت قول من قال: أ تفرح بموت أخيك و بوارثة إبله؟ و الّذي طرح لأجله حرف الإنكار إرادة أن يصوّر قبح ما اتّهم به. فكأنّه قال: نعم، مثلي يفرح بمرزأة الكرام، و بأن يستبدل منهم ذودا يقلّ طائله. و هو من التسليم الّذي تحته كلّ إنكار.

و على الأوّل قوله: «كمن هو خالد» خبر محذوف، تقديره: أ فمن هو خالد في هذه الجنّة كمن هو خالد في النار؟ أو بدل من قوله: «كَمَنْ زُيِّنَ لَهُ سُوءُ عَمَلِهِ».

و ما بينهما اعتراض لبيان ما يمتاز به من على بيّنة في الآخرة، تقريرا لإنكار المساواة.

فِيها أَنْهارٌ مِنْ ماءٍ غَيْرِ آسِنٍ استئناف لشرح المثل، كأنّ قائلا قال: و ما مثلها؟ فقيل: فيها أنهار. و يجوز أن يكون في موضع الحال، أي: مستقرّة فيها أنهار.

أو خبر ل «مثل». و «آسن» من: أسن الماء بالفتح إذا تغيّر طعمه و ريحه، أو

بالكسر على معنى الحدوث. و قرأ ابن كثير: أسن بغير مدّ.

______________________________

(1) الذّود: الإبل لا يتجاوز عددها الثلاثين و لا يقلّ عن الثلاث. و الشصائص جمع الشصوص:

الناقة أو الشاة القليلة اللبن. و النبل: الكبار من الإبل، و الصغار منها، فهو من الأضداد.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 355

وَ أَنْهارٌ مِنْ لَبَنٍ لَمْ يَتَغَيَّرْ طَعْمُهُ لم يصر قارصا «1» و لا حازرا، كما يكون في ألبان الدنيا.

وَ أَنْهارٌ مِنْ خَمْرٍ لَذَّةٍ لِلشَّارِبِينَ لذيذة لا يكون فيها غائلة مرارة و سكر و خمار و ريح و صداع. و هي تأنيث لذّ، و هو اللذيذ. أو مصدر نعت به بإضمار ذات، أي: ذات لذّة. أو تجوّز. و المعنى: ما هو إلّا التلذّذ الخالص، ليس معه ذهاب عقل و لا خمار، و لا آفة من آفات الخمار.

وَ أَنْهارٌ مِنْ عَسَلٍ مُصَفًّى لم يخالطه الشمع و الرغوة، و سائر فضلات النحل و غيرها، كما في عسل الدنيا. و المعنى: فيها أنواع الأشربة الّتي تكون في الدنيا، مجرّدة عمّا ينقصها و ينغّصها، موصوفة بغاية الالتذاذ. و في الأنهار دلالة على غزارة أنواع الأشربة و استمرارها.

وَ لَهُمْ فِيها مِنْ كُلِّ الثَّمَراتِ أي: لهم فيها صنف من الثمرات لا يعرفون اسمها، و صنف منها يعرفون اسمها، كلّها مبرّأة من كلّ مكروه يكون لثمرات الدنيا وَ مَغْفِرَةٌ مِنْ رَبِّهِمْ عطف على الصنف المحذوف. أو مبتدأ خبره محذوف، أي:

لهم مغفرة. كَمَنْ هُوَ خالِدٌ فِي النَّارِ وَ سُقُوا ماءً حَمِيماً شديد الحرارة، مكان تلك الأشربة فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ من فرط الحرارة.

[سورة محمد (47): الآيات 16 الى 19]

وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ ما ذا قالَ آنِفاً أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ (16) وَ

الَّذِينَ اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً وَ آتاهُمْ تَقْواهُمْ (17) فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلاَّ السَّاعَةَ أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها فَأَنَّى لَهُمْ إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ (18) فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ اللَّهُ وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ وَ مَثْواكُمْ (19)

______________________________

(1) القارص من الطعام: الحديد المنغّص و الحازر: الحامض.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 356

ثمّ بيّن سبحانه حال المنافقين، فقال: وَ مِنْهُمْ مَنْ يَسْتَمِعُ إِلَيْكَ يسمعون كلامك حَتَّى إِذا خَرَجُوا مِنْ عِنْدِكَ من مجلسك. و توحيد الضمير و جمعه ثانيا نظرا إلى لفظ «من» و معناه. قالُوا لِلَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ أي: لعلماء الأصحاب. و قيل:

قالوه لعبد اللّه بن مسعود. و عن ابن عبّاس: أنا منهم.

و

عن الأصبغ بن نباتة، عن عليّ عليه السّلام قال: إنّا كنّا عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيخبرنا بالوحي، فأعيه أنا و من يعيه، فإذا خرجنا قالوا لنا: ما ذا قالَ آنِفاً ما الّذي قال الساعة؟ استهزاء، أو إظهار أنّا لم نشتغل بوعيه و فهمه، أو استعلاما، إذ لم يلقوا له آذانهم تهاونا به.

و قيل: كان يخطب فإذا عاب المنافقين خرجوا فقالوا ذلك للعلماء.

و «آنفا» من قولهم: أنف الشي ء لما تقدّم منه. مستعار من الجارحة. و منه:

استأنفت الشي ء إذا ابتدأته. و نصبه على الظرف، بمعنى: في أوّل وقت يقرب منّا. أو حال من الضمير في «قال». و قرأ ابن كثير: أنفا.

أُولئِكَ الَّذِينَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ تخلية بينهم و بين اختيارهم و خذلانا.

أو وسما عليها بسمة الكفر، لتكون دالّة عليه، فلعنتهم الملائكة لذلك. وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ شهوات نفوسهم، و ما مالت إليه طباعهم. فلذلك استهزؤا بكلام اللّه، و تهاونوا به.

ثمّ وصف سبحانه المؤمنين بقوله: وَ الَّذِينَ

اهْتَدَوْا زادَهُمْ هُدىً أي: زادهم اللّه بالتوفيق و الإلهام. و قيل: الضمير لقول الرسول، أو لاستهزاء المنافقين. وَ آتاهُمْ

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 357

تَقْواهُمْ بيّن لهم ما يتّقون، أو أعانهم على تقواهم، أو أعطاهم جزاءها.

فَهَلْ يَنْظُرُونَ إِلَّا السَّاعَةَ فليسوا ينتظرون إلّا القيامة أَنْ تَأْتِيَهُمْ بَغْتَةً بدل اشتمال من السّاعة، نحو: «أن تطؤهم» في قوله: رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَ نِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ «1». فَقَدْ جاءَ أَشْراطُها علاماتها، كمبعث خاتم الأنبياء، و انشقاق القمر. و هو متّصل بإتيان الساعة اتّصال العلّة بالمعلول. فَأَنَّى لَهُمْ هذا جواب الشرط، و هو قوله: إِذا جاءَتْهُمْ ذِكْراهُمْ و المعنى: فكيف لهم ذكراهم- أي: تذكّرهم- إذا جاءتهم الساعة، و حينئذ لا تنفعهم الذكرى؟

فَاعْلَمْ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا اللَّهُ أي: إذا علمت سعادة المؤمنين و شقاوة الكافرين، فاثبت على ما أنت عليه من العلم بالوحدانيّة وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ لترك ندبك، بالإقدام على ما هو أولى فعله، و الثبات على الّذي هو موجب لكمال النفس، و على إصلاح أحوالها، و هضمها و تواضعها و انقطاعها إلى اللّه، فإنّ تكميل النفس لا يكون إلّا بذلك. و لا يجوز إطلاق الكلام على ظاهره، لأنّ استغفار الأنبياء لا يجوز أن يكون للذنوب، لأنّهم معصومون عنها صغيرها و كبيرها.

وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ و استغفر لذنوبهم بالدعاء لهم، و التحريض على ما يستدعي غفرانهم. و في إعادة الجارّ، و حذف المضاف، إشعار بالفرق بين استغفاره له و استغفاره للمؤمنين و المؤمنات.

وَ اللَّهُ يَعْلَمُ مُتَقَلَّبَكُمْ في الدنيا، فإنّ للعبد مراتب و مراحل، ينقلب فيها من أوّل خلقه إلى آخر عمره وَ مَثْواكُمْ في العقبى، فإنّها دار إقامتكم.

______________________________

(1) الفتح: 25.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 358

[سورة محمد (47): الآيات 20 الى 24]

وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ

لا نُزِّلَتْ سُورَةٌ فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ وَ ذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ فَأَوْلى لَهُمْ (20) طاعَةٌ وَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ (21) فَهَلْ عَسَيْتُمْ إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ (22) أُولئِكَ الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ فَأَصَمَّهُمْ وَ أَعْمى أَبْصارَهُمْ (23) أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها (24)

روي: أنّ ضعفاء المؤمنين أو المنافقين كانوا يدّعون الحرص على الجهاد، و يتمنّونه بألسنتهم، فلمّا نزلت سورة في الأمر بالجهاد شقّ عليهم و كرهوا منه، فنزلت:

وَ يَقُولُ الَّذِينَ آمَنُوا لَوْ لا هلّا نُزِّلَتْ سُورَةٌ في أمر الجهاد فَإِذا أُنْزِلَتْ سُورَةٌ مُحْكَمَةٌ مبيّنة لا تشابه فيها وَ ذُكِرَ فِيهَا الْقِتالُ أي: الأمر به. و عن قتادة:

كلّ سورة فيها ذكر القتال فهي محكمة غير منسوخة، و هي أشدّ القرآن على المنافقين.

رَأَيْتَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ ضعف في الدين، غير ثابتي الأقدام. و قيل:

نفاق. و وضع الظاهر في موضع الضمير لبيان علّة التقاعد عن الحرب و الكراهة منه.

و يجوز أن يريد بالّذين آمنوا المؤمنين الخلّص الثابتين، و أنّهم يتشوّقون إلى الوحي إذا أبطأ عليهم، فإذا أنزلت سورة في معنى الجهاد تضجّر المنافقون منها. يَنْظُرُونَ إِلَيْكَ نَظَرَ الْمَغْشِيِّ عَلَيْهِ مِنَ الْمَوْتِ أي: تشخص أبصارهم جبنا و مخالفة، كما ينظر من أصابته الغشية عند الموت.

فَأَوْلى لَهُمْ فويل لهم. أفعل من الولي، و هو القرب. و معناه: الدعاء عليهم، أي: أقرب لهم المكروه. أو فعلى، من: آل، أي: يؤول المكروه إليهم.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 359

طاعَةٌ وَ قَوْلٌ مَعْرُوفٌ استئناف، أي: أمرهم طاعة و قول معروف، أو طاعة و قول معروف خير لهم.

أو حكاية قولهم، أي: قالوا: أمرنا طاعة و قول معروف.

و قيل: «أولى» مبتدأ، و هذا خبره، أي: أولى و أحرى لهم طاعة للّه و رسوله و قول معروف بالإجابة، أي: لو أطاعوا و أجابوا كانت الطاعة و الإجابة أولى لهم. و هذا قول ابن عبّاس في رواية عطاء، و اختيار الكسائي.

فَإِذا عَزَمَ الْأَمْرُ أي: جدّ و لزم أمر القتال. و العزم و الجدّ حقيقة لأصحاب الأمر، و إسناده إليه مجاز. و منه قوله: إِنَّ ذلِكَ لَمِنْ عَزْمِ الْأُمُورِ «1». و قولهم: إنّ الأمر معزوم لا عازم. و عامل الظرف محذوف، و هو: اذكر. و جواب «إذا» محذوف تقديره: فإذا عزم الأمر نكلوا و كذبوا فيما وعدوا من أنفسهم. و يدلّ على حذفه قوله: فَلَوْ صَدَقُوا اللَّهَ فيما زعموا من الحرص على الجهاد أو الايمان. أو فلو صدقوا في إيمانهم و واطأت قلوبهم فيه ألسنتهم لَكانَ الصدق خَيْراً لَهُمْ في دينهم و دنياهم من نفاقهم.

فَهَلْ عَسَيْتُمْ فهل يتوقّع منكم؟ و قرأ نافع بكسر السين. و هو غريب. إِنْ تَوَلَّيْتُمْ أمور الناس و تأمّرتم عليهم، أو أعرضتم و تولّيتم عن الإسلام أَنْ تُفْسِدُوا فِي الْأَرْضِ وَ تُقَطِّعُوا أَرْحامَكُمْ تناحرا على الولاية و تجاذبا لها، أو رجوعا إلى ما كنتم عليه في الجاهليّة من التغاور و مقاتلة الأقارب.

و المعنى: أنّهم لضعفهم في الدين و حرصهم على الدنيا، أحقّاء بأن يتوقّع ذلك منهم من عرف حالهم في ضعف الإيمان و مرض النفاق، و يقول لهم: هل عسيتم. فنقل الكلام من الغيبة إلى الخطاب على طريقة الالتفات، ليكون أبلغ في التوبيخ.

و إلحاق الضمير ب «عسى» على لغة الحجاز. و أمّا بنو تميم فلا يلحقون

______________________________

(1) الشورى: 43.

زبدة التفاسير، ج 6، ص:

360

الضمائر، و يقولون: عسى أن تفعل، و عسى أن تفعلوا. و خبره «أن تفسدوا»، و «إن تولّيتم» اعتراض. و عن يعقوب: تولّيتم، و تقطعوا من القطع، أي: إن تولّاكم ظلمة خرجتم معهم و ساعدتموهم في الإفساد و قطيعة الرحم.

أُولئِكَ إشارة إلى المذكورين الَّذِينَ لَعَنَهُمُ اللَّهُ لإفسادهم، و قطعهم الأرحام فَأَصَمَّهُمْ عن استماع الحقّ وَ أَعْمى أَبْصارَهُمْ أي: فمنعهم ألطافه، و خذلهم حتّى صمّوا عن استماع الموعظة، و عموا عن إبصار طريق الهدى، فلا يهتدون سبيله.

أَ فَلا يَتَدَبَّرُونَ الْقُرْآنَ يتصفّحونه و ما فيه من المواعظ و الزواجر، حتّى لا يجسروا على المعاصي. و عن قتادة: و اللّه يجدون في القرآن زاجرا عن معصية اللّه لو تدبّروه، و لكنّهم أخذوا بالمتشابه فهلكوا. أَمْ عَلى قُلُوبٍ أَقْفالُها لا يصل إليها ذكر، و لا ينكشف لها أمر. و قيل: «أم» منقطعة. و معنى الهمزة فيها التقرير. و تنكير القلوب لأنّ المراد قلوب بعض منهم. أو للإشعار بأنّها لإبهام أمرها في القساوة، أو لفرط جهالتها و نكرها، كأنّها مبهمة منكورة. و إضافة الأقفال إليها للدلالة على أقفال مناسبة لها مختصّة بها، لا تجانس الأقفال المعهودة. و هي أقفال الكفر الّتي استغلقت، فلا تنفتح.

[سورة محمد (47): الآيات 25 الى 35]

إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ وَ أَمْلى لَهُمْ (25) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ (26) فَكَيْفَ إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ (27) ذلِكَ بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ وَ كَرِهُوا رِضْوانَهُ فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ (28) أَمْ حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ أَضْغانَهُمْ (29)

وَ لَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ

الْقَوْلِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ (30) وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ وَ الصَّابِرِينَ وَ نَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ (31) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ وَ شَاقُّوا الرَّسُولَ مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً وَ سَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ (32) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ وَ لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ (33) إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ (34)

فَلا تَهِنُوا وَ تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ وَ اللَّهُ مَعَكُمْ وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ (35)

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 361

إِنَّ الَّذِينَ ارْتَدُّوا عَلى أَدْبارِهِمْ أي: رجعوا عن الإيمان إلى ما كانوا عليه من الكفر مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدَى بالدلائل الواضحة، و المعجزات الظاهرة.

و هم المنافقون.

و عن ابن عبّاس و السدّي و الضحّاك: كانوا يؤمنون عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثمّ يظهرون الكفر فيما بينهم، فتلك ردّة منهم.

و عن قتادة: هم كفّار أهل الكتاب كفروا بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قد عرفوه و وجدوا

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 362

نعته مكتوبا عندهم.

و ليس في هذا دلالة على أنّ المؤمن قد يكفر، لأنّه لا يمتنع أن يكون المراد من رجع في باطنه عن الإيمان بعد أنّ أظهره و قامت الحجّة عنده بصحّته.

الشَّيْطانُ سَوَّلَ لَهُمْ سهّل لهم اقتراف الكبائر و ركوب العظائم. من السول، و هو الاسترخاء. و قيل: حملهم على الشهوات. من السول، و هو التمنّي. و فيه: إن السول مهموز، قلبت همزته واوا لضمّ ما قبلها. و يمكن ردّه بقولهم: هما يتساولان.

وَ أَمْلى لَهُمْ و مدّ لهم في الآمال و الأماني.

و قرأ أبو

عمرو: املي لهم، على البناء للمفعول. و هو ضمير الشيطان أولهم، أي: أمهلوا و مدّ في عمرهم. و قرأ يعقوب: املي لهم. و المعنى: أنّ الشيطان يغويهم و أنا أملي لهم و أنظرهم و أمهلهم، و لم أعاجلهم بالعقوبة. فتكون الواو للحال، أو الاستئناف.

ثمّ بيّن سبحانه سبب استيلاء الشيطان عليهم، فقال: ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قالُوا لِلَّذِينَ كَرِهُوا ما نَزَّلَ اللَّهُ أي: قال اليهود الّذين كفروا بالنبيّ بعد ما تبيّن لهم نعته في التوراة للمنافقين. أو المنافقون لقريظة و النضير، حيث قالوا لهم: لئن أخرجتم لنخرجنّ معكم. أو أحد الفريقين للمشركين. و

المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام أنّهم بنو اميّة، كرهوا ما نزّل اللّه في ولاية عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.

سَنُطِيعُكُمْ فِي بَعْضِ الْأَمْرِ في بعض الأمر الّذي يهمّكم. و هو التكذيب برسول اللّه، أو بلا إله إلّا اللّه. أو في بعض ما تأمرون به، كالقعود عن الجهاد، و الموافقة في الخروج معهم، و التظافر على عداوة الرسول. وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِسْرارَهُمْ ما أسرّه بعضهم إلى بعض من القول، و ما أسرّوه في أنفسهم من الاعتقاد.

فَكَيْفَ يعملون و ما حيلتهم إِذا تَوَفَّتْهُمُ الْمَلائِكَةُ إذا قبضت الملائكة أرواحهم يَضْرِبُونَ وُجُوهَهُمْ وَ أَدْبارَهُمْ تصوير لتوفّيهم بما يخافون منه

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 363

و يجتنبون عن القتال له. و عن ابن عبّاس: لا يتوفّى أحد على معصية اللّه إلّا يضرب من الملائكة في وجهه و دبره.

ذلِكَ إشارة إلى التوفّي الموصوف بِأَنَّهُمُ اتَّبَعُوا ما أَسْخَطَ اللَّهَ من الكفر، و كتمان نعت الرسول، و عصيان الأمر وَ كَرِهُوا رِضْوانَهُ ما يرضاه، من الإيمان برسول اللّه، و الجهاد، و غيرهما من الطاعات فَأَحْبَطَ أَعْمالَهُمْ و لم يتقبّل لذلك.

أَمْ

حَسِبَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ أَنْ لَنْ يُخْرِجَ اللَّهُ لن يظهر اللّه لرسوله و المؤمنين أَضْغانَهُمْ أحقادهم على المؤمنين، و لا يبدي خفاياهم للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

وَ لَوْ نَشاءُ لَأَرَيْناكَهُمْ لعرّفناكهم بدلائل حتّى تعرفهم بأعيانهم لا يخفون عليك فَلَعَرَفْتَهُمْ بِسِيماهُمْ بعلاماتهم الّتي يسمهم اللّه بها.

و

عن أنس: ما خفي على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد هذه الآية شي ء من المنافقين، بل كان يعرفهم بسيماهم. و لقد كنّا في بعض الغزوات و فيها تسعة من المنافقين يشكوهم الناس، فناموا ذات ليلة، و أصبحوا و على جبهة كلّ واحد منهم مكتوب:

هذا منافق.

و اللام لام جواب «لو» كرّرت في المعطوف.

وَ لَتَعْرِفَنَّهُمْ فِي لَحْنِ الْقَوْلِ جواب قسم محذوف. و لحن القول: أسلوبه.

و عن ابن عبّاس: هو قولهم: ما لنا إن أطعنا من الثواب، و لا يقولون: ما علينا إن عصينا من العقاب.

و قيل: اللحن أن تلحن بكلامك، أي: تميله إلى نحو من الأنحاء ليفطن له صاحبك. و منه قيل للمخطئ: لاحن، لأنّه يعدل بالكلام عن الصواب.

و عن أبي سعيد الخدري قال: لحن القول بغضهم عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.

قال: و كنّا نعرف المنافقين على عهد رسول اللّه ببغضهم عليّ بن أبي طالب عليه السّلام.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 364

و روي مثل ذلك عن جابر بن عبد اللّه الأنصاري، و عن عبادة بن الصامت قال: كنّا نبور «1» أولادنا بحبّ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، فإذا رأينا أحدهم لا يحبّه علمنا أنّه لغير رشدة «2».

وَ اللَّهُ يَعْلَمُ أَعْمالَكُمْ فيجازيكم على حسب قصدكم، إذا الأعمال بالنيّات.

وَ لَنَبْلُوَنَّكُمْ و نعاملكم معاملة المختبر، بالأمر بالجهاد و سائر التكاليف الشاقّة حَتَّى نَعْلَمَ الْمُجاهِدِينَ مِنْكُمْ حتّى

نميّزهم عن غيرهم وَ الصَّابِرِينَ على مشاقّ المجاهدة عن غيرهم. أو حتّى نعلم جهادكم موجودا، لأنّ الغرض أن تفعلوا الجهاد فنثيبكم على ذلك. أو يعلم أولياؤنا. و الإضافة إلى ذاته تعظيما لهم.

وَ نَبْلُوَا أَخْبارَكُمْ فنختبر ما يخبر به عن أعمالكم، فيظهر به حسنها و قبحها، لأنّ الخبر على حسب المخبر عنه، إن حسنا فحسن، و إن قبيحا فقبيح. أو أخبارهم عن إيمانهم و موالاتهم المؤمنين في صدقها و كذبها.

و قرأ أبو بكر الأفعال الثلاثة بالياء لتوافق ما قبلها. و عن يعقوب: و نبلو بسكون الواو، على تقدير: و نحن نبلو.

و عن الفضيل: أنّه كان إذا قرأها بكى، و قال: اللّهمّ لا تبلنا، فإنّك إن تبلونا فضحتنا، و هتكت أستارنا، و عذّبتنا.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ امتنعوا عن اتّباع دين اللّه، و منعوا غيرهم عن اتّباعه بالقهر و الإغواء وَ شَاقُّوا الرَّسُولَ عاندوه و عادوه مِنْ بَعْدِ ما تَبَيَّنَ لَهُمُ الْهُدى من بعد ما ظهر لهم أن محمدا رسول اللّه. و هم قريظة و النضير، أو المطعمون يوم بدر. لَنْ يَضُرُّوا اللَّهَ شَيْئاً بكفرهم و صدّهم. أو لن يضرّوا رسول اللّه بمشاقّته. و حذف المضاف لتعظيمه، و تفظيع مشاقّته. وَ سَيُحْبِطُ أَعْمالَهُمْ

______________________________

(1) بار الرجل يبوره: جرّبه و اختبره.

(2) الرشدة و الرشدة: ضدّ الزنية. يقال: ولد لرشدة، أي: شرعيّ و ليس من زنا.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 365

و سيبطل ثواب حسنات أعمالهم الّتي عملوها في دينهم يرجون بها الثواب، لكفرهم برسول اللّه. أو مكايدهم الّتي نصبوها في مشاقّته، فلا يصلون بها إلى مقاصدهم، و لا تثمر لهم إلّا القتل و الجلاء عن أوطانهم.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا أَطِيعُوا اللَّهَ بتوحيده وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ بتصديقه وَ

لا تُبْطِلُوا أَعْمالَكُمْ بما أبطل به هؤلاء، كالكفر و النفاق و الشكّ و العجب و الرياء و المنّ و الأذى و نحوها. و ليس فيه دليل على إحباط الطاعات بالكبائر، كما قال أبو حنيفة.

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ ثُمَّ ماتُوا وَ هُمْ كُفَّارٌ أي: أصرّوا على الكفر حتّى ماتوا على كفرهم فَلَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ أبدا، لأنّ «لن» للتأبيد. و هذا عامّ في كلّ من مات على كفره، و إن صحّ نزوله في قتلى القليب، و هو بئر في بدر.

فَلا تَهِنُوا فلا تضعفوا، و لا تذلّوا للعدوّ وَ تَدْعُوا إِلَى السَّلْمِ و لا تدعوا إلى السلم تذلّلا و ضعفا. و يجوز نصبه بإضمار «أن». و قرأ أبو بكر و حمزة بكسر السين. وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ الأغلبون. و نحوه قوله تعالى: إِنَّكَ أَنْتَ الْأَعْلى «1».

وَ اللَّهُ مَعَكُمْ بالنصرة على عدوّكم وَ لَنْ يَتِرَكُمْ أَعْمالَكُمْ و لن يضيع أعمالكم، بل يثيبكم عليها. من: و ترت الرجل إذا قتلت له قتيلا، من ولد و أخ أو حميم.

و حقيقته: أفردته من قريبه أو ماله. من الوتر، و هو الفرد. فشبّه إضاعة عمل العامل و تعطيل ثوابه بوتر الواتر. و هو من فصيح الكلام. و منه

قوله عليه السّلام: «من فاتته صلاة العصر فكأنّما وتر أهله و ماله»،

أي: أفرد عنهما قتلا و نهبا.

[سورة محمد (47): الآيات 36 الى 38]

إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ إِنْ تُؤْمِنُوا وَ تَتَّقُوا يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ وَ لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ (36) إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ تَبْخَلُوا وَ يُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ (37) ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ وَ مَنْ يَبْخَلْ فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ وَ اللَّهُ الْغَنِيُّ وَ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ

قَوْماً غَيْرَكُمْ ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ (38)

______________________________

(1) طه: 68.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 366

ثمّ حضّ سبحانه على طلب الآخرة بقوله: إِنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ لا ثبات لها وَ إِنْ تُؤْمِنُوا باللّه وَ تَتَّقُوا معاصيه يُؤْتِكُمْ أُجُورَكُمْ ثواب إيمانكم و تقواكم وَ لا يَسْئَلْكُمْ أَمْوالَكُمْ جميع أموالكم، بل يقتصر على جزء يسير- كربع العشر و العشر- في الزكاة الواجبة في بعض أموالكم.

إِنْ يَسْئَلْكُمُوها فَيُحْفِكُمْ فيجهدكم بطلب الكلّ. و الإحفاء المبالغة و بلوغ الغاية. يقال: إحفاء في المسألة إذا لم يترك شيئا من الإلحاح. و أحفى شاربه إذا استأصله. تَبْخَلُوا فلا تعطوا وَ يُخْرِجْ أَضْغانَكُمْ و يظهر بغضكم و عداوتكم، فتضطغنوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و الضمير في «يخرج» للّه تعالى، أو البخل، لأنّه سبب الاضطغان.

ها أَنْتُمْ هؤُلاءِ أي: أنتم يا مخاطبون هؤلاء الموصوفون. ثمّ استأنف وصفهم. كأنّهم قالوا: و ما وصفنا؟ فقيل: تُدْعَوْنَ لِتُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ و يجوز أن يكون صلة ل «هؤلاء»، على أنّه بمعنى: الّذين. و هو يعمّ نفقة الغزو و الزكاة و غيرهما. فَمِنْكُمْ مَنْ يَبْخَلُ ناس يبخلون به. ثمّ قال: وَ مَنْ يَبْخَلْ بالصدقة و أداء الفريضة فَإِنَّما يَبْخَلُ عَنْ نَفْسِهِ فلا يتعدّاه ضرر بخله، بل إنّما هو راجع إلى نفسه، لأنّه يحرّمها مثوبة جسيمة، و يلزمها عقوبة عظيمة. يقال: بخلت عليه و عنه.

و كذلك: ضننت عليه و عنه. و فيه إشارة إلى أنّ معطي المال أحوج إليه من الفقير الآخذ.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 367

ثمّ أخبر أنّه لا يأمر بذلك و لا يدعو إليه لحاجته إليه، فقال: وَ اللَّهُ الْغَنِيُ الّذي تستحيل عليه الحاجات وَ أَنْتُمُ الْفُقَراءُ إلى ما عند اللّه من الخير. فما

يأمركم به فهو لاحتياجكم و فقركم إلى الثواب. فإن امتثلتم فلكم، و إن تولّيتم فعليكم.

وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا و إن تعرضوا عن طاعته. و هو عطف على «وَ إِنْ تُؤْمِنُوا».

يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ يخلق قوما سواكم على خلاف صفتكم فيقوموا مكانكم، كقوله: وَ يَأْتِ بِخَلْقٍ جَدِيدٍ «1». ثُمَّ لا يَكُونُوا أَمْثالَكُمْ في التولّي عن الإيمان، و الزهد في التقوى. و هم الفرس،

لأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سئل عنه، و كان سلمان إلى جنبه، فضرب فخذه و قال: «هذا و قومه. و الّذي نفسي بيده لو كان الإيمان منوطا بالثريّا لتناوله رجال من فارس».

أو الأنصار، أو الملائكة.

و

روى أبو بصير عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إن تتولّوا يا معشر العرب يستبدل قوما غيركم».

يعني: الموالي.

و

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قد و اللّه أبدل بهم خيرا منهم».

يعني: الموالي.

______________________________

(1) إبراهيم: 19

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 369

(48) سورة الفتح

اشارة

مدنيّة. و هي تسع و عشرون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأها فكأنّما شهد مع محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فتح مكّة».

و

في رواية اخرى: «فكأنّما كان مع من بايع محمّدا تحت الشجرة».

و

أورد البخاري في الصحيح عن عمر بن الخطّاب قال: «كنّا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في سفر، فقال: نزلت عليّ البارحة سورة عظيمة هي أحبّ إليّ من الدنيا و ما فيها: إِنَّا فَتَحْنا- إلى قوله- وَ ما تَأَخَّرَ» «1».

و

عن قتادة عن أنس قال: «لمّا رجعنا من غزوة الحديبية و قد حيل بيننا و بين نسكنا، فنحن بين الحزن و الكآبة إذ أنزل اللّه عزّ و جلّ: إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً فقال رسول

اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لقد أنزلت عليّ آية هي أحبّ إليّ من الدنيا كلّها».

عن عبد اللّه بن مسعود قال: «أقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الحديبية فجعلت ناقته تثقل، فتقدّمنا فأنزل عليه إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً، فأدركنا رسول اللّه و به من السرور ما شاء اللّه، فأخبر أنّها أنزلت عليه».

عبد اللّه بن بكير، عن أبيه قال: قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «حصّنوا أموالكم و نساءكم و ما ملكت أيمانكم من التلف بقراءة إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً، فإنّه إذا كان ممّن يدمن قراءتها ناداه مناد يوم القيامة حتّى يسمع الخلائق: أنت من عبادي المخلصين، ألحقوه بالصالحين من عبادي، فأسكنوه جنّات النعيم، و اسقوه الرحيق المختوم بمزاج الكافور».

______________________________

(1) صحيح البخاري 6: 168- 169.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 370

[سورة الفتح (48): الآيات 1 الى 7]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً (1) لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً (2) وَ يَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً (3) هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً حَكِيماً (4)

لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها وَ يُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ وَ كانَ ذلِكَ عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً (5) وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ لَعَنَهُمْ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ وَ ساءَتْ مَصِيراً (6) وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (7)

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة محمّد

صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقوله: وَ اللَّهُ الْغَنِيُ افتتح هذه السورة بأنّه فتح لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما احتاج إليه في دينه و دنياه، ليشعر على غناه المطلق، و كمال جبروته و غالبيّته، و افتقار العباد إليه، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً وعد بفتح مكّة. و التعبير عنه بالماضي لتحقّقه و تيقّنه بمنزلة الكائنة الموجودة. و في ذلك من الفخامة و الدلالة على علوّ شأن المخبر ما لا يخفى.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 371

و قيل: هذا إخبار عن صلح الحديبية. و إنّما سمّاه فتحا، لأنّه كان بعد ظهوره على المشركين حتّى سألوا الصلح، و تسبّب لفتح مكّة، و أدخل في الإسلام خلقا عظيما. و

ظهر له في الحديبية آية عظيمة، و هي أنّه نزح ماؤها حتّى لم يبق فيها قطرة. فتمضمض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثمّ مجّه فيها، فدرّت بالماء حتّى شرب جميع من كان معه.

و قيل: فجاش الماء حتّى امتلأت، و لم ينفد ماؤها بعد.

و

عن عروة- و قد ذكر خروج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عام الحديبية- قال: و خرجت قريش من مكّة، فسبقوه إلى بلدح «1» و إلى الماء، فنزلوا عليه. فلمّا رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قد سبق نزل على الحديبية، و ذلك في حرّ شديد ليس فيها إلّا بئر واحدة، فأشفق القوم من الظمأ، و القوم كثير، فنزل فيها رجال يمتحنوها. و دعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بدلو من ماء، فتوضّأ من الدلو، و مضمض فاه ثمّ مجّ فيه، و أمر أن يصبّ

في البئر. و نزع سهما من كنانته و ألقاه في البئر، فدعا اللّه تعالى ففارت بالماء، حتّى جعلوا يغترفون بأيديهم منها و هم جلوس على شفتها.

و

روى سالم بن أبي الجعد قال: قلت لجابر: كم كنتم يوم الشجرة؟ قال: كنّا ألفا و خمسمائة. و ذكر عطشا أصابهم. قال: فأتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بماء في تور «2»، فوضع يده فيه، فجعل الماء يخرج من بين أصابعه كأنّه العيون، فشربنا و وسعنا و كفانا.

و

عن موسى بن عقبة: أقبل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الحديبية راجعا، فقال رجل من أصحابه: «ما هذا بفتح، لقد صدّونا عن البيت، و صدّ هدينا. فبلغ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: «بئس الكلام هذا، بل هو أعظم الفتوح، و قد رضي المشركون أن يدفعوكم عن بلادهم بالراح «3»، و يسألوكم القضيّة- أي: رجوعكم عنهم- و يرغبوا إليكم في الأمان، و قد رأوا منكم ما كرهوا».

______________________________

(1) بلدح: واد قبل مكّة من جهة المغرب.

(2) التّور: إناء يشرب فيه.

(3) الراح: الخمر. و الراح جمع راحة، و هي: الكفّ. و الراح: الارتياح و النشاط. و لعلّ الظاهر هنا المعنى الثالث.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 372

و

عن الشعبي: نزلت هذه السورة بالحديبية، و أصاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في تلك الغزوة ما لم يصب في غزوة. أصاب: أن بويع بيعة الرضوان، و غفر له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر، و ظهرت الروم على فارس، و بلغ الهدي محلّه بعد الصلح، و أطعموا نخل خيبر.

و عن جابر: ما كنّا نعلم فتح مكّة إلّا يوم الحديبية.

و قيل: المراد فتح خيبر. و

قيل: فتح الروم. و قيل: الفتح القضاء، من الفتاحة، و هي الحكومة، أي: قضينا لك أن تدخل مكّة من قابل.

لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ علّة للفتح من حيث إنّه مسبّب عن جهاد الكفّار، و السعي في إزالة الشرك، و إعلاء الدين، و تكميل النفوس الناقصة قهرا، ليصير ذلك التكميل بالتدريج اختيارا، و تخليص الضعفة عن أيدى الظلمة ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ. قد قيل فيه أقوال، كلّها غير موافق لما يذهب إليه أصحابنا أنّ الأنبياء معصومون من الذنوب كلّها، صغيرها و كبيرها، قبل النبوّة و بعدها.

فمنها: أنّهم قالوا: معناه: ما تقدّم من معاصيك قبل النبوّة، و ما تأخّر عنها.

و منها: قولهم: ما تقدّم الفتح، و ما تأخّر عنه.

و منها: قولهم: ما وقع و ما لم يقع، على الوعد بأنّه يغفر له إذا وقع.

و منها: قولهم ما تقدّم من ذنب أبويك آدم و حوّاء ببركتك، و ما تأخّر من ذنوب أمّتك بدعوتك.

و الكلام في ذنب آدم كالكلام في ذنب نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من حمل ذلك على الصغائر الّتي تقع محبطة عندهم، فالّذي يبطل قولهم أنّ الصغائر إذا سقط عقابها وقعت مكفّرة، فكيف يجوز أن يمنّ اللّه سبحانه على نبيّه بأن يغفرها له؟ و إنّما يصحّ الامتنان و التفضّل منه سبحانه بما يكون له المؤاخذة به، لا بما لو عاقب به لكان ظالما عندهم. فوضح فساد قولهم.

و لأصحابنا فيه و جهان من التأويل: أحدهما: أنّ المراد: ليغفر لك اللّه ما تقدّم من ذنب أمّتك و ما تأخّر بشفاعتك. و أراد بذكر التقدّم و التأخّر ما تقدّم زمانه و ما تأخّر، كما يقول القائل لغيره: صفحت عن السالف و الآنف من ذنوبك.

و حسنت إضافة ذنوب أمّته إليه، للاتّصال و السبب بينه و بين أمّته.

و يؤيّد هذا الجواب ما

رواه المفضّل بن عمر عن الصادق عليه السّلام قال: «سأله

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 373

رجل عن هذه الآية، فقال: و اللّه ما كان له ذنب، و لكنّ اللّه سبحانه ضمن له أن يغفر ذنوب شيعة عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، ما تقدّم من ذنبهم و ما تأخّر».

و

روى عمر بن يزيد قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: قول اللّه سبحانه: لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ ما تَقَدَّمَ مِنْ ذَنْبِكَ وَ ما تَأَخَّرَ. قال: ما كان له ذنب و لا همّ بذنب، و لكنّ اللّه حمّله ذنوب شيعته ثمّ غفرها له».

و الثاني: ما ذكره المرتضى قدّس سّره: أنّ الذنب مصدر، و المصدر يجوز إضافته إلى الفاعل و المفعول معا، فيكون هنا مضافا إلى المفعول. و المراد: ما تقدّم من ذنبهم إليك في منعهم إيّاك عن مكّة، و صدّهم لك عن المسجد الحرام. و يكون معنى المغفرة على هذا التأويل: الإزالة و النسخ لأحكام أعدائه من المشركين عليه، أي: يزيل اللّه تعالى ذلك عنك، و يستر عليك تلك الوصمة بما يفتح اللّه لك من مكّة، فستدخلها فيما بعد. و لذلك جعله جزاء على جهاده، و غرضا في الفتح، و وجها له.

قال: و لو أنّه أراد مغفرة ذنوبه لم يكن لقوله: «إِنَّا فَتَحْنا لَكَ فَتْحاً مُبِيناً لِيَغْفِرَ لَكَ اللَّهُ» معنى معقول، لأنّ المغفرة للذنوب لا تعلّق لها بالفتح، فلا يكون غرضا فيه.

و أمّا قوله: «ما تقدم و ما تأخر» فلا يمتنع أن يريد به ما تقدّم زمانه من فعلهم القبيح بك و بقومك.

و قيل أيضا في ذلك وجوه أخر:

منها: أنّ معناه: لو كان

لك ذنب قديم أو حديث لغفرناه لك.

و منها: أنّ المراد بالذنب هنا ترك المندوب. و حسن ذلك لأنّ من المعلوم أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ممّن لا يخالف الأوامر الواجبة، فجاز أن يسمّى ذنبا منه ما لو وقع من غيره لم يسمّ ذنبا، لعلوّ قدره و رفعة شأنه.

و منها: أنّ القول خرج مخرج التعظيم و حسن الخطاب، كما قيل في قوله:

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 374

عَفَا اللَّهُ عَنْكَ «1».

و هذا ضعيف، لأنّ العادة جرت في مثل هذا أن يكون على لفظ الدعاء.

وَ يُتِمَّ نِعْمَتَهُ عَلَيْكَ بإعلاء دينك على سائر الأديان، و بقاء شرعك، و ضمّ الملك إلى النبوّة. و قيل بفتح خيبر و مكّة و الطائف. وَ يَهْدِيَكَ صِراطاً مُسْتَقِيماً في تبليغ الرسالة و إقامة مراسم الرئاسة. أو تثبيتك على صراط يؤدّي بسالكه إلى الجنّة.

وَ يَنْصُرَكَ اللَّهُ نَصْراً عَزِيزاً أي: نصرا فيه عزّ و منعة. أو يعزّ به المنصور.

فهو وصف بصفة المنصور مبالغة إسنادا مجازيّا. أو عزيزا صاحبه. و قد فعل ذلك بنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، إذ صيّر دينه أعزّ الأديان، و سلطانه أعظم السلطان.

هُوَ الَّذِي أَنْزَلَ السَّكِينَةَ هي اسم السكون، كالبهيتة للبهتان، أي: أنزل الثبات و الطمأنينة فِي قُلُوبِ الْمُؤْمِنِينَ أي: يفعل بهم اللطف الّذي يحصل لهم عنده، من البصيرة بالحقّ ما تسكن إليه نفوسهم. و ذلك بكثرة ما ينصب لهم من الأدلّة الهادية إليه، و من جملتها ها هنا أن يقع الصلح بينهم و بين المعاندين، و يأمنوا منهم لذلك، بعد أن قلقت نفوسهم، و دحضت أقدامهم، لفرط الدهشة و الخوف، و يروا من الفتوح و علوّ كلمة الإسلام على وفق ما وعدوا.

لِيَزْدادُوا إِيماناً مَعَ إِيمانِهِمْ يقينا

مع يقينهم، بمزيّة رسوخ العقيدة و اطمئنان النفس عليها، لمشاهدتهم و عرفانهم. أو أنزل فيها السكون إلى ما جاء به الرسول من الشرائع، ليزدادوا بها إيمانا مقرونا إلى إيمانهم باللّه و اليوم الآخر.

و

عن ابن عبّاس: إنّ أوّل ما أتاهم به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم التوحيد، فلمّا آمنوا باللّه وحده أنزل الصلاة و الزكاة، ثمّ الحجّ، ثمّ الجهاد، فازدادوا إيمانا إلى إيمانهم.

أو أنزل فيها الوقار و العظمة للّه و لرسوله، ليزدادوا باعتقاد ذلك إيمانا إلى

______________________________

(1) التوبة: 43.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 375

إيمانهم. يعني: يزدادوا معارف على المعرفة الحاصلة عندهم.

و قيل: أنزل فيها الرحمة ليتراحموا، فيزدادوا إيمانهم.

وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يدبّر أمرها، فيسلّط بعضها على بعض تارة، و يوقع فيما بينهم السّلم اخرى، كما تقتضيه حكمته.

و قيل: معناه: أنّ اللّه تعالى لو شاء لأعانكم بجنوده الّذين هم الملائكة و الجنّ و الإنس.

و فيه بيان أنّه لو شاء لأهلك المشركين، لكنّه عالم بهم و بما يخرج من أصلابهم، فأمهلهم لعلمه و حكمته، و لم يأمر بالقتال عن عجز و احتياج، و لكن ليعرض المجاهدين لجزيل الثواب.

وَ كانَ اللَّهُ عَلِيماً بالمصالح حَكِيماً فيما يقدّر و يدبّر، فدبّر ما دبّر من تسليط المؤمنين.

لِيُدْخِلَ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها فهذا مع ما بعده علّة لما دلّ عليه قوله: «وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» من معنى التدبير. فكأنّه قال: سلّط المؤمنين على الكافرين ليعرفوا نعمة اللّه فيه و يشكروها، فيدخل المؤمنين الجنّة، و يعذّب الكفّار و المنافقين لما غاضهم من ذلك. و قيل: علّة لقوله: فتحنا، أو أنزل، أو جميع ذلك، أو ليزدادوا. و قيل: إنّه بدل منه بدل الاشتمال.

وَ

يُكَفِّرَ عَنْهُمْ سَيِّئاتِهِمْ يغطّيها و لا يظهرها. و المعنى: لم يعذّبهم بها.

وَ كانَ ذلِكَ أي: الإدخال و التكفير عِنْدَ اللَّهِ فَوْزاً عَظِيماً لأنّه منتهى ما يطلب من جلب نفع أو دفع ضرر. و «عند» حال من الفوز.

وَ يُعَذِّبَ الْمُنافِقِينَ وَ الْمُنافِقاتِ وَ الْمُشْرِكِينَ وَ الْمُشْرِكاتِ عطف على «يدخل»، إلّا إذا جعلته بدلا، فيكون عطفا على المبدل منه، لا البدل، لفساد المعنى

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 376

الظَّانِّينَ بِاللَّهِ ظَنَّ السَّوْءِ ظنّ الأمر السوء، و هو أن لا ينصر رسوله و المؤمنين عَلَيْهِمْ دائِرَةُ السَّوْءِ ما يظنّونه و يتربّصونه بالمؤمنين، من الذلّ و الهلاك و غنيمة الأموال.

و قرأ ابن كثير و أبو عمرو: دائرة السّوء. و هما لغتان، غير أنّ المفتوح غلب في أن يضاف إليه ما يراد ذمّه، و لذلك أضيف الظنّ إليه، لكونه مذموما. و المضموم جرى مجرى الشرّ، و هو مطلق المكروه و الشدّة. و كلاهما في الأصل مصدر، من:

ساء، كالكرة و الكره، و الضعف و الضعف.

وَ غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ وَ لَعَنَهُمْ وَ أَعَدَّ لَهُمْ جَهَنَّمَ عطف لما استحقّوه في الآخرة على ما استوجبوه في الدنيا. و الواو في الأخيرين، و الموضع موضع الفاء- إذ اللعن سبب للإعداد، و الغضب سبب له- لاستقلال الكلّ في الوعيد بلا اعتبار السببيّة.

وَ ساءَتْ مَصِيراً جهنّم.

وَ لِلَّهِ جُنُودُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً في قهره و انتقامه من أعدائه حَكِيماً في فعله و قضائه. كرّره للتأكيد. أو الأوّل متّصل بذكر المؤمنين، أي: فله الجنود الّتي يقدر أن يعينكم بها. و الثاني متّصل بذكر الكافرين، أي: فله الجنود الّتي يقدر على الانتقام منهم بها.

[سورة الفتح (48): الآيات 8 الى 10]

إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً (8) لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ

تُعَزِّرُوهُ وَ تُوَقِّرُوهُ وَ تُسَبِّحُوهُ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً (9) إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ فَمَنْ نَكَثَ فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ وَ مَنْ أَوْفى بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً (10)

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 377

إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً تشهد على ما عملت أمّتك، كقوله: وَ يَكُونَ الرَّسُولُ عَلَيْكُمْ شَهِيداً «1». وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً على الطاعة و المعصية.

لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ الخطاب للنبيّ و الأمّة وَ تُعَزِّرُوهُ و تقوّوه بتقوية دينه و رسوله وَ تُوَقِّرُوهُ و تعظّموه وَ تُسَبِّحُوهُ و تنزّهوه، أو تصلّوا له بُكْرَةً وَ أَصِيلًا غدوة و عشيّا، أو دائما. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو الأفعال الأربعة بالياء، و الضمير للناس.

و في الآية دلالة على بطلان مذهب أهل الجبر أنّ اللّه يريد من الكفّار الكفر، لأنّه صرّح هنا أنّه يريد من جميع المكلّفين الإيمان و الطاعة.

إِنَّ الَّذِينَ يُبايِعُونَكَ إِنَّما يُبايِعُونَ اللَّهَ لأنّه المقصود ببيعته يَدُ اللَّهِ فَوْقَ أَيْدِيهِمْ حال، أو استئناف مؤكّد له على سبيل التخييل. يريد أنّ يد رسول اللّه الّتي تعلو أيدي المبايعين في حكم يد اللّه في هذه البيعة. و لمّا كان اللّه تعالى منزّها عن الجوارح و عن سائر صفات الأجسام، فالغرض تقرير أن عقد الميثاق مع الرسول كعقده مع اللّه من غير تفاوت بينهما، كقوله: مَنْ يُطِعِ الرَّسُولَ فَقَدْ أَطاعَ اللَّهَ «2».

و قيل: معناه: قوّة اللّه في نصرة نبيّه فوق نصرتهم إيّاه، أي: ثق بنصرة اللّه لك، لا بنصرتهم و إن بايعوك.

و قيل: نعمة اللّه عليهم بنبيّه فوق أيديهم بالطاعة و المبايعة.

فَمَنْ نَكَثَ نقض العهد فَإِنَّما يَنْكُثُ عَلى نَفْسِهِ فلا يعود ضرر نكثه إلّا عليه وَ مَنْ أَوْفى و من ثبت على

الوفاء بِما عاهَدَ عَلَيْهُ اللَّهَ أي: أوفى بمبايعته.

يقال: وفيت بالعهد و أوفيت به. و هي لغة تهامة. و منها: أَوْفُوا بِالْعُقُودِ «3» وَ الْمُوفُونَ بِعَهْدِهِمْ «4». فَسَيُؤْتِيهِ أَجْراً عَظِيماً هو الجنّة.

______________________________

(1) البقرة: 143.

(2) النساء: 80.

(3) المائدة: 1.

(4) البقرة: 177.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 378

و قرأ حفص: عليه بضمّ الهاء. و ابن كثير و نافع و ابن عامر و روح: فسنؤتيه بالنون.

و الآية نزلت في بيعة الحديبية. و هي بيعة الرضوان. سمّيت بها لأنّهم باعوا أنفسهم بالجنّة، بسبب اتّفاقهم على محاربة أعداء اللّه و نصرة دينه، و رضي لهم تلك البيعة.

قال جابر بن عبد اللّه: بايعنا رسول اللّه تحت الشجرة على الموت، و على أن لا نفرّ، فما نكث أحد منّا البيعة إلّا جد بن قيس، و كان منافقا اختبأ تحت إبط بعيره، و لم يسر مع القوم.

[سورة الفتح (48): الآيات 11 الى 14]

سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا فَاسْتَغْفِرْ لَنا يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً (11) بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَ الْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً وَ زُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ وَ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً (12) وَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً (13) وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً (14)

روي: أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين أراد المسير إلى مكّة عام الحديبية معتمرا، و كان في ذي القعدة من سنة ستّ من الهجرة، استنفر من حول المدينة من أسلم و جهينة

و مزينة و أشجع و غفار، ليخرجوا معه، حذرا من قريش أن يعرضوا له بحرب أو

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 379

يصدّوه عن البيت، و أحرم هو صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ساق معه الهدي، ليعلم أنّه لا يريد حربا.

فتثاقل كثير من الأعراب و قالوا: يذهب محمّد إلى قوم قد غزوه في عقر داره- أي:

أصلها- بالمدينة و قتلوا أصحابه، فيقاتلهم. و ظنّوا أنّه يهلك فلا ينقلب إلى المدينة.

و اعتلّوا بالشغل بأهاليهم و أموالهم، و أنّه ليس لهم من يقوم بأشغالهم. فأخبر اللّه عن تخلّفهم قبل وقوع ذلك، فقال:

سَيَقُولُ لَكَ الْمُخَلَّفُونَ مِنَ الْأَعْرابِ شَغَلَتْنا أَمْوالُنا وَ أَهْلُونا

عن الخروج معك، إذ لم يكن لنا من يقوم بأشغالنا. و الأهلون جمع أهل. و يقال: أهلات على تقدير تاء التأنيث، فإنّه قد جاء أهلة، كأرض و أرضين و أرضة و أرضات. و أمّا أهال فاسم جمع. فَاسْتَغْفِرْ لَنا من اللّه على التخلّف.

فكذّبهم اللّه في الاعتذار و الاستغفار بقوله: يَقُولُونَ بِأَلْسِنَتِهِمْ ما لَيْسَ فِي قُلُوبِهِمْ أي: الّذي خلّفهم ليس بما يقولون، و إنّما هو الشكّ في اللّه و النفاق.

و طلبهم الاستغفار أيضا ليس بصادر عن حقيقة.

قُلْ فَمَنْ يَمْلِكُ لَكُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً فمن يمنعكم من مشيئته و قضائه إِنْ أَرادَ بِكُمْ ضَرًّا ما يضرّكم، كقتل أو هزيمة أو خلل في المال و الأهل، عقوبة على التخلّف. و قرأ حمزة و الكسائي بالضمّ. أَوْ أَرادَ بِكُمْ نَفْعاً ما يضادّ ذلك من ظفر و غنيمة. و هذا تعريض بردّ قولهم. بَلْ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيراً فيعلم تخلّفكم و قصدكم فيه.

بَلْ ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَنْقَلِبَ الرَّسُولُ وَ الْمُؤْمِنُونَ إِلى أَهْلِيهِمْ أَبَداً لا يرجعون إلى من خلّفوا بالمدينة من الأهل و المال،

لظنّكم أن المشركين يستأصلونهم وَ زُيِّنَ ذلِكَ فِي قُلُوبِكُمْ أي: زيّن الشيطان ذلك الظنّ المتمكّن في قلوبكم وَ ظَنَنْتُمْ ظَنَّ السَّوْءِ الظنّ المذكور، و هو التسجيل عليه بالسوء. أو هو و سائر ما يظنّون باللّه و رسوله من الأمور الزائغة. وَ كُنْتُمْ قَوْماً بُوراً هالكين مستوجبين لسخطه و عقابه

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 380

عند اللّه، لفساد عقيدتكم، و سوء نيّتكم. من: بار، كالهلك من: هلك، بناء و معنى.

و لذلك وصف به الواحد و الجمع، و المذكّر و المؤنّث. و يجوز أن يكون جمع بائر، كعائذ و عوذ.

و قيل: معناه: فاسدين في أنفسكم و قلوبكم و نيّاتكم، لا خير فيكم. و كان ذلك من الغيب الّذي لا يطّلع عليه أحد إلّا اللّه، و صار معجزا لنبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

وَ مَنْ لَمْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ فَإِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَعِيراً وضع «الكافرين» موضع الضمير إيذانا بأنّ من لم يجمع بين الإيمان باللّه و رسوله فهو كافر، و أنّه مستوجب للسعير بكفره. و تنكير «سعيرا» للتهويل، أو لأنّها نار مخصوصة.

وَ لِلَّهِ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يدبّره كيف يشاء يَغْفِرُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يُعَذِّبُ مَنْ يَشاءُ مشيئته تابعة لحكمته، و حكمته المغفرة للتائب، و تعذيب المصرّ وَ كانَ اللَّهُ غَفُوراً رَحِيماً رحمته سابقة لغضبه، حيث يكفّر السيّئات باجتناب الكبائر، و يغفر الكبائر بالتوبة. و

قد جاء في الحديث الإلهي: «سبقت رحمتي غضبي».

[سورة الفتح (48): الآيات 15 الى 17]

سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ إِذَا انْطَلَقْتُمْ إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها ذَرُونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ مِنْ قَبْلُ فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ إِلاَّ قَلِيلاً (15) قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ

يُسْلِمُونَ فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً (16) لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ مَنْ يَتَوَلَّ يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً (17)

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 381

سَيَقُولُ الْمُخَلَّفُونَ أي الّذين تخلّفوا عن الحديبية إِذَا انْطَلَقْتُمْ أيّها المؤمنون إِلى مَغانِمَ لِتَأْخُذُوها يعني: مغانم خيبر،

فإنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رجع من الحديبية في ذي الحجّة من سنة ستّ، و أقام بالمدينة بقيّتها و أوائل المحرّم، ثمّ غزا خيبر بمن شهد الحديبية، ففتحها و غنم أموالا كثيرة، فخصّها بهم.

و سيجي ء تفصيل قصّتها عن قريب إن شاء اللّه.

ذَرُونا اتركونا نَتَّبِعْكُمْ يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ يغيّروه.

و هو وعده لأهل الحديبية أن يعوّضهم من مغانم مكّة مغانم خيبر، و لا يشركهم فيها غيرهم. و هذا قول ابن عبّاس و مجاهد و ابن إسحاق و غيرهم من المفسّرين.

و قال الجبائي: أراد بقوله: «يُرِيدُونَ أَنْ يُبَدِّلُوا كَلامَ اللَّهِ» قوله: فَقُلْ لَنْ تَخْرُجُوا مَعِيَ أَبَداً وَ لَنْ تُقاتِلُوا مَعِيَ عَدُوًّا «1».

و قال صاحب المجمع: «و هذا غلط، لأنّ هذه السورة نزلت بعد الانصراف من الحديبية في سنة ستّ من الهجرة، و تلك الآية نزلت في الّذين تخلّفوا عن غزوة تبوك، و هذه الغزوة بعد فتح مكّة، و بعد غزوة حنين و الطائف، و رجوع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منها إلى المدينة، و مقامه ما بين ذي الحجّة إلى رجب، ثمّ تهيّأ في رجب للخروج إلى تبوك. و كان منصرفه من تبوك في بقيّة رمضان من سنة تسع من

الهجرة، و لم يخرج صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد ذلك لقتال و لا غزو إلى أن قبضه اللّه، فكيف تكون هذه الآية مرادة

______________________________

(1) التوبة: 83.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 382

ها هنا؟!» «1».

و الكلام اسم للتكليم، غلّب في الجملة المفيدة. و قرأ حمزة و الكسائي: كلم اللّه. و هو جمع كلمة.

قُلْ لَنْ تَتَّبِعُونا نفي في معنى النهي كَذلِكُمْ قالَ اللَّهُ في الحديبية مِنْ قَبْلُ من قبل تهيّئهم للخروج إلى خيبر فَسَيَقُولُونَ بَلْ تَحْسُدُونَنا أن نشارككم في الغنائم بَلْ كانُوا لا يَفْقَهُونَ لا يفهمون إِلَّا قَلِيلًا إلّا فهما قليلا، و هو فطنتهم لأمور الدنيا. و معنى الإضراب الأوّل ردّ منهم أن يكون حكم اللّه أن لا يتّبعوهم، و إثبات للحسد. و الثاني إضراب عن وصفهم بإضافة الحسد إلى المؤمنين إلى وصفهم بما هو أجلّ منه، و هو جهلهم بأمور الدين، كقوله تعالى: يَعْلَمُونَ ظاهِراً مِنَ الْحَياةِ الدُّنْيا «2».

قُلْ لِلْمُخَلَّفِينَ مِنَ الْأَعْرابِ كرّر ذكرهم بهذا الاسم مبالغة في الذمّ، و إشعارا بشناعة التخلّف سَتُدْعَوْنَ إِلى قَوْمٍ أُولِي بَأْسٍ شَدِيدٍ بني حنيفة، أو قوم مسيلمة، أو غيرهم ممّن ارتدّوا بعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في زمن أبي بكر، فإنّه قال: تُقاتِلُونَهُمْ أَوْ يُسْلِمُونَ و في زمانه لا يقبل منهم إلّا الإسلام أو السيف. و قيل: فارس و الروم.

و معنى «يسلمون»: ينقادون، لأنّ الروم نصارى، و فارس مجوس، يقبل منهم إعطاء الجزية. و عن قتادة: أنّهم ثقيف و هوازن، و كان ذلك في عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و قيل: هم أصحاب معاوية.

و قال صاحب المجمع: «الصحيح: أنّ المراد بالداعي في قوله: «ستدعون» هو النبيّ صلّى اللّه عليه و

آله و سلّم، لأنّه قد دعاهم بعد ذلك إلى غزوات كثيرة، و قتال أقوام ذوي نجدة و شدّة، مثل أهل حنين و الطائف و مؤتة و تبوك و غيرها، فلا معنى لحمل ذلك على ما

______________________________

(1) مجمع البيان 9: 115.

(2) الروم: 7.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 383

بعد وفاته» «1».

فَإِنْ تُطِيعُوا يُؤْتِكُمُ اللَّهُ أَجْراً حَسَناً هو الغنيمة في الدنيا، و الجنّة في الآخرة وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا عن القتال كَما تَوَلَّيْتُمْ مِنْ قَبْلُ عن الحديبية يُعَذِّبْكُمْ عَذاباً أَلِيماً لتضاعف جرمكم.

و لمّا أوعد على التخلّف نفى الحرج عن المعذورين، فقال:

لَيْسَ عَلَى الْأَعْمى حَرَجٌ ضيق في ترك الخروج مع المؤمنين في الجهاد وَ لا عَلَى الْأَعْرَجِ حَرَجٌ وَ لا عَلَى الْمَرِيضِ حَرَجٌ فبهذه الآية عذّر اللّه أهل الزمانة و الآفات الّذين تخلّفوا عن المسير إلى الحديبية، و رخّصهم في التخلّف عن الغزو.

ثمّ فصّل الوعد و الوعيد بعد الإجمال مبالغة فيهما، لسبق رحمته للمطيعين، و فرط عقابه على المتمرّدين، فقال على سبيل التعميم:

وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ في الأمر بالقتال و غيره يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ مَنْ يَتَوَلَ عن أمر اللّه و أمر رسوله، فيقعد عن الجهاد و غيره من أوامره يُعَذِّبْهُ عَذاباً أَلِيماً. و قرأ نافع و ابن عامر: ندخله بالنون.

[سورة الفتح (48): الآيات 18 الى 21]

لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ عَلَيْهِمْ وَ أَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً (18) وَ مَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً حَكِيماً (19) وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ وَ كَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ وَ لِتَكُونَ آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ وَ يَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً (20) وَ أُخْرى لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها وَ كانَ اللَّهُ عَلى

كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً (21)

______________________________

(1) مجمع البيان 9: 115- 116.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 384

روي عن ابن عبّاس أنّه قال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خرج يريد مكّة، فلمّا بلغ الحديبية وقفت ناقته، فزجرها فلم تنزجر و بركت. فقال أصحابه: خلأت «1» الناقة.

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما هذا لها عادة، و لكن حبسها حابس الفيل. و دعا عمر بن الخطّاب ليرسله إلى أهل مكّة، ليأذنوا له بأن يدخل مكّة، و يحلّ من عمرته، و ينحر هديه.

فقال: يا رسول اللّه مالي بها حميم، و إنّي أخاف قريشا لشدّة عداوتي إيّاها، و لكن أدلّك على رجل هو أعزّ بها منّي: عثمان بن عفّان.

فقال: صدقت. فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عثمان فأرسله إلى أبي سفيان و أشراف قريش يخبرهم أنّه لم يأت لحرب، و إنّما جاء زائرا لهذا البيت، معظّما لحرمته.

فاحتبسته قريش عندها. فبلغ رسول اللّه و المسلمين أنّ عثمان قد قتل، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

لا نبرح حتّى نناجز القوم. و دعا الناس إلى البيعة، فقام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى الشجرة- و كانت سمرة «2»- فاستند إليها، و بايع الناس على أن يقاتلوا المشركين، و لا يفرّوا عنهم.

قال جابر بن عبد اللّه: لو كنت أبصر لأريتكم مكانها.

و

قيل: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جالسا في أصل الشجرة، و على ظهره غصن من أغصانها.

قال عبد اللّه بن المغفل: و كنت قائما على رأس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذلك اليوم،

______________________________

(1) أي: وقفت و لزمت مكانها و لم تنقد.

(2) السمرة:

شجرة من العضاه، و ليس في العضاه أجود خشبا منها. و العضاه: كلّ شجر يعظم و له شوك. زبدة التفاسير، ج 6، ص: 385

و بيدي غصن من الشجرة أذبّ عنه، فرفعت الغصن عن ظهره، فبايعوه على الموت دونه، و على أن لا يفرّوا. فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أنتم اليوم خير أهل الأرض.

و لا شبهة أنّ هذا مشروط بعدم النكث و الارتداد. و كان عدد المبايعين ألفا و خمسمائة و خمسة و عشرين.

و قيل: ألفا و أربعمائة. و قيل: ألفا و ثلاثمائة.

و

روى الزهري و عروة بن الزبير و المسور بن مخزمة قالوا: خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من الحديبية في بضع عشرة مائة من أصحابه، حتّى إذا كانوا بذي الحليفة قلّد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم الهدي و أشعره، و أحرم بالعمرة، و بعث بين يديه عينا له من خزاعة يخبره عن قريش. و سار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى إذا كان بغدير «1» الأشطاط قريبا من عسفان أتاه عينه الخزاعي فقال: إنّي تركت كعب بن لؤي و عامر بن لؤي و غيرهما قد جمعوا لك الأحابيش «2» و جمعوا جموعا، و هم قاتلوك و صادّوك عن البيت.

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: روحوا. فراحوا حتّى إذا كانوا ببعض الطريق قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ خالد بن الوليد بالغميم «3» في خيل لقريش طليعة، فخذوا ذات اليمين. و سار صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى إذا كان بالثنيّة «4» بركت راحلته، فقال صلّى اللّه عليه و آله

و سلّم: ما خلأت القصواء «5»، و لكن حبسها حابس الفيل، فزجرها فوثبت به. قال: فعدل حتّى نزل بأقصى الحديبية

______________________________

(1) غدير الأشطاط: قريب من عسفان. و عسفان: منهلة من مناهل الطريق، و هي من مكّة على مرحلتين.

(2) الأحابيش: الجماعة من الناس ليسوا من قبيلة واحدة.

(3) الغميم: موضع بين مكّة و المدينة.

(4) الثنيّة: طريق العقبة. و العقبة: المرقى الصعب من الجبال، أو الطريق في أعلى الجبال.

(5) القصواء: الناقة التي قطع طرف أذنها. و في نهاية ابن الأثير (4: 75): «و لم تكن ناقة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قصواء، و إنّما كان هذا لقبا لها. و قيل: كانت مقطوعة الأذن». زبدة التفاسير، ج 6، ص: 386

على ثمد «1» قليل الماء، إنّما يتبرّضه «2» الناس تبرّضا، فشكوا إليه العطش، فانتزع سهما من كنانته فركزه «3» فيه، فو اللّه ما زال يجيش «4» لهم بالريّ حتّى صدورا عنه.

و بعث قريش حويطب بن عبد العزّى، و بديل بن ورقاء الخزاعي، و عروة بن مسعود الثقفي، مع جماعة، و ابتدر عروة و جعل يكلّم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و كلّما كلّمه أخذ بلحيته، و المغيرة بن شعبة قائم على رأس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و معه السيف و عليه المغفرة «5»، فكلّما أهوى عروة بيده إلى لحية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ضرب يده بنعل «6» السيف و قال: أخّر يدك عن لحية رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قبل أن لا ترجع إليك. فقال: من هذا؟ قال: المغيرة بن شعبة.

فخيّرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بين المصالحة إلى

مدّة معيّنة، و رجوعه عن مكّة إلى أن تنقضي المدّة، و بين أن يدعوه و أصحابه أن يدخلوا مكّة و يطوفوا و يحلّوا و يرجعوا. ثمّ قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و الّذي نفسي بيده لأقاتلنّهم على أمري هذا حتّى تنفرد سالفتي «7» أو لينفذنّ اللّه عزّ و جلّ أمره.

فجعل عروة يرمق صحابة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا أمرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ابتدروا أمره، و إذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضوئه، و إذا تكلّم خفضوا أصواتهم عنده، و ما يحدّون إليه النظر تعظيما له.

فرجع إلى قريش، فقال لهم: و اللّه لقد وفدت على الملوك، وفدت على قيصر

______________________________

(1) الثمد: الحفرة يجتمع فيها ماء المطر.

(2) تبرّض الماء: ترشّفه، أي: مصّه بشفتيه.

(3) ركز الرمح و نحوه: غرزه في الأرض و أثبته.

(4) أي: يفيض. و الريّ و الريّ: أن يشرب الماء حتّى يشبع.

(5) المغفرة: زرد- أي: درع- يلبسه المحارب تحت القلنسوة.

(6) نعل السيف: ما يكون في أسفل غمده من حديد أو فضّة.

(7) السالفة: صفحة العنق. أراد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: حتّى يفرّق بين رأسي و جسدي. زبدة التفاسير، ج 6، ص: 387

و كسرى و النجاشي، و اللّه إن رأيت ملكا قطّ يعظّمه أصحابه ما يعظّم أصحاب محمّد محمدا، إذا أمرهم ابتدروا أمره، و إذا توضّأ كادوا يقتتلون على وضوئه، و إذا تكلّم خفضوا أصواتهم عنده، و ما يحدّون إليه النظر تعظيما له. و إنّه قد عرض عليكم خطّة رشد فاقبلوها.

فقال رجل من بني كنانة: دعوني آته.

فقالوا: ائته. فلمّا أشرف عليهم قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأصحابه: هذا فلان، و

هو من قوم يعظّمون البدن «1»، فابعثوها. فبعثت له. و استقبله القوم يلبّون، فلمّا رأى ذلك قال: سبحان اللّه ما ينبغي لهؤلاء أن يصدّوا عن البيت.

فقام رجل منهم يقال له: مكرز بن حفص، فقال: دعوني آته.

فقالوا: ائته. فلمّا أشرف عليهم قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: هذا مكرز، و هو رجل فاجر. فجعل يكلّم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فبينا هو يكلّمه إذ جاء سهيل بن عمرو، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد سهل عليكم أمركم.

فقال: اكتب بيننا و بينك كتابا.

فدعا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليّ بن أبي طالب عليه الصلاة و السلام فقال له:

اكتب: بسم اللّه الرحمن الرحيم.

فقال سهيل: أمّا الرحمن فو اللّه ما أدري ما هو. فهمّ المسلمون أن يأبوا ذلك و يبطشوا عليهم، فأنزل اللّه سكينته عليهم فحلموا.

فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من محمّد رسول اللّه.

فقال سهيل: لو كنّا نعلم أنّك رسول اللّه ما صددناك عن البيت و لا قاتلناك، و لكن اكتب: محمّد بن عبد اللّه.

فقال النبيّ: إنّي لرسول اللّه و إن كذّبتموني.

______________________________

(1) البدن جمع البدنة: الناقة أو البقرة المسمّنة. زبدة التفاسير، ج 6، ص: 388

ثمّ قال لعليّ عليه السّلام: امح: رسول اللّه.

فقال له: يا رسول اللّه إنّ يدي لا تنطلق بمحو اسمك من النبوّة.

فأخذه رسول اللّه فمحاه. ثمّ قال: اكتب: هذا ما قاضى عليه محمّد بن عبد اللّه سهيل بن عمرو، و اصطلحا على وضع الحرب عن الناس عشر سنين، يأمن فيهنّ الناس، و يكفّ بعضهم عن بعض. و على أنّه من قدم مكّة من أصحاب محمّد حاجّا أو معتمرا، أو يبتغي من

فضل اللّه فهو آمن على دمه و ماله، و من أحبّ أن يدخل في عقد محمّد و عهده دخل فيه، و من أحبّ أن يدخل في عقد قريش و عهدهم دخل فيه.

فتواثبت بنو خزاعة فقالوا: نحن في عقد محمّد و عهده. و تواثبت بنو بكر فقالوا: نحن في عقد قريش و عهدهم.

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: على أن تخلّوا بيننا و بين البيت فنطوف.

فقال سهيل: ذلك من العام المقبل.

ثمّ قال سهيل: على أنّه لا يأتيك منّا رجل و إن كان على دينك إلّا رددته إلينا، و من جاءنا ممّن معك لم نردّه عليك.

فقال المسلمون: سبحان اللّه كيف يردّ إلى المشركين و قد جاء مسلما؟! فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من جاءهم منّا فأبعده اللّه، و من جاءنا منهم رددناه إليهم، فلو علم اللّه الإسلام من قلبه جعل له مخرجا.

فقال سهيل: و على أنّك ترجع عنّا عامك هذا، فلا تدخل علينا مكّة. فإذا كان عام قابل خرجنا عنها لك، فدخلتها بأصحابك، فأقمت بها ثلاثا. و لا تدخلها بالسلاح، إلّا السيوف في القراب «1» و سلاح الراكب. و على أنّ هذا الهدي حيث ما حبسناه محلّه، لا تقدّمه علينا.

______________________________

(1) القراب: الغمد، أي: جفن السيف. زبدة التفاسير، ج 6، ص: 389

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: نحن نسوق، و أنتم تردّون.

قال عمر بن الخطّاب: ما شككت مذ أسلمت إلّا يومئذ، فأتيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقلت: أ لست نبيّ اللّه؟

قال: بلى.

قلت: ألسنا على الحقّ، و عدوّنا على الباطل؟

قال: بلى.

قلت: فلم نعطي الدنيّة في ديننا إذا؟

قال: إنّي رسول اللّه، و لست أعصيه، و هو ناصري.

قلت: أو لست كنت

تحدّثنا أنّا سنأتي البيت و نطوف به؟

قال: بلى. أ فأخبرتك أنّك تأتيه العام؟

قلت: لا.

قال: فإنّك تأتيه و تطوف به. فنحر رسول اللّه بدنة، و دعا بحالقه، فحلق شعره، ثمّ رجع مع أصحابه.

و أخبر سبحانه مجملا عمّا ذكرنا مفصّلا، فقال: لَقَدْ رَضِيَ اللَّهُ عَنِ الْمُؤْمِنِينَ إِذْ يُبايِعُونَكَ تَحْتَ الشَّجَرَةِ شجرة السمرة فَعَلِمَ ما فِي قُلُوبِهِمْ من الإخلاص و صدق الضمائر فيما بايعوا فَأَنْزَلَ السَّكِينَةَ الطمأنينة و سكون النفس بالتشجيع أو الصلح عَلَيْهِمْ على قلوبهم. و المراد بإنزالها اللطف المقوّي لها. وَ أَثابَهُمْ فَتْحاً قَرِيباً فتح خيبر غبّ انصرافهم من مكّة. و قيل: مكّة. و عن الحسن: فتح حجر. و هو أجلّ فتح اتّسعوا بثمرها زمانا. و الأوّل أصحّ و أشهر.

وَ مَغانِمَ كَثِيرَةً يَأْخُذُونَها يعني: مغانم خيبر و كانت أرضا ذات عقار و أموال، فقسّمها رسول اللّه عليهم. وَ كانَ اللَّهُ عَزِيزاً غالبا قاهرا حَكِيماً مراعيا مقتضى الحكمة.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 390

وَعَدَكُمُ اللَّهُ مَغانِمَ كَثِيرَةً تَأْخُذُونَها و هي ما يفي ء على المؤمنين إلى يوم القيامة فَعَجَّلَ لَكُمْ هذِهِ يعني: مغانم خيبر وَ كَفَّ أَيْدِيَ النَّاسِ عَنْكُمْ أيدي أهل خيبر و حلفائهم من بني أسد و غلطفان حين جاءوا لنصرتهم، فقذف في قلوبهم الرعب فنكصوا. أو أيدي قريش بالصلح.

وَ لِتَكُونَ هذه الكفّة، أو الغنيمة آيَةً لِلْمُؤْمِنِينَ أمارة يعرفون بها أنّهم من اللّه بمكان، و أنّه ضامن نصرهم و الفتح عليهم. أو صدق الرسول في وعدهم بفتح خيبر في حين رجوعه من الحديبية، أو وعد المغانم.

قيل: رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فتح مكّة في منامه- و رؤيا الأنبياء وحي- فتأخّر ذلك إلى السنة القابلة، فجعل فتح خيبر علامة و عنوانا لفتح مكّة.

و هو علّة

الكفّ، أو «عجّل»، معطوف على محذوف، مثل: لتسلموا، أو لتأخذوا. أو العلّة لمحذوف تقديره: و ليكون آية للمؤمنين فعل ذلك.

وَ يَهْدِيَكُمْ صِراطاً مُسْتَقِيماً و يزيدكم بصيرة و يقينا و ثقة بفضل اللّه و التوكّل عليه، من عدة اللّه في القرآن بالفتح و الغنيمة.

وَ أُخْرى و مغانم اخرى. معطوفة على «هذه». أو منصوبة بفعل يفسّره «قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها» مثل: قضى. و يحتمل رفعها بالابتداء، لأنّها موصوفة. و جرّها بإضمار «ربّ» أي: ربّ مغانم اخرى. لَمْ تَقْدِرُوا عَلَيْها لما كان فيها من الشدّة العظيمة و الصعوبة التامّة قَدْ أَحاطَ اللَّهُ بِها قد علم بها و قدر عليها و استولى، فأظفركم بها و غنّمكموها. و هو مغانم هوازن في غزوة حنين، و مغانم فارس.

وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيراً لأنّ قدرته ذاتيّة لا تختصّ بشي ء دون شي ء.

و بيان قصّة وقعة خيبر على ما

روى كبراء المفسّرين و عظماء المؤرّخين: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا قدم المدينة من الحديبية مكث بها عشرين ليلة، ثمّ خرج منها قاصدا إلى خيبر.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 391

و

رووا عن ابن إسحاق بإسناده، عن أبي مروان الأسلمي، عن أبيه، عن جدّه قال: خرجنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى خيبر، حتّى إذا أشرفنا عليها قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قفوا. فوقف الناس. فقال: اللّهمّ ربّ السماوات السبع و ما أظللن، و ربّ الأرضين السبع و ما أقللن، و ربّ الشياطين و ما أضللن، إنّا نسألك خير هذه القرية و خير أهلها و خير ما فيها، و نعوذ بك من شرّ هذه القرية و شرّ أهلها و شرّ ما فيها.

أقدموا

بسم اللّه.

و

عن سلمة بن الأكوع قال: خرجنا مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى خيبر، فسرنا ليلا، فلمّا جدّ الحرب و تصافّ القوم خرج يهوديّ و هو يقول:

قد علمت خيبر أنّي مرحب* شاكي السلاح بطل مجرّب إذا الحروب أقبلت تلهّب فبرز إليه عامر بن الأكوع و هو يقول:

قد علمت خيبر أنّي عامر* شاكي السلاح بطل مغامر فاختلفا ضربتين، فوقع سيف اليهوديّ في ترس عامر، و كان سيف عامر فيه قصر، فتناول به ساق اليهوديّ ليضربه، فرجع ذباب «1» سيفه فأصاب عين ركبة عامر، فمات منه.

قال سلمة: فإذا نفر من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقولون: بطل عمل عامر قتل نفسه.

قال: فأتيت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أنا أبكي، فقلت: قالوا: إنّ عامرا بطل عمله.

فقال: من قال ذلك؟

قلت: نفر من أصحابك.

فقال: كذب أولئك، بل أوتي من الأجر مرّتين.

______________________________

(1) ذباب السيف: طرفه الّذي يضرب به. زبدة التفاسير، ج 6، ص: 392

قال: فحاصرناهم حتّى أصابتنا مخمصة شديدة. ثمّ إنّ اللّه فتحها علينا.

و ذلك أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أعطى اللواء عمر بن الخطّاب، و نهض من نهض معه من الناس، فلقوا أهل خيبر، فانكشف عمر و أصحابه، فرجعوا إلى رسول اللّه، يجبّنه أصحابه و يجبّنهم. و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخذته الشقيقة، فلم يخرج إلى الناس، فقال حين أفاق من وجعه: ما فعل الناس بخيبر؟ فأخبر. فقال: لأعطينّ الراية غدا رجلا يحبّ اللّه و رسوله، و يحبّه اللّه و رسوله، كرّارا غير فرّار، لا يرجع حتّى يفتح اللّه على يديه.

و

روى البخاري و مسلم في صحيحيهما، عن

قتيبة بن سعيد قال: حدّثنا يعقوب بن عبد الرحمن الاسكندراني، عن أبي حازم، قال: أخبرني سهل بن سعد: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال يوم خيبر: لاعطينّ هذه الراية غدا رجلا يفتح اللّه على يديه، يحبّ اللّه و رسوله، و يحبّه اللّه و رسوله.

قال: فبات الناس يدوكون «1» بجملتهم أيّهم يعطاها. فلمّا أصبح الناس غدوا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كلّهم يرجون أن يعطاها.

فقال: أين عليّ بن أبي طالب؟

فقالوا: يا رسول اللّه يشتكي عينيه.

قال: فأرسلوا إليه، فأتي به، فبصق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في عينيه، و دعا له، فبرى ء حتّى كأن لم يكن به وجع، فأعطاه الراية.

فقال عليّ عليه السّلام: يا رسول اللّه أقاتلهم حتّى يكونوا مثلنا؟ قال: أنفذ على رسلك «2» حتّى تنزل بساحتهم، ثمّ ادعهم إلى الإسلام، و أخبرهم بما يجب عليهم من حقّ اللّه، فو اللّه لأن يهدي اللّه بك رجلا واحدا خير لك من أن يكون حمر النعم.

______________________________

(1) داك القوم: خاضوا و اضطربوا و ماجوا.

(2) الرسلة: التمهّل و التؤدة و الرفق. يقال: على رسلك، أي: على مهلك و تأنّ. زبدة التفاسير، ج 6، ص: 393

قال سلمة: فبرز مرحب و هو يقول: قد علمت خيبر أنّي مرحب ... «1» الأبيات. فبرز له عليّ عليه السّلام و هو يقول:

أنا الّذي سمّتني أمّي حيدرةكليث غابات كريه المنظرة

أو فيهم بالصاع كيل السندرة «2»أكيلكم بالسيف كيل السندرة

فضرب مرحبا ففلق رأسه فقتله، و كان الفتح على يده».

و

روى أبو عبد اللّه الحافظ بإسناده عن أبي رافع مولى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: خرجنا مع عليّ عليه السّلام

حين بعثه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فلمّا دنا من الحصن خرج إليه أهله، فقاتلهم فضربه رجل من اليهود فطرح ترسه من يده، فتناول عليّ باب الحصن فتترّس به عن نفسه، فلم يزل في يده و هو يقاتل حتّى فتح اللّه عليه، ثمّ ألقاه من يده. فلقد رأيتني في نفر مع سبعة- أنا ثامنهم- نجهد على أن نقلب ذلك الباب فما استطعنا أن نقلبه.

و

بإسناده عن ليث بن أبي سليم، عن أبي جعفر محمّد بن عليّ عليه السّلام قال:

«حدّثني جابر بن عبد اللّه أنّ عليّا عليه السّلام حمل الباب يوم خيبر حتّى صعد المسلمون عليه فافتتحوها، و أنّه حرّك بعد ذلك فلم يحمله أربعون رجلا».

قال: و روي من وجه آخر عن جابر: ثمّ اجتمع عليه سبعون رجلا فكان جهدهم أن أعادوا الباب.

و

بإسناده عن عبد الرحمن بن أبي ليلى قال: كان عليّ عليه السّلام يلبس في الحرّ و الشتاء القباء المحشوّ الثخين، و ما يبالي الحرّ. فأتاني أصحابي فقالوا: إنّا رأينا من

______________________________

(1) ورد صدر الحديث في صحيح البخاري 5: 171، و ذيله من قوله: «قال سلمة ...» في صحيح مسلم 3: 1441.

(2) السندرة: ضرب من الكيل ضخم. يقال: أكيلكم بالسيف كيل السندرة، يعني: أقتلكم قتلا واسعا ذريعا. زبدة التفاسير، ج 6، ص: 394

أمير المؤمنين عليه السّلام شيئا، فهل رأيت؟

فقلت: و ما هو؟

قالوا: رأيناه يخرج علينا في الحرّ الشديد في القباء المحشوّ الثخين، و ما يبالي الحرّ، و يخرج علينا في البرد الشديد في الثوبين الخفيفين، و ما يبالي البرد.

فهل سمعت في ذلك شيئا؟

فقلت: لا.

فقالوا: فسل لنا أباك عن ذلك.

فسألته. فقال: ما سمعت في ذلك شيئا. فدخل على عليّ عليه السّلام، فسمر معه، ثمّ

سأله عن ذلك. فقال: أو ما شهدت معنا خيبر؟

فقلت: بلى.

قال: أو ما رأيت رسول اللّه حين دعا أبا بكر، فعقد له و بعثه إلى القوم، فانطلق فلقي القوم، ثمّ جاء بالناس و قد هزموا؟

فقال: بلى.

قال: ثمّ بعث إلى عمر فعقد له، ثمّ بعثه إلى القوم، فانطلق فلقي القوم فقاتلهم، ثمّ رجع و قد هزم. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لأعطينّ الراية اليوم رجلا يحبّ اللّه و رسوله،- و يحبّه اللّه و رسوله، يفتح اللّه على يديه، كرّارا غير فرّار. فدعاني فأعطاني الراية، ثمّ قال: اللّهمّ اكفه الحرّ و البرد. فما وجدت بعد ذلك بردا و لا حرّا.

و هذا كلّه أيضا منقول من كتاب دلائل «1» النبوّة للإمام أبي بكر البيهقي.

ثمّ لم يزل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يفتح الحصون حصنا حصنا، و يحوز الأموال، حتّى انتهوا إلى حصن الوطيح و السلالم، و كان آخر حصون خيبر، افتتح، و حاصرهم رسول اللّه بضع عشرة ليلة.

______________________________

(1) دلائل النبوّة 4: 212- 213.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 395

قال ابن إسحاق: و لمّا افتتح القموص حصن ابن أبي الحقيق، أتي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بصفيّة بنت حييّ بن أخطب و بأخرى معها. فمرّ بهما بلال- و هو الّذي جاء بهما- على قتلى من قتلى يهود، فلمّا رأتهم الّتي معها صفيّة صاحت و صكّت وجهها، و حثت التراب على رأسها. فلمّا رآها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: اغربوا «1» عنّي هذه الشيطانة. و أمر بصفيّة فحيزت خلفه، و ألقى عليها رداءه. فعرف المسلمون أنّه قد اصطفاها لنفسه.

و قال صلّى اللّه عليه و آله

و سلّم لبلال لمّا رأى من تلك اليهوديّة ما رأى: أنزعت منك الرحمة يا بلال، حيث تمرّ بامرأتين على قتلى رجالهما؟

و كانت صفيّة قد رأت في المنام، و هي عروس بكنانة بن الربيع بن أبي الحقيق، أنّ قمرا وقع في حجرها، فعرضت رؤياها على زوجها. فقال: ما هذا إلّا أنّك تتمنّين ملك الحجاز محمّدا، و لطم وجهها لطمة اخضرّت عينها منها. فأتي بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بها أثر منها. فسألها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما هو؟ فأخبرته.

و أرسل ابن أبي الحقيق إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: انزل فأكلّمك. قال: نعم. فنزل و صالح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على حقن دماء من في حصونهم من المقاتلة، و ترك الذرّيّة لهم، و يخرجون من خيبر و أرضها بذراريهم، و يخلّون بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بين ما كان لهم من مال و أرض، و على الصفراء و البيضاء، و الكراع «2» و الحلقة، و على البزّ «3» إلّا ثوبا على ظهر إنسان.

و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: فبرئت منكم ذمّة اللّه و ذمّة رسوله إن كتمتموني شيئا.

فصالحوه على ذلك.

______________________________

(1) اغرب عنّي، أي: تباعد.

(2) الكراع: اسم يطلق على الخيل و البغال و الحمير. و الحلقة: الدرع.

(3) البزّ: الثياب. زبدة التفاسير، ج 6، ص: 396

فلمّا سمع بهم أهل فدك قد صنعوا ما صنعوا، بعثوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يسألونه أن يسيّرهم، و يحقن دماءهم، و يخلّون بينه و بين الأموال. ففعل.

و كان ممّن مشى بين رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بينهم في ذلك محيّصة بن مسعود، أحد بني حارثة.

فلمّا نزل أهل خيبر على ذلك سألوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يعاملهم الأموال على النصف. و قالوا: نحن أعلم بها منكم و أعمر لها. فصالحهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على النصف، على أنّا إذا شئنا أن نخرجكم أخرجناكم. و صالحه أهل فدك على مثل ذلك. فكانت أموال خيبر فيئا بين المسلمين. و كانت فدك خالصة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لأنّهم لم يوجفوا عليها بخيل و لا ركاب.

و لمّا اطمأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أهدت له زينب بنت الحارث امرأة سلام بن مشكم- و هي ابنة أخي مرحب- شاة مصليّة «1»، و قد سألت: أيّ عضو من الشاة أحبّ إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟ فقيل لها: الذراع. فأكثرت فيها السمّ، و سمّت سائر الشاة، ثمّ جاءت بها. فلمّا وضعتها بين يديه تناول الذراع، فأخذها فلاك منها مضغة، و انتهش منها، و معه بشر بن البراء بن معرور، فتناول عظما، فانتهش منه.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ارفعوا أيديكم، فإنّ كتف هذه الشاة تخبرني أنّها مسمومة. ثمّ دعاها فاعترفت.

فقال: ما حملك على ذلك؟

فقالت: بلغت من قومي ما لم يخف عليك، فقلت: إن كان نبيّا فسيخبر، و إن كان ملكا استرحت منه.

فتجاوز عنها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و مات بشر بن البراء من أكلته الّتي أكل.

قال: و دخلت أمّ بشر

بن البراء على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تعوده في مرضه الّذي توفّي فيه، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يا أمّ بشر ما زالت أكلة خيبر الّتي أكلت بخيبر مع ابنك

______________________________

(1) صلى اللحم: شواه، فاللحم مصليّ. زبدة التفاسير، ج 6، ص: 397

تعاودني، فهذا أوان قطعت أبهري «1». و كان المسلمون يرون أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مات شهيدا، مع ما أكرمه اللّه به من النبوّة.

[سورة الفتح (48): الآيات 22 الى 24]

وَ لَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا وَ لا نَصِيراً (22) سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلاً (23) وَ هُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ وَ أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ بِبَطْنِ مَكَّةَ مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ وَ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيراً (24)

ثمّ ذكر نصرة أهل الإيمان على المشركين، فقال: وَ لَوْ قاتَلَكُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا من أهل مكّة يوم الحديبية، و لم يصالحوا. و قيل: من حلفاء أهل خيبر. لَوَلَّوُا الْأَدْبارَ لا نهزموا و غلبوا ثُمَّ لا يَجِدُونَ وَلِيًّا يحرسهم وَ لا نَصِيراً ينصرهم.

و في الآية دلالة على أنّه يعلم ما لم يكن أن لو كان كيف يكون، و إشارة إلى أنّ المعدوم معلوم عنده.

سُنَّةَ اللَّهِ الَّتِي قَدْ خَلَتْ مِنْ قَبْلُ أي: سنّ غلبة أنبيائه سنّة قديمة فيمن مضى من الأمم، كما قال: لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي «2» وَ لَنْ تَجِدَ لِسُنَّةِ اللَّهِ تَبْدِيلًا في نصرة اللّه تغييرا.

وَ هُوَ الَّذِي كَفَّ أَيْدِيَهُمْ عَنْكُمْ أيدي كفّار مكّة بالرعب وَ أَيْدِيَكُمْ عَنْهُمْ

______________________________

(1) الأبهر: وريد العنق، إذا انقطع لم يبق صاحبه. يقال: ما زال يراجعه الألم حتّى قطع أبهره، أي: أهلكه.

(2)

المجادلة: 21.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 398

بالنهي بِبَطْنِ مَكَّةَ يوم الحديبية، فإن بعضها من الحرم. و

روي أنّ مضارب «1» رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كانت في الحلّ، و مصلّاه في الحرم.

مِنْ بَعْدِ أَنْ أَظْفَرَكُمْ عَلَيْهِمْ أظهركم عليهم. و ذلك

أنّ عكرمة بن أبي جهل خرج في خمسمائة إلى الحديبية، فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خالد بن الوليد على جند، فهزمهم حتّى أدخلهم حيطان مكّة ثمّ عاد.

و عن ابن عبّاس: أظهر اللّه المسلمين عليهم بالحجارة حتّى أدخلوهم البيوت.

و

عن عبد اللّه بن المغفل: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جالسا في ظلّ شجرة، و بين يديه عليّ عليه السّلام يكتب كتاب الصلح، فخرج ثلاثون شابّا عليهم السلاح، فدعا عليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فأخذ اللّه تعالى بأبصارهم، فقمنا فأخذناهم، فخلّى عليه السّلام سبيلهم.

و قيل: كان ذلك يوم الفتح.

وَ كانَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من مقاتلتهم أوّلا طاعة لرسوله، و كفّهم ثانيا لتعظيم بيته. و قرأ أبو عمرو بالياء. بَصِيراً فيجازيهم عليه.

[سورة الفتح (48): الآيات 25 الى 26]

هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ وَ الْهَدْيَ مَعْكُوفاً أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ وَ لَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَ نِساءٌ مُؤْمِناتٌ لَمْ تَعْلَمُوهُمْ أَنْ تَطَؤُهُمْ فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ بِغَيْرِ عِلْمٍ لِيُدْخِلَ اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ مَنْ يَشاءُ لَوْ تَزَيَّلُوا لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً (25) إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى وَ كانُوا أَحَقَّ بِها وَ أَهْلَها وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً (26)

______________________________

(1) أي: مواضع خيامه.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 399

ثمّ ذكر سبحانه سبب

منعه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذلك العام دخول مكّة، فقال:

هُمُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ صَدُّوكُمْ عَنِ الْمَسْجِدِ الْحَرامِ أن تطوفوا و تحلّوا من عمرتكم وَ الْهَدْيَ ما يهدى إلى مكّة. و هي البدن الّتي ساقها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم معه، و كانت سبعين بدنة. عطف على الضمير المنصوب في «صدّوكم» أي: صدّوا الهدي.

مَعْكُوفاً محبوسا أَنْ يَبْلُغَ مَحِلَّهُ أي: مكانه الّذي يحلّ فيه نحره- أي:

يجب- يعني: مكّة، لأنّ هدي العمرة لا يذبح إلّا بمكّة، كما أنّ هدي الحجّ لا يذبح إلّا بمنى.

وَ لَوْ لا رِجالٌ مُؤْمِنُونَ وَ نِساءٌ مُؤْمِناتٌ يعني: المستضعفين الّذين كانوا بمكّة بين الكفّار من أهل الإيمان، غير مستطيعين للمهاجرة عنهم لَمْ تَعْلَمُوهُمْ صفة للرجال و النساء جميعا. و التذكير للتغليب، أي: لم تعرفوا المؤمنين و المؤمنات بأعيانهم، لاختلاطهم بالمشركين. أَنْ تَطَؤُهُمْ أن توقعوا بهم و تبيدوهم، فإنّ الوطء و الدوس عبارة عن الإيقاع و الإبادة. و هو بدل اشتمال من «رجال و نساء».

أو من ضمير «هم» في «تعلموهم».

فَتُصِيبَكُمْ مِنْهُمْ مَعَرَّةٌ من جهتهم مكروه، كوجوب الدية و الكفّارة بقتلهم، و التأسّف عليهم، و تعيير الكفّار بأنّهم فعلوا بأهل دينهم ما فعلوا بنا، و الإثم بالتقصير في البحث عنهم. مفعلة من: عرّه إذا أغراه، أي: أصابه ما يكرهه.

بِغَيْرِ عِلْمٍ متعلّق ب «أن تطؤهم» أي: تطؤهم غير عالمين بهم.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 400

زبدة التفاسير ج 6 449

و جواب «لولا» محذوف، لدلالة الكلام عليه. و المعنى: لولا كراهة أن تهلكوا أناسا مؤمنين بين اظهر المشركين، جاهلين بهم، لاختلاطهم بالكافرين، غير متميّزين منهم، و لا معروفي الأماكن، فيصيبكم بإهلاكهم مكروه و مشقّة، لما كفّ أيديكم عنهم.

و قوله: لِيُدْخِلَ

اللَّهُ فِي رَحْمَتِهِ علّة لما دلّ عليه كفّ الأيدي عن أهل مكّة صونا لمن فيها من المؤمنين، أي: كان الكفّ و منع التعذيب ليدخل اللّه في رحمته- أي: في توفيقه للسلامة من القتل، و لزيادة الخير و الطاعة- مَنْ يَشاءُ من مؤمنيهم.

لَوْ تَزَيَّلُوا لو تفرّقوا، و تميّز بعضهم من بعض. من: زاله يزيله. لَعَذَّبْنَا الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْهُمْ عَذاباً أَلِيماً بالقتل و السبي. فلحرمة اختلاط المؤمنين بالمشركين لم يعذّب اللّه المشركين.

إِذْ جَعَلَ الَّذِينَ كَفَرُوا مقدّر ب: اذكر. أو ظرف ل «لعذّبنا» أو «صدّوكم».

فِي قُلُوبِهِمُ الْحَمِيَّةَ الخصلة الّتي تحمي الإنسان، أي: حميت قلوبهم بالغضب.

و المراد: أنفتهم و استنكافهم من الإقرار بالرسالة، و الاستفتاح ببسم اللّه الرحمن الرحيم.

ثمّ فسّر تلك الحميّة بقوله: حَمِيَّةَ الْجاهِلِيَّةِ أي: عادة آبائهم في الجاهليّة أن لا يذعنوا لأحد، و لا ينقادوا له، و يمتنعوا عن اتّباعه و إن كان في الحقّ.

فَأَنْزَلَ اللَّهُ سَكِينَتَهُ الثبات و الوقار عَلى رَسُولِهِ وَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ و ذلك حين

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ عليه السّلام: اكتب في صكّ المصالحة: بسم اللّه الرحمن الرحيم.

فقال سهيل: ما نعرف هذا، و لكن اكتب: باسمك اللّهمّ.

ثمّ قال: اكتب: هذا ما صالح عليه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أهل مكّة.

فقالوا: لو كنّا نعلم أنّك رسول اللّه ما صددناك عن البيت و لا قاتلناك، و لكن

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 401

اكتب: هذا ما صالح عليه محمّد بن عبد اللّه أهل مكّة.

فهمّ المسلمون أن يأبوا ذلك و يبطشوا عليهم كما مرّ، فأنزل اللّه السكينة عليهم، فتوقّروا و تحلّموا.

و لمّا ذمّ الكفّار بالحميّة، و مدح المؤمنين بلزوم الكلمة و السكينة، بيّن علمه ببواطن سرائرهم و ما

ينطوي عليه عقد ضمائرهم، فقال:

وَ أَلْزَمَهُمْ كَلِمَةَ التَّقْوى بالتوفيق و إعطاء اللطف. و هي كلمة: بسم اللّه الرحمن الرحيم و محمّد رسول اللّه، فاختارها لهم. أو كلمة الشهادة. و عن الحسن:

هي الوفاء بالعهد، و الثبات عليه. و إضافة الكلمة إلى التقوى، لأنّها سببها و أساسها.

أو كلمة أهلها. وَ كانُوا أَحَقَّ بِها من غيرها، و أولى بالهداية من غيرهم وَ أَهْلَها و مستأهلها وَ كانَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيماً فيعلم أهل كلّ شي ء و ييسّره له.

[سورة الفتح (48): الآيات 27 الى 29]

لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا بِالْحَقِّ لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ إِنْ شاءَ اللَّهُ آمِنِينَ مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ لا تَخافُونَ فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ فَتْحاً قَرِيباً (27) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً (28) مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ وَ الَّذِينَ مَعَهُ أَشِدَّاءُ عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ بَيْنَهُمْ تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً يَبْتَغُونَ فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَ رِضْواناً سِيماهُمْ فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ ذلِكَ مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ وَ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ كَزَرْعٍ أَخْرَجَ شَطْأَهُ فَآزَرَهُ فَاسْتَغْلَظَ فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ لِيَغِيظَ بِهِمُ الْكُفَّارَ وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً (29)

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 402

روي: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رأى قبل خروجه إلى الحديبية، كأنّه و أصحابه قد دخلوا مكّة آمنين و قد حلقوا و قصّروا، فقصّ الرؤيا على أصحابه، ففرحوا و استبشروا، و حسبوا أنّهم داخلوها في عامهم. و قالوا: إنّ رؤيا رسول اللّه حقّ. فلمّا تأخّر ذلك قال عبد اللّه بن أبيّ و عبد اللّه بن نفيل و رفاعة بن الحارث: و اللّه ما حلقنا، و

لا قصّرنا، و لا رأينا المسجد الحرام. فنزلت:

لَقَدْ صَدَقَ اللَّهُ رَسُولَهُ الرُّؤْيا

أي: صدّقه في رؤياه، و لم يكذّبه. فحذف الجارّ و أوصل الفعل، كقوله تعالى: ما عاهَدُوا اللَّهَ عَلَيْهِ «1» بِالْحَقِ ملتبسا به، فإنّ ما رآه كائن لا محالة في وقته المقدّر، و هو العام القابل. و هو إمّا متعلّق ب «صدق» أي: صدّقه فيما رأى، و في كونه و حصوله صدقا ملتبسا بالحقّ، أي:

بالغرض الصحيح و الحكمة البالغة. و ذلك ما فيه من الابتلاء و التمييز بين المؤمنين المخلصين، و بين من في قلبه مرض نفاق.

و يجوز أن يتعلّق بالرؤيا حالا منها، أي: صدّقه الرؤيا ملتبسة بالحقّ، على معنى أنّها لم تكن من أضغاث الأحلام.

و يجوز أن يكون «بالحقّ» قسما. إمّا بالحقّ الّذي هو نقيض الباطل. أو بالحقّ الّذي هو من أسمائه تعالى.

______________________________

(1) الأحزاب: 23.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 403

لَتَدْخُلُنَّ الْمَسْجِدَ الْحَرامَ يعني: العام المقبل. و هو جواب القسم. و على الأوّل جواب قسم محذوف. إِنْ شاءَ اللَّهُ تعليق للعدة بالمشيئة، تعليما للعباد أن يقولوا في عداتهم مثل ذلك، متأدّبين بأدب اللّه، و مقتدين بسنّته. أو إشعارا بأنّ بعضهم لا يدخل، لموت أو غيبة. و المعنى: لتدخلنّ جميعا إن شاء اللّه، و لم يمت منكم أحدا. أو حكاية لما قاله ملك الرؤيا أو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأصحابه.

آمِنِينَ حال من الواو، و الشرط معترض مُحَلِّقِينَ رُؤُسَكُمْ وَ مُقَصِّرِينَ أي: محلّقا بعضكم، و مقصّرا آخرون لا تَخافُونَ حال مؤكّدة، أو استئناف، أي:

لا تخافون بعد ذلك.

فَعَلِمَ ما لَمْ تَعْلَمُوا من الحكمة فَجَعَلَ مِنْ دُونِ ذلِكَ من دون دخولكم المسجد الحرام، أو فتح مكّة فَتْحاً قَرِيباً و هو فتح خيبر، ليستروح إليه قلوب المؤمنين

إلى أن يتيسّر الموعود.

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى ملتبسا بالدليل الواضح و الحجّة الساطعة.

و قيل: بالقرآن، أو بسببه، أو لأجله. وَ دِينِ الْحَقِ و بدين الإسلام لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ ليغلبه على جنس الدين كلّه. يريد الأديان المختلفة، من المشركين و الجاحدين و أهل الكتاب. و ذلك بنسخ ما كان حقّا، و إظهار فساد ما كان باطلا. أو بتسليط المؤمنين على أهله، إذ ما من أهل دين إلّا و قد قهرهم المسلمون. و فيه تأكيد لما وعده من الفتح. قيل: إنّ تمام ذلك عند خروج المهديّ عليه السّلام، فلا يبقى في الأرض دين سوى دين الإسلام. وَ كَفى بِاللَّهِ شَهِيداً على أنّ ما وعده كائن لا محالة. أو على نبوّته بإظهار المعجزات.

مُحَمَّدٌ رَسُولُ اللَّهِ جملة مبيّنة للمشهود به. و يجوز أن يكون «رسول اللّه» صفة و «محمّد» خبر محذوف. أو مبتدأ وَ الَّذِينَ مَعَهُ معطوف عليه، و خبرهما أَشِدَّاءُ جمع شديد عَلَى الْكُفَّارِ رُحَماءُ جمع رحيم بَيْنَهُمْ و المعنى: أنّهم

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 404

يغلظون على من خالف دينهم، و يتراحمون فيما بينهم، كقوله: أَذِلَّةٍ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ أَعِزَّةٍ عَلَى الْكافِرِينَ «1».

و عن الحسن: بلغ من تشدّدهم على الكفّار أنّهم كانوا يتحرّزون من ثياب المشركين أن تلزق بثيابهم، و من أبدانهم أن تمسّ أبدانهم. و بلغ من تراحمهم فيما بينهم أنّه كان لا يرى مؤمن مؤمنا إلّا صافحه و عانقه. و من حقّ المؤمنين في كلّ زمان أن يراعوا هذا التشدّد و هذا التعطّف، فيتشدّدوا على من ليس على ملّتهم و دينهم و يتحاموه، و يعاشروا إخوتهم في الإيمان، متعطّفين بالبرّ و الصلة، و كفّ الأذى، و المعونة، و الأخلاق الكريمة.

تَراهُمْ رُكَّعاً سُجَّداً لأنّهم مشتغلون بالصلاة

في أكثر أوقاتهم يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَ رِضْواناً يلتمسون بذلك زيادة نعمة من اللّه، و يطلبون مرضاته سِيماهُمْ علامتهم فِي وُجُوهِهِمْ مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ يريد السمة الّتي تحدث في جبهة السجّاد من كثرة السجود. فعلى، من: سامه إذا أعلمه. و «مِنْ أَثَرِ السُّجُودِ» بيانها. أو حال من المستكن في الجارّ. و كان عليّ بن الحسين يقال له: ذو الثفنات، لأنّ كثرة سجوده أحدثت في مواقعه منه أشباه ثفنات «2» البعير.

و قيل: السيماء هو صفرة الوجه من خشية اللّه.

و عن الحسن: إذا رأيتهم حسبتهم مرضى و ما هم بمرضى.

و عن سعيد بن المسيّب: ندى الطهور، و تراب الأرض.

و عن عكرمة و سعيد بن جبير و أبي العالية: هو التراب على الجباه، لأنّهم يسجدون على التراب لا على الأثواب.

______________________________

(1) المائدة: 54.

(2) ثفنات جمع ثفنة. و هي من البعير: ما يقع على الأرض من أعضائه إذا استناخ و غلظ، كالركبتين.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 405

و عن عطاء: استنارت وجوههم من طول ما صلّوا بالليل،

كقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من كثرت صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار».

روي عن ابن عبّاس و عطيّة معناه: علامتهم يوم القيامة أن تكون مواضع سجودهم أشدّ بياضا.

و قال شهر بن حوشب: يكون مواضع سجودهم كالقمر ليلة البدر.

ذلِكَ إشارة إلى الوصف المذكور، أو إشارة مبهمة يفسّرها «كزرع» مَثَلُهُمْ فِي التَّوْراةِ صفتهم العجيبة الشأن المذكورة فيها وَ مَثَلُهُمْ فِي الْإِنْجِيلِ عطف عليه، أي: ذلك مثلهم في الكتابين. و قوله: كَزَرْعٍ تمثيل مستأنف، أو تفسير أَخْرَجَ شَطْأَهُ فراخه. يقال: أشطأ الزرع إذا فرّخ «1». و قرأ ابن كثير و ابن عامر برواية ابن ذكوان: شطأه بفتحات. و هو لغة. فَآزَرَهُ فقوّاه. من المؤازرة، و هي

المعاونة. أو من الإيزار، و هي الإعانة. و قرأ ابن عامر برواية ابن ذكوان:

فئازره، كأجر في: آجر.

فَاسْتَغْلَظَ فصار من الدقّة إلى الغلظة فَاسْتَوى عَلى سُوقِهِ فاستقام على قصبه. جمع ساق. و عن ابن كثير: سؤقه بالهمزة. و قيل: مكتوب في الإنجيل:

سيخرج قوم ينبتون نبات الزرع، يأمرون بالمعروف، و ينهون عن المنكر.

يُعْجِبُ الزُّرَّاعَ بغلظه و كثافته و و قوّته و حسن منظره. و هو مثل ضربه اللّه لبدء أمر الإسلام، و ترقّيه في الزيادة يوما فيوما إلى أن قوي و استحكم، لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قام وحده، ثمّ قوّاه اللّه بمن آمن معه، كما يقوّي الطاقة الأولى من الزرع ما يحتفّ بها ممّا يتولّد منها. فكثر المؤمنون، و استحكم دين الإسلام، فترقّى أمرهم بحيث أعجب الناس.

______________________________

(1) الشطء و الشطأ: ورق الزرع. و فرّخ الشجر: نبتت فراخه. و الفراخ جمع الفرخ: ما يخرج في أصول الشجر من صغار الورق.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 406

قال الواحدي: «الزرع محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الشطء أصحابه، و المؤمنون حوله.

و كانوا في ضعف و قلّة، كما يكون أوّل الزرع دقيقا ثمّ غلظ و قوي و تلاحق، كذلك المؤمنون في بدء الإسلام قليلون، ثمّ بعضهم عاون بعضا في نصرة دين اللّه، حتّى استغلظوا و استووا على أمرهم» «1».

لِيَغِيظَ بِهِمُ بتوافرهم و تظاهرهم و اتّفاقهم على إطاعة اللّه الْكُفَّارِ و هذا علّة لتشبيههم بالزرع في نمائهم و ترقّيهم في الزيادة و القوّة. أو لقوله: وَعَدَ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنْهُمْ مَغْفِرَةً وَ أَجْراً عَظِيماً فإنّ الكفّار لمّا سمعوا بما أعدّ لهم في الآخرة، من مغفرة الذنوب و الثواب العظيم و النعيم المقيم، مع

ما يعزّهم به في الدنيا، غاظهم ذلك. و «منهم» للبيان، كقوله: فَاجْتَنِبُوا الرِّجْسَ مِنَ الْأَوْثانِ «2».

______________________________

(1) تفسير الوسيط 4: 147.

(2) الحجّ: 30.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 407

(49) سورة الحجرات

اشارة

مدنيّة. و عن ابن عبّاس: إلّا آية قوله: يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ «1». و هي ثماني عشرة آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ سورة الحجرات، اعطي من الأجر عشر حسنات بعدد من أطاع اللّه و من عصاه».

الحسين بن أبي العلاء، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة الحجرات في كلّ ليلة أو في كلّ يوم، كان من زوّار محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

[سورة الحجرات (49): آية 1]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ عَلِيمٌ (1)

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة الفتح بذكر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، افتتح هذه السورة أيضا بذكره، و ما يختصّ به من الإجلال و الإعظام، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُقَدِّمُوا أي: لا تقدّموا أمرا،

______________________________

(1) الحجرات: 13.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 408

فحذف المفعول ليذهب الوهم إلى كلّ ما يمكن. أو ترك ليقصد توجّه النهي إلى نفس التقدمة، فيكون المقصود نفي التقدّم رأسا، كأنّه قيل: لا تقدّموا على التلبّس بهذا التقدّم، و لا تجعلوه منكم بسبيل. و يجوز أن يكون من: قدّم بمعنى: تقدّم، كوجّه و بيّن بمعنى: توجّه و تبيّن، كأنّه قيل: لا تتقدّموا. و منه: مقدّمة الجيش لمتقدّميهم.

و يؤيّده قراءة يعقوب: لا تقدموا.

بَيْنَ يَدَيِ اللَّهِ وَ رَسُولِهِ أمامهما. مستعار لما بين الجهتين المسامتتين ليمين الإنسان و شماله قريبا منه. فسمّيت الجهتان يدين لكونهما على سمت اليدين مع القرب منهما توسّعا، كما يسمّى الشي ء باسم غيره إذا جاوره و داناه. فهو من باب تسمية الشي ء باسم

ما يجاوره. و في ضمن هذه الاستعارة فائدة جليلة ليست في الكلام الحقيقي. و هي: تصوير الهجنة و الشناعة فيما نهوا عنه من الإقدام على أمر من الأمور دون الاحتذاء «1» على أمثلة الكتاب و السنّة. و المعنى: لا تقطعوا أمرا قبل أن يحكما به و يأذنا فيه.

و قيل: المراد بين يدي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و ذكر اللّه تعظيم له، و إشعار بأنّه من اللّه بمكان و مزيد تقرّب يوجب إجلاله. فهذا يجري مجرى قولك: سرّني زيد و حسن حاله، و أعجبني عمرو و كرمه.

وَ اتَّقُوا اللَّهَ في التقديم، أو مخالفة الحكم إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ لأقوالكم عَلِيمٌ بأفعالكم، و حقّ مثله أن يتّقى عمّا نهاه.

عن ابن عبّاس: نهوا بهذه الآية أن يتكلّموا قبل كلامه، أي: إذا كنتم جالسين في مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فسئل عن مسألة، فلا تسبقوه بالجواب حتّى يجيب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أوّلا.

و عن السدّي معناه: لا تسبقوه بقول و لا فعل حتّى يأمركم به.

______________________________

(1) احتذى مثال فلان و على مثاله: اقتدى و تشبّه به.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 409

و

قال الحسن: نزل في قوم ذبحوا الأضحية قبل صلاة العيد، فأمرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالإعادة.

و قيل: معناه: لا تقدّموا أعمال الطاعة قبل الوقت الّذي أمر اللّه و رسوله به، حتّى إنّه قيل: لا يجوز تقديم الزكاة قبل وقتها.

و قيل: معناه: لا تمكّنوا أحدا يمشي أمام رسول اللّه، بل كونوا تبعا له، و أخّروا أقوالكم و أفعالكم عن قوله و فعله.

و الأولى حمل الآية على الجميع، فإنّ كلّ شي ء كان خلافا للّه و

رسوله إذا فعل فهو تقديم بين يدي اللّه و رسوله، و ذلك ممنوع منه.

[سورة الحجرات (49): الآيات 2 الى 5]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِّ وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ لِبَعْضٍ أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ (2) إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ لِلتَّقْوى لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ (3) إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ (4) وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ لَكانَ خَيْراً لَهُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (5)

و لمّا كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عند اللّه من المكان الّذي لا يخفى، و من أحظاه اللّه بهذه الأثرة، و اختصّه بهذا الاختصاص القويّ، كان أدنى ما يجب له من التهيّب و الإجلال أن يخفض بين يديه الصوت، و يخافت له بالكلام، نهى عباده أن يرفعوا

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 410

أصواتهم فوق صوت نبيّه المكرّم لديه نهاية القصوى، و رسوله المقرّب بين يديه غاية الزلفى، فقال:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَرْفَعُوا أَصْواتَكُمْ فَوْقَ صَوْتِ النَّبِيِ أي: إذا كلّمتموه و كلّمكم فلا تجاوزوا أصواتكم عن صوته عند المكالمة، لأنّ فيه أحد شيئين: إمّا نوع استخفاف به، فهو الكفر، و إمّا سوء الأدب، فهو خلاف التعظيم المأمور به.

و تكرير النداء استدعاء مزيد الاستبصار، أو تجديده عند كلّ خطاب وارد.

و المبالغة في الاتّعاظ، لئلّا يفتروا و يغفلوا عن تأمّلهم. و الدلالة على استقلال المنادى له، و هو النهي عن رفع الصوت، و زيادة الاهتمام به.

وَ لا تَجْهَرُوا لَهُ بِالْقَوْلِ كَجَهْرِ بَعْضِكُمْ أي: جهرا مثل جهر بعضكم لِبَعْضٍ أي:

إذا كلّمتموه و هو صامت فلا تبلغوا به الجهر الدائر بينكم، بل اجعلوا

أصواتكم أخفض، بحيث يكون كلامه عاليا لكلامكم، و جهره باهرا لجهركم، حتّى تكون مزيّته عليكم لائحة، و سابقته واضحة، محاماة على التعظيم، و مراعاة للأدب.

فالصوت الّذي لا يستلزم سوء الأدب و تأذّي النبيّ لا يكون منهيّا عنه، كرفعه منهم في حرب، أو مجادلة معاند، أو إرهاب عدوّ، و ما أشبه ذلك.

ففي الحديث أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال للعبّاس بن عبد المطّلب لمّا انهزم الناس يوم حنين: «اصرخ بالناس».

و كان العبّاس أجهر الناس صوتا. يروى أنّ غارة أتتهم يوما فصاح العبّاس: يا صباحاه، فأسقطت الحوامل لشدّة صوته.

و قيل: معناه: و لا تخاطبوه باسمه و كنيته كما يخاطب بعضكم بعضا، و خاطبوه بالنبيّ و الرسول، لما

روي عن أبي حمزة الثمالي، عن عكرمة، عن ابن عبّاس: أنّ الآية نزلت في نفر من بني العنبر كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أصاب من ذراريهم، فأقبلوا في فدائهم، فقدموا المدينة و دخلوا المسجد، و عجلوا أن يخرج إليهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فجعلوا يقولون: يا محمّد اخرج إلينا.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 411

و

قال محمد بن إسحاق: نزلت في وفد تميم. و هم: عطارد بن حاجب بن زرارة، في أشراف من بني تميم، منهم: الأقرع بن حابس، و الزبرقان بن بدر، و عمرو بن الأهثم، و قيس بن عاصم، في وفد عظيم. فلمّا دخلوا المسجد نادوا رسول اللّه من وراء الحجرات: أن اخرج إلينا يا محمّد. فآذى ذلك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فخرج إليهم. فقالوا: جئناك لنفاخرك، فائذن لشاعرنا و خطيبنا.

فقال: قد أذنت.

فقام عطارد بن حاجب فقال: الحمد للّه الّذي جعلنا ملوكا، الّذي له الفضل علينا،

و الّذي وهب لنا أموالا عظاما نفعل بها المعروف، و جعلنا أعزّ أهل المشرق، و أكثر عددا و عدّة. فمن مثلنا في الناس؟ فمن فاخرنا فليعدّ مثل ما عددنا. و لو شئنا لأكثرنا من الكلام، و لكنّا نستحي من الإكثار. ثمّ جلس.

فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لثابت بن قيس بن شماس: قم فأجبه.

فقام فقال: الحمد للّه الّذي السماوات و الأرض خلقه، قضى فيهنّ أمره، و وسع كرسيّه علمه، و لم يكن شي ء قطّ إلّا من فضله. ثمّ كان من فضله أن جعلنا ملوكا، و اصطفى من خير خلقه رسولا، أكرمهم نسبا، و أصدقهم حديثا، و أفضلهم حسبا. فأنزل عليه كتابا، و ائتمنه على خلقه، فكان خيرة اللّه على العالمين. ثمّ دعا الناس إلى الإيمان باللّه، فآمن به المهاجرون من قومه و ذوي رحمه، أكرم الناس أحسابا، و أحسنهم وجوها. فكان أوّل الخلق إجابة و استجابة للّه حين دعاه رسول اللّه نحن. فنحن أنصار رسول اللّه و ردؤه «1»، نقاتل الناس حتّى يؤمنوا. فمن آمن باللّه و رسوله منع ماله و دمه، و من نكث جاهدناه في اللّه أبدا، و كان قتله علينا يسيرا.

أقول هذا و أستغفر اللّه للمؤمنين و المؤمنات، و السلام عليكم.

ثمّ قام الزبرقان بن بدر ينشد. و أجابه حسّان بن ثابت.

______________________________

(1) الردء: الناصر و العون. زبدة التفاسير، ج 6، ص: 412

فلمّا فرغ حسّان بن قوله قال الأقرع: إنّ هذا الرجل خطيبه أخطب من خطيبنا، و شاعره أشعر من شاعرنا، و أصواتهم أعلى من أصواتنا.

فلمّا فرغوا أجازهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فأحسن جوائزهم، و أسلموا. فنهاهم اللّه سبحانه عن أن ينادوا النبيّ صلّى اللّه عليه

و آله و سلّم باسمه.

أَنْ تَحْبَطَ أَعْمالُكُمْ كراهة أن تحبط. فيكون علّة للنهي. أو لأن تحبط، على أنّ النهي عن الفعل المعلّل باعتبار التأدية و العاقبة، لأنّه لمّا كان بصدد الأداء إلى الحبوط كأنّه فعل لأجله، و كأنّه العلّة و السبب في إيجاده على سبيل التمثيل، كقوله تعالى: لِيَكُونَ لَهُمْ عَدُوًّا «1». فإنّ في الجهر و رفع الصوت عنده أو ندائه باسمه استخفافا، و قد يؤدّي إلى الكفر المحبط، و ذلك إذا انضمّ إليه قصد الإهانة و عدم المبالاة. وَ أَنْتُمْ لا تَشْعُرُونَ أنّها محبطة.

و الحبوط من: حبطت الإبل إذا أكلت الخضر، فنفخ بطونها، و ربّما هلكت.

و المفعول له- أعني: «أن تحبط»- متعلّق بالفعل الثاني عند البصريّين، مقدّر إضماره عند الفعل الأوّل، كقوله تعالى: آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً «2». و عند الكوفيّين بالعكس. و أيّهما كان؛ فمرجع المعنى إلى أنّ الرفع و الجهر كلاهما منصوص أداؤه إلى حبوط العمل.

و اعلم أنّ المراد بحبوط العمل حبوط ثواب ذلك العمل، لا للأعمال الصالحة السابقة على هذا العمل، إذا لم يستلزم الكفر لقصد الاستخفاف و الإهانة. و المعنى:

أنّهم لو أوقعوا العمل على وجه تعظيم النبيّ و توقيره لاستحقّوا الثواب، فلمّا فعلوه على خلاف ذلك الوجه استحقّوا العقاب.

______________________________

(1) القصص: 8.

(2) الكهف: 96.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 413

روي عن أنس: أنّ ثابت بن قيس كان في أذنه وقر «1»، و كان جهوريّا، فلمّا نزلت تخلّف عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فتفقّده و دعاه فسأله، فقال: يا رسول اللّه لقد أنزلت إليك هذه الآية، و إنّي رجل جهير الصوت، فأخاف أن يكون عملي قد حبط.

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لست هناك، إنّك تعيش بخير

و تموت بخير، و إنّك من أهل الجنّة».

ثمّ مدح سبحانه من يعظّم رسوله و يوقّره، فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَغُضُّونَ يخفضون أَصْواتَهُمْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ مراعاة للأدب إجلالا له، أو مخافة عن مخالفة النهي أُولئِكَ الَّذِينَ امْتَحَنَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ جرّبها لِلتَّقْوى و مرّنها عليها.

من قولك: امتحن فلان لأمر كذا، و جرّب له، و درّب للنهوض به، فهو مضطلع به، غير وان «2» عنه. و المعنى: أنّهم صابرون على التقوى، أقوياء على احتمال مشاقّها.

و قيل: وضع الامتحان موضع المعرفة، لأنّ تحقّق الشي ء باختباره، كما يوضع الخبر موضعها. و حينئذ تكون اللام متعلّقة بمحذوف. فكأنّه قيل: عرفها كائنة للتقوى، خالصة لها. و يجوز أن تكون متعلّقة بالفعل باعتبار الأصل، إذ المعنى: ضرب اللّه قلوبهم بأنواع المحن و التكاليف الشاقّة لأجل التقوى. لأنّ حقيقة التقوى لا تعلم إلّا عند المحن و الشدائد، و الاصطبار على التقوى. أو أخلصها للتقوى، من قولهم: امتحن الذهب، إذا أذابه و ميّز إبريزه «3» من خبثه و نقّاه.

لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَ أَجْرٌ عَظِيمٌ لغضّهم و سائر طاعاتهم.

و اعلم أنّ هذه الآية بنظمها الّذي رتّبت عليه، من إيقاع الغاضّين أصواتهم اسما ل «إنّ» المؤكّدة، و تصيير خبرها جملة من مبتدأ و خبر معرفتين معا، و المبتدأ اسم الإشارة، ثمّ استئناف الجملة المستودعة ما هو جزاؤهم على عملهم، و إيراد

______________________________

(1) وقرت أذنه وقرا: ثقلت أو ذهب سمعه.

(2) ونى يني: فتر و ضعف و كلّ و أعيا، فهو: وان.

(3) الإبريز: الذهب الخالص. و هي كلمة يونانيّة.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 414

الجزاء نكرة مبهما أمره، ناظرة «1» في الدلالة على غاية الإحماد و الاعتداد و الارتضاء لما فعل الّذين و قّروا رسول اللّه من خفض أصواتهم، و في الإعلام

بمبلغ عزّة رسول اللّه و قدر شرف منزلته. و فيها تعريض بعظيم ما ارتكب الرافعون أصواتهم، و استيجابهم ضدّ ما استوجب هؤلاء.

إِنَّ الَّذِينَ يُنادُونَكَ و هم الجفاة من بني تميم و أجلافهم مِنْ وَراءِ الْحُجُراتِ من خارجها، خلفها أو قدّامها، فإنّ الوراء الجهة الّتي يواريها عنك الشخص بظلّه من خلف أو قدّام. و «من» ابتدائيّة، فإنّ المناداة من جهة الوراء.

و فائدتها الدلالة على أنّ المنادى داخل الحجرة، إذ لا بدّ و أن يختلف المبتدأ و المنتهى.

و الحجرات جمع حجرة. و هي القطعة من الأرض المحجورة بحائط يحوّط عليها. و لذلك يقال لحظيرة الإبل: حجرة. و هي فعلة بمعنى مفعول، كالغرفة و القبضة. و المراد حجرات نساء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كانت لكلّ منهنّ حجرة. و مناداتهم من ورائها بأنّهم أتوها حجرة فنادوه من ورائها. أو بأنّهم تفرّقوا على الحجرات متطلّبين له، فأسند فعل الأبعاض إلى الكلّ.

و

قيل: إنّ الّذي ناداه عيينة بن حصن و الأقرع بن حابس، و فدا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. في سبعين رجلا من بني تميم وقت الظهيرة و هو راقد، فقالا: يا محمّد اخرج إلينا. و إنّما أسند إلى جميعهم، لأنّهم رضوا بذلك، أو أمروا به، أو لأنّه وجد فيما بينهم.

أَكْثَرُهُمْ لا يَعْقِلُونَ إذ العقل يقتضي حسن الأدب و مراعاة الحشمة، سيّما لمن كان بهذا المنصب. و الإخبار عن أكثرهم بأنّهم لا يعقلون يحتمل أن يكون فيهم

______________________________

(1) خبر «أنّ هذه الآية ...» في بداية الفقرة.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 415

من قصد المحاشاة «1» المفهومة من قوله: «و أكثرهم». و أن يكون الحكم بقلّة العقلاء فيهم قصدا إلى نفي أن يكون فيهم

من يعقل، فإنّ القلّة تقع موقع النفي في كلامهم.

و ورود الآية على النمط الّذي وردت عليه فيه ما لا يخفى على الناظر، من بيّنات إكبار محلّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إجلاله.

منها: مجيئها على النظم المسجّل على الصائحين به بالسفه و الجهل لما أقدموا عليه.

و منها: لفظ الحجرات، و إيقاعها كناية عن موضع خلوته و مقيله «2» مع بعض نسائه.

و منها: المرور على لفظها بالاقتصار على القدر الّذي تبيّن به ما استنكر عليهم. يعني: لم يصف الحجرات بأنّها موضع خلوة و مقيل، بل اقتصر على الحجرات.

و منها: التعريف باللام دون الإضافة.

و منها: أن شفع ذمّهم في خاتمة الآية باستجفائهم، و استركاك عقولهم، و قلّة ضبطهم لمواضع التمييز في المخاطبات، تهوينا للخطب على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و تسلية له، و إماطة لما تداخله من إيحاش سوء أدبهم.

و هلمّ جرّا من أوّل السورة إلى آخر هذه الآية. فتأمّل كيف ابتدأ بإيجاب أن تكون الأمور الّتي تنتمي إلى اللّه و رسوله متقدّمة على الأمور كلّها، من غير حصر و لا تقييد. ثمّ أردف ذلك النهي عمّا هو من جنس التقديم، من رفع الصوت و الجهر، كأنّ الأوّل بساط للثاني و وطاء لذكره. ثمّ ذكر ما هو ثناء على الّذين تحاموا ذلك فغضّوا أصواتهم، دلالة على عظيم موقعه عند اللّه. ثمّ جي ء على عقب ذلك بما هو

______________________________

(1) أي: التنزّه و الابتعاد عن سوء الأدب.

(2) المقيل: موضع القيلولة، أو النوم و الاستراحة في الظهيرة.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 416

أطمّ «1» و هجنته أتمّ، من الصياح برسول اللّه في حال خلوته ببعض حرماته من وراء الجدر، كما يصاح بأهون الناس قدرا،

لينبّه على فظاعة ما أجروا إليه و جسروا عليه، لأنّ من رفع اللّه قدره عن أن يجهر له بالقول، حتّى خاطبه جلّة المهاجرين و الأنصار بأخي السرار، كان صنيع هؤلاء من المنكر الّذي بلغ من التفاحش مبلغا.

و من هذا و أمثاله يقتطف ثمر الألباب، و تقتبس محاسن الآداب.

ثمّ أدّبهم اللّه تعالى بقوله: وَ لَوْ أَنَّهُمْ صَبَرُوا في محلّ الرفع على الفاعليّة، لأنّ المعنى: و لو ثبت صبرهم، فإنّ «أنّ» و إن دلّت بما في حيّزها على المصدر، دلّت بنفسها على الثبوت، و لذلك وجب إضمار الفعل. و الصبر حبس النفس عن أن تنازع إلى هواها. قال اللّه تعالى: وَ اصْبِرْ نَفْسَكَ مَعَ الَّذِينَ يَدْعُونَ رَبَّهُمْ «2». و هاهنا المفعول محذوف. و التقدير: و لو ثبت حبسهم أنفسهم عمّا تنازع إلى هواها من المناداة وراء الحجرات حَتَّى تَخْرُجَ إِلَيْهِمْ أي: الصبر مغيّا بخروجه.

و المعنى: أنّ خروج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم غاية قد ضربت لصبرهم، فما كان لهم أن يقطعوا أمرهم دون الانتهاء إليها، فإنّ «حتّى» مختصّة بغاية الشي ء في نفسه، و لذلك تقول: أكلت السمكة حتّى رأسها، و لا تقول: حتّى نصفها، بخلاف «إلى» فإنّها عامّة. و في «إليهم» إشعار بأنّه لو خرج لا لأجلهم ينبغي أن يصبروا حتّى يفاتحهم بالكلام، أو يتوجّه إليهم.

لَكانَ الصبر خَيْراً لَهُمْ من الاستعجال، لما فيه من حفظ الأدب و تعظيم الرسول الموجبين للثناء و الثواب، و الإسعاف بالمسؤول، إذ روي أنّهم و فدوا شافعين في أسارى بني العنبر كما مرّ، فأطلق النصف و فادى النصف، فلو أنّهم صبروا لأطلق كلّهم بغير فداء.

______________________________

(1) أي: أعظم. و الهجنة: العيب و القبح.

(2) الكهف: 28.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 417

وَ

اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ بليغ الغفران و الرحمة، حيث اقتصر على النصح و التقريع لهؤلاء المسيئين للأدب، التاركين تعظيم الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فلن يضيق غفرانه و رحمته عن هؤلاء إن تابوا و أنابوا.

[سورة الحجرات (49): الآيات 6 الى 8]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ فَتَبَيَّنُوا أَنْ تُصِيبُوا قَوْماً بِجَهالَةٍ فَتُصْبِحُوا عَلى ما فَعَلْتُمْ نادِمِينَ (6) وَ اعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ وَ لكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيانَ أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ (7) فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَ نِعْمَةً وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (8)

روي: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعث الوليد بن عقبة بن أبي معيط أخا عثمان لأمّه- و هو الّذي ولّاه عثمان الكوفة بعد سعد بن أبي وقّاص، فصلّى بالناس و هو سكران صلاة الفجر أربعا، ثمّ قال: هل أزيدكم؟ فعزله عثمان- مصدّقا- أي: آخذا للصدقة- إلى بني المصطلق، و كانت بينه و بينهم في الجاهليّة إحنة «1»، فلمّا شارف ديارهم ركبوا مستقبلين له فرحين بقدومه، فحسبهم مقاتليه، فرجع و قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قد ارتدّوا و منعوا الزكاة. فغضب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و همّ أن يغزوهم. فوردوا و قالوا: نعوذ باللّه من غضبه و غضب رسوله. فاتّهمهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اعتمادا على قول الوليد، فقال: «لتنتهنّ أو لأبعثنّ إليكم رجلا هو عندي كنفسي، يقاتل

______________________________

(1) الإحنة: الحقد و العداوة. زبدة التفاسير، ج 6، ص: 418

مقاتلتكم، و يسبي ذراريكم». ثمّ ضرب بيده على كتف

عليّ عليه السّلام. و قيل: بعثه إليهم بعد رجوع الوليد، فوجدهم منادين بالصلوات متهجّدين، فسلّموا إليه الصدقات، فرجع. فنزلت:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنْ جاءَكُمْ فاسِقٌ بِنَبَإٍ

بخبر. و تنكير الفاسق و النبأ للتعميم، كأنّه قال: أيّ فاسق جاءكم بأيّ نبأ. فَتَبَيَّنُوا فتطلّبوا بيان الأمر و انكشاف الحقيقة، و لا تعتمدوا قول الفاسق، لأنّ من لا يتحامى جنس الفسوق لا يتحامى الكذب الّذي هو نوع منه. و الفسوق: الخروج من الشي ء و الانسلاخ منه.

يقال: فسقت الرطبة عن قشرها. و من مقلوبه: قفست البيضة، إذا كسرتها و أخرجت ما فيها. و من مقلوبه أيضا: قفست الشي ء، إذا أخرجته عن يد مالكه مغتصبا له عليه. ثمّ استعمل في الخروج عن القصد و الانسلاخ من الحقّ.

و قرأ حمزة و الكسائي: فتثبّتوا، أي: فتوقّفوا إلى أن يتبيّن لكم الحال.

و التثبّت و التبيّن متقاربان. و هما: طلب الثبات و البيان و التعرّف.

و لمّا كان رسول اللّه و الّذين معه بالمنزلة الّتي لا يجسر أحد أن يخبرهم بكذب، و ما كان يقع مثل ما فرط من الوليد إلّا في الندرة، قيل: إن جاءكم، بحرف الشكّ. و فيه أن على المؤمنين أن يكونوا على هذه الصفة، لئلّا يطمع فاسق في مخاطبتهم بكلمة زور.

و استدلّ بعضهم بالآية على وجوب العمل بخبر الواحد إذا كان عدلا، من حيث إنّ اللّه أوجب التوقّف في خبر الفاسق، فدلّ على أنّ خبر العدل لا يجب التوقّف فيه.

و هذا لا يصحّ، لأنّ دليل الخطاب لا يعوّل عليه عندنا و عند أكثر المحقّقين.

أَنْ تُصِيبُوا كراهة إصابتكم قَوْماً بِجَهالَةٍ جاهلين بحالهم فَتُصْبِحُوا فتصيروا عَلى ما فَعَلْتُمْ من إصابتهم بالخطإ نادِمِينَ مغتمّين

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 419

غمّا لازما، متمنّين أنّه لم يقع، و

لا يمكنكم تداركه. و تركيب الحروف الثلاثة في «ندم» دائر مع اللزوم و الدوام، فإنّه عبارة عن غمّ يصحب الإنسان صحبة لها دوام و لزام، لأنّه كلّما تذكّر المتندّم عليه راجعه الغمّ. من الندام «1»، و هو لزام الشريب و دوام صحبته. و من مقلوباته: أدمن الأمر، أدامه. و مدن بالمكان، أقام به. و منه:

المدينة.

وَ اعْلَمُوا أَنَّ فِيكُمْ رَسُولَ اللَّهِ «أنّ» بما في حيّزه سادّ مسدّ مفعولي «اعلموا». و فائدة تقديم خبر «أنّ» على اسمها القصد إلى توبيخ بعض المؤمنين، على ما استهجن اللّه منهم من استتباع رأي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لآرائهم، فوجب تقديمه، لانصباب الغرض إليه.

و قوله: لَوْ يُطِيعُكُمْ فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ لَعَنِتُّمْ لا يكون كلاما مستأنفا، لأنّه حينئذ لم يظهر للأمر فائدة. فلا بدّ أن يكون متّصلا بما قبله، حالا من أحد ضميري «فيكم». و هو المستتر المرفوع، أو البارز المجرور. و كلاهما مذهب سديد.

و المعنى: أنّ فيكم رسول اللّه على حالة يجب عليكم تغييرها. أو أنتم على حالة يجب عليكم تغييرها. و هي: أنّكم تريدون أن يتّبع رأيكم في الحوادث، و لو فعل ذلك لعنتّم، أي: لوقعتم في الجهد و الهلاك. من العنت. يقال: فلان يتعنّت فلانا، أي: يطلب ما يؤدّيه إلى الهلاك.

و فائدة إيثار «يطيعكم» على: أطاعكم، الدلالة على أنّه كان في إرادتهم استمرار عمله على ما يستصوبونه، و أنّه كلّما عنّ لهم رأي في أمر كان معمولا عليه، بدليل قوله: فِي كَثِيرٍ مِنَ الْأَمْرِ، كقوله: فلان يقري الضيف و يحمي الحريم، تريد: أنّه ممّا اعتاده و وجد منه مستمرّا.

و فيه إشعار بأنّ بعضهم أشار إليه بالإيقاع ببني المصطلق و تصديق قول

______________________________

(1) نادم

نداما فلانا على الشراب: جالسه عليه.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 420

الوليد. و أنّ بعضهم كانوا يتصوّنون، و يزعهم «1» جدّهم في التقوى عن الجسارة على ذلك. و هم الّذين استثناهم بقوله: وَ لكِنَّ اللَّهَ حَبَّبَ إِلَيْكُمُ الْإِيمانَ جعل الإيمان محبوبا إليكم، بأن أقام الأدلّة على صحّته، و بما وعد عليه من الثواب وَ زَيَّنَهُ فِي قُلُوبِكُمْ بالألطاف الداعية إليه وَ كَرَّهَ إِلَيْكُمُ الْكُفْرَ وَ الْفُسُوقَ وَ الْعِصْيانَ بوجوه الألطاف الصارفة عنه.

و الحاصل: أنّ هذا استدراك بصفة من لم يفعل ذلك منهم، إحمادا لفعلهم، و تعريضا بذمّ من فعل.

و قيل: استدراك ببيان عذرهم في استصواب الإيقاع ببني المصطلق. يعني:

أنّهم من فرط حبّهم للإيمان و كراهتهم للكفر حملهم على ذلك لمّا سمعوا قول الوليد.

و يؤيّد الأوّل أُولئِكَ هُمُ الرَّاشِدُونَ أي: أولئك المستثنون هم الّذين أصابوا الطريق السويّ من الرشد. و هو الاستقامة على طريق الحقّ مع تصلّب فيه. من الرشادة، و هي الصخرة.

و شريطة حرف الاستدراك- و هي: مخالفة ما بعدها لما قبلها نفيا و إثباتا- و إن كانت منتفية لفظا، لكن حاصلة معنى، لأنّ الّذين حبّب إليهم الإيمان قد غايرت صفتهم صفة المقدّم ذكرهم، فوقعت «لكنّ» في حاقّ موقعها من الاستدراك.

و معنى تحبيب اللّه و تكريهه: اللطف و الإمداد بالتوفيق كما مرّ. فسبيله الكناية. و كلّ ذي لبّ و صاحب بصيرة لا يغبى «2» عليه أنّ الرجل لا يمدح بغير فعله. و حمل الآية على ظاهرها يؤدّي إلى أن يثنى عليهم بفعل اللّه، و قد نفى اللّه هذا

______________________________

(1) أي: يمنعهم و يكفّهم.

(2) أي: لا يخفى عليه و لا يجهل. من: غبا الشي ء عليه: لم يفطن له أو جهله.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 421

على الّذين أنزل فيهم وَ يُحِبُّونَ

أَنْ يُحْمَدُوا بِما لَمْ يَفْعَلُوا «1». و الّذي سوّغ أنّ العرب تمدح بالجمال و حسن الوجوه- مع أنّ ذلك من فعل اللّه تعالى- أنّهم رأوا حسن الرواء «2» و وسامة المنظر في الغالب مشعرا بأخلاق محمودة و خصال رضيّة.

و من ثمّ قالوا: أحسن ما في الدميم «3» وجهه. فلم يجعلوه من صفات المدح لذاته، و لكن لدلالته على غيره. على أنّ من المحقّقين من علماء المعاني من دفع صحّة ذلك، و خطّأ المادح به، و قصّر المدح على النعت بأمّهات الخير، و هي: الفصاحة، و الشجاعة، و العدل، و العفّة، و ما يتشعّب منها و يرجع إليها. و جعل الوصف بالجمال و الثروة و كثرة الحفدة و الأعضاد، و غير ذلك ممّا ليس للإنسان فيه عمل، غلطا و مخالفة عن المعقول.

و «كره» يتعدّى بنفسه إلى مفعول واحد، فإذا شدّد زاد له آخر. لكنّه لمّا تضمّن معنى التبغيض نزّل منزلة: بغّض، فعدّي إلى آخر ب «إلى». و الكفر: تغطية نعم اللّه بالجحود. و الفسوق: الخروج عن القصد بحقيقة الايمان و محجّته بركوب الكبائر. و عن ابن عبّاس:

هو الكذب. و هذا مرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام.

و العصيان:

الامتناع عن الانقياد.

فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَ نِعْمَةً تعليل للرشد، فإنّه و إن كان فعل القوم و الفضل فعل اللّه، لكن لمّا كان الرشد لا يكون إلّا عبارة عن التحبيب و التزيين و التكريه، مسندة إلى اسمه تعالى، صار الرشد كأنّه فعله، فاتّحد الفاعل، كما هو شرط نصب المفعول له، فجاز أن ينتصب عنه. أو تعليل ل «كرّه» و «حبّب»، و ما بينهما اعتراض، أو تعليل للفعل المقدّر، كأنّه قيل: جرى ذلك، أو كان ذلك فضلا من اللّه. و يجوز أن

يكون

______________________________

(1) آل عمران: 188.

(2) الرواء: حسن المنظر. و الوسامة: الحسن و الجمال.

(3) الدميم: القبيح المنظر.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 422

منصوبا على المصدر من غير فعله، فيوضع موضع: رشدا، لأنّ رشدهم فضل من اللّه، لكونهم موفّقين فيه. و الفضل و النعمة بمعنى الإفضال و الإنعام.

وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بأحوال المؤمنين و ما بينهم من التفاضل و التمايز حَكِيمٌ حين يفضل و ينعم بالتوفيق عليهم.

و في هذه الآية دلالة على بطلان مذهب أهل الجبر، لأنّه إذا حبّب في قلوبهم الإيمان و كرّه الكفر، فمن المعلوم أنّه لا يحبّب ما لا يحبّه و لا يكرّه ما لا يكرهه.

و لأنّه إذ ألطف في تحبيب الإيمان بألطافه دلّ ذلك على ما نقوله.

روي عن ابن عبّاس أنّه قال: وقف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوما على مجلس بعض الأنصار و هو على حمار، فبال الحمار، فأمسك عبد اللّه بن أبيّ بأنفه و قال: خلّ سبيل حمارك فقد آذانا نتنه «1».

فقال عبد اللّه بن رواحة الخزرجي: و اللّه إنّ بول حماره لأطيب من مسكك. و برواية اخرى: حماره أفضل منك، و بول حماره أطيب من مسكك. و مضى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و طال الخوض بينهما حتّى استبّا و تجالدا، و جاء قوماهما- و هما: الأوس و الخزرج- فتجالدوا بالعصيّ، و قيل: بالأيدي و النعال و السّعف. فرجع إليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أصلح بينهم. و نزلت:

[سورة الحجرات (49): الآيات 9 الى 10]

وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما عَلَى الْأُخْرى فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ فَإِنْ فاءَتْ فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ وَ أَقْسِطُوا إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ

الْمُقْسِطِينَ (9) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ وَ اتَّقُوا اللَّهَ لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ (10)

______________________________

(1) النتن: خبث الرائحة.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 423

وَ إِنْ طائِفَتانِ مِنَ الْمُؤْمِنِينَ اقْتَتَلُوا تقاتلوا. و الجمع باعتبار المعنى، فإنّ كلّ طائفة جمع. فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بالنصح و الدعاء إلى حكم اللّه فَإِنْ بَغَتْ إِحْداهُما تعدّت عَلَى الْأُخْرى أي: فمالت على الاخرى، ظالمة لها، متعدّية عليها فَقاتِلُوا الَّتِي تَبْغِي لأنّها هي الظالمة المتعدّية دون الاخرى حَتَّى تَفِي ءَ إِلى أَمْرِ اللَّهِ ترجع إلى حكم اللّه، أو ما أمر به. من الفي ء بمعنى الرجوع. و قد سمّي به الظلّ و الغنيمة، لأنّ الظلّ يرجع بعد نسخ الشمس، و الغنيمة ما يرجع من أموال المشركين إلى المسلمين.

فَإِنْ فاءَتْ رجعت إلى طاعة اللّه فَأَصْلِحُوا بَيْنَهُما بِالْعَدْلِ بالفصل بينهما على حكم اللّه حتّى يكونوا سواء، لا يكون من إحداهما على الاخرى جور فيما يتعلّق بالضمانات و الأروش. و تقييد الإصلاح بالعدل هاهنا لأنّه مظنّة الحيف، من حيث إنّه بعد المقاتلة.

ثمّ أمر باستعمال القسط على طريق العموم، بعد ما أمر به في إصلاح ذات البين، فقال:

وَ أَقْسِطُوا و اعدلوا في كلّ الأمور. من القسط بالفتح بمعنى الجور. و منه:

القسط، و هو اعوجاج في الرجلين. ف «أقسط» همزته للسلب، أي: أزال القسط.

و أمّا القسط بالكسر بمعنى العدل. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ يحمد فعلهم بحسن الجزاء.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «يا بن أمّ عبد هل تدري كيف حكم اللّه فيمن بغى من هذه الأمّة؟ قال: اللّه و رسوله أعلم. قال: لا يجهز على جريحها، و لا يقتل أسيرها، و لا يطلب هاربها، و لا يقسّم فيئها».

و الآية تدلّ على أنّ الباغي مؤمن. و أنّه إذا

قبض عن الحرب ترك، كما جاء في الحديث، لأنّه فاء إلى أمر اللّه. و أنّه يجب معاونة من بغى عليه بعد تقديم النصح

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 424

و السعي في المصالحة.

ثمّ علّل الأمر بالصلاح و قرّره بقوله: إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ إِخْوَةٌ من حيث إنّهم منتسبون إلى أصل واحد، و هو الإيمان الموجب للحياة الأبديّة. و لذلك كرّر الأمر بالصلاح مرتّبا عليه بالفاء، فقال: فَأَصْلِحُوا بَيْنَ أَخَوَيْكُمْ و وضع الظاهر موضع الضمير مضافا إلى المأمورين، للمبالغة في التقرير و التخصيص. و خصّ الاثنين بالذكر، لأنّهما أقلّ من يقع بينهم الشقاق، و للإشعار على أنّه إذا لزمت المصالحة بين الأقلّ كانت بين الأكثر ألزم، لأنّ الفساد في شقاق الجميع أكثر من الفساد في شقاق الاثنين. و قيل: المراد بالأخوين الأوس و الخزرج.

و معنى الآية: ليس المؤمنون إلّا إخوة، و أنّهم خلّص لذلك متمحّضون، قد انزاحت عنهم شبهات الأجنبيّة، و أبى لطف حالهم في التمازج و الاتّحاد أن يقدموا على ما يتولّد منه التقاطع.

وَ اتَّقُوا اللَّهَ في مخالفة حكمه في العدل و الإصلاح و الإهمال فيه لَعَلَّكُمْ تُرْحَمُونَ على تقواكم. أي: عند التواصل و الائتلاف و ترك الخلاف، فإنّ وصول رحمة اللّه و اشتمال رأفته عليكم حقيق بأن تعقدوا به رجاءكم.

أورد البخاري و مسلم في صحيحيهما عن الزهري، عن سالم، عن أبيه أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «المسلم أخو المسلم، لا يظلمه، و لا يخذله، و لا يعيبه، و لا يتطاول عليه في البنيان فيستر عنه الريح إلّا بإذنه، و لا يؤذيه بقتار «1» قدره». ثمّ قال: «احفظوا، و لا يحفظه منكم إلّا قليل».

و

عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من كان

في حاجة أخيه كان اللّه في حاجته، و من فرّج عن مسلم كربة فرّج اللّه بها عنه كربة من كرب يوم القيامة، و من ستر عن مسلم يستره اللّه يوم القيامة».

______________________________

(1) القتار: الدخان من المطبوخ، و رائحة اللحم و الشواء.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 425

و

في وصيّة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لأمير المؤمنين عليه السّلام: «يا عليّ سر ميلا عد مريضا، سر ميلين شيّع جنازة، سر ثلاثة أميال أجب دعوة، سر أربعة أميال زر أخا في اللّه، سر خمسة أميال أجب دعوة الملهوف، سر ستّة أميال انصر المظلوم، و عليك بالاستغفار».

[سورة الحجرات (49): الآيات 11 الى 12]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ وَ لا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَّ وَ لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ وَ لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ بِئْسَ الاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (11) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِّ إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ وَ لا تَجَسَّسُوا وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً فَكَرِهْتُمُوهُ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ (12)

و لمّا أمر سبحانه بإصلاح ذات البين، و نهى عن التفرّق، عقّب ذلك بالنهي عن أسباب الفرقة، من السخريّة و الازدراء بأهل الفقر و المسكنة و نحو ذلك، فقال:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا يَسْخَرْ قَوْمٌ مِنْ قَوْمٍ أي: بعض المؤمنين من بعض. و القوم مختصّ بالرجال، لأنّهم القوّام بأمور النساء، كما قال اللّه تعالى:

الرِّجالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّساءِ «1». و كقول زهير: أقوم آل حصن أم نساء «2». و أمّا قولهم: قوم عاد و قوم فرعون، فإمّا على التغليب، أو الاكتفاء بذكر

الرجال عن

______________________________

(1) النساء: 34.

(2) صدره: و ما أدري و سوف إخال أدري.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 426

ذكرهنّ، لأنّهنّ توابع. و هو في الأصل جمع قائم، كصوم و زور في جمع صائم و زائر. أو مصدر نعت به، فشاع في الجمع. و اختيار الجمع لأنّ السخريّة تغلب في المجامع.

ثمّ استأنف بالعلّة الموجبة للنهي، فقال: عَسى أَنْ يَكُونُوا خَيْراً مِنْهُمْ ترك خبر «عسى» لإغناء الاسم عنه. و هذا كلام مستأنف قد ورد مورد جواب المستخبر عن العلّة الموجبة لما جاء النهي عنه، و إلّا فقد كان حقّه أن يوصل بما قبله بالفاء.

و المعنى: وجوب أن يعتقد كلّ أحد أنّ المسخور منه ربّما يكون عند اللّه خيرا من الساخر، لأنّ الناس لا يطّلعون إلّا على ظواهر الأحوال، و لا علم لهم بالخفيّات. و إنّما الّذي يزن عند اللّه خلوص الضمائر و تقوى القلوب، و علمهم من ذلك بمعزل. فينبغي أن لا يجترئ أحد على الاستهزاء بمن تزدريه عينه، إذا رآه رثّ «1» الحال، أو ذا عاهة في بدنه، أو غير لبيق «2» في محادثته، فلعلّه أخلص ضميرا و أتقى قلبا ممّن هو على ضدّ صفته. فيظلم نفسه بتحقير من وقّره اللّه، و الاستهانة بمن عظّمه اللّه.

و قيل: نزلت هذه الآية في بني تميم استهزؤا ببلال و خباب و عمّار و صهيب و أبي ذرّ و سالم مولى حذيفة.

و

عن ابن عبّاس: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس، فإنّه كان في أذنيه وقر «3»، و كان إذا دخل تفسّحوا له حتّى يقعد عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فيسمع ما يقول.

فدخل المسجد يوما و الناس قد فرغوا من الصلاة و أخذوا مكانهم، فجعل يتخطّى رقاب الناس

و يقول: تفسّحوا تفسّحوا، حتّى انتهى إلى رجل فقال له: أصبت مجلسا فاجلس، فجلس خلفه مغضبا. فلمّا انجلت الظلمة قال: من هذا؟ قال

______________________________

(1) أي: ضعيف الحال.

(2) أي: حاذق.

(3) أي: ثقل. زبدة التفاسير، ج 6، ص: 427

الرجل: أنا فلان. فقال ثابت: بل أنت ابن فلانة. ذكر أمّا له كان يعيّر بها في الجاهليّة. فنكس الرجل رأسه حياء.

و عن أنس: نساء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سخرن من أمّ سلمة. و ذلك أنّها ربطت حقويها بسبيبة- و هي: ثوب أبيض من الكتّان- و سدلت طرفيها خلفها، فكانت تجرّه.

فقالت عائشة لحفصة: انظري ماذا تجرّ خلفها، كأنّه لسان كلب. فهذا كانت سخريّتهما.

و قيل: إنّها عيّرت زينب بنت خزيمة الهلاليّة.

و عن أنس: عيّرت نساء رسول اللّه أمّ سلمة بالقصر، و أشرن بأيديهنّ أنّها قصيرة. فنزل فيهنّ قوله:

وَ لا نِساءٌ مِنْ نِساءٍ و لا تسخر بعض المؤمنات من بعض عَسى أَنْ يَكُنَّ خَيْراً مِنْهُنَ كلام مستأنف كما مرّ آنفا. و تنكير القوم و النساء يحتمل معنيين: أن يراد: لا يسخر بعض المؤمنين و المؤمنات من بعض، كما فسّرنا به. و أن يقصد إفادة الشياع، و أن تصير كلّ جماعة منهم و منهنّ منهيّة عن السخريّة.

و إنّما لم يقل: رجل من رجل، و لا امرأة من امرأة، على التوحيد، إعلاما بإقدام غير واحد من رجالهم و غير واحدة من نسائهم على السخريّة، و استفظاعا للشأن الّذي كانوا عليه. و لأن مشهد الساخر لا يكاد يخلو ممّن يتلهّى و يستضحك على قوله، و لا يأتي ما عليه من النهي و الإنكار، فيكون شريك الساخر في تحمّل الوزر. و كذلك كلّ من يطرق سمعه فيستطيبه و يضحك به، فيؤدّي ذلك- و

إن أوجده واحد- إلى تكثّر السخرة.

وَ لا تَلْمِزُوا أَنْفُسَكُمْ و لا يغتب بعضكم بعضا، فإنّ المؤمنين كنفس واحدة.

و المعنى: خصّوا أيّها المؤمنون أنفسكم بالانتهاء عن عيبها و الطعن فيها، و لا عليكم أن تعيبوا غيركم ممّن لا يدين بدينكم و لا يسير بسيرتكم.

ففي الحديث: «اذكروا الفاجر بما فيه كي يحذره الناس».

و قيل: معناه: و لا تفعلوا ما تلمزون به، فإنّ من فعل ما استحقّ به اللمز فقد

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 428

لمز نفسه حقيقة. و اللمز: الطعن باللسان. و قرأ يعقوب بالضمّ «1».

و

عن ابن عبّاس: أنّ صفيّة بنت حييّ أتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالت: إنّ النساء يعيّرنني و يقلن لي: يا يهوديّة بنت يهوديّين. فقال لها: «هلّا قلت: إنّ أبي هارون، و عمّي موسى، و زوجي محمّد».

و كان من شتائمهم لمن أسلم من اليهود: يا يهوديّ، يا فاسق، فنهوا عنه بقوله: وَ لا تَنابَزُوا بِالْأَلْقابِ لا يدع بعضكم بعضا بلقب السوء، فإنّ النبز مختصّ بلقب السوء عرفا بِئْسَ الِاسْمُ الْفُسُوقُ بَعْدَ الْإِيمانِ الاسم ها هنا بمعنى الذكر، من قولهم: طار اسمه في الناس بالكرم أو باللؤم، كما يقال: طار ثناؤه وصيته.

و حقيقته: ما سما من ذكره و ارتفع بين الناس. فالمعنى: بئس الذكر المرتفع للمؤمنين بسبب السخريّة و التنابز، أن يذكروا بالفسق بعد دخولهم في الإيمان و اشتهارهم به. و المراد به إمّا تهجين نسبة الكفر و الفسق إلى المؤمنين، أو استقباح الجمع بين الإيمان و بين الفسق الّذي يأباه الإيمان و يحظره، كما تقول: بئس الشأن بعد الكبرة «2» الصبوة.

وَ مَنْ لَمْ يَتُبْ عمّا نهى عنه فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ بوضع العصيان موضع الطاعة، و تعريض النفس للعذاب.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ

آمَنُوا اجْتَنِبُوا كَثِيراً مِنَ الظَّنِ أي: كونوا على جانب. يقال:

جنّبه الشرّ إذا أبعده عنه. و حقيقته: جعله منه في جانب. فيعدّى إلى مفعولين. قال اللّه تعالى: وَ اجْنُبْنِي وَ بَنِيَّ أَنْ نَعْبُدَ الْأَصْنامَ «3». ثمّ يقال في مطاوعه: اجتنب الشرّ. فينقص المطاوعة مفعولا.

و إبهام الكثير ليحتاط في كلّ ظنّ و يتأمّل حتّى يعلم أنّه من أيّ القبيل، فإنّ

______________________________

(1) أي: و لا تلمزوا.

(2) الكبرة: الكبر في السنّ. و الصبوة: الميل إلى جهلة الصبيان.

(3) إبراهيم: 35.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 429

من الظنّ ما يجب اتّباعه، كالظنّ حيث لا قاطع فيه، من العمليّات و حسن الظنّ باللّه.

و ما يحرم حيث يخالفه قاطع، كظنّ السوء بالمؤمنين. و ما يباح، كالظنّ في الأمور المعاشيّة، و فيمن جاهر بين الناس بالخبائث.

إِنَّ بَعْضَ الظَّنِّ إِثْمٌ تعليل مستأنف للأمر. و الإثم: الذنب الّذي يستحقّ صاحبه العقوبة عليه. و الهمزة فيه بدل من الواو. كأنّه يثمّ «1» الأعمال، أي: يكسر مرتبتها عند اللّه.

وَ لا تَجَسَّسُوا و لا تبحثوا عن عورات المسلمين. تفعّل من الجسّ، باعتبار ما فيه من معنى الطّلب، كالتلمّس. و المراد: النهي عن تتبّع عورات المسلمين و معايبهم، و الاستكشاف عمّا ستروه.

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه خطب فرفع صوته حتّى أسمع العواتق- أي: الشوابّ- في خدورهنّ. قال: «يا معشر من آمن بلسانه، و لم يخلص الإيمان إلى قلبه، لا تتّبعوا عورات المسلمين، فإنّ من تتبّع عوراتهم تتبّع اللّه عورته حتّى يفضحه و لو في جوف بيته».

و

عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ اللّه حرّم من المسلم دمه و عرضه، و أن يظنّ به ظنّ السوء».

و عن الحسن: إنّ الفاسق إذا أظهر فسقه و هتك ستره

هتكه اللّه، و إذا استتر لم يظهر اللّه عليه لعلّه أن يتوب.

و

قد روي: «من ألقى جلباب «2» الحياء فلا غيبة له».

و عن مجاهد: خذوا ما ظهر، و دعوا ما ستره اللّه.

و عن أبي قلابة: أنّ أبا محجن الثقفي كان يشرب الخمر في بيته هو و أصحابه، فانطلق عمر حتّى دخل عليه، فإذا ليس عنده إلا رجل.

فقال أبو محجن: يا أمير المؤمنين إنّ هذا لا يحلّ لك، قد نهاك اللّه تعالى عن

______________________________

(1) من: و ثم يثم الشي ء: كسره و دقّه.

(2) الجلباب: القميص أو الثوب الواسع.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 430

التجسّس.

فقال عمر: ما يقول هذا؟

قال زيد بن ثابت و عبد اللّه بن الأرقم: صدق يا أمير المؤمنين.

قال: فخرج عمر و تركه.

و روي: أنّ عمر أيضا خرج و معه عبد الرحمن بن عوف يعسّان «1»، فتبيّنت لهما نار، فأتيا و استأذنا ففتح الباب فدخلا، فإذا رجل و امرأة تغنّي، و على يد الرجل قدح. فقال عمر من هذه منك؟

قال: امرأتي.

قال: و ما في القدح؟

قال: ماء.

فقال للمرأة: ما الّذي تغنّين به؟

قالت: أقول:

تطاول هذا الليل و اسودّ جانبه و أرّقني ألّا حبيب ألاعبه

فو اللّه لولا خشية اللّه و التقى لزعزع من هذا السّرير جوانبه

و لكنّ عقلي و الحياء يكفّني و أكرم بعلي أن تنال مراكبه

ثم قال الرجل: ما بهذا أمرنا يا أمير المؤمنين، قال اللّه تعالى: «وَ لا تَجَسَّسُوا».

فقال عمر: صدقت، و انصرف.

و

في الحديث: «إيّاكم و الظنّ، فإنّ الظنّ أكذب الحديث، و لا تجسّسوا، و لا تقاطعوا، و لا تحاسدوا، و لا تدابروا، و كونوا عباد اللّه إخوانا».

و

روي: أنّ سلمان كان يخدم رجلين من الصحابة، و يسوّي لهما طعامهما،

______________________________

(1) عسّ يعسّ عسّا: طاف بالليل يحرس الناس و يكشف أهل الريبة.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 431

فنام عن شأنه يوما، فبعثاه إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يبغي لهما إداما- و كان أسامة على طعام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: ما عندي شي ء. فأخبرهما سلمان بذلك. فقالا: بخل أسامة. و قالا لسلمان: لو بعثناه إلى بئر سميحة لغار ماؤها. فلمّا راحا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لهما: مالي أرى خضرة اللحم في أفواهكما؟ فقالا: ما تناولنا يومنا هذا طعاما. فقال: ظللتم تأكلون لحم سلمان و أسامة. فنزلت:

وَ لا يَغْتَبْ بَعْضُكُمْ بَعْضاً

و لا يذكر بعضكم بعضا بالسوء في غيبته. يقال:

غابه و اغتابه، كغاله و اغتاله. و الغيبة من الاغتياب، كالغيلة «1» من الاغتيال. و هي:

ذكر السوء في الغيبة. و

سئل صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن الغيبة، فقال: «أن تذكر أخاك بما يكرهه، فإن كان فيه فقد اغتبته، و إن لم يكن فيه فقد بهتّه».

و

عن جابر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الغيبة أشدّ من الزنا».

و عن ابن عبّاس: الغيبة إدام كلاب النار.

أَ يُحِبُّ أَحَدُكُمْ أَنْ يَأْكُلَ لَحْمَ أَخِيهِ مَيْتاً تمثيل و تصوير لما يناله المغتاب من عرض المغتاب على أفحش وجه، مع مبالغات: الاستفهام المقرّر. و إسناد الفعل إلى «أحد» للتعميم المشعر بأنّ أحدا من الأحدين لا يحبّ ذلك. و تعليق المحبّة بما هو في غاية الكراهة. و تمثيل الاغتياب بأكل لحم الإنسان. و جعل المأكول أخا و ميتا.

و تعقيب ذلك بقوله: فَكَرِهْتُمُوهُ تقريرا و تحقيقا لذلك.

و انتصاب «ميتا» على الحال من اللحم أو الأخ. و شدّده نافع. و الفاء هي الفصيحة المظهرة لشرط مقدّر. و

المعنى: إن صحّ ذلك أو عرض عليكم هذا فقد كرهتموه، و لا يمكنكم إنكار كراهته.

و عن قتادة: كما تكره إن وجدت جيفة مدوّدة أن تأكل منها، كذلك فاكره لحم أخيك و هو حيّ.

______________________________

(1) الغيلة: الخديعة و الاغتيال. يقال: قتله غيلة، أي: خدعه فذهب به إلى موضع فقتله.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 432

و لهذا يقال للمغتاب: فلان يأكل لحوم الناس، كما قال الشاعر:

و ليس الذئب يأكل لحم ذئب و يأكل بعضنا بعضا عيانا

و قال آخر: فإن يأكلوا لحمي و فرت لحومهم و إن يهدموا مجدي بنيت لهم مجدا

و عن ميمون بن شاة قال: بينا أنا نائم إذا بجيفة زنجيّ، و قائل يقول لي: كل يا عبد اللّه. قلت: و لم آكل؟ قال: بما اغتيب عندك فلان. قلت: و اللّه ما ذكرت فيه خيرا و لا شرّا. قال: لكنّك استمعت فرضيت. فكان ميمون بعد ذلك لا يدع أن يغتاب عنده أحد.

وَ اتَّقُوا اللَّهَ بترك ما أمرتم باجتنابه، و الندم على ما وجد منكم منه إِنَّ اللَّهَ تَوَّابٌ رَحِيمٌ لمن اتّقى ما نهى عنه، و تاب ممّا فرط منه. و المبالغة في التوّاب لأنّه بليغ في قبول التوبة، إذ يجعل صاحبها كمن لم يذنب، أو لكثرة المتوب عليهم، أو لكثرة ذنوبهم.

[سورة الحجرات (49): آية 13]

يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ لِتَعارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ خَبِيرٌ (13)

عن يزيد بن شجرة: مرّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في سوق المدينة، فرأى غلاما أسود يقول: من اشتراني فعلى شرط، لا يمنعني عن الصلوات الخمس خلف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فاشتراه رجل. فكان رسول

اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يراه عند كلّ صلاة، ففقده يوما فسأل عنه صاحبه، فقال: محموم. فعاده، ثمّ سأل عنه بعد ثلاثة أيّام، فقال: هو لما به. فجاءه رسول اللّه و هو في ذمائه «1»، فتولّى غسله و دفنه. فدخل على المهاجرين

______________________________

(1) الذماء: بقيّة الروح. زبدة التفاسير، ج 6، ص: 433

و الأنصار أمر عظيم. فنزلت:

يا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْناكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَ أُنْثى

من آدم و حوّاء. أو خلقنا كلّ واحد منكم من أب و أمّ، فالكلّ سواء في ذلك، فلا وجه للتفاخر بالنسب.

و

عن مقاتل: لمّا كان يوم فتح مكّة أمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بلالا حتّى علا ظهر الكعبة و أذّن. فقال عتاب بن أسيد: الحمد للّه الّذي قبض أبي حتى لم ير هذا اليوم. و قال الحارث بن هشام: أما وجد محمد غير هذا الغراب الأسود مؤذّنا؟ و قال سهيل بن عمرو: إن يرد اللّه شيئا يغيّره لغيّره. و قال أبو سفيان: إنّي لا أقول شيئا، أخاف أن يخبره به ربّ السماء. فأتى جبرئيل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فأخبره بما قالوا. فدعاهم رسول اللّه و سألهم عمّا قالوا، فأقرّوا به. فنزلت هذه الآية.

و زجرهم عن التفاخر بالأنساب و الأحساب، و الازدراء بالفقراء، و التكاثر بالأموال.

و

عن ابن عبّاس: نزلت في ثابت بن قيس بن شماس لمّا قال للرجل الّذي لم يتفسّح له: ابن فلانة. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من الذاكر فلانة؟ فقام ثابت فقال: أنا يا رسول اللّه. فقال: انظر في وجوه القوم. فنظر إليهم. فقال: ما رأيت يا ثابت؟ قال: رأيت أبيض و أحمر و أسود.

قال: فإنّك لا تفضلهم إلا بالتقوى. و هو الّذي نزل فيه قوله:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ» «1» الآية.

و على التقادير؛ يجوز أن تكون هذه الآية تقريرا للأخوّة.

وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ الشعب: الطبقة الأولى من الطبقات الستّ الّتي عليها العرب. و هي: الشعب، و القبيلة تجمع العمائر، و العمارة تجمع البطون، و البطن تجمع الأفخاذ، و الفخذ تجمع الفصائل. فخزيمة شعب، و كنانة قبيلة، و قريش عمارة، و قصيّ بطن، و هاشم فخذ، و عبّاس فصيلة. و قيل: الشعوب بطون العجم،

______________________________

(1) المجادلة: 11.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 434

و القبائل بطون العرب.

لِتَعارَفُوا أي: الحكمة الّتي من أجلها رتّبكم على شعوب و قبائل، هي أن يعرف بعضكم نسب بعض، فلا يعتزي «1» إلى غير آبائه، لا أن تتفاخروا بالآباء و الأجداد، و تدّعوا التفاوت و التفاضل في الأنساب و القبائل.

ثمّ بيّن الخصلة الّتي بها يفضل الإنسان غيره، و يكتسب الشرف و الكرم عند اللّه، فقال:

إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ أَتْقاكُمْ فإنّ التقوى بها تكمل النفوس، و تتفاضل بها الأشخاص. فمن أراد شرفا فليلتمسه منها، كما

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من سرّه أن يكون أكرم الناس فليتّق اللّه».

و

قال: «أيّها النّاس إنما الناس رجلان: مؤمن تقيّ كريم على اللّه، و فاجر شقيّ هيّن على اللّه».

روي: أنّ رجلا سأل عيسى بن مريم: أيّ الناس أفضل؟ فأخذ قبضتين من تراب ثمّ قال: أيّ هاتين أفضل؟ الناس خلقوا من تراب، فأكرمهم أتقاهم.

عن أبي بكر البيهقي بالإسناد عن عباية بن ربعي، عن ابن عبّاس قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه عزّ و جلّ جعل الخلق قسمين، فجعلني في خيرهم قسما.

و ذلك قوله: «و أصحاب اليمين و أصحاب الشمال» «2». فأنا من أصحاب اليمين، و أنا خير أصحاب اليمين. ثمّ جعل القسمين أثلاثا، فجعلني في خيرها ثلثا. و ذلك قوله:

فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ وَ أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ «3». فأنا من السابقين، و أنا خير السابقين. ثمّ جعل الأثلاث قبائل، فجعلني في خيرها قبيلة. و ذلك قوله:

«وَ جَعَلْناكُمْ شُعُوباً وَ قَبائِلَ» الآية. فأنا أتقى ولد آدم و أكرمهم على اللّه، و لا فخر. ثمّ جعل القبائل بيوتا، فجعلني في خيرها بيتا. و ذلك قوله عزّ و جلّ:

______________________________

(1) أي: ينتسب. من: عزى يعزي فلانا إلى فلان: نسبه إليه. و اعتزى إليه: انتسب.

(2) إشارة إلى الآيات 27 و 41 و 8- 10 من سورة الواقعة.

(3) إشارة إلى الآيات 27 و 41 و 8- 10 من سورة الواقعة. زبدة التفاسير، ج 6، ص: 435

إِنَّما يُرِيدُ اللَّهُ لِيُذْهِبَ عَنْكُمُ الرِّجْسَ أَهْلَ الْبَيْتِ وَ يُطَهِّرَكُمْ تَطْهِيراً «1». فأنا و أهل بيتي مطهّرون من الذنوب».

و

عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «يقول اللّه تعالى يوم القيامة: أمرتكم فضيّعتم ما عهدت إليكم فيه، و رفعتم أنسابكم، فاليوم أرفع نسبي و أضع أنسابكم. أين المتّقون؟ إنّ أكرمكم عند اللّه أتقاكم».

إِنَّ اللَّهَ عَلِيمٌ بأعمالكم خَبِيرٌ ببواطنكم.

[سورة الحجرات (49): الآيات 14 الى 18]

قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ وَ إِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ شَيْئاً إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14) إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (15) قُلْ أَ تُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي

الْأَرْضِ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (16) يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (17) إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18)

______________________________

(1) الأحزاب: 33.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 436

روي عن ابن عبّاس: أنّ نفرا من بني أسد قدموا المدينة في سنة جدبة، فأظهروا الشهادتين، و أفسدوا طرق المدينة بالعذرات، و أغلوا أسعارهم، و هم يغدون و يروحون على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يقولون: أتتك العرب بأنفسها على ظهور رواحلها، و جئناك بالأثقال و الذراري، و لم نقاتلك كما قاتلك بنو فلان، يريدون الصدقة و يمنّون عليه، فنزلت:

قالَتِ الْأَعْرابُ آمَنَّا قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا إذ الإيمان تصديق مع ثقة و طمأنينة قلب، و لم يحصل لكم و إلا لمّا مننتم على الرسول بالإسلام و ترك المقاتلة كما دلّ عليه آخر السورة وَ لكِنْ قُولُوا أَسْلَمْنا فإن الإسلام- الّذي هو انقياد- دخول في السلم و إظهار الشهادة. و ترك المحاربة يشعر به.

و كان نظم الكلام أن يقول: لا تقولوا آمنّا و لكن قولوا أسلمنا، أو لم تؤمنوا و لكن أسلمتم. فعدل منه إلى هذا النظم احترازا من النهي عن القول بالإيمان و الجزم بإسلامهم. فإنّه لو قيل: و لكن أسلمتم لكان خروجه في معرض التسليم لهم و الاعتداد بقولهم، و هو غير معتدّ به، لفقد شرط اعتباره شرعا، و هو التصديق القلبي. فأفاد هذا النظم تكذيب دعواهم أوّلا، و دفع ما انتحلوه، فقيل: «قل لم تؤمنوا». و روعي في هذا النوع من التكذيب أدب حسن حين لم يصرّح بلفظه، فلم يقل: كذبتم، و وضع «لم

تؤمنوا» الّذي هو نفي ما ادّعوا إثباته موضعه. ثمّ نبّه على ما فعل من وضعه موضع: كذبتم، في قوله بعد في صفة المخلصين: أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ «1» تعريضا بأنّ هؤلاء هم الكاذبون.

وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ توقيت ل «قولوا»، فإنّه حال من ضميره، أي: و لكن قولوا: أسلمنا، و لم تواطئ قلوبكم ألسنتكم بعد. و لمّا كان فائدة قوله:

«قُلْ لَمْ تُؤْمِنُوا» تكذيب دعواهم، و قوله: «وَ لَمَّا يَدْخُلِ الْإِيمانُ فِي قُلُوبِكُمْ» توقيت

______________________________

(1) الحجرات: 15.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 437

لما أمروا به أن يقولوه، فلا يكون تكريرا من غير فائدة متجدّدة.

وَ إِنْ تُطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ بالإخلاص القلبي و ترك النفاق لا يَلِتْكُمْ مِنْ أَعْمالِكُمْ لا ينقصكم من أجورها شَيْئاً من: لات ليتا إذا نقص. و قرأ البصريّان: لا يألتكم، من الألت. و هو لغة غطفان. و في الصحاح: «الته حقّه يألته ألتا، أي: نقصه. و ألته أيضا: حبسه عن وجهه و صرفه. مثل: لاته يليته. و هما لغتان، حكاهما اليزيدي عن أبي عمرو بن العلاء» «1».

إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ لما فرط من المطيعين رَحِيمٌ بالتفضّل عليهم.

إِنَّمَا الْمُؤْمِنُونَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ ثُمَّ لَمْ يَرْتابُوا لم يشكّوا- يعني:

لم يقع في نفوسهم شكّ- فيما آمنوا به. من: ارتاب مطاوع: رابه، إذا أوقعه في الشكّ مع التهمة. و فيه إشارة إلى ما أوجب نفي الإيمان عنهم. و «ثمّ» للإشعار بأنّ اشتراط عدم الارتياب في اعتبار الإيمان ليس حال الإيمان فقط، بل فيه و فيما يستقبل إلى آخر العمر. ف «ثمّ» هاهنا كما في قوله: ثُمَّ اسْتَقامُوا «2».

وَ جاهَدُوا بِأَمْوالِهِمْ وَ أَنْفُسِهِمْ فِي سَبِيلِ اللَّهِ في طاعته. و المجاهدة بالأموال و الأنفس تصلح للعبادات الماليّة و البدنيّة بأسرها.

فتشمل مجاهدة العدوّ و المحارب، أو الشيطان، أو الهوى، و في تحمّل أنواع الطاعات و مشاقّ صنوف العبادات.

أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ الّذين صدقوا في قولهم: آمنّا، و لم يكذبوا كما كذب أعراب بني أسد.

روي: أنّه لمّا نزلت الآيتان أتوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فحلفوا أنّهم مؤمنون صادقون في دعواهم الإيمان، فأنزل اللّه سبحانه:

______________________________

(1) الصحاح 1: 241.

(2) فصّلت: 30. زبدة التفاسير، ج 6، ص: 438

قُلْ أَ تُعَلِّمُونَ اللَّهَ بِدِينِكُمْ

أ تخبرون بقولكم: «آمنّا»؟ و الهمزة للإنكار و التوبيخ، أي: كيف تعلّمون اللّه بدينكم؟ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ لا يخفى عليه خافية. و فيه تجهيل لهم، لأنّه العالم بالذات، فيعلم المعلومات كلّها بنفسه، فلا يحتاج إلى معلّم يعلّمه، كما أنّه كان قديما موجودا في الأزل بالذات، و استغنى عن موجد أوجده.

و كانوا يقولون: آمنّا بك من غير قتال، و قاتلك بنو فلان. فأجابهم اللّه سبحانه بقوله:

يَمُنُّونَ عَلَيْكَ أَنْ أَسْلَمُوا يعدّون إسلامهم عليك منّة. و هي: النعمة الّتي لا يستثيب مسديها «1» ممّن يزلّها إليه. من المنّ بمعنى القطع، لأنّه إنّما يسديها إليه ليقطع بها حاجته لا غير، من غير أن يعمد لطلب مثوبة. ثم يقال: منّ عليه صنعه، إذا اعتدّه عليه منّة و إنعاما.

قُلْ لا تَمُنُّوا عَلَيَّ إِسْلامَكُمْ أي: بإسلامكم. فنصب بنزع الخافض، أو تضمين الفعل معنى الاعتداد. بَلِ اللَّهُ يَمُنُّ عَلَيْكُمْ أَنْ هَداكُمْ لِلْإِيمانِ بل اللّه يعتدّ عليكم أن أمدّكم بتوفيقه حيث هداكم للإيمان على ما زعمتم، و ادّعيتم أنّكم أرشدتم إليه و وفّقتم له إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في ادّعاء الإيمان، إلّا أنّكم تزعمون و تدّعون ما اللّه عليم بخلافه. و جواب

الشرط محذوف يدلّ عليه ما قبله، أي: فللّه المنّة عليكم.

و في سياق الآية لطف، و هو أنّهم لمّا سمّوا ما صدر عنهم إيمانا و منّوا به، فنفى أنّه إيمان، و سمّاه إسلاما، فقال: يمنّون عليك بما هو في الحقيقة إسلام، و ليس بجدير أن يمنّ به عليك، بل لو صحّ ادّعاؤهم للإيمان فللّه المنّة عليهم بالهداية له، لا لهم.

______________________________

(1) من: أسدى إليه: أحسن. و أزلّ إليه نعمة: أعطاها.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 439

إِنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ غَيْبَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ ما غاب فيهما وَ اللَّهُ بَصِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ في سرّكم و علانيتكم، فكيف يخفى عليه ما في ضمائركم؟

و في هذه الآية بيان لكونهم غير صادقين في دعواهم. و توضيح المعنى:

أنّه عزّ و جلّ يعلم كلّ مستتر في العالم، و يبصر كلّ عمل تعملونه في سرّكم و علانيتكم، لا يخفى عليه منه شي ء، فكيف يخفى عليه ما في ضمائركم، و لا يظهر على صدقكم و كذبكم؟ و ذلك أنّ حاله مع كلّ معلوم واحدة لا تختلف.

و قرأ ابن كثير بالياء، لما في الآية من الغيبة.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 441

(50) سورة ق

اشارة

مكّيّة. و هي خمس و أربعون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «و من قرأ سورة ق هوّن اللّه عليه تارات الموت و سكراته».

أبو حمزة الثمالي، عن أبي جعفر عليه السلام قال: «من أدمن في فرائضه و نوافله سورة ق وسّع اللّه في رزقه، و أعطاه كتابه بيمينه، و حاسبه حسابا يسيرا».

[سورة ق (50): الآيات 1 الى 11]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ق وَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ (1) بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ فَقالَ الْكافِرُونَ هذا شَيْ ءٌ عَجِيبٌ (2) أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ (3) قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ وَ عِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ (4)

بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِّ لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ (5) أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ كَيْفَ بَنَيْناها وَ زَيَّنَّاها وَ ما لَها مِنْ فُرُوجٍ (6) وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها وَ أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ (7) تَبْصِرَةً وَ ذِكْرى لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ (8) وَ نَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ وَ حَبَّ الْحَصِيدِ (9)

وَ النَّخْلَ باسِقاتٍ لَها طَلْعٌ نَضِيدٌ (10) رِزْقاً لِلْعِبادِ وَ أَحْيَيْنا بِهِ بَلْدَةً مَيْتاً كَذلِكَ الْخُرُوجُ (11)

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 442

و اعلم أنّه سبحانه لمّا ختم سورة الحجرات بذكر الإيمان و شرائطه للعبيد، افتتح هذه السورة بذكر ما يجب الإيمان به، من القرآن المجيد و أدلّة التوحيد، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ق وَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ الكلام فيه و في تركيبه كما مرّ في «ص وَ الْقُرْآنِ ذِي الذِّكْرِ». و عن ابن عبّاس: أنّه اسم من أسماء اللّه تعالى. و عن الضحّاك: هو اسم الجبل المحيط بالأرض، من زمرّدة خضراء، خضرة السماء منها.

و قيل: معناه: قضي

الأمر، أو قضي ما هو كائن. و المجيد: ذو المجد و الشرف على سائر الكتب. و قيل: وصف به، لأنّه كلام المجيد، فجاز اتّصافه بصفته. أو لأنّ من علم معانيه و امتثل أحكامه مجد عند اللّه و عند الناس.

بَلْ عَجِبُوا أَنْ جاءَهُمْ مُنْذِرٌ مِنْهُمْ إنكار لتعجّبهم ممّا ليس بعجب. و هو أن ينذرهم أحد من جنسهم، قد عرفوا وساطته فيهم و عدالته و أمانته. و من كان بصفته لم يكن إلّا ناصحا لقومه، مترفرفا عليهم، خائفا أن ينالهم سوء، و يحلّ بهم مكروه.

و إذا علم أنّ مخوفا أظلّهم لزمه أن ينذرهم و يحذّرهم، فكيف بما هو غاية المخاوف و نهاية المحاذير؟! ثمّ حكى عن تعجّبهم بقوله: فَقالَ الْكافِرُونَ هذا أي: اختيار اللّه محمدا للرسالة شَيْ ءٌ عَجِيبٌ و إضمار ذكرهم ثمّ إظهاره للإشعار بتعنّتهم بهذا المقال، ثمّ التسجيل على كفرهم بذلك. و يجوز أن يكون هذا إشارة إلى إنكار تعجّبهم ممّا

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 443

أنذرهم به من البعث و الرجع، مع علمهم بقدرة اللّه تعالى على خلق السماوات و الأرض و ما بينهما، و على اختراع كلّ شي ء و إبداعه، و إقرارهم بالنشأة الأولى، و مع شهادة العقل بأنّه لا بدّ من الجزاء. و للمبالغة في إنكارهم البعث وضع الظاهر موضع ضميرهم، للشهادة على أنّهم في قولهم هذا مقدمون على الكفر العظيم، إذ الأوّل استبعاد لأن يفضل عليهم مثلهم، و الثاني استقصار لقدرة اللّه عمّا هو أهون ممّا يشاهدون من صنعه. فالتعجّب هنا أدخل في الإنكار.

أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً منصوب بمضمر معناه: أحين نموت و صرنا ترابا و نبلى نرجع؟ و يدلّ على المحذوف قوله: ذلِكَ رَجْعٌ بَعِيدٌ أي: بعيد عن الوهم، أو العادة،

أو الإمكان. و قيل: ذلك جواب من اللّه استبعادا لإنكارهم ما أنذروا به من البعث. و الرجع بمعنى المرجوع. و المعنى: ذلك الإنكار مرجوع، أي: مردود بعيد عن العقل. و حينئذ ناصب الظرف ما دلّ عليه المنذر من المنذر به، و هو البعث.

و على هذا؛ الوقف قبله حسن.

ثمّ ردّ استبعادهم الرجع بقوله: قَدْ عَلِمْنا ما تَنْقُصُ الْأَرْضُ مِنْهُمْ ما تأكل من أجساد موتاهم. فمن لطف علمه حتّى تغلغل إلى ما تنقص الأرض من أجساد الموتى و تأكله من لحومهم و عظامهم، كان قادرا على رجعهم أحياء كما كانوا.

و قيل: إنّه جواب القسم. و اللام محذوف، لطول الكلام.

وَ عِنْدَنا كِتابٌ حَفِيظٌ حافظ لتفاصيل الأشياء كلّها. أو محفوظ عن التغيير، أو عن الشياطين، أو عن البلى و الدروس. و المراد اللوح المحفوظ، و هذا الكتاب الّذي كتب فيه جميع ما وقع و يقع إلى يوم القيامة. أو المراد صحائف أعمال العباد يكتبها الحفظة. و يجوز أن يكون المراد تمثيل علمه بتفاصيل الأشياء بعلم من عنده كتاب محفوظ يطالعه.

بَلْ كَذَّبُوا بِالْحَقِ إضراب أتبع الإضراب الأوّل، للدلالة على أنّهم جاءوا

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 444

بما هو أفظع من تعجّبهم، و هو التكذيب بالحقّ الّذي هو النبوّة الثابتة بالمعجزات، أو النبيّ، أو القرآن، أو الإخبار بالغيب لَمَّا جاءَهُمْ فَهُمْ فِي أَمْرٍ مَرِيجٍ مضطرب.

من: مرج الخاتم في إصبعه. و منه الهرج و المرج. و ذلك قولهم تارة أنّه شاعر، و تارة أنّه ساحر، و تارة أنّه كاهن، لا يثبتون على شي ء واحد.

ثمّ أقام سبحانه الدليل على كونه قادرا على البعث، فقال: أَ فَلَمْ يَنْظُرُوا حين كفروا بالبعث إِلَى السَّماءِ فَوْقَهُمْ إلى آثار قدرة اللّه في خلق العالم العلوي، و حسن ترتيبه و

انتظامه كَيْفَ بَنَيْناها رفعناها بلا عمد وَ زَيَّنَّاها بالكواكب وَ ما لَها مِنْ فُرُوجٍ فتوق و شقوق، بأن خلقها ملساء سليمة من العيوب، لا فتق فيها و لا صدع و لا خلل، كقوله: هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ «1».

وَ الْأَرْضَ مَدَدْناها دحوناها و بسطناها وَ أَلْقَيْنا فِيها رَواسِيَ جبالا ثوابت، و لولا هي لتقلّبت وَ أَنْبَتْنا فِيها مِنْ كُلِّ زَوْجٍ بَهِيجٍ من كل صنف يبتهج و يسرّ به، لحسنه و نضارته. عن ابن زيد: البهجة الحسن الّذي له روعة عند الرؤية، كالزهرة و الأشجار النضرة و الرياض الخضرة.

تَبْصِرَةً وَ ذِكْرى هما علّتان للأفعال السابقة. و المعنى: فعلنا ما فعلنا من الأفعال المذكورة لنبصّر بها و نذكّر. لِكُلِّ عَبْدٍ مُنِيبٍ كلّ عبد راجع إلى ربّه، متفكّر في بدائع صنعه.

وَ نَزَّلْنا مِنَ السَّماءِ ماءً مُبارَكاً مطرا كثير المنافع فَأَنْبَتْنا بِهِ جَنَّاتٍ بهذا الماء بساتين فيها أشجار تشتمل على أنواع الثمار المستلذّة و الفواكه الطيّبة وَ حَبَّ الْحَصِيدِ و حبّ الزرع الّذي من شأنه أن يحصد. و هو ما يقتات به، من نحو البرّ و الشعير و غيرهما. و الإضافة كإضافة حقّ اليقين و مسجد الجامع.

وَ النَّخْلَ باسِقاتٍ طوالا. و قيل: حوامل، من: أبسقت الشاة إذا حملت.

______________________________

(1) الملك: 3.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 445

و إفرادها بالذكر لفرط ارتفاعها و كثرة منافعها. لَها لهذه النخل الموصوفة بالعلوّ و الارتفاع طَلْعٌ نَضِيدٌ منضود بعضه فوق بعض. و المراد: تراكم الطلع، أو كثرة ما فيه من الثمر.

رِزْقاً لِلْعِبادِ علّة ل «أنبتنا» أي: أنبتناها لنرزقهم. أو مصدر، فإنّ الإنبات في معنى الرزق. وَ أَحْيَيْنا بِهِ بذلك الماء بَلْدَةً مَيْتاً أرضا جدبة لا نماء فيها، فنمت به و أنبتت كلّ نبات كَذلِكَ الْخُرُوجُ الكاف في

محلّ الرفع على الابتداء، أي: مثل إحياء هذه البلدة يكون خروجكم أحياء بعد موتكم، فإنّ من قدر على أحدهما قدر على الآخر. و إنّما دخلت الشبهة على هؤلاء من حيث إنّهم رأوا العادة مستمرّة في إحياء الموات من الأرض بنزول المطر، و لم تجر العادة بإحياء الموتى من البشر، و لو أعملوا الفكر و أمعنوا في النظر لعلموا أنّ من قدر على أحد الأمرين قدر على الآخر.

[سورة ق (50): الآيات 12 الى 14]

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ وَ أَصْحابُ الرَّسِّ وَ ثَمُودُ (12) وَ عادٌ وَ فِرْعَوْنُ وَ إِخْوانُ لُوطٍ (13) وَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ وَ قَوْمُ تُبَّعٍ كُلٌّ كَذَّبَ الرُّسُلَ فَحَقَّ وَعِيدِ (14)

ثمّ ذكر سبحانه الأمم المكذّبة تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و تهديدا للكفّار، فقال:

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ من الأمم الماضية قَوْمُ نُوحٍ فأغرقهم اللّه وَ أَصْحابُ الرَّسِ و هم أصحاب البئر الّتي رسّوا «1» نبيّهم فيها بعد أن قتلوه. و بيان ذلك و اختلاف الأقوال فيه قد مرّ سابقا. «2»

______________________________

(1) أي: دفنوا.

(2) راجع ج 4 ص 569، ذيل الآية 35 من سورة الفرقان.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 446

وَ ثَمُودُ و هم قوم صالح عليه السّلام. وَ عادٌ و هم قوم هود وَ فِرْعَوْنُ أراد إيّاه و قومه، ليلائم ما قبله و ما بعده، فإنّ المعطوف عليه قوم نوح، و المعطوفات جماعات وَ إِخْوانُ لُوطٍ فإنّهم كانوا أصهاره و من نسبه.

وَ أَصْحابُ الْأَيْكَةِ و هم قوم شعيب. و قد مرّ في الحجر «1». وَ قَوْمُ تُبَّعٍ تبّع الحميري. و قد مرّ في «2» الدخان. كُلٌ كلّ واحد منهم، أو قوم منهم، أو جميعهم. و حينئذ إفراد الضمير في قوله: كَذَّبَ الرُّسُلَ لإفراد لفظة الكلّ فَحَقَّ وَعِيدِ فوجب و حلّ

عليه وعيدي، و هو كلمة العذاب. فإذا كان مآل الأمم الخالية إذا كذّبوا الرسل الهلاك، و إنّكم معاشر الكفّار قد سلكتم مسالكهم في التكذيب و الإنكار، فحالكم كحالهم في التباب «3» و الخسار.

[سورة ق (50): الآيات 15 الى 18]

أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ (15) وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ وَ نَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ (16) إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ (17) ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ إِلاَّ لَدَيْهِ رَقِيبٌ عَتِيدٌ (18)

و بعد تهديدهم بعواقب المكذّبين المنكرين، ذكر الأدلّة على إمكان البعث، فقال:

أَ فَعَيِينا بِالْخَلْقِ الْأَوَّلِ أ فعجزنا عن الإبداء حتّى نعجز عن الإعادة؟ من:

عيي بالأمر إذا لم يهتد لوجه عمله. و الهمزة فيه للإنكار. يعني: أنّا لم نعجز- كما

______________________________

(1) الحجر: 78.

(2) الدخان: 37.

(3) النباب: الهلاك.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 447

علموا- عن الخلق الأوّل حتّى نعجز عن الثاني. بَلْ هُمْ فِي لَبْسٍ مِنْ خَلْقٍ جَدِيدٍ أي: هم لا ينكرون قدرتنا على الخلق الأوّل، و اعترافهم بذلك في طيّه الاعتراف بالقدرة على الإعادة، بل هم في خلط و شبهة قد لبّس عليهم الشيطان و حيّرهم.

و أصل اللبس المنع من إدراك الشي ء بما هو كالستر له. و الجديد: القريب الإنشاء. و منه

قول عليّ عليه السّلام: «يا حار إنّه لملبوس عليك، اعرف الحقّ تعرف أهله».

و لبس الشيطان عليهم: تسويله إليهم أنّ إحياء الموتى أمر خارج عن العادة. فتركوا لذلك القياس الصحيح المنصوص العلّة، و هو أن من قدر على الإنشاء كان على الإعادة أقدر. و الجديد بمعنى القريب.

و تنكير الخلق و الجديد ليدلّ على أنّ له شأنا عظيما و حالا شديدة، حقّ من سمع به أن يهتمّ به

و يخاف، و يبحث عنه، و لا يقعد على لبس في مثله. و للإشعار بأنّه على وجه غير متعارف و لا معتاد.

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ جنس البشر وَ نَعْلَمُ ما تُوَسْوِسُ بِهِ نَفْسُهُ ما تحدّثه به نفسه و ما يخطر بالبال، فإنّ وسوسة النفس ما يخطر ببال الإنسان، و يهجس «1» في ضميره من حديث النفس. و أصل الوسوسة: الصوت الخفيّ. و منها:

وسواس الحليّ. و الضمير ل «ما» إن جعلت موصولة. و الباء مثلها في قولك: صوّت بكذا و همس «2» به. و إن جعلت مصدريّة فالضمير ل «الإنسان». و الباء للتعدية.

وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ إسناد القرب إلى اللّه مجاز. و المراد قرب علمه منه، كما يقال: اللّه في كلّ مكان، و قد جلّ عن الأمكنة. و المعنى: و نحن أعلم بحاله ممّن كان أقرب إليه مِنْ حَبْلِ الْوَرِيدِ فتجوّز بقرب الذات لقرب العلم، لأنّ الذات موجبه.

و حبل الوريد مثل في فرط القرب، كقولهم: هو منّي مقعد القابلة و معقد الإزار. قال

______________________________

(1) أي: يخطر.

(2) همس الصوت: أخفاه.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 448

ذو الرمّة: و الموت أدنى لي من الوريد. و الحبل: العرق، شبّه بواحد الحبال.

و إضافته للبيان، كقولهم: بعير سانية «1». و الوريدان عرقان مكتنفان بصفحتي العنق في مقدّمها، متّصلان بالوتين، يردان من الرأس إليه. و قيل: سمّي وريدا لأنّ الروح ترده.

ثمّ ذكر سبحانه أنّه مع علمه به و كلّ به ملكين يحفظان عليه عمله إلزاما للحجّة، فقال:

إِذْ يَتَلَقَّى الْمُتَلَقِّيانِ مقدّر ب «اذكر» أو متعلّق ب «أقرب» أي: نحن أعلم بحاله من كلّ قريب حين يتلقّى الحفيظان ما يتلفّظ به. و التلقّي: التلقّن بالحفظ و الكتبة. و فيه إيذان بأنّه غنيّ عن استحفاظ الملكين، فإنّه

أعلم منهما، و مطّلع على ما يخفى عليهما، و كيف لا يستغني عنه و هو مطّلع على أخفى الخفيّات؟ لكنّه لحكمة اقتضته، و هي ما في كتبة الملكين و حفظهما، و عرض صحائف الأعمال يوم يقوم الأشهاد، و علم العبد بذلك، مع علمه بإحاطة اللّه بعمله، من زيادة لطف له في الانتهاء عن السيّئات و الرغبة في الحسنات.

عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ قَعِيدٌ أي: عن اليمين قعيد، و عن الشمال قعيد من المتلقّيين، أي: مقاعد، كالجليس بمعنى المجالس. فحذف الأوّل لدلالة الثاني عليه، كقوله: فإنّي و قيّار بها لغريب. و قد يطلق الفعيل للواحد و المتعدّد، كقوله:

وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ «2». و المراد بالقعيد الملازم الّذي لا يبرح، لا القاعد الّذي هو ضدّ القائم. و عن الحسن: الحفظة أربعة: ملكان بالنهار، و ملكان بالليل.

ما يَلْفِظُ مِنْ قَوْلٍ ما يرمي به من فيه إِلَّا لَدَيْهِ رَقِيبٌ ملك يرقب عمله عَتِيدٌ معدّ حاضر. و اختلف فيما يكتب الملكان، فقيل: يكتبان كلّ شي ء حتّى

______________________________

(1) السانية: الناقة يستقى عليها من البئر.

(2) التحريم: 4.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 449

أنينه في مرضه. و قيل: لا يكتبان عليه إلا ما فيه ثواب و عقاب. و يؤيّده ما

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «كاتب الحسنات على يمين الرجل، و كاتب السيّئات على يسار الرجل، و كاتب الحسنات أمين على كاتب السيّئات، فإذا عمل حسنة كتبها لملك اليمين عشرا، و إذا عمل سيّئة قال صاحب اليمين لصاحب الشمال: دعه سبع ساعات لعلّه يسبّح أو يستغفر».

و

عن أبي امامة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «إنّ صاحب الشمال ليرفع القلم ستّ ساعات عن العبد المسلم المخطئ أو

المسي ء، فإن ندم و استغفر اللّه منها ألقاها، و إلّا كتب واحدة».

و

عن أنس بن مالك قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّ اللّه تعالى و كلّ بعبده ملكين يكتبان عليه، فإذا مات قالا: يا ربّ قد قبضت عبدك فلانا فإلى أين؟ قال:

سمائي مملوءة بملائكتي يعبدونني، و أرضي مملوءة من خلقي يطيعونني، اذهبا إلى قبر عبدي فسبّحاني و كبّراني و هلّلاني، فاكتبا ذلك في حسنات عبدي إلى يوم القيامة».

و

عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ مقعد ملكيك على ثنيّتيك «1»، و لسانك قلمهما، و ريقك مدادهما، و أنت تجري فيما لا يعنيك، لا تستحي من اللّه و لا منهما».

[سورة ق (50): آية 19]

وَ جاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِّ ذلِكَ ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ (19)

و لمّا ذكر إنكارهم البعث، و احتجّ عليهم بوصف قدرته و علمه، أعلمهم أنّ ما أنكروه و جحدوه هم لاقوه عن قريب عند موتهم و عند قيام الساعة، و نبّه على اقتراب ذلك بأن عبّر عنه بلفظ الماضي، فقال:

______________________________

(1) الثنيّة و جمعها ثنايا: و هي أسنان مقدّم الفم، ثنتان من فوق، و ثنتان من أسفل.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 450

زبدة التفاسير ج 6 499

وَ جاءَتْ سَكْرَةُ الْمَوْتِ بِالْحَقِ غمرته و شدّته الذاهبة بالعقل. و الباء للتعدية، كقولك: جاء زيد بعمرو. و المعنى: و أحضرت سكرة الموت حقيقة الأمر الموعود الّذي أنطق اللّه به كتبه و بعث به رسله. أو حقيقة الأمر و جليّة الحال، من سعادة المرء و شقاوته. أو الحقّ الّذي خلق له الإنسان من أنّ كلّ نفس ذائقة الموت.

أو الجزاء، فإنّ الإنسان خلق له. أو مثل الباء في تَنْبُتُ بِالدُّهْنِ «1»، أي: و جاءت ملتبسة بحقيقة الأمر. أو

بالحكمة و الغرض الصحيح، كقوله: خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِ «2».

ذلِكَ أي: الموت ما كُنْتَ مِنْهُ تَحِيدُ تميل و تنفر عنه. و الخطاب للإنسان في قوله تعالى: وَ لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ «3» على طريق الالتفات. أو الإشارة إلى الحقّ، و الخطاب للفاجر.

[سورة ق (50): الآيات 20 الى 22]

وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ (20) وَ جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَ شَهِيدٌ (21) لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ (22)

ثمّ أخبر سبحانه عن حال الناس بعد البعث، فقال: وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ يعني: نفخة البعث ذلِكَ إشارة إلى مصدر «نفخ» بحذف المضاف، أي: وقت ذلك النفخ يَوْمُ الْوَعِيدِ يوم تحقّق الوعيد و وقوع المجازاة.

______________________________

(1) المؤمنون: 20.

(2) الأنعام: 73.

(3) ق: 16.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 451

وَ جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَ شَهِيدٌ ملكان أحدهما يسوقه، و الآخر يشهد بعمله. أو ملك جامع للوصفين، كأنّه قيل: معها ملك يسوقها و يشهد عليها.

و قيل: السائق نفسه أو قرينه، و الشهيد جوارحه أو أعماله، فلا يجد إلى الهرب و لا إلى الجحود سبيلا. و محلّ «معها» النصب على الحال من «كلّ»، لإضافته إلى ما هو في حكم المعرفة، للاستغراق الّذي يفيد التخصيص.

لَقَدْ كُنْتَ فِي غَفْلَةٍ مِنْ هذا على إضمار القول. و الخطاب لكلّ نفس، إذ ما من أحد إلّا و له اشتغال مّا عن الآخرة. فَكَشَفْنا عَنْكَ غِطاءَكَ حاجبك لأمور المعاد و خاسئك «1» عنها. و هو الغفلة و الانهماك في المحسوسات، و الألف بها، و قصور النظر عليها. فإذا كان يوم القيامة تيقّظ و زالت عنه هذه الغفلة و غطاؤها، فيبصر ما لم يبصره من الحقّ، و يرجع بصره الكليل عن الإبصار- لغفلته- حديدا لتيقظّه، كما

قال: فَبَصَرُكَ الْيَوْمَ حَدِيدٌ حادّ نافذ لا يدخل عليه شبهة، لزوال المانع للإبصار. و لا شبهة أنّ الأمور العقليّة و السمعيّة لا تكون كالمشاهد المحسوس، فشبّه اللّه تعالى الغفلة الموصوفة بغطاء غطّى الإنسان جسده كلّه، أو بغشاوة غطّى بها عينيه، فهو لا يبصر شيئا.

و قيل: الخطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و المعنى: كنت في غفلة من أمر الديانة، فكشفنا عنك غطاء الغفلة بالوحي و تعليم القرآن، فبصرك اليوم حديد، ترى ما لا يرون، و تعلم ما لا يعلمون.

و عن ابن عبّاس: هو خاصّ بالكافر، أي: فأنت اليوم عالم بما كنت تنكره في الدنيا.

و يؤيّد الأوّل سوق الكلام السابق، و قراءة من كسر التاء و الكافات على خطاب النفس.

______________________________

(1) خسئ: بعد. و خسأ البصر: كلّ و أعيا.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 452

[سورة ق (50): الآيات 23 الى 30]

وَ قالَ قَرِينُهُ هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ (23) أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ (24) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ مُرِيبٍ (25) الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ (26) قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ وَ لكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ (27)

قالَ لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ (28) ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ وَ ما أَنَا بِظَلاَّمٍ لِلْعَبِيدِ (29) يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ (30)

وَ قالَ قَرِينُهُ و قال الملك الموكّل عليه هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ هذا ما هو مكتوب عندي حاضر لديّ. أو قال الشيطان الّذي قيّض له- في قوله: نُقَيِّضْ لَهُ شَيْطاناً فَهُوَ لَهُ قَرِينٌ «1»-: إنّ هذا شي ء لديّ و في ملكتي «2» عتيد لجهنّم. و تلخيص المعنى على هذا التقدير: أنّ ملكا يسوقه، و آخر شهيد عليه، و شيطانا

مقرونا به يقول: قد اعتدته لجهنّم، و هيّأته لها بإغوائي و إضلالي. و القول الأوّل مرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام، منقول عن جمع كثير من المفسّرين.

ثمّ خاطب اللّه سبحانه السائق و الشهيد، أو ملكين من خزنة النار، بقوله:

أَلْقِيا فِي جَهَنَّمَ و يجوز أن يكون الخطاب لواحد على وجهين:

الأوّل: قول المبرّد: إنّ تثنية الفاعل بمنزلة تثنية الفعل و تكريره، كأنّه قيل:

______________________________

(1) الزخرف: 36.

(2) الملكة: الملك.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 453

الق ألق، كقوله: فإن تزجراني يا ابن عفّان أنزجر «1».

و الثاني: الألف بدل من نون التأكيد، على إجراء الوصل مجرى الوقف.

و يؤيّده أنّه قرئ في الشواذّ: ألقين بالنون الخفيفة. و الأوّل أظهر.

و

روى أبو القاسم الحسكاني بالإسناد عن الأعمش أنّه قال: حدّثنا ابو المتوكّل الناجي، عن أبي سعيد الخدري، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا كان يوم القيامة يقول اللّه تعالى لي و لعليّ: ألقيا في النار من أبغضكما، و أدخلا الجنّة من أحبّكما، و ذلك قوله: ألقيا في جهنّم كُلَّ كَفَّارٍ عَنِيدٍ» «2»

معاند، مجانب للحقّ، معاد لأهله.

مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ كثير المنع للمال عن حقوقه المفروضة. و جعل ذلك عادة له، فلا يبذل منه شيئا قطّ. و قيل: المراد بالخير الإسلام، لما روي أنّ الآية نزلت في الوليد بن المغيرة لمّا منع بني أخيه عن الإسلام، و كان يقول: من دخل منكم فيه لم أنفعه بخير ما عشت. مُعْتَدٍ متعدّ، ظالم، متخطّ عن الحقّ مُرِيبٍ شاكّ في اللّه و في دينه.

الَّذِي جَعَلَ مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ مبتدأ متضمّن معنى الشرط، و خبره فَأَلْقِياهُ فِي الْعَذابِ الشَّدِيدِ أو بدل «كلّ كفّار». فيكون «فألقياه» تكريرا للتوكيد، أو مفعولا لمضمر يفسّره: فألقياه.

قالَ

قَرِينُهُ أي: الشيطان المقيّض له. و إنّما أخليت هذه الجملة عن الواو و أدخلت على الأولى، لأنّها استؤنفت كما تستأنف الجمل الواقعة في حكاية التقاول، كما رأيت في حكاية المقاولة بين موسى و فرعون.

و بيان التقاول هنا: أنّه لمّا قال قرينه: «هذا ما لَدَيَّ عَتِيدٌ». و تبعه قوله:

______________________________

(1) و عجزه: و إن تدعاني أحم عرضا ممنعا.

(2) شواهد التنزيل 2: 261- 262 ح 895.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 454

«قالَ قَرِينُهُ رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ». و تلاه «لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَّ» علم أنّ ثم مقاولة بين الكافر و الشيطان، لكنّها طرحت لما يدلّ عليها رَبَّنا ما أَطْغَيْتُهُ كأنّ الكافر قال: ربّ هو أطغاني. فقال قرينه: ربّنا ما أطغيته. بخلاف الجملة الأولى، فإنّها واجبة العطف على ما قبلها، للدلالة على الجمع بين معناها و بين معنى ما قبلها. و المعنى: ما جعلته طاغيا، و ما أوقعته في الطغيان وَ لكِنْ كانَ فِي ضَلالٍ بَعِيدٍ و لكن طغى و اختار الضلالة على الهدى، فأعنته عليه، فإنّ إغواء الشيطان إنّما يؤثّر فيمن كان مائلا إلى الفجور، كما قال: وَ ما كانَ لِي عَلَيْكُمْ مِنْ سُلْطانٍ إِلَّا أَنْ دَعَوْتُكُمْ فَاسْتَجَبْتُمْ لِي «1».

قالَ أي: اللّه تعالى لا تَخْتَصِمُوا لَدَيَ استئناف مثل قوله: «قالَ قَرِينُهُ».

كأنّ قائلا قال: فما ذا قال اللّه؟ فقيل: قال لا تختصموا لديّ، أي: في موقف الحساب، فإنّه لا فائدة في اختصامكم وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ بِالْوَعِيدِ على الطغيان في كتبي و على ألسنة رسلي، فما تركت لكم حجّة عليّ. و الجملة حاليّة، فيها تعليل للنهي، أي: لا تختصموا عالمين بأنّي أوعدتكم. و الباء مزيدة، مثلها في: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ «2». أو معدّية على أنّ «قدّم» بمعنى: تقدّم. و لمّا

كان قوله: «لا تختصموا ... إلخ» معناه: لا تختصموا عندي و قد صحّ عندكم أنّي قدّمت إليكم بالوعيد، و صحّة ذلك عندهم يكون في الآخرة. فلا يقال: إنّ قوله: «و قد قدّمت» واقع موقع الحال من «لا تختصموا». و التقديم بالوعيد في الدنيا، و الخصومة في الآخرة، و اجتماعهما في زمان واحد واجب.

ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَ أي: بوقوع الخلف في أنّي أعاقب من جحدني و كذّب رسلي. فلا تطمعوا أن أبدّل وعيدي، فأعفيكم عمّا أوعدتكم به. و يجوز أن يقع

______________________________

(1) إبراهيم: 22.

(2) البقرة: 195.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 455

قوله: «وَ قَدْ قَدَّمْتُ إِلَيْكُمْ» على قوله: «ما يُبَدَّلُ الْقَوْلُ لَدَيَّ ... إلخ». و يكون «بالوعيد» حالا من المفعول أو الفاعل، أي: قدّمت إليكم هذا القول و نثبت لكم مضمونه ملتبسا بالوعيد. أو قدّمته إليكم موعدا لكم به.

وَ ما أَنَا بِظَلَّامٍ لِلْعَبِيدِ فأعذّب من ليس بمستوجب للعذاب. و في إيراد نفي الظلم في صورة بناء المبالغة و جهان: أن يكون مثل قولك: هو ظالم لعبده، و ظلّام لعبيده. و أن يراد: لو عذّبت من لا يستحقّ العقاب لكنت ظلّاما مفرط الظلم، فنفى ذلك.

و قوله: يَوْمَ نَقُولُ لِجَهَنَّمَ هَلِ امْتَلَأْتِ منصوب ب «ظلّام» أو بمضمر نحو:

اذكر و أنذر حين نقول لجهنّم هل امتلأت؟ من كثرة ما ألقي فيك من العصاة وَ تَقُولُ هَلْ مِنْ مَزِيدٍ. و يجوز أن ينتصب ب «نفخ» كأنّه قيل: و نفخ في الصور يوم نقول لجهنّم. و على هذا «ذلِكَ يَوْمُ الْوَعِيدِ» إشارة إلى «يوم نقول» فلا يفتقر إلى تقدير مضاف.

و سؤال جهنّم و جوابها من باب التخييل الّذي يقصد به تصوير المعنى في القلب و تثبيته. و المعنى: أنّها مع اتّساعها تطرح فيها

الجنّ و الإنس فوجا فوجا حتّى تمتلئ، لقوله: لَأَمْلَأَنَّ جَهَنَّمَ «1». أو أنّها من السعة بحيث يدخلها من يدخلها و فيما بعد فراغ و موضع للمزيد. أو أنّها من شدّة زفيرها و حدّتها و تشبّثها بالعصاة و غيضها عليهم، كالمستكثرة لهم، و الطالبة لزيادتهم.

و قيل: الجواب و السؤال على الحقيقة، لأنّ اللّه سبحانه يخلق لجهنّم آلة الكلام فتتكلّم. و هذا غير منكر، لأنّ من أنطق الأيدي و الجوارح و الجلود قادر على أن ينطق جهنّم.

و عن الحسن: هذا خطاب لخزنة جهنّم على وجه التقرير لهم. و المعنى: هل

______________________________

(1) الأعراف: 18.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 456

امتلأ جهنّم؟ فيقولون: بلى لم يبق موضع لمزيد، ليعلم الخلق صدق وعده. و معنى «هَلْ مِنْ مَزِيدٍ» على هذا: ما من مزيد، أي: لا مزيد، كقوله: هَلْ مِنْ خالِقٍ غَيْرُ اللَّهِ «1».

و قرأ نافع و أبو بكر: يوم يقول بالياء. و المزيد إمّا مصدر كالمحيد، أو مفعول كالمبيع.

[سورة ق (50): الآيات 31 الى 35]

وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ (31) هذا ما تُوعَدُونَ لِكُلِّ أَوَّابٍ حَفِيظٍ (32) مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَ جاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ (33) ادْخُلُوها بِسَلامٍ ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ (34) لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ (35)

و لمّا أخبر سبحانه عمّا أعدّه للكافرين و العصاة، عقّبه بذكر ما أعدّه للمتّقين، فقال:

وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ أدنيت لِلْمُتَّقِينَ حتّى يروها قريبة لهم غَيْرَ بَعِيدٍ نصب على الظرف، أي: مكانا غير بعيد. و يجوز أن يكون حالا. و تذكيره لأنّه صفة محذوف، أي: شيئا غير بعيد. أو على أنّه مصدر، كالزئير و الصليل، و المصادر يستوي في الوصف بها المذكّر و المؤنّث. و قيل: معناه: ليس ببعيد مجي ء ذلك، لأنّ كلّ آت قريب. أو لأنّ الجنّة بمعنى

البستان الّذي يجمع كلّ لذّة، من الأنهار و الأشجار و طيّب الثمار، و من الأزواج الكرام و الحور الحسان و الخدم من الولدان،

______________________________

(1) فاطر: 3.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 457

و من الأبنية الفاخرة المزيّنة بالدرّ و اليواقيت و الزمرّد و العقيان «1». و ذكر «غير بعيد» بعد الإزلاف للتأكيد، كما تقول: هو قريب غير بعيد، و عزيز غير ذليل.

هذا ما تُوعَدُونَ على إضمار القول. و الإشارة إلى الثواب، أو مصدر «أزلفت». و قرأ ابن كثير بالياء. لِكُلِّ أَوَّابٍ رجّاع إلى ذكر اللّه. بدل من «المتّقين» بإعادة الجارّ، كقوله: لِلَّذِينَ اسْتُضْعِفُوا لِمَنْ آمَنَ مِنْهُمْ «2». حَفِيظٍ حافظ لحدود اللّه، متحفّظ من الخروج إلى ما لا يجوز، من سيّئة تدنّسه أو خطيئة تشينه.

مَنْ خَشِيَ الرَّحْمنَ بِالْغَيْبِ وَ جاءَ بِقَلْبٍ مُنِيبٍ بدل بعد بدل. أو بدل من موصوف «أوّاب» أي: شخص أوّاب. و لا يجوز أن يكون في حكم «أوّاب»، لأنّ «من» لا يوصف به، فإنّه لا يوصف من بين الموصولات إلّا ب «الّذي» وحده. أو مبتدأ خبره ادْخُلُوها على تأويل: يقال لهم: ادخلوها، فإنّ «من» بمعنى الجمع.

و يجوز أن يكون منادى، كقولهم: من لا يزال محسنا أحسن إليّ. و حذف حرف النداء للتقريب.

و «بالغيب» حال من المفعول، أي: خشيه و هو غائب لم يعرفه و كونه معاقبا إلّا بطريق الاستدلال. أو من الفاعل، أي: خشيه حال كونه لم يره. أو صفة لمصدر، أي: خشيه خشية ملتبسة بالغيب، حيث خشي عقابه و هو غائب. أو هو غائب عن الأعين لا يراه أحد.

و تخصيص «الرحمن» للثناء البليغ على الخاشي، و هو خشيته مع علمه أنّه الواسع الرحمة، كما أثنى عليه بأنّه خاش مع أنّ المخشيّ منه غائب. و نحوه:

وَ الَّذِينَ

يُؤْتُونَ ما آتَوْا وَ قُلُوبُهُمْ وَجِلَةٌ «3». فوصفهم بالوجل مع كثرة الطاعات.

______________________________

(1) العقيان: الذهب الخالص.

(2) الأعراف: 75.

(3) المؤمنون: 60.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 458

و وصف القلب بالإنابة، إذ الاعتبار بما ثبت منها في القلب، من رجوعه إلى اللّه.

بِسَلامٍ سالمين من العذاب و زوال النعم. أو مسلّما عليكم من اللّه و ملائكته. ذلِكَ يَوْمُ الْخُلُودِ يوم تقدير الخلود، كقوله: فَادْخُلُوها خالِدِينَ «1» أي: مقدّرين الخلود.

لَهُمْ ما يَشاؤُنَ فِيها وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ و هو: ما لا يخطر ببالهم ممّا لا عين رأت، و لا أذن سمعت، و لا خطر على قلب بشر.

و قيل: إنّ السحاب تمرّ بأهل الجنّة فتمطرهم الحور، فتقول الحور: نحن المزيد الّذي قال اللّه عزّ و جلّ: «وَ لَدَيْنا مَزِيدٌ».

[سورة ق (50): الآيات 36 الى 45]

وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ بَطْشاً فَنَقَّبُوا فِي الْبِلادِ هَلْ مِنْ مَحِيصٍ (36) إِنَّ فِي ذلِكَ لَذِكْرى لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ وَ هُوَ شَهِيدٌ (37) وَ لَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ وَ ما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ (38) فَاصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ (39) وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ أَدْبارَ السُّجُودِ (40)

وَ اسْتَمِعْ يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ (41) يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بِالْحَقِّ ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ (42) إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ وَ إِلَيْنَا الْمَصِيرُ (43) يَوْمَ تَشَقَّقُ الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً ذلِكَ حَشْرٌ عَلَيْنا يَسِيرٌ (44) نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ (45)

______________________________

(1) الزمر: 73.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 459

ثمّ خوّف سبحانه كفّار مكّة فقال: وَ كَمْ أَهْلَكْنا قَبْلَهُمْ قبل قومك مِنْ قَرْنٍ هُمْ أَشَدُّ مِنْهُمْ

بَطْشاً قوّة، كعاد و فرعون فَنَقَّبُوا فخرقوا «1» فِي الْبِلادِ و تصرّفوا فيها. و الفاء للتسبيب، أي: شدّة بطشهم أبطرتهم و أقدرتهم على التنقيب.

و قيل: معناه: جالوا في الأرض كلّ مجال حذر الموت. هَلْ مِنْ مَحِيصٍ أي: هل لهم من اللّه أو من الموت مهرب حتّى يتوقّعوا مثله لأنفسهم؟

و قيل: الضمير لأهل مكّة. و معناه: فنقّب أهل مكّة في أسفارهم و مسايرهم في البلاد و القرى، و حين نزول آجالهم أو عقوباتهم، فهل رأوا لهم مهربا منها؟

و الدليل على صحّته قراءة من قرأ: فنقّبوا على الأمر، كقوله: فَسِيحُوا فِي الْأَرْضِ «2». و على الثاني و الثالث؛ الفاء للتعقيب.

إِنَّ فِي ذلِكَ فيما ذكر في هذه السورة لَذِكْرى لتذكرة لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ أي: قلب واع يتفكّر في حقائقه، لأنّ من لا يعي قلبه فكأنّه لا قلب له أَوْ أَلْقَى السَّمْعَ أي: أصغى لاستماعه وَ هُوَ شَهِيدٌ حاضر بذهنه ليفهم معانيه، لأنّ من لا يحضر ذهنه فكأنّه غائب. أو شاهد يصدّقه بأنّه وحي، فيتّعظ بظواهره، و ينزجر بزواجره. و في تنكير القلب و إبهامه تفخيم و إشعار بأنّ كلّ قلب لا يتفكّر و لا يتدبّر كلا قلب.

وَ لَقَدْ خَلَقْنَا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ وَ ما بَيْنَهُما فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ مرّ تفسيره «3» مرارا

______________________________

(1) خرق الأرض: جابها و قطعها حتّى بلغ أقصاها.

(2) التوبة: 2.

(3) راجع تفسير الآية 54 من سورة الأعراف، يونس: 3، هود: 7، الفرقان: 59، السجدة: 4.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 460

وَ ما مَسَّنا مِنْ لُغُوبٍ من تعب و إعياء. و هو ردّ لما زعمت اليهود من أنّه تعالى بدأ خلق العالم يوم الأحد، و فرغ منه يوم الجمعة، و استراح يوم السبت، و استلقى على العرش.

فَاصْبِرْ عَلى

ما يَقُولُونَ ما يقول اليهود و يأتون به من الكفر و التشبيه. أو ما يقول المشركون من إنكارهم البعث، فإنّ من قدر على خلق العالم بلا إعياء، قدر على بعثهم و الانتقام منهم. و قيل: هي منسوخة بآية السيف «1». و قيل: الصبر مأمور به في كلّ حال.

وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ و نزّهه عن العجز عمّا يمكن، و الوصف بما يوجب التشبيه، حامدا له على ما أنعم عليك من إصابة الحقّ و غيرها قَبْلَ طُلُوعِ الشَّمْسِ وَ قَبْلَ الْغُرُوبِ

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه سئل عن هذا فقال: «تقول حين تصبح و حين تمسي عشر مرّات: لا إله إلّا اللّه، وحده لا شريك له، له الملك و له الحمد، يحيي و يميت، و هو على كلّ شي ء قدير».

و الأكثر على أنّ المراد بالتسبيح قبل طلوع الشمس صلاة الصبح، و قبل الغروب صلاة الظهر و العصر. فيعبّر عن الصلاة بالتسبيح، كما يعبّر بالركوع و السجود عنها، تسمية للشي ء باسم معظم أركانه.

وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ فسبّحه بعض الليل، يعني: العشاءين. و قيل: التهجّد.

وَ أَدْبارَ السُّجُودِ يعني: التسبيح في أعقاب الصلوات. جمع دبر. و قيل: النوافل بعد المكتوبات.

و

عن عليّ عليه السّلام: «الركعتان بعد المغرب».

و

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من صلّى بعد المغرب قبل أن يتكلّم كتبت صلاته في علّيّين».

______________________________

(1) التوبة: 5 و 29.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 461

و عن ابن عبّاس:

الوتر بعد العشاء. و قيل: الوتر بعد التهجّد. و روي ذلك عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

و قرأ الحجازيّان بكسر الهمزة، من: أدبرت الصلاة إذا انقضت. يعني: وقت انقضاء السجود.

و قال في كنز العرفان بعد نقل الأقوال المذكورة: «و عندي أنّ

حمله على العموم أولى» «1».

وَ اسْتَمِعْ لما أخبرك به من أهوال يوم القيامة. و فيه تهويل و تعظيم لشأن المخبر به. يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ نصب بما دلّ عليه «ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ» أي: يوم يناد المنادي يخرجون من القبور. و المنادي هو إسرافيل. فيقول: أيّتها العظام البالية، و الأوصال المنقطعة، و اللحوم المتمزّقة، و الشعور المتفرّقة، إنّ اللّه يأمركنّ أن تجتمعن لفصل القضاء. و قيل: إسرافيل ينفخ، و جبرئيل ينادي بالحشر. مِنْ مَكانٍ قَرِيبٍ بحيث يصل نداؤه إلى الكلّ على سواء. قيل: هو صخرة بيت المقدس. و هي أقرب الأرض من السماء باثني عشر ميلا. و هي وسط الأرض. و قيل: من تحت أقدامهم. و قيل: من منابت شعورهم. و لعلّ هذا في الإعادة نظير لفظة «كن» في الإبداء.

يَوْمَ يَسْمَعُونَ الصَّيْحَةَ بدل من «يوم يناد». و الصيحة: النفخة الثانية.

بِالْحَقِ متعلّق بالصيحة. و المراد به البعث للجزاء. ذلِكَ يَوْمُ الْخُرُوجِ من القبور إلى أرض الموقف. و هو من أسماء يوم القيامة. و قد يقال للعيد.

إِنَّا نَحْنُ نُحْيِي وَ نُمِيتُ في الدنيا وَ إِلَيْنَا الْمَصِيرُ للجزاء في الآخرة.

يَوْمَ تَشَقَّقُ تتشقّق. و قرأ الكوفيّون و أبو عمرو بالتخفيف «2».

______________________________

(1) كنز العرفان 1: 78.

(2) أي: بتخفيف الشين.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 462

الْأَرْضُ عَنْهُمْ سِراعاً حال من المجرور، أي: مسرعين إلى الداعي بلا تأخير ذلِكَ حَشْرٌ بعث و جمع بالسوق من كلّ جهة عَلَيْنا يَسِيرٌ هيّن غير متعذّر، مع تباعد ديارهم و قبورهم. و تقديم الظرف للاختصاص، فإنّ ذلك الأمر العظيم لا يتيسّر إلّا على العالم القادر لذاته، الّذي لا يشغله شأن عن شأن، كما قال تعالى: ما خَلْقُكُمْ وَ لا بَعْثُكُمْ إِلَّا كَنَفْسٍ واحِدَةٍ «1».

ثمّ سلّى نبيّه صلّى اللّه عليه و

آله و سلّم، و هدّد قومه بقوله: نَحْنُ أَعْلَمُ بِما يَقُولُونَ وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ متسلّط قادر على قلوبهم، فتقسرهم على الإيمان، أو تفعل بهم ما تريد، و إنّما أنت داع. و قيل: أريد التحلّم عنهم، و ترك الغلظة عليهم. و يجوز أن يكون من:

جبره على الأمر بمعنى: أجبره، أي: ما أنت بوال عليهم تجبرهم على الإيمان.

و «على» بمنزلة قولك: هو عليهم، إذا كان و إليهم و مالك أمرهم.

فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ فإنّه لا ينتفع به غيره. و هذا كقوله: إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها «2».

______________________________

(1) لقمان: 28.

(2) النازعات: 45.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 463

(51) سورة الذاريات

اشارة

مكّيّة. و هي ستّون آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأ سورة الذاريات أعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد كلّ ريح هبّت و جرت في الدنيا».

و

روى داود بن فرقد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة و الذاريات في يومه أو ليلته أصلح اللّه له معيشته، و أتاه برزق واسع، و نوّر له في قبره بسراج يزهر إلى يوم القيامة».

[سورة الذاريات (51): الآيات 1 الى 14]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الذَّارِياتِ ذَرْواً (1) فَالْحامِلاتِ وِقْراً (2) فَالْجارِياتِ يُسْراً (3) فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً (4)

إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ (5) وَ إِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ (6) وَ السَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ (7) إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ (8) يُؤْفَكُ عَنْهُ مَنْ أُفِكَ (9)

قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ (10) الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ ساهُونَ (11) يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ (12) يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ (13) ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ (14)

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 464

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة ق بالوعيد، افتتح هذه السورة بتحقيق الوعيد، فقال: بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَ الذَّارِياتِ ذَرْواً يعني: الرياح، لأنّها تذروا التراب و غيره. قال اللّه تعالى: تَذْرُوهُ الرِّياحُ «1». أو النساء الولود، فإنّهنّ يذرين الأولاد.

أو الأسباب الّتي تذري الخلائق، من الملائكة و غيرهم. و قرأ أبو عمرو و حمزة بإدغام التاء في الذال.

فَالْحامِلاتِ وِقْراً فالسحب الحاملة للأمطار، أو الرياح الحاملة للسحاب، أو النساء الحوامل، أو أسباب ذلك. و الوقر: ثقل الحمل على ظهر أو في بطن.

فَالْجارِياتِ يُسْراً فالسفن الجارية في البحر سهلا. أو الرياح الجارية في مهابّها. أو الكواكب السبعة الّتي تجري في منازلها. و هي: الشمس، و القمر، و زحل، و المشتري، و المرّيخ، و الزهرة، و عطارد.

و «يسرا» صفة مصدر محذوف تقديره:

جريا ذا يسر، أي: ذا سهولة.

فَالْمُقَسِّماتِ أَمْراً الملائكة الّتي تقسّم الأمور من الأمطار و الأرزاق و غيرها، أو ما يعمّهم و غيرهم من أسباب القسمة.

و عن مجاهد: تتولّى الملائكة تقسيم أمر العباد: جبريل للغلظة، و ميكائيل للرحمة، و ملك الموت لقبض الأرواح، و إسرافيل للنفخ.

و قيل: الرياح يقسّمن الأمطار بتصريف السحاب.

و

عن عليّ عليه السّلام أنّه قال و هو على المنبر: «سلوني قبل أن لا تسألوني، و لن تسألوا بعدي مثلي. فقام ابن الكوّاء فقال: ما الذاريات ذروا؟ قال: الرياح. قال:

فالحاملات و قرا؟ قال: السحاب. قال: فالجاريات يسرا؟ قال: الفلك. قال:

فالمقسّمات أمرا؟ قال: الملائكة».

و كذا عن ابن عبّاس.

و اعلم أنّ هذه الصفات إن حملت على ذوات مختلفة، فالفاء لترتيب الأقسام

______________________________

(1) الكهف: 45.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 465

بها، باعتبار ما بينها من التفاوت في الدلالة على كمال القدرة، و إلّا فالفاء لترتيب الأفعال، إذ الريح مثلا تذرو الأبخرة إلى الجوّ حتّى تنعقد سحابا، فتحمله فتجري به باسطة له إلى حيث أمرت به، فتقسّم المطر.

و

عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام أنّه «لا يجوز لأحد أن يقسم إلّا باللّه، و اللّه سبحانه يقسم بما شاء من خلقه».

ثمّ ذكر سبحانه المقسم عليه فقال: إِنَّما تُوعَدُونَ لَصادِقٌ أي: الّذي توعدون به ذو صدق، كقوله: عِيشَةٍ راضِيَةٍ «1». أو فاعل وضع موضع المصدر.

و يجوز أن يكون «ما» مصدريّة، أي: إنّ وعد اللّه لكم لذو صدق.

وَ إِنَّ الدِّينَ لَواقِعٌ و إنّ الجزاء حاصل البتّة. كأنّه استدلّ باقتداره على هذه الأشياء العجيبة المخالفة لمقتضى الطبيعة، على اقتداره على البعث للجزاء الموعود.

وَ السَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ ذات الطرائق، مثل حبك الرمل و الماء إذا ضربته الريح. و يقال:

الدرع محبوكة، لأنّها مطرقة بطرائق مدوّرة. و يقال: إنّ خلقة السماء كذلك. أو المراد الطرائق المحسوسة الّتي هي مسير الكواكب، أو المعقولة الّتي يسلكها النظّار، و يتوصّل بها إلى المعارف. أو النجوم، فإنّ لها طرائق، أو أنّها تزيّنها كما تزيّن الموشى «2» طرائق الوشي. و قيل: حبكها صفاقتها «3» و إحكامها، من قولهم: فرس محبوك المعاقم «4»، أي: محكمها. و إذا أجاد الحائك الحياكة قالوا: ما أحسن حبكه. و هو جمع حبيكة، كطريقة و طرق، أو حباك، كمثال و مثل.

و

روي عليّ بن إبراهيم، عن أبيه، عن الحسين بن خالد، عن أبي الحسن

______________________________

(1) الحاقّة: 21، القارعة: 7.

(2) وشى الثوب: حسّنه بالألوان و نمنمه و نقشه، فهو موشى. و الوشي: نقش الثوب.

(3) أي: كثافتها. من: صفق الثوب صفاقة: كثف نسجه.

(4) المعاقم: المفاصل و ملتقى أطراف العظام. و الواحد: معقم. زبدة التفاسير، ج 6، ص: 466

الرضا عليه السّلام قال: «قلت له: أخبرني عن قول اللّه عزّ و جلّ: «وَ السَّماءِ ذاتِ الْحُبُكِ».

فقال: محبوكة إلى الأرض. و شبّك بين أصابعه.

فقلت: كيف تكون محبوكة إلى الأرض و اللّه يقول: رَفَعَ السَّماواتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ «1»؟

فقال: سبحان اللّه أليس يقول: «بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَها»؟

قلت: بلى.

قال: فثمّ عمد و لكن لا ترى؟

قلت: فكيف ذلك جعلني اللّه فداك؟

قال: فبسط كفّه اليسرى، ثمّ وضع اليمنى عليها، فقال: هذه أرض الدنيا، و السماء الدنيا فوقها قبّة. و الأرض الثانية فوق السماء الدنيا، و السماء الثانية فوقها قبّة. و الأرض الثالثة فوق السماء الثانية، و السماء الثالثة فوقها قبّة. ثمّ هكذا إلى الأرض السابعة فوق السماء السادسة، و السماء السابعة فوقها قبّة. و عرش الرحمن فوق السماء السابعة. و هو قوله: خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ

يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ «2». فصاحب الأمر هو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و الوصيّ من بعده قائم على وجه الأرض، و إنّما يتنزّل الأمر إليه من فوق، من بين السماوات و الأرضين.

قلت: فما تحتنا إلّا أرض واحدة؟

قال: ما تحتنا إلّا أرض واحدة، و إنّ السّتّ لفوقنا».

إِنَّكُمْ لَفِي قَوْلٍ مُخْتَلِفٍ في الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و هو قولهم تارة إنّه شاعر، و تارة إنّه ساحر، و تارة إنّه مجنون. أو في القرآن، إنّه شعر و سحر و أساطير الأوّلين. أو في القيامة، أو أمر الديانة. و لعلّ النكتة في هذا القسم تشبيه أقوالهم في اختلافها

______________________________

(1) الرعد: 2.

(2) الطلاق: 12.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 467

و تنافي أغراضها، بطرائق السماوات في تباعدها و اختلاف غاياتها.

يُؤْفَكُ عَنْهُ يصرف عن الرسول، أو القرآن، أو الإيمان مَنْ أُفِكَ من صرف الصرف الّذي لا صرف أشدّ منه و أعظم، فكأنّه لا صرف بالنسبة إليه، كقوله:

لا يهلك على اللّه إلّا هالك.

و قيل: يصرف عنه من صرف في سابق علم اللّه، أي: علم فيما لم يزل أنّه مأفوك عن الحقّ لا يرعوي.

و يجوز أن يكون الضمير للقول، على معنى: يصدر إفك من أفك عن القول المختلف و بسببه، كقوله: ينهون عن أكل و عن شرب «1»، أي: يتناهون في السمن بسبب الأكل و الشرب. و حقيقته: يصدر تناهيهم في السمن عنهما. أو ل «ما توعدون». أو للدّين، بأن أقسم بالذاريات على أنّ وقوع أمر القيامة حقّ، ثمّ أقسم بالسماء على أنّهم في قول مختلف في وقوعه، فمنهم شاكّ و منهم جاحد، ثم قال:

يؤفك عن الإقرار بأمر القيامة من هو المأفوك.

قُتِلَ الْخَرَّاصُونَ الكذّابون المقدّرون ما لا يصحّ، من أصحاب

القول المختلف. و اللام إشارة إليهم، كأنّه قيل: قتل هؤلاء الخرّاصون. و أصله الدعاء عليهم بالقتل و الهلاك، أجري مجرى اللعن، كقوله: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ «2».

الَّذِينَ هُمْ فِي غَمْرَةٍ في جهل يغمرهم ساهُونَ غافلون عمّا أمروا به.

قيل: إنّ أوّل مراتب الجهل السهو، ثمّ الغفلة، ثمّ الغمرة. فتكون الغمرة عبارة عن

______________________________

(1) و عجزه: مثل المها يرتعن في خصب.

و المها جمع مهاة، و هي البقرة الوحشيّة. و خصب المكان خصبا: كثر فيه العشب و الخير. يصف الشاعر أضيافا بتناهي سمنهم بسبب الأكل و الشرب. و شبّههم بالمها اللّاتي يرتعن في الكلأ و المكان الخصب.

(2) عبس: 17.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 468

المبالغة في الجهل، أي: إنّهم في غاية الجهل ساهون عن الحقّ.

يَسْئَلُونَ أَيَّانَ يَوْمُ الدِّينِ أي: يقولون: متى يوم الجزاء؟ أي: وقوعه.

فوقع «أيّان» ظرفا للوقوع لا اليوم، لأنّ الأحيان ظروف للحدث.

يَوْمَ هُمْ عَلَى النَّارِ يُفْتَنُونَ يحرقون. و منه: الفتين. و هي: الحرّة «1»، لأنّ حجارتها كأنّها محرقة. و هذا جواب سؤالهم. و المعنى: يقع يوم هم على النار يفتنون. أو هو يوم هم على النار يفتنون.

ذُوقُوا فِتْنَتَكُمْ في محلّ الحال. و الفتنة العذاب الشديد، أي: مقولا لهم هذا القول هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَسْتَعْجِلُونَ أي: هذا العذاب هو الّذي كنتم به تستعجلون في الدنيا تكذيبا به. و يجوز أن يكون «هذا» بدلا من «فتنتكم» و «الّذي» صفته، أي: ذوقوا هذا العذاب.

[سورة الذاريات (51): الآيات 15 الى 23]

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ (15) آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ (16) كانُوا قَلِيلاً مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ (17) وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ (18) وَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ (19)

وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ (20) وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أَ

فَلا تُبْصِرُونَ (21) وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ وَ ما تُوعَدُونَ (22) فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌّ مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ (23)

______________________________

(1) الحرّة: أرض ذات حجارة سود، كأنّها أحرقت بالنار.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 469

ثمّ ذكر سبحانه ما أعدّه لأهل الجنّة فقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ عُيُونٍ آخِذِينَ ما آتاهُمْ رَبُّهُمْ قابلين لما أعطاهم، راضين به. يعني: أنّه ليس فيما آتاهم إلّا ما هو متلقّى بالقبول، مرضيّ غير مسخوط، لأنّ جميعه حسن طيّب. و منه قوله تعالى: وَ يَأْخُذُ الصَّدَقاتِ «1» أي: يقبلها و يرضاها.

ثمّ علّل استحقاقهم بالجملة المستأنفة، فقال: إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُحْسِنِينَ قد أحسنوا أعمالهم.

ثمّ فسّر إحسانهم بقوله: كانُوا قَلِيلًا مِنَ اللَّيْلِ ما يَهْجَعُونَ «ما» مزيدة، أي: يهجعون في طائفة من الليل هجوعا قليلا. أو مصدريّة، أي: في قليل من الليل هجوعهم. أو موصولة، أي: ما يهجعون فيه. مرفوع المحلّ بأنّه فاعل «قليلا». و لا يجوز أن تكون نافية، و المعنى: أنّهم لا يهجعون من الليل قليلا و يحيونه كلّه، لأنّ ما بعدها لا يعمل فيما قبلها. تقول: زيدا لم أضرب. و لا تقول: زيدا ما ضربت.

و المعنى: في أكثر الليل يصلّون ذاكرون.

و فيه مبالغات لتقليل نومهم و استراحتهم، من ذكر القليل، و الليل الّذي هو وقت السبات «2» و الراحة، و الهجوع الّذي هو الفرار من النوم، و زيادة «ما» المؤكّدة لذلك.

وَ بِالْأَسْحارِ هُمْ يَسْتَغْفِرُونَ أي: إنّهم مع قلّة هجوعهم و كثرة تهجّدهم إذا أسحروا أخذوا في الاستغفار، كأنّهم أسلفوا في ليلهم الجرائم. و

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «كانوا يستغفرون اللّه في الوتر سبعين مرّة في السحر».

و في بناء الفعل على الضمير إشعار بأنّهم أحقّاء بالاستغفار، لوفور علمهم باللّه،

و خشيتهم منه.

و بعد ذكر عباداتهم البدنيّة بيّن عباداتهم الماليّة بقوله: وَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌ

______________________________

(1) التوبة: 104.

(2) السبات: النوم، أو أوّله.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 470

نصيب يستوجبونه على أنفسهم، تقرّبا إلى اللّه، و إشفاقا على الناس لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ للمستجدي و المتعفّف الّذي يظنّ غنيّا، فيحرم الصدقة. و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ليس المسكين الّذي تردّه الأكلة و الأكلتان و التمرة و التمرتان. قالوا:

فما هو؟ قال: الّذي لا يجد و لا يتصدّق عليه».

و قيل: المحروم الّذي لا ينمى له مال. و قيل: المحارف الّذي لا يكاد يكسب.

ثمّ بيّن وحدانيّته و كمال علمه و قدرته، و مزيد إفضاله، و فيضان إحسانه على العباد، ترغيبا في الطاعات، و حثّا على العبادات، فقال:

وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ دلائل بيّنات و حجج نيّرات على كمال علمه و قدرته و حكمته، و بديع صنعه، و عجيب تدبيره، فإنّها مدحوّة كالبساط و المهاد لما فوقها، كما قال: الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ مَهْداً «1». و فيها مسالك فجاجا للمتقّلبين فيها، و الماشين في مناكبها. مجزّأة بالأجزاء المختلفة، من سهل و جبل و برّ و بحر. و قطع متجاورات، من صلبة و رخوة، و طيّبة و سبخة. ثابتة فيها ألوان النباتات، و أنواع الأشجار المثمرة بالثمار المختلفة الألوان و الطعوم و الروائح، مع أنّها تسقى بماء واحد. كلّها موافقة لحوائج ساكنيها و منافعهم و مصالحهم، في صحّتهم و اعتلالهم.

و ما فيها من العيون المتفجّرة، و المعادن المفتنة «2»، و الدوابّ المنبثّة في برّها و بحرها، المختلفة الصور و الأشكال و الأفعال، من الوحشيّ و الإنسيّ و الهوامّ، و غيرها من المنافع العجيبة و المصالح الغريبة.

لِلْمُوقِنِينَ الموحّدين الّذين سلكوا الطريق السويّ

البرهانيّ الموصل إلى المعرفة، نظّارين بعيون باصرة و أفهام نافذة، كلّما رأوا آية تأمّلوا فيها، فازدادوا إيمانا مع إيمانهم، و إيقانا إلى إيقانهم.

______________________________

(1) طه: 53.

(2) أي: المحرقة. يقال للحرّة: فتين، كأنّ حجارتها محرقة.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 471

وَ فِي أَنْفُسِكُمْ أي: و في أنفسكم آيات في حال ابتدائها و تنقّلها من حال إلى حال، و في بواطنها و ظواهرها، من عجائب الفطر و بدائع الخلق، ما تتحيّر فيه الأذهان. و حسبك بالقلوب و ما ركز فيها من العقول، و خصّت به من أصناف المعاني، و بالألسن و النطق و مخارج الحروف، و بالأسماع و الأبصار و الأطراف و سائر الجوارح. و ما سوّى في الأعضاء من المفاصل للانعطاف و التثنّي، فإنّه إذا جسا «1» شي ء منها جاء العجز، و إذا استرخى أناخ الذلّ. و ما في تركيبها و ترتيبها و لطائفها من الهيئات النافعة، و المناظر البهيّة، و التركيبات العجيبة، و التمكّن من الأفعال الغريبة، و استنباط الصنائع المختلفة، و استجماع الكمالات المتنوّعة. و مع ذلك ما في العالم شي ء إلّا و في الإنسان له نظير، من الآيات الساطعة، و البيّنات الجمّة القاطعة على حكمة المدبّر الحكيم، و صنعة القدير العليم، فتبارك اللّه أحسن الخالقين. أَ فَلا تُبْصِرُونَ تنظرون نظر من يعتبر.

وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ المراد بالسماء السحاب، و بالرزق المطر، فإنّه سبب الأقوات. و عن الحسن: أنّه كان إذا رأى السحاب قال لأصحابه: فيه و اللّه رزقكم، و لكنّكم تحرمونه لخطاياكم. وَ ما تُوعَدُونَ من الثواب، لأنّ الجنّة فوق السماء السابعة تحت العرش. أو أراد: أنّ ما ترزقونه في الدنيا، و ما توعدون به في العقبى، كلّه مقدّر مكتوب في أمّ الكتاب، أعني: اللوح المحفوظ،

و هو في السماء.

و قيل: إنّ قوله: «ما تُوعَدُونَ» مستأنف، خبره فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ لَحَقٌ و على هذا فالضمير ل «ما». و على الأوّل يحتمل أن يكون له، و لما ذكر من أمر الآيات و الرزق و الوعد. مِثْلَ ما أَنَّكُمْ تَنْطِقُونَ أي: مثل نطقكم. يعني: كما أنّه لا شكّ لكم في أنّكم تنطقون، ينبغي أن لا تشكّوا في تحقّق ذلك. و نصبه على الحال من المستكن في «لحقّ»، أو الوصف لمصدر محذوف، أي: إنّه لحقّ حقّا مثل

______________________________

(1) أي: صلب و يبس.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 472

نطقكم. و قيل: إنّه مبنيّ على الفتح، لإضافته إلى غير متمكّن، و هو لفظة «ما» إن كانت بمعنى: شي ء، و «أنّ» بما في حيّزها إن جعلت زائدة، كما نصّ الخليل عليه.

و هذا كقولك: إنّ هذا لحقّ كما أنّك ترى و تسمع. و محلّه الرفع على أنّه صفة «لحقّ». و يؤيّده قراءة حمزة و الكسائي و أبي بكر بالرفع.

و عن الأصمعي: أقبلت من جامع البصرة فطلع أعرابيّ على قعود «1» له، فقال:

من الرجل؟

قلت: من بني أصمع.

قال: من أين أقبلت؟

قلت: من موضع يتلى فيه كلام الرحمن.

قال: اتل عليّ.

فتلوت «و الذاريات». فلمّا بلغت قوله: «وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ» قال: حسبك.

فقام إلى ناقته فنحرها، و وزّعها على من أقبل و أدبر، و عمد الى سيفه و قوسه فكسرهما و ولّى. فلمّا حججت مع الرشيد طفقت أطوف، فإذا أنا بمن يهتف بي بصوت دقيق، فالتفتّ فإذا أنا بالأعرابيّ قد نحل و اصفرّ، فسلّم عليّ و استقرأ السورة، فلمّا بلغت الآية صاح و قال: قد وجدنا ما وعدنا ربّنا حقّا.

ثمّ قال: و هل غير هذا؟ فقرأت «فَوَ رَبِّ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ إِنَّهُ

لَحَقٌّ».

فصاح و قال: يا سبحان اللّه من ذا الّذي أغضب الجليل حتّى حلف، لم يصدّقوه بقوله حتّى ألجأوه إلى اليمين. قالها ثلاثا، و خرجت معها نفسه.

[سورة الذاريات (51): الآيات 24 الى 37]

هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ الْمُكْرَمِينَ (24) إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ فَقالُوا سَلاماً قالَ سَلامٌ قَوْمٌ مُنْكَرُونَ (25) فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ (26) فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ قالَ أَ لا تَأْكُلُونَ (27) فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً قالُوا لا تَخَفْ وَ بَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ (28)

فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ فِي صَرَّةٍ فَصَكَّتْ وَجْهَها وَ قالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ (29) قالُوا كَذلِكَ قالَ رَبُّكِ إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ (30) قالَ فَما خَطْبُكُمْ أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ (31) قالُوا إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ (32) لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ (33)

مُسَوَّمَةً عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ (34) فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها مِنَ الْمُؤْمِنِينَ (35) فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ مِنَ الْمُسْلِمِينَ (36) وَ تَرَكْنا فِيها آيَةً لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ (37)

______________________________

(1) القعود: البكر من الإبل إلى أن يثني.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 473

و لمّا قدّم الوعد و الوعيد، عقّب ذلك بذكر بشارة إبراهيم و مهلك قوم لوط، تبشيرا لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و تخويفا للكفّار أن ينزل بهم مثل ما أنزل بأولئك، فقال:

هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ ضَيْفِ إِبْراهِيمَ هذا اللفظ يستعمل إذا أخبر الإنسان بخبر ماض فيه شأن، فيقال: هل أتاك خبر كذا؟ و إن علم أنّه لم يأته. ففيه تفخيم لشأن الحديث، و تنبيه على أنّه ليس من علم رسول اللّه، و إنّما عرفه بالوحي.

و الضيف في الأصل مصدر: ضافه، و لذلك يطلق على الواحد و المتعدّد،

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 474

كالزور و الصوم «1». و كانوا اثني عشر ملكا. و قيل: تسعة، و عاشرهم جبرئيل. و قيل:

ثلاثة: جبرئيل، و

ميكائيل، و ملك آخر قيل: هو إسرافيل. و سمّاهم ضيفا، لأنّهم كانوا في صورة الضيف حيث أضافهم إبراهيم، أو لأنّهم كانوا في حسبانه كذلك.

الْمُكْرَمِينَ عند اللّه، أو عند إبراهيم، إذ خدمهم بنفسه و أخدمهم امرأته. أو لأنّهم في أنفسهم مكرمون. و نظيره قوله: بَلْ عِبادٌ مُكْرَمُونَ «2».

إِذْ دَخَلُوا عَلَيْهِ نصب بالحديث، أو بما في «ضيف» من معنى الفعل، أو بالمكرمين، أو بإضمار: اذكر فَقالُوا سَلاماً أي: نسلّم عليك سلاما قالَ سَلامٌ أي: عليكم سلام. عدل به إلى الرفع بالابتداء لقصد الثبات، حتّى تكون تحيّته أحسن من تحيّتهم. و هذا أيضا من إكرامه لهم. و قرأ حمزة و الكسائي: قال سلم.

قَوْمٌ مُنْكَرُونَ أي: أنتم قوم. و إنّما أنكرهم لأنّه ظنّ أنّهم بنو آدم و لم يعرفهم. أو لأنّ السلام لم يكن تحيّتهم، فإنّه علم الإسلام. أو لأنّه رأى لهم حالا و شكلا خلاف حال الناس و شكلهم. و هو كالتعرّف عنهم، أي: أنتم قوم منكرون، فعرّفوني من أنتم؟

فَراغَ إِلى أَهْلِهِ فذهب إليهم في خفية من ضيفه، فإنّ من أدب المضيف أن يبادر بالقرى، حذرا من أن يكفّه الضيف أو يعذره أو يصير منتظرا فَجاءَ بِعِجْلٍ سَمِينٍ لأنّه كان عامّة ماله البقر.

فَقَرَّبَهُ إِلَيْهِمْ بأن وضعه بين أيديهم قالَ أَ لا تَأْكُلُونَ أي: منه. و هو مشعر بكونه حنيذا «3». و الهمزة فيه للعرض و الحثّ على الأكل على طريقة الأدب، إن قاله المضيف أوّل ما وضعه عند الضيف، و للإنكار إن قاله حينما رأى إعراضهم.

______________________________

(1) الزور: الزائر للمفرد و المثنّى و الجمع. و الصوم: الصائم للمفرد و الجمع.

(2) الأنبياء: 26.

(3) أي: مشويّا. من: حنذ اللحم: شواه و أنضجه.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 475

فَأَوْجَسَ مِنْهُمْ خِيفَةً فأضمر منهم خوفا

لمّا رأى إعراضهم عن طعامه، و ظنّ أنّهم يريدون به سواء. و عن ابن عبّاس: وقع في نفسه أنّهم ملائكة أرسلوا للعذاب. قالُوا لا تَخَفْ إنّا رسل اللّه. قيل: مسح جبرئيل العجل بجناحه، فقام يدرج حتّى لحق بأمّه، فعرفهم و أمن منهم وَ بَشَّرُوهُ بِغُلامٍ عَلِيمٍ يكمل علمه إذا بلغ. و المبشّر به هو إسحاق. و هو أكثر الأقاويل و أصحّها، لأنّه من سارة، و الصفة صفتها في هذه القصّة، لا هاجر. و عن مجاهد: هو إسماعيل.

فَأَقْبَلَتِ امْرَأَتُهُ سارة إلى بيتها، و كانت في زاوية تنظر إليهم فِي صَرَّةٍ في صيحة. من: صرّ القلم و الباب. و منه: الصرير. و قيل: صرّتها قولها: أوّه. و عن عكرمة: رنّتها «1». و المعنى: أخذت تصيح و تولول، كما قال: قالَتْ يا وَيْلَتى «2».

و محلّه النصب على الحال، أي: فجاءت صارّة، أو المفعول إن أوّل «أقبلت» ب:

أخذت. فَصَكَّتْ وَجْهَها فلطمت بأطراف الأصابع بعد بسط يديها جبهتها، فعل المتعجّب. و أصل الصكّ ضرب الشي ء بالشي ء العريض،. و قيل: وجدت حرارة دم الطمث فلطمت وجهها من الحياء. وَ قالَتْ عَجُوزٌ عَقِيمٌ أي: أنا عجوز عاقر فكيف ألد؟

قالُوا كَذلِكَ مثل ذلك الّذي بشّرنا به قالَ رَبُّكِ أي: إنّما نخبرك به عنه، و اللّه قادر على ما تستبعدين إِنَّهُ هُوَ الْحَكِيمُ الْعَلِيمُ فيكون قوله حقّا، و فعله محكما. و

روي: أنّ جبرئيل قال لها في حال استبعادها: انظري إلى سقف بيتك.

فنظرت فإذا جذوعه مورّقة مثمرة.

و لمّا علم إبراهيم عليه السّلام أنّهم ملائكة، و أنّهم لا ينزلون مجتمعين إلّا لأمر عظيم قالَ فَما خَطْبُكُمْ فما شأنكم و ما طلبكم أَيُّهَا الْمُرْسَلُونَ

______________________________

(1) الرنّة: الصوت عموما، أو الصوت الحزين.

(2) هود: 72.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 476

قالُوا

إِنَّا أُرْسِلْنا إِلى قَوْمٍ مُجْرِمِينَ عاصين للّه، كافرين لنعمه، استحقّوا العذاب و الهلاك. و أصل الجرم القطع. فالمجرم القاطع للواجب بالباطل. فهؤلاء أجرموا، بأن قطعوا الإيمان بالكفر. يعنون قوم لوط.

لِنُرْسِلَ عَلَيْهِمْ حِجارَةً مِنْ طِينٍ يريد السجّيل، فإنّه طين طبخ كما يطبخ الآجرّ حتّى صار في صلابة الحجارة مُسَوَّمَةً مرسلة. من: اسيمت الماشية إذا أرسلت للرعي. أو معلمة، من السومة. و هي العلامة، على كلّ واحد منها اسم من يهلك به. و قيل: أعلمت بأنّها من حجارة العذاب. و قيل: بعلامة تدلّ على أنّها ليست من حجارة الدنيا. عِنْدَ رَبِّكَ لِلْمُسْرِفِينَ المجاوزين الحدّ في الفجور. قيل:

أرسلت الحجارة على الغائبين، و قلبت القرية بالحاضرين.

فَأَخْرَجْنا مَنْ كانَ فِيها في قرى قوم لوط. و إضمارها، و لم يجر ذكرها، لكونها معلومة. مِنَ الْمُؤْمِنِينَ ممّن آمن بلوط. و ذلك قوله: فَأَسْرِ بِأَهْلِكَ «1» الآية. و ذلك أنّ اللّه تعالى أمر لوطا بأن يخرج هو و من معه من المؤمنين لئلّا يصيبهم العذاب.

فَما وَجَدْنا فِيها غَيْرَ بَيْتٍ غير أهل بيت مِنَ الْمُسْلِمِينَ قيل: هم لوط و ابنتاه. و قيل: أهل بيته الّذين نجوا ثلاثة عشر. و استدلّ به على اتّحاد الإسلام و الإيمان. و هو ضعيف، لأنّ ذلك لا يقتضي إلّا صدق المؤمن و المسلم على من اتّبعه، و ذلك لا يقتضي اتّحاد مفهوميهما، لجواز صدق المفهومات المختلفة على ذات واحدة.

وَ تَرَكْنا فِيها و أبقينا في قرى قوم لوط آيَةً علامة لِلَّذِينَ يَخافُونَ الْعَذابَ الْأَلِيمَ أي: علامة تدلّ على أنّ اللّه أهلكهم، فيخافون مثل عذابهم، فإنّهم المعتبرون بها دون القاسية قلوبهم. و هي تلك الأحجار، أو صخرة منضودة فيها، أو ماء أسود منتن.

______________________________

(1) هود: 81.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 477

[سورة الذاريات (51): الآيات 38 الى 46]

وَ فِي

مُوسى إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38) فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ وَ قالَ ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (39) فَأَخَذْناهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِّ وَ هُوَ مُلِيمٌ (40) وَ فِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ (41) ما تَذَرُ مِنْ شَيْ ءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ إِلاَّ جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ (42)

وَ فِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ (43) فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ وَ هُمْ يَنْظُرُونَ (44) فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ وَ ما كانُوا مُنْتَصِرِينَ (45) وَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ (46)

ثمّ بيّن ما نزل بالأمم الاخرى، فقال مبتدأ بقصّة موسى و فرعون الّتي هي أشهر القصص و أكثرها عبرة، فقال عطفا على وَ فِي الْأَرْضِ «1»:

وَ فِي مُوسى أي: و في موسى أيضا آية. أو على «وَ تَرَكْنا فِيها» أي:

و جعلنا في موسى، كقوله: علفتها تبنا و ماء باردا إِذْ أَرْسَلْناهُ إِلى فِرْعَوْنَ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ بحجّة ظاهرة. و هي: معجزاته، كاليد و العصا.

فَتَوَلَّى بِرُكْنِهِ أي: فأعرض عن الايمان بما كان يتقوّى به من جنوده و ملكه، فإنّ الركن اسم لما يركن إليه الشي ء و يتقوّى به. أو تولّى عن الإيمان، كقوله: وَ نَأى بِجانِبِهِ «2». فالباء للتعدية. وَ قالَ ساحِرٌ أي: هو ساحر

______________________________

(1) الذاريات: 20.

(2) الإسراء: 83.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 478

أَوْ مَجْنُونٌ كأنّه جعل ما ظهر عليه من الخوارق منسوبا إلى الجنّ، و تردّد في أنّه حصل ذلك باختياره و سعيه أو بغيرهما.

فَأَخَذْناهُ وَ جُنُودَهُ فَنَبَذْناهُمْ فِي الْيَمِ فأغرقناهم في البحر وَ هُوَ مُلِيمٌ آت بما يلام عليه من الكفر و العناد. و الجملة حال من الضمير في «فأخذناه».

وَ فِي عادٍ إِذْ أَرْسَلْنا عَلَيْهِمُ الرِّيحَ الْعَقِيمَ أي: الريح الّتي لا خير فيها، و

عقمت عن أن تأتي بخير، من تنشئة سحاب، أو تلقيح شجر، أو تذرية طعام، أو نفع حيوان، فهي كالمرأة الممنوعة عن الولادة. أو هي ريح الهلاك. و سمّاها عقيما إمّا لأنّها قطعت دابرهم، أو لأنّها لم تتضمّن منفعة.

و عن ابن عبّاس: هي الدبور. و عن ابن المسيّب: هي الجنوب. و عن أمير المؤمنين عليه السّلام: هي النكباء «1».

ما تَذَرُ مِنْ شَيْ ءٍ أَتَتْ عَلَيْهِ ما تترك هذه الرّيح شيئا مرّت عليه إِلَّا جَعَلَتْهُ كَالرَّمِيمِ كالشي ء الهالك البالي. و هو نبات الأرض إذا يبس و ديس. من: رمّ إذا بلى و تفتّت.

وَ فِي ثَمُودَ إِذْ قِيلَ لَهُمْ تَمَتَّعُوا حَتَّى حِينٍ تفسيره قوله: تَمَتَّعُوا فِي دارِكُمْ ثَلاثَةَ أَيَّامٍ «2».

فَعَتَوْا عَنْ أَمْرِ رَبِّهِمْ فاستكبروا عن امتثاله فَأَخَذَتْهُمُ الصَّاعِقَةُ أي:

العذاب بعد الثلاث. و قرأ الكسائي: الصعقة. و هي المرّة، من مصدر: صعقتهم الصاعقة. و الصاعقة: النازلة نفسها. وَ هُمْ يَنْظُرُونَ إليها، فإنّها جاءتهم معاينة بالنهار. روي: أنّ العمالقة كانوا معهم في الوادي ينظرون إليهم و ما ضرّتهم.

______________________________

(1) ريح نكباء: انحرفت عن مهابّ الرياح و وقعت بين ريحين، مثلا بين الصبا و الشمال.

(2) هود: 65.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 479

فَمَا اسْتَطاعُوا مِنْ قِيامٍ كقوله: فَأَصْبَحُوا فِي دارِهِمْ جاثِمِينَ «1». و قيل:

هو من قولهم: ما يقوم به، إذا عجز عن دفعه. وَ ما كانُوا مُنْتَصِرِينَ ممتنعين من العذاب. و قيل: ما كانوا طالبين ناصرا يمنعهم من عذاب اللّه.

وَ قَوْمَ نُوحٍ أي: و أهلكنا قوم نوح، لأنّ ما قبله يدلّ عليه. أو اذكر. و قرأ أبو عمرو و حمزة و الكسائي بالجرّ، عطفا على محلّ «في عاد». و المعنى: و في قوم نوح. مِنْ قَبْلُ من قبل عاد و ثمود إِنَّهُمْ كانُوا قَوْماً فاسِقِينَ

خارجين عن الاستقامة بالكفر و العصيان، فاستحقّوا لذلك الإهلاك.

[سورة الذاريات (51): الآيات 47 الى 51]

وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ وَ إِنَّا لَمُوسِعُونَ (47) وَ الْأَرْضَ فَرَشْناها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ (48) وَ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ (49) فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (50) وَ لا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ (51)

و لمّا قال: «وَ فِي الْأَرْضِ آياتٌ لِلْمُوقِنِينَ» «وَ فِي السَّماءِ رِزْقُكُمْ»، بيّن بعد ذلك أنّ السماء و الأرض من مصنوعنا، فهما و ما وقع بينهما الدلائل الملجئة إلى الاعتراف بأنّ لهما صانعا عالما قادرا، فقال:

وَ السَّماءَ بَنَيْناها بِأَيْدٍ أي: بقوّة، فإنّ الأيد و الآد القوّة. يقال: قد آد يئيد، و هو أيّد. وَ إِنَّا لَمُوسِعُونَ لقادرون. من الوسع بمعنى الطاقة. و عن الحسن:

الموسعون الرزق بالمطر. و قيل: معناه: جعلنا بينها و بين الأرض سعة.

______________________________

(1) الأعراف: 78.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 480

وَ الْأَرْضَ فَرَشْناها مهّدناها لتستقرّوا عليها فَنِعْمَ الْماهِدُونَ أي: نحن.

وَ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ من الحيوان خَلَقْنا زَوْجَيْنِ ذكرا و أنثى. أو و من كلّ شي ء من الأجناس خلقنا نوعين. و يؤيّده ما روي عن الحسن: السماء و الأرض، و الليل و النهار، و الشمس و القمر، و البرّ و البحر، و الموت و الحياة. فعدّد أشياء أخر و قال: كلّ اثنين منها زوج، و اللّه تعالى فرد لا مثل له. لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ أي: فعلنا ذلك كلّه، من بناء السماء و فرش الأرض و خلق الأزواج، إرادة أن تتذكّروا فتعرفوا الخالق و تعبدوه، و تعلموا أنّ التعدّد من خواصّ الممكنات، و أنّ الواجب بالذات لا يقبل التعدّد و الانقسام.

فَفِرُّوا إِلَى اللَّهِ أي: قل يا محمد: ففرّوا من معصيته و عقابه إلى رحمته و

ثوابه، بوسيلة الإيمان و التوحيد و إخلاص الطاعة و ملازمة العبادة. و قيل: ففرّوا إلى اللّه بترك جميع ما يشغلكم عن طاعته، و يقطعكم عمّا أمركم به. و عن الصادق عليه السّلام معناه: حجّوا. إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ من عذابه المعدّ لمن أشرك أو عصى نَذِيرٌ مُبِينٌ بيّن كونه منذرا من اللّه بالمعجزات. أو مبين ما يجب أن يحذر عنه.

وَ لا تَجْعَلُوا مَعَ اللَّهِ إِلهاً آخَرَ إفراد لأعظم ما يجب أن يفرّ به إِنِّي لَكُمْ مِنْهُ نَذِيرٌ مُبِينٌ تكرير للتأكيد. أو الأوّل مرتّب على ترك الإيمان و الطاعة، و الثاني على الإشراك.

[سورة الذاريات (51): الآيات 52 الى 60]

كَذلِكَ ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلاَّ قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ (52) أَ تَواصَوْا بِهِ بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (53) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ (54) وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ (55) وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلاَّ لِيَعْبُدُونِ (56)

ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَ ما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ (57) إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ (58) فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ فَلا يَسْتَعْجِلُونِ (59) فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (60)

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 481

كَذلِكَ أي: الأمر مثل ذلك. و الإشارة إلى تكذيبهم الرسول، و تسميتهم إيّاه ساحرا أو مجنونا. ثمّ فسّر ما أجمل بقوله: ما أَتَى الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا قالُوا ساحِرٌ أَوْ مَجْنُونٌ و لا يصحّ أن تكون الكاف منصوبة ب «أتى» لأنّ «ما» النافية لا يعمل ما بعدها فيما قبلها. و لو عملت لكان المعنى: مثل ذلك الإتيان لم يأت من قبلهم رسول إلّا قالوا ساحر أو مجنون.

أَ تَواصَوْا بِهِ أي: كأنّ الأوّلين و الآخرين منهم أوصى بعضهم بعضا بهذا

القول، حتّى قالوه جميعا متّفقين عليه. و الهمزة للتوبيخ. بَلْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ إضراب عن أنّ التواصي جامعهم- لأنّهم لم يتلاقوا في زمان واحد، لتباعد أيّامهم- إلى أنّ الجامع لهم على هذا القول مشاركتهم في الطغيان الحامل عليه. و المعنى:

أنّهم لم يتواصوا به، بل جمعتهم العلّة الواحدة، و هي الطغيان.

فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فأعرض عن مجادلتهم بعد ما كرّرت عليهم الدعوة فلم يجيبوا، و عرفت منهم العناد و اللجاج فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ على الإعراض بعد ما بذلت جهدك في البلاغ، بل اللائمة و الذمّ عليهم من حيث لا يقبلون ما تدعوهم إليه.

روي: أنّه لمّا نزلت «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ» حزن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و اشتدّ ذلك على أصحابه، و رأوا أنّ الوحي قد انقطع، و أنّ العذاب قد حضر، فأنزل اللّه تعالى:

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 482

وَ ذَكِّرْ

و لا تدع التذكير و الموعظة فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ أي:

تؤثّر في الّذين عرف اللّه منهم أنّهم يدخلون في الإيمان. أو يزيد الداخلين فيه إيمانا.

و

عن مجاهد قال: خرج عليّ بن أبي طالب عليه السّلام مغتمّا مشتملا في قميصه، فقال: لمّا نزلت «فَتَوَلَّ عَنْهُمْ فَما أَنْتَ بِمَلُومٍ» لم يبق أحد منّا إلّا أيقن بالهلكة، حين قيل للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «فتولّ عنهم». فلمّا نزل «وَ ذَكِّرْ فَإِنَّ الذِّكْرى تَنْفَعُ الْمُؤْمِنِينَ» طابت نفوسنا.

وَ ما خَلَقْتُ الْجِنَّ وَ الْإِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ إلّا لأجل العبادة، أي: لم أرد من جميعهم إلّا إيّاها، مختارين لها لا مضطرّين إليها، لأنّه خلقهم ممكّنين، فاختار بعضهم ترك العبادة مع كونه مريدا لها، و لو أرادها على القسر و الإلجاء لوجدت من جميعهم.

و خلاصة المعنى: أنّ الغرض في خلقهم تعريضهم للثواب، و

ذلك لا يحصل إلّا بأداء العبادات، فصاروا كأنّهم خلقهم اللّه للعبادة. فإن لم يعبده قوم لم يبطل الغرض، و يكون كمن هيّأ طعاما لقوم و دعاهم ليأكلوه، فحضروا و لم يأكله بعضهم، فإنّه لا ينسب إلى السفه، و يصحّ غرضه، فإنّ الأكل موقوف على اختيار الغير.

فكذلك ها هنا، فإنّ اللّه إذا أزاح علل المكلّفين، من القدرة و الآلة و إعطاء الألطاف، و أمرهم بالعبادة، فمن خالف فقد أتى من قبل نفسه لا من قبله سبحانه.

و شأن اللّه تعالى مع عباده ليس كشأن السادة مع عبيدهم، فإنّ ملّاك العبيد إنّما يملكونهم ليستعينوا بهم في تحصيل معايشهم و أرزاقهم، فإنّ العبد إمّا مجهّز في تجارة ليفي ربحا، أو مرتّب في فلاحة ليغتلّ «1» أرضا، أو مسلّم في حرفة لينتفع

______________________________

(1) اغتلّ الأرض: أخذ غلّتها.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 483

بالأجرة، أو محتطب، أو محتشّ «1»، أو مستق، أو طابخ، أو خابز، و ما أشبه ذلك من الأعمال و المهن الّتي هي تصرّف في أسباب المعيشة و أبواب الرزق. فأمّا مالك ملك العبيد و قال لهم: اشتغلوا بما يسعدكم في أنفسكم، و لا أريد أن أصرفكم في تحصيل رزقي و لا رزقكم، و أنا غنيّ عنكم و عن مرافقكم، و متفضّل عليكم برزقكم و بما يصلحكم و يعيشكم من عندي، فما هو إلّا أنا وحدي، حيث قال عزّ اسمه:

ما أُرِيدُ مِنْهُمْ مِنْ رِزْقٍ وَ ما أُرِيدُ أَنْ يُطْعِمُونِ إِنَّ اللَّهَ هُوَ الرَّزَّاقُ الّذي يرزق كلّ ما يفتقر إلى الرزق. و فيه إيماء باستغنائه عنه. ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ شديد القوّة، أي:

البليغ الاقتدار على كلّ شي ء.

فَإِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا ذَنُوباً أي: للّذين ظلموا رسول اللّه بالتكذيب نصيبا من العذاب مِثْلَ ذَنُوبِ أَصْحابِهِمْ مثل

نصيب نظرائهم من الأمم السّالفة الّذين أهلكوا، مثل قوم نوح و عاد و ثمود. و هو مأخوذ من مقاسمة السقّاء الماء بالدلاء، فإنّ الذنوب هو الدلو العظيم المملوء. فَلا يَسْتَعْجِلُونِ جواب لقولهم: مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ «2».

فَوَيْلٌ لِلَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ يَوْمِهِمُ الَّذِي يُوعَدُونَ من يوم القيامة، أو يوم بدر.

و الويل كلمة يقولها العرب لكلّ من وقع في الهلكة.

______________________________

(1) احتشّ الحشيش: سعى في طلبه و جمعه.

(2) يس: 48.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 485

(52) سورة الطور

اشارة

مكّيّة. و هي تسع و أربعون آية.

أبيّ بن كعب، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «و من قرأ سورة الطور كان حقّا على اللّه أن يؤمنه من عذابه، و أن ينعّمه في جنّته».

و

عن جبير بن مطعم قال: «سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقرأ سورة الطور في المغرب». و روى محمد بن هشام، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من قرأ سورة الطور جمع اللّه له خير الدنيا و الآخرة».

[سورة الطور (52): الآيات 1 الى 16]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الطُّورِ (1) وَ كِتابٍ مَسْطُورٍ (2) فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ (3) وَ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ (4)

وَ السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ (5) وَ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ (6) إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ (7) ما لَهُ مِنْ دافِعٍ (8) يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً (9)

وَ تَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً (10) فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (11) الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ يَلْعَبُونَ (12) يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا (13) هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ (14)

أَ فَسِحْرٌ هذا أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ (15) اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا سَواءٌ عَلَيْكُمْ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (16)

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 486

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة الذاريات بالوعيد، افتتح هذه السورة بوقوع الوعيد، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَ الطُّورِ يريد طور سينين. و هو جبل بمدين، سمع فيه موسى عليه السّلام كلام اللّه تعالى. أو مطلق الجبل، أقسم به لما أودع اللّه فيه من أنواع نعمه. و هو لغة سريانيّة. أو مأخوذ من: طار من أوج الإيجاد إلى حضيض الموادّ، أو من عالم الغيب إلى عالم الشهادة.

وَ كِتابٍ مَسْطُورٍ مكتوب. و السطر ترتيب الحروف المكتوبة. و المراد به القرآن. أو ما كتبه اللّه في

اللوح المحفوظ، أو في ألواح موسى عليه السّلام، أو في قلوب أوليائه من المعارف و الحكم. أو ما تكتبه الحفظة.

فِي رَقٍّ مَنْشُورٍ الرقّ: الجلد الّذي يكتب فيه حقيقة، أو مستعار لما كتب فيه الكتاب. و المنشور: المبسوط. و المعنى: مكتوب في ورق نشر لقراءة ما فيه.

و تنكيرهما للتعظيم، و الإشعار بأنّهما ليسا من المتعارف فيما بين الناس.

وَ الْبَيْتِ الْمَعْمُورِ الضراح «1». و هو في السماء الرابعة بحيال الكعبة، لو سقط لسقط عليها. و عمرانه كثرة غاشيته من الملائكة.

و

روي عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «و يدخله كلّ يوم سبعون ألف ملك، ثمّ لا يعودون إليه أبدا».

و

عن الزهري، عن سعيد بن المسيّب، عن أبي هريرة، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال:

______________________________

(1) الضراح: بيت في السماء، و هو البيت المعمور. زبدة التفاسير، ج 6، ص: 487

«البيت المعمور في السماء الدنيا، و في السماء الرابعة نهر يقال له الحيوان، يدخله جبرئيل كلّ يوم طلعت فيه الشمس، و إذا خرج انتفض انتفاضة جرت عنه سبعون ألف قطرة، يخلق اللّه من كلّ قطرة ملكا، يؤمرون أن يأتوا البيت المعمور فيصلّون فيه، فيفعلون ثمّ لا يعودون إليه أبدا».

أو المراد الكعبة، و عمارتها بالعمّار و الحجّاج و المجاورين. أو قلب المؤمن، و عمارته بالمعرفة و الإخلاص.

وَ السَّقْفِ الْمَرْفُوعِ يعني: السماء، فإنّها كالسقف للأرض رفعها اللّه وَ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ أي: المملوء. و هو المحيط. أو الموقد، من قوله: وَ إِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ «1».

قيل: إنّه تحمى البحار يوم القيامة فتجعل نيرانا، ثمّ تفجّر بعضها في بعض، ثمّ تفجّر إلى النار. و برواية اخرى: أنّ اللّه يجعل يوم القيامة البحار نارا يسجّر بها نار جهنّم. أو المختلط، من السجير، و هو

الخليط.

و

روي عن عليّ عليه السّلام أنّه سأل يهوديّا: أين موضع النار في كتابكم؟ قال: في البحر. فقال عليّ عليه السّلام: ما أراه إلّا صادقا، لقوله تعالى: «وَ الْبَحْرِ الْمَسْجُورِ».

و جواب القسم إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ لنازل على المشركين لا محالة ما لَهُ مِنْ دافِعٍ يدفعه.

قال جبير بن مطعم: أتيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اكلّمه في الأسارى، فألفيته في صلاة الفجر يقرأ سورة الطور، فلمّا بلغ «إِنَّ عَذابَ رَبِّكَ لَواقِعٌ ما لَهُ مِنْ دافِعٍ» أسلمت خوفا من أن ينزل العذاب.

و وجه دلالة هذه الأمور المقسم بها على ذلك أنّها أمور تدلّ على كمال قدرة اللّه و حكمته، و صدق أخباره، و ضبطه أعمال العباد للمجازاة.

______________________________

(1) التكوير: 6.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 488

ثمّ بيّن سبحانه أنّه متى يقع، فقال: يَوْمَ تَمُورُ السَّماءُ مَوْراً تضطرب. من المور بمعنى التردّد في المجي ء و الذهاب. و قيل: هو تحرّك في تموّج. و المائر:

الشي ء الّذي يتردّد في العرض، كالداغصة. و هي لحمة تكون فوق ركبة البعير.

و قيل: العظم المدوّر يتحرّك على رأس الركبة. و المعنى: يتموّج بالدوران. و «يوم» ظرف ل «واقع». وَ تَسِيرُ الْجِبالُ سَيْراً أي: تسير عن وجه الأرض، فتصير هباء حتّى تستوي الأرض.

فَوَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ ذكر الفاء لأنّ في الكلام معنى المجازاة، و التقدير:

إذا وقع ذلك فويل لهم الَّذِينَ هُمْ فِي خَوْضٍ أي: الخوض في الباطل، فإنّه غلب استعماله في الاندفاع في الباطل و الكذب. و منه قوله: وَ كُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ «1» يَلْعَبُونَ يلهون بذكره. و هو إنكار البعث و تكذيب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

يَوْمَ يُدَعُّونَ إِلى نارِ جَهَنَّمَ دَعًّا يدفعون إليها بعنف. و ذلك أنّ الخزنة يغلّون

أيديهم إلى أعناقهم، و يجمعون نواصيهم إلى أقدامهم، فيدفعونهم إلى النار دفعا على وجوههم، و زخّا «2» في أقفيتهم.

و «يوم» بدل من «يوم تمور»، أو ظرف لقول مقدّر مقوله: هذِهِ النَّارُ الَّتِي كُنْتُمْ بِها تُكَذِّبُونَ أي: حين يدفعون إلى النار قال لهم خزنتها هذا القول. و في حديث أبي موسى: من يتّبع القرآن يهبط به على رياض الجنّة، و من يتّبعه القرآن يزخّ في قفاه حتّى يقذف به في نار جهنّم.

ثمّ وبّخوهم لمّا عاينوا العذاب فقالوا لهم: أَ فَسِحْرٌ هذا أي: كنتم تقولون للوحي: هذا سحر، أ فهذا المصداق أيضا سحر؟ و دخول الفاء لإفادة هذا المعنى.

و تقديم الخبر لأنّه المقصود بالإنكار و التوبيخ. أَمْ أَنْتُمْ لا تُبْصِرُونَ هذا أيضا،

______________________________

(1) المدّثر: 45.

(2) زخّة: دفعه.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 489

كما كنتم لا تبصرون في الدنيا ما يدلّ عليه؟ أم سدّت أبصاركم، كما سدّت في الدنيا على زعمكم حين قلتم: إنّما سكّرت أبصارنا؟

اصْلَوْها فَاصْبِرُوا أَوْ لا تَصْبِرُوا أي: ادخلوها على أيّ وجه شئتم من الصبر و عدمه، فإنّه لا محيص لكم عنها سَواءٌ عَلَيْكُمْ مبتدأ محذوف خبره، أي: سواء عليكم الأمران الصبر و عدمه.

ثمّ علّل استواء الأمرين بقوله: إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي: لمّا كان الجزاء واجب الوقوع كان الصبر و عدمه سيّين في عدم النفع. و تحقيق المعنى: أنّ الصبر إنّما يكون له مزيّة على الجزع لنفعه في العاقبة، بأن يجازى عليه الصابر جزاء الخير، فأمّا الصبر على العذاب الّذي هو الجزاء- و لا عاقبة له و لا منفعة- فلا مزيّة له على الجزع.

[سورة الطور (52): الآيات 17 الى 28]

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَعِيمٍ (17) فاكِهِينَ بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ وَ وَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ (18) كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما

كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (19) مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ وَ زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ (20) وَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ وَ ما أَلَتْناهُمْ مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ (21)

وَ أَمْدَدْناهُمْ بِفاكِهَةٍ وَ لَحْمٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (22) يَتَنازَعُونَ فِيها كَأْساً لا لَغْوٌ فِيها وَ لا تَأْثِيمٌ (23) وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ غِلْمانٌ لَهُمْ كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ (24) وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ (25) قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ (26)

فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا وَ وَقانا عَذابَ السَّمُومِ (27) إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ نَدْعُوهُ إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ الرَّحِيمُ (28)

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 490

و لمّا أوعد سبحانه الكافرين وعد المؤمنين عقيبه، فقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَعِيمٍ في أيّة جنّات و أيّ نعيم، بمعنى الكمال في الصفة. أو في جنّات و نعيم مخصوصة.

فاكِهِينَ ناعمين متلذّذين بِما آتاهُمْ رَبُّهُمْ بما أعطاهم من أنواع النعيم وَ وَقاهُمْ رَبُّهُمْ عَذابَ الْجَحِيمِ عطف على «في جنّات» أو «آتاهم» إن جعل «ما» مصدريّة. و المعنى: فاكهين بإيتائهم ربّهم و وقايتهم عذاب الجحيم. أو حال بإضمار «قد» من المستكن في الظرف أو الحال، أو من فاعل «آتى» أو مفعوله أو منهما.

كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً أي: يقال لهم: كلوا و اشربوا أكلا و شربا هنيئا، أو طعاما و شرابا هنيئا، و هو الّذي لا تنغيص فيه بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بسببه أو بدله.

و قيل: الباء زائدة، كما في كَفى بِاللَّهِ «1»، و «ما» فاعل «هنيئا». و المعنى: هنيئا لكم ما كنتم تعملون، أي: جزاؤه.

مُتَّكِئِينَ عَلى سُرُرٍ مَصْفُوفَةٍ مصطفّة، أي: موصول بعضها ببعض وَ زَوَّجْناهُمْ بِحُورٍ عِينٍ بنساء بيض نقيّات في حسن و كمال، واسعات الأعين في صفاء و بهاء.

و الباء للسببيّة، إذ المعنى: صيّرناهم أزواجا بسببهنّ. أو لما في التزويج من معنى الوصلة و الإلصاق و القرن. و لذلك عطف قوله: وَ الَّذِينَ آمَنُوا على «حور» أي: قرنّاهم بأزواج حور و بالرفقاء و الجلساء من المؤمنين، كقوله:

______________________________

(1) النساء: 6، و غيرها.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 491

إِخْواناً عَلى سُرُرٍ مُتَقابِلِينَ «1». فيتمتّعون تارة بملاعبة الحور، و تارة بمؤانسة الإخوان من المؤمنين.

و

عن زيد بن أرقم: جاء رجل من أهل الكتاب إلى رسول اللّه فقال: يا أبا القاسم إنّ أهل الجنّة يأكلون و يشربون؟ فقال: و الّذي نفسي بيده إنّ الرجل منهم ليؤتى قوّة مائة رجل في الأكل و الشرب و الجماع. قال: فإنّ الّذي يأكل و يشرب يكون له الحاجة. فقال: عرق يفيض مثل ريح المسك، فإذا كان ذلك ضمر بطنه.

و قيل: الموصول مبتدأ خبره: «ألحقنا بهم».

و قوله: وَ اتَّبَعَتْهُمْ ذُرِّيَّتُهُمْ بِإِيمانٍ اعتراض للتعليل. و قرأ ابن عامر و يعقوب: ذرّيّاتهم بالجمع و ضمّ التاء، للمبالغة في كثرتهم و التصريح، فإنّ الذريّة تقع على الواحد و الكثير. و قرأ أبو عمرو: و أتبعناهم ذرّيّاتهم، أي: جعلناهم تابعين لهم في الايمان. و قيل: «بإيمان» حال من الضمير، أو من الذرّيّة، أو منهما. و تنكيره للتعظيم، أي: بسبب إيمان عظيم رفيع الشأن، و هو إيمان الآباء. و يجوز أن يراد إيمان الذرّيّة الداني المحلّ. كأنّه قال: بشي ء من الإيمان لا يؤهّلهم لدرجة الآباء ألحقناهم. أو الاشعار بأنّه يكفي للإلحاق المتابعة في أصل الإيمان.

أَلْحَقْنا بِهِمْ ذُرِّيَّتَهُمْ الصغار و الكبار في دخول الجنّة أو الدرجة. أمّا الكبار فيتّبعون الآباء بإيمان منهم. و أمّا الصغار فيتّبعونهم بإيمان من الآباء، فإنّ الولد يحكم له بالإسلام تبعا لوالده، لما

روي مرفوعا أنّه صلّى اللّه

عليه و آله و سلّم قال: «إنّ اللّه يرفع ذرّيّة المؤمن في درجته و إن كانوا دونه، لتقرّبهم عينه، ثمّ تلا هذه الآية».

و

عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «أطفال المؤمنين يهدون إلى آبائهم يوم القيامة».

و

روى زادان عن عليّ عليه السّلام قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ المؤمنين و أولادهم في الجنّة، ثمّ قرأ هذه الآية».

______________________________

(1) الحجر: 47.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 492

فيجمع اللّه لهم أنواع السرور بسعاداتهم في أنفسهم، و بمزاوجة الحور العين، و بمؤانسة الإخوان المؤمنين، و باجتماع أولادهم و نسلهم بهم، و إن كانوا لا يستأهلونها، تفضّلا عليهم و على آبائهم، ليتمّ سرورهم و يكمل نعيمهم.

و قرأ نافع و ابن عامر و البصريّان: ذرّيّاتهم.

وَ ما أَلَتْناهُمْ و ما نقصناهم مِنْ عَمَلِهِمْ مِنْ شَيْ ءٍ بهذا الإلحاق، أي: ما نقصنا من ثواب عملهم شيئا نعطيه الأبناء حتّى يلحقوا بهم، بل إنّما ألحقناهم بهم على سبيل التفضّل. و قرأ ابن كثير بكسر اللام، من: ألت يألت. و المعنى واحد.

كُلُّ امْرِئٍ بِما كَسَبَ رَهِينٌ بعمله، مرهون عند اللّه. كأنّ نفس العبد رهن عند اللّه بالعمل الّذي هو مطالب به، كما يرهن الرجل عبده بدين عليه، فإن عمل صالحا فكّها و خلّصها، و إلّا أوبقها.

وَ أَمْدَدْناهُمْ و زدناهم بِفاكِهَةٍ بجنس الفاكهة، فإنّ الإمداد الإتيان بالشي ء بعد الشي ء وَ لَحْمٍ و جنس اللحوم مِمَّا يَشْتَهُونَ من أنواع النعم الشهيّة اللذيذة.

يَتَنازَعُونَ فِيها يتعاطون هم و جلساؤهم- من ذرّيّاتهم و إخوانهم- بتجاذب كَأْساً خمرا. سمّاها باسم محلّها. لا لَغْوٌ فِيها لا يتكلّمون بلغو الحديث و ما لا طائل تحته في أثناء شربها وَ لا تَأْثِيمٌ و لا يفعلون ما يؤثّم به فاعله، أي: ينسب إلى الإثم،

كما هو عادة الشاربين في الدنيا ذلك، من الكذب و الشتم و الفواحش، مثل قوله تعالى: لا فِيها غَوْلٌ «1». و إنّما يتكلّمون بالحكم و الكلام الحسن متلذّذين بذلك، لأنّ عقولهم ثابتة غير زائلة، و هم حكماء علماء.

و قرأ ابن كثير و البصريّان بالفتح.

وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ أي: بالكأس غِلْمانٌ لَهُمْ مماليك مخصوصون بهم.

______________________________

(1) الصافّات: 47.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 493

و قيل: هم أولادهم الّذين سبقوهم. كَأَنَّهُمْ لُؤْلُؤٌ مَكْنُونٌ مصون في الصدف، من بياضهم و صفائهم، لأنّه رطبا أحسن و أصفى و أصبح. أو مخزون، لأنّه لا يخزن إلّا الثمين الغالي القيمة. و

عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «و الّذي نفسي بيده إنّ فضل المخدوم على الخادم كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب».

و

عنه عليه السّلام: «إنّ أدنى أهل الجنّة منزلة من ينادي الخادم من خدّامه، فيجيبه ألف ببابه: لبّيك لبّيك».

و قيل: إنّه ليس على الغلمان مشقّة في خدمة أهل الجنّة، بل لهم في ذلك اللذّة و السرور، إذ ليس تلك الدار دار محنة.

وَ أَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَساءَلُونَ يتحادثون، و يسأل بعضهم بعضا عن أحواله و أعماله و ما استوجب به نيل ما عند اللّه.

قالُوا إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ أرقّاء القلوب من خشية اللّه، خائفين من عصيان اللّه، معتنين بطاعته. أو وجلين من العاقبة.

فَمَنَّ اللَّهُ عَلَيْنا بالرحمة و التوفيق وَ وَقانا عَذابَ السَّمُومِ عذاب النار النافذة في المسامّ نفوذ السموم. و هو الريح الحارّة الّتي تدخل المسامّ. فسمّيت بها نار جهنّم، لأنّها بهذه الصفة.

إِنَّا كُنَّا مِنْ قَبْلُ من قبل ذلك في الدنيا نَدْعُوهُ نعبده، أو نسأله الوقاية إِنَّهُ هُوَ الْبَرُّ المحسن. و قرأ نافع و الكسائي: أنّه بالفتح. الرَّحِيمُ الكثير الرحمة، الّذي

إذا عبد أثاب، و إذا سئل أجاب.

[سورة الطور (52): الآيات 29 الى 43]

فَذَكِّرْ فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِكاهِنٍ وَ لا مَجْنُونٍ (29) أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ (30) قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ (31) أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ بِهذا أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ (32) أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ بَلْ لا يُؤْمِنُونَ (33)

فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (34) أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ ءٍ أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ (35) أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بَلْ لا يُوقِنُونَ (36) أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ (37) أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ يَسْتَمِعُونَ فِيهِ فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ (38)

أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَ لَكُمُ الْبَنُونَ (39) أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (40) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (41) أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً فَالَّذِينَ كَفَرُوا هُمُ الْمَكِيدُونَ (42) أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (43)

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 494

فَذَكِّرْ فاثبت على تذكير الناس و موعظتهم، و لا تكترث بقولهم فَما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بحمد اللّه و إنعامه بِكاهِنٍ وَ لا مَجْنُونٍ كما يقولون: و لا تبال به، فإنّه قول باطل متناقض، لأنّ الكاهن يحتاج في كهانته إلى فطنة و دقّة نظر، و المجنون مغطّى على عقله. و ما أنت بحمد اللّه و إنعامه عليك بصدق النبوّة و رجاحة العقل أحد هذين.

أَمْ يَقُولُونَ شاعِرٌ نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ ما يقلق النفوس من حوادث الدهر. و قيل: المنون الموت. فعول من: منّه إذا قطعه. يعني: فيهلك كما هلك من قبله من الشعراء، كزهير و النابغة و غيرهما.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 495

قُلْ تَرَبَّصُوا فَإِنِّي مَعَكُمْ مِنَ الْمُتَرَبِّصِينَ أتربّص هلاككم كما تتربّصون هلاكي. و المراد بالأمر التهديد، نحو: اعْمَلُوا ما شِئْتُمْ «1».

أَمْ تَأْمُرُهُمْ أَحْلامُهُمْ عقولهم بِهذا

التناقض في القول، فإنّ الكاهن يكون ذا فطنة و دقّة نظر، و المجنون مغطّى عقله، و الشاعر يكون ذا كلام موزون متّسق مخيّل، و لا يتأتّى ذلك من المجنون. و أمر الأحلام به مجاز عن أدائها إليه، كقوله تعالى: أَ صَلاتُكَ تَأْمُرُكَ أَنْ نَتْرُكَ ما يَعْبُدُ آباؤُنا «2». و في ذكرها إزراء بعقولهم، حيث لم تثمر لهم معرفة الحقّ من الباطل، مع أنّهم معروفون بأهل الأحلام و النهى. أَمْ هُمْ قَوْمٌ طاغُونَ مجاوزون الحدّ في العناد مع ظهور الحقّ لهم.

أَمْ يَقُولُونَ تَقَوَّلَهُ اختلقه من تلقاء نفسه بَلْ لا يُؤْمِنُونَ فيرمونه بهذه المطاعن لكفرهم و عنادهم، مع علمهم ببطلان قولهم و أنّه ليس بمتقوّل، لعجز العرب عنه.

فَلْيَأْتُوا بِحَدِيثٍ مِثْلِهِ مثل القرآن و ما يقاربه في نظمه و فصاحته، و حسن بيانه و براعته إِنْ كانُوا صادِقِينَ في زعمهم أنّ محمّدا تقوّله، إذ فيهم كثير ممّن عدّوا فصحاء. فهذا ردّ للأقوال المذكورة بالتحدّي.

أَمْ خُلِقُوا مِنْ غَيْرِ شَيْ ءٍ أم أحدثوا و قدّروا من غير محدث و مقدّر، فلذلك لا يعبدونه. أو من أجل لا شي ء، من عبادة و مجازاة. و قوله: أَمْ هُمُ الْخالِقُونَ يؤيّد الأوّل، فإنّ معناه: أم خلقوا أنفسهم. و لذلك عقّبه بقوله: أَمْ خَلَقُوا السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ و «أم» في هذه الآيات منقطعة. و معنى الهمزة فيها الإنكار. بَلْ لا يُوقِنُونَ إذا سئلوا من خلقكم؟ و من خلق السماوات و الأرض؟ قالوا: اللّه، إذ لو أيقنوا ذلك لما أعرضوا عن عبادته.

______________________________

(1) فصّلت: 40.

(2) هود: 87.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 496

أَمْ عِنْدَهُمْ خَزائِنُ رَبِّكَ خزائن رزقه حتّى يرزقوا النبوّة من شاؤا. أو خزائن علمه حتّى يختاروا للنبوّة من اختارته حكمته. أَمْ هُمُ الْمُصَيْطِرُونَ أي:

الأرباب المسلّطون الغالبون على

الأشياء حتّى يدبّروا أمر الربوبيّة، و يبثّوا الأمور على إرادتهم كيف شاؤا. و قرأ قنبل و حفص بخلاف عنه و هشام بالسين. و حمزة بخلاف عن خلّاد بين الصاد و الزاء. و الباقون بالصاد الخالصة.

أَمْ لَهُمْ سُلَّمٌ مرقى و مصعد إلى السماء يَسْتَمِعُونَ فِيهِ صاعدين فيه إلى كلام الملائكة و ما يوحى إليهم من علم الغيب، حتّى يعلموا ما هو كائن، من تقدّم هلاكه على هلاكهم، و ظفرهم في العاقبة دونه، كما يزعمون فَلْيَأْتِ مُسْتَمِعُهُمْ بِسُلْطانٍ مُبِينٍ بحجّة واضحة تصدّق استماعه.

أَمْ لَهُ الْبَناتُ وَ لَكُمُ الْبَنُونَ فيه تسفيه لأحلامهم، إذ أضافوا إلى اللّه سبحانه ما أنفوا منه. و هذا غاية في جهلهم، إذ جوّزوا عليه سبحانه الولد، ثمّ ادّعوا أنّه اختار الأدون على الأعلى. و إشعار بأنّ من هذا رأيه لا يعدّ من العقلاء، فضلا أن بترقّى بروحه إلى عالم الملكوت فيتطلّع على الغيوب.

أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً على تبليغ الرسالة فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ من التزام غرم مُثْقَلُونَ محمّلون الثقل، فزهّدهم ذلك في اتّباعك.

أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ اللوح المحفوظ المثبتة فيه المغيّبات فَهُمْ يَكْتُبُونَ حتّى يقولوا لا نبعث، و إن بعثنا لا نعذّب.

أَمْ يُرِيدُونَ كَيْداً مكرا بك، و تدبير سوء في بابك سرّا، كما دبّروه في دار الندوة برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بالمؤمنين فَالَّذِينَ كَفَرُوا يحتمل العموم و الخصوص.

فيكون وضعه موضع الضمير للتسجيل على كفرهم، و الدلالة على أنّه الموجب للحكم المذكور هُمُ الْمَكِيدُونَ المجزيّون بكيدهم، فإنّ ضرر ذلك يحيق بهم و يعود عليهم. و هو قتلهم يوم بدر. أو المغلوبون في الكيد، من: كايدته فكدته.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 497

أَمْ لَهُمْ إِلهٌ غَيْرُ اللَّهِ يعينهم و يحرسهم من عذابه سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا

يُشْرِكُونَ عن إشراكهم، أو شركة ما يشركون به.

[سورة الطور (52): الآيات 44 الى 49]

وَ إِنْ يَرَوْا كِسْفاً مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا سَحابٌ مَرْكُومٌ (44) فَذَرْهُمْ حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ (45) يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ شَيْئاً وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ (46) وَ إِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا عَذاباً دُونَ ذلِكَ وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ (47) وَ اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ (48)

وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ وَ إِدْبارَ النُّجُومِ (49)

ثمّ ذكر سبحانه عنادهم و قسوة قلوبهم، فقال: وَ إِنْ يَرَوْا كِسْفاً قطعة مِنَ السَّماءِ ساقِطاً يَقُولُوا من فرط طغيانهم و عنادهم سَحابٌ مَرْكُومٌ هذا سحاب تراكم بعضه على بعض يمطرنا، و لم يصدّقوا أنّه كسف ساقط للعذاب. و هو جواب قولهم: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ «1».

فَذَرْهُمْ اتركهم يا محمّد حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي فِيهِ يُصْعَقُونَ يهلكون بوقوع الصاعقة عليهم. و هذا عند النفخة الأولى الّتي تسمّى نفخة الصعق، يهلك جميع الناس عندها. و قرأ ابن عامر و عاصم: يصعقون على المبنيّ للمفعول، من:

صعقه أو أصعقه.

يَوْمَ لا يُغْنِي عَنْهُمْ كَيْدُهُمْ حيلتهم شَيْئاً أي: شيئا من الإغناء في ردّ

______________________________

(1) الشعراء: 187.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 498

العذاب وَ لا هُمْ يُنْصَرُونَ لا يمنعون من عذاب اللّه.

وَ إِنَّ لِلَّذِينَ ظَلَمُوا يحتمل العموم و الخصوص عَذاباً دُونَ ذلِكَ دون عذاب الآخرة. و هو عذاب القبر، أو المؤاخذة في الدنيا، كقتلهم ببدر، و القحط سبع سنين. وَ لكِنَّ أَكْثَرَهُمْ لا يَعْلَمُونَ ما هو نازل بهم.

وَ اصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ بإمهالهم و إبقائك في عنائهم و أذاهم حتّى يرد أمر اللّه بتخليصك فَإِنَّكَ بِأَعْيُنِنا في حفظنا بحيث نراك و نكلؤك، فلا يصلون إلى شي ء ممّا أرادوا عليك. و جمع العين لجمع الضمير،

و المبالغة بكثرة أسباب الحفظ.

وَ سَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ حِينَ تَقُومُ من أيّ مكان تقوم، أو من مكان قومك. أو حين تقوم إلى الصلاة، فقل: سبحانك اللّهمّ و بحمدك. أو من مجلسك فقل: سبحانك اللّهمّ و بحمدك، لا إله إلّا أنت، اغفر لي و تب عليّ. و هو المرويّ عن عطاء و سعيد بن جبير. و

قد روي مرفوعا: أنّه كفّارة المجلس.

و

عن عليّ عليه السّلام: «من أحبّ أن يكتال بالمكيال الأوفى، فليكن آخر كلامه إذا قام من مجلسه: سُبْحانَ رَبِّكَ رَبِّ الْعِزَّةِ «1» إلى آخر السورة» «2».

وَ مِنَ اللَّيْلِ فَسَبِّحْهُ فإنّ العبادة فيه أشقّ على النفس و أبعد من الرياء، و لذلك أفرده بالذكر، و قدّمه على الفعل.

و

روى زرارة و حمران و محمد بن مسلم، عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام في هذه الآية، قالا: «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يقوم من الليل ثلاث مرّات، فينظر في آفاق السماء، و يقرأ الخمس من آل عمران الّتي آخرها إِنَّكَ لا تُخْلِفُ الْمِيعادَ «3»، ثمّ يفتتح صلاة الليل».

______________________________

(1) الصافّات: 180.

(2) هذه الرواية في فضائل سورة الصافّات، و لعلّ المؤلّف نقلها لمناسبتها للمقام.

(3) آل عمران: 194.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 499

و قيل: معناه: قبل المغرب و العشاء الآخرة.

وَ إِدْبارَ النُّجُومِ و إذا أدبرت النجوم من آخر الليل، أي: تغيب بضوء الصبح. و المراد: الأمر بقول: سبحان اللّه و بحمده في هذه الأوقات.

و

قيل: المراد بالتسبيح: الصلاة إذا قام من نومه، و من الليل: صلاة العشاءين، و إدبار النجوم: صلاة الفجر المفروضة.

و هذا منقول عن ابن عبّاس و قتادة، و مرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.

و قيل: المراد بإدبار النجوم

الركعتان قبل صلاة الفجر.

و قيل: المعنى: لا تغفل عن ذكر ربّك صباحا و مساء، و نزّهه في جميع أحوالك ليلا و نهارا، فإنّه لا يغفل عنك و عن حفظك.

و في هذه الآية دلالة على أنّه سبحانه قد ضمن حفظه و كلاءته حتّى يبلّغ رسالته.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 501

(53) سورة النجم

اشارة

زبدة التفاسير ج 6 550

مكّيّة. و هي اثنتان و ستّون آية.

أبيّ بن كعب قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من قرأ سورة النجم اعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد من صدّق بمحمّد و من جحد به».

يزيد بن خليفة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «من كان يدمن قراءة و النجم في كلّ يوم أو في كلّ ليلة، عاش محمودا بين الناس، و كان مغفورا له، و كان محبوبا بين الناس».

[سورة النجم (53): الآيات 1 الى 10]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ النَّجْمِ إِذا هَوى (1) ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ وَ ما غَوى (2) وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى (3) إِنْ هُوَ إِلاَّ وَحْيٌ يُوحى (4)

عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى (5) ذُو مِرَّةٍ فَاسْتَوى (6) وَ هُوَ بِالْأُفُقِ الْأَعْلى (7) ثُمَّ دَنا فَتَدَلَّى (8) فَكانَ قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى (9)

فَأَوْحى إِلى عَبْدِهِ ما أَوْحى (10)

و لمّا اختتم سورة الطور بذكر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، افتتح هذه السورة بذكره أيضا،

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 502

حتّى اتّصلت بها اتّصال النظير بالنظير، و توافقت الخاتمة بالفاتحة بذكر النجم، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ وَ النَّجْمِ أقسم بجنس النجوم أو الثريّا، فإنّه غلب فيها. أو النجم الّذي يرجم به. إِذا هَوى غرب. أو انتثر يوم القيامة. أو انقضّ. أو طلع، فإنّه يقال: هوى هويّا بالفتح إذا سقط و غرب، و هويّا بالضمّ إذا علا و صعد. أو المراد بالنجم نجوم القرآن، إذ نزل منجّما في ثلاثة و عشرين سنة. و سمّي القرآن نجما لتفريقه في النزول. و العرب تسمّي التفريق تنجيما، و المفرّق منجّما. أو النبات، إذا سقط على الأرض، أو إذا نما و ارتفع.

و

روت العامّة عن جعفر الصادق عليه السّلام

أنّه قال: محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نزل من السماء السابعة ليلة المعراج، و لمّا نزلت السورة أخبر بذلك عتبة بن أبي لهب، و كانت تحته بنت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: لآتينّ محمّدا فلأوذينّه. فأتاه فقال: يا محمد؛ هو كافر بالنجم إذا هوى، و بالّذي دنا فتدلّى، ثمّ تفل في وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و ردّ عليه ابنته و طلّقها. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اللّهمّ سلّط عليه كلبا من كلابك. و كان أبو طالب حاضرا، فوجم «1» لها، و قال: ما كان أغناك يا ابن أخي عن هذه الدعوة.

فرجع عتبة إلى أبيه فأخبره، ثمّ خرج مع نفر من قريش إلى الشام فنزلوا منزلا، فأشرف عليهم راهب من الدير فقال لهم: إنّ هذه أرض مسبعة. فقال أبو لهب لأصحابه: أغيثونا يا معشر قريش هذه الليلة، فإنّي أخاف على ابني دعوة محمد. فجمعوا جمالهم و أناخوها حولهم، و أحدقوا بعتبة. فجاء الأسد يتشمّم وجوههم حتّى ضرب عتبة فقتله. فقال حسّان شعرا:

من يرجع العام إلى أهله* فما أكيل السّبع بالراجع

و جواب هذا القسم قوله: ما ضَلَّ صاحِبُكُمْ ما عدل محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن

______________________________

(1) أي: اشتدّ حزنه.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 503

الطريق المستقيم، و ما فارق الهدى إلى الضلال. و الخطاب لقريش. وَ ما غَوى و ما اعتقد باطلا، فإنّ الضلال نقيض الهوى، و الغيّ نقيض الرشد. و المراد: نفي ما ينسبون إليه من الضلال و الغيّ.

وَ ما يَنْطِقُ عَنِ الْهَوى و ما يصدر نطقه بالقرآن عن الهوى إِنْ هُوَ ما القرآن،

أو الّذي ينطق به إِلَّا وَحْيٌ يُوحى أي: يوحيه اللّه إليه. و احتجّ به من لم ير الاجتهاد للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و أجيب عنه بأنّه إذا أوحي إليه بأن يجتهد كان اجتهاده و ما يسند إليه وحيا. قلنا: إنّ ذلك حينئذ يكون بالوحي لا الوحي.

عَلَّمَهُ شَدِيدُ الْقُوى ملك شديد قواه. و الإضافة غير حقيقيّة، لأنّها إضافة الصفة المشبّهة إلى فاعلها، و هو جبرئيل، فإنّه الواسطة في إبداء الخوارق. و من قوّته أنّه اقتلع قرى قوم لوط من الماء الأسود، و حملها على جناحه، و رفعها إلى السماء ثمّ قلبها، و صاح صيحة بثمود فأصبحوا جاثمين. و كان هبوطه على الأنبياء و صعوده في أسرع من رجعة الطرف. و رأى إبليس يكلّم عيسى عليه السّلام على بعض عقاب الأرض المقدّسة، فنفخه بجناحه نفخة فألقاه في أقصى جبل بالهند.

ذُو مِرَّةٍ حصافة في عقله و رأيه، و متانة في دينه فَاسْتَوى فاستقام على صورته الحقيقيّة الّتي خلقه اللّه عليها، دون الصورة الّتي كان يتمثّل بها كلّما هبط بالوحي. و كان ينزل في صورة دحية الكلبي. و ذلك أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أحبّ أن يراه في صورته الّتي جبل عليها، فاستوى له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الأفق الأعلى، و هو أفق الشمس، فملأ الأفق.

و قيل: ما رآه أحد من الأنبياء في صورته الحقيقيّة غير محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مرّتين:

مرّة في الأرض، و مرّة في السماء.

و

أورد البخاري و مسلم في صحيحيهما عن عبد اللّه بن مسعود: «أنّ رسول

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 504

اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رأى

جبرئيل و له ستّمائة جناح» «1».

و قيل: استوى بمعنى: استولى بقوّته على ما جعل له من الأمر.

وَ هُوَ جبرئيل بِالْأُفُقِ الْأَعْلى أفق السماء من جانب المشرق، فإنّه فوق جانب المغرب في صعيد الأرض.

ثُمَّ دَنا من النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَتَدَلَّى فتعلّق عليه في الهواء. و قيل: تدلّى من الأفق الأعلى، فدنا من الرسول من غير أن ينفصل من محلّه. و فيه تقرير لشدّة قواه، فإنّ التدلّي استرسال مع تعلّق، كتدلّي الثمرة. و يقال: دلى رجليه من السرير، و أدلى دلوه. و الدوالي: الثمر المعلّق.

فَكانَ جبرئيل قابَ قَوْسَيْنِ مقدارهما، فإنّ القاب و القيب و القاد و القيد و القيس: المقدار. و قد جاء التقدير بالقوس، و الرمح، و السوط، و الذراع، و الباع، و الخطوة، و الشبر، و الفتر، و الإصبع. و

في الحديث: «لقاب قوس أحدكم من الجنّة و موضع قدّه خير من الدنيا و ما فيها».

و القدّ: السوط. و في الكلام حذف، تقديره:

فكان مقدار مسافة قربه مثل قاب قوسين، فحذفت هذه المضافات. أَوْ أَدْنى على تقديركم، كقوله: أَوْ يَزِيدُونَ «2». و المقصود تمثيل شدّة الاتّصال و تحقيق استماعه لما أوحي إليه بنفي البعد الملبس.

فَأَوْحى جبرئيل إِلى عَبْدِهِ عبد اللّه. و إضماره قبل الذكر لكونه معلوما لا لبس فيه، كقوله: عَلى ظَهْرِها «3». ما أَوْحى جبرئيل. و فيه تفخيم للموحى به. و قيل: ضمير «ما أوحى» للّه تعالى. و المعنى: فأوحى جبرئيل إلى عبد اللّه محمّد ما أوحى اللّه تعالى إليه.

______________________________

(1) صحيح البخاري 6: 176، صحيح مسلم 1: 158 ح 280.

(2) الصافّات: 147.

(3) فاطر: 45.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 505

و عن سعيد بن جبير: أوحى إليه: أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى «1» إلى

قوله:

وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ «2».

و قيل: أوحى إليه أنّ الجنّة محرّمة على الأنبياء حتّى تدخلها أنت، و على الأمم حتّى تدخلها أمّتك.

و قيل: الضمائر كلّها للّه تعالى. و هو المعنيّ ب «شديد القوى» كما في قوله:

هُوَ الرَّزَّاقُ ذُو الْقُوَّةِ الْمَتِينُ «3». و دنوّه منه برفع مكانته، و تدلّيه جذبه بشراشره إلى جناب القدس.

و قيل: أوحى إليه سرّا بسرّ. و في ذلك يقول القائل:

بين المحبّين سرّ ليس يفشيه قول و لا قلم للخلق يحكيه

[سورة النجم (53): الآيات 11 الى 18]

ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى (11) أَ فَتُمارُونَهُ عَلى ما يَرى (12) وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى (13) عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى (14) عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى (15)

إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى (16) ما زاغَ الْبَصَرُ وَ ما طَغى (17) لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى (18)

ثمّ بيّن سبحانه ما رآه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليلة الإسراء، و حقّق ما رأى فيها بقوله:

ما كَذَبَ الْفُؤادُ فؤاد محمّد ما رَأى ما يبصره من صورة جبرئيل. و المعنى: ما قال فؤاده لما رآه: لم أعرفك. و لو قال ذلك لكان كاذبا، لأنّه عرفه بقلبه كما رآه

______________________________

(1) الضحى: 6.

(2) الانشراح: 4.

(3) الذاريات: 58.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 506

ببصره، و لم يشكّ في أنّ ما رآه حقّ.

و قيل: ما كذب ما رآه بقلبه. و المعنى: أنّه لم يكن تخيّلا كاذبا. و يدلّ عليه:

«أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سئل: هل رأيت ربّك؟ فقال: رأيته بفؤادي».

و

عن ابن عبّاس أيضا: أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رأى ربّه بفؤاده. و روي ذلك عن محمد بن الحنفيّة، عن أبيه عليّ عليه السّلام.

و هذا يكون بمعنى العلم، أي: علّمه علما يقينا بما رآه

من الآيات الباهرات، كقول إبراهيم عليه السّلام: وَ لكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي «1». و إن كان عالما قبل ذلك.

و قيل: إنّ الّذي رآه هو ما رأى من ملكوت اللّه تعالى و أجناس مقدوراته.

و

عن أبي العالية قال: سئل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «هل رأيت ربّك ليلة المعراج؟

قال: رأيت نهرا، و رأيت وراء النهر حجابا، و رأيت وراء الحجاب نورا، لم أر غير ذلك».

و

روي عن أبي ذرّ و أبي سعيد الخدري: «أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سئل عن قوله:

«ما كَذَبَ الْفُؤادُ ما رَأى قال: «رأيت نورا». و روي ذلك عن مجاهد.

و

ذكر الشعبي عن عبد اللّه بن الحارث، عن ابن عبّاس أنّه قال: إنّ محمّدا رأى ربّه.

قال الشعبي: و أخبرني مسروق قال: سألت عائشة عن ذلك. فقالت: إنّك لتقول قولا إنّه ليقف شعري منه.

قلت: رويدا يا أمّ المؤمنين، و قرأت عليها «وَ النَّجْمِ إِذا هَوى حتّى انتهيت إلى قوله: «قابَ قَوْسَيْنِ أَوْ أَدْنى .

فقالت: رويدا أنّى يذهب بك، إنّما رأى جبرئيل في صورته. من حدّثك أنّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رأى ربّه فقد كذب، و اللّه تعالى يقول:

______________________________

(1) البقرة: 260. زبدة التفاسير، ج 6، ص: 507

لا تُدْرِكُهُ الْأَبْصارُ وَ هُوَ يُدْرِكُ الْأَبْصارَ «1». و من حدّثك أن محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يعلم الحسّ من الغيب فقد كذب، و اللّه تعالى يقول: إِنَّ اللَّهَ عِنْدَهُ عِلْمُ السَّاعَةِ «2». و من حدّثك أن محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كتم شيئا من الوحي فقد كذب، و اللّه تعالى يقول: بَلِّغْ ما أُنْزِلَ إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ «3». و لقد بيّن اللّه سبحانه ما رآه

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بيانا شافيا، فقال: لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى «4».

و قرأ هشام: ما كذّب، أي: صدّقه و لم يشكّ أنّه جبرئيل بصورته.

أَ فَتُمارُونَهُ أ فتجادلونه عَلى ما يَرى من المراء، و هو المجادلة.

و اشتقاقه من: مرى «5» الناقة، فإنّ كلّا من المتجادلين يمري ما عند صاحبه.

و قرأ الكوفيّون غير عاصم و يعقوب: أ فتمارونه، أي: أ فتغلبونه في المراء.

من: ماريته فمريته. أو من: مراه حقّه إذا جحده. و «على» لتضمين الفعل معنى الغلبة، فإنّ المماري و الجاحد يقصدان بفعلهما غلبة الخصم.

وَ لَقَدْ رَآهُ نَزْلَةً أُخْرى مرّة اخرى. فعلة من النزول، أقيمت مقام المرّة، و نصبت نصبها، إشعارا بأنّ الرؤية في هذه المرّة كانت أيضا بنزول و دنوّ. و الكلام في المرئيّ و الدنوّ ما سبق. و المعنى: نزل جبرئيل عليه نزلة اخرى في صورة نفسه، فرآه عليها ليلة المعراج. و قيل: تقديره: و لقد رآه نازلا نزلة اخرى. و نصبها على المصدر. و المراد به نفي الريبة عن المرّة الأخيرة.

عِنْدَ سِدْرَةِ الْمُنْتَهى الّتي ينتهي إليها علم الخلائق و أعمالهم، و لا يعلم أحد من خلق الأوّلين و الآخرين ما وراءها. أو ما ينزل من فوقها، و يصعد من

______________________________

(1) الأنعام: 103.

(2) لقمان: 34.

(3) المائدة: 67.

(4) النجم: 18.

(5) مرى الناقة: مسح ضرعها لتدرّ.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 508

تحتها. أو الّتي منتهى الجنّة و آخرها، و لم يجاوزها أحد. و لعلّها شبّهت بالسدرة، و هي شجرة النبق، لأنّهم يجتمعون في ظلّها. و روي مرفوعا: أنّها شجرة عن يمين العرش فوق السماء السابعة، انتهى إليها علم كلّ ملك. و قيل: هي شجرة طوبى.

عِنْدَها جَنَّةُ الْمَأْوى الجنّة الّتي يأوي إليها المتّقون، أو

أرواح الشهداء إِذْ يَغْشَى السِّدْرَةَ ما يَغْشى تعظيم و تكثير لما يغشاها، بحيث لا يكتنهها نعت، و لا يحصيها عدّ. و قيل: يغشاها الجمّ الغفير من الملائكة أمثال الغربان حين يقعن على الشجر. و

عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «رأيت على كلّ ورقة من أوراقها ملكا قائما يسبّح اللّه».

و

عنه عليه السّلام: «يغشاها رفرف من طير خضر».

و عن ابن مسعود: يغشاها فراش من ذهب.

ما زاغَ الْبَصَرُ ما مال بصر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عمّا رآه، أو لم يمل يمينا و لا شمالا وَ ما طَغى و ما تجاوزه، بل أثبته إثباتا صحيحا مستيقنا، من غير أن يزيغ بصره أو يتجاوزه. أو ما عدل عن رؤية العجائب الّتي أمر برؤيتها و ما جاوزها. أو ما جاوز الحدّ الّذي حدّ له. و هذا وصف أدبه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في ذلك المقام، إذ لم يلتفت جانبا، و لم يمل بصره، و لم يمدّه أمامه إلى حيث ينتهي.

لَقَدْ رَأى مِنْ آياتِ رَبِّهِ الْكُبْرى أي: و اللّه لقد رأى الكبرى من آياته و عجائبه الملكيّة و الملكوتيّة ليلة المعراج. يعني: حين رقي به إلى السماء، فاري عجائب الملكوت، من صورة جبرئيل، و رؤيته و له ستّمائة جناح، قد سدّ الأفق بأجنحته. قيل: إنّه رأى رفرفا أخضر من رفارف الجنّة قد سدّ الأفق.

[سورة النجم (53): الآيات 19 الى 23]

أَ فَرَأَيْتُمُ اللاَّتَ وَ الْعُزَّى (19) وَ مَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى (20) أَ لَكُمُ الذَّكَرُ وَ لَهُ الْأُنْثى (21) تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى (22) إِنْ هِيَ إِلاَّ أَسْماءٌ سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ ما تَهْوَى الْأَنْفُسُ وَ

لَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى (23)

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 509

و لمّا قصّ اللّه سبحانه هذه الأقاصيص، عقّبها بمخاطبة المشركين، فقال:

أَ فَرَأَيْتُمُ اللَّاتَ وَ الْعُزَّى وَ مَناةَ الثَّالِثَةَ الْأُخْرى هي أصنام كانت لهم. و هي مؤنّثات.

فاللات كانت لثقيف بالطائف، أو لقريش بنخلة تعبدها. و هي فعلة من: لوى، لأنّهم كانوا يلوون عليها و يعكفون للعبادة، أو يلتوون عليها، أي: يطوفون. و قرأ رويس عن يعقوب بتشديد التاء، على أنّها على صورة رجل كان يلتّ «1» السويق بالسمن و يطعمه الحاجّ. و عن مجاهد: كان رجل يلتّ السويق بالطائف، و كانوا يعكفون على قبره، فجعلوه و ثنا.

و العزّى: سمرة «2» لغطفان كانوا يعبدونها. و أصلها تأنيث الأعزّ.

فبعث إليها رسول اللّه خالد بن الوليد فقطعها، فخرجت منها شيطانة ناشرة شعرها، داعية ويلها، واضعة يدها على رأسها، فجعل يضربها بالسيف حتّى قتلها، و هو يقول:

يا عزّ كفرانك لا سبحانك* إنّي رأيت اللّه قد أهانك و رجع فأخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال، تلك العزّى و لن تعبد أبدا.

و مناة صخرة كانت لهذيل و خزاعة. و عن ابن عبّاس: لثقيف. و هي فعلة من:

مناه إذا قطعه، فإنّهم كانوا يذبحون عندها القرابين. و كأنّها سمّيت مناة لأنّ دماء النسائك كانت تمنى عندها، أي: تراق. و منه: منى. و قرأ ابن كثير: مناءة بالمدّ و الهمزة. و هي مفعلة من النوء، كأنّهم كانوا يستمطرون عندها الأنواء تبرّكا بها.

______________________________

(1) لتّ السويق: بلّه بشي ء من الماء أو خلطه بالسمن.

(2) السمرة: شجرة من العضاه، و ليس في العضاه أجود خشبا منه.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 510

و قوله: «الثَّالِثَةَ الْأُخْرى صفتان للتأكيد، كقوله: يَطِيرُ بِجَناحَيْهِ «1». أو «الأخرى» من التأخّر في الرتبة،

أي: الوضيعة المقدار، كقوله: قالَتْ أُخْراهُمْ لِأُولاهُمْ «2» أي: وضعاؤهم لرؤسائهم و أشرافهم. و يجوز أن تكون الأوّليّة و التقدّم عندهم للات و العزّى.

روي: أنّهم كانوا يقولون: إنّ الملائكة و هذه الأصنام بنات اللّه، و كانوا يعبدونهم، و يزعمون أنّهم شفعاؤهم عند اللّه، مع و أدهم البنات. فقال اللّه سبحانه إنكارا عليهم: إنّ اللات و العزّى و مناة إناث، و قد جعلتموهنّ للّه شركاء، و من شأنكم أن تحتقروا الإناث، و تستنكفوا من أن يولدن لكم و ينسبن إليكم، فكيف تجعلون هؤلاء الإناث أندادا للّه و تسمّونهنّ آلهة؟! أَ لَكُمُ الذَّكَرُ وَ لَهُ الْأُنْثى أي: كيف يكون ذلك كذلك و أنتم لو خيّرتم لاخترتم الذكر على الأنثى؟! فكيف أضفتم إليه سبحانه ما لا ترضونه لأنفسكم؟! تِلْكَ إِذاً قِسْمَةٌ ضِيزى جائرة، حيث جعلتم له ما تستنكفون منه. و هي فعلى بالكسر، من: ضاز يضيز ضيزا، إذا ضامه «3» و جاره. و الأصل: ضوزى بالضمّ، ففعل بها ما فعل ببيض لتسلم الياء، فإنّ فعلى بالكسر لم تأت وصفا. و قرأ ابن كثير بالهمزة، من: ضأزه إذا ظلمه، على أنّه مصدر نعت به.

إِنْ هِيَ ما الأصنام باعتبار الألوهيّة إِلَّا أَسْماءٌ تطلقونها عليها، لأنّكم تقولون إنّها آلهة، و ليس فيها شي ء من معنى الألوهيّة. و يجوز أن يكون الضمير للصفة، أي: ما الصفة إلّا الأسماء خالية عن معنى الصفة المذكورة. أو للأسماء، و هي قولهم: اللات و العزّى و مناة، فإنّهم يقصدون بها أنّه الإله. و الحاصل: أنّهم كانوا

______________________________

(1) الأنعام: 38.

(2) الأعراف: 38.

(3) ضامه: ظلمه. من: ضام يضيم ضيما.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 511

يطلقون اللات عليها باعتبار استحقاقها للعكوف على عبادتها، و العزّى لعزّتها، و مناة لاعتقادهم أنّها تستحقّ أن

يتقرّب إليها بالقرابين.

فقال سبحانه: ما هذه الأسماء إلّا أسماء سَمَّيْتُمُوها أَنْتُمْ وَ آباؤُكُمْ بهواكم و شهواتكم خالية عن معنى الألوهيّة ما أَنْزَلَ اللَّهُ بِها مِنْ سُلْطانٍ برهان، أي: ليس لكم من اللّه على صحّة تسميتها دليل باهر تتعلّقون به. و معنى «سمّيتموها»: سمّيتم بها. يقال: سمّيته زيدا، و سمّيته بزيد.

ثمّ رجع إلى الإخبار عنهم بعد المخاطبة، فقال: إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَ إلّا توهّم أنّ ما هم عليه حقّ تقليدا و توهّما باطلا وَ ما تَهْوَى الْأَنْفُسُ و ما تشتهيه أنفسهم وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنْ رَبِّهِمُ الْهُدى أي: الرشاد و البيان، من الرسول و الكتاب فتركوه.

[سورة النجم (53): الآيات 24 الى 28]

أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى (24) فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَ الْأُولى (25) وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ شَيْئاً إِلاَّ مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ لِمَنْ يَشاءُ وَ يَرْضى (26) إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ تَسْمِيَةَ الْأُنْثى (27) وَ ما لَهُمْ بِهِ مِنْ عِلْمٍ إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلاَّ الظَّنَّ وَ إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً (28)

ثمّ أنكر عليهم تمنّيهم شفاعة الأوثان، فقال لهم: أَمْ لِلْإِنْسانِ ما تَمَنَّى «أم» منقطعة. و معنى الهمزة فيها الإنكار. و المعنى: ليس له كلّ ما يتمنّاه. و المراد نفي طمعهم في شفاعة الآلهة. و قيل: قولهم: وَ لَئِنْ رُجِعْتُ إِلى رَبِّي إِنَّ لِي عِنْدَهُ

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 512

لَلْحُسْنى «1». و قيل: هو تمنّي بعضهم أن يكون هو النبيّ. و قيل: هو قوله: لَوْ لا نُزِّلَ هذَا الْقُرْآنُ عَلى رَجُلٍ مِنَ الْقَرْيَتَيْنِ عَظِيمٍ «2». و غيرهما. و قيل: هو قول الوليد بن المغيرة: لَأُوتَيَنَّ مالًا وَ وَلَداً «3».

فَلِلَّهِ الْآخِرَةُ وَ الْأُولى أي: هو مالكهما، يعطي منهما ما يشاء لمن يشاء على

وفق الحكمة و طبق المصلحة، و ليس لأحد أن يتحكّم عليه في شي ء منهما.

وَ كَمْ مِنْ مَلَكٍ و كثير من الملائكة فِي السَّماواتِ لا تُغْنِي شَفاعَتُهُمْ لا تنفع. يعني: أنّ أمر الشفاعة ضيّق، و ذلك أنّ الملائكة مع قربهم و زلفاهم و كثرتهم و اغتصاص السماوات بجموعهم، لو شفعوا بأجمعهم لأحد لم تغن شفاعتهم عنه شيئا قطّ، و لم تنفع. شَيْئاً إِلَّا مِنْ بَعْدِ أَنْ يَأْذَنَ اللَّهُ إلّا إذا شفعوا من بعد أن يأذن اللّه لهم في الشفاعة لِمَنْ يَشاءُ من الملائكة أن يشفع، أو من الناس أن يشفع له وَ يَرْضى و يرضاه، و يراه أهلا لذلك. فكيف تشفع الأصنام لعبدتهم؟

إِنَّ الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ لَيُسَمُّونَ الْمَلائِكَةَ أي: كلّ واحد منهم تَسْمِيَةَ الْأُنْثى بأن سمّوه بنتا.

وَ ما لَهُمْ بِهِ أي: بما يقولون مِنْ عِلْمٍ أي: ما يستيقنون أنّهم إناث، و ليسوا عالمين بذلك إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَ إِنَّ الظَّنَّ لا يُغْنِي مِنَ الْحَقِّ شَيْئاً أي:

الحقّ الّذي هو حقيقة الشي ء لا يدرك إلّا بالعلم و التيقّن، و الظنّ لا اعتبار له في المعارف الحقيقيّة، و إنّما العبرة به في العمليّات و ما يكون وصلة إليها.

______________________________

(1) فصّلت: 50.

(2) الزخرف: 31.

(3) مريم: 77.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 513

[سورة النجم (53): الآيات 29 الى 30]

فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلاَّ الْحَياةَ الدُّنْيا (29) ذلِكَ مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى (30)

ثمّ خاطب نبيّه، فقال: فَأَعْرِضْ عَنْ مَنْ تَوَلَّى عَنْ ذِكْرِنا عن دعوة من رأيته معرضا عن ذكرنا، و لم يقرّ بتوحيدنا وَ لَمْ يُرِدْ إِلَّا الْحَياةَ الدُّنْيا و لم يتأمّل في الآخرة أصلا، لانهماكه في متاع الدنيا و زينتها،

فإنّ من غفل عن اللّه، و أعرض عن ذكره، و انهمك في الدنيا، بحيث كانت منتهى همّته و مبلغ علمه، لا تزيده الدعوة إلّا عنادا و إصرارا على الباطل.

ذلِكَ أي: أمر الدنيا، أو كونها شهيّة مَبْلَغُهُمْ مِنَ الْعِلْمِ لا يتجاوزه علمهم. و هذا مبلغ خسيس لا يرضى به لنفسه عاقل، لأنّه من طباع البهائم أن يأكل في الحال و لا ينتظر العواقب. و

في الدعاء: اللّهمّ لا تجعل الدنيا أكبر همّنا، و لا مبلغ علمنا.

و الجملة اعتراض مقرّر لقصور هممهم بالدنيا. و قوله: إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اهْتَدى تعليل للأمر بالإعراض، أي: إنّما يعلم اللّه من يجيب ممّن لا يجيب، و أنت لا تعلم، فلا تتعب نفسك في دعوتهم، إذ ما عليك إلّا البلاغ و قد بلّغت، و هو أعلم بالضالّ و المهتدي، و هو مجازيهما ما يستحقّان من الجزاء.

[سورة النجم (53): الآيات 31 الى 32]

وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى (31) الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ وَ الْفَواحِشَ إِلاَّ اللَّمَمَ إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ وَ إِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى (32)

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 514

ثمّ قال: وَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ خلقا و ملكا لِيَجْزِيَ الَّذِينَ أَساؤُا بِما عَمِلُوا بعقاب ما عملوا من السوء، أو بمثله، أو بسبب ما عملوا من السوء. و هو علّة لما دلّ عليه ما قبله، أي: خلق العالم و سوّاه ليجزي الّذين أساؤا السّوأى، و هي النار. وَ يَجْزِيَ الَّذِينَ أَحْسَنُوا بِالْحُسْنَى بالمثوبة الحسنى، و هي

الجنّة. أو بأحسن من أعمالهم، أو بسبب الأعمال الحسنى.

ثمّ وصف الّذين أحسنوا بقوله: الَّذِينَ يَجْتَنِبُونَ كَبائِرَ الْإِثْمِ محلّه إمّا النصب على الصفة أو المدح، أو الرفع على أنّه خبر محذوف. و كبائر الإثم ما يكبر عقابه من الذنوب. و هو ما رتّب عليه الوعيد، و لا يسقط عقابه إلّا بالتوبة. و قرأ حمزة و الكسائي: كبير الإثم، على إرادة الجنس أو الشرك. وَ الْفَواحِشَ ما فحش من الكبائر خصوصا، كأنّه قال: خصوصا و الفواحش منها إِلَّا اللَّمَمَ إلّا ما قلّ و صغر، فإنّه مغفور من مجتنبي الكبائر.

قال الحسن و السدّي: اللمم هو أن يلمّ بالذنب مرّة ثمّ يتوب منه و لا يعود.

و هو اختيار الزجّاج، لأنّه قال: اللمم: هو أن يكون الإنسان قد ألمّ بالمعصية و لم يقم على ذلك. و منه: ألمّ بالمكان إذا قلّ فيه لبثه، و ألمّ بالطعام قلّ منه أكله.

و عن أبي سعيد الخدري: اللمم هي: النظرة، و الغمزة، و القبلة. و عن الكلبي:

كلّ ذنب لم يذكر اللّه عليه حدّا و لا عذابا. و الاستثناء منقطع، أو صفة كقوله: لَوْ

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 515

كانَ فِيهِما آلِهَةٌ إِلَّا اللَّهُ «1». كأنّه قال: كبائر الإثم غير اللمم.

إِنَّ رَبَّكَ واسِعُ الْمَغْفِرَةِ حيث يكفّر الصغائر باجتناب الكبائر، و الكبائر بالتوبة. أوله أن يغفر ما شاء من الذنوب صغيرها و كبيرها. و لعلّه عقّب به وعيد المسيئين و وعد المحسنين، لئلّا ييأس صاحب الكبيرة من رحمته، و لا يتوهّم وجوب العقاب على اللّه.

هُوَ أَعْلَمُ بِكُمْ أعلم بأحوالكم منكم إِذْ أَنْشَأَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ خلقكم منها عند تناول الأغذية المخصوصة الّتي خلقها من الأرض، فكأنّه سبحانه أنشأهم منها وَ إِذْ أَنْتُمْ أَجِنَّةٌ فِي بُطُونِ أُمَّهاتِكُمْ أي: علم أحوالكم

و مصارف أموركم حين ابتدأ خلقكم من التراب بخلق آدم، و حينما صوّركم في الأرحام.

فَلا تُزَكُّوا أَنْفُسَكُمْ فلا تنسبوها إلى زكاء العمل و زيادة الخير و الطاعات، أو إلى الزكاء و الطهارة من المعاصي و الرذائل، و لا تثنوا عليها بزكاها هُوَ أَعْلَمُ بِمَنِ اتَّقى فإنّه يعلم التقيّ و غيره منكم قبل أن يخرجكم من صلب آدم، و قبل أن تخرجوا من بطون أمّهاتكم.

قيل: كان الناس يعملون أعمالا حسنة ثم يقولون: صلاتنا و صيامنا و حجّنا، فنزلت هذه الآية. و هذا إذا كان على سبيل الإعجاب أو الرياء. و أمّا من اعتقد أنّ ما عمله من العمل الصالح بتوفيق اللّه و تأييده، و لم يقصد به التمدّح، لم يكن من المزكّين أنفسهم، لأنّ المسرّة بالطاعة طاعة و ذكرها شكر.

[سورة النجم (53): الآيات 33 الى 54]

أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى (33) وَ أَعْطى قَلِيلاً وَ أَكْدى (34) أَ عِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ فَهُوَ يَرى (35) أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى (36) وَ إِبْراهِيمَ الَّذِي وَفَّى (37)

أَلاَّ تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى (38) وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلاَّ ما سَعى (39) وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى (40) ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى (41) وَ أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى (42)

وَ أَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَ أَبْكى (43) وَ أَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَ أَحْيا (44) وَ أَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى (45) مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى (46) وَ أَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى (47)

وَ أَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَ أَقْنى (48) وَ أَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى (49) وَ أَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى (50) وَ ثَمُودَ فَما أَبْقى (51) وَ قَوْمَ نُوحٍ مِنْ قَبْلُ إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَ أَطْغى (52)

وَ الْمُؤْتَفِكَةَ أَهْوى (53) فَغَشَّاها ما غَشَّى (54)

______________________________

(1) الأنبياء:

22.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 516

روي عن ابن عبّاس و السدّي و الكلبي و جماعة من المفسّرين: أنّ عثمان بن عفّان كان يتصدّق و ينفق ماله، فقال له أخوه من الرضاعة عبد اللّه بن سعد بن أبي سرح: ما هذا الّذي تصنع؟ يوشك أن لا يبقى لك شي ء. فقال له عثمان: إنّ لي ذنوبا، و إنّي أطلب بما أصنع رضا اللّه، و أرجو عفوه. فقال له عبد اللّه: أعطني ناقتك برحلها، و أنا أتحمّل عنك ذنوبك كلّها. فأعطاه، و أشهد عليه، و أمسك عن الصدقة.

فنزلت:

أَ فَرَأَيْتَ الَّذِي تَوَلَّى عن اتّباع الحقّ و الثبات عليه وَ أَعْطى قَلِيلًا وَ أَكْدى و قطع العطاء و أمسك. من قولهم: أكدى الحافر إذا بلغ الكدية، و هي الصخرة

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 517

الصلبة، فترك الحفر.

أَ عِنْدَهُ عِلْمُ الْغَيْبِ علم ما غاب عنه من أمر العذاب فَهُوَ يَرى يعلم أنّ صاحبه يتحمّل عنه العذاب. أو يعلم أنّ ما قال له أخوه من احتمال أوزاره حقّ.

و عن مجاهد: نزلت في الوليد بن المغيرة، و كان قد اتّبع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على دينه، فعيّره بعض المشركين، و قال له: تركت دين الأشياخ و ضألتهم، و زعمت أنّهم في النار. قال: إنّي خشيت عذاب اللّه. فضمن له الّذي عاتبه إن هو أعطاه شيئا من ماله و رجع إلى شركه أن يتحمّل عنه عذاب اللّه. فارتدّ و أعطى بعض المشروط، ثمّ بخل بالباقي.

أَمْ لَمْ يُنَبَّأْ بِما فِي صُحُفِ مُوسى ألم يخبر بما في أسفار التوراة وَ إِبْراهِيمَ و في صحف إبراهيم الَّذِي وَفَّى و فّر و أتمّ ما التزم به أو أمر به. أو بالغ في الوفاء بما عاهد اللّه.

و إطلاقه ليتناول كلّ وفاء و توفية. و تخصيصه بذلك لاحتماله ما لم يحتمله غيره. و من ذلك: تبليغه الرسالة، و استقلاله بأعباء النبوّة، و الصبر على ذبح ولده، و على نار نمرود، و قيامه بأضيافه، و خدمته إيّاهم بنفسه، و أنّه كان يخرج كلّ يوم فيمشي فرسخا يرتاد ضيفا، فإن وافقه أكرمه، و إلّا نوى الصوم.

و عن الحسن: ما أمره اللّه بشي ء إلّا وفى به.

و عن الهذيل بن شرحبيل: كان بين نوح و بين إبراهيم يؤخذ الرجل بجريرة غيره، و يقتل بأبيه و ابنه و عمّه و خاله، و الزوج بامرأته، و العبد بسيّده، فأوّل من خالفهم إبراهيم.

و عن عطاء بن السائب: عهد إبراهيم أن لا يسأل مخلوقا، فلمّا قذف في النار قال له جبرئيل و ميكائيل: أ لك حاجة؟ فقال: أمّا إليكما فلا.

و

روي عن الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ألا أخبركم لم سمّى اللّه خليله الَّذِي وَفَّى

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 518

كان يقول إذا أصبح و أمسى: «فسبحان الله حين تمسون و حين تظهرون».

و قيل: وفّى سهام الإسلام. و هي ثلاثون: عشرة في التوبة: التَّائِبُونَ ... «1».

و عشرة في الأحزاب: إِنَّ الْمُسْلِمِينَ ... «2». و عشرة في المؤمنين: قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ ... «3».

و قدّم موسى لأنّ صحفه- و هي: التوراة- كانت أشهر و أكبر عندهم.

أَلَّا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى «أن» هي المخفّفة من الثقيلة. و الضمير للشأن.

و هي بما بعدها في محلّ الجرّ بدلا من «بِما فِي صُحُفِ مُوسى . و التقدير: أم لم ينبّأ بأنّه لا تزر، أي: لا تحمل نفس حاملة حمل اخرى. أو الرفع على: هو أن لا تزر.

كأنّه قيل: ما في صحفهما؟ فأجاب: أن لا تزر.

و المعنى: أنّه لا يؤاخذ أحد بذنب غيره. و لا يخالف ذلك قوله تعالى: كَتَبْنا عَلى بَنِي إِسْرائِيلَ أَنَّهُ مَنْ قَتَلَ نَفْساً بِغَيْرِ نَفْسٍ أَوْ فَسادٍ فِي الْأَرْضِ فَكَأَنَّما قَتَلَ النَّاسَ جَمِيعاً «4». و

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من سنّ سنّة سيّئة، فعليه وزرها، و وزر من عمل بها إلى يوم القيامة».

فإنّ ذلك للدلالة و التسبّب الّذي هو وزره.

وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى إلّا سعيه، أي: كما لا يؤاخذ أحد بذنب الغير لا يثاب بفعله. و الوجه فيما صحّ من الأخبار من أنّ الصدقة عن الميّت و الحجّ عنه ينفعان الميّت: أنّ سعي غيره لا ينفعه إذا عمل لنفسه، و لكن إذا نواه فهو بحكم الشرع كالنائب عنه و الوكيل القائم مقامه. و أنّ سعي غيره لمّا لم ينفعه إلّا مبنيّا على سعي نفسه- و هو أن يكون مؤمنا صالحا- كان سعي غيره كأنّه سعي نفسه، لكونه

______________________________

(1) التوبة: 112.

(2) الأحزاب: 35.

(3) المؤمنون: 1- 10.

(4) المائدة: 32.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 519

تابعا له و قائما مقامه.

وَ أَنَّ سَعْيَهُ سَوْفَ يُرى ثُمَّ يُجْزاهُ الْجَزاءَ الْأَوْفى أي: يجزى العبد سعيه بالجزاء الأوفى، فنصب بنزع الخافض. يقال: جزاه اللّه عمله، و جزاه على عمله، بحذف الجارّ و إيصال الفعل. و يجوز أن يكون مصدرا، أو تكون الهاء للجزاء المدلول عليه ب «يجزى»، و «الجزاء» بدله، كقوله: وَ أَسَرُّوا النَّجْوَى الَّذِينَ ظَلَمُوا «1».

وَ أَنَّ إِلى رَبِّكَ الْمُنْتَهى مصدر بمعنى الانتهاء، أي: انتهاء الخلائق و رجوعهم إلى ثواب ربّك و عقابه، كقوله: وَ إِلَى اللَّهِ الْمَصِيرُ «2».

وَ أَنَّهُ هُوَ أَضْحَكَ وَ أَبْكى خلق قوّتي الضحك و البكاء. أو فعل سبب الضحك و البكاء، من السرور و

الحزن، كما يقال: أضحكني فلان و أبكاني.

وَ أَنَّهُ هُوَ أَماتَ وَ أَحْيا لا يقدر على الإماتة و الإحياء غيره، فإنّ القاتل ينقض البنية، و الموت يحصل عنده بفعل اللّه على سبيل العادة.

وَ أَنَّهُ خَلَقَ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى من كلّ حيوان مِنْ نُطْفَةٍ إِذا تُمْنى تدفّق في الرحم. يقال: منى و أمنى. و عن الأخفش: تخلّق من منيّ الماني، أي:

قدر المقدّر.

وَ أَنَّ عَلَيْهِ النَّشْأَةَ الْأُخْرى الإحياء بعد الموت وفاء بوعده، و لأنّها واجبة عليه في الحكمة، ليجازي على الإحسان و الإساءة. و لفظة «على» دالّة عليه. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو: النشاءة بالمدّ. و هو أيضا مصدر: نشأ.

وَ أَنَّهُ هُوَ أَغْنى وَ أَقْنى و أعطى القنية. و هي المال الّذي تأثّلته «3» و عزمت

______________________________

(1) الأنبياء: 3.

(2) آل عمران: 28.

(3) تأثّل المال: اكتسبه و ثمّره، و زكّاه، و أنماه.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 520

أن لا تخرجه من يدك، بل تدّخره بعد الكفاية. و إفرادها لأنّها أشفّ «1» الأموال. أو أرضى. و تحقيقه: جعل الرضا له قنية.

وَ أَنَّهُ هُوَ رَبُّ الشِّعْرى خالقها و مخترعها. و هي العبور، كوكب أشدّ ضياء من الغميصاء، تطلع وراء الجوزاء، و تسمّى كلب الجبار، لأنّه يتبع الجوزاء كما يتبع الكلب الصائد و الصيد. و الجبار اسم الجوزاء. و كانت خزاعة تعبدها، سنّ لهم أبو كبشة رجل من أشرافهم. و قيل: إنّه أحد أجداد الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من قبل أمّه.

و كانت قريش تقول لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أبو كبشة، تشبيها له به، لمخالفته إيّاهم في دينهم. و لعلّ تخصيصها للإشعار بأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إن وافق

أبا كبشة في مخالفتهم، خالفه أيضا في عبادتها. فيريد اللّه أنّه ربّ معبودهم هذا، فلا تتّخذوا المربوب المملوك إلها.

وَ أَنَّهُ أَهْلَكَ عاداً الْأُولى القدماء، لأنّهم أولى الأمم هلاكا بعد قوم نوح عليه السّلام.

و قيل: عاد الأولى قوم هود، و عاد الأخرى إرم. و قرأ نافع و أبو عمرو: عادا لولى، بإدغام التنوين في اللام، و طرح همزة «أولى»، و نقل ضمّتها إلى لام التعريف.

و قالون بعد ضمّة اللام بهمزة ساكنة في موضع الواو.

و ثمودا عطف على «عادا» لأنّ ما بعده لا يعمل فيه، لأنّه منفيّ ب «ما».

فلا يقال: زيدا ما ضربت، لأنّ لها صدر الكلام. و قرأ عاصم و حمزة بغير تنوين، و يقفان بغير الألف. و الباقون بالتنوين، و يقفون بالألف. فَما أَبْقى الفريقين.

وَ قَوْمَ نُوحٍ أيضا معطوف عليه مِنْ قَبْلُ عاد و ثمود إِنَّهُمْ كانُوا هُمْ أَظْلَمَ وَ أَطْغى من الفريقين، لأنّهم كانوا يؤذونه و ينفّرون عنه، حتّى كانوا يحذّرون صبيانهم أن يسمعوا منه، و يضربونه حتّى لا يكون به حراك، و ما أثّر فيهم دعاؤه قريبا من ألف سنة.

______________________________

(1) أي: أفضلها و أربحها.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 521

وَ الْمُؤْتَفِكَةَ و القرى الّتي ائتفكت بأهلها، أي: انقلبت. و هي قرى قوم لوط. يقال: أفكه فأتفك. أَهْوى بعد أن رفعها إلى السماء على جناح جبرئيل، ثمّ أهواها مقلّبة إلى الأرض، أي: أسقطها.

فَغَشَّاها ما غَشَّى فيه تهويل و تعميم لما أصابهم من العذاب الشديد، إذ أمطر عليها الصخر المنضود.

[سورة النجم (53): الآيات 55 الى 62]

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى (55) هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى (56) أَزِفَتِ الْآزِفَةُ (57) لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ (58) أَ فَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ تَعْجَبُونَ (59)

وَ تَضْحَكُونَ وَ لا تَبْكُونَ (60) وَ أَنْتُمْ سامِدُونَ (61) فَاسْجُدُوا

لِلَّهِ وَ اعْبُدُوا (62)

و لمّا وعد اللّه سبحانه ما يدلّ على وحدانيّته و كمال قدرته الذاتيّة، قال:

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكَ تَتَمارى تتشكّك. و الخطاب للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أو لكلّ أحد.

و المعدودات و إن كانت نعما و نقما، لكن سمّاها كلّها آلاء من قبل ما في نقمه من العبر و المواعظ للمعتبرين، و الانتقام للأنبياء و المؤمنين.

هذا نَذِيرٌ مِنَ النُّذُرِ الْأُولى اي: هذا القرآن إنذار من جنس الإنذارات المتقدّمة. أو هذا الرسول منذر من جنس المنذرين الأوّلين. و قال: الأولى، على تأويل الجماعة.

أَزِفَتِ الْآزِفَةُ قربت الساعة الموصوفة بالقرب في نحو قوله: اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ «1» فإنّ كلّ ما هو آت لا محالة قريب.

______________________________

(1) القمر: 1.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 522

لَيْسَ لَها مِنْ دُونِ اللَّهِ كاشِفَةٌ ليس لها نفس قادرة على كشفها، مبيّنة متى تقوم؟ أو ليس لها من دون اللّه كشف، على أنّها مصدر كالعافية.

أَ فَمِنْ هذَا الْحَدِيثِ يعني: القرآن. أو ما قدّم من الأخبار. و هو المرويّ عن الصادق عليه السّلام. تَعْجَبُونَ إنكارا وَ تَضْحَكُونَ استهزاء وَ لا تَبْكُونَ تحزّنا على ما فرّطتم.

وَ أَنْتُمْ سامِدُونَ لاهون لاعبون. أو مستكبرون، من: سمد البعير في سيره إذا رفع رأسه. أو مغنّون لتشغلوا الناس عن استماعه. من السمود، و هو الغناء.

فَاسْجُدُوا لِلَّهِ وَ اعْبُدُوا و لا تعبدوا الآلهة. و في الآية دلالة على أنّ السجود هنا واجب على ما ذهب إليه أصحابنا، لأنّ الظاهر أنّ الأمر يقتضي الوجوب، و للروايات المتواترة عن الأئمّة الطاهرة صلوات اللّه عليهم أجمعين.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 523

(54) سورة القمر

اشارة

مكّيّة. و هي خمس و خمسون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأ سورة اقتربت الساعة في

كلّ غبّ، بعث يوم القيامة و وجهه على صورة القمر ليلة البدر، و من قرأها كلّ ليلة كان أفضل، و جاء يوم القيامة و وجهه مسفر على وجوه الخلائق».

و

روى يزيد بن خليفة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة اقتربت السّاعة، أخرجه اللّه من قبره على ناقة من نوق الجنّة».

[سورة القمر (54): الآيات 1 الى 8]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ (1) وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ (2) وَ كَذَّبُوا وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ وَ كُلُّ أَمْرٍ مُسْتَقِرٌّ (3) وَ لَقَدْ جاءَهُمْ مِنَ الْأَنْباءِ ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ (4)

حِكْمَةٌ بالِغَةٌ فَما تُغْنِ النُّذُرُ (5) فَتَوَلَّ عَنْهُمْ يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إِلى شَيْ ءٍ نُكُرٍ (6) خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ (7) مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ (8)

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 524

و لمّا ختم اللّه سبحانه تلك السورة بذكر أزوف الآزفة، افتتح هذه السورة بمثله، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ قربت الساعة الّتي يموت فيها جميع الخلائق، يعني: يوم القيامة، فاستعدّوا لها قبل وقوعها وَ انْشَقَّ الْقَمَرُ انشقاق القمر من آيات رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و معجزاته النيّرة، و من علامات دنوّ القيامة.

روي عن ابن عبّاس: «اجتمع المشركون إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالوا: إن كنت صادقا فشقّ لنا القمر فلقتين. فقال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إن فعلت تؤمنون؟ قالوا:

نعم. و كانت ليلة بدر، فسأل عليه السّلام ربّه أن يعطيه ما قالوا، فانشقّ القمر فلقتين و رسول اللّه ينادي: يا فلان يا فلان اشهدوا».

و

قال ابن مسعود: انشقّ القمر على عهد رسول اللّه

صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلقتين، فلقة ذهبت، و فلقة بقيت، فقال لنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اشهدوا اشهدوا.

و روي أيضا عن ابن مسعود أنّه قال: و الّذي نفسي بيده لقد رأيت حراء بين فلقتي القمر.

و عن جبير بن مطعم قال: انشقّ القمر على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى صار فلقتين على هذا الجبل و على هذا الجبل، فقال الناس: سحر محمد. فقال رجل: إن كان سحركم فلم يسحر الناس كلّهم.

و قد روى حديث انشقاق القمر جماعة كثيرة من الصحابة، منهم: عبد اللّه بن مسعود، و أنس بن مالك، و حذيفة بن اليمان، و ابن عمر، و ابن عبّاس، و جبير بن مطعم. و عليه جماعة المفسّرين، إلّا ما روي عن عثمان بن عطاء عن أبيه أنّه قال:

معناه: و سينشقّ القمر. و روي ذلك عن الحسن. و أنكره أيضا البلخي. و هذا لا يصحّ، لأنّ المسلمين أجمعوا على ذلك، فلا يعتدّ بخلاف من خلاف فيه. و لأنّ اشتهاره بين الصحابة يمنع من القول بخلافه.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 525

و إنّما ذكر سبحانه اقتراب الساعة مع انشقاق القمر، لأنّ انشقاقه من علامة نبوّة نبيّنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و نبوّته و زمانه من أشراط اقتراب الساعة.

و عن حذيفة: أنّه خطب بالمدائن ثمّ قال: الا إنّ الساعة قد اقتربت، و إنّ القمر قد انشقّ على عهد نبيّكم.

و أيضا يؤيّد هذا القول قوله: وَ إِنْ يَرَوْا آيَةً معجزة يُعْرِضُوا عن الإيمان بها عنادا و حسدا وَ يَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ دائم مطّرد. و كلّ شي ء قد انقادت طريقته و دامت حاله قيل فيه:

قد استمرّ. و هو يدلّ على أنّهم رأوا قبله آيات اخرى مترادفة و معجزات متتابعة حتّى قالوا ذلك. أو محكم من المرّة. يقال: أمررته فاستمرّ، إذا أحكمته فاستحكم. أو مستبشع مرّ.

وَ كَذَّبُوا بالآية الّتي شاهدوها وَ اتَّبَعُوا أَهْواءَهُمْ و هو ما زيّن لهم الشيطان من ردّ الحقّ بعد ظهوره. و ذكر هما بلفظ الماضي للإشعار بأنّهما من عادتهم القديمة. وَ كُلُّ أَمْرٍ من أمرهم و أمر محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مُسْتَقِرٌّ منته إلى غاية، من خذلان أو نصر في الدنيا، و شقاوة أو سعادة في الآخرة، فإنّ الشي ء إذا انتهى إلى غايته ثبت و استقرّ.

وَ لَقَدْ جاءَهُمْ جاء هؤلاء الكفّار في القرآن مِنَ الْأَنْباءِ أنباء القرون الخالية و إهلاكنا إيّاهم. أو أنباء الآخرة و ما وصف من عذاب الكفّار. ما فِيهِ مُزْدَجَرٌ ازدجار، من تعذيب أو وعيد. أو موضع ازدجار. و المعنى: هو في نفسه موضع للازدجار و مظنّة له، كقوله: لَكُمْ فِي رَسُولِ اللَّهِ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ «1» أي: هو أسوة. و تاء الافتعال تقلب دالا مع الدال و الذال و الزاء للتناسب.

حِكْمَةٌ بالِغَةٌ غايتها، أي: بلغت الغاية و النهاية في الوضوح، لا خلل فيها أصلا. و هي بدل من «ما»، أو خبر لمحذوف. فَما تُغْنِ النُّذُرُ نفي أو استفهام

______________________________

(1) الأحزاب: 21.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 526

إنكار منصوب المحلّ، أي: فأيّ غناء تغني النذر؟ و هو جمع نذير، بمعنى المنذر أو المنذر منه. أو مصدر بمعنى الإنذار.

فَتَوَلَّ عَنْهُمْ أي: أعرض عنهم و لا تقابلهم على سفههم، لعلمك بأنّ الإنذار لا يغني فيهم. و هاهنا وقف تامّ. يَوْمَ يَدْعُ الدَّاعِ إسرافيل أو جبرئيل، كقوله يَوْمَ يُنادِ الْمُنادِ «1». و إسقاط الياء اكتفاء

بالكسرة للتخفيف.

و انتصاب «يوم» ب «يخرجون» أو بإضمار: اذكر. إِلى شَيْ ءٍ نُكُرٍ فظيع تنكره النفوس، لأنّها لم تعهد مثله، و هو هول يوم القيامة. و قرأ ابن كثير: نكر بالتخفيف.

خُشَّعاً أَبْصارُهُمْ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ من قبورهم خاشعا ذليلا أبصارهم من الهول. و خشوع الأبصار كناية عن الذلّة و الانخزال «2»، لأنّ ذلّة الذليل و عزّة العزيز تظهران في عيونهما. و إفراده و تذكيره لأنّ فاعله ظاهر غير حقيقيّ التأنيث.

و قرأ ابن كثير و ابن عامر و نافع و عاصم: خشّعا. و إنّما حسن ذلك، و لا يحسن:

مررت برجال قائمين غلمانهم، لأنّه ليس على صيغة تشبه الفعل. كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ في الكثرة و التموّج و الانتشار في الأمكنة. يقال في الجيش الكثير المائج بعضه في بعض: جاؤا كالجراد و كالدبى «3».

و فيه دلالة على أنّ البعث إنّما يكون لهذه البنية، لأنّها الكائنة في الأجداث، خلافا لمن زعم أنّ البعث يكون للأرواح.

مُهْطِعِينَ إِلَى الدَّاعِ مسرعين مادّي أعناقهم إليه. أو ناظرين قبل الداعي.

و هو حال من قوله: يَقُولُ الْكافِرُونَ هذا يَوْمٌ عَسِرٌ صعب شديد.

______________________________

(1) ق: 41.

(2) أي: الانقطاع و الانكسار.

(3) الدبى: أصغر الجراد. و الواحدة: دباة.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 527

[سورة القمر (54): الآيات 9 الى 16]

كَذَّبَتْ قَبْلَهُمْ قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا وَ قالُوا مَجْنُونٌ وَ ازْدُجِرَ (9) فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ فَانْتَصِرْ (10) فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ بِماءٍ مُنْهَمِرٍ (11) وَ فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً فَالْتَقَى الْماءُ عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ (12) وَ حَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ وَ دُسُرٍ (13)

تَجْرِي بِأَعْيُنِنا جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ (14) وَ لَقَدْ تَرَكْناها آيَةً فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (15) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ (16)

ثمّ هدّد المعاندين المكذّبين بذكر قصص الأنبياء عليهم السّلام و استئصالهم، لفرط عنادهم و تكذيبهم، فقال:

كَذَّبَتْ

قَبْلَهُمْ قبل قومك قَوْمُ نُوحٍ فَكَذَّبُوا عَبْدَنا نوحا. و هو تفصيل بعد إجمال. و قيل: معناه: كذّبوه تكذيبا على عقب تكذيب، كلّما مضى منهم قرن مكذّب تبعه قرن مكذّب. أو كذّبوه بعد ما كذّبوا الرسل. وَ قالُوا مَجْنُونٌ هو مجنون وَ ازْدُجِرَ زجر عن التبليغ بأنواع الأذيّة. و قيل: إنّه من جملة قيلهم، أي:

هو مجنون و قد ازدجرته الجنّ، أي: ذهبت بلبّه و تخبّطته و طارت بقلبه.

فَدَعا رَبَّهُ أَنِّي مَغْلُوبٌ غلبني قومي، فلم يسمعوا منّي، و استحكم اليأس من إجابتهم لي فَانْتَصِرْ فانتقم لي منهم بعذاب تبعثه عليهم. و ذلك بعد يأسه منهم. و قد روي: أنّ الواحد منهم كان يلقاه فيخنقه حتّى يخرّ مغشيّا عليه، فيفيق و هو يقول: اللّهمّ اغفر لقومي فإنّهم لا يعلمون.

ثمّ بيّن سبحانه إجابته لدعاء نوح عليه السّلام، فقال: فَفَتَحْنا أَبْوابَ السَّماءِ هاهنا

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 528

حذف معناه: فاستجبنا لنوح دعاءه، ففتحنا أبواب السماء بِماءٍ مُنْهَمِرٍ أي:

أجرينا من السماء ماء منصبّا في فرط كثرة و تتابع لم ينقطع أربعين يوما، كجريانه بدفع شديد إذا فتح عنه باب كان مانعا له. و قرأ ابن عامر و يعقوب: ففتّحنا بالتشديد، لكثرة الأبواب.

وَ فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً و جعلنا الأرض كلّها كأنّها عيون متفجّرة. و أصله:

و فجّرنا عيون الأرض، فغيّر للمبالغة. فَالْتَقَى الْماءُ ماء السماء و ماء الأرض عَلى أَمْرٍ قَدْ قُدِرَ على حال قدّرها اللّه في الأزل من غير تفاوت. أو على حال قدّرت و سوّيت، و هو أن قدّر ما أنزل من السماء على قدر ما أخرج من الأرض سواء بسواء. أو على أمر قد قدّر في اللوح أنّه يكون، و هو هلاك قوم نوح بالطوفان.

وَ حَمَلْناهُ عَلى ذاتِ أَلْواحٍ ذات أخشاب

عريضة وَ دُسُرٍ و مسامير.

جمع دسار، و هو فعال من: دسره إذا دفعه، فإنّه يدسر به منفذه. و مصدره الدسر، و هو الدفع الشديد. و هي صفة للسفينة أقيمت مقامها، من حيث إنّها كالشرح لها تؤدّي مؤدّاها.

تَجْرِي بِأَعْيُنِنا بمرأى منّا، أي: محفوظة بحفظنا. و منه قولهم: عين اللّه عليك. و قيل: معناه: بأعين أوليائنا و من وكّلناهم بها من الملائكة. و قيل: معناه:

تجري بأعين الماء الّتي انبعناها. جَزاءً لِمَنْ كانَ كُفِرَ أي: فعلنا ذلك جزاء لنوح.

و جعله مكفورا لأنّه نعمة كفروها، فإنّ كلّ نبيّ نعمة من اللّه و رحمة على أمّته.

و يجوز أن يكون على حذف الجارّ و إيصال الفعل إلى الضمير، تقديره: لمن كان كفر به.

وَ لَقَدْ تَرَكْناها أي: السفينة، أو الفعلة آيَةً يعتبر بها، إذ شاع خبرها و اشتهر. و عن قتادة: أبقاها اللّه بأرض الجزيرة- و قيل: على الجوديّ- دهرا طويلا حتّى نظر إليها أوائل هذه الأمّة. فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ معتبر.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 529

فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ استفهام تعظيم و وعيد. و النذر يحتمل المصدر، و جمع نذير، و هو الإنذار.

[سورة القمر (54): الآيات 17 الى 21]

وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (17) كَذَّبَتْ عادٌ فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ (18) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً فِي يَوْمِ نَحْسٍ مُسْتَمِرٍّ (19) تَنْزِعُ النَّاسَ كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ (20) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ (21)

وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ سهّلناه للادّكار و الاتّعاظ، بأن صرفنا فيه أنواع المواعظ و العبر، بأن وشحناه بالمواعظ الشافية و الإنذارات الوافية. أو للحفظ.

و قيل: معناه: و لقد هيّأناه للذكر. من: يسّر ناقته للسفر إذا رحّلها، و يسّر فرسه للغزو إذا أسرجه و ألجمه. فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ متّعظ.

كَذَّبَتْ عادٌ

بالرسول الّذي بعث إليهم، و هو هود، فاستحقّوا الهلاك.

فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ أي: إنذاري لهم بالعذاب قبل نزوله، أو لمن بعدهم في تعذيبه.

ثمّ بيّن كيفيّة إهلاكهم، فقال: إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ رِيحاً صَرْصَراً باردا. من الصرّ، و هو البرد. أو شديد الصوت، من الصرّ. فِي يَوْمِ نَحْسٍ شؤم مُسْتَمِرٍّ استمرّ شؤمه. أو استمرّ عليهم بنحو سته سبع ليال و ثمانية أيّام حتّى أهلكهم. أو على جميعهم، كبيرهم و صغيرهم، فلم يبق منهم أحدا. أو اشتدّ مرارته. و كان يوم الأربعاء في آخر الشهر.

تَنْزِعُ النَّاسَ تقلعهم عن أماكنهم. روي: أنّهم دخلوا في الشعاب و الحفر، و أخذ بعضهم بأيدي بعض ملاصقين، فنزعتهم الريح منها، و أكبّتهم و دقّت رقابهم

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 530

و صرعتهم، فصاروا أمواتا على الأرض جثثا طوالا عظاما. كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ مُنْقَعِرٍ أصول نخل بلا فروع، منقلع عن مغارسه، ساقط على الأرض. و قيل:

شبّهوا بالأعجاز، لأنّ الريح طيّرت رؤوسهم و طرحت أجسادهم بلا رؤوس.

و تذكير منقعر للحمل على اللفظ. و التأنيث في قوله: أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ «1» للمعنى.

فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ كرّره للتهويل. و قيل: الأوّل لما حاق بهم في الدنيا، و الثاني لما يحيق بهم في الآخرة، كما قال أيضا في قصّتهم: لِنُذِيقَهُمْ عَذابَ الْخِزْيِ فِي الْحَياةِ الدُّنْيا وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَخْزى «2».

[سورة القمر (54): الآيات 22 الى 31]

وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (22) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ (23) فَقالُوا أَ بَشَراً مِنَّا واحِداً نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ (24) أَ أُلْقِيَ الذِّكْرُ عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ (25) سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ (26)

إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ فِتْنَةً لَهُمْ فَارْتَقِبْهُمْ وَ اصْطَبِرْ (27) وَ نَبِّئْهُمْ أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ

كُلُّ شِرْبٍ مُحْتَضَرٌ (28) فَنادَوْا صاحِبَهُمْ فَتَعاطى فَعَقَرَ (29) فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ (30) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ (31)

______________________________

(1) الحاقّة: 7.

(2) فصّلت: 16.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 531

وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ* كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِالنُّذُرِ بالإنذارات و المواعظ الّتي جاءهم بها صالح. أو بالرسل المنذرين بسبب تكذيبهم صالحا، لأنّ تكذيب واحد من الرسل كتكذيب الجميع، لأنّهم متّفقون في الدعاء إلى التوحيد و إن اختلفوا في الشرائع.

فَقالُوا أَ بَشَراً مِنَّا من جنسنا، أو من جملتنا، لا فضل له علينا. و انتصابه بفعل يفسّره ما بعده. واحِداً منفردا لا تبع له. أو من آحادهم دون أشرافهم.

نَتَّبِعُهُ إِنَّا إِذاً لَفِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ جمع سعير. كأنّهم عكسوا عليه، فرتّبوا على اتّباعهم إيّاه ما رتّبه على ترك اتّباعهم له. و قيل: السعر الجنون. و منه: ناقة مسعورة.

أَ أُلْقِيَ الذِّكْرُ الكتاب، أو الوحي عَلَيْهِ مِنْ بَيْنِنا هذا استفهام إنكار و جحود، أي: كيف ألقي الوحي عليه و خصّ بالنبوّة و فينا من هو أحقّ منه بالاختيار للنبوّة؟! بَلْ هُوَ كَذَّابٌ أَشِرٌ بطر متكبّر، حمله بطره على الترفّع و التعظّم علينا بادّعاء ذلك.

ثمّ قال سبحانه وعيدا لهم: سَيَعْلَمُونَ غَداً أي: عند نزول العذاب بهم، أو يوم القيامة. و إنّما قال: «غدا» على وجه التقريب، على عادة الناس في ذكرهم الغد و إرادتهم العاقبة، فقالوا: إنّ مع اليوم غدا. مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ الّذي حمله أشره على الاستكبار عن الحقّ و طلب الباطل، أصالح عليه السّلام أم من كذّبه؟! و قرأ ابن عامر و حمزة و رويس: ستعلمون، على الالتفات، أو حكاية ما أجابهم به صالح.

إِنَّا مُرْسِلُوا النَّاقَةِ مخرجوها و باعثوها معجزة لصالح. و هاهنا حذف،

و هو أنّهم تعنّتوا على صالح عليه السّلام، فسألوه أن يخرج لهم من صخرة ناقة حمراء عشراء «1»، تضع ثم ترد ماءهم فتشربه ثمّ تعود عليهم بمثله لبنا. فقال سبحانه: إنّا

______________________________

(1) العشراء: الناقة الّتي مضى لحملها عشرة أشهر، و هي كالنفساء من النساء.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 532

مرسلوا الناقة كما سألوها فِتْنَةً لَهُمْ امتحانا لهم فَارْتَقِبْهُمْ فانتظر أمر اللّه فيهم، و تبصّر ما هم صانعون وَ اصْطَبِرْ على أذاهم حتّى يأتيك أمري.

وَ نَبِّئْهُمْ و أخبرهم أَنَّ الْماءَ قِسْمَةٌ بَيْنَهُمْ مقسوم لها شرب يوم، و لهم شرب يوم. و إنّما قال: «بينهم» لتغليب العقلاء. كُلُّ شِرْبٍ نصيب من الماء مُحْتَضَرٌ محضور لهم، أو للناقة. ففي يوم الناقة تحضره الناقة، و في يومهم يحضرونه. و قيل: يحضرون الماء في نوبتهم، و اللبن في نوبتها.

فَنادَوْا صاحِبَهُمْ أي: دبّروا في أمر الناقة بالقتل، فدعوا واحدا من أشرارهم، و هو: قدار بن سالف أحيمر ثمود فَتَعاطى فاجترأ على تعاطي الأمر العظيم غير مكترث له فَعَقَرَ فأحدث العقر بالناقة فقتلها. و قيل: فتعاطى السيف فقتلها. و التعاطي تناول الشي ء بتكلّف.

فَكَيْفَ كانَ عَذابِي وَ نُذُرِ أي: فانظر كيف كان عذابي لهم و إنذاري إيّاهم.

إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ صَيْحَةً واحِدَةً يعني: صيحة جبرئيل فَكانُوا كَهَشِيمِ الْمُحْتَظِرِ كالحشيش أو الشجر اليابس المتهشّم المتكسّر، الّذي يجمعه صاحب الحظيرة لماشيته في الشتاء. و الحظيرة: هي الّتي يتّخذها المحتظر- أي: صاحبها- لغنمه تمنعها من برد الريح. و المعنى: أنّهم بادوا و هلكوا، فصاروا كيبيس الشجر المتفتّت إذا تحطّم.

[سورة القمر (54): الآيات 32 الى 40]

وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (32) كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ (33) إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً إِلاَّ آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ (34) نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ

(35) وَ لَقَدْ أَنْذَرَهُمْ بَطْشَتَنا فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ (36)

وَ لَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فَذُوقُوا عَذابِي وَ نُذُرِ (37) وَ لَقَدْ صَبَّحَهُمْ بُكْرَةً عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ (38) فَذُوقُوا عَذابِي وَ نُذُرِ (39) وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (40)

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 533

وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ كَذَّبَتْ قَوْمُ لُوطٍ بِالنُّذُرِ بالإنذار، أو بالرسل إِنَّا أَرْسَلْنا عَلَيْهِمْ حاصِباً ريحا تحصبهم بالحجارة، أي: ترميهم إِلَّا آلَ لُوطٍ نَجَّيْناهُمْ بِسَحَرٍ في سحر، و هو آخر الليل. أو مسحرين. نِعْمَةً مِنْ عِنْدِنا إنعاما منّا. و هو علّة ل «نجّينا». كَذلِكَ نَجْزِي مَنْ شَكَرَ نعمتنا بالإيمان و الطاعة.

وَ لَقَدْ أَنْذَرَهُمْ لوط بَطْشَتَنا أخذتنا بالعذاب فَتَمارَوْا بِالنُّذُرِ فكذّبوا بالنذر متشاكّين. من المرية. أو فتدافعوا بالإنذار على وجه الجدال بالباطل.

وَ لَقَدْ راوَدُوهُ عَنْ ضَيْفِهِ طلبوا منه أن يسلّم إليهم أضيافه ليقصدوا الفجور بهم فَطَمَسْنا أَعْيُنَهُمْ فمسحناها و سوّيناها بسائر الوجه، لا يرى لها أثر عين.

روي: أنّهم لمّا عالجوا باب لوط ليدخلوا قالت الملائكة: خلّهم يدخلوا إنّا رسل ربّك، لن يصلوا إليك. فصفقهم فأعماهم، فتركهم يتردّدون لا يهتدون إلى الباب حتّى أخرجهم لوط. فَذُوقُوا عَذابِي وَ نُذُرِ فقلنا لهم: ذوقوا، على ألسنة الملائكة.

وَ لَقَدْ صَبَّحَهُمْ أتاهم في الصباح بُكْرَةً أوّل النهار و باكره، كقوله:

مشرقين و مصبحين عَذابٌ مُسْتَقِرٌّ ثابت قد استقرّ عليهم إلى أن يفضي بهم إلى عذاب الآخرة.

فَذُوقُوا عَذابِي وَ نُذُرِ وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ كرّر ذلك في كلّ قصّة إشعارا بأن تكذيب كلّ رسول مقتض لنزول العذاب، و استماع كلّ قصّة مستدع للادّكار و الاتّعاظ. و استئنافا للتنبيه و الاتّعاظ، لئلّا يغلبهم السهو، و لا تستولي عليهم الغفلة، لتكون تلك العبر حاضرة

للقلوب في كلّ زمان، مصوّرة

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 534

للأذهان، مذكورة من غير نسيان في كلّ أوان. و هكذا تكرير قوله: فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ عند كلّ نعمة عدّها في سورة الرحمن. و وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ عند كلّ آية أوردها في سورة المرسلات، و نحو ذلك.

[سورة القمر (54): الآيات 41 الى 42]

وَ لَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ (41) كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ مُقْتَدِرٍ (42)

وَ لَقَدْ جاءَ آلَ فِرْعَوْنَ النُّذُرُ الإنذارات، أو المنذرون. و هم: موسى و هارون و غيرهما من الأنبياء، لأنّهما عرضا عليهم ما أنذر به المرسلون. و اكتفى بذكر آل فرعون عن ذكره، للعلم بأنّه أولى بذلك منهم.

كَذَّبُوا بِآياتِنا كُلِّها يعني: الآيات التسع فَأَخَذْناهُمْ أَخْذَ عَزِيزٍ لا يغالب مُقْتَدِرٍ لا يعجزه شي ء.

[سورة القمر (54): الآيات 43 الى 46]

أَ كُفَّارُكُمْ خَيْرٌ مِنْ أُولئِكُمْ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ (43) أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ مُنْتَصِرٌ (44) سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ (45) بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ وَ السَّاعَةُ أَدْهى وَ أَمَرُّ (46)

ثمّ خوّف سبحانه كفّار مكّة، فقال: أَ كُفَّارُكُمْ يا معشر العرب خَيْرٌ أشدّ و أقوى في أسباب الدنيا مِنْ أُولئِكُمْ الكفّار، المعدودين من قوم نوح و هود و صالح و لوط و آل فرعون، أي: أهم خير قوّة وعدّة، أو مكانة في الدنيا، أو أقلّ كفرا و عنادا؟ و الاستفهام للإنكار. و المعنى: لستم مثل أولئك، لا في القوّة، و لا في الثروة، و لا في كثرة العدد و العدّة. فإذا هلك أولئك الكفّار فما الّذي يؤمنكم أن ينزل

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 535

بكم ما نزل بهم؟ أَمْ لَكُمْ بَراءَةٌ فِي الزُّبُرِ أم أنزلت عليكم يا أهل مكّة براءة في الكتب السماويّة، أنّ من كفر منكم و كذّب الرسل فهو في أمان من العذاب، فأمنتم بتلك البراءة؟

أَمْ يَقُولُونَ نَحْنُ جَمِيعٌ جماعة، أمرنا مجتمع مُنْتَصِرٌ ممتنع، لا نرام و لا نضام. أو منتصر من الأعداء لا نغلب. أو متناصر ينصر بعضنا بعضا. و التوحيد على لفظ الجميع. و روي: أنّ أبا جهل ضرب فرسه يوم بدر، فتقدّم في الصفّ و

قال:

نحن ننتصر اليوم من محمد و أصحابه.

سَيُهْزَمُ الْجَمْعُ أي: جميع كفّار مكّة وَ يُوَلُّونَ الدُّبُرَ أي: الأدبار.

و إفراده لإرادة الجنس، أو لأنّ كلّ واحد يولّي دبره. و قد وقع ذلك يوم بدر، و هو من دلائل النبوّة.

و

عن عكرمة: لمّا نزلت هذه الآية قال عمر: لم أعلم ما هو، فلمّا كان يوم بدر رأيت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يلبس الدرع و يقول: «سيهزم الجمع» فعلمته.

بَلِ السَّاعَةُ مَوْعِدُهُمْ موعد عذابهم الأصليّ، و ما يحيق بهم في الدنيا فمن طلائعه وَ السَّاعَةُ أَدْهى أشدّ و أفظع. و الداهية أمر فظيع لا يهتدى لدوائه.

وَ أَمَرُّ مذاقا من الهزيمة و القتل و الأسر، و غير ذلك من عذاب الدنيا.

[سورة القمر (54): الآيات 47 الى 55]

إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ (47) يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ (48) إِنَّا كُلَّ شَيْ ءٍ خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ (49) وَ ما أَمْرُنا إِلاَّ واحِدَةٌ كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ (50) وَ لَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ (51)

وَ كُلُّ شَيْ ءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ (52) وَ كُلُّ صَغِيرٍ وَ كَبِيرٍ مُسْتَطَرٌ (53) إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَهَرٍ (54) فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ (55)

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 536

ثمّ بيّن سبحانه حال القيامة، فقال: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ عن الحقّ في الدنيا وَ سُعُرٍ و نيران في الآخرة.

يَوْمَ يُسْحَبُونَ فِي النَّارِ عَلى وُجُوهِهِمْ يجرّون عليها، يقال لهم: ذُوقُوا مَسَّ سَقَرَ حرّ النار و ألمها، فإنّ مسّها سبب التألّم بها، كقولك: وجد مسّ الحمى، و ذاق طعم الضرب، إذا تأذّى و تألّم منهما. و سقر: علم لجهنّم. و عدم صرفها للعلميّة و التأنيث. و أصل السقر: التلويح، من: سقرته النار و صقرته إذا لوّحته.

إِنَّا كُلَّ شَيْ ءٍ

خَلَقْناهُ بِقَدَرٍ خلقنا كلّ شي ء مقدّرا بمقدار على مقتضى الحكمة. أو مقدّرا مكتوبا في اللوح قبل وقوعه.

و عن الحسن: على قدر معلوم. فخلقنا اللسان للكلام، و اليد للبطش، و الرجل للمشي، و العين للنظر، و الأذن للسماع، و المعدة للطعام. و لو زاد أو نقص عمّا قدّرناه لما تمّ الغرض.

و قيل: معناه: جعلنا لكلّ شي ء شكلا يوافقه و يصلح له، كالمرأة للرجل، و الأتان للحمار، و ثياب الرجال للرجال، و ثياب النساء للنساء.

و «كلّ شي ء» منصوب بفعل يفسّره ما بعده. و اختيار النصب هاهنا مع الإضمار، لما فيه من النصوصيّة على المقصود.

وَ ما أَمْرُنا إِلَّا واحِدَةٌ إلّا كلمة واحدة سريعة التكوين. و هو قوله: «كن» عند إرادة إيجاد شي ء بلا تأخير. كَلَمْحٍ بِالْبَصَرِ في اليسر و السرعة. و المعنى:

إذا أراد تكوين شي ء لم يلبث كونه إلّا فعلة واحدة. و هو الإيجاد بلا معالجة

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 537

و معاناة. و قيل: معناه معنى قوله: وَ ما أَمْرُ السَّاعَةِ إِلَّا كَلَمْحِ الْبَصَرِ «1».

وَ لَقَدْ أَهْلَكْنا أَشْياعَكُمْ أشباهكم في الكفر ممّن قبلكم. و سمّاهم أشياعهم لما وافقوهم في الكفر و تكذيب الأنبياء. فَهَلْ مِنْ مُدَّكِرٍ متّعظ.

وَ كُلُّ شَيْ ءٍ فَعَلُوهُ فِي الزُّبُرِ مكتوب في كتب الحفظة و دواوينهم.

وَ كُلُّ صَغِيرٍ وَ كَبِيرٍ من الأعمال و الأرزاق و الآجال و الموت و الحياة و غيرها ممّا هو كائن مُسْتَطَرٌ مسطور في اللوح.

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي جَنَّاتٍ وَ نَهَرٍ أنهار الجنّة، من الماء و الخمر و اللبن و العسل.

و اكتفى باسم الجنس. و قيل: هو السعة و الضياء، من النهار.

فِي مَقْعَدِ صِدْقٍ في مكان مرضيّ. و سمّي صدقا، لأنّ اللّه صدق وعد أوليائه فيه. عِنْدَ مَلِيكٍ مُقْتَدِرٍ مقرّبين عند من تعالى أمره

في الملك و الاقتدار، فلا شي ء إلّا و هو تحت ملكه و قدرته. فأيّ منزلة أكرم من تلك المنزلة، و أجمع للغبطة كلّها و السعادة بأسرها؟ و ليس المراد قرب المكان، لتعاليه سبحانه عن ذلك، بل المراد أنّهم في كنفه و جوار رحمته و كفايته، حيث تنالهم غواشي رحمته و فضله.

______________________________

(1) النحل: 77.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 539

(55) سورة الرّحمن

اشارة

مكّيّة. و هي ثمان و سبعون آية.

أبيّ بن كعب قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من قرأ سورة الرحمن رحم اللّه ضعفه، و أدّى شكر ما أنعم اللّه عليه».

و

روي عن موسى بن جعفر، عن آبائه عليهم السّلام، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «لكلّ شي ء عروس، و عروس القرآن سورة الرحمن جلّ ذكره».

أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا تدعوا قراءة الرحمن و القيام بها، فإنّها لا تقرّ في قلوب المنافقين. و تأتي ربّها يوم القيامة في صورة آدميّ في أحسن صورة و أطيب ريح، حتّى تقف من اللّه موقفا لا يكون أحد أقرب إلى اللّه منها.

فيقول لها: من الّذي كان يقوم بك في الحياة الدنيا و يدمن قراءتك؟ فتقول: يا ربّ فلان و فلان. فتبيضّ وجوههم. فيقول لهم: اشفعوا فيمن أحببتم. فيشفعون حتّى لا يبقى لهم غاية و لا أحد يشفعون له. فيقول لهم: ادخلوا الجنّة و اسكنوا فيها حيث شئتم».

حمّاد بن عثمان قال: «قال الصادق عليه السّلام: يجب أن يقرأ الرجل سورة الرحمن يوم الجمعة، فكلّما قرأ «فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ» قال: لا بشي ء من آلائك يا ربّ أكذّب».

و

عنه عليه السّلام قال: «و من قرأ سورة الرحمن ليلا، يقول عند كلّ «فَبِأَيِّ آلاءِ

زبدة التفاسير،

ج 6، ص: 540

رَبِّكُما تُكَذِّبانِ»: لا بشي ء من آلائك يا ربّ أكذّب، و كلّ اللّه به ملكا إن قرأها في أوّل الليل يحفظه حتّى يصبح، و إن قرأها حين يصبح و كّل اللّه به ملكا يحفظه حتّى يمسي».

[سورة الرحمن (55): الآيات 1 الى 13]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الرَّحْمنُ (1) عَلَّمَ الْقُرْآنَ (2) خَلَقَ الْإِنْسانَ (3) عَلَّمَهُ الْبَيانَ (4)

الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ بِحُسْبانٍ (5) وَ النَّجْمُ وَ الشَّجَرُ يَسْجُدانِ (6) وَ السَّماءَ رَفَعَها وَ وَضَعَ الْمِيزانَ (7) أَلاَّ تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ (8) وَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ وَ لا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ (9)

وَ الْأَرْضَ وَضَعَها لِلْأَنامِ (10) فِيها فاكِهَةٌ وَ النَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ (11) وَ الْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ وَ الرَّيْحانُ (12) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (13)

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة القمر باسمه، افتتح هذه السورة أيضا باسمه، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* الرَّحْمنُ* عَلَّمَ الْقُرْآنَ لمّا كانت هذه السورة مقصورة على تعداد النعم الدنيويّة و الأخرويّة، صدّرها بالرحمن. ثمّ أراد أن يقدّم أوّل شي ء ما هو أسبق قدما من ضروب آلائه و أصناف نعمائه، و هي نعمة الدين، فقدّم من نعمة الدين ما هو في أعلى مراتبها و أقصى رواتبها، و هو إنعامه بالقرآن و تنزيله و تعليمه، لأنّه أعظم وحي اللّه رتبة، و أعلاه منزلة، و أحسنه في أبواب الدين

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 541

أثرا، و أعزّ الكتب السماويّة حكما، إذ هو بإعجازه و اشتماله على خلاصتها مصدّق لنفسه و مصداق لها.

ثمّ أتبعه قوله: خَلَقَ الْإِنْسانَ* عَلَّمَهُ الْبَيانَ إيماء بأنّ الغرض من خلق البشر، و ما يميّز به عن سائر الحيوان من البيان، و هو المنطق الفصيح المعرب عمّا في الضمير، هو معرفة اللّه سبحانه، و العلم بالشرعيّات، و العمل بمقتضاها، و إفهام الغير

بها، كما تقول: زيد أغناك بعد فقر، أعزّك بعد ذلّ، كثّرك بعد قلّة، فعل بك ما لم يفعل أحد بأحد، فما تنكر من إحسانه؟

و عن ابن عبّاس: المراد بالإنسان آدم. و تعليم البيان تعليم أسماء كلّ شي ء و اللغات كلّها.

و عن ابن كيسان: الإنسان محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، علّمه القرآن و البيان.

الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ بِحُسْبانٍ يجريان بحساب معلوم مقدّر في بروجهما و منازلهما، و تتّسق بذلك أمور الكائنات السفليّة، و تختلف الفصول و الأوقات، و يعلم السنون و الحساب، و غير ذلك من المنافع العظيمة للناس، من الضياء و النور، و معرفة الليل و النهار، و نضج الثمار، و نظائرها. و لكثرة منافعهما خصّهما بالذكر.

وَ النَّجْمُ و النبات الّذي ينجم، أي: يطلع من الأرض و لا ساق له، كالبقول وَ الشَّجَرُ و الّذي له ساق يَسْجُدانِ ينقادان للّه فيما خلقا له طبعا، انقياد الساجد من المكلّفين طوعا.

و كان حقّ النظم في الجملتين أن يقال: و أجرى الشمس و القمر، و أسجد النجم و الشجر، أو الشمس و القمر بحسبانه، و النجم و الشجر يسجدان له، ليطابقا ما قبلهما و ما بعدهما في اتّصالهما بالرحمن، لكنّهما جرّدتا عمّا يدلّ على الاتّصال إشعارا بأنّ وضوحه يغنيه عن البيان.

و إدخال العاطف بينهما للتناسب بينهما، و هو أنّ الشمس و القمر سماويّان،

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 542

و النجم و الشجر أرضيّان، فبين القبيلين تناسب من حيث التقابل. و أنّ السماء و الأرض لا تزالان تذكران قرينتين. و أنّ جري الشمس و القمر بحسبان من جنس الانقياد لأمر اللّه، فهو مناسب لسجود النجم و الشجر، لاشتراكهما في الدلالة على أنّ ما يحسّ به من تغيّرات أحوال الأجرام

العلويّة و السفليّة بتقديره و تدبيره.

و عن مجاهد: أراد: أنّ نجم السماء- و هو موحّد، و المراد به جميع النجوم- و الشجر يسجدان للّه بكرة و أصيلا، كما قال: وَ الشَّجَرُ وَ الدَّوَابُ «1».

و قيل: سجودهما سجود ظلالهما، كقوله: يَتَفَيَّؤُا ظِلالُهُ عَنِ الْيَمِينِ وَ الشَّمائِلِ سُجَّداً لِلَّهِ «2». و المعنى: أنّ كلّ جسم له ظلّ فهو يقتضي الخضوع، بما فيه من دليل الحدوث و إثبات المحدث المدبّر.

وَ السَّماءَ رَفَعَها خلقها مرفوعة محلّا و مرتبة، حيث جعلها منشأ أقضيته، و منزل أحكامه، و محلّ ملائكته الّذين يهبطون بالوحي على أنبيائه. و نبّه بذلك على كبرياء شأنه، و تعالي ملكه، و عظمة سلطانه.

وَ وَضَعَ الْمِيزانَ العدل، و هو الإنصاف و الانتصاف، بأن وفّر على كلّ مستعدّ مستحقّه، و وفّى كلّ ذي حقّ حقّه، حتّى انتظم أمر العالم و استقام، كما

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «بالعدل قامت السماوات و الأرض».

أو ما يعرف به مقادير الأشياء، من ميزان و مكيال و مقياس و نحوها. فعلّق به أحكام عباده و قضاياهم و ما تعبّدهم به، من التسوية و التعديل في أخذهم و إعطائهم. كأنّه لمّا وصف السماء بالرفعة من حيث إنّها مصدر القضايا و الأقدار، أراد وصف الأرض بما فيها، ممّا يظهر به التفاوت، و يعرف به المقدار، و يستوي به الحقوق و المواجب.

أَلَّا تَطْغَوْا فِي الْمِيزانِ لئلّا تطغوا فيه، أي: لا تعتدوا، و لا تجاوزوا

______________________________

(1) الحجّ: 18.

(2) النحل: 48.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 543

الإنصاف.

وَ أَقِيمُوا الْوَزْنَ بِالْقِسْطِ و قوّموا وزنكم بالعدل وَ لا تُخْسِرُوا الْمِيزانَ و لا تنقصوه، فإنّ من حقّه أن يسوّى، لأنّه المقصود من وضعه. و تكريره مبالغة في التوصية به، و زيادة حثّ على

استعماله.

ثمّ قابل قوله: «وَ السَّماءَ رَفَعَها» بقوله: وَ الْأَرْضَ وَضَعَها خفضها مدحوّة على الماء لِلْأَنامِ للخلق. و هو كلّ ما على ظهر الأرض من دابّة. و عن الحسن:

الجنّ و الإنس. و قيل: الأنام كلّ ذي روح. فهي كالمهاد لهم يتصرّفون فوقها.

فِيها فاكِهَةٌ ضروب ممّا يتفكّه به وَ النَّخْلُ ذاتُ الْأَكْمامِ أوعية التمر.

جمع كمّ بكسر الكاف. أو كلّ ما يكمّ- أي: يغطّى- من لف و سعف و كفرّى «1»، أوّل ما يبدأ من التمر، فإنّه ينتفع به كما ينتفع بالمكموم من ثمره و جمّاره «2» و جذوعه.

وَ الْحَبُّ ذُو الْعَصْفِ كالحنطة و الشعير و سائر ما يتغذّى به. و العصف ورق النبات اليابس، كالتبن. وَ الرَّيْحانُ يعني: المشموم. أو الرزق، من قولهم:

خرجت أطلب ريحان اللّه، أي: رزق اللّه. أراد: أن فيها ما يتلذّذ به من الفواكه، و الجامع بين التلذّذ و التغذّي و هو ثمر النخل، و ما يتغذّى به و هو الحبّ.

و قرأ ابن عامر: و الحبّ ذا العصف و الريحان، أي: و خلق الحبّ و خلق الريحان، أو و أخصّ الحبّ و الريحان. و يجوز أن يراد: و ذا الريحان، فحذف المضاف.

و قرأ حمزة و الكسائي: و الرّيحان بالخفض، و ما عدا ذلك بالرفع. و هو فيعلان من الروح، فقلبت الواو و أدغم ثمّ حذف. و قيل: روحان، فقلبت واوه ياء للتخفيف.

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ لأنّها كلّها منعم عليكم بها. و الخطاب للثقلين

______________________________

(1) الكفرّى: وعاء طلع النخل.

(2) الجمّار: شحم النخلة.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 544

المدلول عليهما بقوله: «للأنام» و بقوله: سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ «1». و المعنى: أنّه لا يمكن جحد شي ء من هذه النعم. و وجه تكرار هذه الآية قد مرّ في سورة

«2» القمر.

[سورة الرحمن (55): الآيات 14 الى 18]

خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ صَلْصالٍ كَالْفَخَّارِ (14) وَ خَلَقَ الْجَانَّ مِنْ مارِجٍ مِنْ نارٍ (15) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (16) رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَ رَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ (17) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (18)

خَلَقَ الْإِنْسانَ يعني: آدم، أو جميع البشر، لأنّ أصلهم آدم عليه السّلام مِنْ صَلْصالٍ من طين يابس له صلصلة، أي: صوت إذا ضربت يدك عليه كَالْفَخَّارِ كالخزف و الآجرّ. و قد خلق اللّه آدم من تراب، بأن جعله طينا، ثمّ حمأ مسنونا، ثمّ صلصالا. فلا يخالف قوله: خَلَقَهُ مِنْ تُرابٍ «3» حَمَإٍ مَسْنُونٍ «4» مِنْ طِينٍ لازِبٍ «5».

وَ خَلَقَ الْجَانَ أبا الجنّ. و قيل: هو إبليس، أو جنس الجنّ. مِنْ مارِجٍ من لهب صاف من الدخان. و قيل: مختلط أحمر و أسود و أبيض. مِنْ نارٍ بيان ل «مارج» فإنّه في الأصل للمضطرب، من: مرج إذا اضطرب. كأنّه قيل: من صاف من نار.

______________________________

(1) الرحمن: 31.

(2) راجع ص 533، ذيل الآية 32.

(3) آل عمران: 59.

(4) الحجر: 26.

(5) الصافّات: 11.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 545

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ممّا أفاض عليكما في أطوار خلقتكما، حتّى صيّركما أفضل المركّبات و خلاصة الكائنات.

رَبُّ الْمَشْرِقَيْنِ وَ رَبُّ الْمَغْرِبَيْنِ مشرقي الشتاء و الصيف و مغربيهما. و قيل:

مشرقي الشمس و القمر و مغربيهما.

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ممّا في ذلك من الفوائد الّتي لا تحصى، كاعتدال الهواء، و اختلاف الفصول، و حدوث ما يناسب كلّ فصل فيه، إلى غير ذلك.

[سورة الرحمن (55): الآيات 19 الى 25]

مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ يَلْتَقِيانِ (19) بَيْنَهُما بَرْزَخٌ لا يَبْغِيانِ (20) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (21) يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ (22) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (23)

وَ لَهُ الْجَوارِ الْمُنْشَآتُ فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ (24) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (25)

مَرَجَ الْبَحْرَيْنِ أرسلهما. من: مرجت الدابّة إذا أرسلتها. و

المعنى: أرسل البحر الملح و البحر العذب. يَلْتَقِيانِ متلاقيين، لا فصل بين الماءين في مرأى العين.

بَيْنَهُما بَرْزَخٌ حاجز من قدرة اللّه لا يَبْغِيانِ لا يبغي أحدهما على الآخر بالممازجة و إبطال الخاصّيّة. أو لا يتجاوزان حدّيهما بإغراق ما بينهما. قيل:

إنّهما بحر فارس و بحر الروم.

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ حيث خلق البحرين العذب و المالح يلتقيان بحيث لا يختلطان.

يَخْرُجُ و قرأ نافع و أبو عمرو و يعقوب: يخرج مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 546

كبار الدرّ و صغاره. و قيل: المرجان الخرز الأحمر، و هو البسّذ «1». و إن صحّ أنّ الدرّ يخرج من الملح، فإنّما قال: «منهما» لأنّه لمّا التقيا و صارا كالشي ء الواحد جاز أن يقال: يخرجان منهما، كما يقال: يخرجان من البحر، و لا يخرجان من جميع البحر، و لكن من بعضه. و تقول: خرجت من البلد. و إنّما خرجت من محلّة من محالّه، بل من دار واحدة من دوره.

و قيل: لا يخرجان إلّا من ملتقى الملح و العذب. فيكون العذب كاللقاح للملح، و لا يخرج اللؤلؤ إلّا من الموضع الّذي يلتقي فيه الملح و العذب، و ذلك معروف عند الغوّاصين.

و مثله قوله: وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً «2» و إنّما هو في واحدة منهنّ. و قوله:

يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ أَ لَمْ يَأْتِكُمْ رُسُلٌ مِنْكُمْ «3». و الرسل من الإنس دون الجنّ.

و عن ابن عبّاس: يخرج من ماء السماء و ماء البحر، فإنّ القطر إذا جاء من السماء تفتّحت الأصداف، فكان من ذلك القطر اللؤلؤ.

و

روي عن سلمان الفارسي و سعيد بن جبير و سفيان الثوري: أنّ «البحرين» عليّ و فاطمة. «بَيْنَهُما بَرْزَخٌ» محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

«يَخْرُجُ مِنْهُمَا اللُّؤْلُؤُ وَ الْمَرْجانُ» الحسن و الحسين عليهما السّلام.

و لا غرو أن يكونا عليهما السّلام بحرين، لسعة فضلهما، و كثرة خيرهما، فإنّ البحر إنّما يسمّى بحرا لسعته، و قد قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لفرس ركبه و أجراه فأحمده: «وجدته بحرا» أي: كثير المعاني الحميدة.

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ممّا أعطاكم من ألبسة الجواهر الحسنة

______________________________

(1) البسّذ كسكّر: المرجان. معرّب. الصحاح 1: 351.

(2) نوح: 16.

(3) الأنعام: 130.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 547

لتتزيّنوا بها.

وَ لَهُ الْجَوارِ السفن الجارية في الماء بأمر اللّه الْمُنْشَآتُ المرفوعات الشرع، أو المصنوعات. و قرأ حمزة و أبو بكر بكسر الشين، أي: الرافعات الشرع، أو اللاتي ينشئن الأمواج بجريهنّ، أو ينشئن السير. فِي الْبَحْرِ كَالْأَعْلامِ كالجبال.

جمع علم، و هو الجبل الطويل.

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ من خلق موادّ السفن، و الإرشاد إلى أخذها، و كيفيّة تركيبها و إجرائها في البحر، بأسباب لا يقدر على خلقها و جمعها غيره.

[سورة الرحمن (55): الآيات 26 الى 30]

كُلُّ مَنْ عَلَيْها فانٍ (26) وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذُو الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ (27) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (28) يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ (29) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (30)

كُلُّ مَنْ عَلَيْها على الأرض من الحيوانات أو المركّبات. و «من» للتغليب.

و لم يذكر مرجع الضمير لكونه معلوما، كقولهم: ما بين لابتيها، أي: لابتي المدينة.

فانٍ يفنون و يخرجون من الوجود. و التوحيد باعتبار لفظة «كلّ».

وَ يَبْقى وَجْهُ رَبِّكَ ذاته. و الوجه يعبّر به عن الجملة و الذات، باعتبار أنّ ذات الشي ء يعرف بوجهه. و مساكين مكّة يقولون: أين وجه عربيّ كريم ينقذني من الهوان؟ ذُو الْجَلالِ ذو العظمة و الكبرياء بحيث لا يحيط بكنهه ما سواه. أو ذو

الاستغناء المطلق. أو الّذي يجلّه الموحّدون عن التشبيه بخلقه، و عن أفعالهم. أو الّذي يقال له: ما أجّلك. وَ الْإِكْرامِ ذو الفضل العامّ. أو الّذي يقال له: ما أكرمك.

و قيل: معنى جلاله و إكرامه: من عنده الجلال و الإكرام للمخلصين من أنبيائه

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 548

و أوليائه بألطافه و إفضاله، مع كمال جلاله و عظمته. و هذه الصفة من أعظم صفات اللّه. و

لقد قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ألظّوا- يعني: الزموا- ب «يا ذا الجلال و الإكرام».

و

عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم «أنّه مرّ برجل و هو يصلّي و يقول: يا ذا الجلال و الإكرام. فقال: قد استجيب لك».

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي: من بقاء الربّ، و إبقاء ما لا يحصى ممّا هو على صدد الفناء رحمة و فضلا. أو ممّا يترتّب على فناء الكلّ، من الإعادة و الحياة الدائمة و النعيم المقيم.

يَسْئَلُهُ مَنْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فإنّهم مفتقرون إليه في ذواتهم و صفاتهم و سائر ما يهمّهم و يعنّ لهم. فيسأله أهل السماوات ما يتعلّق بدينهم، و أهل الأرض ما يتعلّق بدينهم و دنياهم. و المراد بالسؤال ما يدلّ على الحاجة إلى تحصيل الشي ء، نطقا كان أو غيره. كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ كلّ وقت و حين يحدث أشخاصا و يجدّد أحوالا، على ما سبق به قضاؤه، كما

روي عن أبي الدرداء: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تلاها، فقيل له: و ما ذلك الشأن؟ فقال: من شأنه أن يغفر ذنبا، و يفرّج كربا، و يرفع قوما، و يضع آخرين».

و عن ابن عبّاس قال: إنّ ممّا خلق اللّه تعالى لوحا من درّة

بيضاء، دواته ياقوتة حمراء، قلمه نور، و كتابه نور، ينظر اللّه فيه كلّ يوم ثلاثمائة و ستّين نظرة، يخلق و يرزق، و يحيي و يميت، و يعزّ و يذلّ، و يفعل ما يشاء، فذلك قوله: «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ».

و قيل: شأنه جلّ ذكره أن يخرج في كلّ يوم و ليلة ثلاثة عساكر: عسكرا من أصلاب الآباء إلى الأرحام، و عسكرا من الأرحام إلى الدنيا، و عسكرا من الدنيا إلى القبر، ثمّ يرتحلون جميعا إلى اللّه.

و قيل: شأنه إيصال المنافع إليك، و دفع المضارّ عنك، فلا تغفل عن طاعة من

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 549

لا يغفل عن برّك.

و عن ابن عيينة: الدهر عند اللّه يومان، أحدهما: اليوم الّذي هو مدّة عمر الدنيا، فشأنه فيه الأمر و النهي، و الإماتة و الإحياء، و الإعطاء و المنع. و الآخر: يوم القيامة، فشأنه فيه الجزاء و الحساب.

و عن مقاتل: نزل في ردّ اليهود حين قالوا: إنّ اللّه لا يقضي يوم السبت شيئا.

و سأل بعض الملوك وزيره عن هذه الآية، فاستمهله إلى الغد، و ذهب كئيبا يفكّر فيها. فقال غلام له أسود: يا مولاي أخبرني ما أصابك، لعلّ اللّه يسهّل لك على يدي. فأخبره، فقال له: أنا أفسّرها للملك فأعلمه.

فقال: أيّها الملك شأن اللّه أن يولج الليل في النهار، و يولج النهار في الليل، و يخرج الحيّ من الميّت، و يخرج الميّت من الحيّ، و يشفي سقيما، و يسقم سليما، و يبتلي معافى، و يعافي مبتلى، و يعزّ ذليلا، و يذلّ عزيزا، و يفقر غنيّا، و يغني فقيرا.

فقال الأمير: أحسنت. و أمر الوزير أن يخلع عليه ثياب الوزارة.

فقال: يا مولاي هذا من شأن اللّه.

و عن عبد اللّه بن طاهر:

أنّه دعا الحسين بن الفضل فقال له: أشكلت عليّ ثلاث آيات، دعوتك لتكشفها لي. قوله تعالى: فَأَصْبَحَ مِنَ النَّادِمِينَ «1». و قد صحّ أنّ الندم توبة. و قوله: كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ «2». و صحّ أنّ القلم جفّ بما هو كائن إلى يوم القيامة. و قوله: وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى «3». فما بال الأضعاف؟

فقال الحسين: يجوز أن لا يكون الندم توبة في تلك الأمّة، و يكون توبة في

______________________________

(1) المائدة: 31.

(2) الرحمن: 29.

(3) النجم: 39.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 550

هذه الأمّة، لأنّ اللّه تعالى خصّ هذه الأمّة بخصائص لم يشاركهم فيها الأمم. أو ندم قابيل لم يكن على قتل هابيل، و لكن على حمله. و أمّا قوله: «وَ أَنْ لَيْسَ لِلْإِنْسانِ إِلَّا ما سَعى فمعناه: ليس له إلّا ما سعى عدلا، ولي أن أجزيه بواحدة ألفا فضلا. و أمّا قوله: «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ» فإنّها شؤون يبديها، لا شؤون يبتدئها.

فقام عبد اللّه و قبّل رأسه، و سوّغ خراجه.

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ممّا يسعف به سؤلكما، و ما يخرج لكما من مكمن العدم حينا فحينا.

[سورة الرحمن (55): الآيات 31 الى 36]

زبدة التفاسير ج 6 599

سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ (31) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (32) يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فَانْفُذُوا لا تَنْفُذُونَ إِلاَّ بِسُلْطانٍ (33) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (34) يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ مِنْ نارٍ وَ نُحاسٌ فَلا تَنْتَصِرانِ (35)

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (36)

و لمّا ذكر سبحانه الفناء و الإعادة، عقّب ذلك بذكر الوعيد و التهديد، فقال:

سَنَفْرُغُ لَكُمْ أَيُّهَ الثَّقَلانِ سنتجرّد لحسابكم و جزائكم. و ذلك يوم القيامة، فإنّها تعالى لا يفعل فيه غيره.

و تنقيح المعنى: ستنتهي الدنيا

و تبلغ آخرها، و تنتهي عند ذلك شؤون الخلق الّتي أرادها بقوله: «كُلَّ يَوْمٍ هُوَ فِي شَأْنٍ»، فلا يبقى إلّا شأن واحد، و هو جزاؤكم، فجعل ذلك فراغا لهم على طريق المثل.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 551

و قيل: تهديد مستعار من قولك لمن تهدّده: سأفرغ لك. تريد: سأتجرّد للإيقاع بك من كلّ ما يشغلني عنك حتّى لا يكون لي شغل سواه. و المراد: التوفّر على النكاية فيه و الانتقام منه، فإنّ المتجرّد للشي ء كان أقوى عليه و أجدّ فيه.

و قرأ حمزة و الكسائي بالياء. و الثقلان: الإنس و الجنّ. سمّيا بذلك لثقلهما على الأرض، أو لرزانة رأيهما و قدرهما، أو لأنّهما مثقلان بالتكليف.

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ من جملتها إعلامكم الحساب و الجزاء، لتتهيّئوا في أعمال الخير، و تجتنبوا عن أفعال الشرّ.

يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ كالترجمة لقوله: «أَيُّهَ الثَّقَلانِ» إِنِ اسْتَطَعْتُمْ أَنْ تَنْفُذُوا مِنْ أَقْطارِ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ إن قدرتم أن تخرجوا من جوانب السماوات و الأرض هاربين من الموت، أو فارّين من قضائه و قدره. يقال: نفذ الشي ء من الشي ء إذا خلص منه، كالسهم ينفذ من الرمية. فَانْفُذُوا فاخرجوا. ثمّ قال: لا تَنْفُذُونَ لا تقدرون على النفوذ إِلَّا بِسُلْطانٍ إلّا بقوّة و قهر و غلبة، و أنّى لكم ذلك؟ فإنّكم حيث توجّهتم فثمّ ملكي و سلطاني.

بيّن سبحانه بذلك أنّهم في حبسه، و أنّه مقتدر عليهم لا يفوتونه. و جعل ذلك دلالة على توحيده و قدرته، و زجرا لهم عن معصيته و مخالفته. و نحوه: وَ ما أَنْتُمْ بِمُعْجِزِينَ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي السَّماءِ «1».

روي: أنّ الملائكة تنزل فتحيط بجميع الخلائق، فإذا رآهم الجنّ و الإنس هربوا، فلا يأتون وجها إلّا وجدوا الملائكة أحاطت به.

و

قيل: المعنى: إن قدرتم أن تنفذوا لتعلموا ما في السماوات و الأرض فانفذوا لتعلموا، لكن لا تنفذون و لا تعلمون إلّا ببيّنة نصبها اللّه، فتعرجون عليها بأفكاركم.

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي: من التنبيه و التحذير، و المساهلة و العفو مع

______________________________

(1) العنكبوت: 22.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 552

كمال القدرة، لترغبوا بالطاعة، و تجتنبوا عن المعصية. أو ممّا نصب من المصاعد العقليّة و المعارج النقليّة، فتنفذون بها إلى فوق السماوات العلى.

يُرْسَلُ عَلَيْكُما شُواظٌ لهب أخضر منقطع مِنْ نارٍ وَ نُحاسٌ و دخان. أو صفر مذاب يصبّ على رؤوسهم. و عن ابن عبّاس: إذا خرجوا من قبورهم ساقهم شواظ إلى المحشر.

و قرأ ابن كثير: شواظ بكسر الشين. و هو لغة. و نحاس بالجرّ، عطفا على «نار». و وافقه أبو عمرو و يعقوب في رواية.

فَلا تَنْتَصِرانِ فلا تقدران على دفع ذلك عنكما و عن غيركما. و

جاء في الحديث: «يحاط على الخلق بالملائكة بلسان من نار، ثمّ ينادون: «يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ» إلى قوله: «شُواظٌ مِنْ نارٍ وَ نُحاسٌ».

و

روى مسعدة بن صدقة عن كليب قال: «كنّا عند أبي عبد اللّه عليه السّلام فأنشأ يحدّثنا، فقال: إذا كان يوم القيامة جمع اللّه العباد في صعيد واحد، و ذلك أنّه يوحي إلى السماء الدنيا أن اهبطي بمن فيك، فيهبط أهل السماء الدنيا بمثلي من في الأرض من الجنّ و الإنس و الملائكة، فلا يزالون كذلك حتّى يهبط أهل سبع سماوات، فيصير الجنّ و الإنس في سبع سرادقات من سبعة أطواق من الملائكة، فينظرون فإذا قد أحاط بهم سبعة أطواق من الملائكة، ثمّ ينادي مناد: «يا مَعْشَرَ الْجِنِّ وَ الْإِنْسِ» إلى قوله: «فَلا تَنْتَصِرانِ».

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ فإنّ التهديد لطف. و التمييز

بين المطيع و العاصي بالجزاء و الانتقام من الكفّار في عداد الآلاء.

[سورة الرحمن (55): الآيات 37 الى 45]

فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ فَكانَتْ وَرْدَةً كَالدِّهانِ (37) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (38) فَيَوْمَئِذٍ لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ وَ لا جَانٌّ (39) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (40) يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَ الْأَقْدامِ (41)

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (42) هذِهِ جَهَنَّمُ الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ (43) يَطُوفُونَ بَيْنَها وَ بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ (44) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (45)

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 553

فَإِذَا انْشَقَّتِ السَّماءُ يعني: يوم القيامة تصدّعت السماء، و انفكّ بعضها من بعض فَكانَتْ وَرْدَةً فصارت وردة في الاحمرار. و هي جمع الورد. كَالدِّهانِ أي: مذابة كالدهن. و هو اسم لما يدهن به، كالحزام. أو جمع دهن. و قيل: هو الأديم «1» الأحمر.

و قال الفرّاء: شبّه تلوّن السماء بتلوّن الوردة «2» من الخيل، و شبّه الوردة في اختلاف ألوانها بالدهن و اختلاف ألوانه.

و قيل: هو دهن الزيت، كما قال: كَالْمُهْلِ «3». و هو: درديّ «4» الزيت.

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ وجه النعمة في انشقاق السماء و احمرارها و ذوبانها، فإنّ في الإخبار به زجرا و تخويفا في دار الدنيا يوجب الانقياد لأوامر اللّه، فيكون فيه لطف.

فَيَوْمَئِذٍ أي: فيوم تنشقّ السماء لا يُسْئَلُ عَنْ ذَنْبِهِ إِنْسٌ بعض من

______________________________

(1) أي: الجلد.

(2) الورد من الخيل: ما كان أحمر اللون إلى صفرة. و الوردة: لون الورد.

(3) المعارج: 8.

(4) الدرديّ من الزيت: الكدر الراسب في أسفله.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 554

الإنس وَ لا جَانٌ أريد به: و لا جنّ، أي: و لا بعض من الجنّ، فوضع الجانّ الّذي هو أبو الجنّ موضع الجنّ، كما يقال: هاشم و يراد به ولده.

و المعنى: لا يسأل عصاة الإنس و الجنّ، لأنّهم

يعرفون بسيماهم، و ذلك حينما يخرجون من قبورهم و يحشرون إلى الموقف ذودا ذودا «1» على اختلاف مراتبهم.

و أمّا قوله: فَوَ رَبِّكَ لَنَسْئَلَنَّهُمْ «2» وَ قِفُوهُمْ إِنَّهُمْ مَسْؤُلُونَ «3» فحين يحاسبون في المجمع. قال قتادة: قد كانت مسألة ثمّ ختم على أفواه القوم، و تكلّمت أيديهم و أرجلهم بما كانوا يعملون.

و قيل: معناه: لا يسأل عن ذنبه ليعلم من جهته، و لكن يسأل سؤال توبيخ.

و

روي عن الرضا عليه السّلام أنّه قال: «فيومئذ لا يسأل منكم عن ذنبه إنس و لا جان».

و المعنى: أنّ من اعتقد الحقّ ثمّ أذنب و لم يتب في الدنيا عذّب عليه في البرزخ، ثمّ يخرج يوم القيامة و ليس له ذنب يسأل عنه.

و الضمير للإنس باعتبار اللفظ، فإنّه و إن تأخّر لفظا تقدّم رتبة. و توحيد ضمير الإنس لكونه في معنى البعض.

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ أي: ممّا أنعم اللّه على عباده المؤمنين في هذا اليوم.

يُعْرَفُ الْمُجْرِمُونَ بِسِيماهُمْ بعلامتهم من سواد الوجه و زرقة العيون، و من الكآبة و الحزن فَيُؤْخَذُ بِالنَّواصِي وَ الْأَقْدامِ مجموعا بينهما، أي: فتأخذهم

______________________________

(1) ذاده ذودا: دفعه و طرده.

(2) الحجر: 92.

(3) الصافّات: 24.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 555

الزبانية فتجمع بين نواصيهم و أقدامهم بالغلّ، ثمّ يسحبون و يقذفون في النار.

و عن الضحّاك: يجمع بين ناصيته و قدمه في سلسلة من وراء ظهره.

و قيل: تسحبهم الملائكة، تارة تأخذ بالنواصي، و تارة بالأقدام.

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ممّا أعلمكم من تعذيب العاصين، لتجتنبوا المعصية و ترغبوا في الطاعة.

هذِهِ جَهَنَّمُ أي: يقال لهم: هذه جهنّم الَّتِي يُكَذِّبُ بِهَا الْمُجْرِمُونَ الكافرون يَطُوفُونَ بَيْنَها بين النار يحرقون بها وَ بَيْنَ حَمِيمٍ ماء حارّ آنٍ بلغ النهاية في الحرارة. يصبّ عليهم، أو يسقون منه.

و قيل:

إذا استغاثوا من النار أغيثوا بالحميم.

و قيل: إنّ واديا من أودية جهنّم يجتمع فيه صديد أهل النار، فينطلق بهم في الأغلال، فيغمسون فيه حتّى تنخلع أوصالهم، ثمّ يخرجون منه و قد أحدث اللّه لهم خلقا جديدا، و ذلك قوله: كُلَّما نَضِجَتْ جُلُودُهُمْ «1». الآية.

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ و لا شبهة أنّ التذكير بفعل العقاب و الإنذار به من أكبر النعم، لما فيه من الزجر عمّا يستحقّ به العقاب، و البعث و الحثّ على فعل ما يستحقّ به الثواب، و هذا نهاية اللطف.

[سورة الرحمن (55): الآيات 46 الى 61]

وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ (46) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (47) ذَواتا أَفْنانٍ (48) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (49) فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ (50)

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (51) فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ (52) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (53) مُتَّكِئِينَ عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ وَ جَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ (54) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (55)

فِيهِنَّ قاصِراتُ الطَّرْفِ لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لا جَانٌّ (56) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (57) كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَ الْمَرْجانُ (58) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (59) هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ إِلاَّ الْإِحْسانُ (60)

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (61)

______________________________

(1) النساء: 56.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 556

وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ موقفه الّذي يقف فيه العباد للحساب. أو مقام الخائف عند ربّه للحساب، كقوله: يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ «1». أو قيامه على أحواله، من: قام عليه إذا راقبه. و على التقادير؛ أضاف المقام إلى الربّ تفخيما و تهويلا. أو المراد: خاف ربّه، و «مقام» مقحم. جَنَّتانِ جنّة للخائف الإنسي، و جنّة للخائف الجنّي، فإنّ الخطاب للفريقين.

و المعنى: لكلّ خائفين منكما أو لكلّ واحد جنّة لعقيدته، و اخرى لعمله. أو جنّة لفعل الطاعات، و

اخرى لترك المعاصي، لأنّ التكليف دائر عليهما. أو جنّة يثاب بها، و اخرى يتفضّل بها عليه، كقوله: لِلَّذِينَ أَحْسَنُوا الْحُسْنى وَ زِيادَةٌ «2». أو جنّة داخل القصر، و الاخرى خارج القصر، كما يشتهي الإنسان في الدنيا. و قيل:

______________________________

(1) المطفّفين: 6.

(2) يونس: 26.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 557

إحدى الجنّتين منزله، و الاخرى منزل أزواجه و خدمه. و قيل: جنّة من ذهب، و جنّة من فضّة. أو روحانيّة و جسمانيّة. و كذا ما جاء مثنى بعد.

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ ممّا أعطاكم من نعم الجنّة.

ثمّ وصف الجنّتين بقوله: ذَواتا أَفْنانٍ أنواع من الأشجار و الثمار، جمع فنّ. أو أغصان، جمع فنن، و هي الغصنة الّتي تتشعّب من فروع الشجر. و تخصيصها بالذكر لأنّها الّتي تورق و تثمر، و منها يمتدّ الظلّ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ

فِيهِما عَيْنانِ تَجْرِيانِ حيث شاؤا في الأعالي و الأسافل. و قيل: تجريان من جبل من مسك. و عن الحسن: تجريان بالماء الزلال، إحداهما: التسنيم، و الاخرى: السلسبيل. و قيل: إحداهما من ماء غير آسن، و الاخرى من خمر لذّة للشاربين. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ

فِيهِما مِنْ كُلِّ فاكِهَةٍ زَوْجانِ صنفان: غريب و معروف، أو رطب و يابس.

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ

مُتَّكِئِينَ نصبه على المدح للخائفين، أو حال منهم، لأنّ «من خاف» في معنى الجمع، أي: قاعدين اتّكاء كالملوك عَلى فُرُشٍ بَطائِنُها مِنْ إِسْتَبْرَقٍ من ديباج ثخين. و إذا كانت البطائن كذلك فما ظنّك بالظهائر؟! و قيل: ظهائرها من سندس. و قيل: من نور. و قيل لسعيد بن جبير: البطائن من إستبرق فما الظواهر؟

قال: هذا ممّا قال اللّه: فَلا تَعْلَمُ نَفْسٌ ما أُخْفِيَ لَهُمْ مِنْ قُرَّةِ أَعْيُنٍ «1».

وَ جَنَى الْجَنَّتَيْنِ دانٍ قريب يناله القائم و

القاعد، و المضطجع و المستلقي.

و «جنى» اسم بمعنى: مجنيّ. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ

فِيهِنَ في الجنان، فإنّ الجنّتين تدلّ على الجنان. و هي للخائفين.

أو في الأماكن و القصور. أو في هذه الآلاء المعدودة، من الجنّتين و العينين

______________________________

(1) السجدة: 17.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 558

و الفاكهة و الفرش. قاصِراتُ الطَّرْفِ نساء حور عين قصرن أبصارهنّ على أزواجهنّ، لا ينظرن إلى غيرهم. و قال أبو ذرّ: إنّها تقول لزوجها: و عزّة ربّي ما أرى في الجنّة شيئا أحسن منك، فالحمد للّه الّذي جعلني زوجتك، و جعلك زوجي. لَمْ يَطْمِثْهُنَ لم يفتضّهنّ. و الافتضاض النكاح بالتدمية. إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لا جَانٌ أي: لم يمسّ الإنسيّات إنس، و لا الجنّيّات جنّ، فهنّ خلقن أبكارا في الجنّة.

و قيل: هنّ من نساء الدنيا لم يمسسهنّ منذ أنشئن خلق، أي: لم يجامعهنّ في هذا الخلق الّذي أنشئن فيه إنس و لا جانّ.

و فيه دليل على أنّ الجنّ يطمثون كما يطمث الإنس. و قرأ الكسائي بضمّ الميم. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ

كَأَنَّهُنَّ الْياقُوتُ وَ الْمَرْجانُ أي: في حمرة الوجنة و بياض البشرة و صفائهما. و المرجان: صغار الدرّ، و هو أنصع بياضا. و

في الحديث: «إنّ الحوراء تلبس سبعين حلّة، فيرى مخّ ساقها من ورائها، كما يرى الشراب الأحمر في الزجاجة البيضاء».

و عن ابن مسعود: كما يرى السلك من وراء الياقوت. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ

هَلْ جَزاءُ الْإِحْسانِ في العمل إِلَّا الْإِحْسانُ في الثواب، أي: ليس جزاء من أحسن في الدنيا إلّا أن يحسن إليه في الآخرة.

و عن ابن عبّاس: هل جزاء من قال: لا إله إلّا اللّه، و عمل بما جاء به محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، إلّا الجنّة؟

و قيل:

معناه: هل جزاء من أحسن إليكم بهذه النعم إلّا أن تحسنوا في شكره و عبادته؟

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 559

[سورة الرحمن (55): الآيات 62 الى 78]

وَ مِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ (62) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (63) مُدْهامَّتانِ (64) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (65) فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ (66)

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (67) فِيهِما فاكِهَةٌ وَ نَخْلٌ وَ رُمَّانٌ (68) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (69) فِيهِنَّ خَيْراتٌ حِسانٌ (70) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (71)

حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ (72) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (73) لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لا جَانٌّ (74) فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (75) مُتَّكِئِينَ عَلى رَفْرَفٍ خُضْرٍ وَ عَبْقَرِيٍّ حِسانٍ (76)

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ (77) تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ ذِي الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ (78)

وَ مِنْ دُونِهِما و من دون تينك الجنّتين الموعودتين للخائفين المقرّبين جَنَّتانِ لمن دونهم من أصحاب اليمين فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ

مُدْهامَّتانِ خضراوان تضربان إلى السواد من شدّة الخضرة. و فيه إشعار بأنّ الغالب على هاتين الجنّتين النبات و الرياحين المنبسطة على وجه الأرض، و على الأوليين الأشجار و الفواكه، دلالة على ما بينهما من التفاوت.

و

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «لا تقولنّ: الجنّة واحدة، إنّ اللّه تعالى يقول: وَ مِنْ دُونِهِما جَنَّتانِ و لا تقولنّ: درجة واحدة، إنّ اللّه يقول: وَ رَفَعْنا بَعْضَهُمْ فَوْقَ

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 560

بَعْضٍ دَرَجاتٍ «1». إنّما تفاضل القوم بالأعمال».

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ

فِيهِما عَيْنانِ نَضَّاخَتانِ فوّارتان بالماء، ثمّ تجريان. قال ابن عبّاس:

تنضخ على أولياء اللّه بالمسك و العنبر و الكافور. و قيل: تنضخان بأنواع الخيرات.

و النضخ أكثر من النضخ غير المعجمة، لأنّ النضخ غير المعجمة مثل الرشّ. و هو أيضا أقلّ ممّا وصف به الأوليين. و كذا ما

بعده. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ

فِيهِما فاكِهَةٌ ألوان الفاكهة وَ نَخْلٌ وَ رُمَّانٌ عطفهما على الفاكهة بيانا لفضلهما. كأنّهما لما لهما من المزيّة جنسان آخران، كقوله تعالى: مَنْ كانَ عَدُوًّا لِلَّهِ وَ مَلائِكَتِهِ وَ رُسُلِهِ وَ جِبْرِيلَ وَ مِيكالَ «2».

و قيل: لأنّ ثمرة النخل فاكهة و غذاء، و ثمرة الرمّان فاكهة و دواء، فلم يخلصا للتفكّه.

قال الأزهري: «ما علمت أحدا من العرب قال في النخيل و الكروم و ثمارها إنّها ليست من الفاكهة. و إنّما قال ذلك من قال لقلّة علمه بكلام العرب. و العرب تذكر الأشياء جملة، ثمّ تخصّ منها شيئا بالتسمية، تنبيها على فضل فيه» «3».

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ

فِيهِنَّ خَيْراتٌ أي: خيّرات، فخفّفت، لأنّ خيرا الّذي بمعنى الأخير لا يجمع، فلا يقال فيه: خيرون و لا خيرات. و المعنى: فاضلات الأخلاق حِسانٌ حسان الخلق. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ

حُورٌ بيض حسان البياض. يقال: العين الحوراء إذا كانت شديدة بياض

______________________________

(1) الزخرف: 32.

(2) البقرة: 98.

(3) تهذيب اللغة 6: 25.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 561

البياض، شديدة سواد السواد، و بذلك يتمّ حسن العين. مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ قصرن في خدورهنّ. يقال: امرأة قصيرة و قصورة و مقصورة، أي: مخدّرة. أو مقصورات الطرف على أزواجهنّ. قيل: إنّ كلّ خيمة من خيامهنّ درّة مجوّفة.

و عن ابن عبّاس قال: الخيمة درّة مجوّفة فرسخ في فرسخ، فيها أربعة آلاف مصراعه من ذهب.

و

عن أنس، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «مررت ليلة أسري بي بنهر حافّتاه قباب المرجان، فنوديت منه: السلام عليك يا رسول اللّه. فقلت: يا جبرئيل من هؤلاء؟

قال: هؤلاء جوار من الحور العين، استأذنّ ربّهنّ عز و جلّ أن يسلّمن عليك، فأذن لهنّ.

فقلن: نحن الخالدات

فلا نموت، و نحن الناعمات فلا نيأس، أزواج رجال كرام. ثمّ قرأ: «حُورٌ مَقْصُوراتٌ فِي الْخِيامِ».

و

روي عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الخيمة درّة واحدة طولها في السماء ستّون ميلا، في كلّ زاوية منها أهل للمؤمن لا يراه الآخرون».

و

روي: أنّ نساء أهل الجنّة يأخذ بعضهنّ بأيدي بعضهنّ، و يتغنّين بأصوات لم يسمع الخلائق مثلها: نحن الراضيات فلا نسخط، و نحن المقيمات فلا نظعن، و نحن خيرات حسان حبيبات لأزواج كرام. و إذا قلن هذه المقالة أجابتهنّ المؤمنات من نساء الدنيا: نحن المصلّيات و ما صلّيتنّ، و نحن الصائمات و ما صمتنّ، و نحن المتوضّئات و ما توضّأتنّ، و نحن المتصدّقات و ما تصدّقتنّ. فغلبتهنّ و اللّه.

فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ

لَمْ يَطْمِثْهُنَّ إِنْسٌ قَبْلَهُمْ وَ لا جَانٌ كحور الأوليين. و هم أصحاب الجنّتين، فإنّهما يدلّان عليهم. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ

مُتَّكِئِينَ نصب على الاختصاص عَلى رَفْرَفٍ فرش مرتفعة، أو

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 562

وسائد، أو نمارق. جمع رفرفة. و قيل: الرفرف ضرب من البسط، أو ذيل الخيمة.

و قد يقال لكلّ ثوب عريض. خُضْرٍ وَ عَبْقَرِيٍّ حِسانٍ العبقريّ منسوب إلى عبقر، تزعم العرب أنّه اسم بلد للجنّ، فينسبون إليه كلّ شي ء عجيب. و قيل: هو ثوب الديباج. و قيل: كلّ ثوب موشى «1». و المراد به الجنس، و لذلك جمع حسان حملا على المعنى. فَبِأَيِّ آلاءِ رَبِّكُما تُكَذِّبانِ

تَبارَكَ اسْمُ رَبِّكَ تعالى اسمه من حيث إنّه مطلق على ذاته، فما ظنّك بذاته؟ و قيل: الاسم بمعنى الصفة، أو مقحم. ذِي الْجَلالِ وَ الْإِكْرامِ و قرأ ابن عامر بالرفع صفة للاسم.

______________________________

(1) وشى الثوب و وشّاه: حسّنه بالألوان و نمنمه و نقشه.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 563

(56) سورة الواقعة

اشارة

مكّيّة. و

هي ستّ و تسعون آية.

أبيّ بن كعب، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ سورة الواقعة كتب: ليس من الغافلين».

و

عن مسروق قال: من أراد أن يعلم نبأ الأوّلين و الآخرين، و نبأ أهل الجنّة، و نبأ أهل النار، و نبأ الدنيا، و نبأ الآخرة، فليقرأ سورة الواقعة.

و

روي: أنّ عثمان بن عفّان دخل على عبد اللّه بن مسعود يعوده في مرضه الّذي مات فيه، فقال له: ما تشتكي؟

قال: ذنوبي.

قال: ما تشتهي؟

قال: رحمة ربّي.

قال: أ فلا ندعو الطبيب؟

قال: الطبيب أمرضني.

قال: أ فلا نأمر بعطائك؟

قال: منعتنيه و أنا محتاج إليه، و تعطينيه و أنا مستغن عنه.

قال: يكون لبناتك.

قال: لا حاجة لهنّ فيه، فقد أمرتهنّ أن يقرأن سورة الواقعة، فإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «من قرأ سورة الواقعة كلّ يوم و ليلة لم تصبه فاقة أبدا».

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 564

و

روى العيّاشي بالإسناد عن زيد الشحّام، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من قرأ سورة الواقعة قبل أن ينام لقي اللّه و وجهه كالقمر ليلة البدر».

و

عن أبي بصير، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ في كلّ ليلة جمعة الواقعة أحبّه اللّه، و حبّبه إلى الناس أجمعين، و لم ير في الدنيا بؤسا أبدا، و لا فقرا و لا آفة من آفات الدنيا، و كان من رفقاء أمير المؤمنين».

[سورة الواقعة (56): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (1) لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ (2) خافِضَةٌ رافِعَةٌ (3) إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا (4)

وَ بُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا (5) فَكانَتْ هَباءً مُنْبَثًّا (6)

و اعلم أنّه سبحانه لمّا ختم سورة الرحمن بصفة الجنّة، افتتح سورة الواقعة أيضا بصفة القيامة و الجنّة، فاتّصلت إحداهما

بالأخرى اتّصال النظير بالنظير، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* إِذا وَقَعَتِ الْواقِعَةُ أي: إذا حدثت القيامة، كقولك: إذا حدثت الحادثة، و كانت الكائنة. و سمّاها واقعة لتحقّق وقوعها، فكأنّه قيل: إذا وقعت الساعة الّتي لا بدّ من وقوعها. و فيه حثّ على الاستعداد لها.

و انتصاب «إذا» بمحذوف، مثل: اذكر، أو كان كيت و كيت. أو بقوله: لَيْسَ لِوَقْعَتِها كاذِبَةٌ أي: لا تكون حين وقوع الواقعة نفس تكذب على اللّه، أو تكذب في نفيها كما تكذب الآن، لأنّ كلّ نفس حينئذ مؤمنة صادقة مصدّقة، و أكثر النفوس اليوم كواذب مكذّبات، كقولك: فَلَمَّا رَأَوْا بَأْسَنا قالُوا آمَنَّا بِاللَّهِ وَحْدَهُ «1». و قوله:

______________________________

(1) غافر: 84.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 565

لا يُؤْمِنُونَ بِهِ حَتَّى يَرَوُا الْعَذابَ الْأَلِيمَ «1». و قوله: وَ لا يَزالُ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي مِرْيَةٍ مِنْهُ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ السَّاعَةُ بَغْتَةً «2». و اللام مثلها في قوله: قَدَّمْتُ لِحَياتِي «3» أي:

ليس لأجل وقعتها نفس تكذّبها، فإنّ من أخبر عنها صدق.

أو ليس لها حينئذ نفس تحدّث صاحبها بإطاقة شدّتها و احتمالها، و تغريه عليها. من قولهم: كذّبت فلانا نفسه في الخطب العظيم، إذا شجّعته على مباشرته و قالت له: إنّك تطيقه و ما فوقه، فتعرّض له و لا تبال به. على معنى: أنّها وقعة لا تطاق شدّة و فظاعة، و أن لا نفس حينئذ تحدّث صاحبها بما تحدّثه به عند عظائم الأمور، و تزيّن له احتمالها و إطاقتها، لأنّهم يومئذ أضعف من ذلك و أذلّ. ألا ترى إلى قوله: كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ «4»، و الفراش مثل في الضعف.

و قيل: كاذبة مصدر- كالعاقبة- بمعنى التكذيب.

خافِضَةٌ رافِعَةٌ أي: هي تخفض قوما، و ترفع قوما آخرين. و هو تقرير لعظمتها، و وصف لها بالشدّة، فإنّ

الوقائع العظام يرتفع فيها ناس و يتّضع ناس. أو بيان لما يكون حينئذ من خفض أعداء اللّه إلى الدركات، و رفع أوليائه إلى الدرجات. و المعنى: أنّها تخفض رجالا كانوا في الدنيا مرتفعين، و تجعلهم أذلّة بإدخالهم النار، و ترفع رجالا كانوا في الدنيا أذلّة، و تجعلهم أعزّة بإدخالهم الجنّة.

أو إزالة الأجرام عن مقارّها، بنثر الكواكب و تسيير الجبال في الجوّ.

إِذا رُجَّتِ الْأَرْضُ رَجًّا حرّكت تحريكا شديدا بحيث ينهدم ما فوقها من بناء و جبل. و الظرف متعلّق ب «خافضة» أي: تخفض و ترفع وقت رجّ الأرض و بسّ الجبال، لأنّ عند ذلك ينخفض ما هو مرتفع و يرتفع ما هو منخفض. أو

______________________________

(1) الشعراء: 201.

(2) الحجّ: 55.

(3) الفجر: 24.

(4) القارعة: 4.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 566

بدل من «إذا وقعت».

وَ بُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا و فتّت «1» حتّى صارت كالسويق الملتوت. من: بسّ السويق إذا لتّه. أو سيقت و سيّرت. من: بسّ الغنم إذا ساقها، كقوله: وَ سُيِّرَتِ الْجِبالُ «2». فَكانَتْ هَباءً غبارا مُنْبَثًّا منتشرا.

[سورة الواقعة (56): الآيات 7 الى 26]

وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً ثَلاثَةً (7) فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (8) وَ أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ (9) وَ السَّابِقُونَ السَّابِقُونَ (10) أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ (11)

فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ (12) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (13) وَ قَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ (14) عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ (15) مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ (16)

يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ (17) بِأَكْوابٍ وَ أَبارِيقَ وَ كَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ (18) لا يُصَدَّعُونَ عَنْها وَ لا يُنْزِفُونَ (19) وَ فاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ (20) وَ لَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ (21)

وَ حُورٌ عِينٌ (22) كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ (23) جَزاءً بِما كانُوا يَعْمَلُونَ (24) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَ لا تَأْثِيماً (25) إِلاَّ قِيلاً سَلاماً سَلاماً (26)

______________________________

(1) فتّ الشي ء: كسره

بالأصابع كسرا صغيرة.

(2) النبأ: 20.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 567

ثمّ وصف سبحانه أحوال الناس، بأن قال: وَ كُنْتُمْ أَزْواجاً أصنافا ثَلاثَةً فإنّه يقال للأصناف الّتي بعضها مع بعض أو يذكر بعضها مع بعض: أزواج.

ثمّ فسّرها بقوله: فَأَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ فأصحاب المنزلة السنيّة. من قولك:

فلان منّي باليمين، إذا وصفته بالرفعة عندك، لتيمّنهم بالميامن، و تفأّلهم بالسانح «1»، و لذلك اشتقّوا لليمين الاسم من اليمن. أو الّذين يعطون صحائفهم بأيمانهم. أو الّذين يؤخذ بهم ذات اليمين إلى الجنّة. أو اصحاب اليمن و البركة، فإنّ السعداء ميامين على أنفسهم بطاعتهم. ما أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ أي: أيّ شي ء هم. و في إقامة الظاهر مقام الضمير تفخيم لشأنهم العظيم، و تعجيب لرسولهم من حالهم الفخيمة في الجنّة، كما يقال: هم ما هم.

وَ أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ و أصحاب المنزلة الدنيّة. من قولهم: فلان منّي بالشمال، إذا وصفوه بالضعة عندهم، لتشاؤمهم بالشمائل، و تطيّرهم بالبارح «2».

و لذلك سمّوا الشمائل: لشؤمى. أو الّذين يعطون صحائفهم بشمائلهم. أو الّذين يؤخذ بهم ذات الشمال إلى النار. أو أصحاب الشؤم، لأنّ الأشقياء مشائيم عليها بمعصيتهم. ما أَصْحابُ الْمَشْئَمَةِ أيّ شي ء هم. تفخيم لخطبهم في العقوبات الشديدة، و تعجيب لرسوله من حالهم الوضيعة.

وَ السَّابِقُونَ و الّذين سبقوا إلى ما دعاهم اللّه إليه من الإيمان و الطاعة بعد ظهور الحقّ، و شقّوا الغبار في طلب مرضاته من غير تلعثم و توان. أو سبقوا في حيازة الفضائل و الكمالات. أو الأنبياء، فإنّهم مقدّمو أهل الأديان. السَّابِقُونَ هم الّذين عرفت حالهم و مآلهم، كقول أبي النجم: أنا أبو النجم و شعري شعري.

كأنّه قال: و شعري ما انتهى إليك، و سمعت بفصاحته و براعته.

______________________________

(1) السانح: الّذي يأتي من جانب اليمين، أو ما مرّ من يسارك

إلى يمينك من ظبي أو طائر.

(2) البارح: الّذي يأتي من جانب اليسار.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 568

أُولئِكَ الْمُقَرَّبُونَ فِي جَنَّاتِ النَّعِيمِ أي: السابقون إلى أنواع الطاعات هم الّذين يقربون إلى رحمة اللّه في أعلى مراتب الجنّة، و إلى جزيل ثواب اللّه في أعظم الكرامة.

و

عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «السابقون أربعة: ابن آدم المقتول، و سابق في أمّة موسى، و هو مؤمن آل فرعون، و سابق في أمّة عيسى، و هو حبيب النجّار، و السابق في أمّة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليّ بن أبي طالب عليه السّلام».

ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ أي: هم كثير من الأوّلين. يعني: الأمم السابقة من لدن آدم إلى سيّدنا محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. وَ قَلِيلٌ مِنَ الْآخِرِينَ يعني: أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و لا يخالف ذلك

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ أمّتي يكثرون سائر الأمم».

لجواز أن يكون سابقوا سائر الأمم أكثر من سابقي هذه الأمّة، و تابعوا هذه أكثر من تابعيهم. و لا يردّه قوله في أصحاب اليمين: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَ ثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ «1»، لأنّ كثرة الفريقين لا تنافي أكثريّة أحدهما.

و قيل: إنّ الأوّلين من متقدّمي هذه الأمّة، و الآخرين من متأخّريها، لما

روي مرفوعا عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الثلّتان جميعا من أمّتي».

و اشتقاقها من الثلّ، و هو القطع و الكسر، كما أنّ الأمّة من الأمّ، و هو الشجّ، كأنّها جماعة كسرت من الناس و قطعت منهم. فكلّ واحد من الفريقين المذكورين في الآية يقطع من الآخر.

عَلى سُرُرٍ مَوْضُونَةٍ خبر آخر للضمير المحذوف. و الموضونة:

المنسوجة بالذهب مشبّكة بالدرّ و الياقوت،

قد دوخل بعضها في بعض، كما توضن حلق الدرع. من الوضن، و هو نسج الدرع. قال المفسّرون: منسوجة بقضبان الذهب، مشبّكة بالدرّ و الجواهر. و قيل: متواصلة أدنى بعضها من بعض.

______________________________

(1) الواقعة: 39- 40.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 569

مُتَّكِئِينَ عَلَيْها مُتَقابِلِينَ حالان من الضمير في «على سرر». و هو العامل فيها، أي: استقرّوا عليها متّكئين على السرر متقابلين، لا ينظر بعضهم في أقفاء بعض. وصفوا بحسن العشرة، و تهذيب الأخلاق و الآداب.

يَطُوفُ عَلَيْهِمْ للخدمة وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ مبقون أبدا على شكل الولدان و طراوتهم، لا يتحوّلون عنه. قيل: مقرّطون. من الخلدة، و هي: القرط «1». قيل: هم

أولاد أهل الدنيا، لم يكن لهم حسنات فيثابوا عليها، و لا سيّئات فيعاقبوا عليها.

و روي ذلك عن عليّ عليه السّلام.

و

في الحديث: «أولاد الكفّار خدّام أهل الجنّة».

بِأَكْوابٍ وَ أَبارِيقَ حال الشرب و غيره. و الكوب: إناء لا عروة و لا خرطوم له. و الإبريق: إناء له ذلك. و عن قتادة: هي القداح الواسعة الرؤوس لا خراطيم لها.

وَ كَأْسٍ مِنْ مَعِينٍ من خمر ظاهر للعيون جار.

لا يُصَدَّعُونَ عَنْها بالخمار «2». و حقيقته: لا يصدر صداعهم عنها. وَ لا يُنْزِفُونَ و لا تنزف عقولهم- أي: لا تذهب- بالسكر. أو لا ينفد شرابهم. و قرأ الكوفيّون بكسر الزّاء.

وَ فاكِهَةٍ مِمَّا يَتَخَيَّرُونَ يأخذون خيره و أفضله وَ لَحْمِ طَيْرٍ مِمَّا يَشْتَهُونَ يتمنّون، فإنّ أهل الجنّة إذا اشتهوا لحم الطير خلق اللّه تعالى لهم لحم الطير نضيجا، حتّى لا يحتاج إلى ذبح الطير و إيلامه. و قال ابن عبّاس: يخطر على قلبه الطير، فيصير ممثّلا بين يديه على ما اشتهى.

وَ حُورٌ عِينٌ عطف على «ولدان». أو مبتدأ محذوف الخبر، أي: و فيها، أو و لهم حور.

و قرأ حمزة و الكسائي بالجرّ عطفا على «جنّات»، أي: هم في جنّات و فاكهة و لحم و حور. أو على «أكواب» لأنّ معنى «يطوف عليهم ولدان مخلّدون

______________________________

(1) القرط: ما يعلّق في شحمة الأذن من درّة و نحوها.

(2) الخمار: صداع الخمر.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 570

بأكواب»: ينعّمون بأكواب. كَأَمْثالِ اللُّؤْلُؤِ الْمَكْنُونِ المصون عمّا يضرّ به في الصفاء و النقاء.

جَزاءً يجزون جزاء بِما كانُوا يَعْمَلُونَ* لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً كلاما باطلا وَ لا تَأْثِيماً و لا نسبة إلى الإثم، فلا يقال لهم إِلَّا قِيلًا قولا سَلاماً سَلاماً بدل من «قيلا»، كقوله: لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً إِلَّا سَلاماً «1». أو صفته، أو مفعوله، بمعنى: إلّا أن يقولوا سلاما. أو مصدر. و التكرير للدلالة على فشوّ السلام بينهم.

[سورة الواقعة (56): الآيات 27 الى 40]

وَ أَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ (27) فِي سِدْرٍ مَخْضُودٍ (28) وَ طَلْحٍ مَنْضُودٍ (29) وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ (30) وَ ماءٍ مَسْكُوبٍ (31)

وَ فاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ (32) لا مَقْطُوعَةٍ وَ لا مَمْنُوعَةٍ (33) وَ فُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ (34) إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً (35) فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً (36)

عُرُباً أَتْراباً (37) لِأَصْحابِ الْيَمِينِ (38) ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ (39) وَ ثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ (40)

وَ أَصْحابُ الْيَمِينِ ما أَصْحابُ الْيَمِينِ* فِي سِدْرٍ شجر نبق مَخْضُودٍ منزوع الشوكة، أي: لا شوك له. من: خضد الشوك إذا قطعه، فكأنّه خضد شوكه. أو مثنيّ أغصانه من كثرة حمله. من: خضد الغصن إذا ثناه و هو رطب.

قال الضحّاك: نظر المسلمون إلى وج، و هو واد مخصب بالطائف، فأعجبهم

______________________________

(1) مريم: 62.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 571

سدره، و قالوا: ليت لنا مثل هذا. فنزلت الآية.

وَ طَلْحٍ و شجر موز، أو أمّ غيلان، و له أنوار كثيرة طيّبة الرائحة. و عن السدّي: شجر يشبه طلح

الدنيا، و لكن له ثمر أحلى من العسل. مَنْضُودٍ نضد حمله من أسفله إلى أعلاه، فليست له ساق بارزة.

وَ ظِلٍّ مَمْدُودٍ دائم منبسط لا يتقلّص، كظلّ ما بين طلوع الفجر و طلوع الشمس. و

قد ورد في الخبر: «أنّ في الجنّة شجرة يسير الراكب في ظلّها مائة سنة لا يقطعها».

و

روي أيضا: «أنّ أوقات الجنّة كغدوات الصيف، لا يكون فيه حرّ و لا برد».

وَ ماءٍ مَسْكُوبٍ يسكب لهم أين شاؤوا، و كيف شاؤوا بلا تعب. أو مصبوب سائل، دائم الجرية، لا ينقطع. و قيل: مصبوب يجري على الأرض في غير أخدود «1». كأنّه لمّا شبّه حال السابقين في التنعّم بأكمل ما يتصوّر لأهل المدن، شبّه حال أصحاب اليمين بأكمل ما يتمنّاه أهل البوادي، إشعارا بالتفاوت بين الحالين.

وَ فاكِهَةٍ كَثِيرَةٍ كثيرة الأجناس. و الوجه في تكرير ذكر الفاكهة بيان اختلاف صفاتها، فذكرت أوّلا بأنّها متخيّرة، و ذكرت هاهنا بأنّها كثيرة.

لا مَقْطُوعَةٍ دائمة لا تنقطع في وقت وَ لا مَمْنُوعَةٍ لا تمنع عن متناولها بوجه، كما يحظر على بساتين الدنيا.

وَ فُرُشٍ مَرْفُوعَةٍ رفيعة القدر. أو منضّدة مرتفعة، أي: نضّدت حتّى ارتفعت. و قيل: الفرش النساء، لأنّ المرأة يكنّى عنها بالفراش، و منه

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الولد للفراش، و للعاهر الحجر».

و ارتفاعها أنّها على الأرائك. قال اللّه تعالى: هُمْ وَ أَزْواجُهُمْ فِي ظِلالٍ عَلَى الْأَرائِكِ مُتَّكِؤُنَ «2». أو مرتفعات القدر في عقولهنّ

______________________________

(1) الأخدود: الحفرة المستطيلة.

(2) يس: 56.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 572

و حسنهنّ و كمالهنّ. و لذلك عقّبه بقوله: إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ إِنْشاءً أي: ابتدأنا خلقهنّ ابتداء جديدا من غير ولادة، إبداء أو إعادة.

و

عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ أمّ سلمة

سألته عن قول اللّه عزّ و جلّ «إِنَّا أَنْشَأْناهُنَّ».

فقال: يا أمّ سلمة هنّ اللواتي قبضن في دار الدنيا عجائز شمطا رمصا «1»، جعلهنّ اللّه بعد الكبر أترابا، على ميلاد واحد في الاستواء «2»، كلّما أتاهنّ أزواجهنّ وجدوهنّ أبكارا. فلمّا سمعت عائشة ذلك من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قالت: و أوجعاه. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ليس هناك وجع».

و

قالت عجوزة لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ادع اللّه أن يدخلني الجنّة. فقال: «إنّ الجنّة لا تدخلها العجائز. فولّت و هي تبكي. فقال عليه السّلام: أخبروها أنّها ليست يؤمئذ بعجوز».

فَجَعَلْناهُنَّ أَبْكاراً عذارى عُرُباً متحبّبات إلى أزواجهنّ. جمع عروب. و قيل: العروب اللعوب مع زوجها. و سكّن راءه حمزة و أبو بكر. أَتْراباً مستويات في السنّ، فإنّ كلّهنّ بنات ثلاث و ثلاثين. و كذا أزواجهنّ. و

عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «يدخل أهل الجنّة جردا، مردا، بيضا، جعادا، مكحّلين، أبناء ثلاث و ثلاثين».

لِأَصْحابِ الْيَمِينِ متعلّق ب «أنشأنا» أو «جعلنا». أو صفة ل «أبكارا». أو خبر لمحذوف، مثل: هنّ، أو لقوله: ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَ ثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ و هي على الوجوه الأول خبر محذوف. و إنّما نكّر سبحانه الثلّة ليدلّ على أنّه ليس لجميع الأوّلين و الآخرين، و إنّما هو لجماعة منهم، كما يقال: رجل من جملة الرجال.

______________________________

(1) الشمط جمع الشمطاء، و هي: الّتي خالط بياض رأسها سواد. و الرمص جمع الرمصاء، و هي: الّتي سال منها الرمص. و الرمص: وسخ أبيض في مجرى الدمع من العينين.

(2) لعلّ المراد: أنّهنّ في استواء الخلقة كأنّهنّ ولدن على ميلاد واحد.

زبدة التفاسير، ج 6، ص:

573

روى نقلة الأخبار بالإسناد عن ابن مسعود قال: كنّا نتحدّث عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حتّى أكثرنا الحديث، ثمّ رجعنا إلى أهلنا، فلمّا أصبحنا غدونا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: «عرضت عليّ الأنبياء الليلة بأتباعها من أممها، فكان النبيّ تجي ء معه الثلّة من أمّته، و النبيّ معه العصابة من أمّته، و النبيّ معه النفر من أمّته، و النبيّ معه الرجل من أمّته، و النبيّ ما معه من أمّته أحد. حتّى إذا أتى أخي موسى في كبكبة من بني إسرائيل، فلمّا رأيتهم أعجبوني، فقلت: أي ربّ من هؤلاء؟

قال: هذا أخوك موسى بن عمران، و من معه من بني إسرائيل.

فقلت: ربّ فأين أمّتي؟

قال: انظر عن يمينك. فإذا ظراب «1» مكّة قد سدّت بوجوه الرجال.

فقلت: من هؤلاء؟

فقيل: هؤلاء أمّتك، أرضيت؟

قلت: ربّ رضيت.

قيل: انظر عن يسارك. فإذا الأفق قد انسدّ بوجوه الرجال.

فقلت: ربّ من هؤلاء؟

قيل: هؤلاء أمّتك، أرضيت؟

قلت: ربّ رضيت.

فقيل: إنّ مع هؤلاء سبعين ألفا من أمّتك يدخلون الجنّة لا حساب عليهم.

قال: فأنشأ عكاشة بن محصن من بني أسد من خزيمة، فقال: يا نبيّ اللّه ادع ربّك أن يجعلني منهم.

فقال: اللّهمّ اجعله منهم.

ثمّ أنشأ رجل آخر فقال: يا نبيّ اللّه ادع ربّك أن يجعلني منهم.

______________________________

(1) الظراب: الروابي الصغار، أي: ما ارتفع من الأرض، و هي التلّة. و واحدها: الظرب. زبدة التفاسير، ج 6، ص: 574

فقال: سبقك بها عكاشة.

فقال نبيّ اللّه: فداكم أبي و أمّي إن استطعتم أن تكونوا من السبعين فكونوا.

و إن عجزتم و قصّرتم فكونوا من أهل الظراب. فإن عجزتم و قصّرتم فكونوا من أهل الأفق. و إنّي قد رأيت ثمّ ناسا كثيرا يتهاوشون «1» كثيرا. فقلت: هؤلاء

السبعون ألفا.

فاتّفق رأينا على أنّهم ناس ولدوا في الإسلام، فلم يزالوا يعملون به حتّى ماتوا عليه.

فانتهى حديثهم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: ليس كذلك، و لكنّهم الّذين لا يسرفون، و لا يتكبّرون، و لا يتطيّرون، و على ربّهم يتوكّلون.

ثمّ قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّي لأرجو أن يكون من تبعني ربع أهل الجنّة.

قال: فكبّرنا.

ثمّ قال: إنّي لأرجو أن يكونوا ثلث أهل الجنّة. فكبّرنا.

ثمّ قال: إنّي لأرجو أن يكونوا شطر أهل الجنّة. ثمّ تلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

ثُلَّةٌ مِنَ الْأَوَّلِينَ وَ ثُلَّةٌ مِنَ الْآخِرِينَ .

[سورة الواقعة (56): الآيات 41 الى 56]

وَ أَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ (41) فِي سَمُومٍ وَ حَمِيمٍ (42) وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ (43) لا بارِدٍ وَ لا كَرِيمٍ (44) إِنَّهُمْ كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ (45)

وَ كانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ (46) وَ كانُوا يَقُولُونَ أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ (47) أَ وَ آباؤُنَا الْأَوَّلُونَ (48) قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَ الْآخِرِينَ (49) لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ (50)

ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ الْمُكَذِّبُونَ (51) لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ (52) فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ (53) فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ (54) فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ (55)

هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ (56)

______________________________

(1) تهاوش القوم: اختلطوا و اضطربوا، و وقعت بينهم الفتنة.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 575

وَ أَصْحابُ الشِّمالِ ما أَصْحابُ الشِّمالِ فِي سَمُومٍ في حرّ نار ينفذ في المسامع وَ حَمِيمٍ و ماء حارّ متناه في الحرارة وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ من دخان أسود. يفعول من الحممة. لا بارِدٍ كسائر الظلّ وَ لا كَرِيمٍ و لا نافع. نفى بذلك ما أوهم الظلّ من الاسترواح.

إِنَّهُمْ

كانُوا قَبْلَ ذلِكَ مُتْرَفِينَ منهمكين في الشهوات، مشتغلين بها عن الاعتبار، تاركين الواجبات، طلبا لراحة أبدانهم.

وَ كانُوا يُصِرُّونَ عَلَى الْحِنْثِ الْعَظِيمِ الذنب العظيم. يعني: الشرك. و منه:

بلغ الغلام الحنث، أي: الحلم و وقت المؤاخذة بالذنب. و منه: حنث في يمينه، خلاف: برّ فيها. و يقال: تحنّث إذا تأثّم.

وَ كانُوا يَقُولُونَ إنكارا للبعث أَ إِذا مِتْنا وَ كُنَّا تُراباً وَ عِظاماً أَ إِنَّا لَمَبْعُوثُونَ كرّرت الهمزة للدلالة على إنكار البعث مطلقا، و خصوصا في هذا الوقت. كما دخلت العاطف في قوله: أَ وَ آباؤُنَا الْأَوَّلُونَ للدلالة على أنّ ذلك أشدّ إنكارا في حقّهم، لتقادم زمانهم، أي: أو يبعث آباؤنا الّذين ماتوا قبلنا، إنّ هذا لبعيد جدّا. و للفصل بالهمزة حسن العطف على المستكن في «لمبعوثون» من غير

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 576

تأكيد ب: نحن، كما حسن في قوله: ما أَشْرَكْنا وَ لا آباؤُنا «1» للفصل ب «لا» المؤكّدة للنفي. و قرأ نافع و ابن عامر: «أو» بالسكون. و قد سبق مثله «2». و العامل في الظرف ما دلّ عليه «مبعوثون»، لا هو، للفصل ب «إنّ» و الهمزة.

قُلْ إِنَّ الْأَوَّلِينَ وَ الْآخِرِينَ لَمَجْمُوعُونَ إِلى مِيقاتِ يَوْمٍ مَعْلُومٍ إلى ما وقّتت به الدنيا- أي: حدّت- من يوم معيّن عند اللّه معلوم له. و هو يوم القيامة. و منه:

مواقيت الإحرام. و هي الحدود الّتي لا يتجاوزها من يريد دخول مكّة إلّا محرما.

و الإضافة بمعنى «من» كخاتم فضّة.

ثُمَّ إِنَّكُمْ أَيُّهَا الضَّالُّونَ عن طريق الحقّ الْمُكَذِّبُونَ بتوحيد اللّه و نبوّة نبيّه و بالبعث. و الخطاب لأهل مكّة و أضرابهم. لَآكِلُونَ مِنْ شَجَرٍ مِنْ زَقُّومٍ «من» الأولى للابتداء، و الثانية للبيان فَمالِؤُنَ مِنْهَا الْبُطُونَ من شدّة الجوع.

فَشارِبُونَ عَلَيْهِ مِنَ الْحَمِيمِ لغاية العطش. و

تأنيث الضمير في «منها» و تذكيره في «عليه» على معنى الشجر و لفظه. فَشارِبُونَ شُرْبَ الْهِيمِ الإبل الّتي بها الهيام. و هو داء يشبه الاستسقاء، فلا تزال تشرب الماء حتّى تموت. و المعنى:

كشرب الإبل الّتي لا تروى بالماء. جمع أهيم و هيماء.

و قيل: الرمال، على أنّه جمع هيام بالفتح. و هو الرمل الّذي لا يتماسك. جمع على هيم، كسحاب و سحب، ثمّ خفّف و فعل به ما فعل بجمع أبيض. و المعنى: أنّه يسلّط عليهم من الجوع ما يضطرّهم إلى أكل الزقّوم الّذي هو كالمهل، فإذا ملئوا منهم البطون يسلّط عليهم من العطش ما يضطرّهم إلى شرب الحميم الّذي يقطع أمعاءهم، فيشربونه شرب الهيم.

و المعطوف أخصّ من الآخر، من حيث إنّ كونهم شاربين للحميم على ما هو

______________________________

(1) الأنعام: 148.

(2) راجع ج 5 ص 545، ذيل الآية 17 من سورة الصافّات.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 577

عليه من تناهي الحرارة و قطع الأمعاء أمر عجيب، و شربهم له على ذلك كما تشرب الهيم الماء أمر عجيب أيضا، فكانتا صفتين مختلفتين، فلا اتّحاد بين المعطوف و المعطوف عليه ليلزم عطف الشي ء على نفسه.

و قرأ نافع و عاصم و حمزة: شرب، بضمّ الشين.

هذا نُزُلُهُمْ يَوْمَ الدِّينِ يوم الجزاء، فما ظنّك بما يكون لهم بعد ما استقرّوا في الجحيم؟ و فيه تهكّم، كما في قوله: فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ «1»، لأنّ النزل ما يعدّ للنازل تكرمة له.

[سورة الواقعة (56): الآيات 57 الى 67]

نَحْنُ خَلَقْناكُمْ فَلَوْ لا تُصَدِّقُونَ (57) أَ فَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ (58) أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ (59) نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (60) عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ وَ نُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ (61)

وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ

(62) أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ (63) أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ (64) لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ حُطاماً فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ (65) إِنَّا لَمُغْرَمُونَ (66)

بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (67)

ثمّ احتجّ سبحانه عليهم في البعث، فقال: نَحْنُ خَلَقْناكُمْ و لم تكونوا شيئا فَلَوْ لا فهلّا تُصَدِّقُونَ تحضيض على التصديق. إمّا بالخلق، لأنّهم و إن كانوا مصدّقين به، إلّا أنّهم لمّا كان مذهبهم خلاف ما يقتضيه التصديق، فكأنّهم مكذّبون

______________________________

(1) التوبة: 34.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 578

به. و إمّا بالبعث، لأنّ من خلق أوّلا لم يمتنع عليه أن يخلق ثانيا.

ثمّ نبّههم سبحانه على وجه الاستدلال على صحّة ما ذكره، فقال: أَ فَرَأَيْتُمْ ما تُمْنُونَ أي: ما تقذفونه و تصبّونه في الأرحام من النطف.

أَ أَنْتُمْ تَخْلُقُونَهُ تقدّرونه و تصوّرونه بشرا سويّا أَمْ نَحْنُ الْخالِقُونَ فإذا لم تقدروا أنتم و أمثالكم على ذلك فاعلموا أنّ اللّه سبحانه هو الخالق لذلك، و إذا ثبت أنّه قادر على خلق الولد من النطفة، وجب أن يكون قادرا على إعادته بعد موته، لأنّه ليس بأبعد منه.

ثمّ بيّن سبحانه أنّه كما هو قادر على إبداء الخلق قادر على إماتتهم، فقال:

نَحْنُ قَدَّرْنا بَيْنَكُمُ الْمَوْتَ قسّمناه عليكم، و أقّتنا موت كلّ بوقت معيّن كما تقتضيه مشيئتنا. و قرأ ابن كثير بتخفيف الدال. وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ لا يسبقنا أحد، فيهرب من الموت أو يغيّر وقته. أو لا يغلبنا أحد، من: سبقته على كذا إذا غلبته عليه و لم تمكّنه منه.

و قوله: عَلى أَنْ نُبَدِّلَ أَمْثالَكُمْ على الأوّل حال، أو علّة ل «قدّرنا»، و «على» بمعنى اللام، و «ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ» اعتراض. و على الثاني صلة. و المعنى:

لا يغلبني أحد على أن يخلق بدلكم أشباهكم. و يجوز أن يكون الأمثال جمع

مثل.

و المعنى: على أن نغيّر صفاتكم الّتي أنتم عليها في خلقكم و أخلاقكم.

وَ نُنْشِئَكُمْ فِي ما لا تَعْلَمُونَ في خلق أو صفات لا تعلمونها. يعني: أنّا نقدر على خلق ما يماثلكم و ما لا يماثلكم، فكيف نعجز عن إعادتكم؟! وَ لَقَدْ عَلِمْتُمُ النَّشْأَةَ الْأُولى حين خلقتم من نطفة و علقة و مضغة فَلَوْ لا تَذَكَّرُونَ فهلّا تعتبرون و تستدلّون بأنّ من قدر عليها قدر على النشأة الاخرى، فإنّها أقلّ صنعا، لحصول الموادّ، و تخصيص الأجزاء، و سبق المثال. و هذا قياس منصوص العلّة لا مطلقا.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 579

أَ فَرَأَيْتُمْ ما تَحْرُثُونَ تبذرون حبّه، و تعملون في أرضه أَ أَنْتُمْ تَزْرَعُونَهُ تنبتونه، بأن تردّوه نباتا ينمى إلى أن يبلغ الغاية أَمْ نَحْنُ الزَّارِعُونَ المنبتون، و قد اعترفتم بأنّا نحن الزارعون. فمن قدر على إنبات الزرع من الحبّة الصغيرة و يجعلها حبوبا كثيرة، قدر على إعادة الخلق إلى ما كانوا عليه. و

عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا يقولنّ أحدكم: زرعت، و ليقل: حرثت».

لَوْ نَشاءُ لَجَعَلْناهُ جعلنا ذلك الزرع حُطاماً هشيما لا ينتفع به. من:

حطم إذا تفتّت، كالفتات و الجذاذ من: فتّ و جذّ. فَظَلْتُمْ تَفَكَّهُونَ تعجبون. و عن الحسن: تندمون على تعبكم و اجتهادكم فيه، و إنفاقكم عليه. أو على ما اقترفتم من المعاصي الّتي أصبتم بذلك من أجلها، فتتحدّثون فيه. و التفكّه: التنقّل بصنوف الفاكهة. و قد استعير للتنقّل بالحديث.

إِنَّا لَمُغْرَمُونَ أي: يقولون: إنّا لملزمون غرامة ما أنفقنا. أو مهلكون، لهلاك رزقنا. من الغرام، و هو الهلاك. و قرأ أبو بكر: أ إنّا على الاستفهام. ثمّ يستدركون فيقولون: بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ حرمنا رزقنا. أو محدودون لا حظّ لنا و لا

بخت، لا مجدودون، و لو كنّا مجدودين لما جرى علينا هذا.

[سورة الواقعة (56): الآيات 68 الى 70]

أَ فَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ (68) أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ (69) لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ (70)

ثمّ نبّه سبحانه على دلالة اخرى على إمكان البعث و وقوعه، فقال: أَ فَرَأَيْتُمُ الْماءَ الَّذِي تَشْرَبُونَ أي: العذب الصالح للشرب.

أَ أَنْتُمْ أَنْزَلْتُمُوهُ مِنَ الْمُزْنِ من السحاب. واحده مزنة. و قيل: المزن السحاب الأبيض خاصّة، و هو أعذب ماء. أَمْ نَحْنُ الْمُنْزِلُونَ بقدرتنا، نعمة منّا عليكم. و الرؤية إن كانت بمعنى العلم فمتعلّقة بالاستفهام.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 580

لَوْ نَشاءُ جَعَلْناهُ أُجاجاً ملحا شديد الملوحة لا يقدر أحد على شربه. من الأجيج، فإنّه يحرق الفم. أو مرّا شديد المرارة. و حذفت اللام في جواب «لو» لعلم السامع بمكانها.

و تحقيقه: أنّ «لو» لمّا كانت داخلة على جملتين، معلّقة ثانيتهما بالأولى تعلّق الجزاء بالشرط، و لم تكن مخلصة للشرط ك: إن، و لا عاملة مثلها، و إنّما سرى في «لو» معنى الشرط اتّفاقا من حيث إفادتها في مضموني جملتيها أنّ الثاني امتنع لامتناع الأوّل، افتقرت في جوابها إلى ما ينصب علما على هذا التعلّق، فزيدت هذه اللام لتكون علما على ذلك، فإذا حذفت بعد ما صارت علما مشهورا مكانه، فلأنّ الشي ء إذا علم و شهر موقعه و صار مألوفا و مأنوسا به، لم يبال بإسقاطه عن الألفاظ استغناء بمعرفة السامع. ألا ترى إلى ما يحكى عن رؤبة أنّه كان يقول: خير، لمن قال له: كيف أصبحت؟ فيحذف الجارّ لعلم كلّ أحد بمكانه.

و يجوز أن يقال: إنّ هذه اللام مفيدة معنى التوكيد لا محالة، فأدخلت في آية المطعوم دون آية المشروب، للدلالة على أنّ أمر المطعوم

مقدّم على أمر المشروب، و أنّ الوعيد بفقده أشدّ و أصعب، من قبل أنّ المشروب إنّما يحتاج إليه تبعا للمطعوم.

ألا ترى أنّك إنّما تسقي ضيفك بعد أن تطعمه. و لهذا قدّمت آية المطعوم على آية المشروب.

فَلَوْ لا تَشْكُرُونَ أمثال هذه النعم الضروريّة الّتي لا يقدر عليها غير اللّه.

[سورة الواقعة (56): الآيات 71 الى 73]

أَ فَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ (71) أَ أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ (72) نَحْنُ جَعَلْناها تَذْكِرَةً وَ مَتاعاً لِلْمُقْوِينَ (73)

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 581

ثمّ نبّه سبحانه على دلالة أخرى، فقال: أَ فَرَأَيْتُمُ النَّارَ الَّتِي تُورُونَ تقدحونها و تستخرجونها من الزناد. و العرب تقدح بعودين، تحكّ أحدهما على الآخر، و يسمّون الأعلى الزند، و الأسفل الزندة، شبّهوهما بالفحل و الطروقة.

أَ أَنْتُمْ أَنْشَأْتُمْ شَجَرَتَها يعني: الشجرة الّتي منها الزناد أَمْ نَحْنُ الْمُنْشِؤُنَ

نَحْنُ جَعَلْناها جعلنا نار الزناد تَذْكِرَةً يتذكّر بها و يتفكّر فيها، ليعلم أنّ من قدر عليها و على إخراجها من الشجر الأخضر قدر على النشأة الآخرة، كما مرّ في سورة يس «1». أو تبصرة في أمر المعاش، حيث علّقنا بها أسباب المعايش كلّها، و عمّمنا بالحاجة إليها البلوى. أو في الظلام. أو تذكيرا و أنموذجا لنار جهنّم، فينظرون إليها و يذكرون ما أوعدوا به، لما

روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ناركم هذه الّتي يوقد بنو آدم جزء من سبعين جزءا من حرّ جهنّم».

وَ مَتاعاً و منفعة لِلْمُقْوِينَ للّذين ينزلون القواء، و هي القفر. أو للّذين خلت بطونهم أو مزاودهم من الطعام. من: أقوت الدار إذا خلت من ساكنيها.

و قيل: للمستمتعين بها من الناس أجمعين، المسافرين و الحاضرين.

و المعنى: أنّهم يستضيئون بها في الظلمة، و يصطلون من البرد، و ينتفعون بها في

الطبخ و الخبز. و على هذا؛ يكون المقوي من الأضداد. فيكون المقوي هو الّذي صار ذا قوّة من المال و النعمة، و المقوي أيضا الذاهب ماله، النازل بالقواء من الأرض. فالمعنى: و متاعا للأغنياء و الفقراء.

______________________________

(1) راجع ج 5 ص 535، ذيل الآية (80) من سورة يس.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 582

[سورة الواقعة (56): الآيات 74 الى 80]

فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (74) فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ (75) وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ (76) إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ (77) فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ (78)

لا يَمَسُّهُ إِلاَّ الْمُطَهَّرُونَ (79) تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (80)

و لمّا عدّد بدائع صنعه الدالّة على وحدانيّته و كمال قدرته و إنعامه على عباده، عقّبه بالتسبيح، فقال:

فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ فأحدث التسبيح بذكر اسمه. أو بذكره عمّا لا يليق بعظمة شأنه، فإنّ إطلاق اسم الشي ء ذكره. و العظيم صفة للاسم أو الربّ.

و تنقيح المعنى: قل: سبحان اللّه، إمّا تنزيها له عمّا يقول الظالمون الّذين يجحدون وحدانيّته و يكفرون نعمته. و إمّا تعجّبا من أمرهم في غمط «1» آلائه و أياديه الظاهرة.

و إمّا شكرا للّه على النعم الّتي عدّها و نبّه عليها. و قد صحّ

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا نزلت قال: «اجعلوها في ركوعكم».

يعني: قولوا فيه: سبحان ربّي العظيم.

فَلا أُقْسِمُ إذ المقسم عليه أوضح من أن يحتاج إلى قسم. أو فأقسم، و «لا» مزيدة للتأكيد، كما في قوله: لِئَلَّا يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ «2». أو فلأنا أقسم، و اللام لام الابتداء الّتي دخلت على المبتدأ و الخبر، كقولك: لزيد منطلق، فحذف المبتدأ، و أشبع فتحة لام الابتداء. أو فلا رد لكلام يخالف المقسم عليه، و هو قول الكفّار: إنّ القرآن سحر و شعر و كهانة.

بِمَواقِعِ النُّجُومِ

بمساقطها و مغاربها. و تخصيص المغارب لما في غروبها

______________________________

(1) غمط النعمة: لم يشكرها.

(2) الحديد: 29.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 583

من زوال أثرها، و الدلالة على وجود مؤثّر لا يزول تأثيره. أو بمنازلها و مجاريها.

و لعلّ للّه سبحانه في آخر الليل إذا انحطّت النجوم إلى المغرب أفعالا مخصوصة عظيمة، أو للملائكة عبادات موصوفة، أو لأنّه وقت قيام المتهجّدين و المبتهلين إليه من عباده الصالحين، و نزول الرحمة و الرضوان عليهم.

و

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنّ مواقع النجوم رجومها للشياطين».

و قيل: النجوم نجوم القرآن، و مواقعها أوقات نزولها.

و قرأ حمزة و الكسائي: بموقع النّجوم.

ثم استعظم ذلك القسم بقوله: وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ لما في المقسم به من الدلالة على عظم القدرة و كمال الحكمة و فرط الرحمة، و من مقتضيات رحمته أن لا يترك عباده سدى. و هو اعتراض في اعتراض، فإنّه اعتراض بين المقسم و المقسم عليه، أعني: قوله: «إِنَّهُ لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ». و «لَوْ تَعْلَمُونَ» اعتراض بين الموصوف و الصفة.

إِنَّهُ إنّ الّذي تلوناه عليك لَقُرْآنٌ كَرِيمٌ كثير النفع، لاشتماله على أصول العلوم المهمّة في إصلاح المعاد و المعاش. أو حسن مرضيّ في جنسه من الكتب. أو كريم على اللّه. فِي كِتابٍ مَكْنُونٍ أثبت في كتاب مصون محفوظ، و هو اللوح.

لا يَمَسُّهُ إِلَّا الْمُطَهَّرُونَ أي: لا يطّلع على اللوح إلّا المطهّرون من الكدورات الجسمانيّة، و هم الملائكة. هذا إن جعلت الجملة صفة ل «كتاب مكنون». و إن جعلت صفة للقرآن، فالمعنى:

لا ينبغي أن يمسّ القرآن- أي:

مكتوبه إلّا المطهّرون من الأحداث الكبرى و الصغرى. و هذا مرويّ عن أبي جعفر عليه السّلام،

و عطاء، و طاووس، و سالم. و هو مذهب مالك و الشافعي أيضا. فيكون

النفي بمعنى النهي. أو لا يطلبه إلّا المطهّرون من الكفر.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 584

تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ صفة ثالثة أو رابعة للقرآن. و هو مصدر نعت به، لأنّه نزل نجوما من بين سائر كتب اللّه تعالى، فكأنّه في نفسه تنزيل. و لذلك جرى مجرى بعض أسمائه، فقيل: جاء في التنزيل كذا، و نطق به التنزيل. أو هو تنزيل، على حذف المبتدأ.

[سورة الواقعة (56): الآيات 81 الى 87]

أَ فَبِهذَا الْحَدِيثِ أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ (81) وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ (82) فَلَوْ لا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ (83) وَ أَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ (84) وَ نَحْنُ أَقْرَبُ إِلَيْهِ مِنْكُمْ وَ لكِنْ لا تُبْصِرُونَ (85)

فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ (86) تَرْجِعُونَها إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (87)

ثمّ خاطب سبحانه أهل مكّة فقال: أَ فَبِهذَا الْحَدِيثِ الّذي حدّثناكم به، و أخبرناكم فيه عن حوادث الأمور. و هو القرآن. أَنْتُمْ مُدْهِنُونَ متهاونون به كمن يدهن في الأمر، أي: يليّن جانبه و لا يتصلّب فيه تهاونا به.

وَ تَجْعَلُونَ رِزْقَكُمْ على حذف المضاف. و الرزق: المطر الّذي هو سببه، تسمية للمسبّب باسم السبب. و المعنى: و تجعلون شكر ما يرزقكم اللّه من الغيث أَنَّكُمْ تُكَذِّبُونَ بكونه من اللّه حيث تنسبونه إلى الأنواء. فوضعتم التكذيب موضع الشكر.

عن ابن عبّاس: أصاب الناس عطش في بعض أسفاره، فدعا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فسقوا، فسمع رجلا يقول: مطرنا بنوء كذا، فنزلت هذه الآية.

و قيل: معناه: أ تجعلون حظّكم من القرآن الّذي رزقكم اللّه التكذيب به.

فَلَوْ لا فهلّا إِذا بَلَغَتِ الْحُلْقُومَ بلغت النفس الحلقوم عند الموت

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 585

وَ أَنْتُمْ حِينَئِذٍ تَنْظُرُونَ ترون تلك الحال. و الخطاب لمن حول المحتضر. و الواو للحال. وَ نَحْنُ أَقْرَبُ و نحن أعلم إِلَيْهِ إلى

المحتضر مِنْكُمْ عبّر عن العلم بالقرب الّذي هو أقوى سبب الاطّلاع وَ لكِنْ لا تُبْصِرُونَ لا تدركون كنه ما يجري عليه.

و قيل: معناه: و رسلنا الّذين يقبضون روحه أقرب إليه منكم، و لكن لا تبصرون رسلنا القابضين روحه.

فَلَوْ لا إِنْ كُنْتُمْ غَيْرَ مَدِينِينَ غير مجزيّين يوم القيامة. أو مملوكين مقهورين. من: دانه إذا أذلّه و استعبده. و أصل التركيب للذلّ و الانقياد.

تَرْجِعُونَها ترجعون النفس إلى مقرّها. و هو عامل الظرف. و المحضّض عليه ب «لولا» الأولى، و الثانية تكرير للتوكيد. و هي بما في حيّزها دليل جواب الشرط. و المعنى: إن كنتم غير مملوكين مجزيّين، كما دلّ عليه جحدكم أفعال اللّه و تكذيبكم بآياته إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في أباطيلكم، فلولا ترجعون الأرواح إلى الأبدان بعد بلوغها الحلقوم.

و توضيح المعنى: إنّكم في جحودكم أفعال اللّه و آياته في كلّ شي ء، إن أنزل عليكم كتابا معجزا قلتم: سحر و افتراء، و إن أرسل إليكم رسولا قلتم: ساحر كذّاب، و إن رزقكم مطرا يحييكم به قلتم: صدق نوء كذا، على مذهب يؤدّي إلى الإهمال و التعطيل. فما لكم لا ترجعون الروح إلى البدن بعد بلوغه الحلقوم، إن لم يكن ثمّ قابض، و كنتم صادقين في تعطيلكم و كفركم بالمحيي المميت المبدئ المعيد؟! و إذا لم تقدروا على ذلك، فاعلموا أنّه من تقدير مقدّر حكيم، و تدبير مدّبر عليم.

[سورة الواقعة (56): الآيات 88 الى 96]

فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ (88) فَرَوْحٌ وَ رَيْحانٌ وَ جَنَّةُ نَعِيمٍ (89) وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (90) فَسَلامٌ لَكَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ (91) وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ الضَّالِّينَ (92)

فَنُزُلٌ مِنْ حَمِيمٍ (93) وَ تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ (94) إِنَّ هذا لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ (95) فَسَبِّحْ بِاسْمِ

رَبِّكَ الْعَظِيمِ (96)

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 586

ثمّ ذكر سبحانه حال المخلوقات عند الموت، فقال: فَأَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُقَرَّبِينَ أي: إن كان المحتضر الّذي بلغت روحه الحلقوم من السابقين، من الأزواج الثلاثة المذكورة في أوّل السورة فَرَوْحٌ فله استراحة و لذّة وَ رَيْحانٌ و رزق طيّب. و قيل: هو الريحان المشموم من رياحين الجنّة. و قيل: الروح النجاة من النار، و الريحان دخول دار القرار. و قيل: روح في القبر، و ريحان في القيامة و الجنّة. وَ جَنَّةُ نَعِيمٍ ذات تنعّم.

وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ فَسَلامٌ لَكَ يا صاحب اليمين مِنْ أَصْحابِ الْيَمِينِ الّذين من إخوانك، يسلّمون عليك، كقوله تعالى: إِلَّا قِيلًا سَلاماً سَلاماً «1».

وَ أَمَّا إِنْ كانَ مِنَ الْمُكَذِّبِينَ بالبعث و الرسل الضَّالِّينَ عن الهدى. يعني:

أصحاب الشمال. و إنّما وصفهم بأفعالهم زجرا عنها، و إشعارا بما أوجب لهم ما أوعدهم به. فَنُزُلٌ فنزلهم الّذي أعدّ لهم، من الطعام و الشراب مِنْ حَمِيمٍ* وَ تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ و ذلك ما يجد في القبر من سموم النار و دخانها.

إِنَّ هذا إنّ هذا الّذي ذكر في هذه السورة، أو في شأن الأصناف الثلاثة لَهُوَ حَقُّ الْيَقِينِ أي: الحقّ الثابت من اليقين الّذي لا شبهة معه.

فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ فنزّه اسمه تعالى عمّا لا يليق بعظمة شأنه.

______________________________

(1) الواقعة: 26.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 587

(57) سورة الحديد

اشارة

مدنيّة. و هي تسع و عشرون آية.

أبيّ بن كعب، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قال: «من قرأ سورة الحديد كتب من الّذين آمنوا باللّه و رسوله».

و

روى العرباض بن سارية، قال: «إنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يقرأ المسبّحات قبل أن يرقد، و يقول: إنّ فيهنّ آية

أفضل من ألف آية».

و

روى عمرو بن شمر، عن جابر الجعفي، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من قرأ المسبّحات كلّها قبل أن ينام لم يمت حتّى يدرك القائم عليه السّلام، و إن مات كان في جوار رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

الحسين بن أبي العلاء، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة الحديد و المجادلة في صلاة الفريضة و أدمنها، لم يعذّبه اللّه أبدا حتّى يموت، و لا يرى في نفسه و لا في أهله سوءا أبدا، و لا خصاصة في بدنه».

[سورة الحديد (57): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يُحْيِي وَ يُمِيتُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (2) هُوَ الْأَوَّلُ وَ الْآخِرُ وَ الظَّاهِرُ وَ الْباطِنُ وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (3) هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ يَعْلَمُ ما يَلِجُ فِي الْأَرْضِ وَ ما يَخْرُجُ مِنْها وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ وَ ما يَعْرُجُ فِيها وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (4)

لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ (5) يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ وَ هُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (6)

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 588

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة الواقعة بالتسبيح، افتتح هذه السورة أيضا بالتسبيح، و عقّبه بالدلائل الموجبة للتسبيح، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ جاء التسبيح هاهنا و في الحشر و الصفّ بلفظ الماضي، و في الجمعة و التغابن بلفظ المضارع، إشعارا بأنّ من شأن ما

أسند إليه التسبيح- من السماوات و الأرض- أن يسبّحه في جميع أوقاته، لأنّه دلالة جبلّيّة لا تختلف باختلاف الحالات. و مجي ء المصدر مطلقا في بني إسرائيل أبلغ، من حيث إنّه يشعر بإطلاقه على استحقاق التسبيح من كلّ شي ء و في كلّ حال، من الملائكة و الثقلين.

و إنّما عدّي هاهنا باللام، اشعارا بأنّ إيقاع الفعل لأجل اللّه و خالصا لوجهه.

و مثله: نصحت له، في: نصحته. فالمعنى: أحدث التسبيح و التنزيه من كلّ سوء خالصا للّه. و أصل التسبيح التعدّي بنفسه، كما في قوله: وَ تُسَبِّحُوهُ «1». لأنّ

______________________________

(1) الفتح: 9.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 589

معنى: سبّحته: بعّدته عن السوء. منقول من: سبّح إذا ذهب و بعد.

«ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ» ما يتأتّى منه التسبيح و يصحّ. أو يسبّح له ذو الروح و غيره. أمّا العقلاء فيسبّحونه قولا و اعتقادا و لفظا و معنى. و أمّا غير العقلاء من سائر الحيوانات و الجمادات فتسبيحه ما فيه من الأدلّة الدالّة على وحدانيّته، و على الصفات الّتي باين بها جميع خلقه، و ما فيه من الحجج على أنّه لا يشبه خلقه، و أنّ خلقه لا يشبهه، فعبّر سبحانه عن ذلك بالتسبيح.

وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ حال يشعر بما هو المبدأ للتسبيح. و المعنى: و هو القادر الّذي لا يمتنع عليه شي ء من الأشياء، المحكم لأفعاله، العليم بوجوه الصواب في التدبير.

لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ فإنّه الموجد لهما، و المتصرّف فيهما، و ليس لأحد منعه منه يُحْيِي وَ يُمِيتُ استئناف، أو خبر لمحذوف، أو حال من المجرور في «له» و الجارّ عامل فيها. و معناه: يحيي النطف و البيض و الموتى يوم القيامة، و يميت الأحياء. وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ من

الإحياء و الإماتة و غيرهما قَدِيرٌ تامّ القدرة.

هُوَ الْأَوَّلُ القديم السابق على سائر الموجودات، من حيث إنّه موجدها و محدثها وَ الْآخِرُ الباقي بعد فنائها، و لو بالنظر إلى ذاتها مع قطع النظر عن غيرها. أو هو الأوّل الّذي تبتدأ منه الأسباب، و تنتهي إليه المسبّبات. أو الأوّل خارجا، و الآخر ذهنا.

وَ الظَّاهِرُ وجوده بالأدلّة الدالّة عليه. أو الغالب على كلّ شي ء. من: ظهر عليه إذا علاه و غلبه. وَ الْباطِنُ حقيقة ذاته، فلا تكتنهها العقول، و لا تدرك بالحواسّ. و في هذا حجّة على من جوّز إدراكه في الآخرة بالحاسّة. أو العالم بباطن كلّ شي ء.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 590

و قيل: الأوّل بالأزليّة، و الآخر بالأبديّة، و الظاهر بالأحديّة، و الباطن بالصمديّة.

و الواو الأولى للدلالة على أنّه الجامع بين الصفتين: الأوّليّة و الآخريّة.

و الثالثة على أنّه الجامع بين الظهور و الخفاء. و أمّا الوسطى، فعلى أنّه الجامع بين مجموع الصفتين الأوليين، و مجموع الصفتين الأخريين.

وَ هُوَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ يستوي عنده الظاهر و الخفيّ.

هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ لما في ذلك من اعتبار الملائكة بظهور شي ء بعد شي ء من جهته. و لما في الإخبار به من المصلحة للمكلّفين. ثُمَّ اسْتَوى عَلَى الْعَرْشِ استولى عليه استيلاء الملك على الملك، و المالك على الملك. و قد مرّ ذلك مرارا.

يَعْلَمُ ما يَلِجُ ما يدخل فِي الْأَرْضِ كالبذور وَ ما يَخْرُجُ مِنْها كالزروع وَ ما يَنْزِلُ مِنَ السَّماءِ كالأمطار و الأرزاق وَ ما يَعْرُجُ فِيها كالأبخرة و أعمال العباد و الملائكة وَ هُوَ مَعَكُمْ أَيْنَ ما كُنْتُمْ لا ينفكّ علمه و قدرته عنكم بحال وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ من خير و شرّ بَصِيرٌ عالم، فيجازيكم

عليه. و لعلّ تقديم الخلق على العلم لأنّه دليل عليه.

لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يتصرّف فيهما كيف يشاء. ذكره مع الإعادة كما ذكره مع الإبداء، لأنّه كالمقدّمة لهما. وَ إِلَى اللَّهِ تُرْجَعُ الْأُمُورُ يوم القيامة. يعني:

أنّ جميع من ملّكه شيئا في الدنيا يزول ملكه عنه.

يُولِجُ اللَّيْلَ فِي النَّهارِ وَ يُولِجُ النَّهارَ فِي اللَّيْلِ يدخل ما نقص من الليل في النهار، و ما نقص من النهار في الليل، حسب ما دبّره فيه من مصالح عباده وَ هُوَ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بمكنونها، من أسرار خلقه، و ما يخفونه من الضمائر و الاعتقادات و الإرادات و الكراهات، لا يخفى عليه شي ء منها. و فيه تحذير من المعاصي.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 591

[سورة الحديد (57): الآيات 7 الى 15]

آمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ أَنْفِقُوا مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ أَنْفَقُوا لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ (7) وَ ما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ وَ قَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ (8) هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ آياتٍ بَيِّناتٍ لِيُخْرِجَكُمْ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ إِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ (9) وَ ما لَكُمْ أَلاَّ تُنْفِقُوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ وَ لِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ وَ قاتَلَ أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قاتَلُوا وَ كُلاًّ وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (10) مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً فَيُضاعِفَهُ لَهُ وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ (11)

يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ يَسْعى نُورُهُمْ بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ بُشْراكُمُ الْيَوْمَ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ لِلَّذِينَ آمَنُوا

انْظُرُونا نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ قِيلَ ارْجِعُوا وَراءَكُمْ فَالْتَمِسُوا نُوراً فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بِسُورٍ لَهُ بابٌ باطِنُهُ فِيهِ الرَّحْمَةُ وَ ظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ (13) يُنادُونَهُمْ أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ قالُوا بَلى وَ لكِنَّكُمْ فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ وَ تَرَبَّصْتُمْ وَ ارْتَبْتُمْ وَ غَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُّ حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ وَ غَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ (14) فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ وَ لا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ مَوْلاكُمْ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (15)

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 592

ثمّ خاطب المكلّفين، فقال: آمِنُوا بِاللَّهِ بوحدانيّته و إخلاص العبادة له وَ رَسُولِهِ و صدّقوا بنبوّته وَ أَنْفِقُوا في طاعة اللّه و الوجوه الّتي أمركم بالإنفاق فيها مِمَّا جَعَلَكُمْ مُسْتَخْلَفِينَ فِيهِ من الأموال التي جعلكم اللّه خلفاء في التصرّف فيها. فهي في الحقيقة له لا لكم، بسبب خلقه و إنشائه لها. و إنّما موّلكم إيّاها، و خوّلكم الاستمتاع بها، و ما أنتم فيها إلّا بمنزلة الوكلاء و النوّاب.

أو المعنى: جعلكم مستخلفين ممّن كان قبلكم فيما في أيديكم، بتوريثه إيّاكم. فاعتبروا بحالهم حيث انتقل منهم إليكم، و سينتقل منكم إلى من بعدكم، فلا تبخلوا به، و انفعوا بالإنفاق منها أنفسكم.

و فيه حثّ على الإنفاق، و تهوين له على النفس، كما يهون على الرجل النفقة من مال غيره إذا أذن له فيه.

فَالَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ أَنْفَقُوا منها في حقوق اللّه لَهُمْ أَجْرٌ كَبِيرٌ وعد فيه مبالغات: جعل الجملة اسميّة، و إعادة ذكر الإيمان و الإنفاق، و بناء الحكم على الضمير، و تنكير الأجر، و وصفه بالكبر، أي: لهم ثواب عظيم لا يكتنهه العقل.

ثمّ وبّخهم بترك الإيمان، و بعده بترك الإنفاق، فقال: وَ ما لَكُمْ لا تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ الجملة الفعليّة حال من معنى الفعل في «لكم»، كما

تقول: مالك قائما؟

بمعنى: ما تصنع قائما؟ أي: و ما تصنعون غير مؤمنين به؟ و أيّ شي ء يمنعكم من الإيمان به؟ وَ الرَّسُولُ يَدْعُوكُمْ لِتُؤْمِنُوا بِرَبِّكُمْ حال من ضمير «لا تؤمنون».

فهما حالان متداخلان.

و المعنى: أيّ عذر لكم في ترك الإيمان، و الرسول يدعوكم إليه، و ينبّهكم

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 593

عليه، و يتلو عليكم الكتاب الناطق بالحجج و الآيات؟

و قوله: وَ قَدْ أَخَذَ مِيثاقَكُمْ حال من مفعول «يدعوكم» أي: الرسول يدعوكم بالإيمان حال كونه تعالى قد أخذ ميثاقكم بالإيمان. و قرأ أبو عمرو: أخذ على البناء للمفعول، أي: و قد أخذ الميثاق منكم بالإيمان قبل ذلك بنصب الأدلّة و التمكين من النظر.

إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ لموجب مّا، فإنّ هذا موجب لا مزيد عليه، أي: إذا لم يبق لكم علّة بعد ارتفاع الشبه، و لزوم الحجج العقليّة و النقليّة عليكم، فما لكم لا تؤمنون؟

هُوَ الَّذِي يُنَزِّلُ عَلى عَبْدِهِ يعني: محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آياتٍ بَيِّناتٍ حججا منيرة و براهين واضحة لِيُخْرِجَكُمْ أي: اللّه سبحانه، أو عبده صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مِنَ الظُّلُماتِ من ظلمات الكفر إِلَى النُّورِ إلى نور الايمان بالتوفيق و الألطاف الهادية وَ إِنَّ اللَّهَ بِكُمْ لَرَؤُفٌ رَحِيمٌ حيث نبّهكم بالرسل و الآيات، و لم يقتصر على ما نصب لكم من الحجج العقليّة. و إنّما جمع بين الرأفة و الرحمة للتأكيد. و قيل:

الرأفة النعمة على المضرور، و الرحمة النعمة على المحتاج.

و في الآية دلالة على بطلان مذهب أهل الجبر، فإنّه سبحانه بيّن أنّ الغرض في إنزال القرآن الإيمان به.

وَ ما لَكُمْ أَلَّا تُنْفِقُوا و أيّ شي ء لكم في أن لا تنفقوا فِي سَبِيلِ اللَّهِ فيما يكون قربة إليه وَ

لِلَّهِ مِيراثُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ يرث كلّ شي ء فيهما، فلا يبقى لأحد مال. و إذا كان كذلك فإنفاقه بحيث يستخلف عوضا يبقى- و هو الثواب- كان أولى. و هذا من أبلغ البعث على الإنفاق في سبيل اللّه.

ثمّ بيّن التفاوت بين المنفقين منهم، فقال: لا يَسْتَوِي مِنْكُمْ مَنْ أَنْفَقَ مِنْ قَبْلِ الْفَتْحِ قبل فتح مكّة، إذ بالإنفاق وقع عزّ الإسلام و قوّة أهله، و دخول الناس في

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 594

دين اللّه أفواجا وَ قاتَلَ مع الكفّار. و ذكر القتال في بيان التفاوت بين المنفقين للاستطراد. و قسيم «من أنفق» محذوف، تقديره: و من أنفق من بعد الفتح، فحذف لوضوحه، و دلالة ما بعده عليه، أعني: قوله: أُولئِكَ أَعْظَمُ دَرَجَةً فإنّه بيان لتفاوت المنفقين باختلاف أحوالهم، من السبق و قوّة اليقين و تحرّي الحاجات مِنَ الَّذِينَ أَنْفَقُوا مِنْ بَعْدُ وَ قاتَلُوا أي: من بعد فتح مكّة، فإنّ الإنفاق و القتال قبل فتح مكّة كان أشدّ، و الحاجة إلى النفقة و الجهاد كان أكثر.

وَ كُلًّا و كلّ واحد من الفريقين المنفقين وَعَدَ اللَّهُ الْحُسْنى المثوبة الحسنى- و هي: الجنّة- و إن تفاوتوا في مراتب الدرجات. و قرأ ابن عامر: و كلّ، بالرفع على الابتداء، أي: و كلّ وعده اللّه، ليطابق ما عطف عليه، و هو قوله: وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ عالم بظاهره و باطنه، فمجازيكم على حسبه.

ثمّ بيّن كيفيّة الإنفاق و مزيّة المثوبة، فقال: مَنْ ذَا الَّذِي يُقْرِضُ اللَّهَ أي:

ينفق ماله في سبيله رجاء أن يعوّضه، فإنّه كمن يقرض اللّه قَرْضاً حَسَناً أي:

إنفاق أكرم المال و أطيبه في أفضل الجهات مقرونا بالإخلاص. فشبّه ذلك بالقرض على سبيل المجاز. و وجه الشبه هو التعويض.

و قال بعض

المحقّقين: القرض الحسن أن يجمع عشرة أوصاف:

أن يكون من الحلال،

لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «إنّ اللّه تعالى طيّب، لا يقبل إلّا الطيّب».

و أن يكون من أكرم ما يملكه، دون أن يقصد الردي ء بالإنفاق، لقوله تعالى:

وَ لا تَيَمَّمُوا الْخَبِيثَ مِنْهُ تُنْفِقُونَ «1».

و أن يتصدّق و هو يحبّ المال و يرجو الحياة،

لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا سئل عن الصدقة: «أفضل الصدقة أن تعطيه و أنت صحيح شحيح، تأمل العيش، و تخشى

______________________________

(1) البقرة: 267. زبدة التفاسير، ج 6، ص: 595

الفقر، و لا تمهل حتّى إذا بلغت النفس التراقي قلت: لفلان كذا و لفلان كذا».

و أن يضعه في الأخلّ الأحوج الأولى بأخذه، و لذلك خصّ اللّه أقواما بأخذ الصدقات، و هم أهل البلوى.

و أن يكتمه ما أمكن، لقوله: وَ إِنْ تُخْفُوها وَ تُؤْتُوهَا الْفُقَراءَ فَهُوَ خَيْرٌ لَكُمْ «1».

و أن لا يتبعه المنّ و الأذى، لقوله: لا تُبْطِلُوا صَدَقاتِكُمْ بِالْمَنِّ وَ الْأَذى «2».

و أن يقصد به وجه اللّه، و لا يرائي بذلك، لأنّ الرياء مذموم.

و أن يستحقر ما يعطي و إن كثر، لأنّ متاع الدنيا قليل.

و أن يكون من أحبّ ماله إليه، لقوله: لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ «3».

و أن يحتاج إليه، لقوله تعالى: وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ «4».

فهذه الأوصاف العشرة إذا استكملتها الصدقة كان ذلك قرضا حسنا.

فَيُضاعِفَهُ لَهُ أي: يعطي أجره أضعافا، من بين سبع إلى سبعين إلى سبعمائة وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ و ذلك الأجر المضموم إليه الأضعاف كريم في نفسه، ينبغي أن يتوخّى و إن لم يضاعف، فكيف و قد يضاعف أضعافا! و قرأ عاصم: فيضاعفه بالنصب، على جواب الاستفهام باعتبار

المعنى، فكأنّه قال: أ يقرض اللّه أحد فيضاعفه له؟ و قرأ ابن كثير: فيضعفه مرفوعا، عطفا على «يقرض اللّه». أو على تقدير: فهو يضاعفه. و ابن عامر و يعقوب: فيضعفه

______________________________

(1) البقرة: 271.

(2) البقرة: 264.

(3) آل عمران: 92.

(4) الحشر: 9.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 596

منصوبا.

يَوْمَ تَرَى الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ ظرف لقوله: «وَ لَهُ أَجْرٌ كَرِيمٌ» أو «فيضاعفه». أو مقدّر ب: اذكر، تعظيما لذلك اليوم. يَسْعى نُورُهُمْ ما يوجب نجاتهم و هدايتهم إلى الجنّة و هم يمرّون فيه.

قال قتادة: إنّ المؤمن يضي ء له نور كما بين عدن إلى صنعاء و دون ذلك، حتّى إنّ من المؤمن من لا يضي ء له نوره إلّا موضع قدميه.

و قال عبد اللّه بن مسعود: يؤتون نورهم على قدر أعمالهم، فمنهم من نوره مثل الجبل، و أدناهم نورا من نوره على إبهامه، يطفأ مرّة و يقد أخرى.

و يخصّص ذلك النور بقوله: بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ لأنّ السعداء يؤتون صحائف أعمالهم من هاتين الجهتين، كما أنّ الأشقياء يؤتونها من شمائلهم و من وراء ظهورهم. فجعل النور في الجهتين شعارا لهم و علامة، لأنّهم هم الّذين بحسناتهم سعدوا، و بصحائفهم البيض أفلحوا، فإذا ذهب بهم إلى الجنّة و مرّوا على الصراط يسعون، و سعى بسعيهم ذلك النور جنيبا لهم و متقدّما.

و يقول لهم الّذين يتلقّونهم من الملائكة: بُشْراكُمُ الْيَوْمَ أي: المبشّر به في هذا اليوم جَنَّاتٌ أو بشراكم دخول جنّات تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها ذلِكَ إشارة إلى ما تقدّم من النور و البشرى بالجنّات المخلّدة هُوَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ

ثمّ ذكر حال المنافقين في ذلك اليوم، فقال: يَوْمَ يَقُولُ الْمُنافِقُونَ وَ الْمُنافِقاتُ بدل من «يوم ترى» لِلَّذِينَ آمَنُوا انْظُرُونا انتظرونا، فإنّهم يسرع بهم إلى

الجنّة كالبرق الخاطف على ركاب تزفّ بهم، و هؤلاء مشاة. أو انظروا إلينا، لأنّهم إذا نظروا إليهم استقبلوهم بوجوههم، فيستضيئون بنور بين أيديهم. و قرأ حمزة: أنظرونا، من النظرة، و هي الإمهال. جعل اتّئادهم «1» في المضيّ إلى أن

______________________________

(1) أي: تمهّلهم و تأنّيهم.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 597

يلحقوا بهم إنظارا لهم.

نَقْتَبِسْ مِنْ نُورِكُمْ نصب منه. و ذلك بأن يلحقوا بهم فيستنيروا به. و قيل:

إنّهم إذا خرجوا من قبورهم اختلطوا، فيسعى المنافقون في نور المؤمنين، فإذا ميّزوا بقوا في الظلمة، فيستغيثون و يقولون هذا القول.

قِيلَ فيقال للمنافقين ارْجِعُوا وَراءَكُمْ إلى الدنيا فَالْتَمِسُوا نُوراً بتحصيل المعارف الإلهيّة و الأخلاق الفاضلة، فإنّه يتولّد منها. أو إلى الموقف، فإنّه من ثمّ أعطينا هذا النور، فالتمسوه هنالك. أو ارجعوا خائبين و تنحّوا عنّا، فاطلبوا نورا بتحصيل سببه، و هو الإيمان، فإنّه لا سبيل لكم إلى هذا النور. و هو تهكّم بهم، و تخييب من المؤمنين أو الملائكة.

فَضُرِبَ بَيْنَهُمْ بين المؤمنين و المنافقين بِسُورٍ بحائط يكون بين الجنّة و النار لَهُ بابٌ يدخل منه المؤمنون باطِنُهُ باطن السور، أو الباب فِيهِ الرَّحْمَةُ لأنّه يلي الجنّة وَ ظاهِرُهُ مِنْ قِبَلِهِ الْعَذابُ من جهته، لأنّه يلي النار.

يُنادُونَهُمْ ينادي المنافقون المؤمنين أَ لَمْ نَكُنْ مَعَكُمْ يريدون موافقتهم ظاهرا في الصلاة و الصوم و غيرهما قالُوا بَلى بلى كنتم معنا وَ لكِنَّكُمْ كنتم فَتَنْتُمْ أَنْفُسَكُمْ محنتموها بالنفاق، و أهلكتموها به وَ تَرَبَّصْتُمْ بالمؤمنين دوائر السوء وَ ارْتَبْتُمْ و شككتم في الدين وَ غَرَّتْكُمُ الْأَمانِيُ كامتداد العمر و طول الأمل حَتَّى جاءَ أَمْرُ اللَّهِ و هو الموت وَ غَرَّكُمْ بِاللَّهِ الْغَرُورُ الشيطان، بأنّ اللّه غفور كريم لا يعذّبكم. أو الدنيا.

فَالْيَوْمَ لا يُؤْخَذُ مِنْكُمْ فِدْيَةٌ فداء تنقذوا

أنفسكم به من العذاب. و قرأ ابن عامر و يعقوب بالتاء. وَ لا مِنَ الَّذِينَ كَفَرُوا ظاهرا و باطنا مَأْواكُمُ النَّارُ هِيَ

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 598

مَوْلاكُمْ هي أولى بكم. و حقيقته: محراكم «1»، أي: مكانكم الّذي يقال فيه هو أولى بكم. أو مكانكم عمّا قريب، من الولي، و هو القرب. أو ناصركم، على طريقة قولهم: تحيّة بينهم ضرب وجيع. و المعنى: لا ناصر لكم غيرها على البتّ. و نحوه قولهم: أصيب فلان بكذا فاستنصر الجزع. و منه قوله تعالى: يُغاثُوا بِماءٍ كَالْمُهْلِ «2». أو تتولّاكم النار كما تولّيتم موجباتها في الدنيا من أعمال أهل النار.

وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ النار.

[سورة الحديد (57): الآيات 16 الى 19]

أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ لِذِكْرِ اللَّهِ وَ ما نَزَلَ مِنَ الْحَقِّ وَ لا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (16) اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بَعْدَ مَوْتِها قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ لَعَلَّكُمْ تَعْقِلُونَ (17) إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَ الْمُصَّدِّقاتِ وَ أَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعَفُ لَهُمْ وَ لَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ (18) وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَ الشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ (19)

ثمّ دعاهم سبحانه إلى الطاعة، فقال: أَ لَمْ يَأْنِ لِلَّذِينَ آمَنُوا أَنْ تَخْشَعَ قُلُوبُهُمْ ألم يأت وقت أن ترقّ و تلين قلوبهم. من: أنى الأمر يأني أنيا و إنى إذا

______________________________

(1) يقال: هو حريّ أن يفعل كذا، أي: جدير بذلك و حقيق به. و اسم المكان منه: محرى.

(2) الكهف: 29.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 599

جاء أناه، أي: وقته. لِذِكْرِ اللَّهِ لما يذكّرهم اللّه به من مواعظه. روي: أنّ المؤمنين

كانوا مجدبين بمكّة، فلمّا هاجروا أصابوا الرزق و النعمة، ففتروا عمّا كانوا عليه من أفعال الخير، فنزلت. و عن ابن مسعود: ما كان بين إسلامنا و بين أن عوتبنا بهذه الآية إلّا أربع سنين.

وَ ما نَزَلَ مِنَ الْحَقِ أي: القرآن. و هو عطف على الذكر عطف أحد الوصفين على الآخر. و يجوز أن يراد بالذكر أن يذكر اللّه. و قرأ نافع و حفص و يعقوب: نزل بالتخفيف.

وَ لا يَكُونُوا كَالَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ مِنْ قَبْلُ عطف على «تخشع». و قرأ رويس بالتاء. و المراد النهي عن مماثلة أهل الكتاب فيما حكي عنهم بقوله: فَطالَ عَلَيْهِمُ الْأَمَدُ فطال عليهم الزمان لطول أعمارهم و آمالهم. أو ما بينهم و بين أنبيائهم.

و قيل: طالت أعمارهم، و طارت أعمالهم.

فَقَسَتْ قُلُوبُهُمْ غلظت و زال خشوعها، و مرنوا على المعاصي و اعتادوها.

و من كلام عيسى عليه السّلام: «لا تكثروا الكلام بغير ذكر اللّه». وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن دينهم، رافضون لما في كتابهم من فرط القسوة. فلا تكونوا مثلهم، فيحكم اللّه فيكم بمثل ما حكم فيهم.

ثمّ مثّل لإحياء القلوب القاسية بالذكر و التلاوة، فقال: اعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ يُحْيِ الْأَرْضَ بالنبات بَعْدَ مَوْتِها بعد اليبس و الجدوبة، أي: فكذلك اللّه يحيي الكافر بالإيمان بعد موته بالضلال و الكفر، بأن يلطف له ما يؤمن به، من إرسال الرسل و إنزال الكتب و غيره. أو انّ اللّه يليّن قلوب عبيده بعد قسوتها بالألطاف و التوفيقات الّتي من جملتها الذكر و التلاوة. و قيل: هذا تمثيل لإحياء الأموات، ترغيبا في الخشوع، و زجرا عن القساوة.

قَدْ بَيَّنَّا لَكُمُ الْآياتِ الحجج الواضحات، و الدلائل الباهرات لَعَلَّكُمْ

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 600

زبدة التفاسير ج 7 5

تَعْقِلُونَ كي

يكمل عقولكم بها، فترجعوا إلى طاعتنا، و تعملوا بما أمرناكم به.

إِنَّ الْمُصَّدِّقِينَ وَ الْمُصَّدِّقاتِ أي: المتصدّقين و المتصدّقات. و قرأ ابن كثير و أبو بكر بتخفيف الصاد، أي: الّذين صدقوا اللّه و رسوله. وَ أَقْرَضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً عطف على معنى الفعل في المحلّى باللام، لأنّ معناه: الّذين أصدقوا أو صدّقوا. و هو على الأوّل للدلالة على أنّ المعتبر هو التصدّق المقرون بالإخلاص.

يُضاعَفُ لَهُمْ وَ لَهُمْ أَجْرٌ كَرِيمٌ تفسير هذا الكلام و بيان وجوه القراءة في «يضاعف» قد مرّ آنفا، غير أنّه لم ينجزم، لأنّه خبر «إنّ». و هو مسند إلى «لهم»، أو إلى ضمير مصدر «يضاعف».

وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ صدّقوا بتوحيد اللّه، و أقرّوا بنبوّة رسله أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَ الشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي: أولئك عند اللّه بمنزلة الصدّيقين و الشهداء.

أو هم المبالغون في الصدق، فإنّهم آمنوا و صدّقوا جميع أخبار اللّه و رسله، و القائمون بالشهادة للّه و لهم. أو على الأمم يوم القيامة.

و قيل: «وَ الشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ» مبتدأ و خبر. و المراد بهم الأنبياء، من قوله:

فَكَيْفَ إِذا جِئْنا مِنْ كُلِّ أُمَّةٍ بِشَهِيدٍ «1». و هو مرويّ عن ابن عبّاس، و مسروق، و مقاتل بن حيّان. و اختاره الفرّاء و الزجّاج.

و قيل: الّذين استشهدوا في سبيل اللّه.

و

روى العيّاشي بالإسناد عن منهال القصّاب قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: ادع اللّه أن يرزقني الشهادة. فقال: إنّ المؤمن شهيد، و قرأ هذه الآية».

و

عن الحارث بن المغيرة قال: «كنّا عند أبي جعفر عليه السّلام فقال: العارف منكم هذا الأمر المنتظر له، المحتسب فيه الخير، كمن جاهد و اللّه مع قائم آل محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بسيفه. ثمّ قال:

بل و اللّه كمن جاهد مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بسيفه. ثمّ قال الثالثة: بلى

______________________________

(1) النساء: 41. زبدة التفاسير، ج 6، ص: 601

و اللّه كمن استشهد مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في فسطاطه. و فيكم آية من كتاب اللّه. قلت:

و أيّ آية جعلت فداك. قال: قول اللّه عزّ و جلّ: وَ الَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ أُولئِكَ هُمُ الصِّدِّيقُونَ وَ الشُّهَداءُ عِنْدَ رَبِّهِمْ ثمّ قال: صرتم و اللّه صادقين شهداء عند ربّكم».

لَهُمْ أَجْرُهُمْ وَ نُورُهُمْ لهم مثل أجر الصدّيقين و الشهداء و مثل نورهم، و لكنّه من غير تضعيف، ليحصل التفاوت. أو الأجر و النور الموعودان لهم.

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ الْجَحِيمِ فيه دليل على أنّ الخلود في النار مخصوص بالكفّار، من حيث إنّ التركيب يشعر بالاختصاص، و الصحبة تدلّ على الملازمة عرفا.

[سورة الحديد (57): الآيات 20 الى 21]

اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ وَ لَهْوٌ وَ زِينَةٌ وَ تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ وَ تَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ ثُمَّ يَهِيجُ فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً وَ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوانٌ وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلاَّ مَتاعُ الْغُرُورِ (20) سابِقُوا إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ وَ جَنَّةٍ عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ أُعِدَّتْ لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (21)

و لمّا ذكر حال الفريقين في الآخرة حقّر أمور الدنيا، تزهيدا للمؤمنين في أمور الدنيا و ركونهم إلى لذّاتها، فقال:

اعْلَمُوا أَنَّمَا الْحَياةُ الدُّنْيا لَعِبٌ أي: الحياة في هذه الدار الدنيّة و الأمور

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 602

المتعلّقة بها أمور خياليّة قليلة النفع

سريعة الزوال، لأنّها لعب يتعب الناس فيه أنفسهم جدّا، إتعاب الصبيان في الملاعب من غير فائدة وَ لَهْوٌ يلهون به أنفسهم عمّا يهمّهم من الأمور الأخرويّة وَ زِينَةٌ يتزيّنون بها، كالملابس الحسنة، و المراكب البهيّة، و المنازل الرفيعة وَ تَفاخُرٌ بَيْنَكُمْ بالأنساب و العدد و العدد وَ تَكاثُرٌ فِي الْأَمْوالِ وَ الْأَوْلادِ.

ثمّ مثّل لها في سرعة تقضّيها و قلّة جدواها بقوله: كَمَثَلِ غَيْثٍ أَعْجَبَ الْكُفَّارَ نَباتُهُ أي: نبات أنبته المطر فاستوى بحيث أعجب الحرّاث. أو الكافرون باللّه، لأنّهم أشدّ إعجابا بزينة الدنيا. و لأنّ المؤمن إذا رأى معجبا انتقل فكره إلى قدرة صانعه فأعجب بها، و الكافر لا يتخطّى فكره عمّا أحسّ به، فيستغرق فيه إعجابا ثُمَّ يَهِيجُ ييبس بعاهة و آفة فَتَراهُ مُصْفَرًّا ثُمَّ يَكُونُ حُطاماً يتحطّم و يتكسّر بعد يبسه. و شرح هذا المثل قد تقدّم في سورة يونس «1».

وَ فِي الْآخِرَةِ عَذابٌ شَدِيدٌ لأعداء اللّه، تنفيرا عن الانهماك في الدنيا، و حثّا على ما يوجب كرامة العقبى. ثمّ أكّد ذلك بقوله: وَ مَغْفِرَةٌ مِنَ اللَّهِ وَ رِضْوانٌ لأولياء اللّه وَ مَا الْحَياةُ الدُّنْيا إِلَّا مَتاعُ الْغُرُورِ أي: لمن أقبل عليها، و لم يطلب بها الآخرة.

ثمّ رغّب سبحانه في المسابقة لطلب الجنّة، فقال: سابِقُوا و سارعوا مسارعة السابقين في المضمار إِلى مَغْفِرَةٍ مِنْ رَبِّكُمْ إلى موجباتها من الأعمال الصالحة وَ جَنَّةٍ و سابقوا إلى استحقاق ثواب جنّة هذه صفتها عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ و إذا كان العرض كذلك فما ظنّك بالطول؟! و قيل: طولها لا يعلمه إلّا اللّه.

و قيل: المراد به البسطة، كقوله: فَذُو دُعاءٍ عَرِيضٍ «2».

______________________________

(1) راجع ج 3 ص 202، ذيل الآية 24. من سورة يونس.

(2) فصّلت: 51.

زبدة التفاسير، ج 6،

ص: 603

و قيل: إنّ اللّه قال: «عَرْضُها كَعَرْضِ السَّماءِ وَ الْأَرْضِ»، و الجنّة المخلوقة في السماء السابعة، فلا تنافي بينهما.

أُعِدَّتْ ادّخرت و هيّئت لِلَّذِينَ آمَنُوا بِاللَّهِ وَ رُسُلِهِ فيه دليل على أنّ الجنّة مخلوقة، و أنّ الإيمان وحده كاف في استحقاقها، لأنّه ذكر أنّ الجنّة معدّة للمؤمنين، و لم يذكر معه شيئا آخر، و هذا أعظم رجاء لأهل الإيمان.

ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ ذلك الموعود يتفضّل به على من يشاء، فإنّه يجزي الدائم الباقي على القليل الفاني. و لو اقتصر في الجزاء على قدر ما يستحقّ بالأعمال، كان عدلا منه، لكنّه تفضّل بالزيادة.

و قيل: معناه: إنّ أحدا منّا لا ينال خيرا في الدنيا و الآخرة إلّا بفضل اللّه، فإنّه سبحانه لو لم يدعنا إلى الطاعة، و لم يبيّن لنا الطريق، و لم يوفّقنا للعمل الصالح، لما اهتدينا إليه، فذلك كلّه من فضل اللّه. و أيضا فإنّه سبحانه تفضّل بالأسباب الّتي يفعل بها الطاعة، من التمكين و الألطاف و كمال العقل، و عرض المكلّف للثواب، فالتكليف أيضا تفضّل.

وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ فلا يبعد منه التفضّل بذلك و إن عظم قدره.

[سورة الحديد (57): الآيات 22 الى 24]

ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ إِلاَّ فِي كِتابٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها إِنَّ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (22) لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ (23) الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (24)

و لمّا بيّن الثواب على الطاعة، عقّبه ببيان الأعواض على مقاساة المصائب، فقال: ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ فِي الْأَرْضِ كالجدب و العاهة وَ لا فِي أَنْفُسِكُمْ

زبدة التفاسير، ج 6،

ص: 604

كالمرض، و الآفة، و موت الأولاد، و سائر الأقارب و الأحباب إِلَّا فِي كِتابٍ إلّا مكتوبة في اللوح، مثبتة في علم اللّه مِنْ قَبْلِ أَنْ نَبْرَأَها و المعنى: أنّه تعالى أثبتها في اللوح المحفوظ قبل أن يخلق الأنفس و الأرض، ليستدلّ ملائكته به على أنّه عالم لذاته يعلم الأشياء بحقائقها إِنَّ ذلِكَ أن يثبته في الكتاب على كثرته عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ لاستغنائه عن العدّة و المدّة.

لِكَيْلا تَأْسَوْا أي: أثبت و كتب ذلك لئلّا تحزنوا عَلى ما فاتَكُمْ من نعم الدنيا وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ بما أعطاكم اللّه منها، فإنّ من علم أنّ الكلّ مقدّر هان عليه الأمر. و أيضا إذا علم الإنسان أنّ ما فات منها ضمن اللّه تعالى العوض عليه في الآخرة، فلا ينبغي أن يحزن لذلك. و إذا علم أنّ ما ناله منها كلّف الشكر عليه و الحقوق الواجبة فيه، فلا ينبغي أن يفرح به. و إذا علم أنّ شيئا منها لا يبقى، فلا ينبغي أن يهتمّ له، بل يجب أن يهتمّ لأمر الآخرة الّتي تدوم و لا تبيد.

و قرأ أبو عمرو: «بما أتاكم» من الإتيان، ليعادل «ما فاتكم». و على الأوّل فيه إشعار بأنّ فواتها يلحقها إذا خلّيت و طباعها، و أمّا حصولها و بقاؤها فلا بدّ لهما من سبب يوجدها و يبقيها.

و المراد به نفي الأسى المانع عن التسليم لأمر اللّه، و الفرح الموجب للبطر و الاختيال. و لذلك عقّبه بقوله: وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ إذ قلّ من يثبت نفسه في حالي الضرّاء و السرّاء.

و قيل لبزرجمهر الحكيم: مالك أيّها الحكيم لا تأسف على ما فات، و لا تفرح بما هو آت؟

فقال: لأنّ الفائت لا يتلافى

بالعبرة، و الآتي لا يستدام بالخبرة.

و اعلم أنّ في هذه الآية إشارة إلى أربعة أشياء:

الأوّل: حسن الخلق، لأنّ من استوى عنده وجود الدنيا و عدمها، لا يحسد، و لا يعادي، و لا يشاحّ، فإنّ هذه من أسباب سوء الخلق، و هي من

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 605

نتائج حبّ الدنيا.

و ثانيها: استحقار الدنيا و أهلها، إذا لم يفرح بوجودها، و لم يحزن لعدمها.

و ثالثها: تعظيم الآخرة، لما ينال من الثواب الدائم الخالص من الشوائب.

و رابعها: الافتخار باللّه دون أسباب الدنيا.

و

يروى أنّ عليّ بن الحسين عليه السّلام جاءه رجل فقال له: ما الزهد؟ فقال: «الزهد عشرة أجزاء. فأعلى درجة الزهد أدنى درجة الورع. و أعلى درجة الورع أدنى درجة اليقين. و أعلى درجة اليقين أدنى درجة الرضا. و إنّ الزهد كلّه في آية من كتاب اللّه: لِكَيْلا تَأْسَوْا عَلى ما فاتَكُمْ وَ لا تَفْرَحُوا بِما آتاكُمْ وَ اللَّهُ لا يُحِبُّ كُلَّ مُخْتالٍ فَخُورٍ».

الَّذِينَ يَبْخَلُونَ وَ يَأْمُرُونَ النَّاسَ بِالْبُخْلِ بدل من «كلّ مختال» فإنّ المختال بالمال يضنّ به غالبا. أو مبتدأ خبره محذوف مدلول عليه بقوله: وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ لأنّ معناه: و من يعرض عن الإنفاق، فإنّ اللّه غنيّ عنه و عن إنفاقه، محمود في ذاته، لا يضرّه الإعراض عن شكره، و لا ينتفع بالتقرّب إليه بشي ء من نعمه. و فيه تهديد و إشعار بأنّ الأمر بالإنفاق لمصلحة المنفق. و قرأ نافع و ابن عامر: «فإنّ اللّه الغنيّ».

[سورة الحديد (57): الآيات 25 الى 29]

لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا بِالْبَيِّناتِ وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ وَ الْمِيزانَ لِيَقُومَ النَّاسُ بِالْقِسْطِ وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ بِالْغَيْبِ إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (25)

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَ إِبْراهِيمَ وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَ الْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (26) ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا وَ قَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَ جَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ رَأْفَةً وَ رَحْمَةً وَ رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ إِلاَّ ابْتِغاءَ رِضْوانِ اللَّهِ فَما رَعَوْها حَقَّ رِعايَتِها فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا مِنْهُمْ أَجْرَهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ (27) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ مِنْ رَحْمَتِهِ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (28) لِئَلاَّ يَعْلَمَ أَهْلُ الْكِتابِ أَلاَّ يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَ أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (29)

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 606

ثمّ بيّن سبحانه بعث الأنبياء على عباده إرشادا لهم إلى الطاعات البدنيّة، المثمرة للخضوع و الخشوع، الزاجرين عن البطر و الاختيال، و إلى العبادات الماليّة المنتجة للإحسان على المحتاجين، المانعة عن البخل المذموم عند ربّ العالمين، فقال:

لَقَدْ أَرْسَلْنا رُسُلَنا أي: الملائكة إلى الأنبياء، أو الأنبياء إلى الأمم بِالْبَيِّناتِ بالحجج و المعجزات وَ أَنْزَلْنا مَعَهُمُ الْكِتابَ المكتوب الّذي يتضمّن الأحكام، و ما يحتاج إليه الخلق من الحلال و الحرام، كالتوراة و الإنجيل و القرآن، ليبيّن الحقّ، و يميّز صواب العمل وَ الْمِيزانَ ذا الكفّتين الّذي يوزن به لتسوى به الحقوق، و يقام به العدل، كما قال: لِيَقُومَ النَّاسُ في معاملاتهم بِالْقِسْطِ.

و إنزاله إنزال أسبابه، و الأمر بإعداده.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 607

و روي: أنّ جبرئيل نزل بالميزان فدفعه إلى نوح و قال: مر قومك يزنوا به.

و يجوز أن يراد به العدل لتقام به السياسة، و يدفع

به الأعداء، كما قال:

وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ فِيهِ بَأْسٌ شَدِيدٌ أي: يمتنع به، و يحارب به في القتال. و المعنى:

أنّه يتّخذ منه آلتان: آلة للدفع و آلة للضرب، فإنّ آلات الحروب متّخذة منه.

قيل: نزل آدم من الجنّة و معه خمسة أشياء من الحديد: السندان، و الكلبتان، و الميقعة «1»، و المطرقة «2»، و الإبرة. و روي: و معه المرّ «3» و المسحاة.

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنّ اللّه تعالى أنزل أربع بركات من السماء إلى الأرض:

أنزل الحديد، و النار، و الماء، و الملح».

و عن الحسن: «وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ»: خلقناه، كقوله تعالى: وَ أَنْزَلَ لَكُمْ مِنَ الْأَنْعامِ «4». و ذلك أنّ أوامره تنزل من السماء.

وَ مَنافِعُ لِلنَّاسِ في مصالحهم و معايشهم و صنائعهم، إذ ما من صنعة إلّا و الحديد آلتها، أو ما يعمل بالحديد.

وَ لِيَعْلَمَ اللَّهُ مَنْ يَنْصُرُهُ وَ رُسُلَهُ باستعمال الأسلحة في مجاهدة الكفّار.

و العطف على محذوف دلّ عليه ما قبله، فإنّه حال يتضمّن تعليلا. كأنّه قال: «وَ أَنْزَلْنَا الْحَدِيدَ» ليكون أسلحة للحرب و منافع للعباد، و ليعلم اللّه نصرة من ينصره و رسله نصرة موجودة، و جهاد من جاهد مع رسوله موجودا. أو اللام صلة لمحذوف، أي:

أنزله ليعلم اللّه من ينصره و رسله. بِالْغَيْبِ حال من المستكن في «ينصره». كما قال ابن عبّاس معناه: ينصرونه و لا يبصرونه. يعني: ينصرونه بالعلم الواقع

______________________________

(1) الميقعة: خشبة القصّار- أي: محوّر الثياب و مبيّضها- يدقّ عليها.

(2) المطرقة: آلة من حديد و نحوه يضرب بها الحديد و نحوه.

(3) المر: المسحاة.

(4) الزمر: 6.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 608

بالاستدلال و النظر من غير مشاهدة بالبصر.

إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌ على إهلاك من أراد إهلاكه عَزِيزٌ لا يفتقر إلى نصرة

أحد.

و إنّما أمرهم بالجهاد لينتفعوا به، و يستوجبوا ثواب الامتثال فيه.

وَ لَقَدْ أَرْسَلْنا نُوحاً وَ إِبْراهِيمَ خصّهما بالذكر لفضلهما، و لأنّهما أبوا الأنبياء وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَ الْكِتابَ بأن استنبأناهم و أوحينا إليهم الكتب. و عن ابن عبّاس: المراد بالكتاب الخطّ بالقلم. يقال: كتب كتابا و كتابة. فَمِنْهُمْ فمن الذرّيّة. أو من المرسل إليهم، و قد دلّ عليهم «أرسلنا». مُهْتَدٍ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن الطريق المستقيم. و العدول عن سنن المقابلة للمبالغة في الذمّ، و الدلالة على أنّ الغلبة للضلال.

ثُمَّ قَفَّيْنا عَلى آثارِهِمْ بِرُسُلِنا ثمّ أتبعنا بالإرسال على آثار من ذكرناهم من الأنبياء برسل آخرين إلى قوم آخرين وَ قَفَّيْنا بِعِيسَى ابْنِ مَرْيَمَ أي: أرسلنا رسولا بعد رسول حتّى انتهى إلى عيسى عليه السّلام. و الضمير لنوح و إبراهيم و من أرسلا إليهم، أو من عاصرهما من الرسل، لا للذرّيّة، فإنّ الرسل المقفّى بهم من الذرّيّة.

وَ آتَيْناهُ الْإِنْجِيلَ وَ جَعَلْنا فِي قُلُوبِ الَّذِينَ اتَّبَعُوهُ في دينه، يعني:

الحواريّين و أتباعهم، اتّبعوا عيسى رَأْفَةً هي أشدّ الرقّة و الرحمة وَ رَحْمَةً و إنّما أضافهما إلى نفسه، لأنّه سبحانه جعلهما في قلوبهم بالأمر بهما، و الترغيب فيهما، و وعد الثواب عليهما.

وَ رَهْبانِيَّةً انتصابها بفعل مضمر يفسّره ما بعده، تقديره: و ابتدعوا رهبانيّة ابْتَدَعُوها و هي المبالغة في العبادة و الرياضة و الانقطاع عن الناس، و اتّخاذ الصوامع لها في البراري و الجبال. منسوبة إلى الرهبان، و هو المبالغ في الخوف، من: رهب، كالخشيان من: خشي. و المعنى: ترهّبهم في الجبال فارّين من الجبابرة أن يفتنوهم في دينهم مخلصين أنفسهم للعبادة، كما سيجي ء تفصيله.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 609

ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ ما فرضناها عليهم إِلَّا ابْتِغاءَ

رِضْوانِ اللَّهِ استثناء منقطع، أي: و لكنّهم ابتدعوها ابتغاء رضوان اللّه، و ألزموها على أنفسهم، كما أنّ الإنسان إذا جعل على نفسه صوما لم يفرض عليه لزمه أن يتمّه.

و قيل: متّصل، و «رهبانيّة» معطوفة على ما قبلها، و «ابتدعوها» صفة لها في محلّ النصب، أي: و جعلنا في قلوبهم رأفة و رحمة و رهبانيّة مبتدعة من عندهم.

بمعنى: وفّقناهم للتراحم بينهم، و لابتداع الرهبانيّة و استحداثها، و الإتيان بها أولا، لا أنّهم اخترعوها من تلقاء أنفسهم. ما كتبناها عليهم إلّا ليبتغوا رضوان اللّه، و يستحقّوا بها الثواب. على أنّه كتبها عليهم و ألزمها إيّاهم ليتخلّصوا من الفتن، و يبتغوا بذلك رضا اللّه تعالى و ثوابه.

فَما رَعَوْها فما رعوا جميعا حَقَّ رِعايَتِها كما يجب على الناذر رعاية نذره، لأنّه عهد مع اللّه لا يحلّ نكثه. و ذلك بضمّ التثليث، و القول بالاتّحاد، و قصد السمعة، و الكفر بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و نحوها، إلى الابتداع.

فَآتَيْنَا الَّذِينَ آمَنُوا أتوا بالإيمان الصحيح. و هم أهل الرحمة و الرأفة الّذين اتّبعوا عيسى، و حافظوا حقوقه، و من ذلك الإيمان بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مِنْهُمْ من المتّسمين باتّباعه أَجْرَهُمْ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ خارجون عن الاتّباع، غير حافظين على نذرهم.

و

عن ابن مسعود قال: «دخلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: يا ابن مسعود اختلف من كان قبلكم على اثنتين و سبعين فرقة، نجا منها اثنتان، و هلك سائرهنّ.

فرقة قاتلوا الملوك على دين عيسى عليه السّلام فقتلوهم. و فرقة لم تكن لهم طاقة لموازاة الملوك، و لا أن يقيموا بين ظهرانيّهم يدعونهم إلى دين اللّه تعالى و دين عيسى

عليه السّلام، فساحوا في البلاد و ترهّبوا. و هم الّذين قال اللّه فيهم: وَ رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها ما كَتَبْناها عَلَيْهِمْ ثمّ قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من آمن بي و صدّقني و اتّبعني فقد رعاها حقّ

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 610

رعايتها، و من لم يؤمن بي فأولئك هم الهالكون».

و أيضا

عن ابن مسعود قال: «كنت رديف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على حمار، فقال:

يا ابن أمّ عبد هل تدري من أين أحدثت بنو إسرائيل الرهبانيّة؟

فقلت: اللّه و رسوله أعلم.

قال: ظهرت عليهم الجبابرة بعد عيسى عليه السّلام، يعملون بمعاصي اللّه، فغضب أهل الإيمان فقاتلوهم، فهزم أهل الإيمان ثلاث مرّات، فلم يبق منهم إلّا القليل.

فقالوا: إن ظهرنا لهؤلاء أفنونا، و لم يبق للدين أحد يدعو إليه فتعالوا نتفرّق في الأرض إلى أن يبعث اللّه النبيّ الّذي وعدنا عيسى عليه السّلام، يعنون محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فتفرّقوا في غيران «1» الجبال، و أحدثوا رهبانيّة، فمنهم من تمسّك بدينه، و منهم من كفر. ثمّ تلا هذه الآية: وَ رَهْبانِيَّةً ابْتَدَعُوها إلى آخرها.

ثمّ قال: يا ابن أمّ عبد أ تدري ما رهبانيّة أمّتي؟

قلت: اللّه و رسوله أعلم.

قال: الهجرة، و الجهاد، و الصلاة، و الصوم، و الحجّ، و العمرة».

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا بتوحيد اللّه، و صدّقوا موسى و عيسى و سائر الرسل المتقدّمة اتَّقُوا اللَّهَ فيما نهاكم عنه وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يُؤْتِكُمْ كِفْلَيْنِ نصيبين مِنْ رَحْمَتِهِ لإيمانكم بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بمن قبله من الأنبياء. و لا يبعد أن يثابوا على دينهم السابق- و إن كان منسوخا- ببركة

الإسلام وَ يَجْعَلْ لَكُمْ نُوراً تَمْشُونَ بِهِ يريد المذكور في قوله: يَسْعى نُورُهُمْ «2». أو الهدى الّذي يسلك به إلى جناب القدس. وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ما أسلفتم من الكفر و المعاصي وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ

______________________________

(1) جمع: غار.

(2) الحديد: 12.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 611

روي عن سعيد بن جبير: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعث جعفرا في سبعين راكبا إلى النجاشي يدعوه، فقدم عليه و دعاه، فاستجاب له و آمن به. فلمّا كان عند انصرافه قال ناس ممّن آمن به من أهل مملكته، و هم أربعون رجلا: ائذن لنا في الوفادة على رسول اللّه، فأذن لهم. فقدموا مع جعفر و قد تهيّأ لوقعة أحد، فلمّا رأوا ما بالمسلمين من الخصاصة استأذنوا رسول اللّه، و قالوا: يا نبيّ اللّه إنّ لنا أموالا، و نحن نرى ما بالمسلمين من الخصاصة، فإن أذنت لنا انصرفنا فجئنا بأموالنا، فواسينا المسلمين بها، فأذن لهم. فانصرفوا فأتوا بأموالهم، فواسوا بها المسلمين. فأنزل اللّه فيهم: الَّذِينَ آتَيْناهُمُ الْكِتابَ مِنْ قَبْلِهِ هُمْ بِهِ يُؤْمِنُونَ إلى قوله: وَ مِمَّا رَزَقْناهُمْ يُنْفِقُونَ «1».

فلمّا سمع من لم يؤمن من أهل الكتاب قوله: يُؤْتَوْنَ أَجْرَهُمْ مَرَّتَيْنِ «2» فخروا على المسلمين و قالوا: أمّا من آمن منّا بكتابكم و بكتابنا فله أجره مرّتين، و أمّا من لم يؤمن بكتابكم فله أجر كأجركم، فما فضلكم علينا؟ فأنزل اللّه تعالى:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ» الآية. فجعل لهم أجرين، و زادهم النور و المغفرة.

ثمّ قال: لِئَلَّا يَعْلَمَ «لا» مزيدة. و عن الفرّاء: إنّما تدخل «لا» صلة في كلّ كلام دخل في أواخره أو أوائله جحد، و إن لم يكن مصرّحا به، نحو قوله:

ما مَنَعَكَ أَلَّا تَسْجُدَ إِذْ أَمَرْتُكَ «3». وَ ما يُشْعِرُكُمْ أَنَّها إِذا جاءَتْ لا يُؤْمِنُونَ «4». وَ حَرامٌ عَلى قَرْيَةٍ أَهْلَكْناها أَنَّهُمْ لا يَرْجِعُونَ «5».

______________________________

(1) القصص: 52- 54.

(2) القصص: 52- 54.

(3) الأعراف: 12.

(4) الأنعام: 109.

(5) الأنبياء: 95.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 612

و المعنى: ليعلم أَهْلُ الْكِتابِ الّذين لم يؤمنوا بمحمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أَلَّا يَقْدِرُونَ عَلى شَيْ ءٍ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ «أن» هي المخفّفة. و المعنى: أنّ الشأن لا ينالون شيئا ممّا ذكر من فضله، من الكفلين و النور و المغفرة، و لا يتمكّنون من نيله، لأنّهم لم يؤمنوا برسوله، و هو مشروط بالإيمان به. أو لا يقدرون على شي ء من فضله، فضلا عن أن يتصرّفوا في أعظمه، و هو النبوّة، فيخصّوها بمن أرادوا. و يؤيّده قوله: وَ أَنَّ الْفَضْلَ بِيَدِ اللَّهِ في ملكه و تصرّفه يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ يتفضّل على من يشاء من عباده المؤمنين.

و قال الكلبي: كان الوافدون إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من اليمن أربعة و عشرين رجلا، و هو صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بمكّة، لم يكونوا يهودا و لا نصارى، و كانوا على دين الأنبياء، فأسلموا. فقال لهم أبو جهل: بئس القوم أنتم، و الوفد لقومكم. فردّوا عليه: وَ ما لَنا لا نُؤْمِنُ بِاللَّهِ «1» الآية. فجعل اللّه لهم و لمؤمني أهل الكتاب- عبد اللّه بن سلام و أصحابه- أجرين اثنين. فجعلوا يفخرون على أصحاب رسول اللّه و يقولون: نحن أفضل منكم، لنا أجران، و لكم أجر واحد. فنزلت: «يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ آمِنُوا بِرَسُولِهِ» إلى قوله: «لِئَلَّا يَعْلَمَ» إلى آخرها.

و قيل: «لا»

غير مزيدة. و المعنى: لئلّا يعتقد أهل الكتاب أنّهم لا يقدرون أن يؤمنوا، لأنّ من لا يعلم أنّه لا يقدر يعلم أنّه يقدر.

و قيل: معناه: لئلّا يعلم اليهود و النصارى أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنين لا يقدرون على ذلك، بل علموا أنّهم يقدرون عليه، أي: إن آمنتم كما أمركم اللّه آتاكم اللّه من فضله، فعلم أهل الكتاب ذلك، و لم يعلموا خلافه. و على هذا فالضمير في «يقدرون» ليس لأهل الكتاب.

و قال أبو سعيد السيرافي: معناه: إنّ اللّه يفعل بكم هذه الأشياء لئلّا يعلم- أي: ليتبيّن- جهل أهل الكتاب، و أنّهم لا يعلمون أنّ ما يؤتيكم اللّه من فضله لا يقدرون على تغييره و إزالته عنكم.

______________________________

(1) المائدة: 84.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 613

(58) سورة المجادلة

اشارة

أبيّ بن كعب، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «و من قرأ سورة المجادلة كتب من حزب اللّه يوم القيامة».

[سورة المجادلة (58): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها وَ تَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ وَ اللَّهُ يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ (1) الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ ما هُنَّ أُمَّهاتِهِمْ إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلاَّ اللاَّئِي وَلَدْنَهُمْ وَ إِنَّهُمْ لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ وَ زُوراً وَ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ (2) وَ الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا ذلِكُمْ تُوعَظُونَ بِهِ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (3) فَمَنْ لَمْ يَجِدْ فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً ذلِكَ لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ أَلِيمٌ (4)

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 614

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة الحديد بذكر فضله على من يشاء من عباده، افتتح هذه السورة بذكر بيان فضله في إجابة دعاء خولة بنت ثعلبة امرأة أوس بن الصامت أخي عبادة، رآها زوجها ساجدة في صلاتها، و كانت حسنة الجسم عظيمة الأليتين، فلمّا سلّمت راودها فأبت، فغضب، و كان به خفّة و لمم «1»، فظاهر منها.

و هذا أوّل ظهار في الإسلام، و كان طلاق أهل الجاهليّة. فأتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عائشة تغسل شقّ رأسه، فقالت: إنّ أوسا تزوّجني و أنا شابّة، غانية «2»، ذات جمال و مال و أهل، حتّى إذا أكل مالي، و أفنى شبابي، و تفرّق أهلي، و خلا سنّي، و نثرت بطني- أي: كثر ولدي- جعلني عليه كأمّه.

و

روي أنّها قالت له:

إنّ لي صبية صغارا، إن ضممتهم إليه ضاعوا، و إن ضممتهم إليّ جاعوا.

فقال: ما عندي في أمرك شي ء.

و

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لها: حرمت عليه.

فقالت: يا رسول اللّه، ما ذكر طلاقا، و إنّما هو أبو ولدي، و أحبّ الناس إليّ.

فقال: حرمت عليه.

فقالت: أشكو إلى اللّه فاقتي و وجدي. كلّما قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: حرمت عليه، هتفت و شكت إلى اللّه فقالت: اللّهمّ فأنزل على لسان نبيّك.

فقامت عائشة تغسل شقّ رأسه الآخر. فقالت: انظر في أمري جعلني اللّه فداك يا نبيّ اللّه.

فقالت عائشة: اقصري حديثك و مجادلتك، أما ترين وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟

و كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا نزل عليه شي ء أخذه مثل السبات.

______________________________

(1) اللمم: جنون خفيف، أو طرف من الجنون يلمّ بالإنسان.

(2) الغانية: المرأة الغنيّة بحسنها و جمالها عن الزينة. زبدة التفاسير، ج 6، ص: 615

فلمّا قضي الوحي قال: ادعي زوجك. فقرأ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قَدْ سَمِعَ اللَّهُ قَوْلَ الَّتِي تُجادِلُكَ فِي زَوْجِها

تراجعك في شأنه سؤالا و جوابا وَ تَشْتَكِي إِلَى اللَّهِ و تظهر شكواها و ما بها من المكروه، فتقول: اللّهمّ إنّك تعلم حالي فارحمني، فإنّ لي صبية صغارا، إن ضممتهم إليه ضاعوا، و إن ضممتهم إليّ جاعوا. و معنى «قد» التوقّع، لأنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المجادلة كانا يتوقّعان أن يسمع اللّه مجادلتها و شكواها، و ينزل في ذلك ما يفرّج عنها كربها. و أدغم حمزة و الكسائي و أبو عمرو و هشام عن ابن عامر دالها في السين.

وَ اللَّهُ

يَسْمَعُ تَحاوُرَكُما تراجعكما الكلام. و هو على تغليب الخطاب. إِنَّ اللَّهَ سَمِيعٌ بَصِيرٌ للأقوال و الأحوال.

و لمّا كان الظهار من عادة الجاهليّة، و من أيمانهم خاصّة دون سائر الأمم، وبّخهم اللّه تعالى و هجّنهم في ذلك، فقال:

الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْكُمْ مِنْ نِسائِهِمْ أي: يقولون لهنّ: أنتنّ كظهور أمّهاتنا.

مشتقّ من الظهر. و أصل «يظّهّرون»: يتظهّرون. و قرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي:

يظّاهرون، من: اظّاهر. و عاصم: يظاهرون، من: ظاهر. ما هُنَ ما الزوجات اللاتي يظاهرونهنّ أُمَّهاتِهِمْ على الحقيقة، فإنّ إلحاق الزوجة بالأمّ، و جعلها مثلها بقول: أنت عليّ كظهر أمّي، تشبيه باطل، لتباين الحالين.

إِنْ أُمَّهاتُهُمْ إِلَّا اللَّائِي وَلَدْنَهُمْ فلا تشبّه بهنّ في الحرمة إلّا من ألحقها اللّه بهنّ كالمرضعات، لأنّهنّ لمّا أرضعن دخلن بالرضاع في حكم الأمّهات شرعا،

لقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «يحرم من الرضاع ما يحرم من النسب».

و كذلك أزواج الرسول، لأنّ اللّه تعالى حرّم نكاحهنّ على الأمّة، فدخلن بذلك في حكم الأمّهات، بخلاف الزوجات، فإنّهنّ أبعد شي ء من الأمومة، لأنّهنّ لسن بأمّهات حقيقة، و لا بداخلات

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 616

في حكم الأمّهات. فكان قول المظاهر منكرا، كما قال عزّ اسمه: وَ إِنَّهُمْ أي:

المظاهرين لَيَقُولُونَ مُنْكَراً مِنَ الْقَوْلِ إذ الشرع أنكره وَ زُوراً و كذبا منحرفا عن الحقّ. و عن عاصم: أمّهاتهم بالرفع، على اللغة الحجازيّة و التميميّة. وَ إِنَّ اللَّهَ لَعَفُوٌّ غَفُورٌ لما سلف منه مطلقا، أو إذا تيب عنه.

و هل يقع الظهار لو شبّهها بغير الظهر، كالبطن و الفخذ و غير ذلك من الأعضاء؟ الأقوى عندنا عدم الوقوع. و كذا لو شبّه عضوا من زوجته بظهر أمّه، الأقرب عدم الوقوع أيضا، اقتصارا على منطوق النصّ، و جمودا في التحريم

على ما أبلغ عليه. قال الفقهاء: إذا شبّهها بجزء يحرم النظر إليه- كالبطن و الفخذ- وقع.

و الآية تدلّ على أنّ الظهار حرام، لوصفه بالمنكر. نعم، لا عقاب فيه، لتعقيبه بذكر المغفرة و الرحمة. و هو ملحق بالصغائر الّتي تقع مكفّرة.

ثمّ بيّن حكم الظهار، فقال: وَ الَّذِينَ يُظاهِرُونَ مِنْ نِسائِهِمْ ثُمَّ يَعُودُونَ لِما قالُوا يتداركون ما قالوا، لأنّ المتدارك للأمر عائد إليه. و قال الفرّاء: يعودون لما قالوا، و إلى ما قالوا، و فيما قالوا. معناه: يرجعون عمّا قالوا. يقال: عاد لما فعل، أي: نقض ما فعل. و منه المثل: عاد الغيث على ما أفسد، أي: تداركه بالإصلاح.

و ذلك عندنا و عند مالك بإرادة الوطء. و إضمار الإرادة في العود كإضمارها في قوله: فَإِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ فَاسْتَعِذْ بِاللَّهِ «1». و عند الشافعي بإمساك المظاهر عنها في النكاح زمانا يمكنه مفارقتها فيه. و عند أبي حنيفة باستباحة استمتاعها و لو بنظرة شهوة.

فَتَحْرِيرُ رَقَبَةٍ أي: فعليهم، أو فالواجب إعتاق رقبة. و الفاء للسببيّة. و من فوائدها الدلالة على تكرّر وجوب التحرير بتكرّر الظهار. و الرقبة مقيّدة بالأيمان عندنا و عند الشافعي.

______________________________

(1) النحل: 98.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 617

مِنْ قَبْلِ أَنْ يَتَمَاسَّا أن يجامعها، لشهرة المسيس بمعنى الجماع في الكتاب و السنّة. و عند الشافعي: من قبل أن يستمتع كلّ من المظاهر و المظاهر عنها بالآخر، لعموم اللفظ. و فيه دليل على حرمة ذلك قبل التكفير.

ذلِكُمْ أي: ذلكم الحكم بالكفّارة تُوعَظُونَ بِهِ لأنّه يدلّ على ارتكاب الجناية الموجبة للغرامة الرادعة عنها، فيجب أن تتّعظوا بهذا الحكم لتنزجروا عن أن تعودوا إلى الظهار وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ لا تخفى عليه خافية.

فَمَنْ لَمْ يَجِدْ أي: الرقبة فَصِيامُ شَهْرَيْنِ مُتَتابِعَيْنِ مِنْ قَبْلِ

أَنْ يَتَمَاسَّا فإن أفطر لغير عذر لزمه الاستئناف. و إن أفطر لعذر بنى. و عند أصحابنا أنّه إذا اصام شهرا، و من الثاني شيئا و لو يوما واحدا، ثمّ أفطر لغير عذر صحّ، و لا يلزمه الاستئناف. و إن أفطر قبل ذلك استأنف. و متى بدأ بالصوم و صام بعض ذلك، ثمّ وجد الرقبة، لا يلزمه الرجوع إليها. و إن رجع كان أفضل. و عند جماعة يلزمه الرجوع إلى العتق.

فَمَنْ لَمْ يَسْتَطِعْ أي: الصوم، لهرم أو لعلّة فَإِطْعامُ سِتِّينَ مِسْكِيناً لكلّ مسكين نصف صاع عند أصحابنا، فإن لم يقدر فمدّ. و إنّما لم يذكر التماسّ مع الطعام اكتفاء بذكره مع الآخرين.

ذلِكَ أي: ذلك البيان، أو التعليم للأحكام. و محلّه النصب بفعل معلّل بقوله: لِتُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ أي: فرض ذلك لتصدّقوا باللّه و رسوله في قبول شرائعه، و رفض ما كنتم عليه في جاهليّتكم.

وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ لا يجوز تعدّيها وَ لِلْكافِرِينَ الّذين لا يقبلونها عَذابٌ أَلِيمٌ و هو نظير قوله: وَ مَنْ كَفَرَ فَإِنَّ اللَّهَ غَنِيٌّ عَنِ الْعالَمِينَ «1».

روي: أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد نزول آيات الظهار خيّر الأوس بين الطلاق و الإمساك.

______________________________

(1) آل عمران: 97. زبدة التفاسير، ج 6، ص: 618

فاختار الإمساك. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم له: كفّر بعتق رقبة.

فقال: مالي غيرها. و أشار إلى رقبته.

فقال: صم شهرين متتابعين.

فقال: لا طاقة لي بذلك.

فقال: أطعم ستّين مسكينا.

فقال: و اللّه ما بين لابتيها أشدّ مسكنة منّي. فأمر له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بشي ء من مال الصدقة، و أمره أن يطعمه عن كفّارته. فشكا خصاصة حاله، و أنّه أشدّ فاقة و ضرورة ممّن أمر بدفعه

إليهم. فضحك النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أمره بالاستغفار، و أباح له العود إليها.

و فيها دلالة على أنّه مع العجز عن الكفّارة يستغفر اللّه و يعود. و يؤيّده

رواية إسحاق بن عمّار موثّقا عن الصادق عليه السّلام: «أنّ الظهار إذا عجز صاحبه عن الكفّارة فيستغفر ربّه».

و بواقي أحكام الظهار و الشرائط المعتبرة فيه مذكورة في كتب الأصحاب، فليطالع ثمّة.

[سورة المجادلة (58): الآيات 5 الى 6]

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ كُبِتُوا كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ وَ قَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ (5) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَ نَسُوهُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (6)

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يعادونهما، فإنّ كلّا من المتعاديين في حدّ غير حدّ الآخر. أو يضعون، أو يختارون حدودا غير حدودهما. كُبِتُوا أخزوا و أهلكوا. و أصل الكبت الكبّ. كَما كُبِتَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ يعني: كفّار الأمم

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 619

الماضية. قيل: أريد كبتهم يوم الخندق. وَ قَدْ أَنْزَلْنا آياتٍ بَيِّناتٍ تدلّ على صدق الرسول و صحّة ما جاء به وَ لِلْكافِرِينَ عَذابٌ مُهِينٌ يذهب عزّهم و تكبّرهم.

يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ منصوب ب «مهين». أو بإضمار: اذكر، تعظيما لليوم.

جَمِيعاً كلّهم لا يدع أحدا غير مبعوث. أو مجتمعين في حال واحدة.

فَيُنَبِّئُهُمْ اللّه، أي: يخبرهم بِما عَمِلُوا على رؤوس الأشهاد، تشهيرا لحالهم، و تقريرا لعذابهم، و توبيخا لهم أَحْصاهُ اللَّهُ أحاط به عددا، لم يغب منه شي ء وَ نَسُوهُ لكثرته، أو تهاونهم به وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ لا يغيب عنه شي ء.

[سورة المجادلة (58): آية 7]

أَ لَمْ تَرَ أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ إِلاَّ هُوَ رابِعُهُمْ وَ لا خَمْسَةٍ إِلاَّ هُوَ سادِسُهُمْ وَ لا أَدْنى مِنْ ذلِكَ وَ لا أَكْثَرَ إِلاَّ هُوَ مَعَهُمْ أَيْنَ ما كانُوا ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (7)

ثمّ بيّن سبحانه أنّه يعلم ما يكون في العالم فقال: أَ لَمْ تَرَ الخطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و المراد جميع المكلّفين أَنَّ اللَّهَ يَعْلَمُ ما فِي

السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ كلّا و جزءا ما يَكُونُ مِنْ نَجْوى ثَلاثَةٍ من «كان» التامّة. و تذكير الفعل على أنّ النجوى تأنيثها غير حقيقيّ، و «من» فاصلة. أو على أنّ المعنى: ما يقع شي ء من النجوى. و النجوى: التناجي. فلا تخلو: إمّا أن تكون مضافة إلى ثلاثة، أي: من نجوى ثلاثة نفر، أو موصوفة بها على حذف المضاف، أي: من أهل نجوى ثلاثة، أو جعلوا نجوى في أنفسهم مبالغة، كقوله تعالى: خَلَصُوا نَجِيًّا «1». و اشتقاقها من

______________________________

(1) يوسف: 80.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 620

النجوة، و هي ما ارتفع من الأرض، فإنّ السرّ أمر مرفوع إلى الذهن، لا يتيسّر لكلّ أحد أن يطّلع عليه.

إِلَّا هُوَ رابِعُهُمْ إلّا اللّه يجعلهم أربعة، من حيث إنّه يشاركهم في الاطّلاع.

و الاستثناء من أعمّ الأحوال. وَ لا خَمْسَةٍ و لا نجوى خمسة إِلَّا هُوَ سادِسُهُمْ

و تخصيص هذين العددين إمّا لخصوص الواقعة، فإنّ الآية نزلت في تناجي قوم من المنافقين مغايظة للمؤمنين على هذين العددين: ثلاثة و خمسة. و روي عن ابن عبّاس: أنّها نزلت في ربيعة و حبيب ابني عمرو و صفوان بن اميّة، كانوا يوما يتحدّثون، فقال أحدهم: أ ترى أنّ اللّه يعلم ما نقول؟ فقال الآخر: يعلم بعضا، و لا يعلم بعضا. و قال الثالث: إن كان يعلم بعضا فهو يعلم كلّه.

أو لأنّ اللّه وتر يحبّ الوتر، و الثلاثة أوّل الأوتار. أو لأنّ التشاور لا بدّ له من اثنين يكونان كالمتنازعين، و ثالث يتوسّط بينهما، إلى خمسة إلى ستّة، و لا يتجاوزون عن الستّة غالبا عرفا عندهم.

وَ لا أَدْنى مِنْ ذلِكَ و لا أقلّ ممّا ذكر، كالواحد و الاثنين وَ لا أَكْثَرَ إِلَّا هُوَ مَعَهُمْ و معنى

كونه معهم: أنّه يعلم ما يجري بينهم من التناجي، و لا يخفى عليه ما هم فيه، فكأنّه مشاهدهم و محاضرهم، و قد تعالى عن المكان. و قرأ يعقوب: و لا أكثر بالرفع، عطفا على محلّ «من نجوى»، أو محلّ «و لا أدنى»، بأن جعلت «لا» لنفي الجنس. أَيْنَ ما كانُوا فإنّ علمه بالأشياء ليس لقرب مكاني حتّى يتفاوت باختلاف الأمكنة.

ثُمَّ يُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا يَوْمَ الْقِيامَةِ تفضيحا لهم، و تقريرا لما يستحقّونه من الجزاء إِنَّ اللَّهَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ لأنّ نسبة ذاته المقتضية للعلم إلى الكلّ على سواء.

[سورة المجادلة (58): الآيات 8 الى 10]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ وَ يَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَ إِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ وَ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ لَوْ لا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ يَصْلَوْنَها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ (8) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ وَ تَناجَوْا بِالْبِرِّ وَ التَّقْوى وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (9) إِنَّمَا النَّجْوى مِنَ الشَّيْطانِ لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ لَيْسَ بِضارِّهِمْ شَيْئاً إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (10)

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 621

و

عن ابن عبّاس: إنّ اليهود و المنافقين كانوا يتناجون فيما بينهم، و ينظرون إلى المؤمنين و يتغامزون بأعينهم، فإذا رأى المؤمنون نجواهم قالوا: ما هذا التناجي إلّا بأنّه بلغهم عن أقربائنا و إخواننا الّذين خرجوا في السرايا قتل أو مصيبة أو هزيمة، فيقع ذلك في قلوبهم و يحزنهم، فلمّا طال ذلك شكوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فأمرهم أن لا يتناجوا دون المسلمين، فلم ينتهوا عن ذلك و

عادوا إلى مناجاتهم، فنزلت:

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نُهُوا عَنِ النَّجْوى

عن إسرار الكلام بينهم بما يغمّ المسلمين و يحزنهم ثُمَّ يَعُودُونَ لِما نُهُوا عَنْهُ أي: يرجعون إلى التناجي بعد النهي وَ يَتَناجَوْنَ بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ بما هو إثم و عدوان للمؤمنين وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ و تواص بمعصية الرسول و مخالفته. و قرأ رويس عن يعقوب: و ينتجون.

و هو يفتعلون من النجوى.

وَ إِذا جاؤُكَ حَيَّوْكَ بِما لَمْ يُحَيِّكَ بِهِ اللَّهُ و ذلك أنّ اليهود كانوا يأتون النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيقولون: السام عليك يا محمد، أو أنعم صباحا. و اللّه سبحانه يقول:

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 622

وَ سَلامٌ عَلى عِبادِهِ الَّذِينَ اصْطَفى «1». و يا أَيُّهَا الرَّسُولُ «2». و يا أَيُّهَا النَّبِيُ «3».

وَ يَقُولُونَ فِي أَنْفُسِهِمْ فيما بينهم لَوْ لا هلّا يُعَذِّبُنَا اللَّهُ بِما نَقُولُ كانوا يقولون: ماله إن كان نبيّا لا يدعو علينا حتّى يعذّبنا اللّه بما نقول.

فقال سبحانه: حَسْبُهُمْ جَهَنَّمُ عذابا، لما فيها من أنواع العذاب و النكال يَصْلَوْنَها يدخلونها فَبِئْسَ الْمَصِيرُ جهنّم.

ثمّ نهى المؤمنين عن مثل ذلك، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا تَناجَيْتُمْ فَلا تَتَناجَوْا بِالْإِثْمِ وَ الْعُدْوانِ وَ مَعْصِيَةِ الرَّسُولِ فلا تتناجوا بالشرّ كما يفعله المنافقون.

و عن يعقوب: فلا تنتجوا. وَ تَناجَوْا بِالْبِرِّ وَ التَّقْوى بما يتضمّن خير المسلمين، و الاتّقاء عن معصية الرسول. و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إذا كنتم ثلاثة فلا يتناج اثنان دون صاحبهما، فإنّ ذلك يحزنه».

و

روي: «دون الثالث».

وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ فيما تأتون و تذرون، فإنّه مجازيكم عليه.

و لمّا كان المؤمنون يتوهّمون في نجوى المنافقين و اليهود و تغامزهم أنّ غزاتهم غلبوا، و أنّ أقاربهم قتلوا، فقال

سبحانه:

إِنَّمَا النَّجْوى إشارة إلى النجوى بالإثم و العدوان مِنَ الشَّيْطانِ لأنّه المزيّن لها و الحامل عليها، فكأنّها منه لِيَحْزُنَ الَّذِينَ آمَنُوا بتوهّمهم أنّها في نكبة أصابتهم وَ لَيْسَ بِضارِّهِمْ و ليس الشيطان أو التناجي أو الحزن بضارّ المؤمنين بذلك الموهم شَيْئاً إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ أي: بمشيئته، بأن يقضي الموت على أقاربهم أو الغلبة على غزاتهم. و قيل: إلّا بعلمه أو بأمر اللّه، لأنّ سببه بأمره، و هو الجهاد

______________________________

(1) النمل: 59.

(2) المائدة: 41، و غيرها.

(3) الأنفال: 64، و غيرها.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 623

و خروجهم إليه. و قيل: بأمر اللّه، لأنّه يلحقهم الآلام و الأمراض عقيب ذلك.

وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ في جميع أمورهم دون غيره، و لا يبالوا بنجواهم.

[سورة المجادلة (58): آية 11]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ وَ إِذا قِيلَ انْشُزُوا فَانْشُزُوا يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ دَرَجاتٍ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (11)

و

روى المقاتلان: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في الصفّة و في المكان ضيق، و ذلك يوم الجمعة، و كان عليه السّلام يكرم أهل بدر من المهاجرين و الأنصار. فجاء أناس من أهل بدر و فيهم ثابت بن قيس بن شماس، و قد سبقوا في المجلس، فقاموا حيال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالوا: السلام عليك أيّها النبيّ و رحمة اللّه و بركاته. فردّ عليهم النبيّ. ثمّ سلّموا على القوم بعد ذلك. فردّوا عليهم. فقاموا على أرجلهم ينتظرون أن يوسّع لهم. فلم يفسحوا لهم، تنافسا على القرب منه، و حرصا على استماع كلامه. فشقّ ذلك على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال لمن

حوله من المهاجرين و الأنصار من غير أهل بدر:

قم يا فلان قم يا فلان، بقدر النفر الّذين كانوا بين يديه من أهل بدر. فشقّ ذلك على من أقيم من مجلسه، و عرف الكراهية في وجوههم. و قال المنافقون للمسلمين:

ألستم تزعمون أنّ صاحبكم يعدل بين الناس؟ فو اللّه ما عدل على هؤلاء، إنّ قوما أخذوا مجالسهم، و أحبّوا القرب من نبيّهم، فأقامهم و أجلس من أبطأ عنهم مقامهم.

فنزلت:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا قِيلَ لَكُمْ تَفَسَّحُوا فِي الْمَجالِسِ

توسّعوا فيه، بأن يفسح بعضكم عن بعض، و لا تتضامّوا. من قولهم: افسح عنّي، أي: تنحّ. و المراد

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 624

مجلس رسول اللّه، أو الجيش، فيشمل مجلس القتال. و هي مراكز الغزاة، كقوله:

مَقاعِدَ لِلْقِتالِ «1» و غيرها. و يدلّ عليه قراءة عاصم بالجمع. فَافْسَحُوا يَفْسَحِ اللَّهُ لَكُمْ فيما تريدون التفسّح فيه، من المكان و الرزق و الصدر و القبر و الجنّة و غيرها.

وَ إِذا قِيلَ انْشُزُوا ارتفعوا و انهضوا للتوسعة على المقبلين. و قيل: لما أمرتم به، كصلاة أو جهاد. و قيل: وردت في قوم كانوا يطيلون المكث عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فيكون كلّ واحد منهم يحبّ أن يكون آخر خارج، فنزلت فيهم: «وَ إِذا قِيلَ انْشُزُوا». فَانْشُزُوا. و قرأ نافع و ابن عامر و عاصم بضمّ الشين فيهما.

يَرْفَعِ اللَّهُ الَّذِينَ آمَنُوا مِنْكُمْ بالنصر و حسن الذكر في الدنيا، و إيوائهم غرف الجنان في الآخرة وَ الَّذِينَ أُوتُوا الْعِلْمَ و يرفع العلماء خاصّة دَرَجاتٍ عالية و مراتب غالية في الدارين بما جمعوا من العلم و العمل، فإنّ العلم مع علوّ درجته يقتضي العمل المقرون به مزيد رفعة، و لذلك يقتدى بالعالم في

أفعاله، و لا يقتدى بغيره. و قيل: درجات في مجلس النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فأمره اللّه سبحانه أن يقرّب العلماء من نفسه فوق المؤمنين الّذين لا يعلمون العلم، ليبيّن فضل العلماء على غيرهم.

و في هذه الآية دلالة على فضل العلماء و جلالة قدرهم. و

قد ورد في الحديث أنّه قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «فضل العالم على الشهيد درجة، و فضل الشهيد على العابد درجة، و فضل النبيّ على العالم درجة، و فضل القرآن على سائر الكلام كفضل اللّه على خلقه، و فضل العالم على سائر الناس كفضلي على أدناهم».

و

عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «فضل العالم على العابد كفضل القمر ليلة البدر على سائر الكواكب».

و

عنه بين العالم و العابد مائة درجة، بين كلّ درجتين حضر «2» الجواد المضمر سبعين سنة».

______________________________

(1) آل عمران: 121.

(2) الحضر: الاسم من: أحضر الفرس: عدا شديدا، أي: ركض.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 625

و

عنه: «يشفع يوم القيامة ثلاثة: الأنبياء، ثمّ العلماء، ثمّ الشهداء». فأعظم بمرتبة هي واسطة بين النبوّة و الشهادة عند رسول اللّه.

و عن ابن عبّاس: خيّر سليمان عليه السّلام بين العلم و المال و الملك، فاختار العلم، فأعطي المال و الملك معه.

و

قال عليه السّلام: «أوحى اللّه تعالى إلى إبراهيم: يا إبراهيم إنّي عليم أحبّ كلّ عليم».

و

عن عبد اللّه بن مسعود: أنّه كان إذا قرأها قال: يا أيّها الناس افهموا هذه الآية، و لترغّبكم في العلم.

و عن بعض الحكماء: ليت شعري أيّ شي ء أدرك من فاته العلم، و أيّ شي ء فات من أدرك العلم.

و عن الأحنف: كاد العلماء يكونون أربابا، و كلّ عزّ لم يوطّد «1» بعلم فإلى ذلّ مّا يصير.

و عن الزبيري:

العلم ذكر، فلا يحبّه إلّا ذكور الرجال.

وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ تهديد لمن لم يتمثّل الأمر أو استكرهه.

[سورة المجادلة (58): الآيات 12 الى 13]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً ذلِكَ خَيْرٌ لَكُمْ وَ أَطْهَرُ فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12) أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا وَ تابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (13)

______________________________

(1) وطّد الشي ء: قوّاه و أثبته.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 626

روي: أنّ الناس أكثروا مناجاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بما يريدون حتّى أملّوه «1» و أبرموه، فأراد اللّه سبحانه أن يكفّوا عن ذلك، فأمرهم بأنّ من أراد أن يناجيه قدّم قبل مناجاته صدقة، فقال:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا ناجَيْتُمُ الرَّسُولَ فَقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقَةً

فتصدّقوا قدّامها. مستعار ممّن له يدان. و في هذا الأمر تعظيم لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و إنفاع الفقراء، و النهي عن الإفراط في السؤال، و التمييز بين المخلص و المنافق، و محبّ الآخرة و محبّ الدنيا. و الأمر للوجوب، و خاتمة الآية دالّة عليه. ثمّ نسخ بقوله: «أ أشفقتم». و هو و إن اتّصل به تلاوة، لم يتّصل به نزولا.

و

عن عليّ عليه السّلام أنّه قال: «لمّا نزلت دعاني رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: ما تقول في دينار؟ قلت: لا يطيقونه. قال: كم؟ قلت: حبّة أو شعيرة. قال: إنّك لزهيد». فلمّا رأوا ذلك اشتدّ عليهم فارتدعوا و كفّوا. أمّا الفقير فلعسرته، و أمّا الغنيّ فلشحّه.

و

قال عليّ عليه السّلام: «إنّ في كتاب اللّه آية ما عمل

بها أحد قبلي، و لا يعمل بها أحد بعدي. كان لي دينار فبعته بعشرة دراهم، فكنت إذا ناجيته تصدّقت بدرهم».

و قال الكلبي: تصدّق به في عشر كلمات سألهنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و

روي عنه عليه السّلام أيضا أنّه قال: «بي خفّف اللّه عن هذه الأمّة، لم ينزل في أحد قبلي، و لم ينزل في أحد من بعدي».

و

عن ابن عمر: كان لعليّ عليه السّلام ثلاث، لو كانت لي واحدة منهنّ كانت أحبّ إليّ من حمر النعم: تزويجه فاطمة، و إعطاؤه الراية يوم خيبر، و آية النجوى.

و عن مجاهد و قتادة: لمّا نهوا عن مناجاته حتّى يتصدّقوا، لم يناجه إلّا عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، قدّم دينارا فتصدّق به، ثمّ نسخ اللّه سبحانه ذلك الحكم بعد عشرة أيّام.

ذلِكَ أي: ذلك التصدّق خَيْرٌ لَكُمْ لأنفسكم من الريبة و حبّ المال،

______________________________

(1) أي: أضجروه و أوقعوه في المال.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 627

لأنّ فيه أداء واجب و تحصيل ثواب وَ أَطْهَرُ و أدعى إلى نزاهة الباطن و نظافة الظاهر، الداعية إلى مجانبة المعاصي، كتقدّم الطهارة على الصلاة فَإِنْ لَمْ تَجِدُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ لمن لم يجد، حيث رخّص له في المناجاة بلا تصدّق.

أَ أَشْفَقْتُمْ أَنْ تُقَدِّمُوا بَيْنَ يَدَيْ نَجْواكُمْ صَدَقاتٍ أخفتم الفقر يا أهل الميسرة من تقديم الصدقة؟ أو أخفتم تقديم الصدقات لما يعدكم الشيطان عليه من الفقر، حيث قال: الشَّيْطانُ يَعِدُكُمُ الْفَقْرَ وَ يَأْمُرُكُمْ بِالْفَحْشاءِ «1»؟ و الهمزة للتوبيخ لهم على ترك الصدقة إشفاقا من العيلة. و جمع «صدقات» لجمع المخاطبين، أو لكثرة التناجي.

فَإِذْ لَمْ تَفْعَلُوا ما أمرتم به و شقّ عليكم وَ تابَ اللَّهُ عَلَيْكُمْ بأن رخّص لكم أن لا تفعلوه. و فيه

إشعار بأنّ إشفاقهم ذنب تجاوز اللّه عنه، لما رأى منهم ممّا قام مقام توبتهم. و «إذ» بمعنى الظرف، أو بمعنى «إن». فَأَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ فلا تفرّطوا في أدائهما وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ في سائر الأوامر، فإنّ القيام بها كالجابر للتفريط في ذلك وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ ظاهرا و باطنا، من نيّاتكم و أعمالكم.

[سورة المجادلة (58): الآيات 14 الى 16]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ ما هُمْ مِنْكُمْ وَ لا مِنْهُمْ وَ يَحْلِفُونَ عَلَى الْكَذِبِ وَ هُمْ يَعْلَمُونَ (14) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (15) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ (16)

______________________________

(1) البقرة: 268.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 628

روي: أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان في حجرة من حجراته، فقال: «يدخل عليكم الآن رجل قلبه قلب جبّار، و ينظر بعين شيطان». فدخل عبد اللّه بن نبتل المنافق، و كان أزرق. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم له: علام تشتمني أنت و أصحابك؟ فحلف باللّه ما فعل. فقال عليه السّلام:

فعلت. فانطلق فجاء بأصحابه، فحلفوا باللّه ما سبّوه. فنزلت:

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ تَوَلَّوْا

والوا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ من منافقي اليهود ما هُمْ مِنْكُمْ أيّها المؤمنون وَ لا مِنْهُمْ من اليهود، لأنّهم لنفاقهم مذبذبون بين ذلك وَ يَحْلِفُونَ عَلَى اللّه الْكَذِبِ و هو ادّعاء الإسلام وَ هُمْ يَعْلَمُونَ أنّ المحلوف عليه كذب، كمن يحلف بالغموس «1». و في هذا التقييد دليل على أنّ الكذب يعمّ ما يعلم المخبر عدم مطابقته و ما لا يعلم.

أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً نوعا من العذاب متفاقما إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ فتمرّنوا على سوء العمل و

أصرّوا عليه.

اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ أي: الّتي حلفوا بها جُنَّةً سترة يتستّرون بها من المؤمنين، يدفعون بها عن أنفسهم التهمة، و وقاية دون دمائهم و أموالهم فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ فصدّوا الناس في خلال أمنهم و سلامتهم عن دين اللّه، بتثبيط من لقوا عن الدخول في الإسلام، و تضعيف أمر المسلمين عندهم فَلَهُمْ عَذابٌ مُهِينٌ وعيد ثان بوصف آخر لعذابهم. و قيل: الأوّل عذاب القبر، و هذا عذاب الآخرة.

[سورة المجادلة (58): الآيات 17 الى 22]

لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ (17) يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْ ءٍ أَلا إِنَّهُمْ هُمُ الْكاذِبُونَ (18) اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ (19) إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ (20) كَتَبَ اللَّهُ لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌّ عَزِيزٌ (21)

لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ أُولئِكَ كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ وَ يُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (22)

______________________________

(1) اليمين الغموس أي: الكاذبة الّتي يتعمّدها صاحبها.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 629

روي: أنّ رجلا منهم قال: لننصرنّ يوم القيامة بأنفسنا و أموالنا و أولادنا.

فقال سبحانه ردّا عليهم:

لَنْ تُغْنِيَ عَنْهُمْ أَمْوالُهُمْ وَ لا أَوْلادُهُمْ مِنَ اللَّهِ شَيْئاً قليلا من الإغناء أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ هُمْ فِيها خالِدُونَ قد سبق مثله.

يَوْمَ يَبْعَثُهُمُ اللَّهُ جَمِيعاً فَيَحْلِفُونَ لَهُ أي: للّه تعالى على أنّهم مسلمون

قائلون بالبعث كَما يَحْلِفُونَ لَكُمْ في الدنيا أنّهم لمنكم وَ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ عَلى شَيْ ءٍ من النفع، لأنّ تمكّن النفاق في نفوسهم بحيث يخيّل إليهم في الآخرة أنّ الأيمان الكاذبة تروّج الكذب على اللّه، كما تروّجه عليكم في الدنيا أَلا إِنَّهُمْ هُمُ

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 630

الْكاذِبُونَ البالغون الغاية في الكذب، حيث يكذبون مع عالم الغيب و الشهادة، و يحلفون عليه.

و ملخّص معنى الآية: أنّه ليس العجب من حلفهم لكم، فإنّكم بشر تخفى عليكم السرائر، و أنّ لهم نفعا في ذلك دفعا عن دمائهم، و استجرار فوائد دنيويّة.

و لكنّ العجب من حلفهم للّه عالم الغيب و الشهادة، مع عدم النفع و الاضطرار إلى علم ما أنذرتهم الرسل. و المراد: وصفهم بالتوغّل في نفاقهم و مرونهم «1» عليه، و أنّ ذلك بعد موتهم و بعثهم باق فيهم لا يضمحلّ، كما قال: وَ لَوْ رُدُّوا لَعادُوا لِما نُهُوا عَنْهُ «2».

اسْتَحْوَذَ عَلَيْهِمُ الشَّيْطانُ استولى عليهم. من: حذت الإبل و أحذتها إذا استوليت عليها و جمعتها. و هو ممّا جاء على الأصل، نحو: استصوب و استنوق.

و المعنى: ملكهم الشيطان، لطاعتهم له في كلّ ما يريده منهم، حتّى جعلهم رعيّته و حزبه، كما قال: فَأَنْساهُمْ ذِكْرَ اللَّهِ أن يذكروا اللّه أصلا، لا بقلوبهم و لا بألسنتهم أُولئِكَ حِزْبُ الشَّيْطانِ جنوده و أتباعه أَلا إِنَّ حِزْبَ الشَّيْطانِ هُمُ الْخاسِرُونَ لأنّهم فوّتوا على أنفسهم النعيم المؤبّد، و عرّضوها للعذاب المخلّد.

إِنَّ الَّذِينَ يُحَادُّونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ يخالفونهما في الحدود و يشاقّونهما. و هم المنافقون. أُولئِكَ فِي الْأَذَلِّينَ في جملة من هو أذلّ خلق اللّه.

كَتَبَ اللَّهُ في اللوح لَأَغْلِبَنَّ أَنَا وَ رُسُلِي بالحجّة و السيف، أو بأحدهما.

و قرأ نافع و ابن عامر: و رسلي بفتح

الياء. إِنَّ اللَّهَ قَوِيٌ على نصر أنبيائه عَزِيزٌ لا يغلب عليه في مراده.

يروى أنّ المسلمين قالوا لمّا رأوا ما يفتح اللّه عليهم من القرى: ليفتحنّ اللّه

______________________________

(1) مرن على الشي ء: اعتاده و داومه.

(2) الأنعام: 28.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 631

علينا الروم و فارس. فقال المنافقون: أ تظنّون أنّ فارس و الروم كبعض القرى الّتي غلبتم عليها؟ فأنزل اللّه هذه الآية.

ثمّ قال سبحانه: لا تَجِدُ قَوْماً يُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ يُوادُّونَ مَنْ حَادَّ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ هذا من باب التخييل، خيّل أنّ من الممتنع المحال أن تجد قوما مؤمنين يوالون المشركين، أي: لا ينبغي أن يكون ذلك، و حقّه أن يمتنع و لا يوجد بحال.

مبالغة في النهي عنه، و الزجر عن ملابسته، و التوصية بالتصلّب في مجانبة أعداء اللّه و مباعدتهم، و الاحتراز من مخالطتهم و معاشرتهم، فلا ينبغي أن يوادّوهم.

ثمّ زاد ذلك تأكيدا و تشديدا بقوله: وَ لَوْ كانُوا آباءَهُمْ أَوْ أَبْناءَهُمْ أَوْ إِخْوانَهُمْ أَوْ عَشِيرَتَهُمْ و لو كان المحادّون أقرب الناس إليهم. و لا يكون شي ء أدخل في الإخلاص من موالاة أولياء اللّه و معاداة أعدائه، بل هو الإخلاص بعينه.

أُولئِكَ أي: الّذين لم يوادّوهم كَتَبَ فِي قُلُوبِهِمُ الْإِيمانَ أثبته فيها بما فعل بهم من الألطاف، فصار كالمكتوب فيها. و هو دليل على خروج العمل من مفهوم الإيمان، فإنّ جزء الثابت في القلب لا يكون إلّا ثابتا فيه، و أعمال الجوارح لا تثبت فيه.

و عن أبي علي الفارسي: كتب في قلوبهم علامة الإيمان. و معنى ذلك: أنّها سمة لمن يشاهدهم من الملائكة على أنّهم مؤمنون، كما أنّ قولهم في الكفّار:

وَ طَبَعَ اللَّهُ عَلى قُلُوبِهِمْ «1» معناه: علامة يعلم من شاهدها من الملائكة أنّه مطبوع على

قلبه.

وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ و قوّاهم بلطف من عنده حييت به قلوبهم. و يجوز أن يكون الضمير للإيمان، أي: بروح من الإيمان، فإنّها سبب لحياة القلوب.

و قيل: قوّاهم بنور الحجج و البراهين حتّى اهتدوا للحقّ و عملوا به.

______________________________

(1) التوبة: 93.

زبدة التفاسير، ج 6، ص: 632

و قيل: قوّاهم بالقرآن الّذي هو حياة القلوب من الجهل.

و قيل: أيّدهم بجبرئيل في كثير من المواطن، ينصرهم و يدفع عنهم.

وَ يُدْخِلُهُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بخلوص طاعتهم وَ رَضُوا عَنْهُ بما وعدهم من الثواب أُولئِكَ حِزْبُ اللَّهِ جنده و أنصار دينه، و دعاة خلقه أَلا إِنَّ حِزْبَ اللَّهِ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بخير الدارين.

و قيل: إنّ الآية نزلت في حاطب بن أبي بلتعة حين كتب إلى أهل مكّة ينذرهم بمجي ء رسول اللّه إليهم، و كان صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخفى ذلك، فلمّا عوتب على ذلك قال: أهلي بمكّة أحببت أن أحفظهم بيد تكون لي عندهم.

و

قال السدّي: نزلت في عبد اللّه بن أبيّ و ابنه عبيد اللّه بن عبد اللّه، و كان هذا الابن عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فشرب النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فقال: أبق فضلة من شرابك اسقها أبي، لعلّ اللّه يطهّر قلبه. فأعطاه، فأتى بها أباه. فقال: ما هذا؟ فقال: بقيّة شراب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جئتك بها لتشربها، لعلّ اللّه يطهّر قلبك. فقال: هلّا جئتني ببول أمّك؟

فرجع إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: ائذن لي في قتله. فقال: بل ترفّق به.

الجزء السابع

(59) سورة الحشر

اشارة

مدنيّة. و هي أربع و عشرون آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب قال:

«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و من قرأ سورة الحشر لم يبق جنّة، و لا نار، و لا عرش، و لا كرسيّ، و لا حجاب، و لا السماوات السبع، و لا الأرضون السبع، و الهوامّ، و الرياح، و الطير، و الشجر، و الدوابّ، و الشمس، و القمر، و الملائكة، إلّا صلّوا عليه، و استغفروا له، و إن مات من يومه أو ليلته مات شهيدا».

و

عن أبي سعيد المكاري، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ إذا أمسى الرحمن و الحشر، و كّل اللّه بداره ملكا شاهرا سيفه حتّى يصبح».

[سورة الحشر (59): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ مِنْ دِيارِهِمْ لِأَوَّلِ الْحَشْرِ ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ فَأَتاهُمُ اللَّهُ مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ وَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ (2) وَ لَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ (3) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ وَ مَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (4)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 6

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة المجادلة بذكر حزب الشيطان و حزب اللّه تعالى، افتتح هذه السورة بقهره حزب الشيطان، و هم بنو النضير من اليهود، و ما نالهم من الخزي و الهوان، و نصرة حزبه من أهل الإيمان.

و بيان ذلك:

أنّ النبيّ لمّا قدم المدينة صالح بني النضير على أن لا يكونوا عليه و لا له. فلمّا ظهر يوم بدر قالوا:

هو النبيّ المنعوت في التوراة، لا تردّ له راية.

فلمّا هزم المسلمون يوم أحد ارتابوا و نكثوا، فخرج كعب بن الأشرف في أربعين راكبا إلى مكّة، فأتوا قريشا و حالفوهم و عاقدوهم على أن تكون كلمتهم واحدة على محمّد. ثمّ دخل أبو سفيان في أربعين، و كعب في أربعين من اليهود المسجد الحرام، و أخذ بعضهم على بعض الميثاق بين الأستار و الكعبة ثمّ رجع كعب بن الأشرف و أصحابه إلى المدينة.

و نزل جبرئيل فأخبر النبيّ بما تعاقد عليه كعب و أبو سفيان، و أمره بقتل كعب بن الأشرف، فقتله محمد بن مسلمة الأنصاري، و كان أخاه من الرضاعة. فخرج و معه سلكان بن سلامة، و ثلاثة من بني الحرث. و خرج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على أثرهم على حمار مخطوم «1» بليف، و جلس في موضع ينتظر رجوعهم. فذهب محمد بن مسلمة مع القوم إلى قرب قصره، و أجلس قومه عند جدار، و ناداه: يا كعب. فانتبه و قال: من أنت؟

______________________________

(1) أي: مشدود بليف. و منه: الخطام، و هو حبل يجعل في عنق البعير. زبدة التفاسير، ج 7، ص: 7

قال: أنا محمد بن مسلمة أخوك، جئتك أستقرض منك دراهم، فإنّ محمدا يسألنا الصدقة، و ليس معنا الدراهم.

فقال كعب: لا أقرضك إلّا بالرهن.

قال: معي رهن، انزل فخذه.

و كانت له امرأة بنى بها تلك الليلة عروسا، فقالت: لا أدعك تنزل، لأنّي ارى حمرة الدم في ذلك الصوت. فلم يلتفت إليها، فخرج فعانقه محمّد بن مسلمة و هما يتحادثان، حتّى تباعدا من القصر إلى الصحراء. ثمّ أخذ رأسه و دعا بقومه. و صاح كعب، فسمعت امرأته و صاحت، و سمع بنو النضير صوتها، فخرجوا نحوه

فوجدوه قتيلا. و رجع القوم سالمين إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

فلمّا أسفر الصبح أخبر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أصحابه بقتل كعب، ففرحوا. فأمر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بحربهم، و السير إليهم. فسار بالناس حتّى نزل بهم، فتحصّنوا منه في الحصن.

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لهم: اخرجوا من أرض المدينة.

فقالوا: الموت أحبّ إلينا من ذاك.

فتنادوا بالحرب.

و

قيل: استمهلوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عشرة أيّام ليتجهّزوا للخروج. فدسّ عبد اللّه بن أبيّ المنافق أصحابه إليهم: لا تخرجوا من الحصن، فإن قاتلوكم فنحن معكم لا نخذلكم، و لئن خرجتم لنخرجنّ معكم. فدربوا «1» على الأزقّة و حصّنوها. فحاصرهم إحدى و عشرين ليلة. فلمّا قذف اللّه الرعب في قلوبهم، و أيسوا من نصر المنافقين، طلبوا الصلح. فأبى عليهم إلّا الجلاء، على أن يحمل كلّ ثلاثة أبيات على بعير ما شاؤا من متاعهم. فجلوا إلى الشام، إلى أريحا و أذرعات، إلّا أهل بيتين منهم: آل أبي الحقيق و آل حييّ بن أخطب، فإنّهم

______________________________

(1) أي: ضيّقوا أفواهها بالخشب و الحجارة. زبدة التفاسير، ج 7، ص: 8

لحقوا بخيبر، و لحقت طائفة بالحيرة. فنزلت فيهم:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ مرّ تفسيره.

هُوَ الَّذِي أَخْرَجَ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يعني: يهود بني النضير مِنْ دِيارِهِمْ بأن سلّط اللّه المؤمنين عليهم، و أمر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بإخراجهم من منازلهم و حصونهم لِأَوَّلِ الْحَشْرِ متعلّق ب «أخرج». و هي اللام في قوله تعالى: يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي

«1». و قولك: جئته لوقت كذا. و المعنى: أخرج الّذين كفروا في أوّل حشرهم من جزيرة العرب، إذ لم يصبهم هذا الذلّ قبل ذلك. أو في أوّل إجلائهم إلى الشام، و آخر حشرهم إجلاء عمر إيّاهم من خيبر إلى الشام. أو أوّل حشر الناس إلى الشام، و آخر حشرهم أنّهم يحشرون إليه عند قيام الساعة، فيدركهم هناك. أو أنّ نارا تخرج من المشرق فتحشرهم إلى المغرب، فهذا هو الحشر الثاني. و عن عكرمة: من شكّ أنّ المحشر هاهنا- يعني: الشام- فليقرأ هذه الآية.

و قيل: معناه: أخرجهم من ديارهم لأوّل ما حشر لقتالهم، لأنّه أوّل قتال قاتلهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و الحشر: إخراج جمع من مكان إلى آخر.

ما ظَنَنْتُمْ أَنْ يَخْرُجُوا لشدّة بأسهم و منعتهم، و وثاقة حصونهم، و كثرة عددهم و عدّتهم وَ ظَنُّوا أَنَّهُمْ مانِعَتُهُمْ حُصُونُهُمْ مِنَ اللَّهِ أي: أنّ حصونهم تمنعهم من بأس اللّه. و في تقديم الخبر على المبتدأ دليل على فرط وثوقهم بحصانتها و منعها إيّاهم. و في تصيير ضميرهم اسما ل «أنّ»، و إسناد الجملة إليه، دليل على اعتقادهم في أنفسهم أنّهم في عزّة و منعة لا يبالى معها بأحد يتعرّض لهم، أو يطمع في معازّتهم «2». و ليس ذلك في قولك: و ظنّوا أنّ حصونهم تمنعهم. و لذلك غيّر النظر؟

______________________________

(1) الفجر: 24.

(2) عازّه معازّة: عارضه في العزّة.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 9

فَأَتاهُمُ اللَّهُ أي: عذابه. و هو الرعب و الاضطرار إلى الجلاء. و قيل:

الضمير للمؤمنين، أي: فأتاهم نصر اللّه. مِنْ حَيْثُ لَمْ يَحْتَسِبُوا لم يظنّوا و لم يخطر ببالهم، و هو قتل رئيسهم كعب بن الأشرف غرّة «1» و غيلة على يد أخيه. و

ذلك ممّا أضعف قوّتهم، و فلّ من شوكتهم، و ثبّط المنافقين الّذين كانوا يتولّونهم عن مظاهرتهم، و سلب قلوبهم الأمن و الطمأنينة بما قذف فيها من الرعب، و ألهمهم أن يوافقوا المؤمنين في تخريب بيوتهم، و يعينوا على أنفسهم، كما قال عزّ اسمه:

وَ قَذَفَ فِي قُلُوبِهِمُ الرُّعْبَ و أثبت فيها الخوف الّذي يرعبها، أي: يملؤها يُخْرِبُونَ بُيُوتَهُمْ بِأَيْدِيهِمْ ضنّا «2» بها على المسلمين، و احتياجا لهم إلى الخشب و الحجارة ليسدّوا بها أفواه الأزقّة، و إخراجا لما استحسنوا من آلاتها وَ أَيْدِي الْمُؤْمِنِينَ فإنّهم أيضا كانوا يخربون ظواهرها نكاية و توسيعا لمجال القتال، فلا يبقى لهم بالمدينة دار، و لا منهم ديار. و عطفها على «أيديهم» من حيث إنّ تخريب المؤمنين مسبّب عن نقضهم، فكأنّهم استعملوا المؤمنين في التخريب. و الجملة حال، أو تفسير للرعب. و قرأ أبو عمرو: يخرّبون بالتشديد. و هو أبلغ، لما فيه من التكثير. و قيل: الإخراب: التعطيل، أو ترك الشي ء خرابا. و التخريب: الهدم.

فَاعْتَبِرُوا يا أُولِي الْأَبْصارِ فاتّعظوا بما دبّر اللّه و يسّر من أمر إخراجهم، و تسليط المسلمين عليهم من غير قتال، فلا تعتمدوا على غير اللّه.

و فيه دليل على أنّ القياس المنصوص العلّة حجّة لا مطلقا، من حيث إنّه أمر بالمجاوزة من حال إلى حال، مثلها في اشتراك العلّة، فحملها عليها في الحكم لما بينهما من العلّة المشتركة المقتضية له.

و قيل: وعد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المسلمين أن يورثهم اللّه أرضهم و أموالهم بغير

______________________________

(1) أي: غفلة.

(2) ضنّ بالشي ء: بخل.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 10

قتال، و يريحوهم من جوارهم، فكان كما قال، فاستدلّوا بذلك على صدق الرسول.

وَ لَوْ لا أَنْ كَتَبَ اللَّهُ عَلَيْهِمُ الْجَلاءَ الخروج

من أوطانهم على ما اقتضته حكمته لَعَذَّبَهُمْ فِي الدُّنْيا بالقتل و السبي، كما فعل بإخوانهم بني قريظة وَ لَهُمْ فِي الْآخِرَةِ عَذابُ النَّارِ استئناف معناه: إنّهم إن نجوا من عذاب الدنيا لم ينجوا من عذاب الآخرة.

ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من عذاب الدنيا، و ما كانوا بصدده من الفساد، و ما هو معدّ لهم في الآخرة. أو إلى الأخير. بِأَنَّهُمْ شَاقُّوا اللَّهَ وَ رَسُولَهُ خالفوهما وَ مَنْ يُشَاقِّ اللَّهَ فَإِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ فيعاقبهم على مشاقّتهم أشدّ العقاب.

[سورة الحشر (59): آية 5]

ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ أَوْ تَرَكْتُمُوها قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ وَ لِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ (5)

روي: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين محاصرة حصونهم أمر بقطع نخيلهم و تحريقها، فنادوه: يا محمّد قد كنت تنهى عن الفحشاء، فما بالك تقطع النخل؟

و وقع في أنفس بعض المؤمنين شي ء من ذلك. فأنزل اللّه سبحانه:

ما قَطَعْتُمْ مِنْ لِينَةٍ محلّ «ما» نصب ب «قطعتم»، أي: أيّ شي ء قطعتم من نخلة. فعلة، و ياؤها عن واو، كالديمة. من اللون، و يجمع على ألوان. و المراد ضروب النخل و أنواعها. و قيل: من اللين. و معناها: النخلة الكريمة، مثل العجوة و البرنية. و جمعها: لين و أليان. و على هذا تخصيصها بالقطع ليكون غيظ اليهود أشدّ.

أَوْ تَرَكْتُمُوها الضمير ل «ما». و تأنيثه لأنّه مفسّر باللينة. قائِمَةً عَلى أُصُولِها فَبِإِذْنِ اللَّهِ فبأمره وَ لِيُخْزِيَ الْفاسِقِينَ علّة لمحذوف، أي: و فعلتم، أو و أذن لكم في القطع ليجزيهم على فسقهم بما غاظهم منه، و ضاعف لهم حسرة. و فيه دليل على جواز هدم ديار الكفّار، و قطع أشجارهم، زيادة لغيظهم.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 11

[سورة الحشر (59): الآيات 6 الى 10]

وَ ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْهُمْ فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ مِنْ خَيْلٍ وَ لا رِكابٍ وَ لكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (6) ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ كَيْ لا يَكُونَ دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ (7) لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أَمْوالِهِمْ يَبْتَغُونَ

فَضْلاً مِنَ اللَّهِ وَ رِضْواناً وَ يَنْصُرُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ (8) وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَ الْإِيمانَ مِنْ قَبْلِهِمْ يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ وَ لا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ حاجَةً مِمَّا أُوتُوا وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (9) وَ الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ وَ لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلاًّ لِلَّذِينَ آمَنُوا رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ (10)

روي: أنّ بعض المسلمين طلبوا القسمة في أموال بني النضير، فنزلت: وَ ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ

و ما أعاده عليه، بمعنى: صيّره له أو ردّه عليه، فإنّه كان حقيقا

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 12

بأن يكون له، لأنّه تعالى خلق الناس لعبادته، و خلق ما خلق لهم ليتوسّلوا به إلى طاعته، فهو جدير بأن يكون للمطيعين. مِنْهُمْ من بني النضير، أو من جميع الكفرة فَما أَوْجَفْتُمْ عَلَيْهِ فما أجريتم على تحصيله. من الوجيف، و هو سرعة السير. مِنْ خَيْلٍ وَ لا رِكابٍ ما يركب من الإبل غلّب فيه كما غلّب الراكب على راكبه.

و المعنى: و ما تعبتم عليه بركض الخيل و الركاب و عدوهما، و إنّما مشيتم إليه على أرجلكم. و ذلك لأنّ قرى بني النضير كانت على ميلين من المدينة، فمشوا إليها رجالا غير رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإنّه ركب حمارا، و قيل: جملا، و لم يجر قتال، و لذلك قسّم الفي ء بين المهاجرين، و لم يعط الأنصار منه شيئا، إلّا ثلاثة كانت بهم حاجة.

وَ لكِنَّ اللَّهَ يُسَلِّطُ رُسُلَهُ عَلى مَنْ يَشاءُ و على ما في أيديهم، بقذف الرعب في قلوبهم. فالأمر

فيه مفوّض إليه، يضعه حيث يشاء. يعني: أنّه لا يقسّم قسمة الغنائم الّتي قوتل عليها و أخذت عنوة و قهرا وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ فيفعل ما يريد تارة بالوسائط الظاهرة، و تارة بغيرها.

ثمّ أمر رسوله أن يضع الفي ء حيث يضع الخمس من الغنائم، مقسوما على الأقسام الستّة، فقال:

ما أَفاءَ اللَّهُ عَلى رَسُولِهِ مِنْ أَهْلِ الْقُرى من أموال الكفّار. و هذا بيان للأوّل، و لذلك لم يعطف عليه. فَلِلَّهِ وَ لِلرَّسُولِ وَ لِذِي الْقُرْبى من أهل قرابته، و هم بنو هاشم وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ منهم، لأنّ التقدير: و لذي قرباه، و يتامى أهل بيته، و مساكينهم، و ابن السبيل منهم. و يؤيّده ما

روى المنهال بن عمرو، عن عليّ بن الحسين عليه السّلام قال: «قلت: قوله: «وَ لِذِي الْقُرْبى وَ الْيَتامى وَ الْمَساكِينِ وَ ابْنِ السَّبِيلِ» قال: هم قربانا، و مساكيننا، و أبناء سبيلنا».

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 13

و قال فقهاء العامّة: هم يتامى الناس عامّة، و كذلك المساكين و أبناء السبيل.

و

قد روى محمد بن مسلم، عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: «كان أبي يقول: لنا سهم الرسول و سهم ذي القربى، و نحن شركاء الناس فيما بقي».

و

روي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «نحن قوم فرض اللّه طاعتنا، و لنا الأنفال، و لنا صفو المال».

يعني: ما كان يصطفى لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم من فره الدوابّ، و حسان الجواري، و الدرّة الثمينة، و الشي ء الّذي لا نظير له. و الشروط المعتبرة في الخمس و كيفيّة تقسيمه قد مرّ في سورة الأنفال.

كَيْ لا يَكُونَ أي: لئلّا يكون الفي ء الّذي حقّه أن يعطى الفقراء ليكون لهم بلغة يعيشون

بها. و قرأ هشام بالتاء. دُولَةً بَيْنَ الْأَغْنِياءِ مِنْكُمْ ما يتداوله الأغنياء و يدور بينهم، يتكاثرون به، فلا يصيب الفقراء منه، كما كان في الجاهليّة، فإنّ الرؤساء منهم كانوا يستأثرون بالغنيمة، لأنّهم أهل الرئاسة و الدولة و الغلبة، و كانوا يقولون: من عزّ «1» بزّ. و هذا الخطاب للمؤمنين، دون الرسول و أهل بيته عليهم السّلام.

قال الكلبي: نزلت في رؤساء المسلمين قالوا له: يا رسول اللّه خذ صفيّك و الربع، و دعنا و الباقي، فهكذا كنّا نفعل في الجاهليّة. فلمّا نزلت هذه الآية قالت الصحابة: سمعا و طاعة لأمر اللّه و أمر رسوله.

و قرأ هشام: دولة بالرفع، على «كان» التامّة، أي: كيلا يقع دولة جاهليّة.

وَ ما آتاكُمُ الرَّسُولُ و ما أعطاكم من الفي ء، أو من الأمر فَخُذُوهُ لأنّه حلال لكم. أو فتمسّكوا به، لأنّه واجب الطاعة. وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ عن أخذه، أو عن إتيانه فَانْتَهُوا عنه وَ اتَّقُوا اللَّهَ في مخالفة رسوله إِنَّ اللَّهَ شَدِيدُ الْعِقابِ لمن خالفه. و الأجود أن يكون الحكم عامّا في كلّ ما أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و نهى عنه، و أمر الفي ء داخل في عمومه و إن نزل في آية الفي ء.

______________________________

(1) أي: من غلب سلب.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 14

و

روى زيد الشحّام، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «ما أعطى اللّه نبيّا من الأنبياء شيئا إلّا و قد أعطى محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. قال لسليمان: فَامْنُنْ أَوْ أَمْسِكْ بِغَيْرِ حِسابٍ «1».

و قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما آتاكُمُ الرَّسُولُ فَخُذُوهُ وَ ما نَهاكُمْ عَنْهُ فَانْتَهُوا».

و في هذه الآية دلالة على أنّ تدبير الأمّة إلى

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إلى الأئمّة القائمين مقامه. و لهذا قسّم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أموال خيبر، و منّ عليهم في رقابهم، و كذا منّ على أهل مكّة، و أجلى بني النضير و بني قينقاع، و أعطاهم شيئا من المال، و قتل رجال بني قريظة، و سبى ذراريهم و نساءهم، و قسّم أموالهم على المهاجرين، كما قال اللّه عزّ و جلّ:

لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ بدل من «لِذِي الْقُرْبى و ما عطف عليه، فإنّ الرسول لا يسمّى فقيرا، لترفّعه عن هذه التسمية، و لقوله: «وَ يَنْصُرُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ» الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أَمْوالِهِمْ فإنّ كفّار مكّة أخرجوهم و أخذوا أموالهم يَبْتَغُونَ فَضْلًا مِنَ اللَّهِ وَ رِضْواناً حال مقيّدة لإخراجهم بما يوجب تفخيم شأنهم وَ يَنْصُرُونَ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ بأنفسهم و أموالهم أُولئِكَ هُمُ الصَّادِقُونَ الّذين ظهر صدقهم في إيمانهم.

قال الزجّاج: بيّن سبحانه من المساكين الّذين لهم الحقّ بقوله: «لِلْفُقَراءِ الْمُهاجِرِينَ الَّذِينَ أُخْرِجُوا مِنْ دِيارِهِمْ وَ أَمْوالِهِمْ». ثمّ ثنّى سبحانه بوصف الأنصار و مدحهم، حتّى طابت أنفسهم عن الفي ء، فقال:

وَ الَّذِينَ تَبَوَّؤُا الدَّارَ وَ الْإِيمانَ عطف على «المهاجرين». و المراد بهم الأنصار الّذين لزموا المدينة و الإيمان، و تمكّنوا فيهما. و قيل: المعنى: تبوّؤا دار الهجرة و دار الإيمان. فحذف المضاف من الثاني، و المضاف إليه من الأوّل، و عوّض عنه اللام. أو تبوّؤا الدار و أخلصوا الإيمان، كقوله: علفتها تبنا و ماء باردا. و قيل:

______________________________

(1) ص: 39.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 15

سمّى المدينة بالدار و الإيمان، لأنّها دار الهجرة و مكان ظهور الإيمان. مِنْ قَبْلِهِمْ من قبل هجرة المهاجرين. و قيل: قبل إيمان المهاجرين. و المراد به

أصحاب ليلة العقبة، و هم سبعون رجلا بايعوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على حرب الأحمر و الأبيض.

يُحِبُّونَ مَنْ هاجَرَ إِلَيْهِمْ و لا يثقل عليهم، لأنّهم أحسنوا إليهم، و أسكنوهم دورهم، و أشركوهم في أموالهم وَ لا يَجِدُونَ فِي صُدُورِهِمْ في أنفسهم حاجَةً ما يحملهم الاحتياج عليه، كالطلب و الحزازة و الحسد و الغيظ مِمَّا أُوتُوا ممّا أعطي المهاجرون من الفي ء و غيره. يعني: نفوسهم لم تتبع ما أعطي المهاجرون، و لم تطمح إلى شي ء منه يحتاج إليه.

وَ يُؤْثِرُونَ عَلى أَنْفُسِهِمْ و يقدّمون المهاجرين على أنفسهم، حتّى إنّ من كان عنده امرأتان نزل عن واحدة و زوّجها من أحدهم وَ لَوْ كانَ بِهِمْ خَصاصَةٌ خلّة. من خصاص البيت، و هي فرجه. و الجملة في موضع الحال، أي: مفروضة خصاصتهم.

روي: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قسّم أموال بني النضير على المهاجرين، و لم يعط الأنصار إلّا ثلاثة محتاجين: سماك بن خرشة، و سهل بن حنيف، و الحارث بن الصمة. و قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لهم: إن شئتم قسّمتم للمهاجرين من أموالكم و دياركم، و شاركتموهم في هذه الغنيمة، و إن شئتم كانت لكم دياركم و أموالكم، و لم يقسّم لكم شي ء من الغنيمة. فقالت الأنصار: بل نقسّم لهم من أموالنا و ديارنا، و نؤثرهم بالغنيمة، و لا نشاركهم فيها. فنزلت هذه الآية.

وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ و من غلب ما أمرته به نفسه- من حبّ المال، و بغض الإنفاق- بتوفيق اللّه سبحانه و لطفه، و خالف هواها بمعونته فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ الفائزون بالثناء العاجل، و الثواب الآجل.

و قيل: من لم يأخذ شيئا

نهاه اللّه عنه، و لم يمنع شيئا أمره اللّه بأدائه، فقد وقي

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 16

شحّ نفسه.

و عن سعيد بن جبير: شحّ النفس هو أخذ الحرام و منع الزكاة.

وَ الَّذِينَ جاؤُ مِنْ بَعْدِهِمْ عطف أيضا على المهاجرين، أي: هم الّذين هاجروا بعدهم حين قوي الإسلام. أو التابعون بإحسان. و هم المؤمنون بعد الفريقين إلى يوم القيامة. و لذلك قيل: الآية قد استوعبت جميع المؤمنين.

يَقُولُونَ رَبَّنَا اغْفِرْ لَنا وَ لِإِخْوانِنَا الَّذِينَ سَبَقُونا بِالْإِيمانِ أي: لإخواننا السابقين في الدين وَ لا تَجْعَلْ فِي قُلُوبِنا غِلًّا حقدا لهم لِلَّذِينَ آمَنُوا لطفا منك رَبَّنا إِنَّكَ رَؤُفٌ رَحِيمٌ فحقيق بأن تجيب دعاءنا.

[سورة الحشر (59): الآيات 11 الى 17]

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ وَ لا نُطِيعُ فِيكُمْ أَحَداً أَبَداً وَ إِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ (11) لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَ لَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ وَ لَئِنْ نَصَرُوهُمْ لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ (12) لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ (13) لا يُقاتِلُونَكُمْ جَمِيعاً إِلاَّ فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً وَ قُلُوبُهُمْ شَتَّى ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ (14) كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ قَرِيباً ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (15)

كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكَ إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ (16) فَكانَ عاقِبَتَهُما أَنَّهُما فِي النَّارِ خالِدَيْنِ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ (17)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 17

و لمّا وصف سبحانه المهاجرين الّذين هاجروا الديار و الأوطان، ثمّ مدح الأنصار الّذين تبوّؤا الدار و الإيمان، ثمّ ذكر التابعين بإحسان،

و ما يستحقّونه من النعيم في الجنان، عقّب ذلك بذكر المنافقين و ما أسرّوه من الكفر و العصيان، فقال:

أَ لَمْ تَرَ إِلَى الَّذِينَ نافَقُوا يَقُولُونَ لِإِخْوانِهِمُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ يريد الّذين بينهم و بينهم أخوّة الكفر أو الصداقة و الموالاة لَئِنْ أُخْرِجْتُمْ من دياركم لَنَخْرُجَنَّ مَعَكُمْ في قتالكم أو خذلانكم مساعدين لكم وَ لا نُطِيعُ فِيكُمْ في قتالكم أَحَداً أَبَداً أي: من رسول اللّه و المسلمين إن حملنا عليه. أو في خذلانكم و إخلاف ما وعدناكم من النصرة. وَ إِنْ قُوتِلْتُمْ لَنَنْصُرَنَّكُمْ لنعاوننّكم وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّهُمْ لَكاذِبُونَ في مواعيدهم لليهود. يعني: لا يفعلون ذلك، كما قال:

لَئِنْ أُخْرِجُوا لا يَخْرُجُونَ مَعَهُمْ وَ لَئِنْ قُوتِلُوا لا يَنْصُرُونَهُمْ و كان كذلك، فإنّ ابن أبيّ و أصحابه راسلوا بني النضير بذلك ثمّ أخلفوهم. و فيه دليل على صحّة النبوّة و إعجاز القرآن. وَ لَئِنْ نَصَرُوهُمْ أي: على التقدير و الفرض، كقوله: لَئِنْ أَشْرَكْتَ لَيَحْبَطَنَّ عَمَلُكَ «1». فلا ينافي قوله: «لا يَنْصُرُونَهُمْ». لَيُوَلُّنَّ الْأَدْبارَ أي:

ليهز منّ اللّه اليهود ثُمَّ لا يُنْصَرُونَ لا ينفعهم نصرة المنافقين. أو ليهزمنّ المنافقون ثمّ لا ينصرون بعد ذلك، أي: يهلكهم اللّه و لا ينفعهم نفاقهم، لظهور كفرهم. إذ ضمير

______________________________

(1) الزمر: 65.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 18

الفعلين يحتمل أن يكون لليهود أو للمنافقين.

ثمّ خاطب المؤمنين بقوله: لَأَنْتُمْ أَشَدُّ رَهْبَةً مصدر للفعل المبنيّ للمفعول، أي: أشدّ مرهوبيّة في صدورهم. و هذا دلالة على نفاقهم، يعني: أنّهم يظهرون لكم في العلانية خوف اللّه و أنتم أهيب فِي صُدُورِهِمْ مِنَ اللَّهِ فإنّ استبطان رهبتكم سبب لإظهار رهبة اللّه ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَفْقَهُونَ لا يعلمون عظمة اللّه حتّى يخشوه حقّ خشيته، و يعلموا أنّه الحقيق بأن يخشى.

لا

يُقاتِلُونَكُمْ اليهود و المنافقون، أي: لا يقدرون على مقاتلتكم جَمِيعاً مجتمعين متساندين إِلَّا كائنين فِي قُرىً مُحَصَّنَةٍ بالدروب و الخنادق أَوْ مِنْ وَراءِ جُدُرٍ يرمونكم دون أن يصحروا لكم و يبارزوكم، لفرط رهبتهم. و قرأ ابن كثير و ابو عمرو: جدار. و أمال أبو عمرو فتحة الدال.

بَأْسُهُمْ بَيْنَهُمْ شَدِيدٌ أي: ليست رهبتهم منكم لضعفهم و جبنهم، فإنّه يشتدّ بأسهم إذا حارب بعضهم بعضا، بل لقذف اللّه الرعب في قلوبهم، و تأييد اللّه و نصرته معكم. و لأنّ الشجاع يجبن، و العزيز يذلّ، إذا حارب اللّه و رسوله.

تَحْسَبُهُمْ جَمِيعاً مجتمعين متّفقين في الظاهر وَ قُلُوبُهُمْ شَتَّى متفرّقة، لافتراق دواعيهم و أهوائهم، و اختلاف آرائهم و مقاصدهم، لأنّ بينهم إحنا و عداوات، خذلانا و تخلية من اللّه، فلا يتعاضدون حقّ التعاضد، و لا يرمون عن قوس واحدة.

ذلِكَ بِأَنَّهُمْ قَوْمٌ لا يَعْقِلُونَ ما فيه صلاحهم، و أنّ تشتّت القلوب يوهن قواهم. و فيه تجسير للمؤمنين، و تشجيع لقلوبهم على قتالهم.

كَمَثَلِ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ أي: مثل اليهود كمثل أهل بدر أو بني قينقاع إن صحّ أنّهم أخرجوا قبل النضير. أو المهلكين من الأمم الماضية. قَرِيباً في زمان قريب. و انتصابه ب «مثل»، على تقدير: كوجود مثل. ذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ سوء

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 19

عاقبة كفرهم في الدنيا، كالقتل و السبي و الإجلاء وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة.

كَمَثَلِ الشَّيْطانِ أي: مثل المنافقين في إغوائهم اليهود على القتال، و وعدهم إيّاهم النصر، ثمّ متاركتهم و إخلافهم، كمثل الشيطان إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ أغراه على الكفر بكيده إغراء الآمر المأمور.

و عن ابن عبّاس: هو عابد في بني إسرائيل اسمه برصيصا، عبد اللّه زمانا من الدهر حتّى كان يؤتى بالمجانين يداويهم، و

يعوّذهم فيبرءون على يده. و أنّه أتي بامرأة في شرف قد جنّت، و كان لها إخوة فأتوه بها، فكانت عنده، فلم يزل به الشيطان يزيّن له حتّى وقع عليها فحملت، فلمّا استبان حملها قتلها و دفنها.

فلمّا فعل ذلك ذهب الشيطان حتّى لقي أحد إخوتها، فأخبره بالّذي فعل الراهب، و أنّه دفنها في مكان كذا، ثمّ أتى بقيّة إخوتها رجلا رجلا، فذكر ذلك له.

فجعل الرجل يلقى أخاه فيقول: و اللّه لقد أتاني آت فذكر لي شيئا يكبر عليّ ذكره.

فذكر بعضهم لبعض حتّى بلغ ذلك ملكهم، فسار الملك و الناس فاستنزلوه، فأقرّ لهم بالّذي فعل، فأمر به فصلب.

فلمّا رفع على خشبته تمثّل له الشيطان، فقال: أنا الّذي ألقيتك في هذا، فهل أنت مطيعي فيما أقول لك، أخلّصك ممّا أنت فيه؟

قال: نعم.

قال: اسجد لي سجدة واحدة.

فقال: كيف أسجد لك و أنا على هذه الحالة؟

فقال: أكتفي منك بالإيماء.

فأومى له بالسجود، فكفر باللّه، و قتل الرجل. فهو قوله: «كَمَثَلِ الشَّيْطانِ إِذْ قالَ لِلْإِنْسانِ اكْفُرْ».

فَلَمَّا كَفَرَ قالَ إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكَ أي: تبرّأ منه مخافة أن يشاركه في

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 20

العذاب، كما قال: إِنِّي أَخافُ اللَّهَ رَبَّ الْعالَمِينَ و لم ينفعه ذلك.

فَكانَ عاقِبَتَهُما عاقبة الفريقين الداعي و المدعوّ، من الشيطان و من أغواه من المنافقين و اليهود أَنَّهُما فِي النَّارِ أنّهما معذّبان في النار خالِدَيْنِ فِيها وَ ذلِكَ جَزاءُ الظَّالِمِينَ فضرب اللّه تعالى هذه القصّة لبني النضير حين اغترّوا بالمنافقين، ثمّ تبرّؤا منهم عند الشدّة و أسلموهم. و قيل: المراد بالإنسان أبو جهل، قال له إبليس يوم بدر: لا غالِبَ لَكُمُ الْيَوْمَ مِنَ النَّاسِ وَ إِنِّي جارٌ لَكُمْ إلى قوله: إِنِّي بَرِي ءٌ مِنْكُمْ «1». قيل: أراد بالشيطان و الإنسان اسم

الجنس لا المعهود، فإنّ الشيطان أبدا يدعو الإنسان إلى الكفر، ثمّ يتبرّأ منه وقت الحاجة.

[سورة الحشر (59): الآيات 18 الى 19]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ لِغَدٍ وَ اتَّقُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (18) وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ (19)

ثمّ رجع إلى موعظة المؤمنين، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَ لْتَنْظُرْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ من عمل صالح ينجيه، أو طالح يوبقه و يرديه لِغَدٍ ليوم القيامة.

سمّاه غدا لدنوّه، كاليوم الّذي يلي يومك. أو لأنّ الدنيا كيوم، و الآخرة كغده.

و تنكيره للتعظيم، و لإبهام أمره، كأنّه قيل: لغد لا يعرف كنهه لعظمته. و أمّا تنكير النفس فلاستقلال الأنفس النواظر فيما قدّمن للآخرة، كأنّه قال: فلتنظر نفس واحدة في ذلك.

وَ اتَّقُوا اللَّهَ تكرير للتأكيد، أو الأوّل في أداء الواجبات، لأنّه مقرون

______________________________

(1) الأنفال: 48.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 21

بالعمل، و الثاني في ترك المحارم، لاقترانه بما يجري مجرى الوعيد، و هو قوله:

إِنَّ اللَّهَ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ

وَ لا تَكُونُوا كَالَّذِينَ نَسُوا اللَّهَ تركوا أداء حقّ اللّه فَأَنْساهُمْ أَنْفُسَهُمْ فجعلهم ناسين لها بالخذلان حتّى لم يسمعوا ما ينفعها، و لم يفعلوا ما يخلّصها. أو فأراهم يوم القيامة من الأهوال ما نسوا فيه أنفسهم. أو حرّمهم حظوظهم من الخير و الثواب. أُولئِكَ هُمُ الْفاسِقُونَ الكاملون في الفسوق. و هم الكفّار المصرّون على كفرهم.

[سورة الحشر (59): الآيات 20 الى 24]

لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ وَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ (20) لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ (21) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ هُوَ الرَّحْمنُ الرَّحِيمُ (22) هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ الْمَلِكُ الْقُدُّوسُ السَّلامُ الْمُؤْمِنُ الْمُهَيْمِنُ الْعَزِيزُ الْجَبَّارُ الْمُتَكَبِّرُ

سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ (23) هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ الْبارِئُ الْمُصَوِّرُ لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (24)

ثمّ بيّن سبحانه ضعة الكافرين و رفعة المؤمنين، فقال: لا يَسْتَوِي أَصْحابُ النَّارِ أي: الّذين استمهنوا نفوسهم فاستحقّوا النار وَ أَصْحابُ الْجَنَّةِ و الّذين استكملوا نفوسهم فاستأهلوا الجنّة. و احتجّ به أصحابنا و الشافعيّة على أنّ المسلم

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 22

لا يقتل بالكافر. أَصْحابُ الْجَنَّةِ هُمُ الْفائِزُونَ بالنعيم المقيم.

ثمّ عظّم سبحانه حال القرآن و جلالة قدره، فقال: لَوْ أَنْزَلْنا هذَا الْقُرْآنَ عَلى جَبَلٍ تمثيل و تخييل، كما مرّ في قوله: إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمانَةَ «1». و لذلك عقّبه بقوله: لَرَأَيْتَهُ خاشِعاً مُتَصَدِّعاً متشقّقا مِنْ خَشْيَةِ اللَّهِ وَ تِلْكَ الْأَمْثالُ إشارة إلى هذا المثل و إلى أمثاله الأخر، فإنّها في مواضع من التنزيل نَضْرِبُها لِلنَّاسِ لَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ

و المعنى: لو كان الجبل ممّا ينزل عليه القرآن و يشعر به، مع غلظه و جفاء طبعه، و كبر جسمه، لخشع لمنزله، فانصدع من خشيته تعظيما لشأنه، فالإنسان أحقّ بهذا لو عقل الأحكام الّتي فيه. و المراد توبيخ الإنسان على عدم تخشّعه عند تلاوة القرآن، لقساوة قلبه، و قلّة تدبّره.

ثمّ أخبر سبحانه بربوبيّته و عظمته، فقال: هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي: هو المستحقّ للعبادة الّذي لا تحقّ العبادة إلّا له عالِمُ الْغَيْبِ ما غاب عن الحسّ، من الجواهر القدسيّة و أحوالها وَ الشَّهادَةِ و ما حضر له و شاهد من الأجرام و أعراضها هُوَ الرَّحْمنُ المنعم على جميع خلقه فعلا و قوّة الرَّحِيمُ بالمؤمنين.

هُوَ اللَّهُ الَّذِي لا إِلهَ إِلَّا هُوَ كرّره للتأكيد و المبالغة الْمَلِكُ السيّد المالك لجميع الأشياء الّذي له التصرّف

فيها على وجه ليس لأحد منعه منه. و قيل: هو الواسع القدرة. الْقُدُّوسُ البليغ في النزاهة عمّا يوجب نقصانا. و نظيره: السبّوح بناء و معنى. السَّلامُ ذو السلامة من كلّ نقص و آفة. أو الّذي سلم العباد من ظلمه. أو من عنده ترجى السلامة. و منه: دار السلام. مصدر وصف به للمبالغة في وصف كونه سليما من النقائص، أو في إعطائه السلامة.

الْمُؤْمِنُ واهب الأمن. أو الّذي أمن أولياؤه عذابه الْمُهَيْمِنُ الرقيب

______________________________

(1) الأحزاب: 72.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 23

على كلّ شي ء، الحافظ له. و عن ابن عبّاس و الضحّاك و الجبائي: الأمين الّذي لا يضيع لأحد عنده حقّ. مفيعل من الأمن، قلبت همزته هاء. الْعَزِيزُ المنيع الّذي لا يرام، و لا يمتنع عليه مرام الْجَبَّارُ القاهر الّذي جبر خلقه على ما أراد. أي:

أجبره. أو الّذي جبر حال خلقه، بمعنى: أصلحه. الْمُتَكَبِّرُ الّذي تكبّر عن كلّ ما يوجب حاجة أو نقصانا. و قيل: المتكبّر عن ظلم عباده. سُبْحانَ اللَّهِ عَمَّا يُشْرِكُونَ يشركون به من الأصنام، إذ لا يشاركه في شي ء من ذلك.

هُوَ اللَّهُ الْخالِقُ المقدّر للأشياء على مقتضى حكمته الْبارِئُ الموجد لها بريئا من التفاوت. أو المميّز بعضها من بعض بالأشكال المختلفة. الْمُصَوِّرُ الموجد لصورها و كيفيّاتها كما أراد لَهُ الْأَسْماءُ الْحُسْنى نحو: اللّه، الرحمن، الرحيم، القادر، العالم، الحيّ، القيّوم، و غيرها، فإنّها دالّة على محاسن المعاني يُسَبِّحُ لَهُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ أي: ينزّهه جميع الأشياء عن النقائص كلّها.

فالحيّ يصفه بالتنزيه، و الجماد يدلّ على تنزيهه. وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ الجامع للكمالات بأسرها، فإنّها راجعة إلى الكمال في القدرة و العلم.

عن أبي هريرة: سألت حبيبي صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن اسم اللّه

الأعظم، فقال: «عليك بآخر الحشر، فأكثر قراءته».

فأعدت عليه فأعاد عليّ، فأعدت عليه فأعاد عليّ.

و

روى أيضا سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس، قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اسم اللّه الأعظم في ستّ آيات في آخر سورة الحشر».

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 25

(60) سورة الممتحنة

اشارة

مدنيّة. و هي ثلاث عشرة آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من قرأ سورة الممتحنة، كان المؤمنون و المؤمنات له شفعاء يوم القيامة».

أبو حمزة الثمالي، عن عليّ بن الحسين عليه السّلام قال: «من قرأ سورة الممتحنة في فرائضه و نوافله، امتحن اللّه قلبه للإيمان، و نوّر له بصره، و لا يصيبه فقر أبدا، و لا جنون في بدنه و لا في ولده».

[سورة الممتحنة (60): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ قَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِّ يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَ إِيَّاكُمْ أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ جِهاداً فِي سَبِيلِي وَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِي تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ وَ أَنَا أَعْلَمُ بِما أَخْفَيْتُمْ وَ ما أَعْلَنْتُمْ وَ مَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ (1) إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً وَ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ وَ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ (2) لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (3)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 26

و لمّا ذكر سبحانه في سورة الحشر الكفّار و المنافقين، افتتح هذه السورة بذكر تحريم موالاتهم، و إيجاب معاداتهم، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ توصلون إليهم المودّة بالمكاتبة. و الباء مزيدة مؤكّدة للتعدّي، مثلها في وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ «1». أو ثابتة على أنّ مفعول «تلقون» محذوف، معناه: تلقون إليهم أخبار رسول اللّه بسبب المودّة الّتي بينكم و بينهم.

و الجملة حال من فاعل «لا تتّخذوا». أو صفة ل «أولياء» جرت على غير من

هي له.

و لا حاجة فيها إلى إبراز الضمير، لأنّه مشروط في الاسم دون الفعل.

روي: أنّ مولاة لأبي عمرو بن صيفي بن هاشم يقال لها سارة، أتت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالمدينة و هو يتجهّز لفتح مكّة، فقال لها: أ مسلمة جئت؟

قالت: لا.

قال: أ فمهاجرة جئت؟

قالت: لا.

قال: فما جاء بك؟

قالت: كنتم الأهل و الموالي و العشيرة، و قد ذهبت الموالي- يعني: قتلوا يوم بدر- فاحتجت حاجة شديدة، فقدمت عليكم لتعطوني و تكسوني و تحملوني.

قال: فأين أنت من شبّان مكّة؟ و كانت مغنّية نائحة.

______________________________

(1) البقرة: 195. زبدة التفاسير، ج 7، ص: 27

قالت: ما طلب منّي بعد وقعة بدر.

فحثّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليها بني عبد المطّلب، فكسوها و حمّلوها و زوّدوها.

فأتاها حاطب بن أبي بلتعة، و أعطاها عشرة دنانير، و كساها بردا، و استحملها كتابا إلى أهل مكّة، نسخته: من حاطب بن أبي بلتعة إلى أهل مكّة:

اعلموا أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يريدكم، فخذوا حذركم.

فخرجت سارة. و نزل جبرئيل بالخبر، فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليّا عليه السّلام و عمّارا و المقداد و أبا مرثد و عمر و طلحة و الزبير، و كانوا فرسانا، و قال: انطلقوا حتّى تأتوا روضة «1» خاخ، فإنّ بها ظعينة «2» معها كتاب من حاطب إلى أهل مكّة، فخذوه منها و خلّوها، فإن أبت فاضربوا عنقها. فأدركوها فجحدت و حلفت. فهمّوا بالرجوع، فقال عليّ عليه السّلام: و اللّه ما كذبنا و لا كذب رسول اللّه. و سلّ سيفه و قال:

أخرجي الكتاب أو تضعي رأسك. فأخرجته من عقاص «3» شعرها.

و

روي: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه

و آله و سلّم أمّن جميع الناس يوم الفتح إلّا أربعة، هي أحدهم.

فاستحضر رسول اللّه حاطبا و قال: ما حملك عليه؟

فقال: يا رسول اللّه ما كفرت منذ أسلمت، و لا غششتك منذ نصحتك، و لا أحببتهم منذ فارقتهم، و لكن كنت امرءا ملصقا في قريش، و روي: غريرا فيهم- أي: غريبا- و لم أكن من أنفسها، و كلّ من معك من المهاجرين لهم قرابات بمكّة يحمون أهاليهم و أموالهم غيري، فخشيت على أهلي، فأردت أن اتّخذ عندهم يدا، و قد علمت أنّ اللّه تعالى ينزل عليهم بأسه، و أنّ كتابي لا يغني عنهم شيئا. فصدّقه

______________________________

(1) خاخ: موضع بين الحرمين بقرب حمراء الأسد من المدينة. معجم البلدان 2: 335.

(2) الظعينة: الزوجة أو المرأة ما دامت في الهودج أو عموما.

(3) عقاص جمع عقيصة، و هي ضفيرة الشعر، أي: ما شدّته من شعرها في قفاها. زبدة التفاسير، ج 7، ص: 28

و قبل عذره.

فقال عمر: دعني يا رسول اللّه أضرب عنق هذا المنافق.

فقال: و ما يدريك يا عمر، لعلّ اللّه قد اطّلع على أهل بدر فغفر لهم، فقال لهم:

اعملوا ما شئتم فقد غفرت لكم.

فقال عمر: اللّه و رسوله أعلم.

فنهى اللّه سبحانه المؤمنين عن موالاتهم الكافرين، و أوجب معاداتهم إيّاهم، بقوله: «لا تَتَّخِذُوا عَدُوِّي وَ عَدُوَّكُمْ أَوْلِياءَ تُلْقُونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ».

وَ قَدْ كَفَرُوا بِما جاءَكُمْ مِنَ الْحَقِ و هو حال من فاعل أحد الفعلين. و الحقّ الإسلام.

يُخْرِجُونَ الرَّسُولَ وَ إِيَّاكُمْ أي: من مكّة. و هو حال من «كفروا».

أو استئناف لبيان كفرهم و عتوّهم. أَنْ تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ رَبِّكُمْ تعليل ل «يخرجون» أي:

يخرجونكم لإيمانكم باللّه. و فيه تغليب المخاطب، و الالتفات من التكلّم إلى الغيبة، للدلالة على ما يوجب الإيمان.

إِنْ كُنْتُمْ خَرَجْتُمْ متعلّق

ب «لا تتّخذوا» يعني: تتولّوا أعدائي إن كنتم خرجتم عن أوطانكم جِهاداً فِي سَبِيلِي وَ ابْتِغاءَ مَرْضاتِي علّة للخروج، و عمدة للتعليق. و جواب الشرط محذوف دلّ عليه «لا تتّخذوا». و المعنى: إن كان غرضكم في خروجكم و هجرتكم الجهاد و طلب رضائي، فأوفوا خروجكم حقّه من معاداتهم، و لا تلقوا إليهم بالمودّة، و لا تتّخذوهم أولياء.

تُسِرُّونَ إِلَيْهِمْ بِالْمَوَدَّةِ بدل من «تلقون» أو استئناف. و معناه: أيّ طائل لكم في إسرار المودّة، أو الإخبار بسبب المودّة. وَ أَنَا أَعْلَمُ منكم بِما أَخْفَيْتُمْ وَ ما أَعْلَنْتُمْ أي: و قد علمتم أنّ الإخفاء و الإعلان سيّان في علمي لا تفاوت بينهما، و أنا مطلع رسولي على ما تسرّون. و قيل: «أعلم» مضارع، و الباء مزيدة، و «ما» مصدريّة.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 29

وَ مَنْ يَفْعَلْهُ مِنْكُمْ أي: يفعل الاتّخاذ و الإسرار فَقَدْ ضَلَّ سَواءَ السَّبِيلِ أخطأ طريق الحقّ و الصواب.

إِنْ يَثْقَفُوكُمْ يظفروا بكم يَكُونُوا لَكُمْ أَعْداءً خالصي العداوة، و لا يكونوا لكم أولياء كما أنتم، و لا ينفعكم إلقاء المودّة إليهم وَ يَبْسُطُوا إِلَيْكُمْ أَيْدِيَهُمْ وَ أَلْسِنَتَهُمْ بِالسُّوءِ بما يسوؤكم، كالقتل و الشتم وَ وَدُّوا لَوْ تَكْفُرُونَ و تمنّوا ارتدادكم. فإذن مودّة أمثالهم و مناصحتهم خطأ عظيم منكم، و مغالطة لأنفسكم.

و مجيئه بلفظ الماضي للإشعار بأنّهم ودّوا أن يلحقوا بكم مضارّ الدنيا و الدين جميعا، من قتل الأنفس، و تمزيق الأعراض، و ردّكم كفّارا.

لَنْ تَنْفَعَكُمْ أَرْحامُكُمْ قراباتكم وَ لا أَوْلادُكُمْ الّذين توالون المشركين لأجلهم، و تتقرّبون إليهم محاماة عليهم يَوْمَ الْقِيامَةِ يَفْصِلُ بَيْنَكُمْ يفرّق بينكم و بين أقاربكم و أولادكم يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ «1» الآية. فما لكم ترفضون حقّ اللّه اليوم لمن يفرّ منكم غدا. وَ

اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ.

و قرأ حمزة و الكسائي بالتشديد و كسر الصاد و فتح الفاء. و ابن عامر: يفصّل على البناء للمفعول مع التشديد، و هو «بينكم». و عاصم: يفصل.

______________________________

(1) عبس: 34.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 30

[سورة الممتحنة (60): الآيات 4 الى 6]

قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ فِي إِبْراهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ وَ بَدا بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَ الْبَغْضاءُ أَبَداً حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ إِلاَّ قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ وَ ما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا وَ إِلَيْكَ أَنَبْنا وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ (4) رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا وَ اغْفِرْ لَنا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (5) لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ وَ مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ (6)

ثمّ ضرب سبحانه لهم إبراهيم عليه السّلام مثلا في ترك موالاة الكفّار، فقال: قَدْ كانَتْ لَكُمْ أُسْوَةٌ قدوة حَسَنَةٌ و هو اسم لما يؤتسى به، أي: ما تأتسون به و تتّخذونه سنّة تستنّون بها. و المعنى: قد كان فيهم مذهب حسن و طريق مرضيّ بأن يؤتسى به و يتبع أثره. فِي إِبْراهِيمَ وَ الَّذِينَ مَعَهُ صفة ثانية. أو خبر «كان» و «لكم» لغو. أو حال من المستكن في «حسنة». أو صلة لها، لا ل «أسوة» لأنّها وصفت.

إِذْ قالُوا لِقَوْمِهِمْ ظرف لخبر «كان» إِنَّا بُرَآؤُا مِنْكُمْ فلا نواليكم. جمع بري ء، كظريف و ظرفاء. وَ مِمَّا تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ كَفَرْنا بِكُمْ أي: بدينكم أو بمعبودكم، أو بكم و به، فلا نعتدّ بشأنكم و آلهتكم وَ بَدا بَيْنَنا وَ بَيْنَكُمُ الْعَداوَةُ وَ الْبَغْضاءُ أَبَداً

حَتَّى تُؤْمِنُوا بِاللَّهِ وَحْدَهُ أي: سبب العداوة و البغضاء بيننا و بينكم ليس إلّا كفركم باللّه، فما دام هذا السبب قائما كانت العداوة قائمة، حتّى إن أزالوه بالإيمان باللّه وحده انقلبت العداوة و البغضاء ألفة و محبّة.

إِلَّا قَوْلَ إِبْراهِيمَ لِأَبِيهِ لعمّه الّذي بمنزلة أبيه في التربية لَأَسْتَغْفِرَنَّ لَكَ استثناء من قوله: «أسوة حسنة» فإنّ استغفاره لأبيه- أي: عمّه- الكافر ليس ممّا ينبغي أن يأتسوا به، فإنّه كان لموعدة وعدها إيّاه، فلمّا تبيّن له أنّه عدوّ للّه تبرّأ منه وَ ما أَمْلِكُ لَكَ مِنَ اللَّهِ مِنْ شَيْ ءٍ إذا أراد عقابك، و لا يمكنني دفع ذلك عنك. و هذا من تمام الاستثناء، و لا يلزم من استثناء المجموع استثناء جميع أجزائه.

رَبَّنا عَلَيْكَ تَوَكَّلْنا فوّضنا أمرنا إليك وَ إِلَيْكَ أَنَبْنا و إلى طاعتك مرجعنا

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 31

وَ إِلَيْكَ الْمَصِيرُ و إلى حكمك المرجع. و هذا المنادي متّصل بما قبل الاستثناء، أو أمر من اللّه للمؤمنين بأن يقولوه تتميما لما وصّاهم به من قطع العلائق بينهم و بين الكفّار.

رَبَّنا لا تَجْعَلْنا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا بأن تسلّطهم علينا تخلية، فيفتنونا بعذاب لا نتحمّله وَ اغْفِرْ لَنا ما فرط منّا رَبَّنا إِنَّكَ أَنْتَ الْعَزِيزُ الّذي لا يغالب الْحَكِيمُ الّذي لا يفعل إلّا الحكمة و الصواب. و من كان كذلك كان حقيقا بأن يجير المتوكّل، و يجيب الداعي و لا يخيبه.

لَقَدْ كانَ لَكُمْ فِيهِمْ أُسْوَةٌ حَسَنَةٌ كرّره للمبالغة، و لمزيد الحثّ على التأسّي بإبراهيم و أتباعه. و أبدل قوله: لِمَنْ كانَ يَرْجُوا اللَّهَ وَ الْيَوْمَ الْآخِرَ إبدالا من «لكم»، فإنّه يدلّ على أنّه لا ينبغي لمؤمن أن يترك التأسّي بهم، و أنّ تركه مؤذن بسوء العقيدة. و لذلك عقّبه بقوله: وَ

مَنْ يَتَوَلَّ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ الْغَنِيُّ الْحَمِيدُ فإنّه جدير بأن يوعد به الكفرة، فإنّ معناه: و من يعرض عن هذا الاقتداء بإبراهيم و الأنبياء و المؤمنين، فإنّ اللّه هو الغنيّ عن ذلك، المحمود في جميع أفعاله، فلا يضرّه تولّيه، و لكنّه ضرّ نفسه.

[سورة الممتحنة (60): الآيات 7 الى 9]

عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً وَ اللَّهُ قَدِيرٌ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (7) لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أَنْ تَبَرُّوهُمْ وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ (8) إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَ ظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ أَنْ تَوَلَّوْهُمْ وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ (9)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 32

و لمّا نزل «لا تتّخذوا» تشدّد المؤمنون في عداوة آبائهم و أبنائهم و جميع أقربائهم من المشركين و مقاطعتهم، فلمّا راى اللّه منهم الجدّ و الصبر على الوجه الشديد، و طول التمنّي للسبب الّذي يبيح لهم الموالاة و المواصلة، رحمهم فوعدهم تيسير ما تمنّوه، فقال:

عَسَى اللَّهُ أَنْ يَجْعَلَ بَيْنَكُمْ وَ بَيْنَ الَّذِينَ عادَيْتُمْ مِنْهُمْ مَوَدَّةً بتوفيق الإسلام.

و ذلك حين يسّر فتح مكّة أظفرهم اللّه بأمنيّتهم، فأسلم قومهم، و تمّ بينهم التحابب و التصافي. و «عسى» وعد من اللّه على عادات الملوك، حيث يقولون في بعض الحوائج: عسى أو لعلّ، فلا تبقى شبهة للمحتاج في تمام ذلك. أو قصد به إطماع المؤمنين.

و

روي: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تزوّج أمّ حبيبة، فعند ذلك لانت عريكة أبي سفيان، و استرخت شكيمته في العداوة. و كانت أمّ حبيبة قد أسلمت و هاجرت مع زوجها عبد اللّه بن أبي جحش إلى

الحبشة، فتنصّر و أرادها على النصرانيّة، فأبت و صبرت على دينها. و مات زوجها، فبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى النجاشي، فخطبها عليه السّلام، و ساق عنه إليها المهر أربعمائة دينار. و بلغ ذلك أباها فقال: ذلك الفحل لا يقدع «1» أنفه.

وَ اللَّهُ قَدِيرٌ على تقليب القلوب من العداوة إلى المحبّة، و تسهيل أسباب المودّة وَ اللَّهُ غَفُورٌ لذنوب عباده رَحِيمٌ بهم إذا تابوا و أسلموا. أو غفور رحيم لما فرط منكم من موالاتهم من قبل، و لما بقي في قلوبكم من ميل الرحم.

لا يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ لَمْ يُقاتِلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ لَمْ يُخْرِجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ أي:

لا ينهاكم عن مبرّة هؤلاء، لأنّ قوله: أَنْ تَبَرُّوهُمْ بدل من «الّذين».

وَ تُقْسِطُوا إِلَيْهِمْ و تفضوا إليهم بالقسط، أي: العدل. و المعنى: لا ينهاكم اللّه

______________________________

(1) أي: لا يضرب أنفه و لا يكفّ.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 33

عن مبرّة هؤلاء، و إنّما ينهاكم عن تولّي هؤلاء. إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الْمُقْسِطِينَ العادلين.

و هذا أيضا رحمة لهم، لتشدّدهم و جدّهم في العداوة متقدّمة لرحمته، بتيسير إسلام قومهم، حيث رخّص لهم في صلة من لم يجاهر منهم بقتال المؤمنين و إخراجهم من ديارهم.

و قيل: أراد بهم خزاعة، و كانوا صالحوا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على أن لا يقاتلوه، و لا يعينوا عليه.

و عن مجاهد: هم النساء و الصبيان.

و

قيل: قدمت على أسماء بنت أبي بكر أمّها قتيلة بنت عبد العزّى و هي مشركة بهدايا، فلم تقبلها، و لم تأذن لها بالدخول، فنزلت. فأمرها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن تدخلها، و تقبل منها، و تكرمها، و تحسن إليها.

و

قيل: إنّ

المسلمين استأمروا النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في أن يبرّوا أقرباءهم من المشركين، و ذلك قبل أن يؤمروا بقتال جميع المشركين، فنزلت هذه الآية.

و عن مجاهد: هي منسوخة بآية «1» القتال.

و الّذي عليه الإجماع أنّ برّ الرجل من يشاء من أهل الحرب- قرابة كان أو غير قرابة- ليس بمحرّم. و إنّما الخلاف في إعطائهم مال الزكاة و الفطرة و الكفّارات، فلم يجوّزه أصحابنا، و العامّة اختلفوا فيه. و ناهيك بتوصية اللّه المؤمنين أن يستعملوا القسط مع المشركين به، و يتحاموا ظلمهم، مترجمة عن حال مسلم يجترئ على ظلم أخيه المسلم.

إِنَّما يَنْهاكُمُ اللَّهُ عَنِ الَّذِينَ قاتَلُوكُمْ فِي الدِّينِ وَ أَخْرَجُوكُمْ مِنْ دِيارِكُمْ وَ ظاهَرُوا عَلى إِخْراجِكُمْ كمشركي مكّة، فإنّ رؤساءهم سعوا في إخراج المؤمنين، و أتباعهم عاونوا رؤساءهم على الإخراج أَنْ تَوَلَّوْهُمْ بدل من «الّذين» بدل الاشتمال،

______________________________

(1) التوبة: 5.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 34

أي: ينهاكم اللّه عن أن تولّوهم و توادّوهم بالمكاتبة و غيرها من أسباب التوادّ.

وَ مَنْ يَتَوَلَّهُمْ و ينصرهم فَأُولئِكَ هُمُ الظَّالِمُونَ لوضعهم الولاية في غير موضعها.

[سورة الممتحنة (60): الآيات 10 الى 11]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَّ اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَّ فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَ لا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَّ وَ آتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أَنْ تَنْكِحُوهُنَّ إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ وَ سْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ وَ لْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا ذلِكُمْ حُكْمُ اللَّهِ يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ حَكِيمٌ (10) وَ إِنْ فاتَكُمْ شَيْ ءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ مِثْلَ ما أَنْفَقُوا وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ (11)

عن ابن عبّاس: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه

عليه و آله و سلّم لمّا صالح بالحديبية مشركي مكّة، على أنّ من أتاه من أهل مكّة ردّه عليهم، و من أتى أهل مكّة من أصحاب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فهو لهم و لم يردّوه عليه، و كتبوا بذلك كتابا و ختموا عليه. فجاءت سبيعة بنت الحرث الأسلميّة مسلمة بعد الفراغ من الكتاب و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالحديبية. فأقبل زوجها مسافر من بني مخزوم- و قال مقاتل: هو صيفي بن الراهب- في طلبها، و كان كافرا، فقال: يا محمّد اردد عليّ امرأتي، فإنّك قد شرطت لنا أن تردّ علينا من أتاك منّا، و هذه طينة الكتاب لم تجفّ بعد. فنزلت الآية بيانا لأنّ الشرط إنّما كان

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 35

في الرجال دون النساء.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا جاءَكُمُ الْمُؤْمِناتُ مُهاجِراتٍ فَامْتَحِنُوهُنَ فاختبروهنّ بما يغلب على ظنّكم موافقة قلوبهنّ لسانهنّ في الإيمان اللَّهُ أَعْلَمُ بِإِيمانِهِنَ فإنّه المطّلع على ما في قلوبهنّ، فلا سبيل لكم إلى ما تطمئنّ به النفس و يثلج به الصدر من الإحاطة بحقيقة إيمانهنّ، فإنّ ذلك ممّا استأثر به علّام الغيوب، و أنّ ما يؤدّي إليه الامتحان من العلم كاف لكم في ذلك، و أنّ تكليفكم لا يعدوه.

فَإِنْ عَلِمْتُمُوهُنَّ مُؤْمِناتٍ العلم الّذي يمكنكم تحصيله، و هو الظنّ الغالب بالحلف و ظهور الأمارات. و إنّما سمّاه علما إيذانا بأنّه كالعلم في وجوب العمل به.

فَلا تَرْجِعُوهُنَّ إِلَى الْكُفَّارِ أي: إلى أزواجهنّ الكفرة، لقوله: لا هُنَّ حِلٌّ لَهُمْ وَ لا هُمْ يَحِلُّونَ لَهُنَ و التكرار للمبالغة. أو الأولى لحصول الفرقة، و الثانية للمنع عن استئناف العقد. و فيه دلالة على وقوع الفرقة بينهما بخروجها مسلمة،

و إن لم يطلّق المشرك.

وَ آتُوهُمْ ما أَنْفَقُوا ما دفعوا إليهنّ من المهور. و ذلك لأنّ صلح الحديبية جرى على أنّ من جاءنا منكم رددناه، فلمّا تعذّر عليه ردّهنّ لورود النهي عنه لزمه ردّ المهر. فاستحلفها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فحلفت، فأعطى زوجها ما أنفق، و تزوّجها عمر.

وَ لا جُناحَ عَلَيْكُمْ أيّها المسلمون أَنْ تَنْكِحُوهُنَ فإنّ الإسلام حال بينهنّ و بين أزواجهنّ الكفّار إِذا آتَيْتُمُوهُنَّ أُجُورَهُنَ شرط إيتاء المهر في نكاحهنّ إيذانا بأنّ ما أعطى أزواجهنّ لا يقوم مقام المهر، و إشعارا بأنّ المهر أجر البضع، و وجب على الامام أو نائبه أن يدفع إلى أزواجهنّ من بيت المال ما سلّموهنّ من المهور.

ثمّ نهى المؤمنين عن نكاح الكافرات بقوله: وَ لا تُمْسِكُوا بِعِصَمِ الْكَوافِرِ

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 36

بما يعتصم به الكافرات من عقد و سبب. جمع عصمة. و المعنى: لا تكن بينكم و بينهنّ عصمة و لا علقة زوجيّة. و فيه دلالة على عدم جواز العقد على الكافرة، سواء كانت حربيّة أو ذمّيّة، لعموم لفظ الكوافر. وَ سْئَلُوا ما أَنْفَقْتُمْ من مهور نسائكم اللاحقات بالكفّار وَ لْيَسْئَلُوا ما أَنْفَقُوا من مهور أزواجهم المهاجرات.

ذلِكُمْ إشارة إلى جميع ما ذكر في الآية حُكْمُ اللَّهِ و أمره يَحْكُمُ بَيْنَكُمْ استئناف، أو حال من الحكم على حذف الضمير، أي: يحكمه اللّه. أو جعل الحكم حاكما على المبالغة. وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بجميع الأشياء حَكِيمٌ فيما يفعل، و من ذلك شرع ما تقتضيه حكمته.

قال الحسن: كان في صدر الإسلام تكون المسلمة تحت الكافر، و الكافرة تحت المسلم، فنسخته هذه الآية.

و روي: أنّه لمّا نزلت الآية أدّى المؤمنون ما أمروا به من أداء مهور المهاجرات إلى أزواجهنّ

المشركين، و أبى المشركون أن يؤدّوا شيئا من مهور الكوافر إلى أزواجهنّ المسلمين، فنزلت:

وَ إِنْ فاتَكُمْ و إن سبقكم و انفلت منكم شَيْ ءٌ مِنْ أَزْواجِكُمْ أحد من أزواجكم. و إيقاع «شي ء» موقعه للتحقير و المبالغة في التعميم. أو شي ء من مهورهنّ. إِلَى الْكُفَّارِ فَعاقَبْتُمْ فجاءت عقبتكم: أي: نوبتكم من أداء المهر. شبّه الحكم بأداء هؤلاء مهور نساء أولئك تارة، و أداء أولئك مهور نساء هؤلاء اخرى، بأمر يتعاقبون فيه كما يتعاقب في الركوب و غيره. فَآتُوا الَّذِينَ ذَهَبَتْ أَزْواجُهُمْ فآتوا أيّها الحكّام من فاتته امرأته من بيت المال أو الغنيمة مِثْلَ ما أَنْفَقُوا مثل مهر المهاجرة، و لا تؤتوه زوجها الكافر.

و قيل: معناه: إن غزوتم فأصبتم من الكفّار عقبى- هي الغنيمة- فأتوا الزوج الّذي فاتته امرأته إلى الكفّار من رأس الغنيمة ما أنفقه من مهرها.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 37

وَ اتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي أَنْتُمْ بِهِ مُؤْمِنُونَ فإنّ الإيمان به يقتضي التقوى منه.

قيل: جميع من لحق بالمشركين من نساء المؤمنين المهاجرين راجعات عن الإسلام ستّ نسوة: أمّ الحكم بنت أبي سفيان، كانت تحت عياض بن شدّاد الفهري. و فاطمة بنت أبي أميّة، كانت تحت عمر بن الخطّاب، و هي أخت أمّ سلمة.

و بروع بنت عقبة، كانت تحت شماس بن عثمان. و عبدة بنت عبد العزّى بن نضلة، و زوجها عمرو بن عبد ودّ. و هند بنت أبي جهل، كانت تحت هشام بن العاص.

و كلثوم بنت جرول، كانت تحت عمر. فأعطاهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مهور نسائهم من الغنيمة.

[سورة الممتحنة (60): آية 12]

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً وَ لا يَسْرِقْنَ وَ لا يَزْنِينَ وَ لا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَّ وَ

لا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَ أَرْجُلِهِنَّ وَ لا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ فَبايِعْهُنَّ وَ اسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (12)

ثمّ بيّن سبحانه كيفيّة بيعة النساء، بعد أخذ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم البيعة من الرجال، فقال:

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا جاءَكَ الْمُؤْمِناتُ يُبايِعْنَكَ عَلى أَنْ لا يُشْرِكْنَ بِاللَّهِ شَيْئاً من الأصنام و غيرها وَ لا يَسْرِقْنَ مال الأزواج و غيرهم وَ لا يَزْنِينَ وَ لا يَقْتُلْنَ أَوْلادَهُنَ يريد و أد البنات و الإسقاط وَ لا يَأْتِينَ بِبُهْتانٍ يَفْتَرِينَهُ بَيْنَ أَيْدِيهِنَّ وَ أَرْجُلِهِنَ

قيل: كانت المرأة تلتقط المولود فتقول لزوجها: هو ولدي منك. فكنّى

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 38

بالبهتان المفترى بين يديها و رجليها عن الولد الّذي تلصقه بزوجها كذبا، لأنّ بطنها الّذي تحمله فيه بين اليدين، و فرجها الّذي تلده به بين الرجلين.

وَ لا يَعْصِينَكَ فِي مَعْرُوفٍ في حسنة تأمرهنّ بها. و التقييد بالمعروف- مع أنّ الرسول لا يأمر إلّا به- تنبيه على أنّ طاعة المخلوق في معصية الخالق جديرة بغاية التوقّي و الاجتناب.

قيل: هذا نهي عن النوح، و تمزيق الثياب، و جزّ الشعر، و شقّ الجيب، و خمش الوجه، و الدعاء بالويل. و الأصل أنّ المعروف كلّ ما دلّ العقل و السمع على وجوبه أو ندبه. و سمّي معروفا، لأنّ العقل يعترف به من جهة عظم حسنه.

فَبايِعْهُنَ إذا بايعنك بضمان الثواب على الوفاء بهذه الأشياء. وَ اسْتَغْفِرْ لَهُنَّ اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ صفوح عنهنّ رَحِيمٌ منعم عليهنّ.

روي: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا فرغ يوم فتح مكّة من بيعة الرجال، أخذ في بيعة النساء و هو على الصفا، و كان عمر أسفل منه، و هند

بنت عتبة متنقّبة متنكّرة مع النساء خوفا أن يعرفها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أبايعكنّ على أن لا تشركن باللّه شيئا.

فقالت هند: إنّك لتأخذ علينا أمرا ما رأيناك أخذته على الرجال. و ذلك أنّه بايع الرجال يومئذ على الإسلام و الجهاد فقط.

فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و لا تسرقن.

فقالت هند: إنّ أبا سفيان رجل ممسك، و إنّي أصبت من ماله هنات، فلا أدري أ يحلّ لي أم لا؟

فقال أبو سفيان: ما أصبت من شي ء فيما مضى و فيما غبر فهو لك حلال.

فضحك رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و عرفها، فقال لها: فإنّك لهند بنت عتبة؟

قالت: نعم، فاعف عمّا سلف يا نبيّ اللّه، عفا اللّه عنك.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 39

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و لا تزنين.

فقالت: أو تزني الحرّة؟

فتبسّم عمر بن الخطّاب لما جرى بينه و بينها في الجاهليّة.

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و لا تقتلنّ أولادكنّ.

فقالت: ربّيناهم صغارا، و قتلتموهم كبارا، فأنتم و هم أعلم. و كان ابنها حنظلة بن أبي سفيان قتله عليّ بن أبي طالب عليه السّلام يوم بدر.

فضحك عمر حتّى استلقى. و تبسّم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و لمّا قال: و لا تأتين ببهتان.

قالت هند: و اللّه إنّ البهتان قبيح، و ما تأمرنا إلّا بالرشد و مكارم الأخلاق.

و لمّا قال: و لا يعصينك في معروف.

قالت هند: ما جلسنا مجلسنا هذا و في أنفسنا أن نعصيك في شي ء.

و

روى الزهري عن عروة، عن عائشة قالت: كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم

يبايع النساء بالكلام بهذه الآية: أن لا يشركن باللّه شيئا، و ما مسّت يد رسول اللّه يد امرأة قطّ إلّا يد امرأة يملكها. رواه البخاري في الصحيح «1».

و

روي: أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان إذا بايع النساء دعا بقدح من ماء فغمس فيه يده، ثمّ غمسن أيديهنّ فيه.

و

قيل: إنّه كان يبايعهنّ من وراء الثوب. عن الشعبي.

و الوجه في بيعة النساء مع أنّهنّ لسن من أهل النصرة بالمحاربة: هو أخذ العهد عليهنّ بما يصلح من شأنهنّ في الدين و الأنفس و الأزواج، و كان ذلك في صدر الإسلام، و لئلّا ينفتق بهنّ فتق لما وضع من الأحكام، فبايعهنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حسما لذلك.

______________________________

(1) صحيح البخاري 9: 99.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 40

[سورة الممتحنة (60): آية 13]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ (13)

روي: أنّ بعض فقراء المسلمين كانوا يواصلون اليهود ليصيبوا من ثمارهم.

فنزلت:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تَتَوَلَّوْا قَوْماً غَضِبَ اللَّهُ عَلَيْهِمْ يعني: اليهود. و قيل:

عامّة الكفّار.

قَدْ يَئِسُوا مِنَ الْآخِرَةِ قد يئسوا من أن يكون لهم حظّ في الآخرة، لكفرهم بها، أو لعلمهم بأنّه لا حظّ لهم فيها، لعنادهم الرسول المنعوت في التوراة، المؤيّد بالآيات كَما يَئِسَ الْكُفَّارُ مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ من موتاهم أن يبعثوا و يرجعوا أحياء، أو يثابوا، أو ينالهم خير منهم. و على الثاني وضع الظاهر فيه موضع الضمير، للدلالة على أنّ الكفر آيسهم.

و قيل: «مِنْ أَصْحابِ الْقُبُورِ» بيان للكفّار، أي: كما يئس الكفّار الّذين قبروا من خير الآخرة، لأنّهم تبيّنوا قبح حالهم و سوء منقلبهم.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 41

(61) سورة الصفّ

اشارة

و تسمّى سورة الحواريّين، و سورة عيسى عليه السّلام. مدنيّة. و هي أربع عشرة آية بلا خلاف.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ سورة عيسى عليه السّلام مصلّيا عليه، مستغفرا له ما دام في الدنيا، و هو يوم القيامة رفيقه».

أبو بصير عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من قرأ سورة الصفّ، و أدمن قراءتها في فرائضه و نوافله، صفّه اللّه تعالى مع ملائكته و أنبيائه المرسلين».

[سورة الصف (61): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (1) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ (2) كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ (3) إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا كَأَنَّهُمْ بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ (4)

و لمّا ختم اللّه سبحانه السورة بقطع موالاة الكفّار، افتتح هذه السورة بإيجاب

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 42

ذلك ظاهرا و باطنا، ثمّ بالأمر بالجهاد، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَبَّحَ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ مضى تفسيره.

روي: أنّ المسلمين قالوا: لو علمنا أحبّ الأعمال إلى اللّه لبذلنا أموالنا و أنفسنا، فأنزل اللّه: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ «1».

فولّوا يوم أحد، فنزلت تعييرا لهم: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لِمَ تَقُولُونَ ما لا تَفْعَلُونَ «لم» مركّبة من لام الجرّ و «ما» الاستفهاميّة. و الأكثر حذف ألفها مع حروف الجرّ، في قولك: بم، و فيم، و ممّ، و عمّ، و إلام، و علام، لكثرة استعمالهما في الكلام المستفهم عنه. و قد جاء استعمال الأصل قليلا. و الوقف على زيادة هاء السكت أو الإسكان. و من أسكن في

الوصل فلإجرائه مجرى الوقف. و فيه معنى التعجّب.

كَبُرَ مَقْتاً عِنْدَ اللَّهِ أَنْ تَقُولُوا ما لا تَفْعَلُونَ إيثار المقت الّذي هو أشدّ البغض، و نصبه على التمييز، للدلالة على أنّ قولهم هذا مقت خالص كبير عند اللّه، بحيث يحقّر دونه كلّ عظيم، مبالغة في المنع عنه، لأنّه إذا ثبت كبر مقته عند اللّه فقد تمّ كبره و شدّته.

قيل: لمّا أخبر اللّه بثواب شهداء بدر، قالوا: لئن لقينا قتالا لنفرغنّ فيه وسعنا، ففرّوا يوم أحد و لم يفوا، فنزلت.

و قيل: كان الرجل يقول: قتلت و لم يقتل، و طعنت و لم يطعن، و ضربت و لم يضرب، و صبرت و لم يصبر.

و

قيل: قد آذى المسلمين رجل و نكى فيهم، فقتله صهيب، و انتحل قتله آخر.

فقال عمر لصهيب: أخبر النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّك قتلته. فقال: إنّما قتلته للّه و لرسوله.

فقال عمر: يا رسول اللّه قتله صهيب. قال: كذلك يا أبا يحيى؟ قال: نعم. فنزلت

______________________________

(1) الصفّ: 4. زبدة التفاسير، ج 7، ص: 43

في المنتحل.

و عن الحسن: نزلت في المنافقين. و نداؤهم بالإيمان على حسب ظاهر حالهم.

و الّذي يدلّ على أنّ المقت قد تعلّق بقول الّذين وعدوا الثبات في قتال الكفّار، فلم يفوا، قوله بعد ذلك: إِنَّ اللَّهَ يُحِبُّ الَّذِينَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِهِ صَفًّا مصطفّين، أو صافّين أنفسهم. مصدر وصف به. كَأَنَّهُمْ في تراصّهم و تلاصقهم من غير فرجة و لا خلل بُنْيانٌ مَرْصُوصٌ رصّ بعضه إلى بعض. و هذا الكلام حال من المستكن في الحال الأولى. و الرصّ اتّصال بعض البناء بالبعض و استحكامه.

و قيل: يجوز أن يريد استواء نيّاتهم في الثبات حتّى يكونوا في اجتماع الكلمة كالبنيان المرصوص.

و عن بعضهم: فيه دليل على

فضل القتال راجلا، لأنّ الفرسان لا يصطفّون على هذه الصفة. و معنى محبّة اللّه إيّاهم أنّه يريد ثوابهم و منافعهم.

[سورة الصف (61): آية 5]

وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي وَ قَدْ تَعْلَمُونَ أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ فَلَمَّا زاغُوا أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (5)

ثمّ ذكر سبحانه حديث موسى عليه السّلام في صدق نيّته و ثبات عزيمته على الصبر في أذى قومه، تسلية للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في تكذيبهم إيّاه، فقال:

وَ إِذْ قالَ مُوسى لِقَوْمِهِ مقدّر ب: اذكر يا قَوْمِ لِمَ تُؤْذُونَنِي كانوا يؤذونه بأنواع الأذى، من انتقاصه و عيبه في نفسه بالرمي بالأدرة «1»، و جحود آياته،

______________________________

(1) الادرة: انتفاخ الخصية.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 44

و عصيانه فيما تعود إليهم منافعه، و عبادتهم البقر، و طلبهم رؤية اللّه جهرة، و قولهم:

اجْعَلْ لَنا إِلهاً كَما لَهُمْ آلِهَةٌ «1». فَاذْهَبْ أَنْتَ وَ رَبُّكَ فَقاتِلا إِنَّا هاهُنا قاعِدُونَ «2».

و نسبة قتل هارون إليه، و التكذيب الّذي هو تضييع حقّ اللّه و حقّه.

وَ قَدْ تَعْلَمُونَ في موضع الحال تقريرا للإنكار. و «قد» لتحقيق العلم، أي:

تؤذونني عالمين علما يقينا. أَنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ بما جئتكم من المعجزات.

و قضيّة علمكم بذلك و موجبه تعظيمي و توقيري، لا أن تؤذوني و تستهينوا بي، لأنّ من عرف اللّه و عظمته عظّم رسوله، علما بأنّ تعظيمه في تعظيم رسوله.

فَلَمَّا زاغُوا عن الحقّ أَزاغَ اللَّهُ قُلُوبَهُمْ بأن منع ألطافه عنهم، و خلّاهم و سوء اختيارهم، فصرفت قلوبهم عن قبول الحقّ و الميل إلى الصواب تخلية و خذلانا وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ لا يلطف بهم ليهتدوا، لأنّهم ليسوا من أهل اللطف، فلم يقبلوا الحقّ.

[سورة الصف (61): الآيات 6 الى 9]

وَ إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَّ مِنَ التَّوْراةِ وَ مُبَشِّراً بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ

بَعْدِي اسْمُهُ أَحْمَدُ فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ (6) وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (7) يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا نُورَ اللَّهِ بِأَفْواهِهِمْ وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ (8) هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى وَ دِينِ الْحَقِّ لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ (9)

______________________________

(1) الأعراف: 138.

(2) المائدة: 24.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 45

ثمّ عطف سبحانه قصّة عيسى على قصّة موسى، فقال: وَ إِذْ قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ يا بَنِي إِسْرائِيلَ لم يقل: يا قوم كما قال موسى، لأنّه لا نسب له فيهم إِنِّي رَسُولُ اللَّهِ إِلَيْكُمْ مُصَدِّقاً لِما بَيْنَ يَدَيَ في حال تصديقي لما تقدّمني مِنَ التَّوْراةِ وَ مُبَشِّراً و في حال تبشيري بِرَسُولٍ يَأْتِي مِنْ بَعْدِي و العامل في الحالين ما في الرسول من معنى الإرسال، لا الجارّ، لأنّه لغو، إذ هو صلة للرسول، فلا يجوز أن يعمل شيئا، لأنّ حروف الجرّ لا تعمل بأنفسها، و لكن بما فيها من معنى الفعل، فإذا وقعت صلات لم تتضمّن معنى فعل، فمن أين تعمل؟

اسْمُهُ أَحْمَدُ يعني: محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و المعنى: أنّ ديني التصديق بكتب اللّه و أنبيائه. فذكر أوّل الكتب المشهورة الّذي حكم به النبيّون و النبيّ الّذي هو خاتم النبيّين.

و لاسم أحمد معنيان:

أحدهما: أن يجعل مبالغة من الفاعل، أي: هو أكثر حمدا للّه من غيره.

و الآخر: أن يجعل مبالغة من المفعول، أي: يحمد بما فيه من الأخلاق و المحاسن أكثر ممّا يحمد غيره.

و

صحّت الرواية عن الزهري، عن محمد بن جبير بن مطعم، عن أبيه، قال:

«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

و سلّم: إنّ لي أسماء: أنا أحمد، و أنا محمد، و أنا الماحي الّذي يمحو اللّه بي الكفر، و أنا الحاشر الّذي يحشر الناس على قدمي، و أنا العاقب الّذي ليس

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 46

بعدي نبيّ». أورده البخاري في الصحيح «1».

و في هذه البشرى معجزة لعيسى عليه السّلام عند ظهور محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أمر لأمّته أن يؤمنوا به عند مجيئه.

فَلَمَّا جاءَهُمْ بِالْبَيِّناتِ قالُوا هذا سِحْرٌ مُبِينٌ الإشارة إلى ما جاء به أو إليه.

و تسميته سحرا للمبالغة. و يؤيّده قراءة حمزة و الكسائي: هذا ساحر، على أنّ الإشارة إلى عيسى عليه السّلام.

وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنِ افْتَرى عَلَى اللَّهِ الْكَذِبَ وَ هُوَ يُدْعى إِلَى الْإِسْلامِ و أيّ الناس أشدّ ظلما؟ بمعنى: لا أحد أظلم ممّن يدعوه ربّه على لسان نبيّه إلى الإسلام الّذي له فيه سعادة الدارين، فيضع موضع إجابته إليه افتراء الكذب على اللّه، بقوله لكلامه الّذي هو دعاء عباده إلى الحقّ: هذا سحر مبين، لأنّ السحر كذب و تمويه.

و الاستفهام للإنكار. وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ الّذين ظلموا أنفسهم بفعل الكفر و المعاصي.

قال ابن جريج: هم الكفّار و المنافقون. و يدلّ عليه قوله: يُرِيدُونَ لِيُطْفِؤُا أي: يريدون أن يطفؤا كما جاء في سورة البراءة «2». و اللام مزيدة لما فيها من معنى الإرادة تأكيدا لها، كما زيدت في قولك: لا أبالك، تأكيدا لمعنى الإضافة في: لا أباك. أو يريدون الافتراء ليطفؤا نُورَ اللَّهِ يعني دينه: أو كتابه أو حجّته بِأَفْواهِهِمْ بأن طعنوا فيه بأنّه سحر مبين. مثّلت حالهم بحال من ينفخ في نور الشمس ليطفئه. وَ اللَّهُ مُتِمُّ نُورِهِ مبلغ غايته بنشره و إعلائه. و قرأ ابن

كثير و حفص بالإضافة. وَ لَوْ كَرِهَ الْكافِرُونَ إرغاما لهم.

هُوَ الَّذِي أَرْسَلَ رَسُولَهُ بِالْهُدى بالقرآن أو المعجزة وَ دِينِ الْحَقِ و الملّة

______________________________

(1) صحيح البخاري 4: 225.

(2) البراءة: 32.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 47

الحنيفيّة، و هي دين الإسلام لِيُظْهِرَهُ ليعليه و يغلبه عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ على جميع الأديان المخالفة له. و الدين اسم الجنس. وَ لَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ لما فيه من محض التوحيد و إبطال الشرك. و في هذه دلالة على صحّة نبوّة نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لأنّه سبحانه قد أظهر دينه على جميع الأديان بالاستعلاء و القهر و إعلاء الشأن، بحيث ما بقي من الأديان إلّا و هو مغلوب مقهور بدين الإسلام، كما وعده ذلك في حال الضعف و قلّة الأعوان.

و

روى العيّاشي بالإسناد عن عمران بن ميثم، عن عباية أنّه سمع أمير المؤمنين عليه السّلام يقول حين تلاوة هذه الآية: «و الّذي نفسي بيده حتّى لا تبقى قرية إلّا ينادى فيها بشهادة أن لا إله إلّا اللّه بكرة و عشيّا».

[سورة الصف (61): الآيات 10 الى 13]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (10) تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (11) يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَ يُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (12) وَ أُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ وَ فَتْحٌ قَرِيبٌ وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ (13)

و لمّا قدّم ذكر الرسول عقّبه بذكر دعاء العباد إلى قبول قوله و نصرة دينه و العمل بشريعته، فقال:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا هَلْ أَدُلُّكُمْ عَلى تِجارَةٍ تُنْجِيكُمْ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ قرأ ابن عامر: تنجّيكم بالتشديد.

زبدة التفاسير، ج 7، ص:

48

ثمّ استأنف كلاما لبيان التجارة، كأنّهم قالوا: كيف نعمل؟ فقال: تُؤْمِنُونَ بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ تُجاهِدُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ بِأَمْوالِكُمْ وَ أَنْفُسِكُمْ يعني: التجارة المنجية من عذاب أليم هو الجمع بين الإيمان و الجهاد المؤدّي إلى كمال عزّهم. و المراد به الأمر، و إنّما جي ء بلفظ الخبر للإيذان بوجوب الامتثال، فكأنّه امتثل، فهو يخبر عن إيمان و جهاد موجودين. و نظيره قول الداعي: غفر اللّه لك، و يغفر اللّه لك. جعلت المغفرة لقوّة الرجاء، كأنّها كانت و وجدت. و أيضا إيراد الأمر على صورة الخبر تلطّف في الاستدعاء إلى الإخلاص في الطاعة، فإنّ المعنى: هل ترغبون في تجارة منجية من العذاب؟

عن ابن عبّاس: أنّهم قالوا: لو نعلم أحبّ الأعمال إلى اللّه لعملناه. فنزلت هذه الآية، فمكثوا ما شاء اللّه يقولون: ليتنا نعلم ما هي؟ فدلّهم اللّه تعالى على التجارة المذكورة بقوله: «تؤمنون». و هذا دليل على أنّ «تؤمنون» كلام مستأنف، و على أنّ الأمر الوارد على النفوس بعد تشوّف و تطلّع منها إليه، أوقع فيها و أقرب من قبولها له ممّا فوجئت به.

ذلِكُمْ أي: ما ذكر من الإيمان و الجهاد خَيْرٌ لَكُمْ من أموالكم و أنفسكم إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ إن كنتم من أهل العلم، إذ الجاهل لا يعتدّ بفعله. أو إن كنتم تعلمون أنّه خير لكم كان خيرا لكم حينئذ، لأنّه إذا علمتم ذلك و اعتقدتموه أحببتم الإيمان و الجهاد فوق ما تحبّون أنفسكم و أموالكم.

يَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ جواب للأمر المدلول عليه بلفظ الخبر، أو لشرط أو استفهام دلّ عليه الكلام، تقديره: إن تؤمنوا و تجاهدوا، أو هل تقبلون أن أدلّكم يغفر لكم؟ و يبعد جعله جوابا ل «هل أدلّكم» كما قال الفرّاء، لأنّ مجرّد

الدلالة لا توجب المغفرة. وَ يُدْخِلْكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً مستطابة مستلذّة فِي جَنَّاتِ عَدْنٍ جنّات إقامة لا تبغون عنها حولا ذلِكَ أي: ما ذكر من

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 49

المغفرة و إدخال الجنّة الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لا ما يعدّه الناس فوزا، من طول البقاء و ولاية الدنيا.

روي: أنّه سأل الحسن عمران بن الحصين و أبا هريرة عن تفسير قوله:

«وَ مَساكِنَ طَيِّبَةً». فقالا: سألنا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن ذلك، فقال: «قصر من لؤلؤ في الجنّة، في ذلك القصر سبعون دارا من ياقوت حمراء، في كلّ دار سبعون بيتا من زمرّدة خضراء، في كلّ بيت سبعون سريرا، على كلّ سرير سبعون فراشا من كلّ لون، على كلّ فراش امرأة من الحور العين، في كلّ بيت سبعون مائدة، على كلّ مائدة سبعون لونا من الطعام، في كلّ بيت سبعون وصيفا و وصيفة. فقال: يعطي اللّه المؤمن من القوّة في غداة واحدة ما يأتي على ذلك كلّه».

ثمّ بشّرهم بنعمة عاجلة مزيدا على الآجلة، فقال: وَ أُخْرى تُحِبُّونَها أي:

و لكم إلى هذه النعمة المذكورة- أعني: المغفرة و الثواب في الآجلة- نعمة اخرى عاجلة محبوبة إليكم. و في «تحبّونها» تعريض بأنّهم يؤثرون العاجل على الآجل.

و قيل: «اخرى» منصوبة بإضمار: يعطيكم أو تحبّون. أو مبتدأ خبره نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ و هو على الأوّل بدل أو بيان. و على قول النصب خبر محذوف. وَ فَتْحٌ قَرِيبٌ عاجل. و هو فتح مكّة. و قال الحسن: فارس و الروم. و قيل: جميع فتوح الإسلام. وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ عطف على محذوف مثل: قل يا أيّها الّذين آمنوا و بشّر. أو على «تؤمنون» فإنّه في معنى الأمر،

كأنّه قال: آمنوا و جاهدوا يثبكم اللّه و ينصركم أيّها المؤمنون، و بشّرهم يا رسول اللّه بما وعدتهم على الايمان و الجهاد آجلا و عاجلا.

[سورة الصف (61): آية 14]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ فَآمَنَتْ طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ وَ كَفَرَتْ طائِفَةٌ فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ (14)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 50

زبدة التفاسير ج 7 99

ثمّ حضّ المؤمنين على نصرة دينه، فقال: يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا كُونُوا أَنْصارَ اللَّهِ و قرأ الحجازيّان و أبو عمرو بالتنوين و اللام، لأنّ المعنى: كونوا بعض أنصار اللّه كَما قالَ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ لِلْحَوارِيِّينَ مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ التشبيه محمول على المعنى. و المراد: كونوا أنصار اللّه، كما كان الحواريّون أنصار عيسى حين قال لهم. أو المراد: قل لهم كما قال عيسى للحواريّين: «مَنْ أَنْصارِي إِلَى اللَّهِ» أي: من جندي متوجّها إلى نصرة اللّه؟ ليطابق قوله: قالَ الْحَوارِيُّونَ نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ

و الإضافة الأولى إضافة أحد المتشاركين إلى الآخر، لما بينهما من الاختصاص. و الثانية إضافة الفاعل إلى المفعول. فمعنى «من أنصاري»: من الأنصار الّذين يختصّون بي، و يكونون معي في نصرة اللّه؟ و معنى «نَحْنُ أَنْصارُ اللَّهِ»:

نحن الّذين ينصرون اللّه. و لا يجوز أن يكون معنى الأوّل: من ينصرني مع اللّه، لأنّه لا يطابق الجواب.

و الحواريّون: أصفياء عيسى، فإنّ حواريّ الرجل صفيّه و خلصانه.

من الحور، و هو البياض الخالص. و قيل: كانوا قصّارين يحوّرون الثياب، أي: يبيّضونها. و نظير الحواريّ في زنته: الحواليّ، بمعنى: الكثير الحيل.

و قيل: كانوا يلبسون الثياب البيض. و هم أوّل من آمن به، و كانوا اثني عشر رجلا.

فَآمَنَتْ

طائِفَةٌ مِنْ بَنِي إِسْرائِيلَ بعيسى وَ كَفَرَتْ طائِفَةٌ به. و ذلك أنّه

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 51

لمّا رفع تفرّق قومه ثلاث فرق: فرقة قالت: كان اللّه، فارتفع. و فرقة قالت:

كان ابن اللّه، فرفعه إليه. و فرقة قالت: كان عبد اللّه و رسوله، فرفعه إليه، و هم المؤمنون. و اتّبع كلّ فرقة منهم طائفة من الناس فاقتتلوا، و ظهرت الفرقتان الكافرتان على المؤمنين، حتّى بعث محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فظهرت الفرقة المؤمنة على الكافرين. و ذلك قوله: فَأَيَّدْنَا الَّذِينَ آمَنُوا عَلى عَدُوِّهِمْ بالحجّة أو بالحرب فَأَصْبَحُوا ظاهِرِينَ فصاروا غالبين. و عن مجاهد: بل أيّدوا في زمانهم على من كفر.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 53

(62) سورة الجمعة

اشارة

مدنيّة. و هي إحدى عشرة آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «و من قرأ سورة الجمعة اعطي عشر حسنات، بعدد من أتى الجمعة و بعدد من لم يأتها في أمصار المسلمين».

منصور بن حازم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من الواجب على كلّ مؤمن إذا كان لنا شيعة أن يقرأ في ليلة الجمعة بالجمعة و سبّح اسم ربّك الأعلى، و في صلاة الظهر بالجمعة و المنافقين، فإذا فعل فكأنّما يعمل عمل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و كان جزاؤه و ثوابه على اللّه الجنّة».

[سورة الجمعة (62): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ الْمَلِكِ الْقُدُّوسِ الْعَزِيزِ الْحَكِيمِ (1) هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ رَسُولاً مِنْهُمْ يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ وَ يُزَكِّيهِمْ وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ (2) وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (3) ذلِكَ فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ (4)

مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا بِآياتِ اللَّهِ وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ (5)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 54

و لمّا ختم سبحانه سورة الصفّ بالترغيب في عبادته و الدعاء إليها، و ذكر تأييد المؤمنين بالنصر و الظهور على الأعداء، افتتح هذه السورة ببيان قدرته على ذلك و على جميع الأشياء، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ ينزّهه عن جميع النواقص كلّ شي ء من العلويّات و السفليّات الْمَلِكِ القادر على تصريف الأشياء بأيّ وجه أراد الْقُدُّوسِ

كثير النظافة و النزاهة عن كلّ نقص الْعَزِيزِ الغالب الّذي لا يمتنع عليه شي ء الْحَكِيمِ العالم الّذي يضع الأشياء موضعها.

و بعد إثبات الألوهيّة و صفاتها اللازمة قال في بيان الرسالة و ما يتبعها: هُوَ الَّذِي بَعَثَ فِي الْأُمِّيِّينَ أي: في العرب، فإنّ الأمّي منسوب إلى أمّة العرب، لأنّهم كانوا لا يكتبون و لا يقرؤن من بين الأمم. و قيل: بدئت الكتابة بالطائف، أخذوها من أهل الحيرة، و أهل الحيرة من أهل الأنبار. و المعنى: بعث منهم رجلا أمّيّا في قوم أمّيّين.

و وجه النعمة في أنّه جعل النبوّة في أمّيّ: موافقته لما تقدّمت البشارة به في كتب الأنبياء السالفة، و لأنّه أبعد من توهّم الاستعانة على ما أتى به من الحكمة بالحكم الّتي تلاها و الكتب الّتي قرأها، فبذلك يعلم علما ضروريّا بأنّ ما يخبرهم به من أخبار الأمم الماضية و القرون الخالية على وفق ما في كتبهم

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 55

ليس ذلك إلّا بالوحي.

و قيل: منسوب إلى أمّ القرى، و هي مكّة.

رَسُولًا مِنْهُمْ من جملتهم، كقوله: مِنْ أَنْفُسِكُمْ «1». فيعلمون نسبه و أحواله يَتْلُوا عَلَيْهِمْ آياتِهِ آيات القرآن المشتملة على الحلال و الحرام و الحجّ و الأحكام، مع كونه أمّيّا مثلهم لم تعهد منه قراءة، و لم يعرف بتعلّم وَ يُزَكِّيهِمْ و يطهّرهم من خبائث الشرك و أعمال الجاهليّة وَ يُعَلِّمُهُمُ الْكِتابَ وَ الْحِكْمَةَ القرآن و الشريعة، أو معالم الدين من المنقول و المعقول، و لو لم يكن سواه معجزة لكفاه وَ إِنْ كانُوا مِنْ قَبْلُ لَفِي ضَلالٍ مُبِينٍ في ضلال لا ترى ضلالا أعظم منه، من الشرك و خبث الجاهليّة. و «إن» هي المخفّفة، و اللام تدلّ عليها. و هذا بيان لشدّة احتياجهم

إلى نبيّ يرشدهم، و إزاحة لما يتوهّم أنّ الرسول تعلّم ذلك من معلّم.

و قال في المجمع: «و إنّما قال: «منهم» لأنّهم إذا أسلموا صاروا منهم، فإنّ المسلمين كلّهم يد واحدة على من سواهم، و أمّة واحدة و إن اختلفت أجناسهم، كما قال سبحانه: وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ الْمُؤْمِناتُ بَعْضُهُمْ أَوْلِياءُ بَعْضٍ «2». و من لم يؤمن بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإنّهم ليسوا ممّن عناهم اللّه بقوله: وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ «3».

وَ آخَرِينَ مِنْهُمْ عطف على «الأميّين»، أو المنصوب في «يعلّمهم» أي:

يعلّم آخرين. و هم الّذين جاءوا بعد الصحابة إلى يوم الدين، فإنّ دعوته و تعليمه يعمّ الجميع من أبناء عصره و أبناء العصور الغوابر، لأنّ التعليم إذا تناسق إلى آخر الزمان كان كلّه مستندا إلى أوّله، فكأنّه هو الّذي تولّى كلّ ما وجد فيه من الأوّلين و الآخرين. لَمَّا يَلْحَقُوا بِهِمْ لم يلحقوا بهم بعد و سيلحقون، من العجم و العرب.

______________________________

(1) التوبة: 128.

(2) التوبة: 71.

(3) مجمع البيان 10: 284.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 56

و

قيل: لمّا نزلت قيل: من هم يا رسول اللّه؟ فوضع يده على سلمان، ثمّ قال:

«لو كان الإيمان عند الثريّا لتناوله رجال من هؤلاء».

وَ هُوَ الْعَزِيزُ في تمكينه من هذا الأمر الخارق للعادة الْحَكِيمُ في اختياره و تعليمه من بين كافّة البشر.

ذلِكَ أي: ذلك الفضل الّذي أعطاه محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و به امتاز عن أقرانه، و هو أن يكون نبيّ جميع العباد إلى آخر الدهر فَضْلُ اللَّهِ يُؤْتِيهِ مَنْ يَشاءُ إعطاءه، و تقتضيه حكمته.

روى محمّد بن أبي عمير عن هشام بن سالم يرفعه قال: «جاء الفقراء إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالوا:

يا رسول اللّه إنّ للأغنياء ما يتصدّقون، و ليس لنا ما نتصدّق.

و لهم ما يحجّون، و ليس لنا ما نحجّ. و لهم ما يعتقون، و ليس لنا ما نعتق.

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من كبّر اللّه مائة مرّة كان أفضل من عتق مائة رقبة. و من سبّح اللّه مائة مرّة كان أفضل من سياق مائة بدنة. و من حمد اللّه مائة مرّة كان أفضل من حملان «1» مائة فرس في سبيل اللّه يسرجها و يلجمها. و من هلّل اللّه مائة مرّة كان أفضل الناس عملا في ذلك اليوم إلّا من زاد.

فبلغ ذلك الأغنياء فقالوه، فرجع الفقراء إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقالوا: يا رسول اللّه قد بلغ الأغنياء ما قلت فصنعوه. فقال رسول اللّه: ذلك فضل اللّه يؤتيه من يشاء».

وَ اللَّهُ ذُو الْفَضْلِ الْعَظِيمِ الّذي يستحقر دونه نعيم الدنيا و نعيم الآخرة.

ثمّ ضرب سبحانه مثلا لليهود الّذين تركوا العمل بالتوراة الّتي فيها الوعد ببعثة رسول اللّه و نعوته، فقال:

مَثَلُ الَّذِينَ حُمِّلُوا التَّوْراةَ علّموها و كلّفوا العمل بها. ثُمَّ لَمْ يَحْمِلُوها أي: لم يعملوا و لم ينتفعوا بها، فكأنّهم لم يحملوها كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً

______________________________

(1) الحملان: ما يحمل عليه من الدوابّ في الهبة خاصّة.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 57

كتبا من العلم يتعب في حملها، و لا ينتفع بها. يعني: صفة اليهود- في أنّهم حملة التوراة و قرّاؤها، و حفّاظ ما فيها، ثمّ إنّهم غير عالمين بها، و لا منتفعين بآياتها، و ذلك أنّ فيها نعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و البشارة به، و لم يؤمنوا به- كصفة الحمار، حمل كتبا من كتب العلم، فهو يمشي

بها و لا يدري منها إلّا ما يمرّ بجنبيه و ظهره من الكدّ و التعب.

و «يحمل» حال، و العامل فيه معنى المثل. أو صفة، إذ ليس المراد من الحمار معيّنا، كقوله: و لقد أمرّ على اللئيم يسبّني.

بِئْسَ مَثَلُ الْقَوْمِ الَّذِينَ كَذَّبُوا أي: مثل الّذين كذّبوا بِآياتِ اللَّهِ الدالّة على نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و يجوز أن يكون «الّذين» صفة للقوم، و المخصوص بالذمّ محذوفا، و هو: مثلهم. وَ اللَّهُ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الظَّالِمِينَ أي: لا يفعل بهم من الألطاف الّتي يفعلها بالمؤمنين الّذين بها يهتدون. و قيل: لا يثيبهم و لا يهديهم إلى الجنّة.

[سورة الجمعة (62): الآيات 6 الى 8]

قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (6) وَ لا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ (7) قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (8)

و بعد تبيين إنكار اليهود ما في التوراة، سكّتهم بما كانوا يقولون: نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ «1»، و ألزمهم بقوله:

قُلْ يا أَيُّهَا الَّذِينَ هادُوا تهوّدوا. من: هاد يهود إذا تهوّد.

______________________________

(1) المائدة: 18.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 58

إِنْ زَعَمْتُمْ أَنَّكُمْ أَوْلِياءُ لِلَّهِ مِنْ دُونِ النَّاسِ أي: إن كان قولكم «نَحْنُ أَبْناءُ اللَّهِ وَ أَحِبَّاؤُهُ» حقّا، و كنتم على ثقة منه فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ فتمنّوا من اللّه أن يميتكم و ينقلكم سريعا من دار البليّة إلى محلّ دار الكرامة الّتي أعدّها لأوليائه إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في زعمكم.

ثمّ أخبر سبحانه عن حالهم في كذبهم، و أنّهم غير واثقين بما يقولون، فقال: وَ لا يَتَمَنَّوْنَهُ أَبَداً بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ بسبب ما

قدّموا من الكفر و المعاصي وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ فيجازيهم على أعمالهم. و

قد قال لهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «و الّذي نفسي بيده لا يقولها أحد منهم إلّا غصّ بريقه».

فلولا أنّهم كانوا مؤمنين بصدق رسول اللّه لتمنّوا، و لكنّهم علموا أنّهم لو تمنّوا لماتوا من ساعتهم و لحقهم الوعيد، فما تمالك أحد أن يتمنّى. و

برواية اخرى عنه: «لو تمنّوا لماتوا عن آخرهم».

و هي إحدى المعجزات.

قُلْ إِنَّ الْمَوْتَ الَّذِي تَفِرُّونَ مِنْهُ و لا تجسرون أن تتمنّوه خيفة أن تؤخذوا بوبال كفركم فَإِنَّهُ مُلاقِيكُمْ لاحق بكم لا تفوتونه. و الفاء لتضمّن الاسم معنى الشرط باعتبار الوصف. و يجوز أن يكون الموصول خبرا، ثمّ استؤنف: إنّه ملاقيكم. و الفاء للعطف، للدلالة على أنّ الفرار لا ينفع منه الموت، بل بمنزلة السبب في ملاقاته، فلا معنى للتعرّض للفرار، فكأنّه سبب الملاقاة، لأنّه لا يباعد منه. و إلى هذا المعنى

أشار أمير المؤمنين عليه السّلام في قوله: «كلّ امرئ لاق ما يفرّ منه، و الأجل مساق النفس، و الهرب منه موافاته».

ثُمَّ تُرَدُّونَ إِلى عالِمِ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ يعلم سرّكم و علانيتكم يوم القيامة فَيُنَبِّئُكُمْ بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ بأن يجازيكم عليه.

[سورة الجمعة (62): الآيات 9 الى 11]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ وَ ذَرُوا الْبَيْعَ ذلِكُمْ خَيْرٌ لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (9) فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَ اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ (10) وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً انْفَضُّوا إِلَيْها وَ تَرَكُوكَ قائِماً قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ خَيْرٌ مِنَ اللَّهْوِ وَ مِنَ التِّجارَةِ وَ اللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ (11)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 59

اعلم أنّ اللّه سبحانه

أبطل قول اليهود في ثلاث: أحدها: افتخروا بأنّهم أولياء اللّه و أحبّاؤه، فكذّبهم في قوله: «فَتَمَنَّوُا الْمَوْتَ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ». و ثانيها: افتخروا بأنّهم أهل الكتاب، و العرب لا كتاب لهم، فشبّههم بالحمار يحمل أسفارا. و ثالثها:

افتخروا بالسّبت، و أنّه ليس للمسلمين مثله، فشرع اللّه لهم الجمعة، فقال:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِذا نُودِيَ لِلصَّلاةِ أي: أذّن لها. و وقت الأذان عند قعود الامام. و قد كان لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مؤذّن واحد، فكان إذا جلس على المنبر أذّن على باب المسجد، فإذا نزل أقام الصلاة. ثمّ كان أبو بكر و عمر على ذلك إلى زمن عثمان، و كثر الناس و تباعدت المنازل، فزاد مؤذّنا آخر، فأمر بالتأذين الأوّل على داره الّتي تسمّى الزوراء، فإذا جلس على المنبر أذّن المؤذّن الثاني، فإذا نزل أقام للصلاة، و لم يعب ذلك عليه. و عند الإماميّة: الأذان الثاني حرام من جملة بدع عثمان.

و قوله: مِنْ يَوْمِ الْجُمُعَةِ بيان ل «إذا» و تفسير له. و إنّما سمّاه جمعة لاجتماع الناس فيه للصلاة. و كانت العرب قبل الإسلام تسمّيه العروبة. و قيل: سمّاه كعب بن لؤي، لاجتماع الناس فيه إليه.

و

روي عن ابن سيرين: أنّ أهل المدينة جمّعوا قبل أن يقدم إليهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و قبل أن تنزل سورة الجمعة، و قالوا: لليهود يوم يجتمعون فيه كلّ سبعة أيّام، و للنصارى مثل ذلك، فهلمّوا نجعل لنا يوما نجتمع فيه، فنذكر اللّه فيه و نصلّي.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 60

فقالوا: يوم السبت لليهود، و يوم الأحد للنصارى، فاجعلوه يوم العروبة. فاجتمعوا إلى سعد بن زرارة، فصلّى بهم يومئذ ركعتين، و ذكّرهم و

وعّظهم، فسمّوه يوم الجمعة، لاجتماعهم فيه. فأنزل اللّه آية الجمعة، فهي أوّل جمعة كانت في الإسلام.

و أمّا أوّل جمعة جمّعها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فهي أنّه لمّا قدم المدينة مهاجرا نزل قباء على بني عمرو بن عوف، و أقام بها يوم الاثنين و الثلاثاء و الأربعاء و الخميس، و أسّس مسجدهم، ثمّ خرج يوم الجمعة عامدا المدينة، فأدركته صلاة الجمعة في بني سالم بن عوف في بطن واد لهم، فخطب و صلّى الجمعة في دارهم.

فَاسْعَوْا إِلى ذِكْرِ اللَّهِ فامضوا إليه مسرعين قصدا غير متثاقلين، فإنّ السعي دون العدو. و الذكر الخطبة. و قيل: الصلاة. و الأمر بالسعي إليها يدلّ على وجوبها.

وَ ذَرُوا الْبَيْعَ أي: اتركوا المعاملة و جميع ما يذهل عن ذكر اللّه، من شواغل الدنيا.

و إنّما خصّ البيع من بينها لأنّ يوم الجمعة يوم يهبط الناس فيه من قراهم و بواديهم، و ينصبّون «1» إلى المصر من كلّ أوب، و وقت هبوطهم و اجتماعهم و اغتصاص الأسواق بهم إذا تعالى الضحى و دنا وقت الظهيرة، و حينئذ يتكاثر البيع و الشراء. فلمّا كان ذلك الوقت مظنّة الذهول بالبيع عن ذكر اللّه و المضيّ إلى المسجد، قيل لهم: بادروا إلى تجارة الآخرة، و اتركوا تجارة الدنيا، و اسعوا إلى ذكر اللّه الّذي لا شي ء أنفع منه و أربح. و قيل: سمّي جنس المعاملة بيعا تسمية للشي ء باسم أكثر أنواعها وقوعا.

ذلِكُمْ أي: السعي إلى ذكر اللّه خَيْرٌ لَكُمْ من المعاملة، فإنّ نفع الآخرة خير و أبقى إِنْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ الخير و الشرّ الحقيقيّين، أو كنتم من أهل العلم.

و

في الحديث: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: اعلموا

أنّ اللّه تعالى قد افترض

______________________________

(1) أي: ينحدرون. زبدة التفاسير، ج 7، ص: 61

عليكم الجمعة، فمن تركها في حياتي أو بعد مماتي، و لهم إمام عادل، استخفافا بها أو جحودا لها، فلا جمع اللّه شمله، و لا بارك في أمره. ألا و لا صلاة له، ألا و لا زكاة له، ألا و لا حجّ له، ألا و لا صوم له، الا و لا بركة له حتّى يتوب».

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «خير يوم طلعت فيه الشمس يوم الجمعة، فيه خلق آدم، و فيه أدخل الجنّة، و فيه أهبط إلى الأرض، و فيه تقوم الساعة، و هو عند اللّه يوم المزيد».

و

عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أتاني جبرئيل و في كفّه مرآة بيضاء، و قال: هذه الجمعة يعرضها عليك ربّك لتكون لك عيدا، و لأمّتك من بعدك، و هو سيّد الأيّام عندنا، و نحن ندعوه في الآخرة يوم المزيد».

و

عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ للّه في كلّ جمعة ستّمائة ألف عتيق من النّار».

و عن كعب: إنّ اللّه فضّل من البلدان مكّة، و من الشهور رمضان، و من الأيّام الجمعة.

و

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من مات يوم الجمعة كتب اللّه له أجر شهيد، و وقي فتنة القبر».

و

أيضا في الحديث: «إذا كان يوم الجمعة، قعدت الملائكة على أبواب المسجد، بأيديهم صحف من فضّة، و أقلام من ذهب، يكتبون الأوّل فالأوّل على مراتبهم».

و كانت الطرقات في أيّام السلف وقت السحر و بعد الفجر مختصّة بالمبكّرين إلى الجمعة، يمشون بالسرج.

و قيل: أوّل بدعة أحدثت في الإسلام ترك البكور إلى الجمعة.

و عن ابن مسعود: أنّه بكّر فرأى ثلاثة نفر سبقوه،

فاغتمّ و أخذ يعاتب نفسه و يقول: أراك رابع أربعة، و ما رابع أربعة بسعيد.

و اعلم أنّ العلماء أجمعوا على اشتراط العدد في الجمعة، فقال الشافعي

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 62

و أحمد: أقلّهم أربعون. و أبو حنيفة: أربعة الامام أحدهم. و لم ينقل أصحاب مالك تقديرا. و أمّا أصحابنا فلهم قولان: أحدهما: سبعة، و الآخر خمسة. و هو قول الأكثر. و عليه أكثر الروايات المرويّة عن أهل البيت عليهم السّلام. و بواقي الشروط الواجبة في صلاة الجمعة و أحكامها مذكورة في كتب الفقه، فلا نطوّل الكلام بذكرها.

فَإِذا قُضِيَتِ الصَّلاةُ أي: أدّيتم صلاة الجمعة و فرغتم منها، فإنّ اللام للعهد، أي: الصلاة الّتي تقدّم ذكرها، و هي الّتي وجب السعي إليها.

ثمّ أطلق لهم ما حظر عليهم لأجل الصلاة، من الانتشار و ابتغاء الربح بعد قضائها، فقال:

فَانْتَشِرُوا فِي الْأَرْضِ فتفرّقوا فيها وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ و اطلبوا الرزق في الشراء و البيع و غير ذلك. و هذا الأمر للإباحة. و احتجّ به من جعل الأمر بعد الحظر للإباحة. و أقول: لا يبعد أن ينزّل هذا الأمر منزلة أحوال المكلّفين في وجوب الكسب و ندبه و إباحته. و

في الحديث: «و ابتغوا من فضل اللّه ليس بطلب الدنيا، و إنّما هو عيادة مريض، و حضور جنازة، و زيارة أخ في اللّه».

و

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «الصلاة يوم الجمعة، و الانتشار يوم السبت».

و عن الحسن و سعيد بن جبير و مكحول: المراد بقوله: «وَ ابْتَغُوا مِنْ فَضْلِ اللَّهِ» طلب العلم.

وَ اذْكُرُوا اللَّهَ كَثِيراً و اذكروه في مجامع أحوالكم على إحسانه إليكم بالتوفيق، و لا تخصّوا ذكره بالصلاة.

و قيل: و اذكروه في تجارتكم و أسواقكم، كما

روي

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من ذكر اللّه في السوق مخلصا عند غفلة الناس و شغلهم بما فيه، كتب له ألف حسنة، و يغفر اللّه له يوم القيامة مغفرة لم يخطر على قلب بشر».

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 63

و قيل: المراد بالذكر هنا الفكر. و

في الحديث: «تفكّر ساعة خير من عبادة سنة».

و على هذا، فالمعنى: تفكّروا في صنائع اللّه و بدائعه، على تقدير المضاف، لأنّ التفكّر في ذاته تعالى منهيّ عنه، حيث

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «تفكّروا في آلاء اللّه، و لا تتفكّروا في ذات اللّه».

و ذلك لعجز العقول البشريّة عن إدراك ذاته تعالى و حقيقته.

لَعَلَّكُمْ تُفْلِحُونَ بخير الدارين.

روي: أنّ أهل المدينة أصابهم جوع و غلاء شديد، فقدم دحية بن خليفة بتجارة من زيت الشام، و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يخطب يوم الجمعة، فقاموا إلى اشتراء الزيت بالبقيع خشية أن يسبقوا إليه، فما بقي مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلّا يسير. قيل: ثمانية، و أحد عشر، و اثنا عشر، و أربعون. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «و الّذي نفس محمّد بيده لو خرجوا جميعا لأضرم اللّه عليهم الوادي نارا».

و كانوا إذا أقبلت العير استقبلوها بالطبل و التصفيق، فنزلت:

وَ إِذا رَأَوْا تِجارَةً أَوْ لَهْواً ما ألهى عن ذكر اللّه انْفَضُّوا إِلَيْها انتشروا من عندك متوجّهين إلى التجارة. و إفراد التجارة بردّ الكناية، لأنّها المقصودة، فإنّ المراد من اللهو و الطبل الّذي كانوا يستقبلون به العير، و لهذا قدّمها عليه. و قيل: تقديره: إذا رأوا تجارة انفضّوا إليها، و إذا رأوا لهوا انفضّوا إليه، فحذف أحدهما لدلالة المذكور عليه.

و الترديد للدلالة على أنّ منهم من انفضّ لمجرّد سماع الطبل و رؤيته. أو للدلالة على أنّ الانفضاض إلى التجارة مع الحاجة إليها و الانتفاع بها إذا كان مذموما، كان الانفضاض إلى اللهو أولى بذلك.

وَ تَرَكُوكَ قائِماً أي: على المنبر، أو في الصلاة. و يؤيّد الأوّل أنّه سئل عن ابن مسعود: أ كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يخطب قائما؟ قال: أو ما تقرأ: «وَ تَرَكُوكَ قائِماً»؟.

قُلْ ما عِنْدَ اللَّهِ للمؤمنين من الثواب خَيْرٌ أحمد عاقبة، و أنفع خاتمة

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 64

مِنَ اللَّهْوِ وَ مِنَ التِّجارَةِ فإنّ ذلك محقّق مخلّد، بخلاف ما تتوهّمون من نفعهما.

قدّم التجارة أوّلا للترقّي، إذ التقدير أوّلا: انفضّوا إلى التجارة مع حاجتهم إليها، و ذلك مذموم، بل أبلغ من ذلك أنّهم انفضّوا إلى ما لا فائدة لهم فيه. و أخّر ثانيا، لأنّ تقديره: ما عند اللّه خير من اللهو، بل أبلغ من ذلك أنّه خير من التجارة المنتفع بها.

وَ اللَّهُ خَيْرُ الرَّازِقِينَ فتوكّلوا عليه، و اطلبوا الرزق منه، و لا تنفضّوا عن الرسول لطلب الرزق.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 65

(63) سورة المنافقون

اشارة

مدنيّة. و هي إحدى عشرة آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «و من قرأ سورة المنافقين برى ء من النفاق».

[سورة المنافقون (63): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ (1) اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ جُنَّةً فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ (2) ذلِكَ بِأَنَّهُمْ آمَنُوا ثُمَّ كَفَرُوا فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ (3)

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة الجمعة بما هو من علامات النفاق، من ترك النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قائما في الصلاة أو في الخطبة، و الاشتغال باللهو و طلب الارتفاق، افتتح هذه السّورة بذكر المنافقين، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِذا جاءَكَ الْمُنافِقُونَ قالُوا نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 66

شهادة واطأت فيها قلوبهم ألسنتهم، فإنّ الشهادة إخبار عن علم من الشهود، و هو الحضور و الاطّلاع، و لذلك صدّق اللّه تعالى المشهود به و كذّبهم في الشهادة بقوله:

وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ على الحقيقة، و كفى باللّه شهيدا وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ في قولهم: نشهد، و ادّعائهم فيه المواطاة، لأنّهم لم يعتقدوا ذلك. أو لأنّ قولهم لمّا خلا عن المواطاة لم يكن شهادة في الحقيقة، فهم كاذبون في تسميته شهادة. أو إنّهم لكاذبون عند أنفسهم، لأنّهم كانوا يعتقدون أنّ قولهم: «إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ» كذب و خبر على خلاف ما عليه حال المخبر عنه. و لمّا كان الاكتفاء بقوله:

«نَشْهَدُ إِنَّكَ لَرَسُولُ اللَّهِ وَ اللَّهُ يَعْلَمُ إِنَّكَ لَرَسُولُهُ وَ اللَّهُ يَشْهَدُ إِنَّ الْمُنافِقِينَ لَكاذِبُونَ» يوهم أنّ قولهم هذا كذب، وسّط بينهما قوله: «وَ اللَّهُ يَعْلَمُ

إِنَّكَ لَرَسُولُهُ» ليميط هذا الإيهام.

اتَّخَذُوا أَيْمانَهُمْ حلفهم الكاذب، أو شهادتهم هذه، فإنّها تجري مجرى الحلف في التوكيد، كقولك: أشهد باللّه و أعزم باللّه في موضع: أقسم جُنَّةً وقاية من القتل و السبي فَصَدُّوا عَنْ سَبِيلِ اللَّهِ صدّا أو صدودا عن الإيمان بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِنَّهُمْ ساءَ ما كانُوا يَعْمَلُونَ من نفاقهم و صدّهم النّاس عن سبيل اللّه أو صدودهم.

ذلِكَ إشارة إلى سوء عملهم، أي: ذلك القول الشاهد بأنّهم أسوأ الناس أعمالا. أو إلى حالهم المذكورة، من النفاق و الكذب و الاستجنان بالإيمان.

بِأَنَّهُمْ آمَنُوا بسبب أنّهم نطقوا بكلمة الشهادة، و فعلوا كما يفعل من يدخل في الإسلام ثُمَّ كَفَرُوا ثمّ ظهر كفرهم بعد ذلك و تبيّن بما اطّلع عليه من قولهم: إن كان ما يقوله محمّد حقّا فنحن حمير. و قولهم في غزوة تبوك: أ يطمع هذا الرجل أن تفتح له قصور كسرى و قيصر؟ هيهات. و نحوه قوله تعالى: يَحْلِفُونَ بِاللَّهِ ما قالُوا وَ لَقَدْ قالُوا كَلِمَةَ الْكُفْرِ وَ كَفَرُوا بَعْدَ إِسْلامِهِمْ «1» أي: ظهر كفرهم بعد أن أسلموا.

______________________________

(1) التوبة: 74.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 67

و نحوه قوله: لا تَعْتَذِرُوا قَدْ كَفَرْتُمْ بَعْدَ إِيمانِكُمْ «1». و المعنى: نطقوا بالإيمان عند المؤمنين ثمّ كفروا حيثما سمعوا من شياطينهم شبهة. أو نطقوا بالكفر عند شياطينهم استهزاء بالإسلام، كقوله تعالى: وَ إِذا لَقُوا الَّذِينَ آمَنُوا قالُوا آمَنَّا وَ إِذا خَلَوْا إِلى شَياطِينِهِمْ قالُوا إِنَّا مَعَكُمْ إِنَّما نَحْنُ مُسْتَهْزِؤُنَ «2».

فَطُبِعَ عَلى قُلُوبِهِمْ خذلانا و تخلية، فمنع اللطف و التوفيق منهم، لفرط عنادهم و جحودهم، مع ظهور الحقّ عندهم، حتّى تمرّنوا على الكفر فاستحكموا فيه، فجسروا فيه على كلّ عظيمة فَهُمْ لا يَفْقَهُونَ حقيقة الإيمان، و

لا يعرفون صحّته.

[سورة المنافقون (63): آية 4]

وَ إِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ وَ إِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ عَلَيْهِمْ هُمُ الْعَدُوُّ فَاحْذَرْهُمْ قاتَلَهُمُ اللَّهُ أَنَّى يُؤْفَكُونَ (4)

روي: أنّ عبد اللّه بن أبيّ كان جسيما صبيحا فصيحا ذلق «3» اللسان، يحضر مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في جمع من المنافقين في مثل صفته، و هم رؤساء المدينة، و كانوا يحضرون مجلس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فيستندون فيه، و لهم جهارة «4» المناظر و فصاحة الألسن، فكان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و من حضر يعجبون بهياكلهم، و يسمعون إلى

______________________________

(1) التوبة: 66.

(2) البقرة: 14.

(3) لسان ذلق: طلق ذو حدّة.

(4) الجهارة: حسن القدّ و المنظر.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 68

كلامهم، فقال سبحانه:

وَ إِذا رَأَيْتَهُمْ تُعْجِبُكَ أَجْسامُهُمْ لضخامتها و صباحتها. و الخطاب لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أو لكلّ من يخاطب. وَ إِنْ يَقُولُوا تَسْمَعْ لِقَوْلِهِمْ لذلاقتهم و حلاوة كلامهم كَأَنَّهُمْ خُشُبٌ مُسَنَّدَةٌ حال من الضمير المجرور في «لقولهم» أي: تسمع لما يقولونه مشبّهين بأخشاب منصوبة مسندة إلى الحائط، في كونهم أشباحا خالية عن العلم و النظر و الإيمان و إذاعة الخير.

و قيل: شبّهوا بالخشب. لأنّه إذا انتفع به كان في سقف أو جدار أو غيرهما من مظانّ الانتفاع، و ما دام متروكا فارغا غير منتفع به أسند إلى الحائط فشبّهوا به في عدم الانتفاع.

و يجوز أن يراد بالخشب المسنّدة: الأصنام المنحوتة من الخشب المسنّدة إلى الحيطان. شبّهوا بها في حسن صورهم و قلّة جدواهم.

و قرأ أبو عمرو و الكسائي و قنبل عن ابن كثير بسكون الشين على التخفيف، أو على

أنّه كبدن جمع بدنة.

و قيل: الخشب جمع الخشباء، و هي الخشبة الّتي دعر «1» جوفها. شبّهوا بها في حسن المنظر و فساد الباطن.

يَحْسَبُونَ كُلَّ صَيْحَةٍ من نحو انفلات دابّة، أو إنشاد ضالّة، أو نداء مناد في العسكر، أو صيحة أحدهم بصاحبه عَلَيْهِمْ أي: واقعة عليهم و ضارّة لهم، لجبنهم و اتّهامهم. و قيل: كانوا على وجل من أن ينزل اللّه فيهم ما يهتك أستارهم، و يبيح دماءهم و أموالهم. ف «عليهم» ثاني مفعولي «يحسبون». و يجوز أن يكون صلته، و المفعول هُمُ الْعَدُوُّ. و على هذا يكون الضمير للكلّ. و جمعه بالنظر إلى الخبر. لكن ترتّب قوله: فَاحْذَرْهُمْ عليه يدلّ على أنّ الضمير للمنافقين.

______________________________

(1) دعر العود: نخر و فسد.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 69

قاتَلَهُمُ اللَّهُ دعاء عليهم، و طلب من ذاته أن يلعنهم و يخزيهم. أو تعليم للمؤمنين أن يدعوا عليهم بذلك. أَنَّى يُؤْفَكُونَ كيف يصرفون عن الحقّ؟ تعجّبا من جهلهم و ضلالتهم.

[سورة المنافقون (63): الآيات 5 الى 8]

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ وَ رَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ (5) سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ (6) هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ حَتَّى يَنْفَضُّوا وَ لِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَفْقَهُونَ (7) يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ مِنْهَا الْأَذَلَّ وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ (8)

قال في الكشّاف: «روي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حين لقي بني المصطلق على المريسيع- و هو ماء لهم- و هزمهم و قتل منهم، ازدحم على

الماء جهجاه بن سعيد- أجير لعمر يقود فرسه- و سنان الجهني- حليف لعبد اللّه بن أبيّ- و اقتتلا، فصرخ جهجاه: يا للمهاجرين، و سنان: يا للأنصار. فأعان جهجاها جعال من فقراء المهاجرين، و لطم سنانا.

فقال عبد اللّه لجعال: و أنت هناك. و قال: ما صحبنا محمّدا إلّا لنلطم، و اللّه ما مثلنا و مثلهم إلّا كما قيل: سمّن كلبك يأكلك. أما و اللّه لئن رجعنا إلى المدينة ليخرجنّ الأعزّ منها الأذلّ. عنى بالأعزّ نفسه، و بالأذلّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 70

ثم قال لقومه: ما ذا فعلتم بأنفسكم؟ أحللتموهم بلادكم، و قاسمتموهم أموالكم. أما و اللّه لو أمسكتم عن جعال و ذويه فضل الطعام لم يركبوا رقابكم، و لأوشكوا أن يتحوّلوا عنكم، فلا تنفقوا عليهم حتّى ينفضّوا من حول محمّد.

فسمع بذلك زيد بن أرقم و هو حدث، فقال: أنت و اللّه الذليل القليل المبغّض في قومك، و محمّد في عزّ من الرحمان و قوّة من المسلمين.

فقال عبد اللّه: اسكت فإنّما كنت ألعب.

فأخبر زيد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال عمر: دعني أضرب عنق هذا المنافق يا رسول اللّه.

قال: إذن ترعد أنف كثيرة بيثرب.

قال: فإن كرهت أن يقتله مهاجريّ فأمر به أنصاريّا.

فقال: فكيف إذا تحدّث الناس أنّ محمّدا يقتل أصحابه.

و قال عليه السّلام لعبد اللّه: أنت صاحب الكلام الّذي بلغني؟

قال: و اللّه الّذي أنزل عليك الكتاب ما قلت شيئا من ذلك، و إنّ زيدا لكاذب.

فقال الحاضرون: يا رسول اللّه شيخنا و كبيرنا، لا تصدّق عليه كلام غلام عسى أن يكون قد وهم.

و روي: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لزيد:

لعلّك غضبت عليه.

قال: لا.

قال: فلعلّه أخطأ سمعك.

قال: لا.

قال: فلعلّه شبّه عليك.

قال: لا.

و لمّا أراد عبد اللّه أن يدخل المدينة اعترضه ابنه حباب- و هو عبد اللّه بن

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 71

عبد اللّه، غيّر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اسمه، و قال: إنّ حبابا اسم شيطان- و كان مخلصا، و قال لأبيه: وراءك و اللّه لا تدخلها حتّى تقول: رسول اللّه الأعزّ و أنا الأذلّ. فلم يزل حبيسا في يده حتّى أمره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بتخليته.

و

روي: أنّه قال له: لئن لم تقرّ للّه و رسوله بالعزّ لأضربنّ عنقك.

فقال: ويحك أفاعل أنت؟

قال: نعم.

فلمّا رأى منه الجدّ قال: أشهد أنّ العزّة للّه و لرسوله و للمؤمنين.

فقال رسول اللّه لابنه: جزاك اللّه عن رسوله و عن المؤمنين خيرا» «1».

و

روي: أنّه لمّا بان كذب عبد اللّه قيل له: قد نزلت فيك آي شداد، فاذهب إلى رسول اللّه يستغفر لك. فلوى رأسه، ثمّ قال: أمرتموني أن أومن فآمنت، و أمرتموني أن أزكّي مالي فزكّيت، فما بقي إلّا أن أسجد لمحمّد. فنزلت فيه:

وَ إِذا قِيلَ لَهُمْ تَعالَوْا يَسْتَغْفِرْ لَكُمْ رَسُولُ اللَّهِ لَوَّوْا رُؤُسَهُمْ

عطفوها إعراضا و استكبارا عن ذلك. و قرأ نافع بتخفيف الواو. وَ رَأَيْتَهُمْ يَصُدُّونَ يعرضون عن الاستغفار وَ هُمْ مُسْتَكْبِرُونَ عن الاعتذار.

سَواءٌ عَلَيْهِمْ أَسْتَغْفَرْتَ لَهُمْ أَمْ لَمْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ أي: يتساوى الاستغفار لهم و عدم الاستغفار. و عن الحسن: أخبره سبحانه أنّهم يموتون على الكفر فلم يستغفر لهم. لَنْ يَغْفِرَ اللَّهُ لَهُمْ لرسوخهم في كفرهم و إن أظهروا الإسلام إِنَّ اللَّهَ لا يَهْدِي الْقَوْمَ الْفاسِقِينَ الخارجين عن مظنّة الاستصلاح، لانهماكهم في الكفر و النفاق.

هُمُ الَّذِينَ يَقُولُونَ أي: للأنصار

لا تُنْفِقُوا عَلى مَنْ عِنْدَ رَسُولِ اللَّهِ من المؤمنين المحتاجين حَتَّى يَنْفَضُّوا يتفرّقوا، يعنون فقراء المهاجرين وَ لِلَّهِ خَزائِنُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ بيده الأرزاق و القسم، فهو رازقهم منها و إن أبى أهل

______________________________

(1) الكشّاف 4: 541- 543.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 72

المدينة أن ينفقوا عليهم وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ عبد اللّه و أضرابه لا يَفْقَهُونَ ذلك لجهلهم باللّه، فيهذّون «1» بما يزيّن لهم الشيطان.

يَقُولُونَ لَئِنْ رَجَعْنا إِلَى الْمَدِينَةِ من غزوة بني المصطلق لَيُخْرِجَنَّ الْأَعَزُّ يعنون أعزّهم بإنفاق الأموال مِنْهَا الْأَذَلَ يعنون رسول اللّه و المؤمنين وَ لِلَّهِ الْعِزَّةُ القوّة و الغلبة وَ لِرَسُولِهِ وَ لِلْمُؤْمِنِينَ و لمن أعزّه اللّه من رسوله و المؤمنين به. و هم الأخصّاء بذلك، كما أنّ المذلّة و الهوان للشيطان و ذويه من الكافرين و المنافقين.

و قيل: للّه العزّة بالربوبيّة، و لرسوله بالنبوّة، و للمؤمنين بالعبوديّة.

و قيل: عزّ اللّه خمسة: عزّ الملك و البقاء، و عزّ العظمة و الكبرياء، و عزّ البذل و العطاء، و عزّ الرفعة و العلاء، و عزّ الجلال و البهاء.

و عزّ الرسول خمسة: عزّ السبق و الابتداء، و عزّ الأذان و النداء، و عزّ تقدّمه على الأنبياء، و عزّ الاجتباء و الاصطفاء، و عزّ الظهور على الأعداء.

و عزّ المؤمنين خمسة: عزّ التأخير. بيانه: نحن الآخرون السابقون. و عزّ التيسير. بيانه: وَ لَقَدْ يَسَّرْنَا الْقُرْآنَ لِلذِّكْرِ «2». يُرِيدُ اللَّهُ بِكُمُ الْيُسْرَ «3». و عزّ التبشير. بيانه: وَ بَشِّرِ الْمُؤْمِنِينَ بِأَنَّ لَهُمْ مِنَ اللَّهِ فَضْلًا كَبِيراً «4». و عزّ التوقير. بيانه:

وَ أَنْتُمُ الْأَعْلَوْنَ «5». و عزّ التكثير. بيانه أنّهم أكثر الأمم.

وَ لكِنَّ الْمُنافِقِينَ لا يَعْلَمُونَ من فرط جهلهم و غرورهم.

______________________________

(1) أي: يلهجون و ينطقون.

(2) القمر: 17.

(3) البقرة: 185.

(4) الأحزاب: 47.

(5)

آل عمران: 139.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 73

و

عن الحسن بن عليّ عليه السّلام: «أنّ رجلا قال له: إنّ الناس يزعمون أنّ فيك تيها.

قال: ليس بتيه، و لكنّه عزّة. و تلا هذه الآية».

و لمّا نزلت هذه الآية لحق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم زيدا من خلفه فعرك «1» أذنه و قال:

«وفت أذنك يا غلام، إنّ اللّه صدّقك و كذّب المنافقين».

و

روي: أنّ ابن أبيّ بعد نزول هذه الآية لم يلبث إلّا أيّاما قلائل حتّى مرض و مات.

[سورة المنافقون (63): الآيات 9 الى 11]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ وَ لا أَوْلادُكُمْ عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ (9) وَ أَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ فَأَصَّدَّقَ وَ أَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ (10) وَ لَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً إِذا جاءَ أَجَلُها وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ (11)

ثمّ أمر سبحانه المؤمنين بإنفاق الأموال في مرضاته، بعد أن ذمّ المنافقين على ترك الإنفاق، فقال:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا لا تُلْهِكُمْ أَمْوالُكُمْ لا يشغلكم التصرّف في أموالكم، و السعي في تدبير أمرها، و التهالك على طلب النماء فيها بالتجارة و الاغتلال، و لا ابتغاء النتاج، و التلذّذ بها، و الاستمتاع بمنافعها. وَ لا أَوْلادُكُمْ و سروركم بهم،

______________________________

(1) أي: دلكه و حكّه.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 74

و شفقتكم عليهم، و القيام بمؤنهم، و تسوية ما يصلحهم من معايشهم، في حياتكم و بعد مماتكم عَنْ ذِكْرِ اللَّهِ و إيثاره عليها. قيل: هو الصلوات الخمس. و عن الحسن: جميع الفرائض. و قيل: القرآن. و عن الكلبي: الجهاد مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و الأولى: جميع العبادات، فإنّها تذكرة

للمعبود. و المراد نهيهم عن اللهو بها، و توجيه النهي إليها للمبالغة. و لذلك قال: وَ مَنْ يَفْعَلْ ذلِكَ أي: اللهو و الشغل فَأُولئِكَ هُمُ الْخاسِرُونَ في تجارتهم، لأنّهم باعوا العظيم الباقي بالحقير الفاني.

وَ أَنْفِقُوا مِنْ ما رَزَقْناكُمْ بعض أموالكم ادّخارا للآخرة. و المراد الإنفاق الواجب منه. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَ أَحَدَكُمُ الْمَوْتُ أي: يرى دلائله، و يعاين ما ييأس معه من الإمهال، و يضيق به الخناق، و يتعذّر عليه الإنفاق، و يفوت وقت القبول، فيتحسّر على المنع، و يعضّ أنامله على فقد ما كان متمكّنا منه فَيَقُولَ رَبِّ لَوْ لا أَخَّرْتَنِي أمهلتني إِلى أَجَلٍ قَرِيبٍ أمد غير بعيد فَأَصَّدَّقَ فأتصدّق وَ أَكُنْ مِنَ الصَّالِحِينَ بالتدارك. و جزم «أكن» للعطف على موضع «فأصّدّق». كأنّه قيل: إن أخّرتني أصّدّق و أكن. و قرأ أبو عمرو: و أكون منصوبا، عطفا على: فأصّدّق.

و عن ابن عبّاس: تصدّقوا قبل أن ينزل عليكم سلطان الموت، فلا تقبل توبة، و لا ينفع عمل.

و عنه: ما يمنع أحدكم إذا كان له مال أن يزكّي، و إذا أطاق الحجّ أن يحجّ من قبل أن يأتيه الموت، فيسأل ربّه الكرّة فلا يعطاها.

و كذا عن الحسن: ما من أحد لم يزكّ و لم يصم و لم يحجّ إلّا سأل الرجعة.

وَ لَنْ يُؤَخِّرَ اللَّهُ نَفْساً و لن يمهلها إِذا جاءَ أَجَلُها آخر عمرها وَ اللَّهُ خَبِيرٌ بِما تَعْمَلُونَ فمجاز عليه. و قرأ أبو بكر بالياء ليوافق ما قبله في الغيبة.

و المعنى: أنّهم إذا علموا أنّ تأخير الموت عن وقته ممّا لا سبيل إليه، و أنّه هاجم لا محالة، و أنّ اللّه عليم بأعمالهم، فمجاز عليها، من منع واجب و غيره، لم تبق إلّا المسارعة إلى الخروج

عن عهدة الواجبات، و الاستعداد للقاء اللّه.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 75

(64) سورة التغابن

اشارة

مدنيّة. و قال ابن عبّاس: مكّيّة غير ثلاث آيات من آخرها نزلت بالمدينة:

«يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ» إلى آخر السورة. و هي ثماني عشرة آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «و من قرأ سورة التغابن دفع عنه موت الفجأة».

ابن أبي العلاء عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة التغابن في فريضته كانت شفيعة له يوم القيامة، و شاهد عدل عند من يجيز شهادتها، ثمّ لا تفارقه حتى يدخل الجنّة».

[سورة التغابن (64): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ لَهُ الْمُلْكُ وَ لَهُ الْحَمْدُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (1) هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ (2) خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِّ وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ (3) يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَ ما تُعْلِنُونَ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (4)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 76

و لمّا ختم سبحانه سورة المنافقين بذكر الأمر بالطاعة و النهي عن المعصية، افتتح هذه السورة ببيان حال المطيع و العاصي، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يُسَبِّحُ لِلَّهِ ما فِي السَّماواتِ وَ ما فِي الْأَرْضِ بدلالتهما على كماله و استغنائه لَهُ الْمُلْكُ وَ لَهُ الْحَمْدُ قدّم الظرفين للدلالة على اختصاص الأمرين به من حيث الحقيقة، لأنّ الملك على الحقيقة له، لأنّه مبدئ كلّ شي ء و مبدعه، و القائم به و المهيمن عليه. و كذلك الحمد، لأنّ أصول النعم و فروعها منه.

و أمّا ملك غيره فتسليط منه و استرعاء، و حمده اعتداد بأنّ نعمة اللّه جرت على يده. وَ هُوَ عَلى

كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ لأنّ نسبة ذاته المقتضية للقدرة إلى الكلّ على سواء.

ثمّ شرع فيما ادّعاه، فقال: هُوَ الَّذِي خَلَقَكُمْ فَمِنْكُمْ كافِرٌ أي: آت بالكفر و فاعل له وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ آت بالإيمان و فاعل له، كقوله: وَ جَعَلْنا فِي ذُرِّيَّتِهِمَا النُّبُوَّةَ وَ الْكِتابَ فَمِنْهُمْ مُهْتَدٍ وَ كَثِيرٌ مِنْهُمْ فاسِقُونَ «1». و الدليل عليه قوله: وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ أي: عالم بكفركم و إيمانكم اللّذين هما من عملكم فيعاملكم بما يناسب أعمالكم.

و المعنى: هو الّذي تفضّل عليكم بأصل النعم الّذي هو الخلق و الإيجاد عن العدم، فكان يجب أن تنظروا النظر الصحيح، و تكونوا بأجمعكم عبادا شاكرين.

فما فعلتم مع تمكّنكم، بل تشعّبتم شعبا، و تفرّقتم أمما، فمنكم كافر و منكم مؤمن.

______________________________

(1) الحديد: 26.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 77

و قدّم الكفر لأنّه الأغلب عليهم و الأكثر فيهم.

و قيل: هو الّذي خلقكم، فمنكم كافر بالخلق و هم الدهريّة، و منكم مؤمن به.

و لا يجوز حمل الكلام على أنّ اللّه سبحانه خلقهم مؤمنين و كافرين كما هو مذهب الأشاعرة، لأنّه لم يقل كذلك، بل أضاف الكفر و الإيمان إليهم و إلى فعلهم، و لذلك يصحّ الأمر و النهي، و الثواب و العقاب، و بعثة الأنبياء. على أنّ اللّه سبحانه لو جاز أن يخلق الكفر و القبائح لجاز أن يبعث رسولا يدعو إلى الكفر و الضلال، و يؤيّده بالمعجزات، تعالى عن ذلك علوّا كبيرا. هذا و قد قال سبحانه: فِطْرَتَ اللَّهِ الَّتِي فَطَرَ النَّاسَ عَلَيْها «1». و

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «كلّ مولود يولد على الفطرة، و إنّما أبواه يهوّدانه و ينصّرانه و يمجّسانه».

و

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حكاية عن اللّه سبحانه: «خلقت

عبادي كلّهم حنفاء».

و نحو ذلك من الأخبار كثير.

إن قيل: سلّمنا أنّ العباد هم الفاعلون للكفر، و لكن قد سبق في علم اللّه الحكيم أنّه إذا خلقهم لم يفعلوا إلّا الكفر، و لم يختاروا غيره، فما دعاه إلى خلقهم مع علمه بما يكون منهم؟ و هل خلق القبيح و خلق فاعل القبيح إلّا واحد؟ و هل مثله إلّا مثل من وهب سيفا باترا «2» لمن شهر بقطع السبيل و قتل النفس المحرّمة، فقتل به مؤمنا؟ أما يطبق العقلاء على ذمّ الواهب للسيف و تعنيفه كما يذمّون القاتل؟

بل قصدهم باللوائم على الواهب أشدّ؟

قلنا: قد علمنا أنّ اللّه حكيم، عالم بقبح القبيح، عالم بغناه عنه، فقد علمنا أنّ أفعاله كلّها حسنة، و خلق فاعل القبيح فعله، فوجب أن يكون حسنا، و أن يكون له وجه حسن. و خفاء وجه الحسن علينا لا يقدح في حسنه، كما لا يقدح في حسن أكثر مخلوقاته جهلنا بداعي الحكمة إلى خلقها.

______________________________

(1) الروم: 30.

(2) أي: قاطعا.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 78

و يدلّ على حسن أفعاله قوله: خَلَقَ السَّماواتِ وَ الْأَرْضَ بِالْحَقِ بالحكمة البالغة و الغرض الصحيح، و هو أن جعلها مقارّ المكلّفين و مقابرهم، ليعلموا و يعملوا فيجازيهم وَ صَوَّرَكُمْ فَأَحْسَنَ صُوَرَكُمْ وَ إِلَيْهِ الْمَصِيرُ فجعلكم أحسن الحيوان كلّه و أبهاه، بدليل أنّ الإنسان لا يتمنّى أن تكون صورته على خلاف ما يرى في سائر الصور، و من حسن صورته أنّه خلق منتصبا غير منكب، و زيّنه بصفوة أوصاف الكائنات، و خصّه بخلاصة خصائص المبدعات، و جعله أنموذج جميع المخلوقات. و لا ينافيه أنّ في جملتهم من هو مشوّه الصورة سمج الخلقة، لأنّ الحسن كغيره من المعاني على طبقات و مراتب، فلانحطاط بعض الصور

عن مراتب ما فوقها انحطاطا بيّنا لا يخرج عن حدّ الحسن لا تستملح. ألا ترى أنّك قد تعجب بصورة و تستملحها، ثمّ ترى أملح و أعلى في مراتب الحسن، فينبو عن الأولى طرفك، و تستثقل النظر إليها بعد افتتانك بها و تهالكك عليها. و قالت الحكماء: شيئان لا غاية لهما: الجمال، و البيان.

يَعْلَمُ ما فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ يَعْلَمُ ما تُسِرُّونَ وَ ما تُعْلِنُونَ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ نبّه بعلمه ما في السّماوات و الأرض، ثمّ بعلمه ما يسرّه العباد و يعلنونه، ثمّ بعلمه ذوات الصدور، أن لا شي ء من الكلّيّات و الجزئيّات خاف عليه و لا عازب عنه، فحقّه أن يتّقى و يحذر، و لا يجترأ على شي ء ممّا يخالف رضاه.

و تكرير العلم في معنى تكرير الوعيد. و كلّ ما ذكره بعد قوله: «فَمِنْكُمْ كافِرٌ وَ مِنْكُمْ مُؤْمِنٌ» كما ترى في معنى الوعيد على الكفر، و إنكار أن يعصى الخالق و لا تشكر نعمته. فما أجهل من يمزج الكفر بالخلق، و يجعله من جملته، و الخلق أعظم نعمة من اللّه على عباده، و الكفر أعظم كفران من العباد لربّهم.

و تقديم تقرير القدرة على العلم، لأنّ دلالة المخلوقات على قدرته أوّلا و بالذات، و على علمه بما فيها من الإتقان و الاختصاص ببعض الأنحاء.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 79

[سورة التغابن (64): الآيات 5 الى 6]

أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (5) ذلِكَ بِأَنَّهُ كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ فَقالُوا أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنا فَكَفَرُوا وَ تَوَلَّوْا وَ اسْتَغْنَى اللَّهُ وَ اللَّهُ غَنِيٌّ حَمِيدٌ (6)

ثمّ أخبر سبحانه أنّ الأمم الماضية جوزوا بأعمالهم ترغيبا على الإيمان و أنواع الطاعات، و ترهيبا عن الكفر و

سائر المعصيات، فقال: أَ لَمْ يَأْتِكُمْ أيّها الكفّار نَبَأُ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ قَبْلُ كقوم نوح و هود و صالح عليهم السّلام فَذاقُوا وَبالَ أَمْرِهِمْ ضرر كفرهم في الدنيا. و أصله الثقل. و منه: الوبيل لطعام يثقل على المعدة. و الوابل: المطر الثقيل الأمطار. وَ لَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ في الآخرة.

ذلِكَ أي: المذكور من الوبال في الدنيا، و العذاب في العقبى بِأَنَّهُ بسبب أنّ الشأن و الحديث كانَتْ تَأْتِيهِمْ رُسُلُهُمْ بِالْبَيِّناتِ بالمعجزات الواضحات فَقالُوا أَ بَشَرٌ يَهْدُونَنا أنكروا و تعجّبوا من أن يكون الرسل بشرا، و لم ينكروا أن يكون المعبود حجرا. و البشر يطلق على الواحد و الجمع. فَكَفَرُوا بالرسل وَ تَوَلَّوْا عن التدبّر في البيّنات وَ اسْتَغْنَى اللَّهُ عن كلّ شي ء، فضلا عن طاعتهم. فأطلق ليتناول كلّ شي ء، و من جملته إيمانهم و طاعتهم. وَ اللَّهُ غَنِيٌ عن عبادتهم و غيرها حَمِيدٌ يدلّ على حمده كلّ مخلوق.

[سورة التغابن (64): الآيات 7 الى 13]

زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا قُلْ بَلى وَ رَبِّي لَتُبْعَثُنَّ ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ وَ ذلِكَ عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ (7) فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ وَ النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ (8) يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ لِيَوْمِ الْجَمْعِ ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ يَعْمَلْ صالِحاً يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً ذلِكَ الْفَوْزُ الْعَظِيمُ (9) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (10) ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلاَّ بِإِذْنِ اللَّهِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ (11)

وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ (12) اللَّهُ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ

وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ (13)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 80

ثمّ حكى سبحانه ما يقوله الكفّار بقوله: زَعَمَ الَّذِينَ كَفَرُوا أهل مكّة أَنْ لَنْ يُبْعَثُوا الزعم ادّعاء العلم، و لذلك يتعدّى إلى مفعولين تعدّي العلم. قال: و لم أزعمك عن ذاك معزلا. «1» و قد قام مقامهما «أنّ» مع ما في حيّزه. قُلْ بَلى إثبات لما بعد «لن»، و هو البعث، أي: بلى تبعثون وَ رَبِّي لَتُبْعَثُنَ قسم أكّد به الجواب ثُمَّ لَتُنَبَّؤُنَّ بِما عَمِلْتُمْ بالمحاسبة و المجازاة وَ ذلِكَ البعث و الحشر عَلَى اللَّهِ يَسِيرٌ سهل هيّن لا يصرفه عنه صارف، لقبول المادّة و حصول القدرة التامّة.

______________________________

(1) و صدره: و إنّ الّذي قد عاش يا أم مالك يموت و لم أزعمك ...

يعني: أنّ كلّ حيّ و إن طال عمره يموت، و لم أظنّك يا أمّ مالك بمعزل عن الموت.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 81

فَآمِنُوا بِاللَّهِ وَ رَسُولِهِ محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ النُّورِ الَّذِي أَنْزَلْنا يعني: القرآن، فإنّه بإعجازه ظاهر بنفسه مظهر لغيره ممّا فيه شرحه و بيانه وَ اللَّهُ بِما تَعْمَلُونَ خَبِيرٌ فمجاز عليه.

يَوْمَ يَجْمَعُكُمْ ظرف ل «تنبّؤنّ» أو ل «خبير» لما فيه من معنى الوعيد، كأنّه قيل: و اللّه معاقبكم يوم يجمعكم. أو بإضمار: اذكر. و قرأ يعقوب: نجمعكم بالنون.

لِيَوْمِ الْجَمْعِ لأجل يوم يجمع فيه الأوّلون و الآخرون للحساب في الجزاء ذلِكَ يَوْمُ التَّغابُنِ يغبن فيه بعضهم بعضا، لنزول السعداء منازل الأشقياء الّتي كانوا ينزلونها لو كانوا سعداء، و نزول الأشقياء منازل السعداء الّتي كانوا ينزلونها لو كانوا أشقياء. و فيه تهكّم بالأشقياء، لأنّ نزولهم ليس بغبن.

و

في حديث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما من عبد

مؤمن يدخل الجنّة إلّا أري مقعده من النار لو أساء، ليزداد شكرا. و ما من عبد يدخل النار إلّا أري مقعده من الجنّة لو أحسن، ليزداد حسرة».

و يوم التغابن بهذا المعنى مستعار من: تغابن القوم في التجارة. و اللام فيه للدلالة على أنّ التغابن الحقيقي في أمور الآخرة لعظمها و دوامها.

و قيل: تغابن تفاعل من الغبن، و هو أخذ شرّ و ترك خير، و هو المغبون، أو أخذ خير و ترك شرّ، فهو الغابن. فالمؤمن ترك حظّه من الدنيا، و أخذ حظّه من الآخرة، فترك ما هو شرّ له، و أخذ ما هو خير له، فكان غابنا. و الكافر ترك حظّه من الآخرة، و أخذ حظّه من الدنيا، فترك الخير و أخذ الشرّ، فكان مغبونا. فيظهر في ذلك اليوم الغابن و المغبون.

فعلى هذا؛ الآيتان المذكورتان بعد ذلك تفصيل للتغابن، و هما قوله: وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ يَعْمَلْ صالِحاً أي: عملا صالحا يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ معاصيه وَ يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً مؤبّدين فيها، و لا يفنى

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 82

ما هم فيه من النعيم أبدا. و قرأ نافع و ابن عامر بالنون فيهما. ذلِكَ الإشارة إلى مجموع الأمرين، و لذلك جعله الفوز العظيم بقوله: الْفَوْزُ الْعَظِيمُ لأنّه جامع للمصالح، من دفع المضارّ و جلب المنافع.

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا بحججنا و دلائلنا أُولئِكَ أَصْحابُ النَّارِ خالِدِينَ فِيها وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ المآل و المرجع.

ما أَصابَ مِنْ مُصِيبَةٍ إِلَّا بِإِذْنِ اللَّهِ إلّا بتقديره و علمه و مشيئته، فكأنّه أذن للمصيبة أن تصيبه. أو إلّا بتخلية اللّه بينكم و بين من يريد فعلها.

وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يصدّق به، و يرض بقضائه

يَهْدِ قَلْبَهُ يلطف به و يشرحه، للازدياد من الطاعة و الخير، و الثبات عليه. و قيل: هو الاسترجاع عند حلول المصيبة. و عن مجاهد: إن ابتلي صبر، و إن ظلم غفر. و يجوز أن يكون المعنى: أنّ المؤمن واجد لقلبه مهتد إليه، كقوله: لِمَنْ كانَ لَهُ قَلْبٌ «1». و الكافر ضالّ عن قلبه بعيد منه.

وَ اللَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عَلِيمٌ حتّى يعلم ما يؤثّر فيه اللطف من القلوب ممّا لا يؤثّر فيه، فيمنحه و يمنعه.

وَ أَطِيعُوا اللَّهَ في جميع ما أمركم به وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ في جميع ما آتاكم به فَإِنْ تَوَلَّيْتُمْ أعرضتم عن القبول منه فَإِنَّما عَلى رَسُولِنَا الْبَلاغُ الْمُبِينُ أي: فإن تولّيتم فلا بأس عليه، لأنّه لم يكتب عليه طاعتكم و تولّيكم، إذ وظيفته التبليغ و قد بلّغ.

ثمّ بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على التوكّل عليه و التقوّي به في أمره، حتّى ينصره على من كذّبه و تولّى عنه، فقال: اللَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ وَ عَلَى اللَّهِ فَلْيَتَوَكَّلِ الْمُؤْمِنُونَ لأنّ الإيمان يقتضي التوكّل عليه.

______________________________

(1) ق: 37.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 83

[سورة التغابن (64): آية 14]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ وَ أَوْلادِكُمْ عَدُوًّا لَكُمْ فَاحْذَرُوهُمْ وَ إِنْ تَعْفُوا وَ تَصْفَحُوا وَ تَغْفِرُوا فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (14)

عن ابن عبّاس و مجاهد: أنّ قوما أرادوا الهجرة عن مكّة فثبّطهم نساؤهم و أولادهم عنها، فقالوا: تنطلقون و تضيّعوننا، فرقّوا لهم و وقفوا. فلمّا هاجروا بعد ذلك و رأوا الّذين سبقوهم قد فقهوا في الدين، أرادوا أن يعاقبوا أزواجهم و أولادهم.

و قيل: قالوا لهم: أين تذهبون و تدعون بلدكم و عشيرتكم و أموالكم؟ فغضبوا عليهم و قالوا: إن جمعنا اللّه في دار الهجرة لم

نصبكم بخير. فلمّا هاجروا منعوهم الخير، فنزلت:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا إِنَّ مِنْ أَزْواجِكُمْ و «من» للتبعيض، أي: بعضا منهنّ بهذه الصفة وَ أَوْلادِكُمْ أي: بعضا منهم عَدُوًّا لَكُمْ يشغلكم عن طاعة اللّه. أو يخاصمكم في أمر الدين أو الدنيا.

فَاحْذَرُوهُمْ و لا تأمنوا غوائلهم وَ إِنْ تَعْفُوا عن ذنوبهم بترك المعاقبة وَ تَصْفَحُوا بالإعراض، و ترك التثريب عليها وَ تَغْفِرُوا بإخفائها، و تمهيد معذرتهم فيها فَإِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ يعاملكم بمثل ما عملتم، و يتفضّل عليكم.

[سورة التغابن (64): الآيات 15 الى 18]

إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ وَ اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ (15) فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ وَ اسْمَعُوا وَ أَطِيعُوا وَ أَنْفِقُوا خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ (16) إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ وَ يَغْفِرْ لَكُمْ وَ اللَّهُ شَكُورٌ حَلِيمٌ (17) عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ الْعَزِيزُ الْحَكِيمُ (18)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 84

و قيل: كان عوف بن مالك الأشجعي ذا أهل و مال، فإذا أراد أن يغزوا تعلّقوا به و بكوا إليه و رقّقوه، فهمّ بأذاهم. فنزلت:

إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ فِتْنَةٌ بلاء و محنة، لأنّهم يوقعون في الإثم و العقوبة، و لا بلاء أعظم منهما. ألا ترى إلى قوله: وَ اللَّهُ عِنْدَهُ أَجْرٌ عَظِيمٌ لمن آثر محبّة اللّه و طاعته على محبّة الأموال و الأولاد و السعي لهم. و

في الحديث: «يؤتى برجل يوم القيامة فيقال: أكل عياله حسناته».

و عن بعض السّلف: العيال سوس الطاعات.

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنّه كان يخطب فجاء الحسن و الحسين و عليهما قميصان أحمران يعثران و يقومان، فنزل إليهما فأخذهما و وضعهما في حجره على المنبر فقال: صدق اللّه عزّ و جل إِنَّما أَمْوالُكُمْ وَ أَوْلادُكُمْ

فِتْنَةٌ. رأيت هذين الصبيّين فلم أصبر عنهما. ثمّ أخذ في خطبته».

و عن ابن مسعود قال: لا يقولنّ أحدكم: اللّهمّ إنّي أعوذ بك من الفتنة، فإنّه ليس أحد منكم يرجع إلى مال و أهل و ولد إلّا و هو مشتمل على فتنة. و لكن ليقل:

اللّهمّ إنّي أعوذ بك من مضلّات الفتن.

فَاتَّقُوا اللَّهَ مَا اسْتَطَعْتُمْ أي: ابذلوا في تقواه جهدكم و طاقتكم. و لا تنافي بين هذا و بين قوله: اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقاتِهِ «1» لأنّ كلّ واحد منهما إلزام لترك جميع المعاصي، فمن فعل ذلك فقد اتّقى عقاب اللّه، لأنّ من لم يفعل قبيحا و لا أخلّ بواجب فلا عقاب عليه. إلّا أنّ في أحد الكلامين تبيينا أنّ التكليف لا يلزم العبد إلّا

______________________________

(1) آل عمران: 102.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 85

فيما يطيق، و كلّ أمر أمر اللّه به فلا بدّ أن يكون مشروطا بالاستطاعة.

وَ اسْمَعُوا مواعظه وَ أَطِيعُوا أوامره وَ أَنْفِقُوا في وجوه الخير الّتي وجبت عليكم النفقة فيها خالصا لوجهه خَيْراً لِأَنْفُسِكُمْ نصب بمحذوف، تقديره:

ائتوا خيرا لأنفسكم، أي: افعلوا ما هو خير لها و أنفع. و هو تأكيد للحثّ على امتثال هذه الأوامر، و بيان لأنّ هذه الأمور خير لأنفسكم من الأموال و الأولاد، و ما أنتم عاكفون عليه من حبّ الشهوات و زخارف الدنيا. و يجوز أن يكون صفة مصدر محذوف، أي: إنفاقا خيرا، أو خبرا ل «كان» مقدّرا جوابا للأوامر.

وَ مَنْ يُوقَ شُحَّ نَفْسِهِ حتّى يعطي حقّ اللّه من ماله فَأُولئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ سبق تفسيره.

إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ بصرف الأموال فيما أمره لكم قَرْضاً حَسَناً مقرونا بإخلاص و طيب قلب يُضاعِفْهُ لَكُمْ يجعل لكم بالواحد عشرا إلى سبعمائة و أكثر. و قرأ ابن كثير و

ابن عامر و يعقوب: يضعّفه. وَ يَغْفِرْ لَكُمْ ببركة الإنفاق وَ اللَّهُ شَكُورٌ مجاز، أي: يفعل بكم ما يفعل المبالغ في الشكر من عظيم الثواب، فيعطي الجزيل بالقليل. و كذلك قوله: حَلِيمٌ أي: يفعل بكم ما يفعل من يحلم عن المسي ء، فلا يعاجلكم بالعقوبة مع كثرة ذنوبكم.

عالِمُ الْغَيْبِ وَ الشَّهادَةِ عالم السرّ و العلانية، لا يخفى عليه شي ء الْعَزِيزُ الغالب على ما سواه الْحَكِيمُ تامّ القدرة و العلم.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 87

(65) سورة الطلاق

اشارة

مدنيّة بالإجماع. و هي إحدى عشرة آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ سورة الطلاق مات على سنّة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة الطلاق و التحريم في فريضته أعاذه اللّه تعالى من أن يكون يوم القيامة ممّن يخاف أو يحزن، و عوفي من النار، و أدخله اللّه الجنّة بتلاوته إيّاهما و محافظته عليهما، لأنّهما للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

[سورة الطلاق (65): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَّ وَ أَحْصُوا الْعِدَّةَ وَ اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَّ وَ لا يَخْرُجْنَ إِلاَّ أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ وَ تِلْكَ حُدُودُ اللَّهِ وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ لا تَدْرِي لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ أَمْراً (1) فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَّ فَأَمْسِكُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ وَ أَقِيمُوا الشَّهادَةَ لِلَّهِ ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً (2) وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قَدْراً (3)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 88

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة التغابن بذكر النساء و التحذير منهنّ، افتتح هذه السورة بذكرهنّ و ذكر أحكامهنّ و أحكام فراقهنّ، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِذا طَلَّقْتُمُ النِّساءَ ناداه بهذا النداء تشريفا له، و تعليما لعباده كيف يحاورونه في أثناء محاوراتهم، و يذكرونه في خلال كلامهم.

و خصّ النداء و عمّ الخطاب بالحكم،

لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إمام أمّته و قدوتهم، كما يقال لرئيس القوم و كبيرهم: يا فلان افعلوا كيت و كيت، إظهارا لتقدّمه، و اعتبارا لترؤّسه، و نظرا إلى أنّه الّذي يصدرون عن رأيه، و لا يستبدّون بأمر دونه، فكان هو وحده في حكم كلّهم، و سادّا مسدّ جميعهم، فنداؤه كندائهم.

و عن الجبائي: تقديره: قل إذا طلّقتم. أو لأنّ الكلام معه، و الحكم يعمّهم.

و هذا أحسن الوجوه. و لا يلزم خروجه عن الحكم على هذا الوجه، لأنّه إنّما جعله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم آمرا تنزيها له عن فعل المكروه بغير داع يدعو إليه، فإنّ الطلاق من غير داع مكروه، لكونه خلاف النكاح المرغوب، و لما

رواه الثعلبي عن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «تزوّجوا و لا تطلّقوا، فإنّ المطلّق يهتزّ منه العرش».

و

عن ثوبان يرفعه إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أيّما امرأة سألت زوجها الطلاق من غير ما بأس، فحرام عليها رائحة الجنّة».

و المعنى: إذا أردتم تطليقهنّ، على تنزيل المقبل على الأمر المشارف له منزلة

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 89

الشارع فيه، كقوله تعالى: إِذا قُمْتُمْ إِلَى الصَّلاةِ «1» وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ «2».

كقوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قتل قتيلا فله سلبه».

فَطَلِّقُوهُنَّ لِعِدَّتِهِنَ أي: وقتها. و هو الطهر، فإنّ اللام في الأزمان للتأقيت، كأنّه قال: فطلّقوهنّ في طهرهنّ الّذي يحصينه من عدّتهنّ، و لا تطلّقوهنّ لحيضهنّ الّذي لا يعتددن به من زمان العدّة. فظاهره يدلّ على أنّ العدّة بالأطهار، كما هو مذهب أصحابنا و الشافعيّة، و مرويّ عن ابن عبّاس و ابن مسعود

و الحسن و مجاهد و ابن سيرين و قتادة و الضحّاك و السدّي. و أنّ طلاق المعتدّة بالأقراء ينبغي أن يكون في الطهر، و أنّه يحرم في الحيض من حيث إنّ الأمر بالشي ء يستلزم النهي عن ضدّه. و هذا يدلّ على عدم وقوعه، إذ النهي يستلزم الفساد عندنا، فإنّ النهي عن نفس الطلاق، و قد نقل عن المحقّقين أنّ النهي عن الشي ء نفسه أو جزئه أو لازمه يدلّ على الفساد، كما حقّق في الأصول.

و

روى البخاري عن سليمان بن حرب، و روى مسلم عن عبد الرحمان بن بشر عن بهز، و كلاهما عن شعبة، عن أنس بن سيرين، قال: «سمعت يقول: طلّق ابن عمر امرأته و هي حائض، فذكر ذلك عمر للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: مره فليراجعها، فإذا طهرت فليطلّقها إن شاء» «3».

و في هذه الرواية دلالة على أنّه يشترط الطهر في الطلاق.

و الّذي يدلّ على أنّه يشترط أن يكون الطلاق في طهر لا يقربها الزوج فيه بجماع، ما

روى البخاري و مسلم عن قتيبة، عن ليث بن سعد، عن نافع، عن عبد اللّه بن عمر: «أنّه طلّق امرأته و هي حائض تطليقة واحدة، فأمره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن

______________________________

(1) المائدة: 6.

(2) الإسراء: 45.

(3) صحيح البخاري 7: 52، صحيح مسلم 2: 1097 ذيل ح 12. زبدة التفاسير، ج 7، ص: 90

يراجعها ثمّ يمسكها حتّى تطهر، ثمّ تحيض عنده حيضة اخرى، ثمّ يمهلها حتّى تطهر من حيضتها، فإن أراد أن يطلّقها فليطلّقها حين تطهر من قبل أن يجامعها، فتلك العدّة الّتي أمر اللّه أن يطلّق لها النساء» «1».

و احتجّ الفقهاء من الجمهور على وقوع طلاق الحائض و إن

كان حراما بهذين الحديثين، من حيث قوله: «مره فليراجعها» في الأوّل، و في الثاني أمر أن يراجعها، و المراجعة تدلّ على وقوع الطلاق.

و فيه نظر، فإنّه لا دلالة في ذلك، لأنّه كما يحتمل الأمر بالمراجعة وقوع الطلاق، يحتمل أيضا أن يراد بالمراجعة التمسّك بمقتضى العقد و بقاء الزوجيّة، فإنّ من طلّق طلاقا فاسدا و ظنّ أنّه واقع فاعتزل زوجته صحّ أن يقال له: راجعها.

فيكون المراد حينئذ المراجعة اللغويّة لا الاصطلاحيّة، يعني: بعد الطلاق. و من عدّ العدّة بالحيض- كما هو مذهب الحنفيّة- علّق اللام بمحذوف، مثل: مستقبلات لعدّتهنّ، أي: قبل عدّتهنّ، كقولك: أتيته لثلاث بقيت من المحرّم، أي: مستقبلا لها.

وَ أَحْصُوا الْعِدَّةَ و اضبطوها و أكملوها ثلاثة أقراء. و إنّما أمر بإحصاء العدّة لمراعاة حقّ المطلّقة فيها كالنفقة و السكنى، و مراعاة حقّ الزوج، كالرجعة و منعها من الزواج.

و اعلم أنّ عموم الأمر بالطلاق مخصوص بأمرين: أحدهما غير المدخول بها. و ثانيهما: الغائب عنها زوجها غيبة يعلم انتقالها من طهر إلى آخر، أو خرج عنها في طهر لم يقربها فيه بجماع، فإنّ هاتين يصحّ طلاقهما من غير تحريم، و على ذلك إجماع أصحابنا و تظافر أخبارهم. و بواقي أحكام الطلاق و أنواعه مذكورة في كتب الفقه.

وَ اتَّقُوا اللَّهَ رَبَّكُمْ في تطويل العدّة و الإضرار بهنّ، و غير ذلك من مخالفة

______________________________

(1) صحيح البخاري 7: 52، صحيح مسلم 2: 1093 ح 1.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 91

ما أمركم به لا تُخْرِجُوهُنَّ مِنْ بُيُوتِهِنَ من مساكنهنّ الّتي يسكنّها وقت الطلاق حتّى تنقضي عدّتهنّ. و المراد بيوت الأزواج. و أضيف إليهنّ لاختصاصها بهنّ من حيث السكنى. و المعنى: لا تخرجوهنّ منها غضبا عليهنّ، و كراهة لمساكنتهنّ، أو لحاجة لكم إلى

المساكن.

وَ لا يَخْرُجْنَ باستبدادهنّ و إن لم تخرجوهنّ. أمّا لو اتّفقا على الانتقال جاز، إذ الحقّ لا يعدوهما. و في الجمع بين النهيين دلالة على استحقاقها السكنى، و لزومها ملازمة مسكن الفراق.

و قوله: إِلَّا أَنْ يَأْتِينَ بِفاحِشَةٍ مُبَيِّنَةٍ مستثنى من الأوّل. و المعنى: إلّا أن يبذون «1» على أهل الأزواج، في أذيّتهنّ أهلهم و شتمهنّ إيّاهم، فإنّه كالنشوز، فيسقط حقّهنّ بذلك. أو إلّا أن يزنين، فيخرجن لإقامة الحدّ عليهنّ. أو من الثاني، للمبالغة في النهي، و الدلالة على أنّ نفس خروجهنّ فاحشة. و الأحكام المذكورة في عدّة الطلاق الرجعي، بخلاف البائن، فإنّه يجوز خروجها و إخراجها.

ثمّ إنّه تعالى بيّن أنّ تلك الأحكام المذكورة أمور محدودة مقدّرة واجبة الوقوع، و أنّ مع مخالفتها يستحقّ الذمّ و العقاب، فقال:

وَ تِلْكَ إشارة إلى الأحكام المذكورة حُدُودُ اللَّهِ وَ مَنْ يَتَعَدَّ حُدُودَ اللَّهِ بأنّ يطلّق على غير ما أمر اللّه به فَقَدْ ظَلَمَ نَفْسَهُ بأن عرّضها للعقاب لا تَدْرِي أي: النفس، أو أنت أيّها النبيّ، أو أيّها المطلّق لَعَلَّ اللَّهَ يُحْدِثُ بَعْدَ ذلِكَ بعد الطلاق أَمْراً و هو أن يقلّب قلبه من بغضها إلى محبّتها، و من الرغبة عنها إلى الرغبة فيها، و من عزيمة الطلاق إلى الندم عليه، فيراجعها. و هو كالتعليل لعدم الإخراج و الخروج من البيوت. فالجملة المترجّية متعلّقة بالأمر بالتطليقة المذكورة و إحصاء العدّة. و المعنى: فطلّقوهنّ لعدّتهنّ، و أحصوا العدّة، لعلّكم ترغبون

______________________________

(1) البذاءة: الفحش و الكلام القبيح. تقول: بذا على القوم يبذو.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 92

و تندمون فتراجعون.

و فيه دلالة على أنّ المراد بذلك الطلاق الرجعي لا البائن، و لهذا قال بعد ذلك: فَإِذا بَلَغْنَ أَجَلَهُنَ أي: شارفن آخر عدّتهنّ، فإنّ المراد ببلوغه

مقاربته و مشارفة انقضائه، لا انقضاؤه، و إلّا لما كان للزوج رجوع فَأَمْسِكُوهُنَ فراجعوهنّ بِمَعْرُوفٍ بحسن عشرة و إنفاق مناسب، من النفقة و الكسوة و السكنى أَوْ فارِقُوهُنَّ بِمَعْرُوفٍ بإيفاء الحقّ و اتّقاء الضرار، مثل أن يراجعها ثمّ يطلّقها فيراجعها ثمّ يطلّقها و هكذا، تطويلا لعدّتها.

وَ أَشْهِدُوا ذَوَيْ عَدْلٍ مِنْكُمْ على الرجعة، أو الفرقة. و فائدة الإشهاد أن لا يقع بينهما التجاحد، و أن لا يتّهم في إمساكها، و لئلّا يموت أحدهما فيدّعي الآخر ثبوت الزوجيّة ليرث. و الأمر بالإشهاد للندب عند أبي حنيفة، كقوله: وَ أَشْهِدُوا إِذا تَبايَعْتُمْ «1». و عند الشافعي واجب في الرجعة، مندوب في الفرقة. و المرويّ عن أئمّتنا معناه: و أشهدوا على الطلاق صيانة لدينكم. و هذا أليق بالظاهر، لأنّا إذا حملناه على الطلاق كان أمرا يقتضي الوجوب، و هو من شرائط صحّة الطلاق، بخلاف المراجعة.

وَ أَقِيمُوا الشَّهادَةَ أيّها الشهود عند الحاجة لِلَّهِ خالصا لوجهه، بأن تقيموها لا للمشهود له و لا للمشهود عليه، و لا لغرض آخر من الأغراض، سوى إقامة الحقّ و القيام بالقسط، كقوله: كُونُوا قَوَّامِينَ بِالْقِسْطِ «2».

ذلِكُمْ يريد الحثّ على الإشهاد و الإقامة، أو على جميع ما في الآية يُوعَظُ بِهِ مَنْ كانَ يُؤْمِنُ بِاللَّهِ وَ الْيَوْمِ الْآخِرِ فإنّه المنتفع به، و المقصود تذكيره ذلك اليوم.

______________________________

(1) البقرة: 282.

(2) النساء: 135.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 93

وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يطعه فيما يأمره و ينهاه، فيصبر على ضيقه يَجْعَلْ لَهُ مَخْرَجاً من الشدّة إلى الرخاء، و من الحرام إلى الحلال، و من النار إلى الجنّة وَ يَرْزُقْهُ مِنْ حَيْثُ لا يَحْتَسِبُ هذه الشرطيّة جملة معترضة مؤكّدة لما سبق، بالوعد على الاتّقاء عمّا نهى عنه صريحا أو ضمنا، من الطلاق

في الحيض، و الإضرار بالمعتدّة، و إخراجها من المسكن، و تعدّي حدود اللّه، و كتمان الشهادة، و توقّع جعل على إقامتها، بأن يجعل اللّه له مخرجا ممّا في شأن الأزواج من المضايق و الغموم، فينفّس كربه، و يرزقه فرجا و خلفا من وجه لم يخطر بباله و لا يحتسبه، إن أوفى المهر و أدّى الحقوق و النفقات. أو بالوعد لعامّة المتّقين بالخلاص عن مضارّ الدارين، و الفوز بخيرهما من حيث لا يحتسبون. و يجوز أن يكون هذا الكلام جي ء به على سبيل الاستطراد عند ذكر قوله: «ذلِكُمْ يُوعَظُ بِهِ».

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قرأها فقال: «مخرجا من شبهات الدنيا، و من غمرات الموت، و من شدائد يوم القيامة».

و

عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّي لأعلم آية لو أخذ الناس بها لكفتهم: «وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ» فما زال يقرؤها و يعيدها».

و

روي: أنّ سالم بن عوف بن مالك الأشجعي أسره العدوّ، فشكا أبوه إلى رسول اللّه عن أسر ابنه و عن فاقته. فقال له: «اتّق اللّه و اصبر، و أكثر من قول: لا حول و لا قوّة إلّا باللّه». ففعل، فبينا هو في بيته إذ قرع ابنه الباب و معه مائة من الإبل غفل عنها العدوّ فاستاقها. فنزلت هذه الآية. و في رواية: رجع و معه غنيمات و متاع.

وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ و من يفوّض أمره إلى اللّه، و يثق بحسن تدبيره و تقديره فَهُوَ حَسْبُهُ كافيه. و

في الحديث: «من سرّه أن يكون أقوى الناس فليتوكّل على اللّه».

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 94

و عن الربيع: إنّ اللّه قد قضى على نفسه أنّ من توكّل عليه كفاه، و من آمن به

هداه، و من أقرضه جازاه، و من وثق به أنجاه، و من دعاه أجابه و لبّاه. و تصديق ذلك في كتاب اللّه عزّ و جلّ: وَ مَنْ يَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ فَهُوَ حَسْبُهُ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ يَهْدِ قَلْبَهُ «1».

إِنْ تُقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يُضاعِفْهُ لَكُمْ «2». وَ مَنْ يَعْتَصِمْ بِاللَّهِ فَقَدْ هُدِيَ إِلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ «3». وَ إِذا سَأَلَكَ عِبادِي عَنِّي فَإِنِّي قَرِيبٌ «4» الآية.

إِنَّ اللَّهَ بالِغُ أَمْرِهِ نافذ أمره، يبلغ ما يريد من قضاياه، و لا يفوته مراد.

و قرأ حفص بالإضافة. قَدْ جَعَلَ اللَّهُ لِكُلِّ شَيْ ءٍ قَدْراً تقديرا و توقيتا، أو مقدارا، أو أجلا بحسب المصلحة لا يتأتّى تغييره. و هو بيان لوجوب التوكّل على اللّه، و تفويض الأمر إليه، لأنّه إذا علم أنّ كلّ شي ء من الرزق و نحوه لا يكون إلّا بتقديره و توقيته، لم يبق إلّا التسليم للقدر و التوكّل. و تقرير لما تقدّم من تأقيت الطلاق بزمان العدّة و الأمر بإحصائها، و تمهيد لما سيأتي من مقاديرها.

[سورة الطلاق (65): الآيات 4 الى 5]

وَ اللاَّئِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ وَ اللاَّئِي لَمْ يَحِضْنَ وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً (4) ذلِكَ أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ وَ يُعْظِمْ لَهُ أَجْراً (5)

______________________________

(1) التغابن: 11.

(2) التغابن: 17.

(3) آل عمران: 101.

(4) البقرة: 186.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 95

روي: أنّه لمّا نزل: وَ الْمُطَلَّقاتُ يَتَرَبَّصْنَ بِأَنْفُسِهِنَّ ثَلاثَةَ قُرُوءٍ «1». قالوا: قد عرفنا عدّة ذوات الأقراء، فما عدّة اللائي لا يحضن؟ فنزلت:

وَ اللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ إِنِ ارْتَبْتُمْ شككتم في عدّتهنّ، فلا تدرون لكبر ارتفع حيضهنّ أم لعارض

فَعِدَّتُهُنَّ ثَلاثَةُ أَشْهُرٍ.

و قيل: إن ارتبتم في دم البالغات مبلغ اليأس أهو دم حيض أو استحاضة؟

فعدّتهنّ ثلاثة أشهر.

و الأوّل موافق لمذهب أكثر أصحابنا من كون الآيسة لا عدّة لها، لما

رواه جماعة منهم عبد الرحمان بن الحجّاج عن الصادق عليه السّلام: «ثلاث يتزوّجن على كلّ حال: الّتي لم تحض، و مثلها لا تحيض. قال: قلت: و ما حدّها؟ قال: إذا أتى لها أقلّ من تسع سنين. و الّتي لم يدخل بها. و الّتي قد يئست من الحيض، و مثلها لا تحيض. قال: قلت: فما حدّها؟ قال: إذا كان لها خمسون سنة».

فعلى هذا يكون العدّة المذكورة- أعني: الأشهر الثلاثة- لمن هي في سنّ من تحيض، أو يقطع عنها الحيض لعارض، من مرض أو رضاع و غير ذلك، سواء كان ذلك الانقطاع مع الشكّ في سنّها أو لا معه، بل الشكّ في سبب الانقطاع، و هو المشار إليه بقوله: «إن ارتبتم». أو لا للشكّ، بل مع القطع بانقطاعه و الجزم بسببه.

و هو المشار إليه بقوله: وَ اللَّائِي لَمْ يَحِضْنَ بعد بسبب علّة معلومة من مرض أو غيره و مثلهنّ يحضن، فعدّتهنّ أيضا ثلاثة أشهر، فحذف لدلالة المذكور عليه.

فعلى هذا يكون المراد بقوله: «وَ اللَّائِي يَئِسْنَ» أي: حصل لهنّ صفة الآيسات، و هو انقطاع الحيض، إمّا مع الريبة أو مع القطع، فعدّتهنّ ثلاثة أشهر. و لا يكون في الآية دليل على عدم العدّة على الآيسة و الصغيرة، و لا على وجودها.

نعم، الحقّ أن لا عدّة عليهما، لأنّ الحكمة في شرعيّتها العلم باستبراء الرحم، و هو منتف فيهما.

______________________________

(1) البقرة: 228.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 96

و قال أكثر المفسّرين و السيّد المرتضى رحمه اللّه: إنّ الارتياب في وجوب العدّة لا في السنّ،

كأنّه قيل: إن أشكل عليكم حكمهنّ و جهلتم كيف تعتدون. و إنّ المراد باللائي لم يحضن، أي: لم يبلغن سنّ الحيض، عدّتهنّ ثلاثة أشهر.

و احتجّوا بوجهين:

الأوّل: سبب النزول، و هو أنّ أبيّ بن كعب قال: يا رسول اللّه إنّ عددا من عدد النساء لم يذكر في الكتاب: الصغار و الكبار و أولات الأحمال. فنزلت.

و الثاني: أنّه لو أراد ما ذكر الأصحاب من الشكّ في ارتفاع الحيض لقال: إن ارتبتنّ، لأنّ المرجع في الحيض إليهنّ.

و الجواب عن الأوّل: أنّه لو كان المراد ما ذكروه لقال: إن جهلتم، و لم يقل:

إن ارتبتم، لأنّ سبب النزول كما ذكر يوجب ذلك، لأنّ ابيّا لم يشكّ في عدّتهنّ، بل جهل.

و عن الثاني: أنّه إنّما أتى بالضمير مذكّرا لكون الخطاب مع الرجال بقوله:

«وَ اللَّائِي يَئِسْنَ مِنَ الْمَحِيضِ مِنْ نِسائِكُمْ». و لأنّ النساء يرجعن في تعرّف أحكامهنّ إلى رجالهنّ و إلى العلماء، فكان الخطاب لهم لا للنساء، لأنّهنّ يأخذن العلم منهم.

وَ أُولاتُ الْأَحْمالِ أَجَلُهُنَ أي: منتهى عدّتهنّ أَنْ يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ أي: مدّة وضع الحمل، فإنّ «أن» و الفعل في تقدير المصدر. و هذا لا خلاف أنّه في الطلاق.

و هل هو كذلك في الوفاة؟ بمعنى أنّه لو تقدّم الوضع على الأربعة أشهر و عشرا تكون العدّة منقضية لذلك أم لا؟ قال أصحابنا: لا، بل عدّتها أبعد الأجلين. و هو قول عليّ عليه السّلام و ابن عبّاس. و قال الفقهاء الأربعة و الأوزاعي بالأوّل، محتجّين بعموم الآية.

احتجّ أصحابنا بدخولها في عموم قوله: وَ الَّذِينَ يُتَوَفَّوْنَ مِنْكُمْ وَ يَذَرُونَ أَزْواجاً «1». فقد دخلت تحت عامّين، و لا وجه للجمع بينهما إلّا بالقول بأبعد

______________________________

(1) البقرة: 234.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 97

الأجلين. و لطريقة الاحتياط. و لاختصاص آية

الوضع بالمطلّقات. و لو سلّم عمومها فهي مخصوصة بإجماع الإماميّة، لدخول المعصوم فيهم. فأدلّة الجمهور في مدّعاهم كانت مدخولة.

وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ في أحكامه فيراعي حقوقها يَجْعَلْ لَهُ مِنْ أَمْرِهِ يُسْراً يسهّل عليه أمره، و يوفّقه للخير في الدارين بميامن التقوى.

ذلِكَ إشارة إلى ما ذكر من أحكام الطلاق و الرجعة و العدّة و غيرها أَمْرُ اللَّهِ أَنْزَلَهُ إِلَيْكُمْ وَ مَنْ يَتَّقِ اللَّهَ في أحكامه فيراعي حقوقها بالامتثال يُكَفِّرْ عَنْهُ سَيِّئاتِهِ فإنّ الحسنات يذهبن السيّئات وَ يُعْظِمْ لَهُ أَجْراً بالمضاعفة.

و خلاصة المعنى: أنّ من حافظ على الحقوق الواجبة عليه ممّا ذكر، من الإسكان، و ترك الضرار، و النفقة على الحوامل، و إيتاء أجر المرضعات، و غير ذلك، استوجب تكفير السيّئات و الأجر العظيم.

[سورة الطلاق (65): الآيات 6 الى 7]

أَسْكِنُوهُنَّ مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ مِنْ وُجْدِكُمْ وَ لا تُضآرُّوهُنَّ لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَّ وَ إِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَّ فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَّ وَ أْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ بِمَعْرُوفٍ وَ إِنْ تَعاسَرْتُمْ فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى (6) لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلاَّ ما آتاها سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً (7)

ثمّ بيّن سبحانه حال المطلّقة في النفقة و السكنى، فقال: أَسْكِنُوهُنَ قال في الكشّاف: «هذا و ما بعده بيان لما شرط من التقوى في قوله تعالى: وَ مَنْ يَتَّقِ

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 98

اللَّهَ كأنّه قيل: كيف نعمل بالتقوى في شأن المعتدّات؟ فقيل: أسكنوهنّ» «1».

مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ «من» للتبعيض، و مبعّضها محذوف. و معناه: أسكنوهنّ مكانا من حيث سكنتم، أي: بعض مكان سكناكم. قال قتادة: إن لم يكن إلّا بيت واحد فأسكنها في بعض جوانبه. مِنْ وُجْدِكُمْ عطف بيان لقوله:

«مِنْ حَيْثُ سَكَنْتُمْ». و الوجد: الوسع و الطاقة. و المعنى: ممّا تطيقونه.

وَ لا تُضآرُّوهُنَ في السكنى. يعني: لا تستعملوا معهنّ الضرار. لِتُضَيِّقُوا عَلَيْهِنَ في المسكن ببعض الأسباب، من إنزال من لا يوافقهنّ، أو يشغل مكانهنّ، أو غير ذلك، حتّى تضطرّوهنّ فتلجأهنّ إلى الخروج.

و قيل: هو أن يراجعها إذا بقي من عدّتها يومان ليضيّق عليها أمرها.

و قيل: هو أن يلجئها إلى أن تفتدي منه.

وَ إِنْ كُنَّ أُولاتِ حَمْلٍ فَأَنْفِقُوا عَلَيْهِنَّ حَتَّى يَضَعْنَ حَمْلَهُنَ فيخرجن من العدّة.

و اعلم أنّ وجوب السكنى للمطلّقات في الآية على الإجمال، من غير بيان كونه رجعيّا أو بائنا، لكن السنّة الشريفة بيّنت ذلك. فنقول: المطلّقة إن كانت رجعيّة فلها استحقاق الإنفاق و الإسكان. و إن كانت بائنة، قال أبو حنيفة لها أيضا النفقة و السكنى. و هو مرويّ عن عمر و ابن مسعود. و قال الشافعي: إنّ لها السكنى لا غير.

و قال الحسن و أبو ثور: إنّه لا سكنى لها و لا نفقة. و هو مذهب أصحابنا نقلا عن الأئمّة عليهم السّلام. و أيضا نقل ذلك من طريق الجمهور عن الشعبي و الزهري. فيكون إطلاق الآية مخصوصا بالمطلّقة الرجعيّة.

و المطلّقة الحامل تستحقّ النفقة و السكنى إجماعا، بائنة كانت أو رجعيّة، لإطلاق الآية من غير تقييد. لكن اختلف الفقهاء في نفقة الحامل البائن هل هي للحامل أو للحمل؟ فقيل: للحمل، إذ لو لاه لما كان لها شي ء، فقد دار الوجوب مع

______________________________

(1) الكشّاف 4: 558.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 99

الحمل وجودا و عدما. و هو الأقوى. و قيل: للحامل بشرط الحمل. و تظهر الفائدة في عدم وجوب قضائها على الأوّل، و وجوبها على الجدّ.

و اعلم أنّ الحامل إذا وضعت و انقضت عدّتها لا يجب

عليها إرضاع الولد، و سقطت نفقتها، لخروج العدّة. فإن تبرّعت بإرضاع الولد فلا بحث، و إلّا يجب على الأب أجرة رضاعه، لقوله: فَإِنْ أَرْضَعْنَ لَكُمْ بعد انقطاع علقة النكاح فَآتُوهُنَّ أُجُورَهُنَ على الإرضاع وَ أْتَمِرُوا بَيْنَكُمْ و ليأمر بعضكم بعضا، فإنّ الائتمار بمعنى التآمر، كالاشتوار بمعنى التشاور. يقال: ائتمر القوم إذا أمر بعضهم بعضا.

بِمَعْرُوفٍ بجميل في الإرضاع و الأجر. و هو المسامحة، و عدم مماكسة الأب، و عدم تعاسر الأمّ، لأنّه ولدهما معا، و هما شريكان فيه و في وجوب الإشفاق عليه، فلا يجوز لهما إرضاع الولد أقلّ من المقدّر الشرعي. و الخطاب للآباء و الأمّهات.

وَ إِنْ تَعاسَرْتُمْ تضايقتم و تماكستم في الإرضاع و الأجرة فَسَتُرْضِعُ لَهُ أُخْرى امرأة اخرى. يعني: فستوجد مرضعة غير الأمّ ترضعه له، أي: للأب.

و المعنى: سيجد الأب غير معاسرة ترضع له ولده إن عاسرته أمّه. و فيه طرف من معاتبة الأمّ على المعاسرة، كما تقول لمن تستقضيه حاجة فيتوانى: سيقضيها غيرك.

تريد: لن تبقى غير مقضيّة و أنت ملوم.

لِيُنْفِقْ ذُو سَعَةٍ مِنْ سَعَتِهِ وَ مَنْ قُدِرَ عَلَيْهِ رِزْقُهُ فَلْيُنْفِقْ مِمَّا آتاهُ اللَّهُ أي:

لينفق على المطلّقة و المرضعة كلّ من الموسر و المعسر ما بلغه وسعه، كما قال:

وَ مَتِّعُوهُنَّ عَلَى الْمُوسِعِ قَدَرُهُ وَ عَلَى الْمُقْتِرِ قَدَرُهُ «1».

لا يُكَلِّفُ اللَّهُ نَفْساً إِلَّا ما آتاها أي: إلّا وسعها. و فيه تطييب لقلب المعسر، و لذلك وعد له باليسر، فقال: سَيَجْعَلُ اللَّهُ بَعْدَ عُسْرٍ يُسْراً بعد ضيق سعة، و بعد

______________________________

(1) البقرة: 236.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 100

فقر غنى، و بعد صعوبة الأمر سهولة عاجلا، بأن يفتح عليه أبواب الرزق، أو آجلا بأن يعطيه أجرا جزيلا و ثوابا جليلا.

[سورة الطلاق (65): الآيات 8 الى 12]

زبدة التفاسير ج 7 149

وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ

عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَ رُسُلِهِ فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً وَ عَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً (8) فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها وَ كانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً (9) أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي الْأَلْبابِ الَّذِينَ آمَنُوا قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً (10) رَسُولاً يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ يَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً (11) اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَّ يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَّ لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ وَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عِلْماً (12)

و لمّا بيّن الأحكام الشرعيّة و أمر بالتقوى في مراعاة حقوقها، خوّف العباد على تركها، بذكر تعذيب الأمم الماضية لأجل عتوّهم و تمرّدهم عن امتثال الأحكام، فقال:

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 101

وَ كَأَيِّنْ مِنْ قَرْيَةٍ من أهل قرية عَتَتْ عَنْ أَمْرِ رَبِّها وَ رُسُلِهِ أعرضت عنه على وجه العتوّ و العناد فَحاسَبْناها حِساباً شَدِيداً بالاستقصاء و المناقشة وَ عَذَّبْناها عَذاباً نُكْراً منكرا. و المراد حساب الآخرة و عذابها. و التعبير بلفظ الماضي للتحقيق، كقوله: وَ نادى أَصْحابُ الْجَنَّةِ «1» وَ نادى أَصْحابُ النَّارِ «2».

و نحو ذلك، فإنّ ما هو كائن لا محالة فكأن قد كان. و يجوز أن يكون المراد بالحساب استقصاء ذنوبهم، و إثباتها في صحائف الحفظة، و بالعذاب ما أصيبوا به عاجلا.

فَذاقَتْ وَبالَ أَمْرِها ثقل عقوبة كفرها و شدّة معاصيها وَ كانَ عاقِبَةُ أَمْرِها خُسْراً لا ربح فيه أصلا.

أَعَدَّ اللَّهُ لَهُمْ عَذاباً شَدِيداً تكرير للمبالغة، و بيان لما يوجب التقوى المأمور بها في قوله: فَاتَّقُوا اللَّهَ يا أُولِي

الْأَلْبابِ يا أصحاب العقول الصافية، فلا تفعلوا مثل ما فعل أولئك، فينزل بكم ما نزل بهم.

ثمّ وصف أولي الألباب بقوله: الَّذِينَ آمَنُوا خصّ المؤمنين بينهم بالذكر، لأنّهم المنتفعون بذلك دون الكفّار. ثمّ ابتدأ سبحانه فقال: قَدْ أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً رَسُولًا يعني بالذكر جبرئيل، لكثرة ذكره، أو لنزوله بالذكر و هو القرآن، أو لأنّه مذكور في السماوات، أو في الأمم. أو ذا ذكر، أي: شرف.

أو محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لمواظبته على تلاوة القرآن، أو لتبليغه. و أبدل منه «رسولا» للبيان. و روي ذلك عن أبي عبد اللّه عليه السّلام.

أو أراد بالذكر القرآن، و «رسولا» منصوب بمقدّر مثل: أرسل، و دلّ قوله: «أَنْزَلَ اللَّهُ إِلَيْكُمْ ذِكْراً» عليه. و قيل: عمل «ذكرا» في «رسولا» أي: أنزل اللّه إليكم ذكرا رسولا، أي: للرسالة.

______________________________

(1) الأعراف: 44 و 50.

(2) الأعراف: 44 و 50.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 102

يَتْلُوا عَلَيْكُمْ آياتِ اللَّهِ مُبَيِّناتٍ حال من اسم «اللّه» أو صفة «رسولا».

و المراد بالموصول في قوله: لِيُخْرِجَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ الّذين آمنوا بعد إنزاله، أي: ليحصل لهم ما هم عليه الآن من الإيمان و العمل الصالح، لأنّهم كانوا وقت إنزاله غير مؤمنين، و إنّما آمنوا بعد الإنزال و التبليغ. أو ليخرج من علم أنّه مؤمن مِنَ الظُّلُماتِ إِلَى النُّورِ من ظلمات الكفر إلى الهدى. شبّه الكفر بالظلمات، لأنّه يؤدّي إلى ظلمة القبر و ظلمة القيامة و ظلمة جهنّم. و شبّه الإيمان بالنور، لأنّه يؤدّي إلى نور القيامة.

وَ مَنْ يُؤْمِنْ بِاللَّهِ وَ يَعْمَلْ صالِحاً يُدْخِلْهُ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً قرأ نافع و ابن عامر: ندخله بالنون. قَدْ أَحْسَنَ اللَّهُ لَهُ رِزْقاً فيه تعجيب و تعظيم

لما رزقوا من الثواب.

اللَّهُ الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ مبتدأ و خبر وَ مِنَ الْأَرْضِ مِثْلَهُنَ أي:

و خلق مثلهنّ في العدد من الأرض. و ما في القرآن آية تدلّ على أنّ الأرضين سبع إلّا هذه. و لا خلاف في السماوات أنّها سماء فوق سماء. و أمّا الأرضون فقال المحقّقون: إنّها سبع طباقا بعضها فوق بعض كالسماوات، لأنّها لو كانت مصمتة لكانت أرضا واحدة. و في كلّ أرض خلق، خلقهم اللّه تعالى كما شاء.

و روى أبو صالح عن ابن عبّاس: أنّها سبع أرضين ليس بعضها فوق بعض، يفرّق بينهنّ البحار، و تظلّ جميعهنّ السماء. و اللّه سبحانه أعلم بصحّة ما استأثر بعلمه، و اشتبه على خلقه. و قد ذكر في الذاريات «1» رواية العيّاشي عن أبي الحسن عليه السّلام في كيفيّة وضع السماوات و الأرضين.

و قيل: بين كلّ سماءين مسيرة خمسمائة عام، و غلظ كلّ سماء كذلك.

______________________________

(1) راجع ج 6 ص 466، ذيل الآية 8 من سورة الذاريات.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 103

و الأرضون مثل السماوات.

و عن ابن عبّاس: إنّ نافع بن الأزرق سأله هل تحت الأرضين خلق؟ قال:

نعم. قال: فما الخلق؟ قال: إمّا ملائكة أو جنّ.

يَتَنَزَّلُ الْأَمْرُ بَيْنَهُنَ أي: يجري أمر اللّه و قضاؤه بينهنّ، و ينفذ حكمه فيهنّ.

و عن قتادة: في كلّ سماء و في كلّ أرض خلق من خلقه، و أمر من أمره، و قضاء من قضائه. لِتَعْلَمُوا أَنَّ اللَّهَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ وَ أَنَّ اللَّهَ قَدْ أَحاطَ بِكُلِّ شَيْ ءٍ عِلْماً علّة ل «خلق»، أو ل «يتنزّل»، أو لمضمر يعمّهما، مثل: فعل ما فعل. و لا شبهة أنّ كلّا منهما يدلّ على كمال قدرته و علمه.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 105

(66) سورة التحريم

اشارة

مدنيّة. و هي اثنتا

عشرة آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «و من قرأ سورة يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ أعطاه اللّه توبة نصوحا».

[سورة التحريم (66): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ تَبْتَغِي مَرْضاتَ أَزْواجِكَ وَ اللَّهُ غَفُورٌ رَحِيمٌ (1) قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ وَ اللَّهُ مَوْلاكُمْ وَ هُوَ الْعَلِيمُ الْحَكِيمُ (2) وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ وَ أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ عَرَّفَ بَعْضَهُ وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ الْخَبِيرُ (3) إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما وَ إِنْ تَظاهَرا عَلَيْهِ فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمَلائِكَةُ بَعْدَ ذلِكَ ظَهِيرٌ (4)

عَسى رَبُّهُ إِنْ طَلَّقَكُنَّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَّ مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ قانِتاتٍ تائِباتٍ عابِداتٍ سائِحاتٍ ثَيِّباتٍ وَ أَبْكاراً (5)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 106

و اعلم أنّه سبحانه لمّا ذكر في سورة الطلاق أحكام النساء في الطلاق و غيره، افتتح هذه السورة بأحكامهنّ.

و قد اختلف أقوال المفسّرين في سبب نزول هذه السورة.

فقيل: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان إذا صلّى الغداة يدخل على أزواجه امرأة امرأة، و كان قد أهديت لحفصة بنت عمر بن الخطّاب عكّة «1» من عسل، و كانت إذا دخل عليها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مسلّما حبسته و سقته منها. و إنّ عائشة أنكرت احتباسه عندها، فقالت لجويرية حبشيّة عندها: إذا دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على حفصة فادخلي عليها، فانظري ماذا تصنع. فأخبرتها

الخبر و شأن العسل. فغارت عائشة و أرسلت إلى صواحبها فأخبرتهنّ، و قالت: إذا دخل عليكنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقلن: إنّا نجد منك ريح المغافير، و هو صمغ العرفط «2» كريه الرائحة.

و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يكره و يشقّ عليه أن يوجد منه ريح غير طيّبة، لأنّه يأتيه الملك.

قال: فدخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على سودة. قالت: فما أردت أن أقول ذلك لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثمّ إنّي فرقت من عائشة فقلت: يا رسول اللّه ما هذه الريح الّتي أجدها منك، أكلت المغافير؟ فقال: لا، و لكن حفصة سقتني عسلا. ثمّ دخل على امرأة امرأة، و هنّ يقلن له ذلك.

ثمّ دخل على عائشة، فأخذت بأنفها. فقال لها: ما شأنك؟ قالت: أجد ريح

______________________________

(1) العكّة: وعاء أصغر من القربة.

(2) العرفط: شجر من العضاه. و الواحدة: عرفطة. و العضاه: كلّ شجر يعظم و له شوك. زبدة التفاسير، ج 7، ص: 107

المغافير، أكلتها يا رسول اللّه؟ قال: لا، بل سقتني حفصة عسلا. فقالت: جرست «1» إذا نحلها العرفط. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا أطعمه أبدا. فحرّمه على نفسه.

و عن عطاء بن أبي مسلم: أنّ الّتي كانت تسقي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم العسل أمّ سلمة. و قيل: بل كانت زينب بنت جحش.

قالت عائشة: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يمكث عند زينب بنت جحش و يشرب عندها عسلا. فتواطأت أنا و حفصة أيّتنا دخل عليها النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فلتقل:

إنّي

أجد منك ريح المغافير، أكلت المغافير. فدخل صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على إحداهما فقالت له ذلك. فقال: لا، بل شربت عسلا عند زينب بنت جحش، و لن أعود عليه فنزلت.

و عن قتادة و الشعبي و مسروق: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قسّم الأيّام بين نسائه، فلمّا كان يوم حفصة قالت: يا رسول اللّه إنّ لي إلى أبي حاجة، فأذن لي أن أزوره.

فأذن لها. فلمّا خرجت أرسل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى جاريته مارية القبطيّة، و كان قد أهداها له المقوقس، فأدخلها بيت حفصة فوقع عليها. فأتت حفصة فوجدت الباب مغلقا، فجلست عند الباب، فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و وجهه يقطر عرقا.

فقالت حفصة: إنّما أذنت لي من أجل هذا، أدخلت أمتك بيتي، ثمّ وقعت عليها في يومي و على فراشي، أما رأيت لي حرمة و حقّا؟

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أليس هي جاريتي، قد أحلّ اللّه ذلك لي؟! اسكتي، فهي حرام عليّ، ألتمس بذلك رضاك، فلا تخبري بهذا امرأة منهنّ، و هو عندك أمانة.

فلمّا خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قرعت حفصة الجدار الّذي بينها و بين عائشة، فقالت: ألا أبشّرك أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد حرّم عليه أمته مارية، و قد أراحنا اللّه منها. و أخبرت عائشة بما رأت، و كانتا متصافيتين متظاهرتين على سائر أزواجه.

فطلّق حفصة، و اعتزل سائر نسائه تسعة و عشرين يوما، و قعد في مشربة أمّ إبراهيم

______________________________

(1) جرس الشي ء: لحسه بلسانه. زبدة التفاسير، ج 7، ص: 108

مارية حتّى نزلت

آية التخيير.

و

عن الزجّاج: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم خلا في يوم عائشة مع جاريته أمّ إبراهيم مارية القبطيّة، فوقفت حفصة على ذلك. فقال لها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا تعلمي عائشة ذلك.

و حرّم مارية على نفسه. فأعلمت حفصة عائشة الخبر، و استكتمتها إيّاه. فأطلع اللّه نبيّه على ذلك، و هو قوله: وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ حَدِيثاً يعني:

حفصة.

و لمّا حرّم مارية القبطيّة أخبر حفصة أنّه يملك من بعده أبو بكر ثمّ عمر تسلية لها. فعرّفها بعض ما أفشت من الخبر، و أعرض عن بعض، و هو أنّ أبا بكر و عمر يملكان بعدي.

و قريب من ذلك ما رواه العيّاشي بالإسناد عن عبد اللّه بن عطاء المكّي عن أبي جعفر عليه السّلام، إلّا أنّه زاد في ذلك: أنّ كلّ واحدة منهما حدّثت أباها بذلك، فعاتبهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في أمر مارية و ما أفشتا عليه من ذلك، و أعرض عن أن يعاتبهما في الأمر الآخر. فنزلت:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا النَّبِيُّ لِمَ تُحَرِّمُ ما أَحَلَّ اللَّهُ لَكَ

يعني: العسل، أو ما ملكت يمينك، و هي مارية تَبْتَغِي بهذا التحريم مَرْضاتَ أَزْواجِكَ تفسير ل «تحرّم»، أو حال من فاعله، أو استئناف لبيان الداعي إلى التحريم. و المعنى:

تطلب به رضا نسائك، و هو أحقّ أن تطلب مرضاته.

و ليس هذا بزلّة منه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و ارتكاب ذنب صغير، كما زعم جار اللّه «1»، لأنّ تحريم الرجل أمته أو بعض ملاذّه بسبب أو غير سبب ليس بقبيح، و لا داخل في جملة الذنوب. و لا يمتنع أن

يكون خرج هذا القول مخرج التوجّع له صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، إذ بالغ في إرضاء أزواجه في تلك المشقّة. و لو أنّ رجلا أرضى بعض نسائه بتطليق بعضهنّ

______________________________

(1) انظر الكشّاف 4: 564.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 109

لجاز أن يقال له: لم فعلت ذلك و تحمّلت فيه المشقّة؟ و إن لم يفعل قبيحا. و لو قلنا:

إنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عوتب على ذلك، لأنّ ترك التحريم كان أفضل من فعله، لم يمتنع، لأنّه يحسن أن يقال لتارك النفل: لم لم تفعله؟ و لم عدلت عنه؟ و لأنّ تطييب قلوب النساء ممّا لا تنكره العقول.

و اعلم أنّ العلماء اختلفوا فيمن قال لامرأته: أنت عليّ حرام. فقال مالك: هو ثلاث تطليقات.

و قال أبو حنيفة: إن نوى به الظهار فهو ظهار، و إن نوى الإيلاء فهو إيلاء، و إن نوى الطلاق فهو طلاق. و إن نوى ثلاثا كان ثلاثا، و إن نوى اثنتين فواحدة بائنة.

و إن لم يكن له نيّة فهو يمين.

و قال الشافعي: إن نوى الطلاق كان طلاقا، أو الظهار كان ظهارا، و إن لم يكن له نيّة فهو يمين.

و روي عن ابن مسعود و ابن عبّاس و عطاء: أنّه يمين.

و قال أصحابنا: إنّه لا يلزم به شي ء، إذ وجوده كعدمه. و هو قول مسروق.

و إنّما أوجب اللّه فيه الكفّارة، لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حلف أن لا يقرب جاريته و لا يشرب الشراب المذكور، فأوجب اللّه عليه أن يكفّر عن يمينه، و يعود إلى استباحة ما كان حرّمه. و بيّن أنّ التحريم لا يحصل إلّا بأمر اللّه و نهيه، و لا يصير الشي ء حراما بتحريم منّا إلّا

إذا حلفنا على تركه.

وَ اللَّهُ غَفُورٌ عن الذنب، فضلا عن ترك الندب، فكيف يؤاخذ به؟

رَحِيمٌ إذا رجع عن الذنب، أو إلى ما هو الأولى.

قَدْ فَرَضَ اللَّهُ لَكُمْ تَحِلَّةَ أَيْمانِكُمْ قد شرع لكم تحليلها، و هو حلّ ما عقدته بالكفّارة. و في هذا دلالة على أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد حلف، و لم يقتصر على قوله: هي عليّ حرام، لأنّ هذا القول ليس بيمين.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 110

و عن مقاتل: أمر اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يكفّر عن يمينه و يراجع وليدته، فأعتق رقبة و عاد إلى مارية.

و عن الحسن: أنّه لم يكفّر، و إنّما هو تعليم للمؤمنين.

و قيل: معناه: شرع اللّه لكم الاستثناء.

وَ اللَّهُ مَوْلاكُمْ متولّي أموركم وَ هُوَ الْعَلِيمُ بما يصلحكم، فيشرعه لكم الْحَكِيمُ المتقن في أفعاله و أحكامه، فلا يأمركم و لا ينهاكم إلّا بما توجبه الحكمة. و قيل: مولاكم أولى بكم من أنفسكم، فكانت نصيحته أنفع لكم من نصائحكم لأنفسكم.

وَ إِذْ أَسَرَّ النَّبِيُّ إِلى بَعْضِ أَزْواجِهِ يعني: حفصة حَدِيثاً تحريم مارية أو العسل، أو أنّ أبا بكر و عمر يملكان فَلَمَّا نَبَّأَتْ بِهِ أي: فلمّا أخبرت حفصة عائشة بالحديث و أفشته إليها وَ أَظْهَرَهُ اللَّهُ عَلَيْهِ و أطلع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على الحديث- أي: على إفشائه- على لسان جبرئيل عَرَّفَ بَعْضَهُ عرّف الرسول حفصة بعض ما فعلت وَ أَعْرَضَ عَنْ بَعْضٍ عن إعلام بعض تكرّما، و عملا بمكارم الأخلاق. قال سفيان: ما زال التغافل من فعل الكرام. و قال الحسن: ما استقصى كريم قطّ.

و قرأ الكسائي بالتخفيف، على معنى: جازى عليه. من قولك للمسي ء:

لأعرفنّ لك ذلك، و قد

عرفت ما صنعت. و منه: أُولئِكَ الَّذِينَ يَعْلَمُ اللَّهُ ما فِي قُلُوبِهِمْ «1». و هذا كثير في القرآن. و كان جزاؤه تطليقه إيّاها، فطلّقها ثم راجعها بأمر اللّه. لكنّ المشدّد من باب إطلاق المسبّب على السبب، و المخفّف بالعكس.

و يؤيّد الأوّل قوله: فَلَمَّا نَبَّأَها بِهِ قالَتْ مَنْ أَنْبَأَكَ هذا قالَ نَبَّأَنِيَ الْعَلِيمُ بجميع الأمور الْخَبِيرُ بسرائر الصدور، فإنّه أوفق للإعلام.

______________________________

(1) النساء: 63.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 111

إِنْ تَتُوبا إِلَى اللَّهِ من التعاون على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالإيذاء و التظاهر عليه، فقد حقّ عليكما التوبة، و وجب عليكما الرجوع إلى الحقّ. و الخطاب لحفصة و عائشة على الالتفات، للمبالغة في معاتبتهما. فقد روى البخاري في الصحيح عن ابن عبّاس قال: «قلت لعمر بن الخطّاب: من المرأتان اللّتان تظاهرتا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم؟ قال: هما عائشة و حفصة» «1».

و يدلّ على حذف جزاء الشرط قوله: فَقَدْ صَغَتْ قُلُوبُكُما مالت إلى الإثم، و زاغت عن مخالصة الرسول، و حبّ ما يحبّه، و كراهة ما يكرهه. من: صغت النجوم إذا مالت للغروب.

وَ إِنْ تَظاهَرا تتظاهرا عَلَيْهِ أي: تتعاونا بما يسوءه، من إفشاء سرّه و غيره. و قرأ الكوفيّون بالتخفيف.

فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وليّه و ناصره. و زيادة «هو» إيذان بأنّ نصرته عزيمة من عزائمه، و أنّه يتولى ذلك بذاته.

وَ جِبْرِيلُ قرن ذكر جبريل بذكره مفردا له من بين الملائكة، تعظيما له، و إظهارا لمكانته عنده، فإنّه رئيس الملائكة الكرّوبيّين وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ و من صلح العمل من المؤمنين. يعني: كلّ من آمن و عمل صالحا أتباعه و أعوانه.

ف «صالح» جنس، و لذلك عمّم بالإضافة، فأريد به الجمع، كقولك: لا

يفعل هذا الصالح من الناس، تريد الجنس. و كقولك: لا يفعله من صلح منهم. و يجوز أن يكون أصله: و صالحوا المؤمنين، فكتب بغير واو على اللفظ، لأنّ تلفّظ الواحد و الجمع فيه واحد، كما جاءت أشياء في المصحف متبوع فيها حكم اللفظ دون وضع الخطّ.

و وردت الرواية من طريق الخاصّ و العامّ أنّ المراد بصالح المؤمنين

______________________________

(1) صحيح البخاري 6: 196.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 112

أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه. و هو قول مجاهد.

و

في كتاب شواهد التنزيل بالإسناد عن سدير الصيرفي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «لقد عرّف رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليّا أصحابه مرّتين. أمّا مرّة فحيث قال: من كنت مولاه فهذا عليّ مولاه. و أمّا الثانية فحيث نزلت هذه الآية: فَإِنَّ اللَّهَ هُوَ مَوْلاهُ وَ جِبْرِيلُ وَ صالِحُ الْمُؤْمِنِينَ أخذ رسول اللّه بيد عليّ فقال: أيّها الناس هذا صالح المؤمنين» «1».

و

قالت أسماء بنت عميس: سمعت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «و صالح المؤمنين عليّ بن أبي طالب».

وَ الْمَلائِكَةُ على تكاثر عددهم و امتلاء السماوات من جموعهم بَعْدَ ذلِكَ بعد نصرة اللّه و ناموسه و صالح المؤمنين ظَهِيرٌ فوج مظاهر له، كأنّهم يد واحدة على من يعاديه. فما يبلغ تظاهر امرأتين على من هؤلاء ظهراؤه؟

و مظاهرتهم من جملة نصرة اللّه. فكأنّه فضّل نصرته تعالى بهم و بمظاهرتهم على غيرها من وجوه نصرته تعالى، لفضلهم على جميع خلقه.

عَسى رَبُّهُ أي: واجب منه، فإنّ «عسى» و «لعلّ» من اللّه واجب إِنْ طَلَّقَكُنَ يا معاشر أزواج النبيّ أَنْ يُبْدِلَهُ أَزْواجاً خَيْراً مِنْكُنَ على التغليب، أو تعميم الخطاب. و قرأ نافع و أبو عمرو: يبدله بالتخفيف. و ليس

فيه ما يدلّ على أنّه لم يطلّق حفصة. و أزواج النبيّ قبل عصيانهنّ كنّ أخيار النساء، فلمّا آذين رسول اللّه و عصينه لم يبقين على تلك الصفة، فكان غيرهنّ من المطيعات لرسول اللّه و النازلات عن هواهنّ و رضاهنّ خيرا منهنّ.

و قد عرّض بذلك في قوله: مُسْلِماتٍ مُؤْمِناتٍ مقرّات مخلصات، أو منقادات مصدّقات قانِتاتٍ مصلّيات، أو مواظبات على الطاعة، أو متذلّلات

______________________________

(1) شواهد التنزيل 2: 352 ح 996.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 113

لأمر اللّه تائِباتٍ عن الذنوب عابِداتٍ متعبّدات، أو متذلّلات لأمر الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سائِحاتٍ صائمات. سمّي الصائم سائحا، لأنّه يسيح بالنهار بلا زاد، فلا يزال ممسكا إلى أن يجد ما يطعمه. فشبّه به الصائم في إمساكه إلى أن يجي ء وقت إفطاره. أو مهاجرات.

ثَيِّباتٍ وَ أَبْكاراً وسّط العاطف بينهما لتنافيهما، لا يجتمعن فيهما اجتماعهنّ في سائر الصفات، فلم يكن به بدّ من الواو. أو لأنّهما في حكم صفة واحدة، إذ المعنى: مشتملات على الثيّبات و الأبكار.

[سورة التحريم (66): الآيات 6 الى 9]

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ وَ أَهْلِيكُمْ ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ عَلَيْها مَلائِكَةٌ غِلاظٌ شِدادٌ لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ (6) يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (7) يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ يُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَّ وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ يَقُولُونَ رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا وَ اغْفِرْ لَنا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (8) يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ وَ الْمُنافِقِينَ وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ وَ مَأْواهُمْ جَهَنَّمُ

وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (9)

و لمّا أدّب سبحانه نساء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أمر عقيبه المؤمنين بتأديب نسائهم

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 114

و ذرّيّتهم، فقال:

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا قُوا أَنْفُسَكُمْ احفظوها و امنعوها بترك المعاصي و فعل الطاعات وَ أَهْلِيكُمْ بالنصح و التأديب، و النهي عن القبائح، و الحثّ على أفعال الخير، ليتّصفوا بما اتّصفتم به من التقوى. و

في الحديث: «رحم اللّه رجلا قال: يا أهلاه؛ صلاتكم صيامكم زكاتكم مسكينكم يتيمكم جيرانكم، لعلّ اللّه يجمعهم معه في الجنّة».

ناراً وَقُودُهَا النَّاسُ وَ الْحِجارَةُ نوعا من النار لا يتّقد إلّا بهما اتّقاد غيرها بالحطب. و عن ابن عبّاس: هي حجارة الكبريت، و هي أشدّ الأشياء حرّا إذا أوقد عليها. و قيل: أشدّ الناس عذابا يوم القيامة من جهل أهله.

عَلَيْها مَلائِكَةٌ تلي أمرها، و هم الزبانية غِلاظٌ شِدادٌ الأفعال. أو غلاظ الخلق، شداد الخلق، عظام الأجرام، أقوياء على الأفعال الشديدة. و هم الزبانية التسعة عشر و أعوانهم.

لا يَعْصُونَ اللَّهَ ما أَمَرَهُمْ فيما مضى. في محلّ النصب على البدل، أي: لا يعصون ما أمر اللّه، أي: أمره، كقوله: أَ فَعَصَيْتَ أَمْرِي «1». أو لا يعصونه فيما أمرهم وَ يَفْعَلُونَ ما يُؤْمَرُونَ فيما يستقبل. أو لا يمتنعون عن قبول الأوامر و التزامها، و يؤدّون ما يؤمرون به من غير توان و تثاقل. فالجملة الثانية غير الأولى.

و اعلم أنّ فسّاق المؤمنين و إن كانت دركاتهم فوق دركات الكفّار، فإنّهم مساكنون الكفّار في قرار واحد، فقيل للّذين آمنوا: قوا أنفسكم باجتناب الفسوق مساكنة الّذين أعدّت لهم هذه النار الموصوفة.

و يجوز أن يأمرهم بالتوقّي من الارتداد، و الندم على الدخول في الإسلام.

و أن يكون خطابا للّذين آمنوا بألسنتهم، و هم

المنافقون. و يعضد ذلك قوله على

______________________________

(1) طه: 93.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 115

أثره: يا أَيُّهَا الَّذِينَ كَفَرُوا لا تَعْتَذِرُوا الْيَوْمَ إِنَّما تُجْزَوْنَ ما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ أي: يقال لهم ذلك عند دخولهم النار. و النهي عن الاعتذار لأنّه لا عذر لهم، أو لا ينفعهم الاعتذار.

يا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا تُوبُوا إِلَى اللَّهِ تَوْبَةً نَصُوحاً بالغة في النصح. و هو الخلوص لوجه اللّه. يقال: عسل ناصح إذا خلص من الشمع. و رجل ناصح الجيب، أي: نقيّ القلب. أو في النصاحة، و هي الخياطة، كأنّها تنصح- أي: ترفو- ما خرق الذنب و ترمّ خلله. وصفت به التوبة على الإسناد المجازي مبالغة. و حقيقة: صفة التائبين، و هو أن ينصحوا بالتوبة أنفسهم، فيأتوا على طريقها متداركة للفرطات، ماحية للسيّئات. و ذلك أن يتوبوا على القبائح لقبحها، نادمين عليها، مغتمّين أشدّ الاغتمام لارتكابها، عازمين على أنّهم لا يعودون في قبيح من القبائح إلى أن يعود اللبن في الضرع، موطّنين أنفسهم على ذلك.

و

عن عليّ عليه السّلام: «أنّه سمع أعرابيّا يقول: اللّهمّ إنّي أستغفرك و أتوب إليك.

فقال: إنّ سرعة اللسان بالتوبة توبة الكذّابين. قال: و ما التوبة؟ قال: يجمعها ستّة أشياء: على الماضي من الذنوب الندامة، و للفرائض الإعادة، و ردّ المظالم، و استحلال الخصوم، و أن تعزم على أن لا تعود، و أن تذيب نفسك في طاعة اللّه كما ربّيتها في المعصية، و أن تذيقها مرارة الطاعات كما أذقتها حلاوة المعاصي».

و عن حذيفة: بحسب الرجل من الشرّ أن يتوب عن الذنب ثمّ يعود فيه.

و عن شهر بن حوشب: أن لا يعود و لو حزّ بالسيف و أحرق بالنار.

و يجوز أن يراد: توبة تنصح الناس، أي: تدعوهم إلى مثلها، لظهور اثرها في صاحبها،

و استعماله الجدّ و العزيمة في العمل على مقتضياتها.

و يؤيّده ما روي عن السدّي أنّه قال: لا تصحّ التوبة إلّا بنصيحة النفس و المؤمنين، لأنّ من صحّت توبته أحبّ أن يكون الناس مثله.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 116

و قرأ أبو بكر بضمّ النون. و هو مصدر بمعنى النصح، كالشكر و الشكور، و الكفر و الكفور. أو بمعنى النصاحة، كالثبات و الثبوت. تقديره: ذات نصوح. أو تنصح نصوحا. أو توبوا لنصح أنفسكم، على أنّه مفعول له.

قال معاذ بن جبل: يا رسول اللّه ما التوبة النصوح؟ قال: أن يتوب التائب ثمّ لا يرجع في ذنب كما لا يعود اللبن إلى الضرع.

و قال ابن مسعود: التوبة النصوح هي الّتي تكفّر كلّ سيّئة، و هو في القرآن.

ثمّ قرأ هذه الآية.

و قيل: إنّ التوبة النصوح هي الّتي يناصح الإنسان فيها نفسه بإخلاص الندم، مع العزم على أن لا يعود إلى مثله.

و قيل: هي أن يكون الذنب نصب عينيه، و لا يزال كأنّه ينظر إليه.

عَسى رَبُّكُمْ أَنْ يُكَفِّرَ عَنْكُمْ سَيِّئاتِكُمْ وَ يُدْخِلَكُمْ جَنَّاتٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذكر بصيغة الإطماع على عادة الملوك من الإجابة ب «عسى» و «لعلّ»، و وقوع ذلك منهم موقع القطع و البتّ. و إشعارا بأنّ العبد ينبغي أن يكون بين خوف و رجاء.

ثمّ عرّض بمن أخزاهم اللّه من أهل الكفر و الفسوق، و استحمد إلى المؤمنين على أنّه عصمهم من مثل حالهم، فقال:

يَوْمَ لا يُخْزِي اللَّهُ النَّبِيَ ظرف ل «يدخلكم». وَ الَّذِينَ آمَنُوا مَعَهُ عطف على النبيّ. و قيل: مبتدأ خبره نُورُهُمْ يَسْعى بَيْنَ أَيْدِيهِمْ وَ بِأَيْمانِهِمْ أي: على الصراط.

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «يسعى أئمّة المؤمنين بين أيدي المؤمنين و بأيمانهم، حتّى ينزلوهم منازلهم في

الجنّة».

يَقُولُونَ إشفاقا إذا طفئ نور المنافقين، على عادة البشريّة، و إن كانوا معتقدين الأمن رَبَّنا أَتْمِمْ لَنا نُورَنا و قال الحسن: اللّه متمّمه لهم، و لكنّهم يدعون

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 117

تقرّبا إلى اللّه، كقوله: وَ اسْتَغْفِرْ لِذَنْبِكَ «1»، و هو مغفور له. فلمّا كانت حالهم كحال المتقرّبين، حيث يطلبون ما هو حاصل لهم من الرحمة، سمّي تقرّبا.

و قيل: تتفاوت أنوارهم بحسب أعمالهم، فيسألون إتمامه تفضّلا، كما قيل:

إنّ السابقين إلى الجنّة يمرّون مثل البرق على الصراط، و بعضهم كالريح، و بعضهم حبوا و زحفا، فأولئك الّذين يقولون ربّنا أتمم لنا نورنا. وَ اغْفِرْ لَنا و استر علينا معاصينا إِنَّكَ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ قَدِيرٌ.

و يؤيّد القول الأول قوله إثر ذلك: يا أَيُّهَا النَّبِيُّ جاهِدِ الْكُفَّارَ بالسيف وَ الْمُنافِقِينَ بالحجّة وَ اغْلُظْ عَلَيْهِمْ و استعمل الخشونة فيما تجاهدهم إذا بلغ الرفق نهايته و لم يؤثّر وَ مَأْواهُمْ و مآل الكفّار و المنافقين جَهَنَّمُ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ جهنّم، أو مأواهم.

[سورة التحريم (66): آية 10]

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ فَخانَتاهُما فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً وَ قِيلَ ادْخُلا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ (10)

ثمّ مثّل اللّه عزّ و جلّ حال الكفّار- في أنّهم يعاقبون على كفرهم و عداوتهم للمؤمنين معاقبة مثلهم من غير إبقاء و لا محاباة، و لا ينفعهم مع عداوتهم لهم ما كان بينهم و بينهم من لحمة نسب أو وصلة صهر، لأنّ عداوتهم لهم و كفرهم باللّه و رسوله قطع العلائق و بتّ الوصل، و جعلهم أبعد من الأجانب، و إن كان المؤمن الّذي يتّصل به الكافر نبيّا من أنبياء اللّه- بحال امرأة لوط و امرأة نوح لمّا نافقتا

و خانتا الرسولين،

______________________________

(1) محمد: 19.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 118

تعريضا لعائشة و حفصة إذ خانتا رسول اللّه و تظاهرتا عليه، فقال:

ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا بيّنة لِلَّذِينَ كَفَرُوا امْرَأَتَ نُوحٍ وَ امْرَأَتَ لُوطٍ كانَتا تَحْتَ عَبْدَيْنِ مِنْ عِبادِنا صالِحَيْنِ يريد به تعظيم نوح و لوط فَخانَتاهُما بالنفاق و تظاهرهما على الرسولين. فامرأة نوح قالت لقومه: إنّه مجنون مخبّط العقل.

و امرأة لوط دلّت على ضيفانه. و لا يجوز أن يراد بالخيانة الفجور، لأنّه سمج في الطباع كلّها، نقيصة عند كلّ أحد، موجب لاستخفاف الزوج، و حطّ مرتبته و منزلته عن قلوب العباد، بخلاف الكفر، فإنّ الكفّار لا يستسمجونه، بل يستحسنونه و يسمّونه حقّا. و عن ابن عبّاس: ما بغت امرأة نبيّ قطّ.

فَلَمْ يُغْنِيا عَنْهُما مِنَ اللَّهِ شَيْئاً فلم يغن النبيّان عن امرأتيهما بحقّ الزواج إغناء مّا وَ قِيلَ لهما عند موتهما، أو يوم القيامة ادْخُلَا النَّارَ مَعَ الدَّاخِلِينَ مع سائر الداخلين من الكفرة الّذين لا وصلة بينهم و بين الأنبياء عليهم السّلام.

[سورة التحريم (66): الآيات 11 الى 12]

وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلاً لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ إِذْ قالَتْ رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ وَ نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ وَ عَمَلِهِ وَ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ (11) وَ مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها فَنَفَخْنا فِيهِ مِنْ رُوحِنا وَ صَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها وَ كُتُبِهِ وَ كانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ (12)

ثمّ مثّل حال المؤمنين- في أنّ وصلة الكافرين لا تضرّهم، و لا تنقص شيئا من ثوابهم و زلفاهم عند اللّه- بحال امرأة فرعون و منزلتها عند اللّه، مع كونها زوجة أعدى أعداء اللّه الناطق بالكلمة العظمى، فقال:

وَ ضَرَبَ اللَّهُ مَثَلًا لِلَّذِينَ آمَنُوا امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ هي آسية بنت مزاحم. و قيل:

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 119

هي عمّة موسى عليه

السّلام، آمنت حين سمعت بتلقّف عصا موسى الإفك، فعذّبها فرعون.

و عن أبي هريرة: أنّ فرعون وتّد امرأته بأربعة أوتاد، و استقبل بها الشمس، و أضجعها على ظهرها، و وضع رحى على صدرها. و قيل: أمر بأن تلقى عليها صخرة عظيمة، فدعت اللّه فرقى بروحها، فألقيت الصخرة على جسد لا روح فيه.

إِذْ قالَتْ ظرف للمثل المحذوف رَبِّ ابْنِ لِي عِنْدَكَ قريبا من رحمتك كمال قرب. أو في أعلى درجات المقرّبين. فعبّرت عن كمال القرب إلى العرش بقولها: عندك بَيْتاً فِي الْجَنَّةِ أي: في جنّات المأوى الّتي هي أقرب إلى العرش وَ نَجِّنِي مِنْ فِرْعَوْنَ من نفسه الخبيثة وَ عَمَلِهِ و فعله السي ء وَ نَجِّنِي مِنَ الْقَوْمِ الظَّالِمِينَ من القبط التابعين له في الظلم.

و فيه دليل على أنّ الاستعاذة باللّه و الالتجاء إليه، و مسألة الخلاص منه عند المحن و النوازل، من سير الصالحين و سنن الأنبياء و المرسلين.

و قوله: وَ مَرْيَمَ ابْنَتَ عِمْرانَ عطف على «امْرَأَتَ فِرْعَوْنَ» تسلية للأرامل، فإنّه جمع في التمثيل بين الّتي لها زوج و الّتي لا زوج لها الَّتِي أَحْصَنَتْ فَرْجَها من الرجال فَنَفَخْنا فِيهِ في فرجها مِنْ رُوحِنا من روح خلقناه بلا توسّط أصل وَ صَدَّقَتْ بِكَلِماتِ رَبِّها بصحفه المنزلة، أو بما أوحي إلى أنبيائه وَ كُتُبِهِ و ما كتب في اللوح. أو جنس الكتب المنزلة. و يدلّ عليه قراءة البصريّين و حفص:

و كتبه بالجمع.

وَ كانَتْ مِنَ الْقانِتِينَ من عداد المواظبين على الطاعة. و التذكير للتغليب، و للإشعار بأن طاعتها لم تقصر عن طاعة الرجال الكاملين، حتّى عدّت من جملتهم أو من نسلهم. فتكون «من» ابتدائيّة. و المعنى: أنّها ولدت من القانتين، لأنّها من أعقاب هارون أخي موسى صلوات اللّه عليهما.

و

عن

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «كمل من الرجال كثير، و لم يكمل من النساء إلّا أربع:

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 120

آسية بنت مزاحم امرأة فرعون، و مريم بنت عمران، و خديجة بنت خويلد، و فاطمة بنت محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

و لا شبهة لأولي النهى أنّ في طيّ هذين التمثيلين تعريضا بحفصة و عائشة، و بما فرط منهما من التظاهر على رسول اللّه بما كرهه. و تحذير لهما على أغلظ وجه و أشدّه، لما في التمثيل من ذكر الكفر. و إشارة إلى أنّ من حقّهما أن تكونا في الإخلاص و الكمال فيه كمثل هاتين المؤمنتين. و أن لا تتّكلا على أنّهما زوجا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإنّ ذلك الفضل لا ينفعهما إلّا مع كونهما مخلصتين. و التعريض بحفصة أرجح، لأنّ امرأة لوط أفشت عليه، كما أفشت حفصة على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و أسرار التنزيل و رموزه في كلّ باب بالغة من اللطف و الخفاء حدّا تدقّ عن تفطّن العالم، و تزلّ عن تبصّره.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 121

(67) سورة الملك

اشارة

و تسمّى الواقية و المنجية، لأنّها تقي و تنجي قارئها من عذاب القبر. مكّيّة.

و هي إحدى و ثلاثون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأ سورة «تبارك» فكأنّما أحيا ليلة القدر».

و

عن ابن عبّاس قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «وددت أنّ تبارك الملك في قلب كلّ مؤمن».

و

عن أبي هريرة أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «إنّ سورة من كتاب اللّه ما هي إلّا ثلاثون آية

شفعت للرجل، فأخرجته يوم القيامة من النار، و أدخلته الجنّة، و هي سورة تبارك».

و عن ابن مسعود قال: إذا وضع الميّت في قبره يؤتى من قبل رجليه، فيقال له: ليس لكم عليه سبيل، لأنّه قد كان يقوم بسورة الملك. ثمّ يؤتى من قبل رأسه، فيقول لسانه: ليس لكم عليه سبيل، لأنّه كان يقرأ بي سورة الملك.

و

روى الحسن بن محبوب عن جميل بن صالح، عن سدير الصيرفي، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «سورة الملك هي المانعة، تمنع من عذاب القبر، و هي مكتوبة في التوراة، سورة الملك. و من قرأها في ليلة فقد أكثر و أطاب، و لم يكتب من الغافلين. و إنّي لأركع بها بعد العشاء الآخرة و أنا جالس. و إنّ الّذي كان يقرؤها في

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 122

حياته في يومه و ليلته، إذا دخل عليه في قبره ناكر و نكير من قبل رجليه، قالت رجلاه لهما: ليس لكما إلى ما قبلي سبيل، قد كان هذا العبد يقوم عليّ فيقرأ سورة الملك في كلّ يوم و ليلة. فإذا أتياه من قبل جوفه قال لهما: ليس لكما إلى ما قبلي سبيل كان هذا العبد قد وعى سورة الملك. و إذا أتياه من قبل لسانه قال لهما: ليس لكما إلى ما قبلي سبيل، قد كان هذا العبد يقرأ في كلّ يوم و ليلة سورة الملك».

أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ في المكتوبة قبل أن ينام لم يزل في أمان اللّه حتّى يصبح، و في أمانه يوم القيامة حتّى يدخل الجنّة إن شاء اللّه».

[سورة الملك (67): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ وَ هُوَ عَلى كُلِّ

شَيْ ءٍ قَدِيرٌ (1) الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ لِيَبْلُوَكُمْ أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلاً وَ هُوَ الْعَزِيزُ الْغَفُورُ (2) الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ (3) ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ يَنْقَلِبْ إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً وَ هُوَ حَسِيرٌ (4)

و لمّا ختم سبحانه تلك السورة بأنّ الوصلة لا تنفع إلّا بالطاعة، و أصل الطاعة المعرفة و التصديق بالكلمات الإلهيّة، افتتح هذه السورة بدلائل المعرفة و آيات الربوبيّة، فقال:

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 123

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ تَبارَكَ تزايد و تعالى، و تعاظم عن صفات المخلوقين في صفاته و أفعاله. أو تكاثر خيره. من البركة، و هي كثرة الخير. الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ بقبضة قدرته التصرّف في الأمور كلّها كيف يشاء. و ذكر اليد مجاز عن الإحاطة بالملك و الاستيلاء عليه.

وَ هُوَ عَلى كُلِ كلّ ما يشاء قَدِيرٌ فيفعل كلّ ما تقتضيه حكمته و مصلحته.

الَّذِي خَلَقَ الْمَوْتَ وَ الْحَياةَ قدّرهما. أو أوجد الحياة و أزالها حسبما قدّره.

و الحياة ما يصحّ بوجوده الإحساس. و قيل: ما يوجب كون الشي ء حيّا، و هو الّذي يصحّ منه أن يعلم و يقدر. و الموت عدم ذلك فيه. و معنى خلق الموت و الحياة: إيجاد ذلك المصحّح و إعدامه.

و المعنى: أنّه سبحانه أعطاكم الحياة الّتي تقدرون بها على العمل، و تستمكنون منه، و سلّط عليكم الموت الّذي هو داعيكم إلى اختيار العمل الحسن على القبيح، لأنّ وراءه البعث و الجزاء الّذي لا بدّ منه. و قدّم الموت على الحياة لقوله: وَ كُنْتُمْ أَمْواتاً فَأَحْياكُمْ «1». و لأنّه أدعى إلى حسن العمل، فإنّ أقوى الناس داعيا إلى العمل من نصب موته بين عينيه فقدّم، لأنّه فيما

يرجع إلى الغرض المسوق له الآية أهمّ. و لأنّه إلى القهر أقرب.

لِيَبْلُوَكُمْ ليعاملكم معاملة المختبر بالتكليف أيّها المكلّفون أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا أصوبه و أخلصه، لأنّه إذا كان خالصا غير صواب لم يقبل. و كذلك إذا كان صوابا غير خالص. فالخالص أن يكون لوجه اللّه، و الصواب أن يكون على السنّة.

و

جاء مرفوعا أنّ أبا قتادة قال: سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن قوله «أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا». قال: «أتمّكم عقلا، و أشدّكم للّه خوفا، و أحسنكم فيما أمر اللّه به

______________________________

(1) البقرة: 28. زبدة التفاسير، ج 7، ص: 124

و نهى عنه نظرا، و إن كان أقلّكم تطوّعا».

و

عن ابن عمر عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه تلا «تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ» إلى قوله:

«أَيُّكُمْ أَحْسَنُ عَمَلًا». فقال: «يقول: أيّكم أحسن عقلا، و أورع عن محارم اللّه، و أسرع في طاعة اللّه».

و عن الحسن: أيّكم أزهد في الدنيا، و أترك لها.

و الجملة واقعة موقع ثاني المفعولين لفعل البلوى المتضمّن معنى العلم. فكأنّه قيل: ليعلمكم أيّكم أحسن عملا. و إذا قلت: علمته أزيد أحسن عملا أم هو؟ كانت هذه الجملة واقعة موقع الثاني من مفعوليه، كما تقول: علمته هو أحسن عملا.

و ليس هذا من باب التعليق، لأنّه إنّما يكون إذا وقع بعده ما يسدّ مسدّ المفعولين جميعا، كقولك: علمت أيّهما عمرو، و علمت أزيد منطلق. ألا ترى أنّه لا فصل بعد سبق أحد المفعولين، بين أن يقع ما بعده مصدّرا بحرف الاستفهام و غير مصدّر به.

وَ هُوَ الْعَزِيزُ الغالب الّذي لا يعجز من الانتقام ممّن أساء العمل الْغَفُورُ لمن تاب منهم، أو لمن أراد التفضّل عليه بإسقاط العقاب عنه.

الَّذِي خَلَقَ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً

مطابقة بعضها فوق بعض. مصدر: طابقت النعل إذا خصفتها طبقا على طبق. و هذا وصف بالمصدر. أو طوبقت طباقا. أو ذات طباق. جمع طبق، كجبل و جبال. أو جمع طبقة، كرحبة و رحاب.

ما تَرى فِي خَلْقِ الرَّحْمنِ مِنْ تَفاوُتٍ أي: اختلاف و تناقض من طريق الحكمة، و هو عدم مناسبة بعض الأجزاء من بعض، و عدم تناسق بعضها إلى بعض في الإتقان و الإحكام و الانتظام، بل ترى أفعاله كلّها سواء في الحكمة.

و قرأ حمزة و الكسائي: من تفوّت. و معناهما واحد، كالتعاهد و التعهّد. و هو الاختلاف و عدم التناسب و الملائمة. من الفوت، فإنّ كلّا من المتفاوتين فات عنه بعض ما في الآخر.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 125

و الجملة صفة ثانية ل «سبع» وضع فيها «خلق الرحمن» موضع الضمير للتعظيم، و الإشعار بأنّه تعالى يخلق مثل ذلك بقدرته الباهرة رحمة و تفضّلا، و أنّ في إبداعها نعما جليلة لا تحصى. و الخطاب فيها للرسول، أو لكلّ مخاطب.

و قوله: فَارْجِعِ الْبَصَرَ هَلْ تَرى مِنْ فُطُورٍ متعلّق ب «ما ترى» على معنى التسبيب، أي: قد نظرت إليها مرارا فانظر إليها مرّة اخرى متأمّلا فيها، لتعاين ما أخبرت به من تناسبها و استقامتها و استجماعها ما ينبغي لها. و الفطور: الشقوق و الصدوع، جمع فطر. و المراد الخلل، من: فطره إذا شقّه. و منه: فطر ناب البعير، كما يقال: شقّ.

ثُمَّ ارْجِعِ الْبَصَرَ كَرَّتَيْنِ أي: رجعتين أخريين في ارتياد الخلل، لأنّ من نظر في الشي ء كرّة بعد اخرى بان له ما لم يكن بائنا. و المراد بالتثنية التكرير و التكثير، كما في: لبّيك و سعديك. تريد إجابات كثيرة بعضها في أثر بعض. و لذلك أجاب الأمر بقوله: يَنْقَلِبْ

إِلَيْكَ الْبَصَرُ خاسِئاً بعيدا عن إصابة المطلوب و نيل المراد، كأنّه طرد عنه طردا بالصغار و التذلّل، كذلّة من طلب شيئا فلم يجده و أبعد عنه وَ هُوَ حَسِيرٌ كليل من طول المعاودة و كثرة المراجعة.

[سورة الملك (67): الآيات 5 الى 12]

وَ لَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا بِمَصابِيحَ وَ جَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ وَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ (5) وَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ (6) إِذا أُلْقُوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً وَ هِيَ تَفُورُ (7) تَكادُ تَمَيَّزُ مِنَ الْغَيْظِ كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ (8) قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا وَ قُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ إِنْ أَنْتُمْ إِلاَّ فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ (9)

وَ قالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ أَوْ نَعْقِلُ ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ (10) فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ (11) إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ لَهُمْ مَغْفِرَةٌ وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ (12)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 126

وَ لَقَدْ زَيَّنَّا السَّماءَ الدُّنْيا أقرب السماوات إلى الأرض بِمَصابِيحَ بكواكب مضيئة بالليل إضاءة السّرج فيه. و التنكير للتعظيم. و لا يمنع ذلك كون بعض الكواكب مركوزة في سماوات فوقها، إذ التزيين بإظهارها فيها.

وَ جَعَلْناها رُجُوماً لِلشَّياطِينِ و جعلنا لها فائدة اخرى، و هي رجم أعدائكم بانقضاض الشهب الّتي تنفصل من نار الكواكب، لا أنّهم يرجمون بالكواكب أنفسها، لأنّها قارّة في الفلك على حالها. و ما ذاك إلّا كقبس يؤخذ من نار، و النار ثابتة كاملة لا تنقص.

و قيل: معناه: و جعلناها رجوما و ظنونا لشياطين الإنس، و هم المنجّمون.

و الرجوم جمع رجم بالفتح. و هو مصدر سمّي به ما يرجم به.

وَ أَعْتَدْنا لَهُمْ عَذابَ السَّعِيرِ في الآخرة بعد الإحراق بالشهب في الدنيا.

وَ لِلَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ

من الشياطين و غيرهم عَذابُ جَهَنَّمَ وَ بِئْسَ الْمَصِيرُ وصفه ب «بئس» و هو من صفات الذمّ، و العقاب حسن، لما في ذلك من الضرر الّذي يجب على كلّ عاقل أن يتّقيه غاية الجهد.

إِذا أُلْقُوا طرحوا فِيها سَمِعُوا لَها شَهِيقاً صوتا فظيعا كصوت الحمير، فيعظم بسماع ذلك عذابهم، لما يرد على قلوبهم من هوله وَ هِيَ تَفُورُ تغلي بهم

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 127

غليان المرجل «1» بما فيه.

تَكادُ تَمَيَّزُ تتفرّق مِنَ الْغَيْظِ من شدّة غضبها عليهم. و هو تمثيل لشدّة اشتعالها بهم. و يجوز أن يراد غيظ الزبانية. كُلَّما أُلْقِيَ فِيها فَوْجٌ جماعة من الكفرة سَأَلَهُمْ خَزَنَتُها أي: قال لهم الملائكة الموكّلون بالنار على وجه التوبيخ و التبكيت: أَ لَمْ يَأْتِكُمْ نَذِيرٌ يخوّفكم بهذا العذاب.

قالُوا بَلى قَدْ جاءَنا نَذِيرٌ فَكَذَّبْنا و لم نقبل منهم وَ قُلْنا ما نَزَّلَ اللَّهُ مِنْ شَيْ ءٍ ممّا تدعوننا إليه و تحذّروننا منه إِنْ أَنْتُمْ إِلَّا فِي ضَلالٍ كَبِيرٍ فكذّبنا الرسل، و أفرطنا في التكذيب حتّى نفينا الإنزال و الإرسال رأسا، و بالغنا في نسبتهم إلى الضلال. فالنذير إمّا بمعنى الجمع، لأنّه فعيل. أو مصدر مقدّر بمضاف، أي: أهل إنذار. أو منعوت به للمبالغة. أو الواحد، و الخطاب له و لأمثاله على التغليب. أو إقامة تكذيب الواحد مقام تكذيب الكلّ. أو على أنّ المعنى: قالت الأفواج قد جاء إلى كلّ فوج منّا رسول من اللّه فكذّبناهم و ضلّلناهم.

و قيل: الخطاب من كلام الزبانية للكفّار على إرادة القول. فيكون الضلال ما كانوا عليه في الدنيا، أو المراد عقابه الّذي يكونون فيه في الآخرة. فأرادوا بالضلال الهلاك، أو سمّوا عقاب الضلال باسمه.

وَ قالُوا لَوْ كُنَّا نَسْمَعُ كلام الرسل فنقبله جملة من غير بحث

و تفتيش، اعتمادا على ما لاح من صدقهم بالمعجزات أَوْ نَعْقِلُ نتفكّر في حكمه و معانيه تفكّر المستبصرين ما كُنَّا فِي أَصْحابِ السَّعِيرِ في عدادهم و جملتهم.

فَاعْتَرَفُوا بِذَنْبِهِمْ حين لا ينفعهم. و الاعتراف إقرار عن معرفة. و الذنب لم يجمع، لأنّه في الأصل مصدر، أو المراد به الكفر.

فَسُحْقاً لِأَصْحابِ السَّعِيرِ فأسحقهم اللّه سحقا، أي: أبعدهم من رحمته.

______________________________

(1) المرجل: القدر.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 128

و تغليب أصحاب السعير على الكائنين فيهم حيث لم يقل: فسحقا لهم و لأصحاب السعير، للإيجاز و المبالغة و التعليل، لأنّه يشعر بأنّ الدعاء عليهم لكونهم من أصحاب السعير. و قرأ الكسائي بضمّ الحاء.

و لمّا بيّن الوعيد عقّبه بالوعد، فقال: إِنَّ الَّذِينَ يَخْشَوْنَ رَبَّهُمْ بِالْغَيْبِ يخافون عذابه غائبا عنهم لم يعاينوه بعد. أو غائبين عنه، أو عن أعين الناس. أو بالمخفي منهم، و هو قلوبهم. لَهُمْ مَغْفِرَةٌ لذنوبهم وَ أَجْرٌ كَبِيرٌ تصغر دونه لذائذ الدنيا.

[سورة الملك (67): الآيات 13 الى 14]

وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ (13) أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ وَ هُوَ اللَّطِيفُ الْخَبِيرُ (14)

روي: أنّ المشركين كانوا يتكلّمون فيما بينهم بأشياء، فيخبر اللّه به رسوله، فيقولون: أسرّوا قولكم لئلّا يسمعه إله محمّد، فنبّه اللّه على جهلهم بقوله:

وَ أَسِرُّوا قَوْلَكُمْ أَوِ اجْهَرُوا بِهِ ظاهره الأمر بأحد الأمرين: الإجهار و الإسرار. و معناه: ليستو عندكم إسراركم و إجهاركم في علم اللّه بهما. ثمّ علّله بقوله: إِنَّهُ عَلِيمٌ بِذاتِ الصُّدُورِ بالضمائر قبل أن تترجم الألسنة عنها، فكيف لا يعلم ما تكلّم به؟! ثمّ أنكر أن لا يحيط علما بالمضمر و المسرّ و المجهر بقوله: أَ لا يَعْلَمُ مَنْ خَلَقَ ألا يعلم السرّ و الجهر من أوجد الأشياء كلّها حسبما قدّرته حكمته وَ هُوَ اللَّطِيفُ

الْخَبِيرُ المتوصّل علمه إلى ما ظهر من خلقه و ما بطن. و يجوز أن يكون «من خلق» منصوبا بمعنى: ألا يعلم اللّه من خلقه و هو بهذه المثابة؟! و التقييد بهذه الحال يستدعي أن يكون ل «يعلم» مفعول ليفيد، لأنّك لو قلت: ألا يكون عالما من هو خالق و هو اللطيف الخبير، لم يكن معنى صحيحا، لأنّ «ألا يعلم» معتمد على

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 129

الحال، و الشي ء لا يوقّت بنفسه، فلا يقال: ألا يعلم و هو عالم، و لكن: ألا يعلم كذا و هو عالم بكلّ شي ء.

[سورة الملك (67): آية 15]

هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولاً فَامْشُوا فِي مَناكِبِها وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ وَ إِلَيْهِ النُّشُورُ (15)

ثمّ عدّد سبحانه أنواع نعمه ممتنّا على عباده بذلك، فقال: هُوَ الَّذِي جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ ذَلُولًا ليّنة يسهل لكم السلوك فيها فَامْشُوا فِي مَناكِبِها في جوانبها.

و هو مثل لفرط التذليل، فإنّ منكب البعير ينبو عن أن يطأه الراكب و لا يتذلّل، فإذا جعل الأرض في الذلّ بحيث يمشى في مناكبها، لم يبق شي ء لم يتذلّل.

و قيل: مناكبها جبالها. قال الزجّاج: معناه: سهّل لكم السلوك في جبالها، فإذا جعل الأرض في الذلّ بحيث يمشى في مناكبها، لم يبق شي ء لم يتذلّل.

و قيل: مناكبها جبالها. قال الزجّاج: معناه: سهّل لكم السلوك في جبالها، فإذا أمكنكم السلوك في جبالها، فهو أبلغ التذليل.

وَ كُلُوا مِنْ رِزْقِهِ ممّا أنبت اللّه في الأرض و الجبال من الزروع و الأشجار حلالا، و التمسوا من نعم اللّه تعالى فيها وَ إِلَيْهِ النُّشُورُ المرجع، فيسألكم عن شكر ما أنعم عليكم.

[سورة الملك (67): الآيات 16 الى 18]

أَ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فَإِذا هِيَ تَمُورُ (16) أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ (17) وَ لَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ (18)

ثمّ هدّد سبحانه الكفّار، زاجرا لهم عن ارتكاب معصيته و الجحود لربوبيّته، فقال:

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 130

أَ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ من ملكوته في السماء، لأنّها مسكن ملائكته، و ثمّ عرشه و كرسيّه و اللوح المحفوظ، و منها تنزل قضاياه و كتبه و أوامره و نواهيه. أو الملك الموكّل بعذاب العصاة. أو على زعم العرب، فإنّهم كانوا يعتقدون التشبيه، و أنّه في السماء، و أنّ الرحمة و العذاب ينزلان منه، و كانوا يدعونه

من جهتها، فقيل لهم على حسب اعتقادهم: ء أمنتم من تزعمون أنّه في السماء و هو متعال عن المكان؟! و عن ابن كثير برواية قنبل: و أمنتم، بقلب الهمزة الأولى واوا، لانضمام ما قبلها. و آمنتم، بقلب الثانية ألفا. و هو قراءة نافع برواية ورش و أبي عمرو و رويس.

أَنْ يَخْسِفَ بِكُمُ الْأَرْضَ فيغيّبكم فيها إذا عصيتموه، كما فعل بقارون. و هو بدل من بدل الاشتمال. فَإِذا هِيَ تَمُورُ تضطرب. و المور التردّد في المجي ء و الذهاب. و ذلك بأن يحرّك الأرض عند الخسف بهم، حتّى تضطرب فوقهم و هم يخسفون فيها، حتّى تلقيهم إلى أسفل.

أَمْ أَمِنْتُمْ مَنْ فِي السَّماءِ أَنْ يُرْسِلَ عَلَيْكُمْ حاصِباً أي: ريحا ذات حجر، كما أرسل على قوم لوط حجارة من السماء. أو سحابا يمطر عليكم الحصباء.

فَسَتَعْلَمُونَ كَيْفَ نَذِيرِ أي: إذا رأيتم المنذر به علمتم كيف إنذاري، و حينئذ لا ينفعكم العلم.

ثمّ سلّى رسوله، و هدّد قومه بقوله: وَ لَقَدْ كَذَّبَ الَّذِينَ مِنْ قَبْلِهِمْ فَكَيْفَ كانَ نَكِيرِ إنكاري عليهم بإنزال العذاب و استئصالهم.

[سورة الملك (67): الآيات 19 الى 22]

أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ وَ يَقْبِضْنَ ما يُمْسِكُهُنَّ إِلاَّ الرَّحْمنُ إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ بَصِيرٌ (19) أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ إِنِ الْكافِرُونَ إِلاَّ فِي غُرُورٍ (20) أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بَلْ لَجُّوا فِي عُتُوٍّ وَ نُفُورٍ (21) أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا عَلى وَجْهِهِ أَهْدى أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ (22)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 131

ثمّ نبّه سبحانه على قدرته على الخسف و إرسال الحجارة، فقال:

أَ وَ لَمْ يَرَوْا إِلَى الطَّيْرِ فَوْقَهُمْ صافَّاتٍ باسطات أجنحتهنّ في الجوّ عند طيرانها، فإنّهنّ إذا بسطنها صففن قوادمها وَ يَقْبِضْنَ و

يضممنها إذا ضربن بها جنوبهنّ وقتا بعد وقت، للاستظهار به على التحرّك. و لذلك عدل به إلى صيغة الفعل، للتفرقة بين الأصل في الطيران، و هو صفّ الأجنحة- لأنّ الطيران في الهواء كالسباحة في الماء، و الأصل في السباحة مدّ الأطراف و بسطها- و بين القبض الّذي هو طارى ء على البسط للاستعانة به على التحرّك، كما يكون من السابح.

ما يُمْسِكُهُنَ في الجوّ على خلاف الطبع إِلَّا الرَّحْمنُ الشامل رحمته كلّ شي ء، بأن خلقهنّ على أشكال و خصائص يتأتّى منها الجري في الهواء إِنَّهُ بِكُلِّ شَيْ ءٍ بَصِيرٌ يعلم كيف يخلق الغرائب و يدبّر العجائب.

أَمَّنْ هذَا الَّذِي هُوَ جُنْدٌ لَكُمْ يَنْصُرُكُمْ مِنْ دُونِ الرَّحْمنِ و هذا عديل لقوله:

«أَ وَ لَمْ يَرَوْا» على معنى: أو لم تنظروا في أمثال هذه الصنائع، فلم تعلموا قدرتنا على تعذيبهم بنحو خسف و إرسال حاصب؟ أم لكم هذا الّذي هو جند لكم ينصركم من دون اللّه إن أرسل عليكم عذابه؟ و يجوز أن تكون الإشارة إلى جميع الأوثان، لاعتقادهم أنّهم يحفظون من النوائب و يرزقون ببركة آلهتهم، فكأنّهم الجند الناصر

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 132

و الرازق. و نحوه قوله: أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا «1». إلّا أنّه أخرج مخرج الاستفهام عن تعيين من ينصرهم، إشعارا بأنّهم اعتقدوا هذا القسم.

و «من» مبتدأ، و «هذا» خبره، و «الّذي» بصلته صفته. و «ينصركم» وصف ل «جند» محمول على لفظه.

إِنِ الْكافِرُونَ إِلَّا فِي غُرُورٍ لا معتمد لهم.

أَمَّنْ هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ أم من يشار إليه و يقال: «هذَا الَّذِي يَرْزُقُكُمْ» إِنْ أَمْسَكَ رِزْقَهُ بإمساك المطر و سائر الأسباب المحصّلة للرزق بَلْ لَجُّوا تمادوا فِي عُتُوٍّ عناد وَ نُفُورٍ شراد عن الحقّ، لتنفّر طباعهم عنه.

أَ فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا

عَلى وَجْهِهِ أَهْدى يقال: كببته فأكبّ. و هو من الغرائب و الشواذّ. و نحوه: قشع اللّه السحاب فأقشع. و التحقيق أنّهما من باب: أنفض «2»، بمعنى: صار ذا كبّ و ذا قشع. و ليسا مطاوعي: كبّ، بل المطاوع لهما: انكبّ و انقشع. و معنى «مكبّا»: منكّسا رأسه إلى الأرض، فهو لا يبصر الطريق، و لا من يستقبله، و لا ينظر أمامه و لا يمينه و لا شماله، فيعثر كلّ ساعة، و يخرّ على وجهه، لو عورة طريقه، و اختلاف أجزائه انخفاضا و ارتفاعا. فحاله نقيض حال من يمشي سويّا، و لذلك قابله بقوله: أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا مستويا قائما، يبصر الطريق و جميع جهاته، فيضع قدمه سالما من العثار و الخرور عَلى صِراطٍ مُسْتَقِيمٍ مستوي الأجزاء و الجهة.

و قيل: يراد الأعمى الّذي لا يهتدي إلى الطريق فيعتسف «3»، فلا يزال ينكبّ على وجهه، و أنّه ليس كالرجل السويّ الصحيح البصر، الماشي في الطريق،

______________________________

(1) الأنبياء: 43.

(2) أنفض القوم: فني زادهم، و هلكت أموالهم.

(3) اعتسف الطريق: ركبه على غير هداية. و اعتسف عن الطريق: مال عنه و عدل.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 133

المهتدي له. و المراد تمثيل المشرك و الموحّد بالسالكين، و الدينين بالمسلكين.

و لعلّ الاكتفاء بما في الكبّ من الدلالة على حال المسلك بدون ذكر الطريق، للإشعار بأنّ ما عليه المشرك لا يستأهل أن يسمّى طريقا، كمشي المتعسّف في مكان متعاد «1» غير مستو.

و قيل: «فَمَنْ يَمْشِي مُكِبًّا» هو الّذي يحشر على وجهه إلى النار، و «أَمَّنْ يَمْشِي سَوِيًّا» الّذي يحشر على قدميه إلى الجنّة.

و عن قتادة: الكافر أكبّ على المعاصي، فحشره اللّه يوم القيامة على وجهه.

و عن الكلبي: عني به أبو جهل بن هشام، و بالسويّ رسول

اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قيل:

حمزة بن عبد المطّلب.

[سورة الملك (67): الآيات 23 الى 27]

قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ وَ الْأَبْصارَ وَ الْأَفْئِدَةَ قَلِيلاً ما تَشْكُرُونَ (23) قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ فِي الْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ (24) وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ (25) قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ عِنْدَ اللَّهِ وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ (26) فَلَمَّا رَأَوْهُ زُلْفَةً سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا وَ قِيلَ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ (27)

قُلْ هُوَ الَّذِي أَنْشَأَكُمْ بأن أخرجكم من العدم إلى الوجود وَ جَعَلَ لَكُمُ السَّمْعَ لتسمعوا المواعظ وَ الْأَبْصارَ لتنظروا صنائعه وَ الْأَفْئِدَةَ لتتفكّروا و تعتبروا قَلِيلًا ما تَشْكُرُونَ أي: تشكرون شكرا قليلا. أو في زمان قليل

______________________________

(1) تعادى المكان: تفاوت و لم يستو.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 134

تشكرون، باستعمالها فيما خلقت لأجلها. أو قليلا شكركم. فتكون «ما» مصدريّة.

قُلْ هُوَ الَّذِي ذَرَأَكُمْ خلقكم فِي الْأَرْضِ وَ إِلَيْهِ تُحْشَرُونَ منها للجزاء.

وَ يَقُولُونَ خاطبين للنبيّ و المؤمنين مَتى هذَا الْوَعْدُ أي: الحشر، أو ما و عدوا من الخسف و الحاصب إِنْ كُنْتُمْ صادِقِينَ في ذلك الوعد.

قُلْ إِنَّمَا الْعِلْمُ أي: علم وقته عِنْدَ اللَّهِ لا يطّلع عليه غيره وَ إِنَّما أَنَا نَذِيرٌ مُبِينٌ و الإنذار يكفي فيه العلم- بل الظنّ- بوقوع المحذّر منه.

ثمّ ذكر سبحانه حالهم عند نزول العذاب و معاينته فقال: فَلَمَّا رَأَوْهُ أي:

الوعد، فإنّه بمعنى الموعود زُلْفَةً ذا زلفة، أي: قريبا منهم سِيئَتْ وُجُوهُ الَّذِينَ كَفَرُوا ساءت الرؤية وجوههم، بأن علتها الكآبة، و غشيها الكسوف و القترة «1» و الاسوداد، كما يكون وجه من يقاد إلى القتل، أو يعرض على بعض العذاب وَ قِيلَ قيل: القائلون هم الزبانية هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تَدَّعُونَ تطلبون و

تستعجلون به. تفتعلون من الدعاء. أو تدّعون أن لا بعث. فهو من الدعوى.

و عن بعض الزهّاد: أنّه تلاها في أول الليل في صلاته، فبقي يكرّرها و هو يبكي إلى أن نودي لصلاة الفجر.

[سورة الملك (67): الآيات 28 الى 30]

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ وَ مَنْ مَعِيَ أَوْ رَحِمَنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ (28) قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ آمَنَّا بِهِ وَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْنا فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ (29) قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ (30)

______________________________

(1) القترة: الغبرة، أي: لون الغبار.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 135

روي: أنّ كفّار مكّة كانوا يدعون على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و على المؤمنين بالهلاك، فقال اللّه سبحانه: قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَهْلَكَنِيَ اللَّهُ أماتني وَ مَنْ مَعِيَ من المؤمنين أَوْ رَحِمَنا بتأخير آجالنا فَمَنْ يُجِيرُ الْكافِرِينَ مِنْ عَذابٍ أَلِيمٍ أي: لا ينجيهم أحد من العذاب. قيل: و هو جواب لقولهم: نَتَرَبَّصُ بِهِ رَيْبَ الْمَنُونِ «1».

و تنقيح المعنى: أنّ اللّه سبحانه أمر رسوله بأن يقول للكافرين: نحن مؤمنون متربّصون لإحدى الحسنيين: إمّا أن نهلك كما تتمنّون، فننقلب إلى الجنّة، أو نرحم بالنصرة و الإدالة «2» للإسلام كما نرجو، فمن يجيركم و أنتم كافرون من عذاب النار؟

يعني: أنتم تطلبون لنا الهلاك الّذي هو استعجال للفوز و السعادة، و أنتم في أمر هو الهلاك الّذي لا هلاك بعده، و أنتم غافلون لا تطلبون الخلاص منه.

أو المعنى: إن أهلكنا اللّه بالموت فمن يجيركم بعد موت هداتكم من النار؟ و إن رحمنا بالإمهال و الغلبة عليكم و قتلكم فمن يجيركم؟ فإنّ المقتول على أيدينا هالك. أو إن أهلكنا اللّه في الآخرة بذنوبنا و نحن مسلمون، فمن يجير الكافرين

و هم أولى بالهلاك لكفرهم؟ و إن رحمنا بالإيمان فمن يجير من لا إيمان له؟

قُلْ هُوَ الرَّحْمنُ الّذي أدعوكم إليه مولي النعم كلّها آمَنَّا بِهِ للعلم بذلك وَ عَلَيْهِ تَوَكَّلْنا للوثوق عليه، و العلم بأنّ غيره بالذات لا يضرّ و لا ينفع.

و تأخير صلة «آمنّا» و تقديم صلة «توكّلنا» لأجل أنّ وقوع «آمنّا» تعريض بالكافرين حين ورد عقيب ذكرهم، كأنّه قيل: آمنّا و لم نكفر كما كفرتم. ثم قال: و عليه توكّلنا خصوصا، لم نتّكل على ما أنتم متّكلون عليه من رجالكم و أموالكم.

______________________________

(1) الطور: 30.

(2) الإدالة: الغلبة.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 136

فَسَتَعْلَمُونَ مَنْ هُوَ فِي ضَلالٍ مُبِينٍ منّا و منكم. و قرأ الكسائي بالياء.

قُلْ أَ رَأَيْتُمْ إِنْ أَصْبَحَ ماؤُكُمْ غَوْراً غائرا في الأرض بحيث لا تناله الدلاء.

مصدر وصف به. فَمَنْ يَأْتِيكُمْ بِماءٍ مَعِينٍ جار، أو ظاهر سهل المأخذ. قيل: إنّها تليت عند محمد بن زكريّا المتطبّب فقال: تجي ء به الفؤوس و المعاول، فذهب ماء عينيه. نعوذ باللّه من الجرأة على اللّه و على آياته.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 137

(68) سورة القلم

اشارة

مكّيّة و هي اثنتان و خمسون آية.

أبيّ بن كعب قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «و من قرأ سورة ن وَ الْقَلَمِ أعطاه اللّه ثواب الّذين حسن أخلاقهم».

عليّ بن ميمون عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة «ن و القلم» في فريضة أو نافلة آمنه اللّه عزّ و جلّ من أن يصيبه في حياته فقر أبدا، و أعاذه إذا مات من ضمّة القبر إن شاء اللّه تعالى».

[سورة القلم (68): الآيات 1 الى 7]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

ن وَ الْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ (1) ما أَنْتَ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ (2) وَ إِنَّ لَكَ لَأَجْراً غَيْرَ مَمْنُونٍ (3) وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ (4)

فَسَتُبْصِرُ وَ يُبْصِرُونَ (5) بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ (6) إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ (7)

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة الملك بذكر تكذيب الكفّار و وعيدهم، افتتح هذه السورة بمثل ذلك، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ ن من أسماء الحروف. و يؤيّده سكونه و كتبته

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 138

بصورة الحرف. أو من أسماء السورة، مثل «حم» و «ص» و ما أشبه ذلك. و قد ذكرنا ذلك مع غيره من الأقوال في مفتتح سورة البقرة.

و قيل: اسم الحوت. و المراد به الجنس، أو البهموت، و هو الحوت الّذي عليه الأرضون.

و عن الحسن: هو الدواة، فإنّ بعض الحيتان يستخرج منه شي ء أشدّ سوادا من المداد يكتب به.

و

عن ابن عبّاس و مجاهد و مقاتل و السدّي مرفوعا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «هو لوح من نور».

و في رواية عن ابن عبّاس: هو حرف من حروف الرحمن.

و

عن أبي جعفر عليه السّلام: «هو نهر في الجنّة قال

اللّه له: كن مدادا فجمد، و كان أبيض من اللبن و أحلى من الشهد. ثمّ قال للقلم: اكتب، فكتب القلم ما كان و ما هو كائن إلى يوم القيامة».

و يؤيّده قوله عقيب ذلك:

وَ الْقَلَمِ هو الّذي خطّ به اللوح، أو الّذي يخطّ به في الدنيا. أقسم به لكثرة فوائده الّتي لا يحيط بها الوصف، إذ هو أحد لساني الإنسان، يؤدّي عنه ما في جنانه، و يبلغ البعيد عنه ما يبلغ القريب بلسانه، و به تحفظ أحكام الدين، و به تستقيم أمور العالمين.

و قد قيل: إنّ البيان بيانان: بيان اللسان، و بيان البنان. و بيان اللسان تدرسه «1» الأعوام، و بيان الأقلام باق على مرّ الأيّام.

و قيل: إنّ قوام أمور الدين و الدنيا بشيئين: القلم و السيف، و السيف تحت القلم.

______________________________

(1) أي: يمحوه مرور الأعوام.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 139

و أخفى ابن عامر و الكسائي و يعقوب النون إجراء للواو المنفصل مجرى المتّصل، فإنّ النون الساكنة تخفى مع حروف الفم إذا اتّصلت بها، و قد روي ذلك عن نافع و عاصم.

وَ ما يَسْطُرُونَ و ما يكتبون. و الضمير للقلم بالمعنى الأوّل على التعظيم، أو بالمعنى الثاني على إرادة الجنس. و إسناد الفعل إلى الآلة، و إجراؤه مجرى أولي العلم، لإقامته مقامهم. أو لأصحابه المقدّر، و «ما» موصولة أو مصدريّة، كأنّه قيل:

و أصحاب القلم و مسطوراتهم، أو و سطرهم. أو للملائكة الحفظة، أي: و ما تكتبه الملائكة ممّا يوحى إليهم، و ما يكتبونه من أعمال بني آدم.

و جواب القسم قوله: ما أَنْتَ مبتدأ بِنِعْمَةِ رَبِّكَ حال، و العامل فيها معنى النفي بِمَجْنُونٍ خبر المبتدأ. و حقيقة المعنى: انتفى عنك الجنون منعّما عليك بالنبوّة و حصافة «1» الرأي. و

نظير ذلك: ما أنت بمجنون بحمد اللّه.

و قيل: عامل الحال «مجنون»، و الباء لا تمنع عمله فيما قبله، لأنّها مزيدة.

و فيه نظر من حيث المعنى، لأنّه يقيّد نفي الجنون، و المقصود نفيه مطلقا.

و المراد استبعاد ما كان ينسبه إليه كفّار مكّة من الجنون عداوة و حسدا، و أنّه من إنعام اللّه عليه بحصافة العقل و الشهامة الّتي يقتضيها التأهيل للنبوّة بمعزل عنه.

وَ إِنَّ لَكَ لَأَجْراً على احتمال أعباء رسالتك و غصص تبليغك غَيْرَ مَمْنُونٍ مقطوع، كقوله: عَطاءً غَيْرَ مَجْذُوذٍ «2». أو غير ممنون به عليك، لأنّه ثواب تستوجبه على عملك، و ليس بتفضّل ابتداء، و إنّما تمنّ الفواضل لا الأجور على الأعمال. و قال ابن عبّاس: ليس من نبيّ إلّا و له مثل أجر من آمن به و دخل في دينه.

______________________________

(1) حصف حصافة: كان جيّد الرأي محكم العقل.

(2) هود: 108.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 140

وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ إذ تتحمّل من قومك ما لا يتحمّل أمثالك. و قيل:

هو الخلق الّذي أمره اللّه به في قوله: خُذِ الْعَفْوَ وَ أْمُرْ بِالْعُرْفِ وَ أَعْرِضْ عَنِ الْجاهِلِينَ «1».

و عن عائشة: أنّ سعيد بن هشام سألها عن خلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقالت:

كان خلقه القرآن، أ لست تقرأ القرآن قَدْ أَفْلَحَ الْمُؤْمِنُونَ «2». و قريب منه: أنّ معناه: إنّك متخلّق بأخلاق الإسلام، و متأدّب بآدابه.

و قيل: سمّي خلقه عظيما لاجتماع مكارم الأخلاق فيه. و يعضده ما

روي عنه أنّه قال: «إنّما بعثت لأتمّم مكارم الأخلاق».

و

قال: «أدّبني ربّي فأحسن تأديبي».

و

قال عليه السّلام: «إنّ المؤمن ليدرك بحسن خلقه درجة قائم الليل و صائم النهار».

و

عن أبي الدرداء قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما

شي ء أثقل في الميزان من خلق حسن».

و

عن الرضا عليّ بن موسى عليه السّلام عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «عليكم بحسن الخلق، فإنّ حسن الخلق في الجنّة لا محالة. و إيّاكم و سوء الخلق، فإنّ سوء الخلق في النار لا محالة».

فَسَتُبْصِرُ وَ يُبْصِرُونَ* بِأَيِّكُمُ الْمَفْتُونُ أيّكم الّذي فتن بالجنون. و الباء مزيدة. أو بأيّكم الجنون، على أنّ المفتون مصدر، كالمعقول و المجلود. أو بأيّ الفريقين منكم المجنون، أ بفريق المؤمنين؟ أم بفريق الكافرين؟ أي: في أيّهما يوجد من يستحقّ هذا الاسم. و هذا تعريض بأبي جهل بن هشام و الوليد بن المغيرة و أضرابهما. و هذا كقوله: سَيَعْلَمُونَ غَداً مَنِ الْكَذَّابُ الْأَشِرُ «3».

______________________________

(1) الأعراف: 199.

(2) المؤمنون: 1

(3) القمر: 6.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 141

إِنَّ رَبَّكَ هُوَ أَعْلَمُ بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ و هم المجانين على الحقيقة. و هم الذين ضلّوا عن سبيله. وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ الفائزين بكمال العقل، العاملين بموجبه. فيجازي كلّا بما يستحقّه و يستوجبه.

روي عن السيّد أبي الحمد مهدي بن نزار الحسيني القائني رحمه اللّه، قال: حدّثنا أبو القاسم عبيد اللّه بن عبد اللّه الحسكاني، قال: حدّثنا أبو عبد اللّه الشيرازي، قال:

حدّثنا أبو بكر الجرجرائي، قال: حدّثنا أبو أحمد البصري، قال: حدّثني عمرو بن محمد بن تركي، قال: حدّثنا محمد بن الفضل، قال: حدّثنا محمد بن شعيب، عن عمرو بن شمر، عن دلهم بن صالح، عن الضحّاك بن مزاحم، قال: لمّا رأت قريش تقديم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليّا عليه السّلام و إعظامه له نالوا من عليّ و قالوا: قد افتتن به محمد.

فأنزل اللّه تعالى: ن وَ الْقَلَمِ وَ ما يَسْطُرُونَ

قسم أقسم اللّه به.

ما أَنْتَ يا محمد بِنِعْمَةِ رَبِّكَ بِمَجْنُونٍ وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ يعني: القرآن. إلى قوله: بِمَنْ ضَلَّ عَنْ سَبِيلِهِ و هم النفر الّذين قالوا ما قالوا. وَ هُوَ أَعْلَمُ بِالْمُهْتَدِينَ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام» «1».

[سورة القلم (68): الآيات 8 الى 16]

فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ (8) وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ فَيُدْهِنُونَ (9) وَ لا تُطِعْ كُلَّ حَلاَّفٍ مَهِينٍ (10) هَمَّازٍ مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ (11) مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12)

عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ (13) أَنْ كانَ ذا مالٍ وَ بَنِينَ (14) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (15) سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ (16)

______________________________

(1) شواهد التنزيل 2: 359 ح 1006.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 142

ثمّ قال سبحانه لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تهييجا للتصميم على معاصاتهم: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ بتوحيد اللّه و بنبوّتك وَدُّوا لَوْ تُدْهِنُ لو تلين و تصانع، بأن تدع نهيهم عن الشرك، أو توافقهم فيه أحيانا فَيُدْهِنُونَ خبر مبتدأ محذوف، أي: فهم يدهنون، كقوله تعالى: فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً «1». و لهذا رفع و لم ينصب بإضمار «أن» ليكون جواب التمنّي.

و المعنى: فهم يلاينونك بترك الطعن و الموافقة. كما روي أنّهم كانوا أرادوه على أن يعبد اللّه مدّة و آلهتهم مدّة، و يكفّوا عنه غوائلهم.

و الفاء للعطف، أي: ودّوا التداهن و تمنّوه، لكنّهم أخّروا ادّهانهم حتّى تدهن.

أو للسببيّة، أي: ودّوا لو تدهن، فهم يدهنون حينئذ. أو ودّوا ادّهانك، فهم الآن يدهنون طمعا في ادّهانك.

وَ لا تُطِعْ كُلَّ حَلَّافٍ كثير الحلف في الحقّ و الباطل. و كفى به مزجرة لمن اعتاد الحلف. و مثله قوله تعالى: وَ لا تَجْعَلُوا اللَّهَ عُرْضَةً لِأَيْمانِكُمْ «2». مَهِينٍ حقير الرأي. من المهانة، و هي القلّة و الحقارة. يريد القلّة في الرأي

و التمييز. و عن ابن عبّاس: أي: كذّاب، لأنّ الكذّاب حقير عند الناس.

هَمَّازٍ عيّاب، طعّان. و عن الحسن: يلوي شدقيه في أقفية الناس.

مَشَّاءٍ بِنَمِيمٍ نقّال للحديث على وجه السعاية.

مَنَّاعٍ لِلْخَيْرِ يمنع الناس عن الخير، من الإيمان و الإنفاق و العمل الصالح مُعْتَدٍ متجاوز في الظلم أَثِيمٍ كثير الآثام.

عُتُلٍ جاف، غليظ، شديد الخصومة بالباطل. من: عتله إذا قاده بعنف و غلظة.

______________________________

(1) الجنّ: 13.

(2) البقرة: 224.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 143

بَعْدَ ذلِكَ بعد ما عدّ من المعائب و النقائص زَنِيمٍ دعيّ ملصق إلى قوم ليس منهم في النسب، أي: مولود على الزنا. من زنمتي الشاة، و هما المتدلّيتان من أذنها و حلقها، لأنّهما زائدتان. قال حسّان:

و أنت زنيم نيط في آل هاشم كما نيط خلف الراكب القدح الفرد «1»

فلمّا كان الدعيّ زائدا في القوم ليس منهم فهو معلّق بغيرهم.

و قيل: هو الوليد بن المغيرة المخزومي كان موسرا، و كان له عشرة من البنين، فكان يقول لهم و للحمته «2»: من أسلم منكم منعته رفدي. و كان دعيّا في قريش ليس من سنخهم، ادّعاه أبوه بعد ثمان عشرة من مولده. و قيل: بغت أمّه، و لم يعرف حتّى نزلت هذه الآية.

و اعلم أنّ اللّه سبحانه جعل جفاءه و دعوته أشدّ معايبه، لأنّه إذا جفا و غلظ طبعه قسا قلبه، و اجترأ على كلّ معصية. و النطفة إذا خبثت خبث الناشئ منها، و من ثمّ

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لا يدخل الجنّة ولد الزنا، و لا ولده، و لا ولد ولده».

و قيل: نزلت في الأخنس بن شريق، أصله من ثقيف، و عداده في زهرة.

أَنْ كانَ ذا مالٍ وَ بَنِينَ* إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ

أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أي: كذّب بآياتنا حينئذ، و نسبها إلى أحاديث الأوائل الّتي سطرت و كتبت لا أصل لها، لأنّه كان متموّلا مستظهرا بالمال و البنين من فرط غروره. و العامل في «أن كان» مدلول «قال» الّذي هو جواب «إذا»، و هو ما دلّت عليه الجملة من معنى التكذيب، لا نفسه، لأنّ ما بعد الشرط لا يعمل فيما قبله. و يجوز أن يكون علّة ل «لا تطع» أي: لا

______________________________

(1) لحسّان بن ثابت يخاطب الوليد بن المغيرة بأنّه زنيم، أي: معلّق في آل هاشم كزنمتي الشاة. فشبّهه بالزنمة و بالقدح المنفرد المعلّق خلف الراكب. انظر ديوان حسّان (طبعة دار صادر): 89.

(2) اللحمة: القرابة.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 144

تطع من هذه معايبه، لأن كان ذا مال و بنين، أي: ليساره و حظّه من الدنيا.

و قرأ ابن عامر و حمزة و يعقوب و أبو بكر: أ أن كان، على الاستفهام، غير أنّ ابن عامر برواية هشام جعل الهمزة الثانية بين بين، أي: أ لأن كان ذا مال كذّب، أو أ تطيعه لأن كان ذا مال.

سَنَسِمُهُ سنعلمه بالكيّ عَلَى الْخُرْطُومِ على الأنف. و قد أصاب أنف الوليد جراحة يوم بدر فبقي أثره.

و قيل: هو عبارة عن أن يذلّه غاية الإذلال، كقولهم: جدع أنفه و رغم أنفه، فإنّ الوجه أكرم موضع في الجسد، و الأنف أكرم موضع من الوجه، لتقدّمه له، و لذلك جعلوه مكان العزّ و الحميّة، و اشتقّوا منه الأنفة، و قالوا: الأنف في الأنف. فعبّر بالوسم على الخرطوم عن غاية الإذلال و الإهانة، لأنّ السمة على الوجه شين و إذلال، فكيف بها على أكرم موضع منه. و في إيثار الخرطوم على الأنف استخفاف به و استهانة.

و قيل: معناه: سنعلمه

يوم القيامة بعلامة مشوّهة يبين بها عن سائر الكفرة، كما عادى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عداوة بان بها عنهم.

و قيل: إنّ الخرطوم الخمر، سمّيت به لأنّها تطير في الخياشيم. فالمعنى:

سنحدّه على شربها. و هو تعسّف.

[سورة القلم (68): الآيات 17 الى 33]

إِنَّا بَلَوْناهُمْ كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ (17) وَ لا يَسْتَثْنُونَ (18) فَطافَ عَلَيْها طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَ هُمْ نائِمُونَ (19) فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ (20) فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ (21)

أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ (22) فَانْطَلَقُوا وَ هُمْ يَتَخافَتُونَ (23) أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (24) وَ غَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ (25) فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (26)

بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (27) قالَ أَوْسَطُهُمْ أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ (28) قالُوا سُبْحانَ رَبِّنا إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ (29) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ (30) قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ (31)

عَسى رَبُّنا أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ (32) كَذلِكَ الْعَذابُ وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ (33)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 145

إِنَّا بَلَوْناهُمْ بلونا أهل مكّة بالقحط و الجوع بدعوة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كَما بَلَوْنا أَصْحابَ الْجَنَّةِ يريد بستانا كان دون صنعاء بفرسخين، و كان لرجل صالح، و كان ينادي الفقراء وقت الصرام «1»، و يترك لهم ما أخطأه المنجل، و ألقته الريح، و ما بقي على البساط الّذي يبسط تحت النخلة، فيجتمع لهم شي ء كثير. فلمّا مات قال بنوه: إن فعلنا ما كان يفعل أبونا ضاق علينا الأمر، فحلفوا: ليصر منّها وقت الصباح خفية عن المساكين، كما قال:

إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّها مُصْبِحِينَ ليقطعنّها داخلين في الصباح مبكّرين وَ لا يَسْتَثْنُونَ و لا يقولون:

إن شاء اللّه. و إنّما سمّاه استثناء، و إنّما هو شرط، لأنّه يؤدّي مؤدّى الاستثناء، من حيث إنّ معنى قولك: لأخرجنّ إن شاء اللّه، و لا أخرج إلّا أن يشاء اللّه، واحد. و لما فيه من الإخراج، غير أنّ المخرج به خلاف المذكور،

______________________________

(1) أي: القطع.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 146

و المخرج بالاستثناء عينه.

فَطافَ عَلَيْها على الجنّة طائِفٌ مِنْ رَبِّكَ مبتدأ منه وَ هُمْ نائِمُونَ فَأَصْبَحَتْ كَالصَّرِيمِ كالبستان الّذي صرم ثماره، أي: المقطوع بحيث لم يبق فيه شي ء. فعيل بمعنى مفعول.

و قيل: الصريم اسم الليل و النهار. سمّيا به لأنّ كلّا منهما ينصرم عن صاحبه.

فالمعنى: كالليل باحتراقها و اسودادها، أي: احترقت فاسودّت. أو كالنهار بابيضاضها من فرط اليبس، أي: يبست و ذهبت خضرتها، و لم يبق منها شي ء. من قولهم: بيّض الإناء إذا فرّغه. و قيل: الصريم الرمال. سمّيت به لانقطاعها.

فَتَنادَوْا مُصْبِحِينَ أي: نادى بعضهم بعضا حال كونهم داخلين في الصباح أَنِ اغْدُوا عَلى حَرْثِكُمْ أي: اخرجوا، أو بأن اخرجوا إليه غدوة. و تعدية الفعل ب «على» إمّا لتضمّنه معنى الإقبال، كقولهم: يغدى عليه بالجفنة و يراح، أي: فأقبلوا على حرثكم باكرين. أو لتشبيه الغدوّ للصرام بغدوّ العدوّ المتضمّن لمعنى الاستيلاء، كما يقال: غدا عليهم العدوّ. إِنْ كُنْتُمْ صارِمِينَ قاطعين له.

فَانْطَلَقُوا وَ هُمْ يَتَخافَتُونَ يتشاورون فيما بينهم. و خفت و خفي و خفد بمعنى الكتم. و منه: الخفدود للخفّاش. أَنْ لا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ «أن» مفسّرة. و المراد بنهي المسكين عن الدخول المبالغة في النهي عن تمكينه من الدخول، أي: لا تمكّنوه من الدخول حتّى يدخل، كقولك: لا أرينّك هاهنا.

وَ غَدَوْا عَلى حَرْدٍ قادِرِينَ و خرجوا غدوة قادرين على نكد- أي: على منع الخير- لا غير،

عاجزين عن النفع. من: حاردت السنة، إذا لم يكن فيها مطر.

و حاردت الإبل، إذا منعت درّها.

و المعنى: أنّهم عزموا أن يتنكّدوا على المساكين و يحرموهم و هم قادرون على نفعهم، فغدوا بحال فقر و ذهاب مال لا يقدرون فيها إلّا على النكد و الحرمان.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 147

و ذلك أنّهم طلبوا حرمان المساكين، فتعجّلوا الحرمان و المسكنة. أو و غدوا على محاردة جنّتهم و ذهاب خيرها قادرين على إصابة خيرها و منافعها، أي: غدوا حاصلين على الحرمان مكان الانتفاع. أو لمّا قالوا: اغدوا على حرثكم و قد خبثت نيّتهم عاقبهم اللّه تعالى، بأن حاردت جنّتهم و حرموا خيرها، فلم يغدوا على حرث، و إنّما غدوا على حرد.

و «قادرين» على عكس الكلام للتهكّم، أي: قادرين على ما عزموا عليه من الصرام و حرمان المساكين. و على هذا «على حرد» ليس بصلة «قادرين».

و قيل: الحرد بمعنى الحرد، أي: لم يقدروا إلّا على حنق و غضب بعضهم على بعض، كقوله: يَتَلاوَمُونَ «1».

و قيل: الحرد القصر و السرعة. يقال: حردت حردك. قال:

أقبل سيل جاء من أمر اللّه يحرد حرد الجنّة المغلّة «2»

يعني: و غدوا قاصدين إلى جنّتهم بسرعة و نشاط، قادرين عند أنفسهم، يقولون: نحن نقدر على صرامها و زيّ «3» منفعتها عن المساكين.

و قيل: حرد علم للجنّة، أي: غدوا على تلك الجنّة قادرين على صرامها عند أنفسهم، أو مقدّرين أن يتمّ لهم مرادهم. من الصرام و الحرمان. كلّ ذلك نقلت عن الكشّاف «4».

فَلَمَّا رَأَوْها قالُوا في بديهة وصولهم إِنَّا لَضَالُّونَ طريق جنّتنا، و ما هي بها بَلْ نَحْنُ أي: بعد ما تأمّلوا و عرفوا أنّها هي مَحْرُومُونَ حرمنا

______________________________

(1) القلم: 30.

(2) يصف الشاعر سيلا بالكثرة. يقول: جاء سيل من

عند اللّه، يسرع إسراع الجنّة المغلّة، أي:

كثيرة الغلّة و الخير. و إسراع الجنّة- أي: البستان-: ظهور خيرها في زمن يسير.

(3) زوى يزوي زيّا الشي ء: منعه.

(4) الكشّاف 4: 590- 591.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 148

خيرها، لجنايتنا على أنفسنا.

قالَ أَوْسَطُهُمْ أعدلهم رأيا و خيرهم. من قولهم: هو من سطة خيار قومه، و أعطني من سطات مالك. و منه. قوله تعالى: أُمَّةً وَسَطاً «1». و قيل: أوسطهم سنّا. أَ لَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْ لا تُسَبِّحُونَ لو لا تذكرون اللّه و تتوبون إليه من خبث نيّتكم.

و قد روي: أنّه قال أوسطهم حين عزموا على ذلك: اذكروا اللّه و انتقامه من المجرمين، و توبوا عن هذه العزيمة الخبيثة من فوركم، و سارعوا إلى حسم شرّها قبل حلول النقمة. فعصوه، فعيّرهم. و الدليل عليه قوله: قالُوا اعترافا بظلمهم في منع المعروف سُبْحانَ رَبِّنا نزّهناه عن الظلم، فلم يفعل بنا ما فعله ظلما إِنَّا كُنَّا ظالِمِينَ فتكلّموا بما كان يدعوهم إلى التكلّم به على أثر مقارفة الخطيئة، و لكن بعد خراب البصرة.

و قيل: المراد بالتسبيح الاستثناء، لتشاركهما في معنى التعظيم للّه، لأنّ الاستثناء تفويض إليه، و التسبيح تنزيه له، و كلّ واحد من التفويض و التنزيه تعظيم.

و عن الحسن: هو الصلاة. كأنّهم كانوا يتوانون في الصلاة، و إلّا لنهتهم عن الفحشاء و المنكر، و لكانت لهم لطفا في أن يستثنوا و لا يحرموا.

فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلى بَعْضٍ يَتَلاوَمُونَ يلوم بعضهم بعضا، فإنّ منهم من أشار بذلك، و منهم من استصوبه، و منهم من سكت راضيا، و منهم من أنكره.

قالُوا يا وَيْلَنا إِنَّا كُنَّا طاغِينَ متجاوزين حدود اللّه. و الويل: المكروه الشديد الشاقّ على النفس.

فتابوا و ندموا و رجعوا إلى اللّه، ثمّ قالوا: عَسى رَبُّنا

أَنْ يُبْدِلَنا خَيْراً مِنْها لعلّ اللّه يخلّف علينا، و يولينا خيرا من الجنّة الّتي هلكت ببركة التوبة و الاعتراف بالخطيئة. و قد روي: أنّهم لمّا تابوا ابدلوا خيرا منها. و عن ابن مسعود: بلغني أنّهم أخلصوا و عرف اللّه منهم الصدق، فأبدلهم بها جنّة يقال لها: الحيوان، فيها عنب

______________________________

(1) البقرة: 143.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 149

يحمل البغل منه عنقودا.

إِنَّا إِلى رَبِّنا راغِبُونَ راجون العفو، طالبون منه الخير. و «إلى» لانتهاء الرغبة، أو لتضمّنها معنى الرجوع.

كَذلِكَ الْعَذابُ مثل ذلك العذاب الّذي بلونا به أهل مكّة و أصحاب الجنّة العذاب في الدنيا وَ لَعَذابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ أشدّ و أعظم منه لَوْ كانُوا يَعْلَمُونَ لاحترزوا عمّا يؤدّيهم إلى العذاب.

[سورة القلم (68): الآيات 34 الى 45]

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتِ النَّعِيمِ (34) أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ (35) ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ (36) أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ (37) إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ (38)

أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا بالِغَةٌ إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ (39) سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ زَعِيمٌ (40) أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ (41) يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ وَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ فَلا يَسْتَطِيعُونَ (42) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ وَ قَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ وَ هُمْ سالِمُونَ (43)

فَذَرْنِي وَ مَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ سَنَسْتَدْرِجُهُمْ مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ (44) وَ أُمْلِي لَهُمْ إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ (45)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 150

زبدة التفاسير ج 7 199

و لمّا ذكر سبحانه ما أعدّه في الآخرة للكافرين، عقّبه بذكر ما وعده للمتّقين، فقال:

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ عِنْدَ رَبِّهِمْ أي: في الآخرة، أو في جوار القدس جَنَّاتِ النَّعِيمِ جنّات ليس فيها إلّا التنعّم الخالص.

روي: أنّ المجرمين كانوا يقولون: إن صحّ أنّا نبعث كما يزعم

محمّد و من معه لم يفضلونا، بل نكون أحسن حالا منهم كما نحن عليه في الدنيا. فأنكر اللّه تعالى ذلك عليهم بقوله: أَ فَنَجْعَلُ الْمُسْلِمِينَ كَالْمُجْرِمِينَ أي: لا نجعل المسلمين كالمشركين في الجزاء و الثواب.

ما لَكُمْ كَيْفَ تَحْكُمُونَ التفات فيه تعجّب من حكمهم، و تهجين و توبيخ لهم، و استبعاد له، و إشعار بأنّ هذا من اختلال فكرهم و اعوجاج رأيهم. و معناه: أيّ شي ء يحملكم على تفضيل الكفّار حتّى صار سببا لإصراركم على الكفر؟ و لا يحسن في الحكمة التسوية بين الأولياء و الأعداء في دار الجزاء، فضلا عن تفضيل الأعداء على الأولياء.

أَمْ لَكُمْ كِتابٌ من السماء فِيهِ تَدْرُسُونَ تقرءون. إِنَّ لَكُمْ فِيهِ لَما تَخَيَّرُونَ إنّ لكم ما تختارونه و تشتهونه. يقال: تخيّر الشي ء و اختاره، أخذ خيره.

و نحوه: تنخّله و انتخله «1» إذا أخذ من خوله. و أصل الكلام: تدرسون أنّ لكم ما تتخيّرون، بفتح «أنّ» لأنّه المدروس، فلمّا جي ء باللام كسرت. و يجوز أن يكون حكاية للمدروس، كقوله: وَ تَرَكْنا عَلَيْهِ فِي الْآخِرِينَ* سَلامٌ عَلى نُوحٍ «2» أو استئنافا.

أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا عهود مؤكّدة بالأيمان بالِغَةٌ متناهية في التوكيد.

______________________________

(1) تنخّل و انتخل الشي ء: صفّاه و اختاره و أخذ أفضله.

(2) الصافّات: 78- 79.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 151

يقال: لفلان عليّ يمين بكذا، إذا ضمنته منه و حلفت له على الوفاء به. يعني: أم ضمنّا منكم و أقسمنا لكم بأيمان مغلّظة متناهية في التوكيد.

إِلى يَوْمِ الْقِيامَةِ متعلّق بالمقدّر في «لكم» أي: ثابتة لكم علينا إلى يوم القيامة، لا نخرج عن عهدتها حتّى نحكّمكم في ذلك اليوم و أعطيناكم ما تحكمون.

أو ب «بالغة» أي: أيمان تبلغ ذلك اليوم و تنتهي إليه، وافرة لم تبطل منها يمين

إلى أن يحصل المقسم عليه من التحكيم.

فقوله: إِنَّ لَكُمْ لَما تَحْكُمُونَ جواب القسم، لأنّ معنى «أَمْ لَكُمْ أَيْمانٌ عَلَيْنا»: أم أقسمنا لكم.

ثمّ قال لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلزاما للكفرة بما قالوه:

سَلْهُمْ أَيُّهُمْ بِذلِكَ الحكم زَعِيمٌ أي: قائم به و بالاحتجاج لصحّته، كما يقوم الزعيم المتكلّم عن القوم المتكفّل بأمورهم.

أَمْ لَهُمْ شُرَكاءُ ناس يشاركونهم في هذا القول، و يوافقونهم عليه، و يذهبون مذهبهم فيه فَلْيَأْتُوا بِشُرَكائِهِمْ إِنْ كانُوا صادِقِينَ في دعواهم. يعني: أن أحدا لا يسلّم لهم هذا، و لا يساعدهم عليه، كما أنّه لا كتاب لهم ينطق به، و لا عهد لهم به عند اللّه، و لا زعيم لهم يقوم به.

و قد نبّه سبحانه في هذه الآيات على نفي جميع ما يمكن أن يتشبّثوا به من عقل أو نقل يدلّ عليه، لاستحقاق أو وعد أو محض تقليد على الترتيب، تنبيها على مراتب النظر، و تزييفا لما لا سند له.

و قيل: المعنى: أم لهم شركاء- يعني: الأصنام- يجعلونهم مثل المؤمنين في الآخرة؟ كأنّه لمّا نفى أن تكون التسوية من اللّه، نفى بهذا أن تكون ممّا يشركون اللّه به.

يَوْمَ يُكْشَفُ عَنْ ساقٍ ناصب الظرف «فليأتوا». أو إضمار: اذكر. أو

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 152

التقدير: يوم يكشف عن ساق كان كيت و كيت، فحذف للتهويل البليغ. و المعنى:

يوم يشتدّ الأمر و يصعب الخطب، فإنّ كشف الساق مثل في ظهور اشتداد الأمر و صعوبة الخطب. و أصله: تشمير المخدّرات عن سوقهنّ «1» في الهرب. و تشمير الرجل إذا وقع في أمر عظيم يحتاج إلى الجدّ فيه، فيشمّر عن ساقه. قال حاتم:

أخو الحرب إن عضّت به الحرب عضّهاو إن شمّرت عن ساقها الحرب شمّرا

فاستعير عن الساق

في موضع الشدّة من غير كشف الساق حقيقة، كما تقول للأقطع الشحيح: يده مغلولة، و لا يد ثمّ و لا غلّ، و إنّما هو مثل في البخل.

و أمّا من شبّه فلقلّة نظره في علم البيان. و الّذي غرّه حديث ابن مسعود:

«يكشف الرحمن عن ساقه، فأمّا المؤمنون فيخرّون سجّدا، و أمّا المنافقون فتكون ظهورهم طبقا طبقا، كأنّ فيها سفافيد» «2». و معناه: يشتدّ أمر الرحمان و يتفاقم هوله، و هو الفزع الأكبر يوم القيامة. و ليس معنى حديثه على ظاهره، لأنّ هذا موافق لمذهب المشبّهة الّذين كانوا من أعاظم الكفّار و الملاحدة. و أيضا على هذا الوجه الظاهر من حقّ الساق أن تعرّف، لأنّها ساق مخصوصة معهودة عنده، و هي ساق الرحمن.

أو معنى الآية: يوم يكشف عن أصل الأمر و حقيقته بحيث يصير عيانا.

مستعار من ساق الشجر و ساق الإنسان. و تنكيره للتهويل أو للتعظيم. كأنّه قيل:

يشتدّ الخطب يوم يقع أمر فظيع هائل و شدّة عظيمة.

وَ يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ أي: يقال لهم: اسجدوا على وجه التوبيخ على تركهم السجود في الدنيا إن كان اليوم يوم القيامة، أو يدعون إلى الصلوات إن كان وقت النزع فَلا يَسْتَطِيعُونَ لذهاب وقته، أو زوال القدرة عليه.

______________________________

(1) جمع: ساق.

(2) سفافيد جمع سفّود، و هي: حديدة يشوى عليها اللحم.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 153

و قيل: معناه: أنّ شدّة الأمر و صعوبة حال ذلك اليوم تدعوهم إلى السجود، و إن كانوا لا ينتفعون به، و ليس أنّهم يؤمرون به. و هذا كما يفزع الإنسان إلى السجود إذا أصابه هول من أهوال الدنيا.

و عن ابن مسعود: تعقم أصلابهم، أي: تردّ عظاما بلا مفاصل، لا تنثني عند الرفع و الخفض، فلا يستطيعون السجود. و

في الحديث: «تبقى

أصلابهم طبقا واحدا»

أي: فقارة واحدة.

خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ تلحقهم ذلّة. ثمّ علّل ذلك بقوله: وَ قَدْ كانُوا يُدْعَوْنَ إِلَى السُّجُودِ في الدنيا، أو زمان الصحّة وَ هُمْ سالِمُونَ سالموا الأصلاب و المفاصل، متمكّنون منه، مزاحوا العلل فيه. يعني: أنّهم كانوا يؤمرون بالصلاة في الدنيا فلم يفعلوا.

و

روي عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام أنّهما قالا: «في هذه الآية أفحم القوم، و دخلتهم الهيبة، و شخصت الأبصار، و بلغت القلوب الحناجر، لما رهقهم من الندامة و الخزي و المذلّة، و قد كانوا يدعون إلى السجود و هم سالمون، أي: يستطيعون الأخذ بما أمروا به، و الترك لما نهوا عنه، و لذلك ابتلوا».

ثمّ قال تسلية لرسوله و تهديدا للمكذّبين: فَذَرْنِي وَ مَنْ يُكَذِّبُ بِهذَا الْحَدِيثِ كله إليّ، فإنّي أكفيكه. و المعنى: حسبي مجازيا لمن يكذّب بالقرآن، فلا تشغل قلبك بشأنه، و توكّل عليّ في الانتقام منه. سَنَسْتَدْرِجُهُمْ سندينهم من العذاب درجة درجة، بالإمهال و إدامة الصحّة و ازدياد النعمة، فإنّ استدراج اللّه العصاة أن يرزقهم الصحّة و النعمة، فيجعلوا رزق اللّه ذريعة إلى ازدياد الكفر و المعاصي، ثمّ يجزيهم مِنْ حَيْثُ لا يَعْلَمُونَ من الجهة الّتي لا يشعرون أنّه استدراج، و هو الإنعام عليهم، لأنّهم حسبوه تفضيلا لهم على المؤمنين، و هو سبب لهلاكهم.

وَ أُمْلِي لَهُمْ أمهلهم ليزدادوا إثما. و لا شبهة أنّ الصحّة و الرزق و المدّ في

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 154

العمر إحسان من اللّه و إفضال، يوجب عليهم الشكر و الطاعة، و لكنّهم يجعلونه سببا في الكفر باختيارهم، فلمّا تدرّجوا به إلى الهلاك وصف المنعم بالاستدراج. إِنَّ كَيْدِي مَتِينٌ لا يدفع بشي ء. و سمّي إنعامه و تمكينه كيدا، كما سمّاه استدراجا، لأنّه

في صورة الكيد، حيث كان سببا للتورّط في الهلكة.

و

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «إذا أحدث العبد ذنبا جدّد له نعمة، فيدع الاستغفار، فهو الاستدراج».

[سورة القلم (68): الآيات 46 الى 50]

أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ مُثْقَلُونَ (46) أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ فَهُمْ يَكْتُبُونَ (47) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ إِذْ نادى وَ هُوَ مَكْظُومٌ (48) لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لَنُبِذَ بِالْعَراءِ وَ هُوَ مَذْمُومٌ (49) فَاجْتَباهُ رَبُّهُ فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ (50)

ثمّ خاطب سبحانه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال على وجه التوبيخ للكفّار، عطفا على قوله: «أَمْ لَكُمْ كِتابٌ فِيهِ تَدْرُسُونَ».

أَمْ تَسْئَلُهُمْ أَجْراً على الإرشاد فَهُمْ مِنْ مَغْرَمٍ من غرامة مُثْقَلُونَ بحملها، فيعرضون عنك.

أَمْ عِنْدَهُمُ الْغَيْبُ اللوح، أو المغيّبات فَهُمْ يَكْتُبُونَ منه ما يحكمون به، و يستغنون به عن علمك، أي: لم تطلب منهم على الهداية و التعليم أجرا، فيثقل عليهم حمل الغرامات في أموالهم، فيثبّطهم ذلك عن الإيمان.

و لمّا كان عدم انقيادهم لك لا يكون إلّا لفرط عنادهم و توغّلهم في مكابرتهم و لجاجهم فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ و هو إمهالهم، و تأخير نصرتك عليهم وَ لا تَكُنْ كَصاحِبِ الْحُوتِ يعني: يونس عليه السّلام في استعجال عقاب قومه إِذْ نادى ربّه في

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 155

بطن الحوت، و هو قوله: لا إِلهَ إِلَّا أَنْتَ سُبْحانَكَ إِنِّي كُنْتُ مِنَ الظَّالِمِينَ «1». وَ هُوَ مَكْظُومٌ مملوء غيظا. من: كظم السقاء إذا ملأه. و المعنى: لا يوجد منك ما وجد منه من الضجر و المغاضبة، فتبتلي ببلائه.

لَوْ لا أَنْ تَدارَكَهُ نِعْمَةٌ مِنْ رَبِّهِ لو لا أن أدركته رحمة من ربّه، من إجابة دعائه، و قبول توبته عن ترك الأولى، و تخليصه

من بطن الحوت. و حسن تذكير الفعل للفصل. لَنُبِذَ بِالْعَراءِ بالأرض العارية الخالية عن الأشجار وَ هُوَ مَذْمُومٌ مليم مطرود عن الرحمة و الكرامة. و هو حال يعتمد عليها الجواب، لأنّها المنفيّة دون النبذ، لأنّه كان واقعا. و لو كان بغير اعتماد لكان النبذ منفيّا، لكنّه واقع.

يعني: أنّ حاله كانت على خلاف الذمّ حين نبذ بالعراء، و لو لا توبته لكانت حاله على الذمّ.

فَاجْتَباهُ رَبُّهُ بأن جمعه إليه، و قرّبه بالتوبة عليه، كما قال: ثُمَّ اجْتَباهُ رَبُّهُ فَتابَ عَلَيْهِ وَ هَدى «2». أو بأن ردّ الوحي إليه. أو استنبأه إن صحّ أنّه لم يكن نبيّا قبل هذه الواقعة. فَجَعَلَهُ مِنَ الصَّالِحِينَ من الكاملين في الصلاح، بأن عصمه من أن يفعل ما تركه أولى. أو من الأنبياء. و الآية نزلت حين همّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يدعو على ثقيف. و قيل: بأحد حين حلّ به ما حلّ، فأراد أن يدعو على المنهزمين.

[سورة القلم (68): الآيات 51 الى 52]

وَ إِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ وَ يَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ (51) وَ ما هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (52)

و روي: أنّه كان في بني أسد عيّانون «3»، فأراد بعضهم أن يعين رسول اللّه، و كان الرجل منهم يتجوّع ثلاثة أيّام، فلا يمرّ به شي ء فيقول فيه: لم أر كاليوم مثله

______________________________

(1) الأنبياء: 87.

(2) طه: 122.

(3) العيّان: الشديد الإصابة بالعين.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 156

إلّا عانه و صرعه. فأراد بعض العيّانين على أن يقول في رسول اللّه بمثل هذا القول، فقال له حين قراءته: لم أر كاليوم رجلا مثله، فعصمه اللّه. فنزلت:

وَ إِنْ يَكادُ الَّذِينَ كَفَرُوا لَيُزْلِقُونَكَ بِأَبْصارِهِمْ بأن يصيبوك بالعين. «و إن» هي المخفّفة، و اللام

دليلها. و

في الحديث: «إنّ العين لتدخل الرجل القبر، و الجمل القدر».

و يكون ذلك من خصائص بعض النفوس، فإنّه غير ممتنع أن يكون اللّه تعالى أجرى العادة بصحّة ذلك لضرب من المصلحة، و عليه إجماع المفسّرين، و جوّزه العقلاء، فلا مانع منه.

و

جاء في الخبر: «أنّ أسماء بنت عميس قالت: يا رسول اللّه إن بني جعفر تصيبهم العين أ فأسترقي لهم؟ قال: نعم، فلو كان شي ء يسبق القدر لسبقه العين».

و عن الحسن: دواء الإصابة بالعين أن تقرأ هذه الآية.

و قرأ نافع: ليزلقونك. من: زلقته فزلق، كحزنته فحزن.

لَمَّا سَمِعُوا الذِّكْرَ أي: القرآن. و عن الزجّاج: معنى الآية: أنّهم من شدّة تحديقهم و حدّة نظرهم إليك شزرا «1» بعيون العداوة و البغضاء، بحيث يكادون يزلّون قدمك، أو يهلكونك عند تلاوة القرآن و الدعاء إلى التوحيد، حسدا على ما أوتيت من النبوّة و الكتاب. من قولهم: نظر إليّ نظرا يكاد يصرعني و يكاد يأكلني، أي: لو أمكنه بنظره الصرع و الأكل لفعله. وَ يَقُولُونَ إِنَّهُ لَمَجْنُونٌ حيرة في أمره و تنفيرا عنه، و إلّا فقد علموا أنّه أعقلهم.

و لمّا نسبوا الجنون إليه لأجل القرآن، بيّن أنّه ذكر عامّ، لا يدركه و لا يتعاطاه إلّا من كان أكمل الناس عقلا و أمتنهم رأيا، فقال: وَ ما هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ ذكر عامّ و موعظة تامّة، فكيف يجنّن من جاء بمثله؟!

______________________________

(1) شزر الرجل و إليه: نظر إليه بجانب عينه مع إعراض أو غضب.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 157

(69) سورة الحاقّة

اشارة

مكّيّة. و هي إحدى و خمسون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «و من قرأ سورة الحاقّة حاسبه اللّه حسابا يسيرا».

و

روى جابر الجعفي عن أبي جعفر عليه السّلام

قال: «أكثروا من قراءة الحاقّة، فإنّ قراءتها في الفرائض من الإيمان باللّه و رسوله، و لم يسلب قارئها دينه حتّى يلقى اللّه».

[سورة الحاقة (69): الآيات 1 الى 10]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْحَاقَّةُ (1) مَا الْحَاقَّةُ (2) وَ ما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ (3) كَذَّبَتْ ثَمُودُ وَ عادٌ بِالْقارِعَةِ (4)

فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ (5) وَ أَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ (6) سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سَبْعَ لَيالٍ وَ ثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً فَتَرَى الْقَوْمَ فِيها صَرْعى كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ خاوِيَةٍ (7) فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ (8) وَ جاءَ فِرْعَوْنُ وَ مَنْ قَبْلَهُ وَ الْمُؤْتَفِكاتُ بِالْخاطِئَةِ (9)

فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً (10)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 158

و لمّا ذكر في آخر سورة القلم حديث القيامة و وعيد الكفّار، افتتح هذه السورة بذكر القيامة أيضا و أحوال أهل النار، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ الْحَاقَّةُ أي: الساعة. أو الحالة الّتي يحقّ وقوعها، و يجب مجيئها. أو الّتي تقع فيها حواقّ الأمور، من الحساب و الثواب و العقاب. أو الّتي تحقّ فيها الأمور، أي: تعرف على الحقيقة. من قولك: لا أحقّ هذا، أي: لا أعرف حقيقته. جعل الفعل لها. و هو لأهلها، على الإسناد المجازي. و هي مبتدأ خبرها مَا الْحَاقَّةُ و أصله: ما هي؟ أي: أيّ شي ء هي؟ على التعظيم لشأنها و التهويل لها. فوضع الظاهر موضع المضمر، لأنّه أهول لها.

ثمّ زاد في تهويلها، فقال: وَ ما أَدْراكَ مَا الْحَاقَّةُ أي: أيّ شي ء أعلمك ما هي؟ أي: أنّك لا تعلم كنهها، فإنّها أعظم من أن تبلغها دراية أحد. و «ما» مبتدأ و خبره «أدراك»، معلّق عنه لتضمّنه معنى الاستفهام. قال الثوري: يقال للمعلوم: و ما أدريك، و لما ليس بمعلوم: و ما يدريك، في جميع القرآن.

و إنّما قال لمن يعلمها:

و ما أدراك، لأنّه إنّما يعلمها بالصفة.

و لمّا ذكرها و فخّمها أتبع ذلك ذكر من كذّب بها، و ما حلّ بهم بسبب التكذيب، تذكيرا لأهل مكّة، و تخويفا لهم من عاقبة تكذيبهم، فقال:

كَذَّبَتْ ثَمُودُ قوم صالح وَ عادٌ قوم هود بِالْقارِعَةِ بالحالة الّتي تقرع الناس بالأفزاع و الأهوال، و الأجرام و السماء بالانفطار و الانشقاق، و الأرض و الجبال بالدكّ و النسف، و النجوم بالطمس و الانكدار. و وضعت موضع الضمير لتدلّ على معنى القرع في الحاقّة زيادة في وصف شدّتها.

فَأَمَّا ثَمُودُ فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ بالواقعة المجاوزة للحدّ في الشدّة، و هي الصاعقة أو الرجفة. و عن قتادة: بعث اللّه عليهم صيحة فأهمدتهم، أي: فأماتتهم، لتكذيبهم بالقارعة.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 159

و ما قيل: معناه: بسبب طغيانهم بالتكذيب و غيره، على أنّها مصدر كالعافية، لا يطابق قوله: وَ أَمَّا عادٌ فَأُهْلِكُوا بِرِيحٍ صَرْصَرٍ أي: شديدة الصوت، أو البرد من الصرّ، كأنّها الّتي كرّر فيها البرد و كثر، فهي تحرق لشدّة بردها عاتِيَةٍ شديدة العصف عتت على عاد، فما قدروا على ردعها بحيلة، من استتار ببناء، أو لياذ بجبل، أو اختفاء في حفرة، فإنّها كانت تنزعهم من مكامنهم و تهلكهم. أو كأنّها عتت على خزّانها، فلم يستطيعوا ضبطها. أو على عاد، فلم يقدروا على ردّها.

و

روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ما أرسل اللّه سفينة من ريح إلّا بمكيال، و لا قطرة من مطر إلّا بمكيال، إلّا يوم عاد و يوم نوح، فإنّ الماء يوم نوح طغا على الخزّان، فلم يكن لهم عليه سبيل.

ثمّ قرأ إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ «1» الآية. و إنّ الريح يوم عاد عتت على الخزّان، فلم

يكن لهم عليها سبيل. ثمّ قرأ: بِرِيحٍ صَرْصَرٍ عاتِيَةٍ. و لعلّها عبارة عن الشدّة و الإفراط فيها.

و كذا روي عن الزهري: أنّه ما يخرج من الريح شي ء إلّا عليها خزّان يعلمون قدرها و عددها وكيلها، حتّى كانت الّتي أرسلت على عاد فاندفق منها، فهم لا يعلمون قدرها غضبا للّه، فلذلك سمّيت عاتية.

سَخَّرَها عَلَيْهِمْ سلّطها عليهم بقدرته. و هو استئناف أو صفة جي ء به لنفي ما يتوهّم من أنّها كانت من اتّصالات فلكيّة، إذ لو كانت لكان هو المقدّر لها و المسبّب. سَبْعَ لَيالٍ وَ ثَمانِيَةَ أَيَّامٍ حُسُوماً متتابعات، فإنّ هبوبات الرياح ما سكنت ساعة حتّى أتت عليهم و أهلكتهم جميعا. جمع حاسم، كشهود و قعود. تمثيلا لتتابعها بتتابع فعل الحاسم، في إعادة الكيّ على الداء كرّة بعد كرّة حتّى ينحسم. يقال: حسمت الدابّة إذا تابعت كيّها بعد كيّ. أو نحسات

______________________________

(1) الحاقّة: 11.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 160

حسمت كلّ خير و استأصلته. أو قاطعات قطعت دابرهم. و يجوز أن يكون مصدرا كالشكور و الكفور، منتصبا على العلّة بمعنى: قطعا، أي: سخّرنا عليهم للاستئصال، أو المصدر لفعله المقدّر حالا، أي: تحسمهم حسوما، بمعنى:

تستأصل استئصالا.

و هي كانت أيّام العجوز من صبيحة أربعاء إلى غروب الأربعاء الآخر. و إنّما سمّيت عجوزا، لأنّها عجز الشتاء، أي: آخره. و هذه الأيّام ذات برد و رياح شديدة.

و لها أسماء مشهورة. لليوم الأوّل: الصنّ. و للثاني: الصنّبر. و للثالث: الوبر. و للرابع:

مطفئ الجمر. و للخامس: مكفئ الظعن. و قيل: السادس: الآمر. و السابع:

المؤتمر. و الثامن: المعلّل. أو لأنّ عجوزا من عاد توارت في سرب، فانتزعتها الريح في الثامن فأهلكتها، فانقطع العذاب فيه.

فَتَرَى الْقَوْمَ إن كنت حاضرهم فِيها في مهابّها، أو في الليالي و

الأيّام صَرْعى هلكى مصروعين. جمع صريع. كَأَنَّهُمْ أَعْجازُ نَخْلٍ أصول نخل خاوِيَةٍ متأكّلة الأجواف فَهَلْ تَرى لَهُمْ مِنْ باقِيَةٍ من بقيّة، أو من نفس باقية، أو بقاء.

وَ جاءَ فِرْعَوْنُ وَ مَنْ قَبْلَهُ و من تقدّمه. و قرأ البصريّان و الكسائي: و من قبله، أي: و من عنده من أتباعه. و يؤيّده قراءة عبد اللّه و أبيّ: و من معه. وَ الْمُؤْتَفِكاتُ قرى قوم لوط. و المراد أهلها. بِالْخاطِئَةِ بالخطإ، أو بالفعلة، أو بالأفعال ذات الخطأ.

فَعَصَوْا رَسُولَ رَبِّهِمْ أي: فعصى كلّ أمّة رسولها فَأَخَذَهُمْ أَخْذَةً رابِيَةً زائدة في الشدّة، كما زادت أعمالهم في القبح. يقال: ربا الشي ء يربو إذا زاد. قال اللّه تعالى: لِيَرْبُوَا فِي أَمْوالِ النَّاسِ «1».

______________________________

(1) الروم: 39.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 161

[سورة الحاقة (69): الآيات 11 الى 12]

إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ حَمَلْناكُمْ فِي الْجارِيَةِ (11) لِنَجْعَلَها لَكُمْ تَذْكِرَةً وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ (12)

ثمّ بيّن سبحانه قصّة نوح عليه السّلام، فقال: إِنَّا لَمَّا طَغَى الْماءُ جاوز حدّه المعتاد، أو طغا على خزّانه، و ذلك في الطوفان حَمَلْناكُمْ أي: آباءكم و أنتم في أصلابهم فِي الْجارِيَةِ في سفينة نوح. و لمّا كانوا من نسل المحمولين الناجين كان حمل آبائهم منّة عليهم، لأنّ نجاتهم سبب ولادتهم.

لِنَجْعَلَها لَكُمْ لنجعل الفعلة، و هي إنجاء المؤمنين و إغراق الكافرين تَذْكِرَةً عظة و عبرة دالّة على قدرة الصانع و حكمته، و كمال قهره و رحمته، و تتذكّرون بها نعم اللّه تعالى، و تشكرونه عليها، و تتفكّرون فيها، فتعرفون كمال قدرته وَ تَعِيَها و تحفظها. و الوعي أن تحفظ الشي ء في نفسك، و الإيعاء أن تحفظه في غيرك، كما تقول: أوعيت الشي ء في الظرف. أُذُنٌ واعِيَةٌ حافظة لما جاء من عند اللّه. أو سامعة قابلة ما سمعت

ممّا يجب سماعها، بتذكّره و إشاعته، و التفكّر فيه و العمل بموجبه.

و قرأ نافع: أذن بالتخفيف و التنكير، للدلالة على قلّتها، فإنّ تنكير الواحد يدلّ على القلّة. و لتوبيخ الناس بقلّة من يعي منهم. و للدلالة على أنّ الأذن الواحدة إذا وعت فهي السواد الأعظم عند اللّه، و أنّ ما سواها لا يبالي اللّه تعالى بهم و إن ملأوا ما بين الخافقين.

و

روى الطبري بإسناده عن مكحول أنّه لمّا نزلت هذه الآية قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «اللّهم اجعلها أذن عليّ. ثمّ قال عليّ عليه السّلام: فما سمعت شيئا من رسول اللّه فنسيته» «1».

______________________________

(1) تفسير الطبري 29: 35.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 162

و كذا

روى بإسناده عن عكرمة عن بريدة الأسلمي أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لعليّ: «يا عليّ إنّ اللّه تعالى أمرني أن أدنيك و لا أقصيك، و أن أعلّمك و أن تعي، و حقّ على اللّه أن تعي» «1».

و

عن أبي عمرو عثمان بن خطّاب المعمّر المعروف بأبي الدنيا الأشجّ قال:

«سمعت عليّ بن أبي طالب عليه السّلام يقول: لمّا نزلت «وَ تَعِيَها أُذُنٌ واعِيَةٌ» قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: سألت اللّه عزّ و جلّ أن يجعلها أذنك يا عليّ».

و

نقل الزمخشري أيضا في الكشّاف عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنّه قال لعليّ عليه السّلام عند نزول هذه الآية: سألت اللّه أن يجعلها أذنك يا عليّ. قال عليّ عليه السّلام: فما نسيت شيئا بعد، و ما كان لي أن أنسى» «2».

[سورة الحاقة (69): الآيات 13 الى 18]

فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ (13) وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً (14) فَيَوْمَئِذٍ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ (15)

وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ (16) وَ الْمَلَكُ عَلى أَرْجائِها وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ (17)

يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ (18)

و لمّا بالغ في تهويل القيامة، و ذكر مآل المكذّبين بها، تفخيما لشأنها و تنبيها على إمكانها، عاد إلى شرحها، فقال:

فَإِذا نُفِخَ فِي الصُّورِ نَفْخَةٌ واحِدَةٌ أي: لا يتثنّى في وقتها. فلا ينافيها النفختان: نفخة الصعق، و نفخة الحشر. و إنّما حسن إسناد الفعل إلى المصدر لتقييده.

______________________________

(1) تفسير الطبري 29: 35- 36. و لكن رواه عن عبد اللّه بن رستم عن بريدة.

(2) الكشّاف: 4: 600.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 163

و حسن تذكيره للفصل. و المراد بها النفخة الأولى الّتي عندها خراب العالم. و به رواية عن ابن عبّاس.

وَ حُمِلَتِ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ رفعت من أماكنها بمجرّد القدرة الكاملة، أو بتوسّط زلزلة أو ريح عاصفة فَدُكَّتا دَكَّةً واحِدَةً فضربت الجملتان بعضها ببعض ضربة واحدة حتّى تندقّ و تصير كثيبا مهيلا و هباء منبثّا. و الدكّ أبلغ من الدقّ. و قيل:

فبسطتا بسطة واحدة، فصارتا أرضا لا عوج فيها و لا أمتا، لأنّ الدكّ سبب للتسوية.

و لهذا قيل: ناقة دكّاء للّتي لا سنام لها، و أرض دكّاء للمتّسعة المستوية. و منه:

الدكّان.

فَيَوْمَئِذٍ فحينئذ وَقَعَتِ الْواقِعَةُ نزلت النازلة، و هي القيامة وَ انْشَقَّتِ السَّماءُ انفرج بعضها من بعض لنزول الملائكة فَهِيَ يَوْمَئِذٍ واهِيَةٌ ضعيفة مسترخية ساقطة القوّة جدّا، فتصير بمنزلة الصوف في الوهي و الضعف بعد ما كانت محكمة متقنة.

وَ الْمَلَكُ و الجنس المتعارف بالملك. و هو أعمّ من الملائكة. ألا ترى أنّ قولك: ما من ملك إلّا و هو شاهد، أعمّ من قولك: ما من ملائكة.

عَلى أَرْجائِها جوانبها. جمع رجا مقصورا. يعني أنّها تنشقّ- و هي

مسكن الملائكة- فينضوون «1» إلى أطرافها و ما حولها من حافّاتها.

قال في الأنوار: «و لعلّه تمثيل لخراب السماء بخراب البنيان، و انضواء أهلها إلى أطرافها و حواليها. و إن كان على ظاهره فلعلّ هلاك الملائكة أثر ذلك» «2».

وَ يَحْمِلُ عَرْشَ رَبِّكَ فَوْقَهُمْ فوق الملائكة الّذين هم على الأرجاء يَوْمَئِذٍ ثَمانِيَةٌ ثمانية أملاك، لما روي مرفوعا أنّهم اليوم اربعة، فإذا كان يوم القيامة

______________________________

(1) انضوى إليه: انضمّ و أوى إليه.

(2) أنوار التنزيل 5: 148.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 164

أيّدهم اللّه بأربعة آخرين، فيكونون ثمانية.

و عن الضحّاك: ثمانية صفوف من الملائكة، لا يعلم عدّتهم إلّا اللّه.

و روي: ثمانية أملاك، أرجلهم في تخوم الأرض السابعة، و العرش فوق رؤوسهم، و هم مطرقون مسبّحون.

و قيل: بعضهم على صورة الإنسان، و بعضهم على صورة الأسد، و بعضهم على صورة الثور، و بعضهم على صورة النسر.

و روي: ثمانية أملاك في خلق الأوعال «1»، ما بين أظلافها «2» إلى ركبها مسيرة سبعين عاما.

و عن شهر بن حوشب: أربعة منهم يقولون: سبحانك اللّهمّ و بحمدك، لك الحمد على عفوك بعد قدرتك. و أربعة يقولون: سبحانك اللّهمّ و بحمدك، لك الحمد على حلمك بعد علمك.

و عن الحسن: اللّه أعلم كم هم؟ أ ثمانية أم ثمانية آلاف؟

و يجوز أن تكون الثمانية من الروح، أو من خلق آخر. فهو القادر على كلّ خلق. سبحان الّذي خلق الأزواج كلّها ممّا تنبت الأرض و من أنفسهم و ممّا لا يعلمون.

و قال صاحب الأنوار: «و لعلّه أيضا تمثيل لعظمته بما يشاهد من أحوال السلاطين يوم خروجهم على الناس للقضاء العامّ. و على هذا قال: يَوْمَئِذٍ تُعْرَضُونَ تشبيها للمحاسبة بعرض السلطان العسكر لتعرّف أحوالهم» «3». و الصحيح أنّه لا للتمثيل بل للتحقيق.

______________________________

(1)

الأوعال جمع الوعل: تيس الجبل له قرنان قويّان. و التيس: الذكر من المعز و الظباء و الوعول.

(2) أظلاف جمع ظلف. و هو لما اجترّ من الحيوانات- كالبقرة و الجمل- بمنزلة الحافر للفرس.

(3) أنوار التنزيل 5: 148.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 165

و

قال في الكشّاف: «و روي أنّ في يوم القيامة ثلاث عرضات: ثنتان منها معاذير و جدال و احتجاج و توبيخ، و الثالثة منها تطيّر الصحف في الأيدي، فيأخذ الفائز كتابه بيمينه، و الهالك كتابه بشماله» «1».

و هذا و إن كان بعد النفخة الثانية، لكن لمّا كان اليوم اسما لزمان متّسع تقع فيه النفختان و الصعقة و النشور و الحساب، و إدخال أهل الجنّة الجنّة، و أهل النار النار، صحّ جعله ظرفا للكلّ.

لا تَخْفى مِنْكُمْ خافِيَةٌ سريرة على اللّه حتّى يكون العرض للاطّلاع عليها.

و إنّما المراد منه إفشاء الحال، و المبالغة في العدل. أو على الناس، كما قال اللّه تعالى: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ «2». و قرأ حمزة و الكسائي بالياء للفصل.

[سورة الحاقة (69): الآيات 19 الى 37]

فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ هاؤُمُ اقْرَؤُا كِتابِيَهْ (19) إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ (20) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (21) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (22) قُطُوفُها دانِيَةٌ (23)

كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما أَسْلَفْتُمْ فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ (24) وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ (25) وَ لَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ (26) يا لَيْتَها كانَتِ الْقاضِيَةَ (27) ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ (28)

هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ (29) خُذُوهُ فَغُلُّوهُ (30) ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ (31) ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً فَاسْلُكُوهُ (32) إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ (33)

وَ لا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (34) فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ (35) وَ لا طَعامٌ

إِلاَّ مِنْ غِسْلِينٍ (36) لا يَأْكُلُهُ إِلاَّ الْخاطِؤُنَ (37)

______________________________

(1) الكشّاف 4: 602.

(2) الطارق: 9.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 166

ثمّ فصّل حال المكلّفين في ذلك اليوم، فقال: فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ فَيَقُولُ لأهل القيامة تبجّحا و فرحا هاؤُمُ تعالوا اقْرَؤُا كِتابِيَهْ لعلمه بأنّه ليس فيه إلّا الطاعات، فلا يستحي أن ينظر فيه غيره. و «هاء» اسم ل «خذ». و فيه لغات أجودها: هاء يا رجل، و هاء يا امرأة، و هاؤما يا رجلان أو امرأتان، و هاؤم يا رجال، و هاؤنّ يا نسوة. و مفعوله محذوف. و «كتابيه» مفعول «اقرأوا» لأنّه أقرب العاملين. و لأنّ أصله: هاؤم كتابي اقرؤا كتابي، فحذف الأوّل لدلالة الثاني عليه.

و نظيره: آتُونِي أُفْرِغْ عَلَيْهِ قِطْراً. و لأنّه لو كان مفعول «هاؤم» لقيل: اقرؤه، إذ الأولى إضماره حيث أمكن. و الهاء فيه و في «حسابيه» و «ماليه» و «سلطانيه» للسكت، تثبت في الوقف، و تسقط في الوصل. و استحبّ الوقف، لثباتها في الامام.

إِنِّي ظَنَنْتُ أَنِّي مُلاقٍ حِسابِيَهْ أي: علمت. و إنّما أجرى الظنّ مجرى العلم، لأنّ الظنّ الغالب يقام مقام العلم في العادات و الأحكام. و لعلّه عبّر عنه بالظنّ إشعارا بأنّه لا يقدح في الاعتقاد ما يهجس في النفس من الخطرات الّتي لا تنفكّ عنها العلوم النظريّة غالبا.

فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ في حالة من العيش ذات رضا، أي: منسوبة إليه،

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 167

كالتامر و اللابن «1»، على النسبة بالصيغة، فإنّ النسبة نسبتان: نسبة بالحروف، و نسبة بالصيغة، أو جعل الفعل لها مجازا، و هو لصاحبها، و ذلك لكونها صافية عن الشوائب، دائمة مقرونة بالتعظيم.

فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ مرتفعة المكان، لأنّها في السماء. أو رفيعة الدرجات. أو رفيعة الأبنية و الأشجار.

قُطُوفُها جمع

قطف، و هو ما يجتنى بسرعة. و القطف بالفتح المصدر.

دانِيَةٌ يتناولها القاعد و النائم.

و

عن عطاء بن يسار، عن سلمان قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا يدخل الجنّة أحدكم إلّا بجواز بسم اللّه الرّحمن الرّحيم: هذا كتاب من اللّه لفلان بن فلان، أدخلوه جنّة عالية قطوفها دانية».

كُلُوا وَ اشْرَبُوا بإضمار القول. و جمع الضمير للمعنى. هَنِيئاً أكلا و شربا هنيئا. أو هنئتم هنيئا على المصدر. بِما أَسْلَفْتُمْ بما قدّمتم من الأعمال الصالحة فِي الْأَيَّامِ الْخالِيَةِ الماضية من أيّام الدنيا. و عن مجاهد: أيّام الصيام، أي: كلوا و اشربوا بدل ما أمسكتم عن الأكل و الشرب لوجه اللّه.

و

روي أنّه تعالى يقول: «يا أوليائي طالما نظرت إليكم في الدنيا و قد قلصت شفاهكم عن الأشربة، و غارت أعينكم، و خمصت بطونكم، فكونوا اليوم في نعيمكم، و كلوا و اشربوا هنيئا بما أسلفتم في الأيّام الخالية».

وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِشِمالِهِ فَيَقُولُ لما يرى من قبح العمل و سوء العاقبة يا لَيْتَنِي لَمْ أُوتَ كِتابِيَهْ* وَ لَمْ أَدْرِ ما حِسابِيَهْ* يا لَيْتَها يا ليت الموتة الّتي متّها كانَتِ الْقاضِيَةَ القاطعة لأمري، فلم أبعث بعدها، و لم ألق ما ألقى. أو يا ليت هذه الحالة كانت الموتة الّتي قضت عليّ، لأنّه رأى تلك الحالة أبشع و أمرّ ممّا ذاقه

______________________________

(1) أي: ذو التمر و اللبن.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 168

من مرارة الموت و شدّته، فتمنّاه عندها. أو يا ليت حياة الدنيا كانت الموتة، و لم أخلق فيها حيّا.

ما أَغْنى عَنِّي مالِيَهْ مالي من المال و التبع من عذاب اللّه شيئا. و «ما» نفي، و المفعول محذوف. أو استفهام إنكار مفعول ل «أغنى» أي: أيّ شي ء

أغنى عنّي ما كان لي من اليسار؟

هَلَكَ عَنِّي سُلْطانِيَهْ ملكي و تسلّطي على الناس، فبقيت فقيرا ذليلا. و عن ابن عبّاس: أنّها نزلت في الأسود بن عبد الأشدّ، أي: ضلّت عنّي حجّتي الّتي كنت أحجّ بها في الدنيا و بطلت.

و قرأ حمزة: عنّي، مالي، عنّي، سلطاني، بحذف الهاء في الوصل. و الباقون بإثباتها في الحالين.

ثمّ أخبر سبحانه أنّه يقول لخزنة النار: خُذُوهُ فَغُلُّوهُ أوثقوه بالغلّ، و هو أن تشدّ إحدى يديه و رجليه إلى عنقه بجامعة.

ثُمَّ الْجَحِيمَ صَلُّوهُ ثمّ لا تصلّوه إلّا الجحيم، و هي النار العظمى، لأنّه كان يتعظّم على الناس. يقال: صلى النار، و صلّاه النار.

ثُمَّ فِي سِلْسِلَةٍ ذَرْعُها سَبْعُونَ ذِراعاً أراد بذلك الوصف بالطول، كما قال:

إِنْ تَسْتَغْفِرْ لَهُمْ سَبْعِينَ مَرَّةً «1». يريد مرّات كثيرة.

قال نوف البكالي: كلّ ذراع سبعون باعا، و الباع أبعد ممّا بينك و بين مكّة، و كان في رحبة الكوفة.

و قال سويد بن نجيح: إنّ جميع أهل النار في تلك السلسلة، و لو أنّ حلقة منها وضعت على جبل لذاب من حرّها.

فَاسْلُكُوهُ فأدخلوه فيها، بأن تلفّوها على جسده، و هو فيما بينها مرهق

______________________________

(1) التوبة: 80.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 169

مضيّق عليه لا يقدر على حركة.

و تقديم السلسلة كتقديم الجحيم للدلالة على التخصيص، و الاهتمام بذكر أنواع ما يعذّب به. و «ثمّ» لتفاوت ما بين الغلّ و التصلية بالجحيم، و ما بينها و بين السلك في السلسلة، لا على تراخي المدّة.

ثمّ علّل ذلك العذاب الأليم و العقاب العظيم على طريقة الاستئناف مبالغة بقوله: إِنَّهُ كانَ لا يُؤْمِنُ بِاللَّهِ الْعَظِيمِ كأنّه قيل: ما له يعذّب هذا العذاب الشديد؟

فأجيب بأنّه لم يكن يوحّد اللّه في دار التكليف، و لا يصدّق به. و

ذكر العظيم للإشعار بأنّه المستحقّ للعظمة، فمن تعظّم فيها استوجب ذلك.

وَ لا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ و لا يحثّ على بذل طعام المسكين.

يعني: أنّه يمنع الناس عن أداء الزكاة و سائر الحقوق الواجبة، فضلا عن أن يبذل من ماله.

و فيه دليلان قويّان على عظم الجرم في حرمان المسكين: أحدهما: عطفه على الكفر، و جعله قرينا له. و الثاني: ذكر الحضّ دون الفعل، ليعلم أنّ تارك الحضّ بهذه المنزلة، فكيف بتارك الفعل. و تخصيص الأمرين بالذكر، لأنّ الكفر باللّه أقبح العقائد، و البخل و قسوة القلب أشنع الرذائل. و فيه دليل على تكليف الكفّار بالفروع.

و عن أبي الدرداء: أنّه كان يحضّ امرأته على تكثير المرق لأجل المساكين، و كان يقول: خلعنا نصف السلسلة بالإيمان، أ فلا نخلع نصفها الآخر؟

و قيل: هو منع الكفّار عن قولهم: أَ نُطْعِمُ مَنْ لَوْ يَشاءُ اللَّهُ أَطْعَمَهُ «1».

فَلَيْسَ لَهُ الْيَوْمَ هاهُنا حَمِيمٌ قريب يحميه و يدفع عنه العذاب وَ لا طَعامٌ و لا له اليوم طعام إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ غسالة أهل النار، و ما يسيل من أبدانهم من الصديد و الدم. فعلين من الغسل.

______________________________

(1) يس: 47.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 170

و قيل: إنّ أهل النار طبقات: فمنهم من طعامه الغسلين، و منهم من طعامه الزقّوم، و منهم من طعامه الضريع، لأنّه قال في موضع آخر: لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ «1».

و قيل: يجوز أن يكون الضريع هو الغسلين، فعبّر عنه بعبارتين.

و قيل: يجوز أن يكون المراد: ليس لهم طعام إلّا من ضريع، و لا شراب إلّا من غسلين، كقوله: علفتها تبنا و ماء باردا.

لا يَأْكُلُهُ إِلَّا الْخاطِؤُنَ أصحاب الخطايا. من: خطئ الرجل إذا تعمّد الذنب، لا من الخطأ المضادّ للصواب.

و قال

في المجمع: «و الفرق بين الخاطئ و المخطئ: أنّ المخطئ قد يكون من غير تعمّد، و الخاطئ: المذنب المتعمّد، الجائر عن الصراط المستقيم» «2». و عن ابن عبّاس: هم المشركون.

[سورة الحاقة (69): الآيات 38 الى 52]

فَلا أُقْسِمُ بِما تُبْصِرُونَ (38) وَ ما لا تُبْصِرُونَ (39) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (40) وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ قَلِيلاً ما تُؤْمِنُونَ (41) وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ قَلِيلاً ما تَذَكَّرُونَ (42)

تَنْزِيلٌ مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ (43) وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ (44) لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ (45) ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ (46) فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ حاجِزِينَ (47)

وَ إِنَّهُ لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ (48) وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ (49) وَ إِنَّهُ لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ (50) وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ (51) فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ (52)

______________________________

(1) الغاشية: 6.

(2) مجمع البيان: 10: 348.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 171

فَلا أُقْسِمُ لظهور الأمر و استغنائه عن التحقيق بالقسم. أو فأقسم، و «لا» مزيدة. أو فلا ردّ، لإنكارهم البعث، و «أقسم» مستأنف. بِما تُبْصِرُونَ* وَ ما لا تُبْصِرُونَ أي: بجميع الأشياء على الشمول و الإحاطة، لأنّها لا تخرج من قسمين: مبصر و غير مبصر.

و قيل: الدنيا و الآخرة، و الأجسام و الأرواح، و الإنس و الجنّ، و الخلق و الخالق، و النعم الظاهرة و الباطنة.

و جواب القسم إِنَّهُ إنّ القرآن لَقَوْلُ رَسُولٍ أي: يقوله و يتكلّم به على وجه الرسالة من عند اللّه و تبليغه عن اللّه، فإنّ الرسول لا يقول عن نفسه كَرِيمٍ على اللّه، و هو محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قيل: جبرئيل.

وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شاعِرٍ كما تزعمون تارة قَلِيلًا ما تُؤْمِنُونَ تصدّقون، لفرط عنادكم. و القلّة في معنى العدم، أي: لا تؤمنون

البتّة، كما تقول لمن لا يزورك: قلّ ما تأتينا، و أنت تريد: لا تأتينا أصلا.

وَ لا بِقَوْلِ كاهِنٍ كما تدّعون أخرى قَلِيلًا ما تَذَكَّرُونَ تذكّرا قليلا، أي:

لا تذكرون أصلا، فلذلك يلتبس الأمر عليكم. و قرأ ابن كثير و يعقوب و ابن عامر بالياء فيهما. و ذكر الإيمان مع نفي الشاعريّة، و التذكّر مع نفي الكاهنيّة، لأنّ عدم مشابهة القرآن للشعر أمر بيّن لا ينكره إلّا معاند، بخلاف مباينته للكهانة، فإنّه يتوقّف على تذكّر أحوال الرسول و معاني القرآن المنافية لطريقة الكهنة و معاني أقوالهم.

و فيه تنبيه على أنّ المراد ب «رسول كريم» محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لأنّ المعنى: على

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 172

إثبات أنّه رسول، لا شاعر و لا كاهن.

تَنْزِيلٌ هو تنزيل مِنْ رَبِّ الْعالَمِينَ نزّله على لسان جبرئيل.

ثمّ أوعدهم على التكذيب، فقال: وَ لَوْ تَقَوَّلَ عَلَيْنا بَعْضَ الْأَقاوِيلِ أي:

افترى علينا بعض الأقوال المفتراة، فإنّ التقوّل افتعال القول، لأنّ فيه تكلّفا من المفتعل. و سمّى الأقوال المتقوّلة- أي: المفتراة- أقاويل تحقيرا لها و تصغيرا بها، كأنّها جمع أفعولة من القول، كالأضاحيك و الأعاجيب. و المعنى: و لو ادّعى علينا شيئا لم نقله لَأَخَذْنا مِنْهُ بِالْيَمِينِ أي: لأخذنا بيمينه.

ثُمَّ لَقَطَعْنا مِنْهُ الْوَتِينَ أي: نياط قلبه بضرب عنقه. و هو حبل الوريد إذا قطع مات صاحبه. و هو تصوير لإهلاكه بأفظع ما يفعله الملوك بمن يغضبون عليه، و هو أن يأخذ القتّال بيمينه و يكفحه «1» بالسيف و يضرب به جيده. و خصّ اليمين عن اليسار، لأنّ القتّال إذا أراد أن يوقع الضرب في قفا أحد أخذ بيساره، و إذا أراد أن يوقعه في جيده و أن يكفحه بالسيف- و هو أشدّ

على المصبور، لنظره إلى السيف- أخذ بيمينه. و قيل: اليمين بمعنى القوّة.

فَما مِنْكُمْ مِنْ أَحَدٍ عَنْهُ عن القتل حاجِزِينَ دافعين، أي: لا يقدر أحد منكم أن يحجزه عن ذلك و يدفعه عنه. أو عن محمد، أي: لا تقدرون أن تحجزوا عنه القاتل و تحولوا بينه و بينه. و وصف «أحد» ب «حاجزين» لأنّه في معنى الجماعة. و هو اسم يقع في النفي العامّ، مستويا فيه الواحد و الجمع و المذكّر و المؤنّث. و منه قوله تعالى: لا نُفَرِّقُ بَيْنَ أَحَدٍ مِنْ رُسُلِهِ «2». و الخطاب للناس.

وَ إِنَّهُ و إنّ القرآن لَتَذْكِرَةٌ لِلْمُتَّقِينَ لأنّهم المنتفعون به وَ إِنَّا لَنَعْلَمُ أَنَّ مِنْكُمْ مُكَذِّبِينَ

______________________________

(1) كفح العدو: واجهه و استقبله.

(2) البقرة: 285.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 173

فنجازيهم على تكذيبهم وَ إِنَّهُ و إنّ القرآن لَحَسْرَةٌ عَلَى الْكافِرِينَ إذا رأوا ثواب المصدّقين به وَ إِنَّهُ لَحَقُّ الْيَقِينِ أي: و إنّ القرآن لليقين حقّ اليقين، كقولك: هو العالم حقّ العالم. و الإضافة للبيان. و المعنى: لعين اليقين، و محض اليقين.

فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ فسبّح اللّه بذكر اسمه العظيم، تنزيها له عن الرضا بالتقوّل عليه، و شكرا على ما أوحى إليك.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 175

(70) سورة المعارج

اشارة

مكّيّة. و هي أربع و أربعون آية.

عن أبيّ بن كعب قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «و من قرأ سورة «سأل سائل» أعطاه اللّه ثواب الّذين هم لأماناتهم و عهدهم راعون، و الّذين هم على صلواتهم يحافظون».

و

عن جابر، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من أدمن قراءة «سأل سائل» لم يسأله اللّه يوم القيامة عن ذنب عمله، و أسكنه جنّته مع محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

[سورة المعارج (70): الآيات 1 الى 18]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ (1) لِلْكافِرينَ لَيْسَ لَهُ دافِعٌ (2) مِنَ اللَّهِ ذِي الْمَعارِجِ (3) تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ (4)

فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلاً (5) إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ بَعِيداً (6) وَ نَراهُ قَرِيباً (7) يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ (8) وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ (9)

وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً (10) يُبَصَّرُونَهُمْ يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ بِبَنِيهِ (11) وَ صاحِبَتِهِ وَ أَخِيهِ (12) وَ فَصِيلَتِهِ الَّتِي تُؤْوِيهِ (13) وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً ثُمَّ يُنْجِيهِ (14)

كَلاَّ إِنَّها لَظى (15) نَزَّاعَةً لِلشَّوى (16) تَدْعُوا مَنْ أَدْبَرَ وَ تَوَلَّى (17) وَ جَمَعَ فَأَوْعى (18)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 176

و لمّا ختم سورة الحاقّة بوعيد الكفّار، افتتح هذه السورة بمثل ذلك، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ ضمّن «سأل» معنى: دعا، فعدّي تعديته، كأنّه قيل: دعا داع بعذاب واقع على نفسه. من قولك: دعا بكذا إذا استدعاه و طلبه. و منه قوله تعالى: يَدْعُونَ فِيها بِكُلِّ فاكِهَةٍ «1».

و عن ابن عبّاس: السائل النضر بن الحارث، فإنّه قال: اللَّهُمَّ إِنْ كانَ هذا هُوَ الْحَقَّ مِنْ عِنْدِكَ فَأَمْطِرْ عَلَيْنا حِجارَةً مِنَ السَّماءِ أَوِ ائْتِنا بِعَذابٍ

أَلِيمٍ «2». و قيل: أبو جهل: فإنّه قال: فَأَسْقِطْ عَلَيْنا كِسَفاً مِنَ السَّماءِ «3» سأله استهزاء. و قيل: هو الرسول، استعجل بعذابهم.

و قرأ نافع و ابن عامر: سال. و هو إمّا من السؤال على لغة قريش. يقولون:

سلت تسال، و هما يتسالان. أو يكون من السيلان. و المعنى: اندفع عليهم وادي عذاب فذهب بهم و أهلكهم. و مضيّ الفعل لتحقّق وقوعه، إمّا في الدنيا، و هو قتل بدر، أو في الآخرة، و هو عذاب النار.

و عن قتادة: سأل سائل عن عذاب اللّه على من ينزل و بمن يقع؟ فنزلت.

______________________________

(1) الدخان: 55.

(2) الأنفال: 32.

(3) الشعراء: 187.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 177

و على هذا، «سأل» مضمّن معنى: عنى و اهتمّ.

و

قال السيّد أبو الحمد: حدّثنا الحاكم أبو القاسم الحسكاني، قال: أخبرنا أبو عبد اللّه الشيرازي، قال: حدّثنا أبو بكر الجرجرائي، قال: حدّثنا أبو أحمد البصري، قال: حدّثنا محمّد بن سهل، قال: حدّثنا زيد بن إسماعيل مولى الأنصار، قال:

حدّثنا محمد بن أيّوب الواسطي، قال: حدّثنا سفيان بن عيينة، عن جعفر بن محمّد الصادق، عن آبائه صلوات اللّه عليهم، قال: «لمّا نصب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليّا عليه السّلام يوم غدير خم و قال: من كنت مولاه فعليّ مولاه، طار ذلك في البلاد، فقدم على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم النعمان بن الحرث الفهري، فقال: أمرتنا عن اللّه أن نشهد أن لا إله إلّا اللّه و أنّك رسول اللّه، و أمرتنا بالجهاد و الحجّ و الصلاة و الصوم و الزكاة، فقبلناها. ثمّ لم ترض حتّى نصبت هذا الغلام فقلت: من كنت مولاه فعليّ مولاه. فهذا شي ء منك، أو أمر من عند اللّه؟

قال: و اللّه

الّذي لا إله إلّا هو إنّ هذا من اللّه.

فولّى نعمان بن الحرث و هو يقول: اللّهمّ إن كان هذا هو الحقّ من عندك فأمطر علينا حجارة من السماء. فرماه اللّه بحجر على رأسه فقتله. فأنزل اللّه تعالى:

«سَأَلَ سائِلٌ بِعَذابٍ واقِعٍ»» «1».

لِلْكافِرينَ صفة اخرى ل «عذاب»، أي: بعذاب واقع كائن للكافرين. أو متعلّق بالفعل، أي: دعا للكافرين بعذاب واقع. أو صلة ل «لواقع» أي: بعذاب نازل لأجلهم. و على قول قتادة: كلام مبتدأ جواب للسائل، أي: هو للكافرين. لَيْسَ لَهُ دافِعٌ يردّه.

مِنَ اللَّهِ متّصل ب «واقع» أي: واقع من عنده. أو ب «دافع» بمعنى: ليس له دافع من جهته إذا جاء وقته، و أوجبت الحكمة وقوعه. ذِي الْمَعارِجِ ذي

______________________________

(1) شواهد التنزيل 2: 381 ح 1030.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 178

المصاعد. و هي الدرجات العالية و المراتب الرفيعة الّتي يعطيها الأنبياء و الأولياء في الجنّة. أو المراد: مواضع عروج الملائكة في السماوات، فإنّ الملائكة يعرجون فيها. و منه: ليلة المعراج، لأنّه عرج النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى السماء فيها. أو الدرجات الّتي يصعد فيها الكلم الطيّب و العمل الصالح، أو يترقّى فيها المؤمنون في سلوكهم.

ثمّ وصف المصاعد و بعد مداها في العلوّ و الارتفاع، فقال: تَعْرُجُ الْمَلائِكَةُ و قرأ الكسائي بالياء وَ الرُّوحُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ خَمْسِينَ أَلْفَ سَنَةٍ أي:

ارتفاع تلك المعارج بحيث لو قدرت الملائكة قطعها في زمان لكان في زمان مقدّر بخمسين الف سنة من سنيّ الدنيا.

و قيل: معناه: تعرج الملائكة و الروح إلى عرشه في يوم كان مقداره كمقدار خمسين ألف سنة، من حيث إنّهم يقطعون فيه ما يقطعه الإنسان فيها لو فرض. لا أنّ ما بين أسفل

العالم و أعلى شرفات العرش مسيرة خمسين ألف سنة، لأنّ ما بين مركز الأرض و مقعّر السماء الدنيا- على ما قيل- مسيرة خمسمائة عام، و ثخن كلّ واحد من السماوات السبع و الكرسيّ و العرش كذلك. و حيث قال فِي يَوْمٍ كانَ مِقْدارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ «1» يريد به زمان عروجهم من الأرض إلى محدّب السماء الدنيا.

و قيل: معناه: إنّ أوّل نزول الملائكة إلى الدنيا، و أمره و نهيه، و قضائه بين الخلائق إلى آخر عروجهم إلى السماء- و هو القيامة- هذه المدّة. فيكون مقدار الدنيا خمسين ألف سنة، لا يدري كم مضى و كم بقي، و إنّما يعلمها اللّه عزّ و جلّ.

و قيل: في «يوم» متعلّق ب «واقع» أو «سال» إذا جعل من السيلان. و المراد به يوم القيامة. و استطالته إمّا لشدّته على الكفّار، أو لكثرة ما فيه من الحالات و المحاسبات، أو لأنّه على الحقيقة كذلك. و الروح جبرئيل. و إفراده لفضله. أو خلق أعظم من الملائكة، هم حفظة على الملائكة، كما أنّ الملائكة حفظة على الناس.

______________________________

(1) السجدة: 5.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 179

و

قد روي: «أنّ فيه خمسين موطنا، كلّ موطن ألف سنة، و ما قدر ذلك على المؤمنين إلّا كما بين الظهر و العصر».

و

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه: «لو ولي الحساب يوم القيامة غير اللّه لمكثوا فيه خمسين ألف سنة من قبل أن يفرغوا، و اللّه سبحانه يفرغ من ذلك في ساعة واحدة».

و

عنه أيضا قال: «لا ينتصف ذلك اليوم حتّى يقبل أهل الجنّة في الجنّة، و أهل النار في النار».

و

روى أبو سعيد الخدري قال: «قيل: يا رسول اللّه ما أطول هذا اليوم؟ فقال:

و الّذي نفس محمد بيده إنّه ليخفّ على

المؤمن حتّى يكون أخفّ عليه من صلاة مكتوبة يصلّيها في الدنيا».

و قوله: فَاصْبِرْ صَبْراً جَمِيلًا متعلّق ب «سأل» لأنّ سؤال الكفرة كان عن استهزاء أو تعنّت، و ذلك ممّا يضجر الرسول، أو سؤاله كان عن تضجّر و استبطاء للنصر. أو ب «سال» لأنّ المعنى: قرب وقوع العذاب، فاصبر صبرا جميلا لا يشوبه استعجال و اضطراب قلب، فقد شارفت الانتقام.

إِنَّهُمْ يَرَوْنَهُ الضمير للعذاب الواقع، أو ليوم القيامة فيمن علّق «في يوم» ب «واقع» أي: يرون العذاب أو يوم القيامة بَعِيداً عن الإمكان، أي: يستبعدونه على جهة الإحالة وَ نَراهُ قَرِيباً منه، أو من الوقوع، هيّنا في قدرتنا، غير بعيد عنّا و لا متعذّر.

يَوْمَ تَكُونُ السَّماءُ كَالْمُهْلِ ظرف ل «قريبا» أي: قريب عذاب الكافرين في يوم. أو لمضمر دلّ عليه «واقع» أي: يقع العذاب في يوم. أو بدل من «في يوم» فيمن علّقه ب «واقع». و المهل «1»: المذاب في مهل، كالفلزّات بالكسر و تشديد الزاء

______________________________

(1) المهل: اسم يجمع معدنيّات الجواهر، كالفضّة و الحديد و الصفر. و المهل: الرفق و التؤدة.

و المعنى: المذاب برفق و تؤدة.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 180

المعجمة. و هي ما نبعته «1» الكير ممّا يذاب من جواهر الأرض، كالفضّة المذابة.

و عن ابن عبّاس: المهل درديّ «2» الزيت.

وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ كالصوف المصبوغ ألوانا، لأنّ الجبال مختلفة الألوان، فإذا بسّت و طيّرت في الجوّ أشبهت العهن المنفوش إذا طيّرته الريح.

وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً و لا يسأل قريب قريبا عن حاله و لا يكلّمه، لأنّ بكلّ أحد ما يشغله عن المساءلة. و عن ابن كثير: و لا يسأل على بناء المفعول، أي:

لا يطلب من حميم حميم، أو لا يسأل منه حاله.

و قيل: معناه: أنّه لا

يحتاج إلى سؤاله، لأنّه يكون لكلّ علامة يعرف بها.

فعلامة الكافرين سواد الوجوه و زرقة العيون، و علامة المؤمنين نضارة اللون و بياض الوجوه.

يُبَصَّرُونَهُمْ أي: يبصّر الأحماء الأحماء، فلا يخفون عليهم.

فجمع الضميرين لعموم الحميم. و هذا كلام مستأنف، كأنّه لمّا قال: «وَ لا يَسْئَلُ حَمِيمٌ حَمِيماً» قيل: لعلّه لا يبصره، فقيل: يبصّرونهم، و لكنّهم لتشاغلهم لم يتمكّنوا من تساؤلهم، لا للخفاء أو لما يغني عنه من مشاهدة الحال، كبياض الوجه و سواده. و يجوز أن يكون صفة ل «حميما» أي: حميما مبصّرين معرّفين إيّاهم.

و قيل: معناه: يعرّف المؤمنون أعداءهم على حالهم من العذاب، فيشمتوا بهم و يسرّون.

و قيل: يعرّف أتباع الضلالة رؤساءهم.

و قيل: الضمير للملائكة، فقد تقدّم ذكرهم، أي: يعرّفهم الملائكة و يجعلون

______________________________

(1) كذا في النسخة الخطّية، و لعلّ الصحيح: نفخته. و الكير: زقّ ينفخ فيه الحدّاد.

(2) الدرديّ من الزيت و نحوه: الكدر الراسب في أسفله.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 181

بصراء بهم، فيسوقون فريقا إلى الجنّة و فريقا إلى النار.

يَوَدُّ الْمُجْرِمُ لَوْ يَفْتَدِي مِنْ عَذابِ يَوْمِئِذٍ حال من أحد الضميرين. أو استئناف يدلّ على أنّ اشتغال كلّ مجرم بنفسه بحيث يتمنّى أن يفتدي من العذاب.

بِبَنِيهِ بأولاده الّذين هم أعزّ الناس عليه و أحبّهم.

وَ صاحِبَتِهِ و زوجته الّتي كانت سكنا له، و ربما آثرها على أبويه وَ أَخِيهِ الّذي كان ناصرا له و معينا.

و قرأ نافع و الكسائي بفتح ميم يومئذ، على البناء للإضافة إلى غير متمكّن.

و محصّل معنى الآية: أنّ كلّ مجرم يتمنّى أن يدفع عن نفسه العذاب بافتداء أقرب الناس عنده و أعلقهم بقلبه، فضلا أن يهتمّ بحاله و يسأل عنها.

وَ فَصِيلَتِهِ و عشيرته الأدنون الّذين فصل عنهم الَّتِي تُؤْوِيهِ تضمّه انتماء إليها في النسب،

أو لياذا بها في النوائب و الشدائد.

وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ جَمِيعاً من الثقلين، أو الخلائق كلّهم ثُمَّ يُنْجِيهِ عطف على «يفتدي» أي: يودّ لو يفتدي ثمّ لو ينجيه الافتداء، أو من في الأرض. و «ثمّ» لاستبعاد الإنجاء. يعني: يتمنّى لو كان هؤلاء جميعا تحت يده و بذلهم في فداء نفسه، ثمّ ينجيه ذلك، و هيهات أن ينجيه.

كَلَّا ردع عن الودادة، و دلالة على أنّ الافتداء لا ينجيه من العذاب إِنَّها الضمير للنار، و ذكر العذاب دالّ عليها. أو مبهم يفسّره لَظى فهو خبر، أو بدل. أو للقصّة، و «لظى» مبتدأ خبره نَزَّاعَةً لِلشَّوى و هو اللهب الخالص.

و قيل: علم للنار منقول من اللظى، بمعنى اللهب.

و قرأ حفص: نزّاعة، بالنصب على الاختصاص للتهويل، أو الحال المؤكّدة، أو المتنقّلة على أنّ «لظى» بمعنى: متلظّية.

و الشوى: الأطراف. أو جمع شواة. و هي جلدة الرأس. و المعنى: تنزع

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 182

الأطراف و تقطعها، أو الجلد و اللحم، فلا تترك لحما و لا جلدا، ثمّ تعاد ثمّ تنزع، و هكذا.

و قال الكلبي: يعني: تأكل الدماغ كلّه ثمّ يعود كما كان، ثمّ تأكل.

تَدْعُوا أي: تدعو النار إلى نفسها. مجاز عن جذبها و إحضارها لمن فرّ عنها. و المعنى: لا يفوت هذه النار كافر، فكأنّها تدعوه فيجيبها كرها. و قيل: تدعو المنافقين و الكافرين بلسان فصيح، ثمّ تلتقطهم التقاط الحبّ. فيجوز أن يخلق اللّه فيها كلاما، كما يخلقه في جلودهم و أيديهم و أرجلهم، و كما خلقه في الشجرة.

و قيل: «تدعو»: تهلك، من قولهم: دعاه اللّه إذا أهلكه. فالمعنى: تهلك النار مَنْ أَدْبَرَ عن الحقّ وَ تَوَلَّى عن الطاعة.

وَ جَمَعَ و جمع المال فَأَوْعى فجعله في وعاء و كنزه حرصا

و تأميلا، و لم يؤدّ الزكاة و سائر الحقوق، و تشاغل به عن الدين، و زها باقتنائه و تكبّر.

[سورة المعارج (70): الآيات 19 الى 35]

إِنَّ الْإِنْسانَ خُلِقَ هَلُوعاً (19) إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ جَزُوعاً (20) وَ إِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ مَنُوعاً (21) إِلاَّ الْمُصَلِّينَ (22) الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ (23)

وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ (24) لِلسَّائِلِ وَ الْمَحْرُومِ (25) وَ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (26) وَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ (27) إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ (28)

وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ (29) إِلاَّ عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ (30) فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ (31) وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ (32) وَ الَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ (33)

وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ (34) أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ (35)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 183

إِنَّ الْإِنْسانَ أراد به الناس، بقرينة الاستثناء بعد خُلِقَ هَلُوعاً شديد الحرص، سريع الجزع عند مسّ المكروه، كثير المنع عن الخير المقدّر شرعا.

و أصل الهلع: السرعة، من قولهم: ناقة هلواع أو هلواعة، أي: سريعة السير. و في الصحاح: «الهلع: أفحش الجزع. و قد هلع- بالكسر- فهو هلع و هلوع. و قد جاء

في الحديث: «من شرّ ما أوتي العبد شحّ هالع، و جبن خالع» أي: يجزع فيه و يحزن، كما يقال: يوم عاصف و ليل نائم. ثمّ قال: و قد هلوعت، أي: أسرعت.

و ذئب هلع بلع. فالهلع من الحرص، و البلع من الابتلاع. و الهالع: النعام السريع في مضيّه. و النعامة هالعة» «1».

و عن أحمد بن يحيى أنّه قال: قال لي محمد بن عبد اللّه بن طاهر: ما الهلع؟

فقلت: قد فسّره اللّه، و لا يكون تفسير أبين من تفسيره. و

هو قوله: إِذا مَسَّهُ الشَّرُّ ناله الضرّ من المرض و الفقر جَزُوعاً يظهر شدّة الجزع وَ إِذا مَسَّهُ الْخَيْرُ السعة من المال مَنُوعاً يبالغ في المنع و الإمساك.

و الأوصاف الثلاثة أحوال مقدّرة. و المعنى: أنّ الإنسان لإيثاره الجزع و المنع، و تمكّنهما منه، و رسوخهما فيه، كأنّه مجبول عليهما مطبوع، و كأنّه أمر خلقيّ و ضروريّ غير اختياري، كقوله تعالى: خُلِقَ الْإِنْسانُ مِنْ عَجَلٍ «2». و الدليل عليه

______________________________

(1) الصحاح 3: 1308.

(2) الأنبياء: 37.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 184

أنّه حين كان في البطن و المهد لم يكن به هلع. و لأنّه ذمّ، و اللّه تعالى لا يذمّ فعله.

و الدليل عليه أنّه سبحانه استثنى المؤمنين الكاملين الّذين جاهدوا أنفسهم، و حملوها على المكاره في الطاعات، و ظلفوها «1» عن الشهوات، حتّى لم يكونوا جازعين و لا مانعين، فقال: إِلَّا الْمُصَلِّينَ* الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ أي:

مواظبون على أدائها، و لا يشتغلون عنها بشي ء من الشواغل.

وَ الَّذِينَ فِي أَمْوالِهِمْ حَقٌّ مَعْلُومٌ كالزكوات و الأخماس و سائر حقوق الناس لِلسَّائِلِ الّذي يسأل وَ الْمَحْرُومِ الّذي لا يسأل تعفّفا عنه، فيحسب غنيّا فيحرم.

وَ الَّذِينَ يُصَدِّقُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ بيوم الجزاء، تصديقا بأعمالهم، و هو أن يتعب نفسه في الطاعة، و يصرف ماله طمعا في المثوبة الأخرويّة، و لذلك ذكر يوم الدين.

وَ الَّذِينَ هُمْ مِنْ عَذابِ رَبِّهِمْ مُشْفِقُونَ خائفون على أنفسهم إِنَّ عَذابَ رَبِّهِمْ غَيْرُ مَأْمُونٍ لا يؤمن حلوله بمستحقّيه.

و قيل: معناه: يخافون أن لا تقبل حسناتهم، و يؤخذون بسيّئاتهم. و ذلك لأنّ المكلّف لا يعلم هل أدّى الواجب كما أمر به؟ و هل انتهى عن المحظور على ما نهي عنه؟ فهذا اعتراض يدلّ على أنّه لا ينبغي لأحد أن يأمن عذاب

اللّه، و إن بالغ في طاعته، بل يكون بين الخوف و الرجاء.

وَ الَّذِينَ هُمْ لِفُرُوجِهِمْ حافِظُونَ* إِلَّا عَلى أَزْواجِهِمْ أَوْ ما مَلَكَتْ أَيْمانُهُمْ فَإِنَّهُمْ غَيْرُ مَلُومِينَ* فَمَنِ ابْتَغى وَراءَ ذلِكَ فَأُولئِكَ هُمُ العادُونَ المتجاوزون عن حدود اللّه. و قد سبق «2» تفسير هذه الآيات الثلاث في سورة المؤمنين.

______________________________

(1) ظلف نفسه عن الشي ء: منعها من أن تفعله و كفّ عنه.

(2) راجع ج 4 ص 426، ذيل الآية 5- 7 من سورة المؤمنون.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 185

وَ الَّذِينَ هُمْ لِأَماناتِهِمْ وَ عَهْدِهِمْ راعُونَ حافظون. و قرأ ابن كثير: لأمانتهم.

وَ الَّذِينَ هُمْ بِشَهاداتِهِمْ قائِمُونَ يعني: لا يخفون و لا ينكرون ما علموه من حقوق اللّه و حقوق العباد. و خصّها من بينها إبانة لفضلها، لأنّ في إقامتها إحياء الحقوق و تصحيحها، و في صرفها تضييعها و إبطالها. و قرأ يعقوب و حفص:

بشهاداتهم، لاختلاف الأنواع.

وَ الَّذِينَ هُمْ عَلى صَلاتِهِمْ يُحافِظُونَ فيراعون شرائطها و أركانها، و يكملون فرائضها و سننها. فالدوام يرجع إلى نفس الصلاة، و المحافظة إلى أحوالها. و وصفهم بها أوّلا و آخرا باعتبارين، للدلالة على فضلها و إنافتها على غيرها.

و

روي عن أبي جعفر عليه السّلام: «أنّ قوله: «عَلى صَلاتِهِمْ دائِمُونَ» في النوافل، و هذه الآية في الفرائض و الواجبات».

و

روى محمد بن الفضيل عن أبي الحسن عليه السّلام أنّه قال: «أولئك اصحاب الخمسين صلاة من شيعتنا».

و في نظم هذه الصلاة مبالغات لا تخفى، من الجملة الاسميّة، و تقديم الضمير، و جمع الصفات، و غير ذلك، و الإتيان بما هو العلّة و السبب في البعض.

أُولئِكَ فِي جَنَّاتٍ مُكْرَمُونَ معظّمون مبجّلون بما يفعل بهم من إعطاء الثواب العظيم و الأجر الجزيل.

[سورة المعارج (70): الآيات 36 الى 44]

فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ مُهْطِعِينَ (36) عَنِ الْيَمِينِ

وَ عَنِ الشِّمالِ عِزِينَ (37) أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ (38) كَلاَّ إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ (39) فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ (40)

عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ (41) فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا وَ يَلْعَبُوا حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ (42) يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ يُوفِضُونَ (43) خاشِعَةً أَبْصارُهُمْ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ (44)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 186

روي: أنّ المشركين كانوا يحتفّون حول النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حلقا حلقا و فرقا فرقا، يستمعون و يستهزءون بكلامه، و يقولون: إن دخل هؤلاء الجنّة، كما يقول محمد فلندخلنّها قبلهم، فنزلت:

فَما لِ الَّذِينَ كَفَرُوا قِبَلَكَ حولك مُهْطِعِينَ مسرعين نحوك، مادّي أعناقهم إليك، مقبلين بأبصارهم عليك عَنِ الْيَمِينِ وَ عَنِ الشِّمالِ عِزِينَ فرقا شتّى.

جمع عزة. و أصلها عزوة، من العزو، كأنّ كلّ فرقة تعتزي إلى غير من تعتزي إليه الاخرى، فهم مفترقون. و قيل: كان المستهزؤن خمسة أرهط.

أَ يَطْمَعُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُدْخَلَ جَنَّةَ نَعِيمٍ بلا إيمان. و هو إنكار لقولهم: لو صحّ ما يقوله لنكون فيها أفضل حظّا منهم كما في الدنيا.

كَلَّا ردع لهم عن هذا الطمع. ثمّ علّل ذلك بقوله: إِنَّا خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ أي: إنّهم مخلوقون من نطفة قذرة لا تناسب عالم القدس، فمن لم يستكمل بالإيمان و الطاعة، و لم يتخلّق بالأخلاق المكتسبة، لم يستعدّ لدخولها. أو إنّكم مخلوقون من أجل ما تعلمون. و هو تكميل النفس بالعلم و العمل، فمن لم يستكملها لم يتبوّأ في منازل الكاملين.

فَلا أُقْسِمُ بِرَبِّ الْمَشارِقِ وَ الْمَغارِبِ إِنَّا لَقادِرُونَ عَلى أَنْ نُبَدِّلَ خَيْراً مِنْهُمْ أي:

نهلكهم و نأتي بخلق أمثل

منهم. و قيل: معناه: نعطي محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بدلهم، و هو خير منهم، و هم الأنصار. وَ ما نَحْنُ بِمَسْبُوقِينَ بمغلوبين في كلّ ما أردنا. و هذا عطف

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 187

على جواب القسم.

و يفهم من هذا الكلام إنكارهم البعث، من حيث إنّه احتجاج عليهم بالنشأة الأولى، كالاحتجاج بها عليهم في مواضع من التنزيل، و ذلك قوله: «خَلَقْناهُمْ مِمَّا يَعْلَمُونَ» أي: من النطف. و بالقدرة على أن يهلكهم و يبدّل ناسا خيرا منهم. و أنّه تعالى ليس بمسبوق على ما يريد تكوينه، لا يعجزه شي ء. و الغرض أنّ من قدر على ذلك لم تعجزه الإعادة، و هم ينكرون ذلك عنادا و لجاجا مع علمهم بذلك.

فَذَرْهُمْ يَخُوضُوا في باطلهم وَ يَلْعَبُوا في دنياهم حَتَّى يُلاقُوا يَوْمَهُمُ الَّذِي يُوعَدُونَ مرّ تفسيره في آخر سورة الطور «1».

يَوْمَ يَخْرُجُونَ مِنَ الْأَجْداثِ سِراعاً من القبور مسرعين. جمع سريع.

كَأَنَّهُمْ إِلى نُصُبٍ شي ء منصوب للعبادة، أو إلى علم نصب لهم يُوفِضُونَ يسرعون إلى الداعي مستبقين كما كانوا يستبقون إلى أنصابهم. و قرأ ابن عامر و حفص: نصب بضمّ النون و الصاد. و الباقون بفتح النون و سكون الصاد.

خاشِعَةً ذليلة خاضعة أَبْصارُهُمْ لا يرفعونها لذلّتهم تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ تغشاهم مذلّة. و قد مرّ «2» تفسيره أيضا. ذلِكَ الْيَوْمُ الَّذِي كانُوا يُوعَدُونَ به في الدنيا فلا يصدّقون به و يجحدونه، و قد شاهدوه في تلك الحال.

______________________________

(1) راجع ج 6 ص 497، ذيل الآية (45) من سورة الطور.

(2) راجع ص 153، ذيل الآية (43) من سورة القلم.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 189

(71) سورة نوح

اشارة

مكّيّة. و هي ثمان و عشرون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «و

من قرأ سورة نوح عليه السّلام، كان من المؤمنين الّذين تدركهم دعوة نوح عليه السّلام».

أبو عبد اللّه عليه السّلام قال: «من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر و يقرأ كتابه، فلا يدع أن يقرأ سورة: «إنّا أرسلنا نوحا». فأيّ عبد قرأها محتسبا صابرا في فريضة أو نافلة، أسكنه اللّه مساكن الأبرار، و أعطاه ثلاث جنان مع جنّته كرامة من اللّه، و زوّجه مائتي حوراء و أربعة آلاف ثيّب إن شاء اللّه».

[سورة نوح (71): الآيات 1 الى 14]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ قَوْمَكَ مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ (1) قالَ يا قَوْمِ إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ (2) أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ (3) يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ وَ يُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ إِذا جاءَ لا يُؤَخَّرُ لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ (4)

قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي لَيْلاً وَ نَهاراً (5) فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلاَّ فِراراً (6) وَ إِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ لِتَغْفِرَ لَهُمْ جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ وَ اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ وَ أَصَرُّوا وَ اسْتَكْبَرُوا اسْتِكْباراً (7) ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً (8) ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً (9)

فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً (10) يُرْسِلِ السَّماءَ عَلَيْكُمْ مِدْراراً (11) وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً (12) ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً (13) وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً (14)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 190

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة المعارج بوعيد أهل التكذيب، افتتح هذه السورة بذكر قصّة نوح و قومه و ما نالهم بالتكذيب، تسلية لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ إِنَّا أَرْسَلْنا نُوحاً إِلى قَوْمِهِ أَنْ أَنْذِرْ

قَوْمَكَ بأن أنذرهم، فحذف الجارّ و أوصل الفعل. و هي «أن» الناصبة للفعل. و المعنى: أرسلناه بأن قلنا له: أنذر، أي: بالأمر بالإنذار. و يجوز أن تكون مفسّرة، لتضمّن الإرسال معنى القول. و التقدير: قلنا له: أنذرهم. مِنْ قَبْلِ أَنْ يَأْتِيَهُمْ عَذابٌ أَلِيمٌ عذاب الآخرة، أو الطوفان.

قالَ يا قَوْمِ أضافهم إلى نفسه، فكأنّه قال: أنتم عشيرتي يسوءني ما يسوءكم إِنِّي لَكُمْ نَذِيرٌ مُبِينٌ* أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَ اتَّقُوهُ وَ أَطِيعُونِ مرّ في الشعراء «1» نظيره. و في «أن» يحتمل الوجهان.

______________________________

(1) راجع ج 5 ص 38، ذيل الآية (108)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 191

يَغْفِرْ لَكُمْ مِنْ ذُنُوبِكُمْ بعض ذنوبكم، و هو ما سبق، فإنّ الإسلام يجبّه، فلا يؤاخذكم به في الآخرة. و لمّا كانت ذنوبهم الّتي يستأنفونها لا يجوز الوعد بغفرانها على الإطلاق، لما يكون في ذلك من الإغراء بالقبيح، قيّد سبحانه الغفران ب «من» التبعيضيّة.

وَ يُؤَخِّرْكُمْ إِلى أَجَلٍ مُسَمًّى هو أقصى ما قدّر لكم بشرط الإيمان و الطاعة.

مثل: ان قضى اللّه أنّ قوم نوح إن آمنوا عمّرهم ألف سنة، و إن بقوا على كفرهم أهلكهم على رأس تسعمائة. فقيل لهم: آمنوا يؤخّركم إلى وقت سمّاه اللّه و ضربه أمدا تنتهون إليه لا تتجاوزونه، و هو الوقت الأطول تمام الألف. و فيه دلالة على ثبوت أجلين.

ثمّ أخبر أنّه لو جاء ذلك الأجل الأمد لا يؤخّر كما يؤخّر هذا الوقت، و لم تكن فيه حيلة أصلا، فقال:

إِنَّ أَجَلَ اللَّهِ أي: الأجل الأطول الأقصى الّذي قدّره اللّه إِذا جاءَ و حلّ في الوقت المقدّر لا يُؤَخَّرُ عن وقته، فبادروا في أوقات الإمهال و التأخير لَوْ كُنْتُمْ تَعْلَمُونَ لو كنتم من أهل العلم و النظر لعلمتم ذلك. و فيه أنّهم

لانهماكهم في حبّ الحياة كأنّهم شاكّون في الموت.

قالَ رَبِّ إِنِّي دَعَوْتُ قَوْمِي إلى عبادتك و خلع الأنداد من دونك لَيْلًا وَ نَهاراً أي: دائما من غير فتور، مستغرقا به الأوقات كلّها فَلَمْ يَزِدْهُمْ دُعائِي إِلَّا فِراراً نفارا عن الإيمان و الطاعة من فرط العناد، و إدبارا عنّي. و إسناد الزيادة إلى الدعاء على السببيّة، كقوله: فَزادَتْهُمْ إِيماناً «1».

وَ إِنِّي كُلَّما دَعَوْتُهُمْ إلى الإيمان لِتَغْفِرَ لَهُمْ أي: ليتوبوا عن كفرهم فتغفر لهم بسببه. فذكر المسبّب الّذي هو حظّهم ليكون أقبح، لإعراضهم عنه.

______________________________

(1) التوبة: 124.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 192

جَعَلُوا أَصابِعَهُمْ فِي آذانِهِمْ أي: سدّوا أسماعهم عن استماع الدعوة وَ اسْتَغْشَوْا ثِيابَهُمْ تغطّوا بها لئلّا يروني. و التعبير بصيغة الطلب للمبالغة، كأنّهم طلبوا أن تغشاهم ثيابهم أو تغشّيهم لئلّا يبصروه، كراهة النظر إلى وجه من ينصحهم في دين اللّه. و قيل: لئلّا يعرفهم. و يعضده قوله: أَلا إِنَّهُمْ يَثْنُونَ صُدُورَهُمْ لِيَسْتَخْفُوا مِنْهُ أَلا حِينَ يَسْتَغْشُونَ ثِيابَهُمْ «1».

وَ أَصَرُّوا و أكبّوا على الكفر و المعاصي. مستعار من: أصرّ الحمار على العانة إذا صرّ «2» أذنيه و أقبل عليها يكدمها و يطردها، للإقبال على المعاصي و الإكباب عليها. وَ اسْتَكْبَرُوا عن اتّباعي اسْتِكْباراً عظيما، أي: أخذتهم العزّة من اتّباعي و طاعتي. و في ذكر المصدر تأكيد و دلالة على فرط استكبارهم و عتوّهم.

قيل: إنّ الرجل منهم كان يذهب بابنه إلى نوح فيقول له: احذر هذا لا يغوينّك، فإنّ أبي قد ذهب بي إليه و أنا مثلك، فحذّرني مثل ما حذّرتك.

ثُمَّ إِنِّي دَعَوْتُهُمْ جِهاراً ثُمَّ إِنِّي أَعْلَنْتُ لَهُمْ وَ أَسْرَرْتُ لَهُمْ إِسْراراً أي: دعوتهم مرّة بعد اخرى و كرّة بعد أولى، على أيّ وجه أمكنني. و قد فعل نوح عليه السّلام

كما يفعل الّذي يأمر بالمعروف و ينهى عن المنكر، في الابتداء بالأهون، و الترقّي في الأشدّ فالأشدّ. فافتتح بالمناصحة في السرّ، فلمّا لم يقبلوا ثنّى بالمجاهرة، فلمّا لم تؤثّر ثلّث بالجمع بين الإسرار و الإعلان. و معنى «ثمّ» الدلالة على تباعد الأحوال، لأنّ الجهار أغلظ من الإسرار، و الجمع بين الأمرين أغلظ من إفراد أحدهما.

و «جهارا» منصوب ب «دعوتهم» نصب المصدر، لأنّ الدعاء أحد نوعيه

______________________________

(1) هود: 5.

(2) العانة: القطيع من حمر الوحش. صرّ الفرس أذنه: سوّاها و نصبها للاستماع. و كدم كدما:

عضّ بمقدّم فمه.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 193

الجهار، فنصب به نصب القرفصاء «1» ب: قعد، لكونها أحد أنواع القعود. أو لأنّه أراد ب «دعوتهم» جاهرتهم. و يجوز أن يكون صفة لمصدر: دعا، أي: دعاء جهارا، أي:

مجاهرا به. أو مصدرا في موضع الحال، أي: مجاهرا.

فَقُلْتُ اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ أي: اطلبوا منه المغفرة على كفركم و معاصيكم إِنَّهُ كانَ غَفَّاراً للتائبين. أمرهم بالاستغفار الّذي هو التوبة عن الكفر و المعاصي.

و كأنّهم لمّا أمرهم بالعبادة قالوا: إن كنّا على حقّ فلا نتركه، و إن كنّا على باطل فكيف يقبلنا و يلطف بنا من عصيناه. فأمرهم بما يجبّ معاصيهم، و يجلب إليهم المنح.

و قيل: لمّا طالت دعوتهم، و تمادى إصرارهم، حبّس اللّه عنهم القطر أربعين سنة، و روي سبعين، و أعقم أرحام نسائهم، فوعدهم بالمطر و الخصب على الاستغفار عمّا كانوا عليه، فقال:

يُرْسِلِ السَّماءَ المظلّة، لأنّ المطر منها ينزل إلى السحاب. أو السحاب.

أو المطر، من قوله: إذا نزل السماء بأرض قوم «2».

عَلَيْكُمْ مِدْراراً كثير الدرور. و يستوي في مفعال المذكّر و المؤنّث، كقولهم:

رجل أو امرأة معطار و متفال. و الآية سبب مشروعيّة الاستغفار في الاستسقاء.

وَ يُمْدِدْكُمْ بِأَمْوالٍ وَ بَنِينَ

وَ يَجْعَلْ لَكُمْ جَنَّاتٍ بساتين من أنواع الثمار وَ يَجْعَلْ لَكُمْ أَنْهاراً قدّم نوح عليه السّلام إليهم الموعد بما هو أبلغ و أوقع في نفوسهم و أحبّ إليهم، من المنافع الحاضرة و الفوائد العاجلة، ترغيبا في الإيمان و بركاته،

______________________________

(1) القرفصاء: هي أن يجلس الرجل على أليتيه و يلصق فخذيه ببطنه و يحتبي بيديه، أو يجلس على ركبتيه و يلصق بطنه بفخذيه. يقال: قعد القرفصاء، أي: قعد على الهيئة المذكورة.

(2) و عجزه:

رعيناه و إن كانوا غضابا

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 194

و الطاعة و نتائجها من خير الدارين. كما قال: وَ أُخْرى تُحِبُّونَها نَصْرٌ مِنَ اللَّهِ «1».

وَ لَوْ أَنَّ أَهْلَ الْقُرى آمَنُوا وَ اتَّقَوْا لَفَتَحْنا عَلَيْهِمْ بَرَكاتٍ «2». وَ لَوْ أَنَّهُمْ أَقامُوا التَّوْراةَ وَ الْإِنْجِيلَ وَ ما أُنْزِلَ إِلَيْهِمْ مِنْ رَبِّهِمْ لَأَكَلُوا مِنْ فَوْقِهِمْ «3». وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ «4».

و عن الحسن: أنّ رجلا شكا إليه الجدب فقال: استغفر اللّه. و شكا إليه آخر الفقر، و آخر قلّة النسل، و آخر قلّة ريع أرضه. فأمرهم كلّهم بالاستغفار. فقال له الربيع بن صبيح: أتاك رجال يشكون أبوابا و يسألون أنواعا، فأمرتهم كلّهم بالاستغفار. فتلا هذه الآية.

و

روى عليّ بن مهزيار، عن حمّاد بن عيسى، عن محمد بن يوسف، عن أبيه، قال: «سأل رجل أبا جعفر عليه السّلام و أنا عنده فقال له: جعلت فداك إنّي كثير المال، و ليس يولد لي ولد، فهل من حيلة؟ قال: نعم، استغفر ربّك سنة في آخر الليل مائة مرّة، فإن ضيّعت ذلك بالليل فاقضه بالنهار، فإنّ اللّه يقول: «اسْتَغْفِرُوا رَبَّكُمْ» إلى آخره».

ثمّ قال نوح لقومه على وجه التبكيت: ما لَكُمْ لا تَرْجُونَ لِلَّهِ وَقاراً أي: لا تأملون له توقيرا، أي: تعظيما

لمن عبده و أطاعه، فتكونوا على حال تأملون فيها تعظيمه إيّاكم في دار الثواب. و «للّه» بيان للموقّر، و لو تأخّر لكان صلة للوقار. أو لا تعتقدون له عظمة، فتخافوا عصيانه. و المعنى: لا تعظّمون اللّه حقّ تعظيمه، فتعبدوه حقّ عبادته. و إنّما عبّر عن الاعتقاد بالرجاء التابع لأدنى الظنّ مبالغة. و عن ابن

______________________________

(1) الصفّ: 13.

(2) الأعراف: 96.

(3) المائدة: 66.

(4) الجنّ: 16.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 195

عبّاس: لا تخافون للّه عاقبة، لأنّ العاقبة حال استقرار الأمور و ثبات الثواب و العقاب. من: وقر إذا ثبت و استقرّ.

وَ قَدْ خَلَقَكُمْ أَطْواراً حال مقرّرة للإنكار، من حيث إنّها موجبة للرجاء.

كأنّه قال: مالكم لا تؤمنون باللّه و الحال هذه، فإنّها حال موجبة للإيمان به، لأنّه خلقكم تارات، أي: تارة بعد تارة و حالة بعد حالة، بأن خلقكم أوّلا عناصر، ثمّ مركّبات تغذّى بها الإنسان، ثمّ نطفا، ثمّ علقا، ثمّ مضغا، ثمّ عظاما و لحما، ثمّ أنشأكم خلقا آخر، و هو إيلاج الروح إلى البدن، فإنّه يدلّ على أنّه يعيدكم تارة اخرى فيعطيكم الثواب، و على أنّه تعالى عظيم القدرة تامّ الحكمة.

و قيل: معناه: خلقكم صبيانا، ثمّ شبّانا، ثمّ شيوخا.

و قيل: خلقكم مختلفين في الصفات، أغنياء و فقراء، و زمنى و أصحّاء، و طوالا و قصارا. و الآية محتملة للجميع.

[سورة نوح (71): الآيات 15 الى 20]

أَ لَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً (15) وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً (16) وَ اللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً (17) ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها وَ يُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً (18) وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً (19)

لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلاً فِجاجاً (20)

ثمّ أتبع ذلك ما يؤيّده من آيات الآفاق، فقال: أَ لَمْ تَرَوْا كَيْفَ خَلَقَ اللَّهُ

سَبْعَ سَماواتٍ طِباقاً طبقا فوق طبق وَ جَعَلَ الْقَمَرَ فِيهِنَّ نُوراً أي: في السماوات. و هو في السماء الدنيا، و إنّما نسب إليهنّ لما بينهنّ من الملابسة، من حيث إنّها طباق، فجاز أن يقال: فيهنّ كذا، و إن لم يكن في جميعهنّ، كما يقال: في المدينة كذا، و هو

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 196

في بعض نواحيها.

وَ جَعَلَ الشَّمْسَ سِراجاً يبصر أهل الدنيا في ضوئها، كما يبصر أهل البيت في ضوء السراج ما يحتاجون إلى إبصاره. فمثّلها به لأنّها تزيل ظلمة الليل عن وجه الأرض، كما يزيلها السراج عمّا حوله. و القمر ليس كذلك، و إنّما هو نور لم يبلغ قوّة ضياء الشمس. و مثله قوله تعالى: هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِياءً وَ الْقَمَرَ نُوراً «1». و الضياء أقوى من النور.

و عن ابن عبّاس و ابن عمر: أنّ الشمس و القمر وجوههما ممّا يلي السماء، و ظهورهما ممّا يلي الأرض.

وَ اللَّهُ أَنْبَتَكُمْ مِنَ الْأَرْضِ نَباتاً أنشأكم منها. فاستعير الإنبات للإنشاء، كما يقال: زرعك اللّه للخير. و كانت هذه الاستعارة أدلّ على الحدوث و التكوّن من الأرض، لأنّهم إذا كانوا نباتا كانوا محدثين لا محالة حدوث النبات. و منه قيل للحشويّة: النابتة و النوابت، لحدوث مذهبهم في الإسلام من غير أوّليّة لهم فيه.

و أصله: أنبتكم إنباتا فنبتّم نباتا، فاختصر اكتفاء بالدلالة الالتزاميّة.

ثُمَّ يُعِيدُكُمْ فِيها مقبورين وَ يُخْرِجُكُمْ إِخْراجاً بالحشر. و أكّده بالمصدر كما أكّد به الأوّل، دلالة على أنّ الإعادة محقّقة كالإبداء. فكأنّه قال: يخرجكم حقّا و لا محالة.

وَ اللَّهُ جَعَلَ لَكُمُ الْأَرْضَ بِساطاً مبسوطة تتقلّبون عليها كما يتقلّب الرجل على بساطه لِتَسْلُكُوا مِنْها سُبُلًا فِجاجاً واسعة. جمع فجّ. و «من» لتضمّن الفعل معنى الاتّخاذ.

عدّد اللّه سبحانه هذه

الضروب من النعم، فنبّههم سبحانه أوّلا على النظر في أنفسهم، لأنّها أقرب منظور فيه منهم. ثمّ على النظر في العالم و ما سوّى فيه من

______________________________

(1) يونس: 5.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 197

العجائب الشاهدة على الصانع الباهر قدرته و علمه، من السماوات و الأرض و الشمس و القمر، امتنانا عليهم، و تنبيها لهم على استحقاق خالقها للعبادة خالصة من كلّ شرك و ندّ، و دلالة لهم على أنّه عالم بمصالحهم، و مدبّر لهم على ما تقتضيه الحكمة، فيجب أن لا يقابلوا هذه النعم الجليلة بالكفر و الجحود.

[سورة نوح (71): الآيات 21 الى 28]

قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي وَ اتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلاَّ خَساراً (21) وَ مَكَرُوا مَكْراً كُبَّاراً (22) وَ قالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ وَ لا تَذَرُنَّ وَدًّا وَ لا سُواعاً وَ لا يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً (23) وَ قَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ ضَلالاً (24) مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ أُغْرِقُوا فَأُدْخِلُوا ناراً فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً (25)

وَ قالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً (26) إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ وَ لا يَلِدُوا إِلاَّ فاجِراً كَفَّاراً (27) رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَّ وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ مُؤْمِناً وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلاَّ تَباراً (28)

قالَ نُوحٌ رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي فيما أمرتهم به وَ اتَّبَعُوا مَنْ لَمْ يَزِدْهُ مالُهُ وَ وَلَدُهُ إِلَّا خَساراً و اتّبعوا رؤساءهم البطرين بأموالهم المغترّين بأولادهم، بحيث صار ذلك سببا لزيادة خسارهم و هلاكهم في الآخرة. و فيه أنّهم إنّما اتّبعوهم لوجاهة حصلت لهم بالأموال و الأولاد، و أدّت إلى الخسار. و أجرى ذلك مجرى

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 198

صفة لازمة لهم

و سمة يعرفون بها، تحقيقا له و تثبيتا، و إبطالا لما سواه.

و قرأ ابن كثير و الكسائي و البصريّان: و ولده بالضمّ و السكون، على أنّه لغة، كالحزن و الحزن، أو جمع كالأشد.

وَ مَكَرُوا عطف على «لم يزده». و الضمير ل «من». و جمعه للمعنى. مَكْراً كُبَّاراً كبيرا في الغاية، فإنّه أبلغ من: كبار، و هو أكبر من: كبير. و نحوه: طوال و طوّال. و مكرهم: احتيالهم في الدين، و كيدهم لنوح، و تحريش السفلة على أذاه، و صدّهم عن الميل إليه.

وَ قالُوا لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ أي: عبادتها وَ لا تَذَرُنَّ وَدًّا كانت هذه أكبر أصنامهم، و أعظمها عندهم، و أشهرها بينهم، فخصّوها بعد قولهم: «لا تَذَرُنَّ آلِهَتَكُمْ». ثمّ قالوا: وَ لا سُواعاً وَ لا يَغُوثَ وَ يَعُوقَ وَ نَسْراً أي: لا تذرنّ هؤلاء أيضا خصوصا. و قرأ نافع: ودّا بالضمّ. و منع صرف «يغوث» و «يعوق» للعلميّة و العجمة.

قيل: هي أسماء رجال صالحين كانوا بين آدم و نوح، فلمّا ماتوا قال إبليس لمن بعدهم: لو صوّرتم صورهم كان أنشط لكم و أشوق إلى العبادة، ففعلوا. فلمّا مات أولئك قال لمن بعدهم: إنّهم كانوا يعبدونهم، فعبدوهم، و قد انتقلت إلى العرب.

و كان ودّ لكلب، و سواع لهمدان، و يغوث لمذحج، و يعوق لمراد، و نسر لحمير.

و لهذا سمّيت العرب بعبد ودّ و عبد يغوث.

و قال الواقدي: كان ودّ على صورة رجل، و سواع على صورة امرأة، و يغوث على صورة أسد، و يعوق على صورة فرس، و نسر على صورة نسر.

و روى ابن عبّاس: كان نوح يحرس جسد آدم على جبل بالهند، و يحول بينه و بين الكفّار لئلّا يطوفوا بقبره. فقال لهم إبليس: إنّ

هؤلاء يفخرون عليكم، و يزعمون أنّهم بنو آدم دونكم، و إنّما هو جسد، و أنا أصوّر لكم مثله تطيفون به.

فنحت خمسة أصنام، و حملهم على عبادتها. و هي: ودّ، و سواع، و يغوث، و يعوق،

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 199

و نسر. فلمّا كان أيّام الغرق دفن الطوفان تلك الأصنام، فطمّها التراب، فلم تزل مدفونة حتّى أخرجها الشيطان لمشركي العرب. فاتّخذت قضاعة ودّا، فعبدوها بدومة الجندل، ثمّ توارثها بنوه الأكابر حتّى صارت إلى كلب، فجاء الإسلام و هو عندهم. و أخذ بطنان من طيّ يغوث، فذهبوا به إلى مراد فعبدوه زمانا. ثمّ إنّ بني ناجية أرادوا أن ينزعوه منهم، ففرّوا به إلى بني الحرث بن كعب. و أمّا يعوق فكان لكهلان، ثمّ توارثه بنوه الأكبر فالأكبر حتّى صار إلى همدان. و أمّا نسر فكان لخثعم يعبدونه. و أمّا سواع فكان لآل ذي الكلاع يعبدونه.

و روي عن عطاء و قتادة و الثمالي: أنّ أوثان قوم نوح صارت إلى العرب، فكان ودّ بدومة الجندل، و سواع برهاط لهذيل. و كان يغوث لبني غطيف من مراد، و كان يعوق لهمدان، و كان نسر لآل ذي الكلاع من حمير، و كان اللات لثقيف. و أمّا العزى فلسليم و غطفان و جشم و نضر و سعد بن بكر. و أمّا مناة فكانت لقديد. و أمّا أساف و نائلة و هبل فلأهل مكّة. و كان أساف حيال الحجر الأسود. و كانت نائلة حيال الركن اليماني. و كان هبل في جوف الكعبة ثمانية عشر ذراعا.

وَ قَدْ أَضَلُّوا كَثِيراً الضمير للرؤساء، أو للأصنام، كقوله تعالى: إِنَّهُنَّ أَضْلَلْنَ كَثِيراً «1» وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا ضَلالًا عطف على «رَبِّ إِنَّهُمْ عَصَوْنِي» على حكاية كلام نوح عليه

السّلام بعد: «قال». و معناه: قال: ربّ إنّهم عصوني، و قال: لا تزد الظالمين إلّا ضلالا، أي: قال هذين القولين. و هما في محلّ النصب، لأنّهما مفعولا «قال». كقولك: قال زيد: نودي للصلاة و صلّ في المسجد، تحكي قوليه معطوفا أحدهما على صاحبه.

و أراد نوح بالضلال أن يخذلوا و يمنعوا الألطاف، لتصميمهم على الكفر، و وقوع اليأس من إيمانهم. و ذلك حسن جميل يجوز الدعاء به، بل لا يحسن الدعاء

______________________________

(1) إبراهيم: 36.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 200

زبدة التفاسير ج 7 249

بخلافه. فكأنّه قال: إلّا منعا من الطاعات، عقوبة لهم على رسوخهم في الكفر و عتوّهم و عنادهم.

و يجوز أنّه عليه السّلام أراد الضلال في ترويج مكرهم و مصالح دنياهم، لا في أمر دينهم. أو الضياع و الهلاك، كقوله: إِنَّ الْمُجْرِمِينَ فِي ضَلالٍ وَ سُعُرٍ «1».

فاستجاب اللّه سبحانه دعاءه، و أهلكهم جميعا بالإغراق، كما حكاه سبحانه عنه بقوله: مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ من أجل خطيئاتهم الكثيرة و ذنوبهم العظيمة. و «ما» مزيدة للتأكيد و التفخيم. و قرأ أبو عمرو: ممّا خطاياهم. أُغْرِقُوا بالطوفان فَأُدْخِلُوا ناراً عذاب الآخرة. و تقديم «مِمَّا خَطِيئاتِهِمْ» لبيان أنّه لم يكن إغراقهم بالطوفان فإدخالهم النار إلّا من أجل خطيئاتهم. و لهذا أكّد هذا المعنى بزيادة «ما».

و الفاء التعقيبيّة لبيان عدم الاعتداد بما بين الإغراق و الإدخال، لاقترابه، و لأنّه كائن لا محالة. أو لأنّ المسبّب كالمتعقّب للسبب و إن تراخى عنه، لفقد شرط أو وجود مانع. أو أريد عذاب القبر، فإنّ من مات في ماء أو في نار أو أكلته السباع و الطير أصابه ما يصيب المقبور من العذاب. و عن الضحّاك: و كانوا يغرقون من جانب، و يحترقون من جانب.

و تنكير النار للتعظيم،

أو لأنّ اللّه أعدّ لهم على حسب خطيئاتهم نوعا من النيران.

فَلَمْ يَجِدُوا لَهُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ أَنْصاراً تعريض لهم باتّخاذ آلهة من دون اللّه لا تقدر على نصرهم. و تهكّم بهم، كأنّه قال: فلم يجدوا لهم من دون اللّه آلهة ينصرونهم و يمنعونهم من عذاب اللّه، كقوله: أَمْ لَهُمْ آلِهَةٌ تَمْنَعُهُمْ مِنْ دُونِنا «2».

وَ قالَ نُوحٌ رَبِّ لا تَذَرْ عَلَى الْأَرْضِ مِنَ الْكافِرِينَ دَيَّاراً نازل دار، أي: لا تدع منهم أحدا إلّا أهلكته. و هو من الأسماء المستعملة في النفي العامّ. يقال: ما بالدار

______________________________

(1) القمر: 47.

(2) الأنبياء: 43.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 201

ديّار و ديّور، كقيّام و قيّوم. و هو فيعال من الدار و الدور. و أصله: ديوار، ففعل به ما فعل بأصل سيّد و ميّت. لا فعّال، و إلّا لكان دوّارا.

إِنَّكَ إِنْ تَذَرْهُمْ يُضِلُّوا عِبادَكَ عن دينك وَ لا يَلِدُوا إِلَّا فاجِراً كَفَّاراً إلّا من سيفجر و يكفر بعد البلوغ. فوصفهم بما يصيرون إليه،

كقوله عليه الصلاة و السّلام: «من قتل قتيلا فله سلبه».

و علمه عليه السّلام بذلك لما جرّبهم و استقرى أحوالهم ألف سنة إلّا خمسين عاما، فعرف شيمهم و طباعهم. و كان الرجل منهم ينطلق بابنه إليه كما ذكر و يقول: احذر هذا، فإنّه كذّاب، و إنّ أبي حذّرنيه، فيموت الكبير و ينشأ الصغير على ذلك. و أيضا قد أخبره اللّه عزّ و جلّ أَنَّهُ لَنْ يُؤْمِنَ مِنْ قَوْمِكَ إِلَّا مَنْ قَدْ آمَنَ «1».

و اعلم أنّ صبيانهم غرقوا لا على وجه العقاب، و لكن كما يموتون بالأنواع من أسباب الهلاك. و كم منهم من يموت بالحرق و الغرق، و كان ذلك زيادة في عذاب الآباء و الأمّهات إذا أبصروا أطفالهم يغرقون.

و عن الحسن: أنّه

سئل عن ذلك، فقال: علم اللّه براءتهم فأهلكهم بغير عذاب.

و عن مقاتل و الربيع و عطاء: أنّ اللّه أعقم أرحام نسائهم، و أيبس أصلاب آبائهم قبل الطوفان بأربعين أو سبعين سنة، فلم يكن معهم صبيّ حين أغرقوا.

ثمّ دعا عليه السّلام لنفسه و للمؤمنين و المؤمنات، فقال: رَبِّ اغْفِرْ لِي وَ لِوالِدَيَ لملك بن متوشلح و شمخا بنت أنوش، و كانا مؤمنين وَ لِمَنْ دَخَلَ بَيْتِيَ منزلي.

و قيل: مسجدي. و قيل: سفينتي.

مُؤْمِناً وَ لِلْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ إلى يوم القيامة. خصّ أوّلا من يتّصل به، لأنّهم أولى و أحقّ بدعائه، ثمّ عمّ المؤمنين و المؤمنات. وَ لا تَزِدِ الظَّالِمِينَ إِلَّا تَباراً هلاكا.

______________________________

(1) هود: 36.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 203

(72) سورة الجنّ

اشارة

مكّيّة. و هي ثمان و عشرون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «و من قرأ سورة الجنّ اعطي بعدد كلّ جنّيّ و شيطان صدّق بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و كذّب به عتق رقبة».

حنان بن سدير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من أكثر قراءة «قل أوحي إليّ» لم يصبه في الحياة الدنيا شي ء من أعين الجنّ، و لا من نفثهم، و لا من سحرهم، و لا من كيدهم، و كان مع محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فيقول: يا ربّ لا أريد بهم بدلا، و لا أريد بدرجتي حولا».

[سورة الجن (72): الآيات 1 الى 17]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ أُوحِيَ إِلَيَّ أَنَّهُ اسْتَمَعَ نَفَرٌ مِنَ الْجِنِّ فَقالُوا إِنَّا سَمِعْنا قُرْآناً عَجَباً (1) يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ فَآمَنَّا بِهِ وَ لَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً (2) وَ أَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَ لا وَلَداً (3) وَ أَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا عَلَى اللَّهِ شَطَطاً (4)

وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً (5) وَ أَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِّ فَزادُوهُمْ رَهَقاً (6) وَ أَنَّهُمْ ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً (7) وَ أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً شَدِيداً وَ شُهُباً (8) وَ أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً (9)

وَ أَنَّا لا نَدْرِي أَ شَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً (10) وَ أَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ وَ مِنَّا دُونَ ذلِكَ كُنَّا طَرائِقَ قِدَداً (11) وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ وَ لَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً

(12) وَ أَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ بَخْساً وَ لا رَهَقاً (13) وَ أَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ وَ مِنَّا الْقاسِطُونَ فَمَنْ أَسْلَمَ فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً (14)

وَ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً (15) وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا عَلَى الطَّرِيقَةِ لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً (16) لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ وَ مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ يَسْلُكْهُ عَذاباً صَعَداً (17)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 204

و لمّا تقدّم في سورة نوح عليه السّلام اتّباع قومه أكابرهم، افتتح هذه السورة اتّباع الجنّ نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ قُلْ أُوحِيَ إِلَيَ إنّما ذكره على لفظ ما لم يسمّ فاعله

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 205

تفخيما و تعظيما، فإنّ اللّه سبحانه أوحى إليه، و جبرئيل عليه السّلام أنزل عليه أَنَّهُ اسْتَمَعَ بالفتح، لأنّه فاعل «أوحي» نَفَرٌ مِنَ الْجِنِ النفر ما بين الثلاثة و العشرة.

و قيل: كانوا من الشيصبان. و هم أكثر الجنّ عددا، و عامّة جنود إبليس منهم. و الجنّ أجسام عاقلة خفيّة يغلب عليهم الناريّة أو الهوائيّة على صورة مخصوصة، بخلاف صورة الناس و الملائكة، فإنّ الملك مخلوق من النور، و الانس من الطين، و الجنّ من النار. و قيل: نوع من الأرواح المجرّدة. و قيل: نفوس بشريّة مفارقة عن أبدانها.

و فيه دلالة على أنّه عليه السّلام ما رءاهم و لم يقرأ عليهم، و إنّما اتّفق حضورهم في بعض أوقات قراءته فسمعوها، فأخبر اللّه به رسوله.

فَقالُوا أي: قالوا لقومهم حين رجعوا إليهم، كقوله تعالى: فَلَمَّا قُضِيَ وَلَّوْا إِلى قَوْمِهِمْ مُنْذِرِينَ «1» إِنَّا بالكسر، لأنّه مبتدأ محكيّ بعد القول سَمِعْنا قُرْآناً كتابا عَجَباً بديعا مباينا لكلام الناس في حسن نظمه و دقّة معانيه، قائمة فيه

دلائل الإعجاز عن الإتيان بمثله. و هو مصدر وضع موضع العجيب للمبالغة.

يَهْدِي إِلَى الرُّشْدِ إلى الحقّ و الصواب، من التوحيد و الإيمان بكلّ ما جاء به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فَآمَنَّا بِهِ بالقرآن. و لمّا كان الإيمان به إيمانا باللّه و بوحدانيّته و براءة من الشرك قالوا: وَ لَنْ نُشْرِكَ بِرَبِّنا أَحَداً أي: لن نعود إلى ما كنّا عليه من الإشراك به في طاعة الشيطان.

و في هذا دلالة على أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان مبعوثا إلى الجنّ و الإنس. و على أنّ الجنّ عقلاء مخاطبون، و بلغات العرب عارفون. و على أنّهم يميّزون بين المعجز و غيره.

و أنّهم دعوا قومهم إلى الإسلام، و أخبروهم بإعجاز القرآن. و أنّه كلام اللّه، لأنّ كلام العباد لا يتعجّب منه.

و

روى الواحدي بإسناده عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس قال: ما قرأ

______________________________

(1) الأحقاف: 29. زبدة التفاسير، ج 7، ص: 206

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على الجنّ و ما رآهم، بل انطلق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في طائفة من أصحابه عامدين إلى سوق عكاظ، و قد حيل بين الشياطين و بين خبر السماء بشهاب ثاقب، فرجعت الشياطين إلى قومهم فقالوا: ما لكم؟ قالوا: حيل بيننا و بين خبر السماء، و أرسلت علينا الشهب. قالوا: ما ذاك إلّا من شي ء حدث، فاضربوا مشارق الأرض و مغاربها. فمرّ النفر الّذين أخذوا نحو تهامة بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو بنخل عامدين إلى سوق عكاظ، و هو يصلّي بأصحابه صلاة الفجر، فلمّا سمعوا القرآن استمعوا له و قالوا: هذا الّذي حال بيننا و

بين خبر السماء. فرجعوا إلى قومهم و قالوا:

إنّا سمعنا قرآنا عجبا يهدي إلى الرشد فآمنّا به و لن نشرك بربّنا أحدا. فأوحى اللّه تعالى إلى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «قل أوحي إليّ أنّه استمع نفر من الجنّ» «1». و رواه البخاري «2» و مسلم أيضا في الصحيح.

و

عن علقمة بن قيس قال: قلت لعبد اللّه بن مسعود: من كان منكم مع النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ليلة الجنّ؟ فقال: ما كان منّا معه أحد، فقدناه ذات ليلة و نحن بمكّة، فقلنا: اغتيل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أو استطير. فانطلقنا نطلبه من الشعاب، فلقيناه مقبلا من نحو حراء، فقلنا: يا رسول اللّه أين كنت؟ لقد أشفقنا عليك، و قلنا له: بتنا الليلة بشرّ ليلة بات بها قوم حين فقدناك. فقال لنا: إنّه أتاني داعي الجنّ فذهبت و أقرأتهم القرآن. فذهب بنا فأرانا آثارهم و آثار نيرانهم. فأمّا أن يكون صحبه منّا أحد فلم يصحبه.

و قيل: كانوا سبعة نفر من جنّ نصيبين رآهم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فآمنوا به و أرسلهم إلى سائر الجنّ.

وَ أَنَّهُ تَعالى جَدُّ رَبِّنا قراءة ابن كثير و البصريّان بالكسر، على أنّه من

______________________________

(1) التفسير الوسيط 4: 361.

(2) صحيح البخاري 6: 199، صحيح مسلم 1: 331 ح 149.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 207

جملة المحكيّ بعد القول. و كذا ما بعده، إلّا قوله: وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا «1» وَ أَنَّ الْمَساجِدَ «2» وَ أَنَّهُ لَمَّا قامَ «3» فإنّها من جملة الموحى به. و وافقهم نافع و أبو بكر إلّا في قوله: «وَ أَنَّهُ لَمَّا قامَ» على أنّه استئناف أو مقول.

و فتح الباقون الكلّ إلّا ما صدّر بالفاء، على أنّ ما كان من قولهم فمعطوف على محلّ الجارّ و المجرور في «آمنّا به» كأنّه قيل: صدّقناه أنّه تعالى جدّ ربّنا، أي: عظمته. من قولك:

جدّ فلان في عيني إذا عظم. و منه قول أنس بن مالك: كان الرجل إذا قرأ البقرة جدّ في أعيننا، أي: عظم. أو سلطانه، أو غناه. مستعار من الجدّ الّذي هو الدولة و البخت، لما يقال: الملوك و الأغنياء هم المجدودون. و المعنى: وصفه بالتعالي عن الصاحبة و الولد، لعظمته أو لسلطانه أو لغناه.

و قوله: مَا اتَّخَذَ صاحِبَةً وَ لا وَلَداً بيان لوصفه بالتعالي.

قال الربيع بن أنس: إنّه قال: ليس للّه تعالى جدّ، و إنّما قالته الجنّ بجهالة، فحكاه سبحانه كما قالت.

و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.

وَ أَنَّهُ كانَ يَقُولُ سَفِيهُنا جاهلنا، إبليس أو مردة الجنّ عَلَى اللَّهِ شَطَطاً قولا ذا شطط، و هو البعد و المجاوزة عن الحدّ في الظلم و غيره. و منه: أشطّ في السوم إذا أبعد فيه. أو هو في نفسه شطط، لفرط ما أشطّ فيه، و هو نسبة الصاحبة و الولد إلى اللّه تعالى. فاعترفوا بأنّ إبليس كان يخرج عن الحدّ في إغواء الخلق و دعائهم إلى الضلالة.

ثمّ اعتذروا عن اتّباعهم السفيه في ذلك، بظنّهم أنّ أحدا لا يكذب على اللّه، فقالوا:

وَ أَنَّا ظَنَنَّا أَنْ لَنْ تَقُولَ الْإِنْسُ وَ الْجِنُّ عَلَى اللَّهِ كَذِباً نصب على المصدر، لأنّه نوع من القول. أو الوصف لمحذوف، أي: قولا مكذوبا فيه. و من قرأ: أن لن تقوّل

______________________________

(1) الجنّ: 16 و 18- 19.

(2) الجنّ: 16 و 18- 19.

(3) الجنّ: 16 و 18- 19.

زبدة التفاسير، ج 7،

ص: 208

جعله مصدرا، لأنّ التقوّل لا يكون إلّا كذبا.

و المعنى: كان في ظنّنا أنّ أحدا من الثقلين لن يكذب على اللّه و لن يفتري عليه ما ليس بحقّ، من اتّخاذ الشريك معه و الصاحبة و الولد، فكنّا نصدّقهم فيما أضافوا إليه من ذلك، حتّى تبيّن لنا بالقرآن كذبهم و افتراؤهم.

و في هذا دلالة على أنّهم كانوا مقلّدين، حتّى سمعوا الحجّة و انكشف لهم الحقّ، فرجعوا عمّا كانوا عليه. و فيه إشارة إلى بطلان التقليد في التوحيد، و وجوب اتّباع الدليل.

وَ أَنَّهُ كانَ رِجالٌ مِنَ الْإِنْسِ يَعُوذُونَ بِرِجالٍ مِنَ الْجِنِ و ذلك لأنّ الرجل كان إذا أمسى بقفر قال: أعوذ بسيّد هذا الوادي من شرّ سفهاء قومه. يريد كبير الجنّ.

فإذا سمعوا بذلك استكبروا و قالوا: سدنا الجنّ و الإنس. و كان هذا منهم على حسب اعتقادهم أنّ الجنّ يحفظهم. و عن مقاتل: أوّل من تعوّذ بالجنّ قوم من اليمن، ثمّ بنو حنيفة، ثمّ فشا في العرب.

فَزادُوهُمْ فزادوا الجنّ باستعاذتهم بهم رَهَقاً كبرا و عتوّا و طغيانا. أو فزاد الجنّ الإنس غيّا، بأن أضلّوهم لاستعاذتهم بهم. و الرهق في الأصل غشيان المحارم.

وَ أَنَّهُمْ و أنّ الإنس ظَنُّوا كَما ظَنَنْتُمْ أيّها الجنّ. و هو من كلام الجنّ يقوله بعضهم لبعض. أو استئناف كلام من اللّه. و من فتح «أنّ» فيهما جعلهما من الموحى به. و الضمير في «وَ أَنَّهُمْ ظَنُّوا» للجنّ. و الخطاب لكفّار قريش، أي: ظنّ الجنّ كما ظننتم أيّها الكفّار أَنْ لَنْ يَبْعَثَ اللَّهُ أَحَداً هذا سادّ مسدّ مفعولي «ظنّوا».

وَ أَنَّا لَمَسْنَا السَّماءَ طلبنا بلوغ السماء و استماع كلام أهلها. و اللّمس مستعار من المسّ للطلب، لأنّ الماسّ طالب متعرّف. يقال: لمسه و التمسه و تلمّسه،

كطلبه و اطّلبه و تطلّبه. و نحوه: الجسّ. يقال: جسّوه بأعينهم و تجسّسوه.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 209

فَوَجَدْناها مُلِئَتْ حَرَساً حرّاسا. اسم جمع، كالخدم بمعنى الخدّام شَدِيداً أي:

قويّا. و لو ذهب إلى معناه الجمعيّ لقيل: شدادا. و هم الملائكة يمنعونهم عنها.

وَ شُهُباً جمع شهاب. و هو شي ء مضي ء متولّد من النار.

وَ أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ لِلسَّمْعِ مقاعد خالية عن الحرس و الشهب، أو صالحة للترصّد و الاستماع. و «للسمع» صلة ل «نقعد» أو صفة ل «مقاعد». فَمَنْ يَسْتَمِعِ الْآنَ يَجِدْ لَهُ شِهاباً رَصَداً شهابا راصدا له و لأجله يمنعه عن الاستماع بالرجم. أو ذوي شهاب راصدين بالرجم، على أنّه اسم جمع للراصد. و هم الملائكة الّذين يرجمونهم بالشهب، و يمنعونهم من الاستماع.

و اعلم أنّ بعضهم قالوا: إنّ الرجم لم يكن في الجاهليّة أصلا، و حدث بعد مبعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و هو إحدى آياته. و الأصحّ أنّه كان قبل المبعث، و لكنّ الشياطين كانت تسترقّ في بعض الأحوال، فلمّا بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كثر الرجم و زاد زيادة ظاهرة، حتّى تنبّه لها الإنس و الجنّ، و منع الاستراق رأسا.

و عن البلخي: أنّ الشهب كانت لا محالة فيما مضى من الزمان، غير أنّه لم يكن يمنع بها الجنّ عن صعود السماء، فلمّا بعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم منع بها الجنّ منه.

و عن معمر قلت للزهري: أ كان يرمى بالنجوم في الجاهليّة؟ قال: نعم. قلت:

أ رأيت قوله: «وَ أَنَّا كُنَّا نَقْعُدُ»؟ فقال: غلظت الرجمة و شدّد أمرها حين بعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و في قوله: «ملئت» دليل

على أنّ الحادث هو المل ء و الكثرة. و كذلك قوله:

«نَقْعُدُ مِنْها مَقاعِدَ» أي: كنّا نجد فيها بعض المقاعد خالية من الحرس و الشهب، و الآن ملئت المقاعد كلّها. و هذا سبب ما حملهم على الضرب في البلاد حتّى عثروا على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و استمعوا قراءته. يقولون: لمّا حدث هذا الحادث من كثرة الرجم و منع الاستراق، قلنا: ما هذا إلّا لأمر أراده اللّه بأهل الأرض.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 210

وَ أَنَّا لا نَدْرِي أَ شَرٌّ أُرِيدَ بِمَنْ فِي الْأَرْضِ بحراسة السماء أَمْ أَرادَ بِهِمْ رَبُّهُمْ رَشَداً خيرا و رحمة، و لو ببعث نبيّ عظيم الشأن.

وَ أَنَّا مِنَّا الصَّالِحُونَ المؤمنون الأبرار وَ مِنَّا دُونَ ذلِكَ أي: قوم دون ذلك، فحذف الموصوف. و هم المقتصدون في الصلاح غير الكاملين فيه. أو أرادوا الطالحين. كُنَّا طَرائِقَ ذوي طرائق و مذاهب متفرّقة مختلفة. أو كنّا في اختلاف أحوالنا مثل الطرائق المختلفة. أو كنّا في طرائق مختلفة. أو كانت طرائقنا طرائق، على حذف المضاف الّذي هو الطرائق، و إقامة الضمير المضاف إليه مقامه. قِدَداً متفرّقة مختلفة. جمع القدّة. من: قدّ، كالقطعة من: قطع. و وصفت الطرائق بالقدد لدلالتها على معنى التقطيع و التفرّق.

وَ أَنَّا ظَنَنَّا علمنا، فإنّ الظنّ بمعنى اليقين شائع في كلامهم أَنْ لَنْ نُعْجِزَ اللَّهَ فِي الْأَرْضِ كائنين في الأرض أينما كنّا فيها وَ لَنْ نُعْجِزَهُ هَرَباً هاربين منها إلى السماء. و قيل: لن نعجزه في الأرض إن أراد بنا أمرا، و لن نعجزه هربا إن طلبنا.

وَ أَنَّا لَمَّا سَمِعْنَا الْهُدى القرآن آمَنَّا بِهِ فَمَنْ يُؤْمِنْ بِرَبِّهِ فَلا يَخافُ فهو لا يخاف، أي: فهو غير خائف، لأنّ الكلام في تقدير مبتدأ و

خبر دخلت الفاء عليه، و لو لا ذلك لقيل: لا يخف. و الفائدة في رفع الفعل و تقدير مبتدأ قبله أنّه إذا فعل ذلك فكأنّه قيل: فهو لا يخاف، فكان دالّا على تحقيق أنّ المؤمن ناج لا محالة، و أنّه هو المختصّ بذلك دون غيره. بَخْساً أي: جزاء بخس، و هو النقص في الجزاء وَ لا رَهَقاً و لا جزاء رهق، و هو وصول الذلّة، لأنّه لم يبخس هذا المؤمن أحدا حقّا، و لم يرهق ظلم أحد، فلا يخاف جزاءهما.

و فيه دلالة على أنّ من حقّ من آمن باللّه أن يجتنب المظالم. و منه

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «المؤمن من أمنه الناس على أنفسهم و دمائهم و أموالهم».

و يجوز أن يراد: فلا يخاف أن يبخس، بل يجزى الجزاء الأوفى، و لا أن ترهقه ذلّة، من قوله عزّ و جلّ:

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 211

وَ تَرْهَقُهُمْ ذِلَّةٌ «1».

وَ أَنَّا مِنَّا الْمُسْلِمُونَ المنقادون لأوامر اللّه وَ مِنَّا الْقاسِطُونَ الجائرون عن طريق الحقّ، و هو الإيمان و الطاعة فَمَنْ أَسْلَمَ انقاد لأوامره فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً توخّوا رشدا عظيما يبلغهم إلى دار الثواب.

وَ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً توقد بهم كما توقد بالحطب. و عن سعيد بن جبير: أنّ الحجّاج قال له حين أراد قتله: ما تقول فيّ؟ قال: قاسط عادل.

فقال القوم: ما أحسن ما قال. حسبوا أنّه يصفه بالقسط و العدل. فقال الحجّاج: يا جهلة إنّه سمّاني ظالما مشركا، و تلا لهم قوله: «وَ أَمَّا الْقاسِطُونَ فَكانُوا لِجَهَنَّمَ حَطَباً» و قوله: ثُمَّ الَّذِينَ كَفَرُوا بِرَبِّهِمْ يَعْدِلُونَ «2».

و قد زعم من لا يرى للجنّ ثوابا أنّ اللّه عزّ و علا أوعد قاسطيهم و ما وعد مسلميهم.

و كفى به وعدا أن قال: «فَأُولئِكَ تَحَرَّوْا رَشَداً». فذكر سبب الثواب و موجبه، و اللّه أعدل من أن يعاقب القاسط و لا يثيب الراشد.

وَ أَنْ لَوِ اسْتَقامُوا «أن» مخفّفة من الثقيلة، و هو من جملة الموحى به.

و ضمير الجمع للجنّ. و المعنى: و أوحي إليّ أنّ الشأن لو استقام الجنّ عَلَى الطَّرِيقَةِ أي: الطريقة المثلى، و هي طريقة الإسلام، أي: لو ثبت أبو الجنّ- و هو الجانّ- على ما كان عليه من عبادة اللّه و الطاعة، و لم يستكبر عن السجود لآدم، و لم يكفر، و تبعه ولده على الإسلام، و استقاموا على الهدى لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً ماء كثيرا غزيرا من السماء، أي: لأنعمنا عليهم، و لوسّعنا رزقهم. و ذكر الماء الغدق و هو الكثير، لأنّه أصل المعاش و سعة الرزق، و لعزّة وجوده بين العرب.

لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ لنختبرهم كيف يشكرون ما خوّلوا منه، أي: لنعاملهم معاملة

______________________________

(1) يونس: 27.

(2) الأنعام: 1.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 212

المختبر في شدّة التعبّد، بتكليف الانصراف عمّا تدعو شهواتهم إليه، و في ذلك المحنة الشديدة، و المثوبة على قدر المشقّة في الصبر عمّا تدعو إليه الشهوة.

و يجوز أن يكون معناه: و أن لو استقام الجنّ الّذين استمعوا على طريقتهم الّتي كانوا عليها قبل الإسماع، و لم ينتقلوا عنها إلى الإسلام، لوسّعنا عليهم الرزق مستدرجين لهم لنفتنهم فيه، أي: لتكون النعمة سببا في اتّباعهم شهواتهم، و وقوعهم في الفتنة، و ازديادهم إثما، أو لنعذّبهم في كفران النعمة.

و قيل: ضمير الجمع راجع إلى الإنس. و عن مقاتل: أراد به مشركي مكّة، أي: لو آمنوا و استقاموا على طريقة الإيمان لأسقيناهم ماء كثيرا، و ذلك بعد ما رفع عنهم القطر سبع سنين.

و

عن أبي بصير

قال: «قلت لأبي جعفر عليه السّلام: أخبرني عن قول اللّه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ قالُوا رَبُّنَا اللَّهُ ثُمَّ اسْتَقامُوا «1». قال: هو و اللّه ما أنتم عليه، و لو استقاموا على الطريقة لأسقيناهم ماء غدقا».

و

عن بريد العجلي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «معناه: لأفدناهم علما كثيرا يتعلّمونه من الأئمّة».

و قيل: راجع إلى الجنّ و الإنس كليهما.

وَ مَنْ يُعْرِضْ عَنْ ذِكْرِ رَبِّهِ عن عبادته، أو موعظته، أو وحيه يَسْلُكْهُ يدخله. و قرأ غير الكوفيّين بالنون. عَذاباً صَعَداً شاقّا يعلو المعذّب و يغلبه.

مصدر وصف به. و الأصل: نسلكه في عذاب، كقوله: ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ «2».

فعدّي إلى مفعولين، إمّا بحذف الجارّ و إيصال الفعل، كقوله: وَ اخْتارَ مُوسى قَوْمَهُ «3». و إمّا بتضمينه معنى: ندخله.

______________________________

(1) فصّلت: 30.

(2) المدّثّر: 42.

(3) الأعراف: 155.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 213

[سورة الجن (72): الآيات 18 الى 28]

وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً (18) وَ أَنَّهُ لَمَّا قامَ عَبْدُ اللَّهِ يَدْعُوهُ كادُوا يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً (19) قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَ لا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً (20) قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا رَشَداً (21) قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ وَ لَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً (22)

إِلاَّ بَلاغاً مِنَ اللَّهِ وَ رِسالاتِهِ وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً (23) حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَ أَقَلُّ عَدَداً (24) قُلْ إِنْ أَدْرِي أَ قَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً (25) عالِمُ الْغَيْبِ فَلا يُظْهِرُ عَلى غَيْبِهِ أَحَداً (26) إِلاَّ مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ فَإِنَّهُ يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً (27)

لِيَعْلَمَ أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا رِسالاتِ رَبِّهِمْ وَ أَحاطَ

بِما لَدَيْهِمْ وَ أَحْصى كُلَّ شَيْ ءٍ عَدَداً (28)

و

عن سعيد بن جبير: قالت الجنّ للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: كيف لنا أن نأتي المسجد و نشهد معك الصلاة و نحن ناؤون عنك؟ فنزلت:

وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ

أي: أوحي إليّ أنّ المساجد كلّها للّه مختصّة به فَلا تَدْعُوا مَعَ اللَّهِ أَحَداً فلا تعبدوا فيها غيره.

و قيل: معناه: و لأنّ المساجد للّه فلا تدعوا، على أنّ اللام متعلّقة ب «لا

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 214

تدعوا» أي: فلا تدعوا مع اللّه أحدا في المساجد، لأنّها للّه خاصّة و لعبادته. و الأولى أن يكون المراد بالمخاطبين الجنّ و الإنس جميعا.

و عن قتادة: كان اليهود و النصارى إذا دخلوا بيعهم و كنائسهم أشركوا باللّه، فأمرنا أن نخلص للّه الدعوة إذا دخلنا المساجد.

و قيل: المساجد أعضاء السجود السبعة، على أنّ المراد النهي عن السجود لغير اللّه. و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أمرت أن أسجد على سبعة آراب «1»، و هي: الجبهة و الأنف، و اليدان، و الركبتان، و أصابع الرجلين».

و

روي: أنّ المعتصم سأل أبا جعفر محمد بن عليّ بن موسى الرضا عليهم السّلام عن قوله: «وَ أَنَّ الْمَساجِدَ لِلَّهِ». فقال: «هي الأعضاء السبعة الّتي يسجد عليها».

و قيل: المراد المسجد الحرام، لأنّه قبلة المساجد، و لهذا ورد بلفظ الجمع.

و منه قوله تعالى: وَ مَنْ أَظْلَمُ مِمَّنْ مَنَعَ مَساجِدَ اللَّهِ أَنْ يُذْكَرَ فِيهَا اسْمُهُ «2».

و قيل: المساجد جمع المسجد، و هو مصدر ميمي. و المعنى: السجدات كلّها للّه.

و قيل: المراد بالمساجد الأرض كلّها، لأنّها جعلت للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مسجدا، كما

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «جعلت لي الأرض مسجدا».

وَ أَنَّهُ لَمَّا

قامَ عَبْدُ اللَّهِ أي: النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و إنّما ذكر بلفظ العبد، لأنّ التقدير:

و أوحي إليّ أنّه لمّا قام عبد اللّه. فلمّا كان واقعا في كلام رسول اللّه عن نفسه، جي ء به على ما يقتضيه التواضع و التذلّل. و للإشعار بما هو المقتضي لقيامه، أعني:

العبوديّة. يَدْعُوهُ يعبده. يريد قيامه لصلاة الفجر حين أتاه الجنّ فاستمعوا لقراءته. كادُوا كاد الجنّ يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً متراكمين من ازدحامهم عليه

______________________________

(1) الآراب جمع الإرب: العضو.

(2) البقرة: 114.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 215

تعجّبا ممّا رأوا من عبادته، و اقتداء أصحابه به قائما و راكعا و ساجدا، فسمعوا من قراءته. أو كاد الإنس و الجنّ يكونون عليه مجتمعين لإبطال أمره.

و عن قتادة: تلبّدت الإنس و الجنّ على هذا الأمر ليطفؤه، فأبى اللّه إلّا أن ينصره و يظهره على من ناواه.

و من قرأ «و إنّه» بالكسر جعله من كلام الجنّ، قالوه لقومهم حين رجعوا إليهم، حاكين ما رأوا من صلاته و ازدحام الصحابة عليه في ائتمامهم به.

و اللبد جمع لبدة، و هو ما تلبّد بعضه على بعض، كلبدة الأسد. و عن ابن عامر برواية هشام: لبدا بضمّ اللام، جمع لبدة، و هي لغة.

قُلْ إِنَّما أَدْعُوا رَبِّي وَ لا أُشْرِكُ بِهِ أَحَداً أي: قال عبد اللّه للجنّ عند ازدحامهم متعجّبين: ليس ما ترون من عبادتي اللّه و رفضي الإشراك باللّه بأمر يتعجّب منه، إنّما يتعجّب ممّن يدعو غير اللّه و يجعل له شركاء. أو قال للمتظاهرين عليه: إنّما أدعو ربّي. يريد: ما أتيتكم بأمر منكر، إنّما أعبد ربّي وحده، و لا أشرك به أحدا، و ليس ذلك ممّا يوجب إطباقكم على مقتي و عداوتي. أو قال الجنّ لقومهم ذلك

حكاية عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و قرأ عاصم و حمزة: قل، على الأمر للنبيّ، ليوافق قوله: قُلْ إِنِّي لا أَمْلِكُ لَكُمْ ضَرًّا وَ لا رَشَداً و لا نفعا. أو غيّا و لا رشدا. و المعنى: لا أستطيع أن أضرّكم و أن أنفعكم، إنّما الضارّ و النافع اللّه. أو لا أستطيع أن أقسركم على الغيّ و الرشد، إنّما القادر على ذلك اللّه عزّ و جلّ.

قُلْ إِنِّي لَنْ يُجِيرَنِي مِنَ اللَّهِ أَحَدٌ إن أراد بي سوءا، من مرض أو موت أو غيرهما وَ لَنْ أَجِدَ مِنْ دُونِهِ مُلْتَحَداً ملتجأ يؤوى إليه. و أصله: المدّخل، من اللحد.

و قيل: محيصا و معدلا.

إِلَّا بَلاغاً مِنَ اللَّهِ استثناء من قوله: «لا أملك» فإنّ التبليغ إرشاد و إنفاع،

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 216

و ما بينهما اعتراض مؤكّد لنفي الاستطاعة من نفسه و بيان عجزه. أو من «ملتحدا».

و معناه: لن أجد من دونه منجا إلّا أن أبلّغ عنه ما أرسلني به. و قيل: «إلّا» بمعنى: إن لا، أي: إن لا أبلّغ بلاغا. و ما قبله دليل الجواب.

و قوله: وَ رِسالاتِهِ عطف على «بلاغا». كأنّه قيل: لا أملك إلّا التبليغ و الرسالات. و «من اللّه» صفة «بلاغا» لا صلته، لأنّ صلته «عن» كقوله: بلّغوا عنّي.

و المعنى: إلّا أن أبلّغ بلاغا كائنا من اللّه، فأقول: قال اللّه كذا و كذا، ناسبا قوله إليه، و أن أبلّغ رسالاته و أحكامه الّتي أرسلني بها من غير زيادة و لا نقصان.

و قيل: أراد بالبلاغ توحيد اللّه و عدله، و ما يجوز عليه و ما لا يجوز، إذ الكلام فيه. و أراد بالرسالة ما أرسل لأجله من بيان الشرائع.

و لمّا بيّن سبحانه أنّه لا ملجأ

من عذابه إلّا طاعته، عقّبه بوعيد من قارف معصيته، فقال:

وَ مَنْ يَعْصِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ في الأمر بالتوحيد، إذ الكلام فيه فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أَبَداً جمعه للمعنى.

حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ في الدنيا، كوقعة بدر. أو في الآخرة. و الغاية لقوله: «يَكُونُونَ عَلَيْهِ لِبَداً» بالمعنى الثاني. أو لمحذوف دلّ عليه الحال، من استضعاف الكفّار للنبيّ، و عصيانهم له، و استقلالهم لعدده. كأنّه قال: لا يزال على ما هم عليه حتّى إذا رأوا ما يوعدون. فَسَيَعْلَمُونَ مَنْ أَضْعَفُ ناصِراً وَ أَقَلُّ عَدَداً هو أم هم.

و لمّا سمع المشركون «حَتَّى إِذا رَأَوْا ما يُوعَدُونَ» قالوا: متى يكون هذا الموعود؟ إنكارا له، فقال اللّه سبحانه:

قُلْ إِنْ أَدْرِي ما أدري أَ قَرِيبٌ ما تُوعَدُونَ متوقّع في كلّ ساعة أَمْ يَجْعَلُ لَهُ رَبِّي أَمَداً مهلة و غاية تطول مدّتها. يعني: قل لهم إنّه كائن لا محالة،

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 217

و لكن لا أدري وقته.

عالِمُ الْغَيْبِ هو عالم الغيب فَلا يُظْهِرُ فلا يطلع عَلى غَيْبِهِ أي:

على الغيب المخصوص به علمه أَحَداً من عباده إِلَّا مَنِ ارْتَضى مِنْ رَسُولٍ يعلم بعضه حتّى يكون له معجزة. و «من» بيان ل «من».

قال صاحب الكشّاف: «معناه: أنّه لا يطلع على الغيب إلّا المرتضى الّذي هو مصطفى للنبوّة خاصّة، لا كلّ مرتضى. و في هذا إبطال للكرامات، لأنّ الّذين تضاف إليهم و إن كانوا أولياء مرتضين، فليسوا برسل. و قد خصّ اللّه الرسل من بين المرتضين بالاطّلاع على الغيب و إبطال الكهانة و التنجيم، لأنّ أصحابهما أبعد شي ء من الارتضاء و أدخله في السخط» «1». انتهى كلامه.

و الجواب عن إبطال ظهور الكرامات من الأولياء بتخصيص الإظهار على الغيب بما يكون بغير توسّط البشر،

كما هو المتبادر، أو بتخصيص الرسول بالملائكة.

و المعنى: لا يظهر الغيب أوّلا إلّا على الرسل أو على الملائكة، و هم يطلعون الأنبياء و الأولياء ثانيا بإذنه. فكرامات الأولياء على المغيّبات إنّما يكون تلقّيا من الرسول أو الملائكة، كاطّلاعنا على أحوال الآخرة بتوسّط الأنبياء. و لا ريب أنّ فشوّ معجزات الأئمّة المعصومين صلوات اللّه عليهم، و اشتهار كراماتهم بحيث لا ينكرها أحد إلّا أعدى معاديهم و أعند معانديهم، يهدم أساس هذا الإبطال. و بديهة العقل قاضية على أنّ في قوله: «لا كلّ مرتضى» تعريضا له إلى قدوة الأولياء و مرتضى الأوصياء، و مظهر العجائب و مظهر الغرائب أمير المؤمنين عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه عليه و آله، و هذا مستلزم للعناد و البغض. نعوذ باللّه من شرور الاعتقادات الفاسدة، و الآراء الباطلة، و الأقوال المضلّة.

______________________________

(1) الكشّاف 4: 632- 633.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 218

فَإِنَّهُ فإنّ اللّه سبحانه يَسْلُكُ مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ يدخل من بين يدي من ارتضى للرسالة وَ مِنْ خَلْفِهِ رَصَداً حرسا من الملائكة يحرسونه و يحفظونه من الشياطين، يطردونهم عنه، و يعصمونه من وساوسهم و تخاليطهم. و عن الضحّاك: ما بعث نبيّ إلّا و معه ملائكة يحرسونه من الشياطين أن يتشبّهوا بصورة الملك.

لِيَعْلَمَ النبيّ الموحى إليه أَنْ قَدْ أَبْلَغُوا جبريل مع خواصّ الملائكة النازلين بالوحي، كما جرت عادة الملوك بأن يضمّوا إلى الرسول جماعة من خواصّهم تشريفا له. و هذا كما روي أنّ سورة الأنعام نزلت و معه سبعون ألف ملك.

و عن سعيد بن جبير: ما نزل جبرئيل بشي ء من الوحي إلّا و معه أربعة من الملائكة حفظة. أو ليعلم اللّه أن قد أبلغ الأنبياء. يعني: ليتعلّق علمه به موجودا. رِسالاتِ رَبِّهِمْ محروسة من

التغيير. و على التفسير الثاني؛ و حدّ الضمير أوّلا على اللفظ في قوله: «مِنْ بَيْنِ يَدَيْهِ وَ مِنْ خَلْفِهِ». ثمّ جمع على المعنى، كقوله: فَإِنَّ لَهُ نارَ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها «1».

وَ أَحاطَ بِما لَدَيْهِمْ بما عند الرسل من الحكم و الشرائع، لا يفوته منها شي ء، و لا ينسى منها حرفا، فهو مهيمن عليها حافظ لها وَ أَحْصى كُلَّ شَيْ ءٍ عَدَداً حتّى القطر و الرمل و ورق الأشجار و زبد البحر، فكيف لا يحيط بما عند الرسل من وحيه و كلامه؟ و نصب «عددا» على الحال، أي: و ضبط كلّ شي ء معدودا محصورا.

أو على المصدر في معنى: إحصاء.

______________________________

(1) الجنّ: 23.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 219

(73) سورة المزّمّل

اشارة

مكّيّة. و قيل: مدنيّة. و قيل: بعضها مكّيّ، و بعضها مدنيّ. و هي ثماني عشرة آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «و من قرأ سورة المزّمّل دفع عنه العسر في الدنيا و الآخرة».

منصور بن حازم عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة المزّمّل في العشاء الآخرة أو في آخر الليل، كان له الليل و النهار شاهدين مع السّورة، و أحياه اللّه حياة طيّبة، و أماته ميتة طيّبة».

[سورة المزمل (73): الآيات 1 الى 14]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ (1) قُمِ اللَّيْلَ إِلاَّ قَلِيلاً (2) نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلاً (3) أَوْ زِدْ عَلَيْهِ وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلاً (4)

إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلاً ثَقِيلاً (5) إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً وَ أَقْوَمُ قِيلاً (6) إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلاً (7) وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلاً (8) رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ لا إِلهَ إِلاَّ هُوَ فَاتَّخِذْهُ وَكِيلاً (9)

وَ اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلاً (10) وَ ذَرْنِي وَ الْمُكَذِّبِينَ أُولِي النَّعْمَةِ وَ مَهِّلْهُمْ قَلِيلاً (11) إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالاً وَ جَحِيماً (12) وَ طَعاماً ذا غُصَّةٍ وَ عَذاباً أَلِيماً (13) يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ وَ كانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلاً (14)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 220

و لمّا ختم اللّه سورة الجنّ بذكر الرسل، افتتح هذه السورة بذكر نبيّنا خاتم الأنبياء صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ يا أَيُّهَا الْمُزَّمِّلُ أصله: المتزمّل، و هو الّذي تزمّل في ثيابه، أي: تلفّف بها، فأدغم التاء في الزاي. و نحوه: المدّثّر في المتدثّر.

سمّي به النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تهجينا لما كان عليه،

فإنّه كان نائما، أو مرتعدا ممّا دهشه من بدء الوحي، متزمّلا في قطيفة، و ذلك قبل التبليغ، و لمّا بلّغ خوطب بالنبيّ و الرسول.

و

قيل: دخل على خديجة، و قد جئث «1» فرقا و خوفا أوّل ما أتاه جبرئيل على صورته الأصليّة، و بوادره «2» ترعد، فقال: زمّلوني زمّلوني، و حسب أنّه عرض له، فبينا هو على ذلك إذ ناداه جبرئيل: يا أيّها المزّمّل.

أو تحسينا «3» له، إذ

روي: أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يصلّي متلفّفا بمرط «4» مفروش على عائشة، فأمر بأن يدوم على ذلك و يواظب عليه.

______________________________

(1) جئث جأثا: فزع.

(2) البوادر جمع البادرة: اللحمة بين المنكب و العنق.

(3) عطف على قوله: تهجينا، قبل ستّة أسطر.

(4) المرط: كساء من صوف و نحوه يؤتزر به. كلّ ثوب غير مخيط.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 221

و

عن عائشة: أنّها سئلت ما كان تزميله؟ قالت: كان مرطا طوله أربع عشرة ذراعا، نصفه عليّ و أنا نائمة، و نصفه عليه و هو يصلّي. فسئلت: ما كان؟ قالت:

و اللّه ما كان خزّا، و لا قزّا «1»، و لا مرعزّى، و لا إبريسما، و لا صوفا، كان سداه «2» شعرا، و لحمته و برا.

أو تشبيها «3» له في تثاقله بالمتزمّل، لأنّه لم يتمرّن بعد في قيام الليل. أو من:

تزمّل الزمل إذا تحمّل الحمل، أي: الّذي تحمّل أعباء النبوّة.

قُمِ اللَّيْلَ أي: قم إلى الصلاة في الليل، أو داوم عليها إِلَّا قَلِيلًا* نِصْفَهُ أَوِ انْقُصْ مِنْهُ قَلِيلًا* أَوْ زِدْ عَلَيْهِ و الاستثناء من الليل. و «نصفه» بدل من «قليلا».

و قلّته بالنسبة إلى الكلّ. و التخيير بين ثلاث: قيام النصف بتمامه، و الناقص منه كالثلث، و الزائد عليه كالثلثين.

أو «نصفه» بدل من «الليل»، و

الاستثناء منه. كأنّه قال: قم أقلّ من نصف الليل. و الضمير في «منه» و «عليه» للأقلّ من النصف كالثلث. فيكون التخيير بينه و بين الأقلّ منه كالربع، و الأكثر منه كالنصف. فكأنّه قيل: قم أقلّ من نصف الليل، أو قم أنقص من ذلك الأقلّ أو أزيد منه قليلا. فيكون التخيير فيما وراء النصف، لأنّ الأقلّ من نصف الليل و الناقص منه قليلا و الزائد عليه قليلا كلّه وراء النصف، و ما وراء النصف لا يصل إلى النصف، فإمّا أن يكون بين النصف و الثلث، كالثلثين و نصف السدس مثلا، أو أقرب إلى الثلث، أو أقرب إلى النصف، أو للنصف.

______________________________

(1) القزّ: ما يسوّى منه الإبريسم أو الحرير. و المرعزّى: الزغب الّذي تحت شعر العنز، الليّن من الصوف.

(2) السدى من الثوب: ما مدّ من خيوطه، و اللحمة: ما سدّي به بين سدى الثوب، أي: ما نسج عرضا، و هو خلاف سداة.

(3) عطف على قوله: تهجينا، قبل عشرة أسطر.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 222

و المعنى: التخيير بين أمرين: بين أن يقوم أقلّ من نصف الليل على البتّ، و بين أن يختار أحد الأمرين، و هما: النقصان من النصف، و الزيادة عليه. أو الاستثناء من أعداد الليل، فإنّه عامّ، و التخيير بين قيام النصف و الناقص عنه و الزائد عليه.

و قال في المجمع: «و قيل: معناه: قم نصف الليل إلّا قليلا من الليالي، و هي ليالي العذر، كالمرض و غلبة النوم و علّة العين و نحوها» «1».

و اعلم أنّ للأصحاب خلافا في أنّ القيام في الليل عليه و على أمّته في بدو الإسلام فرض أو نفل؟ و عن عائشة: أنّ اللّه جعله تطوّعا بعد أن كان فرضا.

و قيل: كان فرضا

قبل أن تفرض الصلوات الخمس، ثمّ نسخ بهنّ إلّا ما تطوّعوا به بنذر و شبهه.

و عن الحسن: كان قيام ثلث الليل فريضة على الناس، و كانوا على ذلك سنة.

و قيل: كان واجبا، و إنّما وقع التخيير في المقدار ثمّ نسخ بعد عشرة سنين.

و عن الكلبي: كان يقوم الرجل حتّى يصبح مخافة أن لا يحفظ ما بين النصف و الثلث و الثلثين. و منهم من قال: كان نفلا، بدليل التخيير في المقدار، و لقوله تعالى:

وَ مِنَ اللَّيْلِ فَتَهَجَّدْ بِهِ نافِلَةً لَكَ «2».

و الأصحّ أنّ التهجّد واجب عليه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لم ينسخ أبدا. و النافلة في الآية بمعنى فريضة زائدة على الفرائض اليوميّة. و أمّا على أمّته فنسخ وجوبه و بقي استحبابه.

و الروايات المأثورة عن أئمّتنا صلوات عليهم مصرّحة بذلك.

وَ رَتِّلِ الْقُرْآنَ تَرْتِيلًا اقرأه على تؤدة، بتبيين الحروف و إشباع الحركات،

______________________________

(1) مجمع البيان 10: 377.

(2) الإسراء: 79.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 223

بحيث يتمكّن السامع من عدّها. من قولهم: ثغر رتل إذا كان مفلّجا «1».

و

عن أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه: الترتيل: حفظ الوقوف، و أداء الحروف.

و

سئلت عائشة عن قراءة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فقالت: لا كسردكم هذا، لو أراد السامع أن يعدّ حروفه لعدّها. و «ترتيلا» تأكيد في إيجاب الأمر به، و أنّه ما لا بدّ منه للقارى ء.

و عن أبي حمزة قال: قلت لابن عبّاس: إنّي رجل في قراءتي و في كلامي عجلة. فقال ابن عبّاس: لأن أقرأ البقرة أرتّلها أحبّ إليّ من أن أقرأ القرآن كلّه.

و

عن أمير المؤمنين عليه السّلام: «معناه: بيّنه بيانا، و لا تهذّه «2» هذّ الشعر، و لا تنثره نثر الرمل، و لكن اقرع به

القلوب القاسية، و لا يكوننّ همّ أحدكم آخر السورة».

و

روي عن أمّ سلمة أنّها قالت: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقطع قراءته آية آية.

و عن قطرب: المراد به تحزين القرآن، أي: اقرأه بصوت حزين. و يعضده ما

رواه أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في هذا قال: «هو أن تتمكّث فيه، و تحسّن به صوتك».

و

عن ابن عمر قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يقال لصاحب القرآن: اقرأ و ارق، و رتّل كما كنت ترتّل في الدنيا، فإنّ منزلتك عند آخر آية تقرؤها».

إِنَّا سَنُلْقِي عَلَيْكَ قَوْلًا ثَقِيلًا سنوحي عليك قولا يثقل عليك و على أمّتك.

يعني: القرآن، فإنّه لما فيه من التكاليف الشاقّة ثقيل على المكلّفين، سيّما على الرسول، إذ كان عليه أن يتحمّلها و يحمّلها أمّته. و عن ابن زيد: هو و اللّه ثقيل مبارك، و كما ثقل في الدنيا ثقل في الموازين يوم القيامة. و الجملة اعتراض يسهّل

______________________________

(1) المفلّجة من الأسنان: المنفرجة.

(2) هذّ الشي ء: قطعه سريعا. و هذّ الحديث: سرده.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 224

مشقّة التكليف عليه بالتهجّد، فإنّ الليل وقت السبات و الراحة و الهدوء، فلا بدّ لمن أحياه من مضادّة لطبعه و مجاهدة لنفسه.

و قيل: معناه: رصين، لرزانة لفظه و متانة معناه. أو ثقيل على المتأمّل فيه، لافتقاره إلى مزيد تصفية للسرّ و تجريد للنظر. أو ثقيل في الميزان، أو على الكفّار و الفجّار. أو ثقيل تلقّيه،

لقول عائشة: رأيته ينزل عليه الوحي في اليوم الشديد البرد فيفصم «1» عنه، و إنّ جبينه ليرفضّ «2» عرقا.

و

عن ابن عبّاس: كان إذا نزل عليه الوحي ثقل عليه و تربّد «3» له جلده.

و

قيل: كان صلّى اللّه عليه

و آله و سلّم يتغيّر حاله عند نزول الوحي و يعرق، و إذا كان راكبا يبرك راحلته و لا يستطيع المشي.

و

سأل الحرث بن هشام رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا رسول اللّه كيف يأتيك الوحي؟ فقال: أحيانا يأتيني مثل صلصلة الجرس، و هو أشدّ عليّ، فيفصم عنّي، و قد وعيت ما قال. و أحيانا يتمثّل الملك رجلا، فأعي ما يقول.

إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ إنّ النفس الّتي تنشأ من مضجعها إلى العبادة. من: نشأ من مكانه إذا نهض. أو قيام الليل، على أنّ الناشئة مصدر من: نشأ إذا قام و نهض، على فاعلة، كالعاقبة. و يدلّ عليه ما روي عن عبيد بن عمير قلت لعائشة: رجل قام من أوّل الليل أ تقولين له: قام ناشئة؟ قالت: لا، إنّما الناشئة القيام بعد النوم. ففسّرت الناشئة بالقيام عن المضجع، أو العبادة الّتي تنشأ بالليل، أي: تحدث. أو ساعات الليل، لأنّها تحدث واحدة بعد اخرى. أو ساعاتها الأول، من: نشأت إذا ابتدأت.

و

عن عليّ بن الحسين: «أنّه كان يصلّي بين المغرب و العشاء و يقول: أما سمعتم قول اللّه تعالى: «إِنَّ ناشِئَةَ اللَّيْلِ» هذه ناشئة الليل».

______________________________

(1) أي: يقلع عنه.

(2) ارفضّ العرق: سال و ترشّش.

(3) تربّد اللون: تغيّر.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 225

هِيَ أَشَدُّ وَطْئاً كلفة، أو ثبات قدم. و قرأ أبو عمرو و ابن عامر: وطاء، أي:

مواطأة يواطئ قلبها لسانها، إن أردت النفس. أو يواطئ فيها قلب القائم لسانه، إن أردت القيام أو العبادة أو الساعات. أو أشدّ موافقة لما يراد من الخشوع و الإخلاص. أو أثقل و أغلظ على المصلّي من صلاة النهار، من

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «اللّهمّ اشدد وطأتك على

مضر».

وَ أَقْوَمُ قِيلًا و أسدّ مقالا، و أثبت قراءة، لحضور القلب و هدوء الأصوات.

إِنَّ لَكَ فِي النَّهارِ سَبْحاً طَوِيلًا تقلّبا في مهمّاتك و شواغلك من تبليغ الرسالة، و دعوة الخلق، و تعليم الفرائض و السنن، و إصلاح المعيشة لنفسك و عيالك.

فعليك بالتهجّد، فإنّ مناجاة الحقّ تستدعي فراغا.

و قال صاحب المجمع: «و في هذا دلالة على أنّه لا عذر لأحد في ترك صلاة الليل لأجل التعليم و التعلّم، لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يحتاج إلى التعليم أكثر ممّا يحتاج الواحد منّا إليه، ثمّ لم يرض سبحانه منه أن يترك حظّه من قيام الليل» «1».

وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ و دم على ذكره ليلا و نهارا. و ذكر اللّه يتناول كلّ ما يذكر به، من تسبيح و تهليل و تحميد و صلاة و قراءة و دراسة علم.

و قيل: معناه: اقرأ بسم اللّه الرّحمن الرّحيم في ابتداء صلاتك، توصلك بركة قراءتها إلى ربّك، و تقطعك من كلّ ما سواه.

وَ تَبَتَّلْ إِلَيْهِ تَبْتِيلًا و انقطع إليه بالعبادة، و جرّد نفسك عمّا سواه. و لهذه الرمزة و مراعاة الفواصل وضع «تبتيلا» موضع: تبتّلا. و قال في الكشّاف: «معنى تبتّل: بتّل نفسه، فجي ء به على معناه مراعاة لحقّ الفواصل» «2». و عن ابن عبّاس:

معناه: أخلص له إخلاصا.

______________________________

(1) مجمع البيان 10: 379.

(2) الكشّاف 4: 639.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 226

و

روى محمد بن مسلم و زرارة و حمران عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنّ التبتّل هنا رفع اليدين في الصلاة».

و

في رواية أبي بصير قال: «هو رفع يدك إلى اللّه، و تضرّعك إليه».

رَبُّ الْمَشْرِقِ وَ الْمَغْرِبِ خبر محذوف، أي: هو ربّ العالم بما فيه، و المتصرّف فيما

بينهما، و المدبّر لما بينهما. أو مبتدأ خبره لا إِلهَ إِلَّا هُوَ أي: ربّ المشرقين لا أحد يحقّ له العبادة سواه. و قرأ ابن عامر و الكوفيّون غير حفص و يعقوب بالجرّ على البدل من «ربّك». و قيل: بإضمار حرف القسم، و جوابه «لا إِلهَ إِلَّا هُوَ».

فَاتَّخِذْهُ وَكِيلًا حفيظا للقيام بأمرك، و اعتمد عليه، و فوّض أمرك إليه.

و هذا مسبّب عن التهليل، فإنّ توحّده بالألوهيّة يقتضي أن توكّل إليه الأمور.

وَ اصْبِرْ عَلى ما يَقُولُونَ من التكذيب و الأذى، و النسبة إلى السحر و الكهانة وَ اهْجُرْهُمْ هَجْراً جَمِيلًا بأن تجانبهم و تداريهم، و لا تكافئهم، و تكل أمرهم إلى اللّه، كما قال مهدّدا للكفّار:

وَ ذَرْنِي وَ الْمُكَذِّبِينَ و الّذين يكذّبونك فيما تدعوهم إليه، من التوحيد و إخلاص العبادة و وقوع البعث و الجزاء. و نصبه على أنّه مفعول معه. و المعنى:

دعني و إيّاهم، و كل إليّ أمرهم، فإنّ بي غنية عنك في مجازاتهم، فلا تشغل نفسك بمجازاتهم. أُولِي النَّعْمَةِ أرباب التنعّم. يريد صناديد قريش. و قيل:

نزلت في المطعمين ببدر، و هم عشرة، ذكرناهم في الأنفال «1». وَ مَهِّلْهُمْ قَلِيلًا زمانا أو إمهالا قليلا. و هذا أيضا وعيد، و لم يكن إلّا يسيرا حتّى كانت وقعة بدر.

ثمّ علّل الأمر المذكور بقوله: إِنَّ لَدَيْنا أَنْكالًا جمع النكل، و هو القيد الثقيل

______________________________

(1) راجع ج 3 ص 38، ذيل الآية 36 من سورة الأنفال.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 227

وَ جَحِيماً هو اسم من أسماء جهنّم. و قيل: يعني: نارا عظيمة، و لا يسمّى القليل به.

وَ طَعاماً ذا غُصَّةٍ ينشب في الحلق، فلا يدخل و لا يخرج، كالزقّوم و الضريع. و

روى حمران بن أعين عن عبد اللّه بن عمر: أنّ

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سمع قارئا يقرأ هذه فصعق.

وَ عَذاباً أَلِيماً و نوعا آخر من العذاب مؤلما لا يعرف كنهه إلّا اللّه تعالى.

يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ تضطرب و تتزلزل شديدا. ظرف لما في «لَدَيْنا أَنْكالًا» من معنى الفعل. وَ الْجِبالُ و ترجف الجبال معها، و تضطرب بمن عليها وَ كانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً رملا مجتمعا. فعيل بمعنى مفعول. من: كثبت الشي ء إذا جمعته.

مَهِيلًا سائلا منثورا. من: هيل هيلا إذا نثر. يعني: أنّ الجبال تنقلع من أصولها فتصير بعد صلابتها كالرمل السائل.

[سورة المزمل (73): الآيات 15 الى 19]

إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولاً شاهِداً عَلَيْكُمْ كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولاً (15) فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلاً (16) فَكَيْفَ تَتَّقُونَ إِنْ كَفَرْتُمْ يَوْماً يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً (17) السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولاً (18) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (19)

ثمّ أكّد سبحانه الحجّة على قريش فقال: إِنَّا أَرْسَلْنا إِلَيْكُمْ رَسُولًا يا أهل مكّة شاهِداً عَلَيْكُمْ يشهد عليكم يوم القيامة بتكذيبكم و كفركم كَما أَرْسَلْنا إِلى فِرْعَوْنَ رَسُولًا يعني: موسى. و لم يعيّنه، لأنّ المقصود لم يتعلّق به.

فَعَصى فِرْعَوْنُ الرَّسُولَ عرّفه لسبق ذكره فَأَخَذْناهُ أَخْذاً وَبِيلًا ثقيلا

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 228

شديدا، مع كثرة جنوده وسعة ملكه. من قولهم: طعام وبيل غير مستمرئ لثقله.

و منه: الوابل للمطر العظيم القطر.

ثمّ حذّرهم اللّه سبحانه أن ينالهم مثل ما نال فرعون و قومه، فقال: فَكَيْفَ تَتَّقُونَ أنفسكم إِنْ كَفَرْتُمْ بقيتم على الكفر يَوْماً عذاب يوم. أو فكيف لكم بالتقوى في يوم القيامة؟ و يجوز أن يكون مفعولا ل «كفرتم» على تأويل: فكيف تتّقون اللّه إن جحدتم يوم القيامة و الجزاء؟ لأنّ التقوى هو خوف عقاب اللّه.

يَجْعَلُ الْوِلْدانَ شِيباً من شدّة هوله. جمع

أشيب. و هذا على التمثيل و الفرض، كما يقال: يوم يشيب النواصي، و هذا أمر يشيب منه الوليد. و أصله: أن الهموم الشديدة تضعف القوى فتسرع بالشيب. و يجوز أن يكون وصفا لليوم بالطول.

السَّماءُ مُنْفَطِرٌ بِهِ التذكير على تأويل السقف. و الباء للآلة، كالباء في:

فطرت العود بالقدوم «1». بمعنى: أنّ السماء على عظمها و إحكامها تنفطر بشدّة، كما ينفطر الشي ء بما يفطر به. كانَ وَعْدُهُ مَفْعُولًا الضمير للّه، أو لليوم و إن لم يجر له ذكر، لكونه معلوما، على إضافة المصدر إلى المفعول.

إِنَّ هذِهِ أي: هذه الآيات الموعدة تَذْكِرَةٌ موعظة فَمَنْ شاءَ أن يتّعظ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلًا إلى ثواب ربّه طريقا يتقرّب إليه بسلوك التقوى و الخشية.

______________________________

(1) القدوم: آلة للنحت و النجر.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 229

[سورة المزمل (73): آية 20]

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ وَ طائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ وَ اللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ فَتابَ عَلَيْكُمْ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ وَ آخَرُونَ يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ وَ آتُوا الزَّكاةَ وَ أَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ تَجِدُوهُ عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً وَ أَعْظَمَ أَجْراً وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ رَحِيمٌ (20)

روي: أنّ التهجّد كان واجبا على التخيير المذكور، فكان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و طائفة من المؤمنين معه يقومون في الليل للتهجّد، فشقّ ذلك عليهم، فكان الرجل يصلّي الليل كلّه مخافة أن لا يصيب ما أمر به من القيام، فخفّف اللّه ذلك عنهم

بقوله:

إِنَّ رَبَّكَ يَعْلَمُ أَنَّكَ تَقُومُ أَدْنى أي: أقلّ مِنْ ثُلُثَيِ اللَّيْلِ وَ نِصْفَهُ وَ ثُلُثَهُ استعار الأدنى للأقلّ، لأنّ الأقرب إلى الشي ء أقلّ بعدا منه، فإنّ المسافة بين الشيئين إذا دنت قلّ ما بينهما من الأحياز، و إذا بعدت كثر ذلك. و قرأ هشام: ثلثي الليل بسكون اللام. و ابن كثير و الكوفيّون: نصفه و ثلثه بالنصب، عطفا على «أدنى». و المعنى: أنّك تقوم في بعض الليالي أقلّ من ثلثيها، و في بعضها النصف، و في بعضها الثلث.

وَ طائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ و يقوم ذلك طائفة من أصحابك. روى أبو القاسم الحسكاني بإسناده عن الكلبي، عن أبي صالح، عن ابن عبّاس: في قوله: «وَ طائِفَةٌ مِنَ الَّذِينَ مَعَكَ»: عليّ و أبو ذرّ «1».

______________________________

(1) شواهد التنزيل 2: 387 ح 1036.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 230

وَ اللَّهُ يُقَدِّرُ اللَّيْلَ وَ النَّهارَ لا يعلم مقادير ساعاتهما كما هي إلّا اللّه، فإنّ تقديم اسمه مبتدأ مبنيّا عليه «يقدّر» يشعر بالاختصاص. و يؤيّده قوله: عَلِمَ أَنْ لَنْ تُحْصُوهُ أي: لن تحصوا تقدير الأوقات، و لن تستطيعوا ضبطها بالتعديل و التسوية، إلّا أن تأخذوا بالأوسع للاحتياط فَتابَ عَلَيْكُمْ عن الجبائي: معناه:

جعله تطوّعا بعد أن كان فرضا. و قيل: معناه: فلم يلزمكم إثما كما لا يلزم التائب.

و قيل: فخفّف عليكم هذا التكليف. و الكلّ عبارة عن الترخيص في ترك القيام المقدّر، و رفع التبعة فيه، كرفع التبعة عن التائب.

فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنَ الْقُرْآنِ فصلّوا ما تيسّر عليكم من صلاة الليل. عبّر عن الصلاة بالقرآن كما عبّر عنها بسائر أركانها. ثمّ نسخ ذلك أيضا بالصلوات الخمس.

و قيل: فاقرؤا القرآن بعينه كيفما تيسّر عليكم. و من قال: المراد به قراءة القرآن في غير الصلاة، فهو

محمول على الاستحباب عند الأكثر دون الوجوب.

و قال بعضهم: هو محمول على الوجوب، لأنّ القارئ يقف على إعجاز القرآن و ما فيه من دلائل التوحيد و إرسال الرسل. و لا يلزم حفظ القرآن، لأنّه من القرب المستحبّة المرغّب فيها.

ثمّ اختلفوا في القدر الّذي تضمّنه هذا الأمر من القراءة. فقال سعيد بن جبير:

خمسون آية. و قال ابن عبّاس: مائة آية. و عن الحسن قال: من قرأ مائة آية في ليلة لم يحاجّه القرآن. و قال كعب: من قرأ مائة آية في ليلة كتب من القانتين. و قال السدّي: مائتا آية. و قال جويبر: ثلث القرآن، لأنّ اللّه يسّره على عباده. و على مذهب أصحابنا لا تجب القراءة إلّا في الصلوات الواجبة، و في غيرها مندوبة.

ثمّ بيّن حكمة اخرى مقتضية للترخيص و التخفيف، فقال مستأنفا: عَلِمَ أَنْ سَيَكُونُ مِنْكُمْ مَرْضى وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ يسافرون فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 231

اللَّهِ للتجارة، أو لتحصيل العلم. قال عبد اللّه بن مسعود: أيّما رجل جلب شيئا إلى مدينة من مدائن المسلمين صابرا محتسبا، فباعه بسعر يومه، كان عند اللّه بمنزلة الشهداء. ثمّ قرأ: «وَ آخَرُونَ يَضْرِبُونَ فِي الْأَرْضِ يَبْتَغُونَ مِنْ فَضْلِ اللَّهِ».

وَ آخَرُونَ و منكم قوم آخرون يُقاتِلُونَ فِي سَبِيلِ اللَّهِ فيقتضي التخفيف عنهم أيضا فَاقْرَؤُا ما تَيَسَّرَ مِنْهُ كرّره مبالغة في القراءة، و لهذا يؤكّد استحبابها.

و

روي عن الرضا عليه السّلام، عن أبيه، عن جدّه قال: «ما تيسّر منه لكم فيه خشوع القلب و صفاء السرّ».

وَ أَقِيمُوا الصَّلاةَ المفروضة وَ آتُوا الزَّكاةَ الواجبة وَ أَقْرِضُوا اللَّهَ قَرْضاً حَسَناً يريد به الأمر بسائر الإنفاقات في سبيل الخير، أو بأداء الزكاة على أحسن وجه، و الترغيب فيه بوعد

العوض، كما صرّح به في قوله: وَ ما تُقَدِّمُوا لِأَنْفُسِكُمْ مِنْ خَيْرٍ من طاعة بدنيّة أو ماليّة تَجِدُوهُ تجدوا ثوابه عِنْدَ اللَّهِ هُوَ خَيْراً لكم من التقصير و الشحّ وَ أَعْظَمَ أَجْراً أفضل ثوابا من الّذي تؤخّرونه إلى الوصيّة عند الموت. أو من متاع الدنيا تخلّفونه بعد موتكم. و «خيرا» ثاني مفعولي «تجدوه». و هو تأكيد، أو فصل، لأنّ «أفعل من» كالمعرفة، و لذلك يمتنع من حرف التعريف.

وَ اسْتَغْفِرُوا اللَّهَ في مجامع أحوالكم، فإنّ الإنسان لا يخلو من تفريط إِنَّ اللَّهَ غَفُورٌ ستّار لذنوبكم، صفوح عنكم رَحِيمٌ بكم، منعم عليكم.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 233

(74) سورة المدّثّر

اشارة

مكّيّة. و هي ستّ و خمسون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «و من قرأ سورة المدّثّر اعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد من صدّق بمحمّد و كذّب به بمكّة».

محمد بن مسلم عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من قرأ في الفريضة سورة المدّثّر كان حقّا على اللّه أن يجعله مع محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في درجته، و لا يدركه في حياة الدنيا شقاء أبدا».

[سورة المدثر (74): الآيات 1 الى 10]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ (1) قُمْ فَأَنْذِرْ (2) وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ (3) وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ (4)

وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ (5) وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ (6) وَ لِرَبِّكَ فَاصْبِرْ (7) فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ (8) فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ (9)

عَلَى الْكافِرِينَ غَيْرُ يَسِيرٍ (10)

و لمّا أمر سبحانه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في آخر المزّمّل بالصلاة و غيرها، أمره في مفتتح

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 234

هذه السورة بالإنذار عن ترك المأمورات، فأمره أن يبدأ بنفسه ثمّ بالناس، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* يا أَيُّهَا الْمُدَّثِّرُ و هو لابس الدثار.

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «كنت بحراء فنوديت فنظرت عن يميني و شمالي فلم أر شيئا، فنظرت فوقي فإذا هو على عرش بين السماء و الأرض- يعني: الملك الّذي ناداه- فرعبت و رجعت إلى خديجة فقلت: دثّروني دثّروني، فنزل جبرئيل و قال: «يا أيّها المدّثّر».

و لذلك قيل: هي أوّل سورة نزلت.

و

عن الزهري: أوّل ما نزل سورة «اقرأ باسم ربّك» إلى قوله: «ما لم يعلم».

فحزن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و جعل يعلو شواهق الجبال، فأتاه جبرئيل فقال: إنّك نبيّ

اللّه. فرجع إلى خديجة و قال: دثّروني و صبّوا عليّ ماء باردا. فنزل: «يا أيّها المدّثّر».

و قيل: سمع من قريش ما كرهه، فاغتمّ فتغطّى بثوبه مفكّرا كما يفعل المغموم، فنزل.

و قيل: المراد المتدثّر بالنبوّة و الكمالات النفسانيّة. أو المختفي، فإنّه كان بحراء كالمختفي فيه، على سبيل الاستعارة.

قُمْ من مضجعك، أو قم قيام عزم و جدّ فَأَنْذِرْ أطلق الإنذار للتعميم.

و المعنى: فافعل الإنذار من غير تخصيص له بأحد. أو قدّر بمفعول دلّ عليه قوله:

وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «1» أي فحذّر قومك من عذاب اللّه إن لم يؤمنوا. و الأوّل أولى. و يؤيّده قوله: وَ ما أَرْسَلْناكَ إِلَّا كَافَّةً لِلنَّاسِ بَشِيراً وَ نَذِيراً «2».

وَ رَبَّكَ فَكَبِّرْ و خصّص ربّك بالتكبير. و هو وصفه بالكبرياء اعتقادا و قولا.

روي: أنّه لمّا نزل قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اللّه أكبر، فكبّرت خديجة و فرحت، و أيقنت

______________________________

(1) الشعراء: 214.

(2) سبأ: 28. زبدة التفاسير، ج 7، ص: 235

أنّه الوحي، و ذلك لأنّ الشيطان لا يأمر بذلك.

و قد يحمل على تكبير الصلاة، و هو في مفتتح الصلوات الواجبة واجب، و في غيرها مستحبّ. و الفاء فيه و فيما بعده لإفادة معنى الشرط، كأنّه قال: مهما يكن من شي ء فلا تدع تكبيره. و تقديم هذا الأمر على الأوامر الآتية، للدلالة على أنّ المقصود الأوّل من الأمر بالقيام أن يكبّر ربّه عن الشرك و التشبيه، فإنّ أوّل ما يجب معرفة الصانع، و أوّل ما يجب بعد العلم بوجوده تنزيهه عن جميع النواقص و العيوب.

وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ من النجاسات، فإنّ التطهير شرط في الصلاة، محبوب في غيرها. و ذلك بغسلها، أو بحفظها عن النجاسة، كتقصيرها مخافة جرّ الذيول فيها.

و لهذا

قال أمير

المؤمنين صلوات اللّه عليه: «معناه: فثيابك فقصّر».

و

روى أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قال أمير المؤمنين عليه السّلام: غسل الثياب يذهب الهمّ و الحزن، و هو طهور للصلاة، و تشمير «1» الثياب طهور لها، و قد قال اللّه تعالى: «وَ ثِيابَكَ فَطَهِّرْ» أي: فشمّر».

و هو أوّل ما أمر به من رفض العادات المذمومة، فإنّ عادتهم في الجاهليّة جرّ الذيول على الأرض مرحا و تكبّرا.

أو طهّر نفسك من الأخلاق الذميمة و الأفعال الدنيئة. يقال للرجل إذا كان صالحا: إنّه لطاهر الثياب، و طاهر الجيب و الأردان و الذيل. فهو وصف له بالنقاء من المعايب و مدانس الأخلاق. و إذا كان فاجرا يقال: إنّه لخبيث الثياب و الذيل. و ذلك لأنّ الثوب يلابس الإنسان و يشتمل عليه، فكنّي به عنه. فيكون أمرا باستكمال القوّة العمليّة، بعد أمره باستكمال القوّة النظريّة و الدعاء إليه.

أو فطهّر دثار النبوّة عمّا يدنّسه من الحقد و الضجر و قلّة الصبر.

وَ الرُّجْزَ فَاهْجُرْ أي: فاهجر العذاب بالثبات على هجر ما يؤدّي إليه من الشرك و غيره من المآثم. و المعنى: الثبات على هجره، لأنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان بريئا منه.

______________________________

(1) شمّر الثوب عن ساقيه: رفعه.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 236

و قيل: معناه: أخرج حبّ الدنيا عن قلبك، لأنّه رأس كلّ خطيئة. و قرأ يعقوب و حفص: و الرّجز بضمّ الراء. و هو لغة، كالذّكر.

وَ لا تَمْنُنْ تَسْتَكْثِرُ و لا تعط عطيّة مستكثرا. نهي عن الاستغزار، و هو أن يهب شيئا و هو يطمع أن يتعوّض من الموهوب له أكثر من الموهوب. و منه:

الحديث: «المستغزر يثاب من هبته».

و فيه وجهان:

أحدهما: أن يكون نهيا خاصّا برسول اللّه صلّى اللّه

عليه و آله و سلّم، لأنّ اللّه اختار له أشرف الآداب و أحسن الأخلاق. و هذا مرويّ عن ابن عبّاس، و قتادة، و مجاهد، و الضحّاك، و النخعي.

و الثاني: أن يكون نهي تنزيه لا تحريم له و لأمّته.

و قال الحسن و الربيع بن أنس: معناه: لا تمنن حسناتك على اللّه تعالى مستكثرا، أي: رائيا لها كثيرا، فينقصك ذلك عند اللّه.

و عن ابن زيد: لا تمنن ما أعطاك اللّه من النبوّة و القرآن، مستكثرا به الأجر من الناس لأجل التبليغ.

و عن أبي مسلم: هذا نهي عن الربا المحرّم.

و قيل: لا تمنن بعطائك على الناس مستكثرا ما أعطيته، فإنّ المنّ يكدّر الصنيعة.

وَ لِرَبِّكَ و لوجهه، أو أمره فَاصْبِرْ فاستعمل الصبر. أو فاصبر على مشاقّ التكاليف و أذى المشركين. و عن النخعي: فاصبر على عطيّتك. كأنّه وصله بما قبله، و جعله صبرا على العطاء من غير استكثار.

فَإِذا نُقِرَ فِي النَّاقُورِ في الصور. فاعول من النقر بمعنى التصويت. و أصله:

القرع الّذي هو سبب الصوت. و اختلف في أنّها النفخة الأولى الّتي هي أوّل الشدّة

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 237

الهائلة العامّة، أم الثانية الّتي عندها يحيي اللّه الخلق جميعا يوم القيامة، و تسمّى صيحة الساعة. و الفاء للسببيّة، كأنّه قال: اصبر على أذاهم، فبين أيديهم نفخ الصور الّذي يلقون في يومه عاقبة أمرهم، و تلقى عاقبة صبرك عليه.

و «إذا» ظرف لما دلّ عليه قوله: فَذلِكَ يَوْمَئِذٍ يَوْمٌ عَسِيرٌ* عَلَى الْكافِرِينَ فإنّ معناه: فإذا نقر في الناقور عسر الأمر على الكافرين. و «ذلك» إشارة إلى وقت النقر. و هو مبتدأ، خبره «يوم عسير». و «يومئذ» بدله. كأنّه قيل: فيوم النقر يوم عسير. أو ظرف لخبره، إذ التقدير: فذلك الوقت وقت وقوع يوم

عسير. غَيْرُ يَسِيرٍ تأكيد يمنع أن يكون عسيرا عليهم من وجه دون وجه، و يشعر بيسره على المؤمنين، ليجمع بين وعيد الكافرين و زيادة غيظهم، و بشارة المؤمنين و تسليتهم.

و يجوز أن يراد أنّه عسير لا يرجى أن يرجع يسيرا، كما يرجى تيسّر العسير من أمور الدنيا.

[سورة المدثر (74): الآيات 11 الى 30]

ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً (11) وَ جَعَلْتُ لَهُ مالاً مَمْدُوداً (12) وَ بَنِينَ شُهُوداً (13) وَ مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً (14) ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ (15)

كَلاَّ إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً (16) سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً (17) إِنَّهُ فَكَّرَ وَ قَدَّرَ (18) فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (19) ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ (20)

ثُمَّ نَظَرَ (21) ثُمَّ عَبَسَ وَ بَسَرَ (22) ثُمَّ أَدْبَرَ وَ اسْتَكْبَرَ (23) فَقالَ إِنْ هذا إِلاَّ سِحْرٌ يُؤْثَرُ (24) إِنْ هذا إِلاَّ قَوْلُ الْبَشَرِ (25)

سَأُصْلِيهِ سَقَرَ (26) وَ ما أَدْراكَ ما سَقَرُ (27) لا تُبْقِي وَ لا تَذَرُ (28) لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ (29) عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ (30)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 238

و

روي: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا نزل عليه حم تَنْزِيلُ الْكِتابِ مِنَ اللَّهِ الْعَزِيزِ الْعَلِيمِ غافِرِ الذَّنْبِ وَ قابِلِ التَّوْبِ «1» قام إلى المسجد و الوليد بن المغيرة قريب منه يسمع قراءته، فلمّا فطن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لاستماعه لقراءته أعاد قراءة الآية.

فانطلق الوليد حتّى أتى مجلس قومه بني مخزوم، فقال: و اللّه لقد سمعت من محمد آنفا كلاما ما هو من كلام الإنس و لا من كلام الجنّ، و إنّ له لحلاوة، و إنّ عليه لطلاوة «2»، و إنّ أعلاه لمثمر، و إنّ أسفله لمغدق «3»، و إنّه ليعلو و ما يعلى. ثمّ انصرف إلى منزله.

فقالت قريش: صبأ «4» و اللّه

الوليد، و اللّه لتصبأنّ قريش كلّهم. و كان يقال للوليد: ريحانة قريش.

فقال لهم أبو جهل: أنا أكفيكموه. فانطلق فقعد إلى جنب الوليد حزينا.

فقال له: مالي أراك حزينا يا ابن أخي؟

قال: هذه قريش يعيبونك على كبر سنّك، فيزعمون أنّك زيّنت كلام محمد.

فقام مع أبي جهل حتّى أتى مجلس قومه فقال: تزعمون أنّ محمّدا مجنون، فهل رأيتموه يخنق؟

قالوا: اللّهمّ لا.

______________________________

(1) غافر: 1- 3.

(2) الطلاوة: الحسن و البهجة.

(3) غدق المكان: ابتلّ بالغدق و خصب. و الغدق: الماء الكثير.

(4) أي: خرج من دين إلى دين آخر. زبدة التفاسير، ج 7، ص: 239

قال: تزعمون أنّه كاهن، فهل رأيتم عليه شيئا من ذلك؟

قالوا: اللّهمّ لا.

قال: تزعمون أنّه شاعر، فهل رأيتموه ينطق بشعر قطّ؟

قالوا: اللّهمّ لا.

قال: أ تزعمون أنّه كذّاب؟ فهل جرّبتم عليه شيئا من الكذب؟

قالوا: اللّهمّ لا. و كان يسمّى الصادق الأمين قبل النبوّة من صدقه.

فقالت قريش للوليد: فما هو؟

فتفكّر في نفسه ثمّ نظر و عبس فقال: ما هو إلّا ساحر. أما رأيتموه يفرّق بين الرجل و أهله و ولده و مواليه، فهو ساحر. و ما الّذي يقوله إلّا سحر يأثره عن مسيلمة و عن أهل بابل. ففرحوا بقوله. فقال سبحانه تهديدا للوليد:

ذَرْنِي وَ مَنْ خَلَقْتُ وَحِيداً

حال من الياء، أي: ذرني وحدي معه، فإنّي أجزيك في الانتقام منه عن كلّ منتقم، فأكفيكه. أو من التاء، أي: و من خلقته وحدي لم يشركني في خلقه أحد. أو من العائد المحذوف، أي: من خلقته فريدا لا مال له و لا ولد، فإنّه كان ملقّبا بالوحيد، فسمّاه اللّه به تهكّما، و تغييرا له عن الغرض الّذي كانوا يؤمّونه- من مدحه و الثناء عليه بأنّه وحيد قومه، لرئاسته و يساره و تقدّمه في الدنيا- إلى وجه

الذمّ و العيب، و هو أنّه خلق وحيدا لا مال له و لا ولد، فآتاه اللّه ذلك، فكفر بنعمة اللّه و أشرك به، و استهزأ بدينه. أو أراد أنّه وحيد و لكن في الشرارة، أو عن أبيه، لأنّه كان زنيما «1».

وَ جَعَلْتُ لَهُ مالًا مَمْدُوداً مبسوطا كثيرا، أو ممدّا بالنماء. من: مدّ النهر و مدّ نهره آخر. قيل: كان له الضرع و الزرع و التجارة. و عن ابن عبّاس: هو ما كان له بين مكّة و الطائف من صنوف الأموال. و قيل: الممدود الكثير الّذي لا تنقطع غلّته عنه

______________________________

(1) الزنيم: الدعيّ، أي: اللاحق بقوم ليس منهم.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 240

سنة حتّى يدرك غلّة سنة أخرى، فهو ممدود على الأيّام. و كان له بستان بالطائف لا تنقطع ثماره صيفا و شتاء، و ما بين مكّة إلى الطائف من الإبل المؤبّلة «1»، و الخيل المسوّمة، و النعم المرحّلة «2»، و المستغلّات الّتي لا تنقطع غلّتها، و الجواري و العبيد، و العين الكثيرة. و عن مجاهد: كان له مائة ألف دينار. و قيل: ألف ألف.

وَ بَنِينَ شُهُوداً حضورا معه بمكّة يتمتّع بلقائهم و يستأنس بهم، لا يشتغل قلبه بغيبتهم، و لا يحزن لفراقهم. و لا يحتاجون إلى سفر لطلب المعاش، لأنّهم مكفيّون، لوفور نعمة أبيهم، فاستغنوا عن التكسّب و طلب المعاش بأنفسهم. و لا يحتاج هو أن يرسلهم في مصالحه، لكثرة خدمه. أو يشهدون معه في المحافل و المجامع، لوجاهتهم و اعتبارهم. أو تسمع شهاداتهم فيما يتحاكم فيه.

و عن مجاهد: كان له عشرة بنين. و قيل: ثلاثة عشر. و قال مقاتل: سبعة:

الوليد بن الوليد، و خالد، و عمارة، و هشام، و العاص، و قيس، و عبد شمس.

أسلم منهم ثلاثة: خالد، و هشام، و عمارة.

وَ مَهَّدْتُ لَهُ تَمْهِيداً و بسطت له الرئاسة و الجاه العريض. و منه قولهم: أدام اللّه تأييدك و تمهيدك، يريدون زيادة الجاه و الحشمة. و كان الوليد من وجهاء قريش و صناديدهم، و لذلك لقّب ريحانة قريش و الوحيد بسبب استحقاق الرئاسة و التقدّم.

ثُمَّ يَطْمَعُ أَنْ أَزِيدَ على ما أعطيته. و هو استبعاد و استنكار لطمعه، إمّا لأنّه لا مزيد على ما أوتي سعة و كثرة، أو لأنّه لا يناسب ما هو عليه من كفران النعم و معاندة المنعم. و قيل: إنّه كان يقول: إن كان محمّد صادقا فما خلقت الجنّة إلّا لي.

و لذلك قال: كَلَّا ردعا له عن الطمع و قطع رجائه. ثمّ علّل الردع على سبيل الاستئناف بقوله: إِنَّهُ كانَ لِآياتِنا عَنِيداً أي: عاند آيات المنعم و كفّر بذلك نعمته،

______________________________

(1) أي: المتّخذة و المقتناة، أو المجتمعة.

(2) المرحّل من النعم: الّذي شدّ عليه الرّحل.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 241

و الكافر لا يستحقّ المزيد. روي: أنّه ما زال بعد نزول هذه الآية في نقصان ماله حتّى هلك.

سَأُرْهِقُهُ صَعُوداً سأغشيه عقبة شاقّة المصعد. و هو مثل لما يلقى من الشدائد الّتي لا يطاق. و

عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الصعود جبل من نار يصعد فيه سبعين خريفا ثمّ يهوي فيه كذلك أبدا».

و

عنه أيضا: «يكلّف أن يصعد عقبة من النار كلّما وضع عليها يده ذابت، فإذا رفعها عادت، و إذا وضع رجله ذابت، فإذا رفعها عادت».

و عن الكلبي: هو جبل من صخرة ملساء في النار يكلّف أن يصعدها، حتّى إذا بلغ أعلاها أحدر إلى أسفلها، تمّ يكلّف أن يصعدها، فذلك دأبه أبدا، يجذب من أمامه بسلاسل الحديد، و يضرب

من خلفه بمقامع الحديد، فيصعدها في أربعين سنة.

ثمّ علّل للوعيد المذكور، أو بيّن عناده و وصف أشكاله الّتي تشكّل بها بقوله:

إِنَّهُ فَكَّرَ فيما يخيّل طعنا في القرآن وَ قَدَّرَ في نفسه ما يقول فيه و هيّأه فَقُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ تعجيب من تقديره استهزاء به. أو لأنّه أصاب أقصى ما يمكن أن يقال عليه. من قولهم: قتله اللّه ما أشجعه، أي: بلغ في الشجاعة مبلغا يحقّ بأن يحسد و يدعو عليه حاسده بذلك. ثُمَّ قُتِلَ كَيْفَ قَدَّرَ تكرير للمبالغة. و «ثمّ» للدلالة على أنّ الثانية أبلغ من الأولى. و فيما بعد على أصلها الّذي هو العطف، أعني: قوله: ثُمَّ نَظَرَ معطوفا على «قدّر». و الدعاء اعتراض بينهما، أي: نظر في أمر القرآن مرّة أخرى.

ثُمَّ عَبَسَ قطّب وجهه لمّا لم يجد فيه مطعنا و لم يدر ما يقول. أو نظر إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و قطّب في وجهه. وَ بَسَرَ لم يقل: ثمّ بسر، لأنّه جار مجرى التأكيد من المؤكّد، لأنّه إتباع ل «عبس» ثُمَّ أَدْبَرَ عن الحقّ، أو الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وَ اسْتَكْبَرَ عن اتّباعه فَقالَ إِنْ هذا ما هذا القرآن إِلَّا سِحْرٌ يُؤْثَرُ يروى

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 242

و يتعلّم. و قيل: معناه: تؤثره النفوس و تختاره لحلاوته فيها. و الفاء للدلالة على أنّه لمّا خطرت هذه الكلمة بباله تفوّه بها من غير تلبّث و تفكّر.

إِنْ هذا إِلَّا قَوْلُ الْبَشَرِ كالتأكيد للجملة الأولى، و لهذا لم يعطف عليها. و لو كان القرآن سحرا أو من كلام البشر- كما قاله الملعون- لأمكن السحرة أن يأتوا بمثله، أو قدر قريش مع فصاحتهم على الإتيان بسورة مثله.

سَأُصْلِيهِ

سَقَرَ سأدخله جهنّم. هذا بدل من «سأرهقه». وَ ما أَدْراكَ ما سَقَرُ تفخيم لشأنها. و قوله: لا تُبْقِي وَ لا تَذَرُ بيان لذلك، أو حال من «سقر».

و العامل فيها معنى التعظيم. و المعنى: لا تبقي شيئا يلقى فيها إلّا أهلكته، و إذا هلك لم تذره هالكا حتّى يعاد. لَوَّاحَةٌ لِلْبَشَرِ مسودّة لأعالي الجلد. قيل: تلفح «1» الجلد لفحة فتدعه أشدّ سوادا من الليل. عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ أي: يلي أمرها و يتسلّط على أهلها تسعة عشر ملكا. و قيل: صنفا من الملائكة.

قال فخر الدين الرازي: «الوجه في تخصيص هذا العدد أنّ اختلال النفوس البشريّة في النظر و العمل بسبب القوى الحيوانيّة. و هي تسعة عشر: خمس هي الحواسّ الظاهرة، و خمس هي الحواسّ الباطنة، و اثنتان: الغضبيّة و الشهويّة، و سبعة هي القوى الطبيعيّة، و هي: الجاذبة، و الماسكة، و الهاضمة، و الدافعة، و الغاذية، و النامية، و المولّدة. و مجموعها تسعة عشر. و هي الزبانية الواقعة على باب جهنّم البدن، و على وفق هذا العدد زبانية جهنّم الآخرة» «2».

و قال بعضهم: إنّ لجهنّم سبع دركات، ستّ منها لأصناف الكفّار، و كلّ صنف يعذّب بترك الاعتقاد و الإقرار و العمل أنواعا من العذاب تناسبها، و على كلّ نوع ملك أو صنف يتولّاه. و واحدة لعصاة الأمّة، يعذّبون فيها بترك العمل تعذيبا يناسبه،

______________________________

(1) لفحت النار فلانا: أصابته و أحرقته.

(2) التفسير الكبير 30: 203.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 243

و يتولّاه ملك أو صنف. و لا يبعد أنّهم يعذّبون بعدد الركعات اليوميّة الّتي كانوا يتركونها.

و قيل: إنّ تسعة عشر جامع لأكثر القليل من العدد و أقلّ الكثير منه، لأنّ العدد آحاد و عشرات و مئات و ألوف، فأقلّ العشرات عشرة،

و أكثر الآحاد تسعة. و اللّه أعلم.

[سورة المدثر (74): الآيات 31 الى 37]

وَ ما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلاَّ مَلائِكَةً وَ ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلاَّ فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ يَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً وَ لا يَرْتابَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْمُؤْمِنُونَ وَ لِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ وَ الْكافِرُونَ ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلاً كَذلِكَ يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ وَ ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ إِلاَّ هُوَ وَ ما هِيَ إِلاَّ ذِكْرى لِلْبَشَرِ (31) كَلاَّ وَ الْقَمَرِ (32) وَ اللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ (33) وَ الصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ (34) إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ (35)

نَذِيراً لِلْبَشَرِ (36) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ (37)

روي: أنّه لمّا نزلت «عَلَيْها تِسْعَةَ عَشَرَ» قال أبو جهل لقريش: ثكلتكم أمّهاتكم؛ أسمع ابن أبي كبشة يخبركم أنّ خزنة النار تسعة عشر، و أنتم الدّهم «1» الشجعان، أ فيعجز كلّ عشرة منكم أن يبطشوا برجل من خزنة جهنّم؟! فقال أبو الأشد بن أسيد بن كلدة الجمحي و كان شديد البطش: أنا أكفيكم سبعة عشر، عشرة

______________________________

(1) الدّهم: العدد الكثير.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 244

على ظهري، و سبعة على بطني، فاكفوني أنتم اثنين. فنزلت:

وَ ما جَعَلْنا أَصْحابَ النَّارِ إِلَّا مَلائِكَةً أي: و ما جعلنا الموكّلين بالنار رجالا من جنسكم، بل ما جعلناهم إلّا ملائكة ليخالفوا جنس المعذّبين من الثقلين، فلا يأخذهم ما يأخذ المجانس من الرأفة و الرقّة، و لا يستروحون إليهم. و لأنّهم أقوى الخلق بأسا، و أشدّهم غضبا للّه، و أقواهم بطشا. و عن عمرو بن دينار: واحد منهم يدفع بالدفعة الواحدة في جهنّم أكثر من ربيعة و مضر. و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «كأنّ أعينهم البرق، و

كأنّ أفواههم الصياصي «1»، يجرّون أشعارهم، لأحدهم مثل قوّة الثقلين، يسوق أحدهم الأمّة و على رقبته جبل، فيرمي بهم في النار، و يرمي بالجبل عليهم».

وَ ما جَعَلْنا عِدَّتَهُمْ إِلَّا فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا أي: و ما جعلنا عددهم إلّا العدد الّذي اقتضى فتنتهم، أي: محنة و تشديدا لهم في التكليف، و هو التسعة عشر. فعبّر بالأثر- أعني: الفتنة- عن المؤثّر، أعني: تسعة عشر، فوضع «فِتْنَةً لِلَّذِينَ كَفَرُوا» موضع «تسعة عشر» تنبيها على أنّ الأثر لا ينفكّ منه. و افتتانهم به: استقلالهم، و استهزاؤهم به، و استبعادهم أن يتولّى هذا العدد القليل- الناقص واحدا من عقد العشرين- تعذيب أكثر الثقلين.

لِيَسْتَيْقِنَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ أي: ليكتسبوا اليقين بنبوّة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و صدق القرآن لمّا رأوا ذلك موافقا لما في كتابهم وَ يَزْدادَ الَّذِينَ آمَنُوا إِيماناً بالإيمان به و إن خفي وجه الحكمة عليهم. كأنّه قيل: و لقد جعلنا عدّتهم عدّة من شأنها أن يفتتن بها، لأجل استيقان أهل الكتاب، لأنّ عدّتهم تسعة عشر في الكتابين، فإذا سمعوا بمثلها في القرآن أيقنوا أنّه منزل من اللّه. و لأجل ازدياد المؤمنين إيمانا، لتصديقهم بذلك كما صدّقوا بسائر ما أنزل، و لما رأوا من تسليم

______________________________

(1) الصياصي جمع الصيصية: الحصون.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 245

أهل الكتاب و تصديقهم أنّه كذلك.

وَ لا يَرْتابَ و لئلّا يرتاب الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ وَ الْمُؤْمِنُونَ أي: في ذلك.

و هو تأكيد للاستيقان و زيادة الإيمان، و نفي لما يعرض المتيقّن حيثما عراه شبهة، و تعريض بحال من عداهم. كأنّه قال: و لتخالف حالهم حال الشاكّين المرتابين من أهل النفاق و الكفر.

وَ لِيَقُولَ الَّذِينَ فِي قُلُوبِهِمْ مَرَضٌ شكّ و نفاق. فيكون إخبارا بمكّة

عمّا سيكون في المدينة بعد الهجرة، كسائر الإخبارات بالغيوب. فالآية لا تخالف كون السورة مكّيّة.

وَ الْكافِرُونَ الجازمون في التكذيب. و اللام هاهنا لام العاقبة، أي: عاقبة أمر المنافقين و الكافرين أن يقولوا: ما ذا أَرادَ اللَّهُ بِهذا مَثَلًا أيّ شي ء أراد بهذا العدد المستغرب استغراب المثل؟ و المعنى: أيّ شي ء أراد بهذا العدد العجيب؟ و أيّ غرض قصد في أن جعل الملائكة تسعة عشر لا عشرين و مرادهم إنكاره من أصله، و أنّه ليس من عند اللّه، و أنّه لو كان من عند اللّه لما جاء بهذا العدد الناقص.

كَذلِكَ مثل ذلك المذكور من الإضلال و الهدى يُضِلُّ اللَّهُ مَنْ يَشاءُ وَ يَهْدِي مَنْ يَشاءُ يعني: يفعل فعلا حسنا مبنيّا على الحكمة و الصواب، فيراه المؤمنون حكمة و يذعنون له، لاعتقادهم أنّ أفعال اللّه كلّها حسنة و حكمة، فيزيدهم إيمانا، و ينكره الكافرون و يشكّون فيه، فيزيدهم كفرا و ضلالا، و أضاف الهدى و الضلال إلى نفسه، لأنّ سبب ذلك التكليف، و هو من جهته. كأنّه قال: يكلّف الخلق بهذه المحنة و الاختبار ليظهر الضلال و الهدى.

وَ ما يَعْلَمُ جُنُودَ رَبِّكَ جموع خلقه، و ما عليه كلّ جند من العدد الخاصّ، بأن يكون بعضها على عقد كامل، و بعضها على عدد ناقص، و ما في اختصاص كلّ جند بعدده من الحكمة إِلَّا هُوَ إذ لا سبيل لأحد إلى حصر الممكنات و الاطّلاع

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 246

على حقائقها و صفاتها، و ما يوجب اختصاص كلّ واحد منها بما يخصّه من كمّ و كيف و اعتبار و نسبة، فإنّه لا يعرف الحكمة في أعداد السماوات و الأرضين، و أيّام السنة و الشهور، و البروج و الكواكب، و

أعداد النصب و الحدود و الكفّارات و الصلوات في الشريعة إلّا هو.

و المعنى: و ما يعلم جنود ربّك لفرط كثرتها إلّا هو، فلا يعزّ عليه تتميم الخزنة عشرين، و لكن له في هذا العدد حكمة لا تعلمونها و هو يعلمها.

و قيل: هذا جواب لقول أبي جهل: أما لربّ محمّد أعوان إلّا تسعة عشر.

وَ ما هِيَ متّصل بوصف سقر. و هي ضميرها، أو ضمير الآيات الّتي ذكرت فيها، أو ضمير عدّة الزبانية أو السورة، أي: و ما سقر، أو و ما الآيات المذكورة، أو و ما عدّة الخزنة أو السورة. إِلَّا ذِكْرى لِلْبَشَرِ أي: تذكرة لهم.

كَلَّا ردع لمن أنكرها، أو إنكار أن يتذكّر الكفّار بها وَ الْقَمَرِ أقسم به لما فيه من الآيات العجيبة في طلوعه و غروبه و مسيره و زيادته و نقصانه وَ اللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ أي «1»: أدبر، ك: قبل بمعنى: أقبل. و قيل: هو من: دبر الليل النهار إذا خلفه.

و قرأ نافع و يعقوب و حمزة و حفص: إذ أدبر. وَ الصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ أضاء و أنار.

إِنَّها لَإِحْدَى الْكُبَرِ لإحدى البلايا و الدواهي الكبر. و إنّما جمع كبرى على كبر إلحاقا لفعلى بفعلة، تنزيلا للألف منزلة التاء، كما ألحقت قاصعاء بقاصعة فجمعت على قواصع، كأنّها جمع فاعلة. و معنى كونها إحداهنّ: أنّها من بينهنّ واحدة في العظم لا نظيرة لها، كما تقول: هو أحد الرجال، و هي إحدى النساء.

و الجملة جواب القسم، أو تعليل ل «كلّا». و القسم معترض للتأكيد.

نَذِيراً لِلْبَشَرِ أي: لإحدى الكبر إنذارا لهم. و نصبه بالتمييز، كما تقول:

هي إحدى النساء عفافا. و قيل: هي حال عمّا دلّت عليه الجملة، أي: كبرت منذرة.

______________________________

(1) هذا التفسير على قراءة: دبر.

زبدة التفاسير، ج 7،

ص: 247

لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَتَقَدَّمَ أَوْ يَتَأَخَّرَ بدل من «للبشر» أي: نذيرا للمتمكّنين من السبق إلى الخير و التخلّف عنه، الّذين إن شاؤا تقدّموا ففازوا، و إن شاؤا تأخّروا فهلكوا. أو «أن يتقدّم» في موضع الرفع بالابتداء، و «لمن شاء» خبر مقدّم عليه، كقولك: لمن توضّأ أن يصلّي. و معناه: لمن شاء التقدّم و السبق إلى الخير أو التأخّر و التخلّف عنه أن يتقدّم أو يتأخّر. و هو كقوله: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ «1».

و

روى محمد بن الفضيل عن أبي الحسن عليه السّلام أنّه قال: «كلّ من تقدّم إلى ولايتنا تأخّر عن سقر، و كلّ من تأخّر عن ولايتنا تقدّم إلى سقر».

[سورة المدثر (74): الآيات 38 الى 56]

كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ رَهِينَةٌ (38) إِلاَّ أَصْحابَ الْيَمِينِ (39) فِي جَنَّاتٍ يَتَساءَلُونَ (40) عَنِ الْمُجْرِمِينَ (41) ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ (42)

قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ (43) وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ (44) وَ كُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ (45) وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ (46) حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ (47)

فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ (48) فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ (49) كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ (50) فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ (51) بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً (52)

كَلاَّ بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ (53) كَلاَّ إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ (54) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (55) وَ ما يَذْكُرُونَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ هُوَ أَهْلُ التَّقْوى وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ (56)

______________________________

(1) الكهف: 29.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 248

كُلُّ نَفْسٍ بِما كَسَبَتْ من طاعة أو معصية رَهِينَةٌ مرهونة عند اللّه غير مفكوك. مصدر، كالشتيمة بمعنى الشتم، كأنّه قال: كلّ نفس بما كسبت رهن، أي:

مرهونة محبوسة مطالبة. و لو كانت صفة لقيل: رهين، لمساواة فعيل بمعنى المفعول في التذكير و

التأنيث.

إِلَّا أَصْحابَ الْيَمِينِ فإنّهم فكّوا رقابهم بما أحسنوا من أعمالهم، كما يخلّص الراهن رهنه بأداء الحقّ. و

روي عن عليّ عليه السّلام أنّه فسّرهم بالأطفال، لأنّهم لا أعمال لهم يرتهنون بها.

و عن ابن عبّاس: هم الملائكة. و

عن الباقر عليه السّلام: «هم نحن و شيعتنا».

فِي جَنَّاتٍ لا يكتنه وصفها. و هي حال من «أَصْحابَ الْيَمِينِ» أو من ضميرهم في قوله: يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ أي: يسأل بعضهم بعضا حال كونهم ساكنين في جنّات عن حال المجرمين و عن ذنوبهم الّتي استحقّوا بها النار. أو يسألون غيرهم عن حالهم، كقولك: تداعيناه، أي: دعوناه.

و قوله: ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ بجوابه حكاية قول المسؤولين عنهم، لأنّ المسؤولين يلقون إلى السائلين ما جرى بينهم و بين المجرمين، فيقولون: قلنا لهم: ما سلككم في سقر قالُوا لَمْ نَكُ مِنَ الْمُصَلِّينَ إلّا أنّ الكلام جي ء به على الحذف و الاختصار، كما هو نهج التنزيل في غرابة نظمه. فلا يقال: كيف طابق قوله: «ما سلككم» و هو سؤال للمجرمين قوله: «يَتَساءَلُونَ عَنِ الْمُجْرِمِينَ» و هو سؤال عنهم، و إنّما كان يتطابق ذلك لو قيل: يتساءلون المجرمين ما سلككم؟ و المراد بالصلاة الصلاة الواجبة كما لا يخفى.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 249

وَ لَمْ نَكُ نُطْعِمُ الْمِسْكِينَ ما يجب إعطاؤه من الزكوات و الأخماس و الكفّارات. و فيه دليل على أنّ الكفّار مخاطبون بالفروع.

وَ كُنَّا نَخُوضُ مَعَ الْخائِضِينَ نشرع في الباطل مع الشارعين فيه، فإنّ الخوض هو الشروع في الباطل و ما لا ينبغي.

وَ كُنَّا نُكَذِّبُ بِيَوْمِ الدِّينِ أخّره لتعظيمه، أي: و كنّا بعد ذلك كلّه مكذّبين بالقيامة، كقوله: ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا «1» الآية.

حَتَّى أَتانَا الْيَقِينُ الموت و مقدّماته. و الغرض من هذا التساؤل- مع أنّ

المؤمنين عالمون بذلك- توبيخ لهم و تحسير. و أيضا ليكون حكاية ذلك في كتابه تذكرة للسامعين.

فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ لو شفعوا لهم جميعا من الملائكة و النبيّين و غيرهم، لأنّ الشفاعة لمن ارتضاه، و هم مسخوط عليهم، فما تنفعهم شفاعة الملك و الجنّ و الإنس كما نفعت الموحّدين. و قد صحّت الرواية عن عبد اللّه بن مسعود قال: يشفع نبيّكم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رابع أربعة: جبرئيل، ثمّ إبراهيم، ثمّ موسى أو عيسى، ثمّ نبيّكم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و لا يشفع أحد أكثر ممّا يشفع فيه نبيّكم، ثمّ النبيّون، ثمّ الصدّيقون، ثمّ الشهداء. و يبقى قوم في جهنّم فيقال لهم: «ما سَلَكَكُمْ فِي سَقَرَ» إلى قوله: «فَما تَنْفَعُهُمْ شَفاعَةُ الشَّافِعِينَ». قال ابن مسعود: فهؤلاء الّذين يبقون في جهنّم.

و

عن الحسن عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «يقول الرجل من أهل الجنّة يوم القيامة: أي ربّ عبدك فلان سقاني شربة من ماء في الدنيا فشفّعني فيه. فيقول:

اذهب فأخرجه من النار. فيذهب فيتجسّس في النار حتّى يخرجه منها».

و

قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ من أمّتي سيدخل اللّه بشفاعته الجنّة أكثر من مضر».

فَما لَهُمْ عَنِ التَّذْكِرَةِ مُعْرِضِينَ أي: معرضين عن التذكير، و هو العظة.

______________________________

(1) البلد: 17.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 250

زبدة التفاسير ج 7 299

يعني: القرآن، أو ما يعمّه من المواعظ. و «معرضين» حال، كقولك: مالك قائما.

و المعنى: لا شي ء لهم في الآخرة إذا أعرضوا عن القرآن و نفروا عنه.

كَأَنَّهُمْ حُمُرٌ مُسْتَنْفِرَةٌ شديدة النفار، كأنّها تطلب النفار من نفوسها في جمعها للنفار و حملها عليه. و قرأ ابن عامر بفتح الفاء. و المعنى: يطلب

منها النفار.

فَرَّتْ مِنْ قَسْوَرَةٍ شبّههم في إعراضهم و نفارهم عن استماع الذكر بحمر نافرة فرّت من قسورة، أي: أسد. فعولة من القسر، و هو القهر و الغلبة. و في وزنه حيدرة من أسماء الأسد. و عن الضحّاك و مجاهد: القسورة الرماة الّذين يتصيّدونها.

و في تشبيههم بالحمر مذمّة ظاهرة، و تهجين لحالهم بيّن، كما في قوله:

كَمَثَلِ الْحِمارِ يَحْمِلُ أَسْفاراً «1» و شهادة عليهم بالبله و قلّة العقل. و لا ترى مثل نفار حمير الوحش و اطّرادها في العدو إذا رابها رائب، و لذلك كان أكثر تشبيهات العرب في وصف الإبل و شدّة سيرها بالحمر و عدوها إذا وردت ماء حال شدّة العطش.

روي: أنّهم اقترحوا على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عنادا: لن نتّبعك حتّى تأتي كلّا منّا بكتب من السماء عنوانها: من ربّ العالمين إلى فلان بن فلان اتّبع محمدا. فنزلت:

بَلْ يُرِيدُ كُلُّ امْرِئٍ مِنْهُمْ أَنْ يُؤْتى صُحُفاً مُنَشَّرَةً

قراطيس تنشر و تقرأ، كالكتب الّتي يتكاتب بها. أو كتبا كتبت في السماء، و نزلت بها الملائكة ساعة كتبت منشّرة على أيديها، غضّة رطبة لم تطو بعد. و نحوه قوله تعالى: وَ لَنْ نُؤْمِنَ لِرُقِيِّكَ حَتَّى تُنَزِّلَ عَلَيْنا كِتاباً نَقْرَؤُهُ «2». و قوله: وَ لَوْ نَزَّلْنا عَلَيْكَ كِتاباً فِي قِرْطاسٍ فَلَمَسُوهُ بِأَيْدِيهِمْ «3» الآية.

و قيل: قالوا: إن كان محمد صادقا فلتصبح عند رأس كلّ رجل منّا صحيفة

______________________________

(1) الجمعة: 5.

(2) الإسراء: 93.

(3) الأنعام: 7.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 251

فيها براءته و أمنه من النار.

و قيل: كانوا يقولون: بلغنا أنّ الرجل من بني إسرائيل كان يصبح مكتوبا على رأسه ذنبه و كفّارته، فأتنا بمثل ذلك. و هذا من الصحف المنشّرة بمعزل، إلّا أن يراد بالصحف المنشّرة الكتابات الظاهرة

المكشوفة.

كَلَّا ردع عن اقتراحهم الآيات بَلْ لا يَخافُونَ الْآخِرَةَ فلذلك أعرضوا عن التذكرة، لا لامتناع إيتاء الصحف.

كَلَّا ردع عن إعراضهم عن التذكرة إِنَّهُ تَذْكِرَةٌ و أيّ تذكرة، أي: تذكرة بليغة كافية. و الضمير للتذكرة. و تذكيره لأنّها في معنى التذكير و الذكر. أو القرآن.

فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ فمن شاء أن يذكره و يجعله نصب عينه فعل، فإنّ نفع ذلك راجع إليه.

وَ ما يَذْكُرُونَ إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ ذكرهم، بأن يقسرهم على الذكر و يلجئهم إليه، لأنّهم مطبوع على قلوبهم، معلوم للّه تعالى أنّهم لا يؤمنون اختيارا.

و قيل: معناه: إلّا أن يشاء اللّه من حيث أمر به و نهى عن تركه، و وعد الثواب على فعله، و أوعد العقاب إن لم يفعله، فكانت مشيئته سابقة، أي: لا تشاءون إلّا و اللّه قد شاء ذلك. و قرأ نافع: تذكرون بالتاء.

هُوَ أَهْلُ التَّقْوى حقيق بأن يتّقيه عباده، و يخافوا عقابه، فيؤمنوا و يطيعوا وَ أَهْلُ الْمَغْفِرَةِ حقيق بأن يغفر لهم إذا آمنوا و أطاعوا.

و

روي مرفوعا عن أنس قال: إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم تلا هذه الآية فقال: «قال اللّه سبحانه: أنا أهل أن اتّقى فلا يجعل معي إله، فمن اتّقى أن يجعل معي إلها فأنا أهل أن أغفر له».

و قيل: معناه: هو أهل أن يتّقى عقابه، و أهل أن يعمل له بما يؤدّي مغفرته.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 253

(75) سورة القيامة

اشارة

مكّيّة. و هي أربعون آية.

أبيّ بن كعب قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من قرأ سورة القيامة شهدت أنا و جبرئيل له يوم القيامة أنّه كان مؤمنا بيوم القيامة، و جاء و وجهه مسفر على وجوه الخلائق يوم القيامة».

أبو بصير عن

أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من أدمن قراءة لا أقسم، و كان يعمل بها، بعثها اللّه يوم القيامة معه في قبره في أحسن صورة، تبشّره و تضحك في وجهه حتّى يجوز الصراط و الميزان».

[سورة القيامة (75): الآيات 1 الى 15]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ (1) وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ (2) أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ (3) بَلى قادِرِينَ عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ (4)

بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ لِيَفْجُرَ أَمامَهُ (5) يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ (6) فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ (7) وَ خَسَفَ الْقَمَرُ (8) وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ (9)

يَقُولُ الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ (10) كَلاَّ لا وَزَرَ (11) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ (12) يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَ أَخَّرَ (13) بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ (14)

وَ لَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ (15)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 254

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة المدّثّر بذكر القيامة و أنّ الكافر لا يؤمن بها، افتتح هذه السورة بذكر القيامة و ذكر أهوالها، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* لا أُقْسِمُ بِيَوْمِ الْقِيامَةِ قد شاع في كلام العرب إدخال «لا» النافية على فعل القسم للتأكيد.

و قيل: «لا» ردّ على الّذين أنكروا البعث و النشور، فكأنّه قال: لا كما تظنّون، ثمّ ابتدأ القسم فقال: أقسم بيوم القيامة إنّكم مبعوثون.

و قيل: معناه: لا أقسم بيوم القيامة، لظهورها بالدلائل العقليّة و السمعيّة. و قد سبق الكلام في ذلك في قوله: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ «1».

و قرأ قنبل: لأقسم بغير ألف بعد اللام. و كذلك روي عن البزّي، على أنّ اللام لتأكيد القسم، أو على تقدير: لأنا أقسم، فخفّف.

وَ لا أُقْسِمُ بِالنَّفْسِ اللَّوَّامَةِ بالنفس المتّقية الّتي تلوم النفوس المقصّرة في التقوى يوم القيامة على تقصيرها. أو النفس الّتي

تلوم نفسها في الدنيا و تقول له:

ماذا فعلت؟ و لم قصّرت؟ و إن اجتهدت في الطاعة، فتكون مفكّرة في العواقب أبدا، و الفاجر لا يفكّر في أمر الآخرة. أو النفس المطمئنّة اللائمة للنفس الأمّارة. أو بالجنس، لما

روي أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «ليس من نفس برّة و لا فاجرة إلّا و تلوم نفسها

______________________________

(1) الواقعة: 75. زبدة التفاسير، ج 7، ص: 255

يوم القيامة، إن عملت خيرا قالت: كيف لم أزدد، و إن عملت شرّا قالت: ليتني لم أفعل».

أو نفس آدم عليه السّلام، فإنّها لم تزل تتلوّم على ما خرجت به من الجنّة. و ضمّها إلى يوم القيامة، لأنّ المقصود من إقامتها مجازاتها.

و جواب القسم محذوف، تقديره: إنّكم تبعثون، أو لتبعثنّ. و يدلّ على حذفه قوله: أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ صورته الاستفهام، و معناه الإنكار. و المراد الجنس.

و إسناد الفعل إليه لأنّ فيهم من يحسب. أو الّذي نزل فيه، لما

روي أنّ عديّ بن أبي ربيعة ختن «1» الأخنس بن شريق- و هما اللّذان كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول فيهما:

اللّهمّ اكفني جاري السّوء- سال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن أمر القيامة، و قال: يا محمّد حدّثني عن يوم القيامة متى يكون و كيف أمره؟ فأخبره به، فقال: لو عاينت ذلك اليوم لم أصدّقك يا محمد، و لم أرض به أو يجمع اللّه العظام. فنزلت فيه «أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ».

أَلَّنْ نَجْمَعَ عِظامَهُ بعد تفرّقها، أي: لن نعيده إلى ما كان أوّلا عليه خلقا جديدا بعد أن صار رفاتا مختلطا بالتراب، و بعد ما سفّتها الرياح و طيّرتها في أباعد الأرض. فكنّى عن البعث بجمع العظام.

بَلى إيجاب بعد

النفي، و هو الجمع. فكأنّه قال: بلى نجمعها. قادِرِينَ حال من فاعل الفعل الّذي قدّرناه بعد «بلى» عَلى أَنْ نُسَوِّيَ بَنانَهُ بجمع سلامياته «2»، و ضمّ بعضها إلى بعض كما كانت أوّلا، مع صغرها و لطافتها، فكيف بكبار العظام؟! أو على أن نسوّي بنانه. أي: أصابعه الّتي هي أطرافه، و آخر ما يتمّ به خلقه.

و عن ابن عبّاس و قتادة معناه: بلى نجمعها و نحن قادرون على أن نسوّي أصابع يديه و رجليه، أي: نجعلها مستوية شيئا واحدا، كخفّ البعير و حافر الحمير،

______________________________

(1) الختن: زوج الابنة، أو كلّ من كان من قبل المرأة مثل الأب و الأخ.

(2) السلاميات جمع السلامى: كلّ عظم مجوّف من صغار العظام، مثل عظام الأصابع.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 256

لا نفرّق بينها، فلا يمكنه أن يعمل بها شيئا ممّا يعمل بأصابعه المفرّقة ذات المفاصل و الأنامل، من فنون الأعمال و القبض و البسط و التأتّي لما يريد من الحوائج، و لكنّا مننّا عليه بالأنامل ليكمل بها المنفعة، و يتهيّأ له القبض و البسط و الارتفاق بالأعمال اللطيفة، كالكتابة و غيرها.

بَلْ يُرِيدُ الْإِنْسانُ عطف على «أ يحسب». فيجوز أن يكون مثله استفهاما، و أن يكون إيجابا، على أن يكون للإضراب عن مستفهم عنه إلى آخر، أو إلى موجبه. لِيَفْجُرَ أَمامَهُ ليدوم على فجوره فيما بين يديه من الأوقات، و فيما يستقبله من الزمان، لا ينزع عنه.

و عن سعيد بن جبير: يقدّم الذنب و يؤخّر التوبة، يقول: سوف أتوب سوف أتوب، حتّى يأتيه الموت على شرّ أحواله و أسوأ أعماله.

يَسْئَلُ أَيَّانَ يَوْمُ الْقِيامَةِ استبعادا لقيام الساعة. أو استهزاء. و نحوه:

وَ يَقُولُونَ مَتى هذَا الْوَعْدُ «1».

ثمّ قال سبحانه ردّا عليه: فَإِذا بَرِقَ الْبَصَرُ تحيّر فزعا.

من: برق الرجل إذا نظر إلى البرق فدهش بصره. و قرأ نافع بالفتح. و هو لغة. أو من البريق. يعني:

لمع من شدّة شخوصه. وَ خَسَفَ الْقَمَرُ و ذهب ضوؤه، أو ذهب بنفسه وَ جُمِعَ الشَّمْسُ وَ الْقَمَرُ حيث يطلعهما اللّه من المغرب. و لا ينافيه الخسوف، فإنّه مستعار للمحاق.

و قيل: و جمعا في ذهاب الضوء. و قيل: يجمعان أسودين مكوّرين «2»، كأنّهما ثوران عقيران «3» في النار. و قيل: يجمعان ثمّ يقذفان في البحر، فيكون نار اللّه

______________________________

(1) الملك: 25.

(2) كوّرت الشمس: جمع ضوؤها و لفّ كما تلفّ العمامة، أو اضمحلّت و ذهبت.

(3) أي: معقوران قطعت قوائمهما بالسيف.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 257

الكبرى.

و لمن حمل ذلك على أمارات الموت أن يفسّر الخسوف بذهاب ضوء البصر، و الجمع باستتباع الروح- الّتي هي بمنزلة القمر- الحاسّة- الّتي هي بمنزلة الشمس- في الذهاب. أو بوصوله إلى من كان يقتبس منه نور العقل من سكّان القدس.

و تذكير الفعل لتقدّمه، و تغليب المعطوف.

يَقُولُ الْإِنْسانُ المكذّب بالقيامة يَوْمَئِذٍ أَيْنَ الْمَفَرُّ أين الفرار؟ أو مكان الفرار. و قال الزجّاج: المفرّ بالفتح: الفرار، و المفرّ بالكسر: مكان الفرار. و المعنى:

يقول ذلك قول الآيس من وجدانه المتمنّي.

كَلَّا ردع عن طلب المفرّ لا وَزَرَ لا ملجأ و لا مهرب لهم. و كلّ ما التجأت إليه من جبل أو غيره و تخلّصت به فهو وزرك. و منه: الوزير الّذي يلجأ إليه في الأمور. و اشتقاقه من الوزر، و هو الثقل.

إِلى رَبِّكَ إليه وحده يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ استقرار العباد، أي: لا يقدرون أن يستقرّوا إلى غيره. أو إلى حكمه استقرار أمرهم، لا يحكم فيها غيره، كقوله:

لِمَنِ الْمُلْكُ الْيَوْمَ «1». أو إلى مشيئته موضع قرارهم من جنّة أو نار، فيدخل

من يشاء الجنّة و من يشاء النار، على وفق حكمته.

يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَ أَخَّرَ بما قدّم من عمل عمله، و بما أخّر منه لم يعمله. أو بما قدّم من عمل الخير و الشرّ، و بما أخّر من سنّة حسنة أو سيّئة عمل بها بعده. أو بما قدّم من مال تصدّق به، و بما أخّر فخلّفه. و عن ابن عبّاس: بما قدّم من المعاصي، و بما أخّر من الطاعات. و عن مجاهد: بأوّل عمله و آخره. و نحوه:

فَيُنَبِّئُهُمْ بِما عَمِلُوا أَحْصاهُ اللَّهُ وَ نَسُوهُ «2».

______________________________

(1) غافر: 16.

(2) المجادلة: 6.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 258

بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ حجّة بيّنة على أعمالها، لأنّه شاهد بها. وصفت بالبصارة على المجاز، كما وصفت الآيات بالإبصار في قوله:

فَلَمَّا جاءَتْهُمْ آياتُنا مُبْصِرَةً «1». أو عين بصيرة بها، فلا يحتاج إلى الإنباء، لأنّه شاهد عليها بما عملت، لأنّ جوارحه تنطق بذلك: يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ «2». فهو شاهد على نفسه بشهادة جوارحه عليه.

روى العيّاشي بإسناده عن محمد بن مسلم، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «ما يصنع أحدكم أن يظهر حسنا و يسرّ سيّئا؟ أليس إذا رجع إلى نفسه يعلم أنّه ليس كذلك؟ و اللّه سبحانه يقول: «بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ» إنّ السريرة إذا صلحت قويت العلانية».

و

عن عمر بن يزيد، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه تلا هذه الآية ثمّ قال: «ما يصنع الإنسان أن يعتذر إلى الناس خلاف ما يعلم اللّه منه؟».

و

عن زرارة سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام: «ما حدّ المرض الّذي يفطر صاحبه؟ قال:

«بَلِ الْإِنْسانُ عَلى نَفْسِهِ بَصِيرَةٌ».

وَ لَوْ أَلْقى مَعاذِيرَهُ و لو جاء بكلّ ما يمكن

أن يعتذر به لمن ينفعه ذلك.

جمع معذار، و هو العذر. أو جمع معذرة على غير قياس، فإنّ قياسه: معاذر. أو ليس بجمع معذرة، و إنّما هو اسم جمع لها. و نحوه: المناكير في المنكر. و عن الضحّاك:

و لو أرخى ستوره. و قال: المعاذير الستور، واحدها معذار. و هي لغة طائيّة، لأنّه يمنع رؤية المحتجب كما تمنع المعذرة عقوبة المذنب. و المعنى على هذا القول: و إن أسبل الستور ليخفي ما يعمل، فإنّ نفسه شاهدة.

______________________________

(1) النمل: 13.

(2) النور: 24.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 259

[سورة القيامة (75): الآيات 16 الى 21]

لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ (16) إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ وَ قُرْآنَهُ (17) فَإِذا قَرَأْناهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ (18) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ (19) كَلاَّ بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ (20)

وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ (21)

عن ابن عبّاس: كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا نزل عليه القرآن عجّل بتحريك لسانه، و لم يصبر إلى أن يتمّه جبرئيل، لحبّه إيّاه، و حرصه على أخذه و ضبطه مخافة أن ينفلت منه، فأمر بأن يستنصت له ملقيا إليه بقلبه و سمعه، حتّى يقضى إليه وحيه، ثمّ يقفّيه بالدراسة إلى أن يرسخ فيه، فقال:

لا تُحَرِّكْ بِهِ

بالقرآن لِسانَكَ قبل أن يتمّ وحيه لِتَعْجَلَ بِهِ لتأخذه على عجلة مخافة أن ينفلت منك، فإنّ معاذيرك في هذا غير مسموعة، لأنّ نفسك بصيرة على أنّ علينا أن نؤيّدك في حفظ القرآن، و نحفظك أن ينفلت منك شي ء منه.

ثمّ قال معلّلا للنهي عن العجلة و الاعتذار فيها بقوله: إِنَّ عَلَيْنا جَمْعَهُ في صدرك حتّى تحفظه وَ قُرْآنَهُ و إثبات قراءته في لسانك، فلا تخف فوت شي ء منه.

فَإِذا قَرَأْناهُ بلسان جبرئيل عليك فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ قراءته مقفّيا له فيها.

و طمأن نفسك أنّه لا يبقى

غير محفوظ، فنحن في ضمان تحفيظه.

ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا بَيانَهُ بيان ما أشكل عليك شي ء من معانيه. كأنّه كان يعجل في الحفظ و السؤال عن المعنى جميعا، كما ترى بعض الحراص على العلم. و نحوه:

وَ لا تَعْجَلْ بِالْقُرْآنِ مِنْ قَبْلِ أَنْ يُقْضى إِلَيْكَ وَحْيُهُ «1».

عن ابن عبّاس قال: كان

______________________________

(1) طه: 114. زبدة التفاسير، ج 7، ص: 260

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعد هذا إذا نزل عليه جبرئيل أطرق، فإذا ذهب قرأ.

و هو دليل على جواز تأخير البيان عن وقت الخطاب، و اعتراض بما هو تأكيد للتوبيخ على حبّ العجلة، لأنّ العجلة إذا كانت مذمومة فيما هو أهمّ الأمور الدينيّة، ففي الأمور الدنياويّة الموجبة لترك الاهتمام بالآخرة بطريق الأولى.

كَلَّا ردع للرسول عن عادة العجلة، و إنكار لها عليه، و حثّ على الأناة و التؤدة. و قد بالغ في ذلك بإتباعه قوله: بَلْ تُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ فعمّم الخطاب إشعارا بأنّ بني آدم لفرط عجلتهم كأنّهم مطبوعون على الاستعجال. و المعنى: بل أنتم يا بني آدم تعجلون في كلّ شي ء، و من ثمّ تحبّون العاجلة.

وَ تَذَرُونَ الْآخِرَةَ فتعملون للدنيا لا للآخرة، جهلا منكم. و قيل: «كلّا» ردع للإنسان المذكور في صدر السورة عن الاغترار بالعاجل. و المراد به الجنس. فجمع الضمير للمعنى. و يؤيّده قراءة ابن كثير و ابن عامر و البصريّين بالياء في الفعلين. و المعنى: لا تتدبّرون القرآن و ما فيه من البيان، بل تحبّون الدنيا الدنيّة السريعة الزوال، و تذرون الآخرة الّتي هي دار القرار من غير زوال و لا انتقال.

[سورة القيامة (75): الآيات 22 الى 40]

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ (22) إِلى رَبِّها ناظِرَةٌ (23) وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ (24) تَظُنُّ أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ (25) كَلاَّ إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ

(26)

وَ قِيلَ مَنْ راقٍ (27) وَ ظَنَّ أَنَّهُ الْفِراقُ (28) وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ (29) إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ (30) فَلا صَدَّقَ وَ لا صَلَّى (31)

وَ لكِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى (32) ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى (33) أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (34) ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى (35) أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ أَنْ يُتْرَكَ سُدىً (36)

أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى (37) ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى (38) فَجَعَلَ مِنْهُ الزَّوْجَيْنِ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى (39) أَ لَيْسَ ذلِكَ بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى (40)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 261

ثمّ بيّن سبحانه حال الناس في الآخرة، فقال: وُجُوهٌ أي: وجوه المؤمنين المستحقّين للثواب. و المراد أنفسهم، تسمية الكلّ باسم أشرف أجزائه.

و يسمّونه أيضا بالرأس و الرقبة. يَوْمَئِذٍ ناضِرَةٌ ناعمة بهيّة متهلّلة من نضرة النعيم.

إِلى رَبِّها أي: إلى رحمته و نعيم جنّته ناظِرَةٌ بحيث تغفل عمّا سواها، و لذلك قدّم المفعول. روي ذلك التفسير عن جماعة من علماء المفسّرين من الصحابة و التابعين. فحذف المضاف في «ربّها» و أقيم المضاف إليه مقامه، كما في قوله: وَ جاءَ رَبُّكَ «1» أي: أمر ربّك.

و قيل: معنى الناظرة: المنتظرة و المتوقّعة. من قولهم: أنا إلى فلان ناظر ما يصنع بي، تريد معنى التوقّع و الرجاء. فالمعنى: أنّهم لا يتوقّعون النعمة و الكرامة إلّا من ربّهم، كما كانوا في الدنيا لا يخشون و لا يرجون إلّا اللّه.

______________________________

(1) الفجر: 22.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 262

و هذا المعنى مرويّ عن مجاهد و الحسن و سعيد بن جبير و الضحّاك. و هو المرويّ عن عليّ عليه السّلام.

و ما قيل: إنّ النظر بمعنى الانتظار لا يدعى ب «إلى». يأباه قول شعرائهم في أشعارهم. و كفى في ردّ هذا القول

قول أكابر الصحابة- الّذين من جملتهم الامام المعصوم عليه السّلام- أنّ معنى ناظرة: منتظرة.

و قيل: «إلى» اسم، و هو واحد الآلاء الّتي هي النعم. و المعنى: نعمة ربّها ناظرة.

و لا يجوز أن يكون المعنى: تنظر إلى ربّها خاصّة لا تنظر إلى غيره، على مقتضى تقديم المفعول، كما في قوله: إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمُسْتَقَرُّ «1» إِلى رَبِّكَ يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ «2». أَلا إِلَى اللَّهِ تَصِيرُ الْأُمُورُ «3». وَ إِلَيْهِ تُرْجَعُونَ «4». عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَ إِلَيْهِ أُنِيبُ «5». و كيف دلّ فيها التقديم على معنى الاختصاص؟ فإنّه معلوم أنّ المؤمنين ينظرون إلى أشياء لا يحيط بها الحصر، من أنواع نعم الجنّة، و مشاهدتهم المعذّبين في النار. فالاختصاص بنظرهم إليه لو كان منظورا إليه محال، فوجب حمله على المعنيين الأوّلين.

و أيضا كلّ منظور إليه بالعين مشار إليه بالحدقة و اللحاظ، و اللّه تعالى منزّه عن أن يشار إليه بالعين، كما جلّ سبحانه عن أن يشار إليه بالأصابع.

و أيضا الرؤية بالحاسّة لا تتمّ إلّا بالمقابلة و التوجّه، و اللّه يتعالى عن

______________________________

(1) القيامة: 12.

(2) القيامة: 30.

(3) الشورى: 53.

(4) البقرة: 245.

(5) هود: 88.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 263

ذلك بالاتّفاق.

و أيضا فإنّ رؤية الحاسّة لا تتمّ إلّا باتّصال الشعاع بالمرئيّ، و اللّه منزّه عن اتّصال الشعاع به. على أنّ النظر لا يفيد الرؤية في اللغة، فإنّه إذا علّق بالعين أفاد طلب الرؤية، كما أنّه إذا علّق بالقلب أفاد طلب المعرفة، بدلالة قولهم: نظرت إلى الهلال فلم أره، فلو أفاد النظر الرؤية لكان هذا القول متناقضا. و قولهم: ما زلت أنظر إليه حتّى رأيته. و الشي ء لا يجعل غاية لنفسه، فلا يقال: ما زلت أراه حتّى رأيته.

و لأنّا نعلم الناظر ناظرا بالضرورة، و لا

نعلمه رائيا بالضرورة، بدلالة أنّا نسأله: هل رأيت أم لا؟

وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ باسِرَةٌ شديدة العبوس. و الباسل أبلغ من الباسر، لكنّه غلب في الشجاع إذا اشتدّ كلوحه «1».

تَظُنُ تتوقّع أربابها أَنْ يُفْعَلَ بِها فاقِرَةٌ داهية تكسر فقار الظهر، كما توقّعت الوجوه الناضرة أن يفعل بها كلّ خير.

كَلَّا ردّ عن إيثار الدنيا على الآخرة. كأنّه قيل: ارتدّوا عن حبّ الدنيا و اختيارها على الآخرة، و تنبّهوا على ما بين أيديكم من الموت الّذي عنده تنقطع العاجلة عنكم، و تنتقلون إلى الآجلة الّتي تبقون فيها مخلّدين. فذكّرهم صعوبة الموت الّذي هو أوّل مراحل الآخرة، فقال: إِذا بَلَغَتِ التَّراقِيَ إذا بلغت النفس العظام المكتنفة لثغرة النحر عن يمين و شمال. و المراد أعالي الصدر. و إضمارها من غير ذكر لدلالة الكلام عليها.

وَ قِيلَ مَنْ راقٍ أي: قال من حضر المحتضر من أهله بعضهم لبعض: من يرقيه و يداويه من طبيب شاف ما به من الرقية؟ أو قال ملائكة الموت: أيّكم يرقى بروحه؟ ملائكة الرحمة أو ملائكة العذاب؟ من الرقيّ.

______________________________

(1) كلح وجهه كلوحا: عبس و تكشّر.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 264

وَ ظَنَ و علم المحتضر أَنَّهُ الْفِراقُ أنّ الّذي نزل به فراق الدنيا المحبوبة من أجل الأهل و الولد و المال. و

جاء في الحديث: «أنّ العبد ليعالج كرب الموت و سكراته، و مفاصله يسلّم بعضها على بعض و يقول: عليك السّلام تفارقني و أفارقك إلى يوم القيامة».

وَ الْتَفَّتِ السَّاقُ بِالسَّاقِ و التوت ساقه بساقه عند علز الموت «1»، فلا يزال يمدّ إحدى رجليه و يرسل الأخرى، و يلفّ إحداهما بالأخرى، فلا يقدر على تحريكهما.

و قال قتادة: ماتت رجلاه فلا تحملانه، و قد كان عليهما جوّالا.

و عن ابن عبّاس: التوت شدّة

فراق الدنيا بشدّة خوف الآخرة، فإنّ الساق مثل في الشدّة.

و عن سعيد بن المسيّب: هما ساقاه حين تلفّان في أكفانه.

إِلى رَبِّكَ إلى حكمه يَوْمَئِذٍ الْمَساقُ سوقه، أو موضع سوقه. و قيل:

يسوق الملك بروحه إلى حيث أمر اللّه تعالى به، إن كان من أهل الجنّة فإلى علّيّين، و إن كان من أهل النار فإلى سجّين.

فَلا صَدَّقَ ما يجب تصديقه، من التوحيد و الرسالة و البعث. أو فلا صدّق ماله، بمعنى: فلا زكّاه. وَ لا صَلَّى ما فرض عليه. و الضمير فيهما للإنسان المذكور في أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ «2». و قيل: نزلت في أبي جهل.

وَ لكِنْ كَذَّبَ باللّه و رسوله وَ تَوَلَّى عن الطاعة ثُمَّ ذَهَبَ إِلى أَهْلِهِ يَتَمَطَّى يتبختر في مشيه افتخارا بذلك. من المطّ بمعنى المدّ، فإنّ المتبختر يمدّ خطاه. فيكون أصله: يتمطّط، بمعنى: يتمدّد. أو من المطا، و هو الظهر، فإنّه يلويه.

______________________________

(1) علز الموت: القلق و الهلع اللّذان يأخذان المحتضر، أو هو كالرعدة تأخذه.

(2) القيامة: 36.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 265

أَوْلى لَكَ فَأَوْلى بمعنى: ويل لك، فإنّه دعاء عليه بأن يليه ما يكره.

و أصله: أولاك اللّه ما تكرهه. و اللام مزيدة كما في رَدِفَ لَكُمْ «1». أو أولى لك الهلاك. و قيل: أفعل، من الويل بعد القلب، كأدنى من أدون. أو فعلى من: آل يئول، بمعنى: عقباك النار.

ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى يتكرّر ذلك عليك مرّة بعد اخرى. و

قد جاءت الرواية أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أخذ بيد أبي جهل ثمّ قال: «أَوْلى لَكَ فَأَوْلى ثُمَّ أَوْلى لَكَ فَأَوْلى . فقال أبو جهل: بأيّ شي ء تهدّدني؟ لا تستطيع أنت و لا ربّك أن تفعلا بي شيئا، و إنّي لأعزّ أهل هذا

الوادي. فأنزل اللّه سبحانه كما قال له رسول اللّه.

و قيل: معناه: أولى لك ما تشاهده يا أبا جهل يوم بدر، فأولى لك في القبر، ثمّ أولى لك يوم القيامة، فأولى لك في النار. و أدخل «ثمّ» للتراخي بين الدنيا و الآخرة.

أَ يَحْسَبُ الْإِنْسانُ جنس الإنسان، أو أبو جهل أَنْ يُتْرَكَ سُدىً مهملا لا يكلّف و لا يجازى. و الهمزة للإنكار، أي: لا ينبغي أن يظنّ ذلك. و هو يتضمّن تكرير إنكاره للحشر و الدلالة عليه، من حيث إنّ الحكمة تقتضي الأمر بالمحاسن و النهي عن القبائح، و التكليف لا يتحقّق إلّا بالمجازاة، و هي قد لا تكون في الدنيا، فتكون في الآخرة.

أَ لَمْ يَكُ نُطْفَةً مِنْ مَنِيٍّ يُمْنى يصبّ في الرحم. و قرأ حفص: يمنى بالياء.

ثُمَّ كانَ عَلَقَةً فَخَلَقَ فَسَوَّى فقدّر و عدل خلقه و صورته و أعضاءه الباطنة و الظاهرة في بطن أمّه. و قيل: معناه: فسوّى بعد الولادة إنسانا كامل القوّة و الفطنة.

فَجَعَلَ مِنْهُ من المنيّ، أو من الإنسان الزَّوْجَيْنِ الصنفين الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى هذا استدلال آخر بالإبداء على الإعادة، فإنّه سبحانه أخبر أنّه لم يخلق

______________________________

(1) النمل: 72.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 266

الإنسان من المنيّ، و لم ينقله من حال إلى حال ليتركه مهملا، بل لا بدّ من غرض في ذلك، و هو التعريض للثواب بالتكليف فيه، و لا يتصوّر الثواب و العوض إلّا في دار لا تكليف فيه، و هي الآخرة. و لذلك رتّب عليه قوله: أَ لَيْسَ ذلِكَ أي: ذلك الّذي أنشأ هذا الإنشاء بِقادِرٍ عَلى أَنْ يُحْيِيَ الْمَوْتى أي: على الإعادة.

عن البراء بن عازب: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا قرأها قال: «سبحانك بلى». و

هو المرويّ عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.

و في الآية دلالة على صحّة القياس العقلي، فإنّه سبحانه اعتبر النشأة الثانية بالنشأة الأولى.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 267

(76) سورة الإنسان

اشارة

و تسمّى سورة الدهر، و سورة الأبرار. و هي مدنيّة. و قيل: إنّها مدنيّة إلّا قوله:

وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً «1» فإنّه مكّيّ. و قيل: مكّيّة كلّها. و قيل: إنّ قوله: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا «2» إلى آخر السورة مكّيّ، و الباقي مدنيّ. و الصحيح الأوّل، كما سنبيّنه إن شاء اللّه تعالى في أثناء السورة. و هي إحدى و ثلاثون آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ سورة هل أتى كان جزاؤه على اللّه تعالى جنّة و حريرا».

و

قال أبو جعفر عليه السّلام: «من قرأ سورة هل أتى في كلّ غداة خميس، زوّجه اللّه من الحور العين مائة عذراء و أربعة آلاف ثيّب، و كان مع محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

[سورة الإنسان (76): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً (1) إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ أَمْشاجٍ نَبْتَلِيهِ فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً (2) إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً (3)

______________________________

(1) الإنسان: 24.

(2) الإنسان: 23.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 268

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة القيامة بأن دلّ على صحّة البعث بخلق الإنسان من نطفة، افتتح هذه السورة بمثل ذلك، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* هَلْ أَتى عَلَى الْإِنْسانِ استفهام تقرير و تقريب، و لذلك فسّر ب «قد». و أصله: أهل، بدليل قوله: أهل رأونا بسفح القاع ذي الأكم «1».

فالمعنى: قد أتى على الإنسان، أي: أتى عليه قبل زمان قريب. حِينٌ مِنَ الدَّهْرِ طائفة محدودة من الزمان الممتدّ غير المحدود لَمْ يَكُنْ شَيْئاً مَذْكُوراً بل كان شيئا منسيّا غير مذكور بالانسانيّة- كالعنصر و التراب و الطين-

إلى أن نفخ فيه الروح.

و الجملة حال من «الإنسان» كأنّه قيل: هل أتى عليه حين من الدهر غير مذكور. أو وصف ل «حين» بحذف الراجع، تقديره: لم يكن شيئا مذكورا فيه.

و

عن حمران بن أعين قال: سألنا الصادق عليه السّلام عنه فقال: «كان شيئا مقدورا، و لم يكن مكوّنا».

و

عن سعيد الحدّاد عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «كان مذكورا في العلم، و لم يكن مذكورا في الخلق».

و فيه دلالة على أنّ المعدوم معلوم و إن لم يكن مذكورا، و على أنّ المعدوم يسمّى شيئا. و المراد بالإنسان آدم عليه السّلام. و هو أوّل من سمّي به، فإنّه أتى عليه أربعون سنة لم يكن شيئا مذكورا، لا في السماء و لا في الأرض، بل كان جسدا ملقى من

______________________________

(1) لزيد الخيل الّذي سمّاه النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم زيد الخير. و صدره: سائل فوارس يربوع بشدّتنا.

و يربوع: أبو حيّ. و السفح: أصل الجبل المنسطح. و القاع: المستوي من الأرض. و الأكم:

التلول المرتفعة. واحده: أكمة. و المعنى: راجعهم و اسألهم عن قوّتنا أهل ...

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 269

طين قبل أن ينفخ فيه الروح. و روى عطاء عن ابن عبّاس: أنّه تمّ خلقه بعد عشرين و مائة سنة.

فبيّن أوّلا خلقه، ثمّ ذكر نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالجملة المستأنفة لبيان كيفيّة خلقهم، فقال: إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ أي: جنس بني آدم مِنْ نُطْفَةٍ و قيل: المراد بالإنسان الأوّل أيضا الجنس. و المعنى: قد أتى عليه حين من الدهر قبل الولادة لا يعرف و لا يذكر بالإنسانيّة، بل كان عنصرا و ترابا و نباتا و نطفة. ثمّ فصّل و بيّن خلقه بقوله: «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ

مِنْ نُطْفَةٍ». فوضع الظاهر موضع المضمر، للعناية بذكر اسمه صريحا في بيان كيفيّة خلقه. و هذا تقرير على ألطف الوجوه. فيقول: أيّها المنكر للصانع و قدرته أليس قد أتى عليك دهور لم تكن شيئا مذكورا ثمّ ذكرت؟ و كلّ واحد يعلم من نفسه أنّه لم يكن موجودا ثمّ وجد، فإذا تفكّر في ذلك علم أنّ له صانعا صنعه و محدثا أوجده.

و قيل: المراد بالإنسان الأوّل العلماء، لأنّهم كانوا لا يذكرون، فصيّرهم اللّه سبحانه بالعلم مذكورين بين الخاصّ و العامّ في حياتهم و بعد مماتهم.

و

ورد في تفسير أهل البيت عليهم السّلام أنّ المراد بالإنسان عليّ بن أبي طالب عليه السّلام،

على أنّ الاستفهام بمعنى النفي، أي: ما مرّ زمان على الإنسان أنّه ليس مذكورا فيه.

على معنى: أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام مذكور في كلّ زمان، معروف عند كلّ قوم.

و يؤيّد ذلك ما

روي عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «يا عليّ كنت مع الأنبياء سرّا، و معي جهرا». و كيف لا يكون مذكورا في جميع الأزمنة و الأحيان، و قد كتب اسمه مع اسم اللّه عزّ و جلّ و اسم رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، على ساق العرش و على سرادقاته «1» و أستار الجنّة، قبل أن يخلق آدم عليه السّلام بأربعة عشر ألف سنة. و في رواية اخرى: بأربعة و عشرين ألف سنة.

______________________________

(1) سرادقات جمع سرادق، و هي الخيمة، أو الفسطاط الّذي يمدّ فوق صحن البيت.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 270

و

قد ورد في الأخبار عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «مكتوب على ساق العرش: لا إله إلّا اللّه، محمد رسول اللّه،

أيّدته بعليّ بن أبي طالب عليه السّلام و نصرته».

و ورد أيضا في تفسير الاماميّة: أنّ الدليل على صحّة ما ذكر أنّ المراد بالإنسان عليّ صلوات اللّه عليه، أنّ الألف و اللام في قوله: «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ» للعهد، فهو إشارة إلى الإنسان الأوّل. و لمّا ذكر أن الإنسان الثاني خلقه من نطفة، علم أنّ الإنسان الأوّل لا يكون المراد به آدم عليه السّلام، إذ ليس خلقه من النطفة.

و أيضا قد اشتهر غاية الشهرة عند المفسّرين أنّ هذه السورة نزلت في عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين، و سبب نزولها مذكور عند الخاصّ و العامّ، كما سنذكره إن شاء اللّه، فطريق المناسبة يقتضي أن تكون هذه السورة معنونة بذكر اسمه الشريف. فأراد سبحانه بالإنسان الأوّل عليّا عليه السّلام، ثمّ أخبر سبحانه عن كيفيّة خلقه بقوله: «إِنَّا خَلَقْنَا الْإِنْسانَ مِنْ نُطْفَةٍ».

أَمْشاجٍ أخلاط. جمع مشج أو مشيج. من: مشجت الشي ء إذا خلطته.

و وصف النطفة به، لأنّ المراد بها مجموع منيّ الرجل و المرأة، و كلّ واحد منهما مختلف الأجزاء في الرّقة و القوام و الخواصّ، و لذلك يصير كلّ جزء منهما مادّة عضو.

و قيل: مختلفة الألوان، فإنّ ماء الرجل أبيض، و ماء المرأة أصفر، فإذا اختلطا اخضرّا. و عن ابن عبّاس و الضحّاك و الكلبي و مجاهد: نطفة الرجل بيضاء و حمراء، و نطفة المرأة خضراء و صفراء، فهي مختلفة الألوان.

و قيل: مختلفة الأطوار، فإنّ النطفة تصير علقة ثمّ مضغة إلى تمام الخلقة.

و قيل: مفرد، كبرمة «1» أعشار و برد أكياش. و هما لفظان مفردان غير جمعين،

______________________________

(1) البرمة: القدر من الحجر. و الأعشار جمع العشر: القطعة من كلّ شي ء إذا جزّئ إلى عشر قطع. و لم يذكر أكياش

في اللغة. و إنّما ذكره الزمخشري في الكشّاف 4: 666، و لعلّ المفسّر أخذه منه.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 271

و لذلك وقعتا صفتين للمفردين.

و قوله: نَبْتَلِيهِ في موضع الحال، أي: مبتلين له، بمعنى: مريدين اختباره، كقولك: مررت برجل معه صقر صائدا به غدا، تريد: قاصدا به الصيد غدا.

أو ناقلين له من حال إلى حال، فاستعير له الابتلاء. و عن ابن عبّاس: نصرّفه في بطن أمّه نطفة ثمّ علقة.

فَجَعَلْناهُ سَمِيعاً بَصِيراً ليتمكّن من مشاهدة الدلائل و استماع الآيات.

فهو كالمسبّب من الابتلاء، و لذلك عطف بالفاء على قوله: «نبتليه»، و رتّب عليه قوله:

إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ أي: بنصب الدلائل و إنزال الآيات إِمَّا شاكِراً وَ إِمَّا كَفُوراً حالان من الهاء. و «إمّا» للتفصيل أو التقسيم، أي: مكّنّاه و أقدرناه في حالتيه جميعا. أو دعوناه إلى الإسلام بأدلّة السمع و العقل، و قد كان معلوما منه أنّه يؤمن أو يكفر، لإلزام الحجّة. أو مقسوما إليهما، بعضهم شاكر بالاهتداء و الأخذ فيه، و بعضهم كفور بالإعراض عنه. أو من السبيل. و وصفه بالشكر و الكفر مجاز، أي: و عرّفناه السبيل، إمّا سبيلا شاكرا، و إمّا كفورا، كقوله تعالى: وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ «1».

و عن الزجّاج: معناه: ليختار إمّا السعادة و إمّا الشقاوة. و المراد: إمّا أن يختار بحسن اختياره الشكر للّه و الاعتراف بنعمه، فيصيب الحقّ، و إمّا أن يكفر نعم اللّه و يجحد إحسانه، فيكون ضالّا عن الصواب، فأيّهما اختار جوزي عليه بحسبه.

و هذا كقوله: فَمَنْ شاءَ فَلْيُؤْمِنْ وَ مَنْ شاءَ فَلْيَكْفُرْ «2».

و في الآية دلالة على أنّ اللّه قد هدى جميع خلقه، لأنّ اللفظ عامّ، و إن كان

______________________________

(1) البلد: 10.

(2) الكهف: 29.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 272

سبب نزوله خاصّا. و

لم يقل: كافرا ليطابق قسيمه، محافظة على الفواصل، و إشعارا بأنّ الإنسان لا يخلو عن كفران غالبا، و إنّما المؤاخذ به التوغّل فيه.

و اعلم أنّ في وصف كيفيّة خلق الإنسان على التفسير الأخير بأمور شاهدة له و لغيره من سائر أفراد الإنسان، تنبيها على أنّ جميع أفراد بني آدم في أصل خلقتهم متساوون، لا مزيّة و لا فضل لهم فيه، و إنّما فضّل بعضهم بالدرجات العليّة و المراتب الرضيّة على بعض بوسيلة امتثال أوامر اللّه و انقياد أحكام رسوله لا غير.

[سورة الإنسان (76): الآيات 4 الى 22]

إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ وَ أَغْلالاً وَ سَعِيراً (4) إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ كانَ مِزاجُها كافُوراً (5) عَيْناً يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً (6) يُوفُونَ بِالنَّذْرِ وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ مُسْتَطِيراً (7) وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً (8)

إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً (9) إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا يَوْماً عَبُوساً قَمْطَرِيراً (10) فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ وَ لَقَّاهُمْ نَضْرَةً وَ سُرُوراً (11) وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا جَنَّةً وَ حَرِيراً (12) مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً (13)

وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلاً (14) وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَ أَكْوابٍ كانَتْ قَوارِيرَا (15) قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ قَدَّرُوها تَقْدِيراً (16) وَ يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلاً (17) عَيْناً فِيها تُسَمَّى سَلْسَبِيلاً (18)

وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً (19) وَ إِذا رَأَيْتَ ثَمَّ رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً (20) عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَ إِسْتَبْرَقٌ وَ حُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً (21) إِنَّ هذا كانَ

لَكُمْ جَزاءً وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً (22)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 273

و لمّا ذكر سبحانه السبيلين أتبعهما الوعد و الوعيد، فقال:

إِنَّا أَعْتَدْنا لِلْكافِرِينَ سَلاسِلَ بها يقادون وَ أَغْلالًا بها يقيّدون وَ سَعِيراً بها يحرقون. و تقديم وعيدهم و قد تأخّر ذكرهم، لأنّ الإنذار أهمّ و أنفع، و تصدير الكلام و ختمه بذكر المؤمنين أحسن. و قرأ نافع و الكسائي و أبو بكر: سلاسلا، ليكون مناسبا ل «أغلالا».

إِنَّ الْأَبْرارَ جمع برّ، كربّ و أرباب. أو بارّ، كشاهد و أشهاد. و هو المطيع للّه، المحسن في أفعاله. و قال الحسن: هم الّذين لا يؤذون الذرّ «1»، و لا يرضون الشرّ.

و قيل: هم الّذين يقضون الحقوق الواجبة و النافلة. يَشْرَبُونَ مِنْ كَأْسٍ من خمر.

و هي في الأصل القدح تكون فيه. و «من» لابتداء الغاية. و المعنى: الكأس مبدأ شربهم و أوّل غايته. كانَ مِزاجُها ما يمزج بها كافُوراً ماء كافور. و هو اسم

______________________________

(1) الذرّ: النمل.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 274

عين في الجنّة، ماؤها في بياض كافور الجنّة و رائحته و برده، يخلق فيها رائحة الكافور و برده و بياضه، فكأنّها مزجت بالكافور. و ليس المراد كافور الدنيا.

عَيْناً بدل من «كافورا» إن جعل اسم ماء. و على القول الأخير بدل من محلّ «من كأس» على تقدير مضاف، كأنّه قيل: يشربون خمرا خمر عين. أو نصب على الاختصاص، أو بفعل يفسّره قوله: يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ الباء للإلصاق، و متعلّقها محذوف، تقديره: ملتذّا أو ممزوجا بها عباد اللّه. و قيل: الباء مزيدة، أو بمعنى «من» لأنّ الشرب مبتدأ منها. و المراد ب «عباد اللّه» الأولياء. و إضافتهم إلى اللّه تشريفا و تبجيلا لهم.

يُفَجِّرُونَها تَفْجِيراً يجرونها حيث شاؤا إجراء سهلا. و عن

مجاهد: أنهار الجنّة تجري بغير أخدود، فإذا أراد المؤمن أن يجري نهرا خطّ خطّا فينبع الماء من ذلك الموضع، و يجري بغير تعب. و قد أجمع أهل البيت عليهم السّلام و موافقوهم و كثير من مخالفيهم أنّ المراد بالأبرار المنعوتين بهذه النعوت عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين عليهم السّلام. فالآية و ما بعدها متعيّنة فيهم.

و قال صاحب مجمع البيان «1»: «و قد روى الخاصّ و العامّ أن الآيات من هذه السورة- و هي قوله: «إِنَّ الْأَبْرارَ يَشْرَبُونَ» إلى قوله: «وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً»- نزلت في عليّ و فاطمة و الحسن و الحسين و جارية لهم تسمّى فضّة. و هو المرويّ عن ابن عبّاس و مجاهد و أبي صالح» «2».

و القصّة طويلة. جملتها

أنّهم قالوا: مرض الحسن و الحسين عليهما السّلام فعادهما جدّهما صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و وجوه العرب، و قالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولديك نذرا. فنذر صوم ثلاثة أيّام للّه إن شفاهما اللّه سبحانه. و نذرت فاطمة عليها السّلام، و كذلك فضّة.

______________________________

(1) مجمع البيان 10: 404- 406.

(2) مجمع البيان 10: 404. زبدة التفاسير، ج 7، ص: 275

فبرءا، و ليس عندهم شي ء، فاستقرض عليّ عليه السّلام ثلاثة أصوع من شعير من يهوديّ- و روي: أنّه أخذها ليغزل له صوفا- و جاء به إلى فاطمة عليها السّلام، فطحنت صاعا منها، فاختبزته خمسة أقراص على عددهم. و صلّى عليّ عليه السّلام المغرب، و قرّبته إليهم، فأتاهم مسكين يدعو لهم و يسألهم، فأعطوه، و لم يذوقوا إلّا الماء. فلمّا كان اليوم الثاني أخذت صاعا و طحنته و اختبزته و قدّمته إلى عليّ عليه السّلام، فإذا يتيم بالباب يستطعم فأعطوه، و لم يذوقوا

إلّا الماء. فلمّا كان اليوم الثالث عمدت إلى الباقي فطحنته و اختبزته و قدّمته إلى عليّ عليه السّلام، فإذا أسير بالباب يستطعم، فأعطوه. فلمّا كان اليوم الرابع و قد قضوا نذورهم، أتى عليّ عليه السّلام، و معه الحسن و الحسين عليهما السّلام إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بهما ضعف، فبكى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و نزل جبرئيل بسورة «هل أتى».

و

في رواية عطاء عن ابن عبّاس: أنّ عليّ بن أبي طالب عليه السّلام آجر نفسه ليستقي نخلا بشي ء من شعير ليلة حتّى أصبح، فلمّا أصبح و قبض الشعير طحن ثلثه، فجعلوا منه شيئا ليأكلوه يقال له: الحريرة «1»، فلمّا تمّ إنضاجه أتى مسكين فأخرجوا إليه الطعام. ثمّ عمل الثلث الثاني، فلمّا تمّ إنضاجه أتى يتيم فسأل فأطعموه. ثمّ عمل الثلث الثالث، فلمّا تمّ إنضاجه أتى أسير من المشركين فسأل فأطعموه، و طووا يومهم ذلك. ذكره الواحدي في تفسيره «2».

و

ذكر عليّ بن إبراهيم أنّ أباه حدّثه عن عبد اللّه بن ميمون، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «كان عند فاطمة شعير فجعلوه عصيدة، فلمّا أنضجوها و وضعوها بين أيديهم جاء مسكين، فقال المسكين: رحمكم اللّه. فقام عليّ عليه السّلام فأعطاه ثلثها.

فلم يلبث أن جاء يتيم، فقال اليتيم: رحمكم اللّه. فقام عليّ عليه السّلام فأعطاه الثلث. ثمّ جاء أسير، فقال الأسير: رحمكم اللّه. فأعطاه عليّ الثلث الباقي، و ما ذاقوها. فأنزل

______________________________

(1) الحريرة: الحساء المطبوخ من الدقيق و الدسم و الماء.

(2) الوسيط 4: 400- 401. زبدة التفاسير، ج 7، ص: 276

اللّه سبحانه الآيات فيهم، و هي جارية في كلّ مؤمن فعل ذلك للّه عزّ و جلّ» «1».

و في

هذا دلالة على أنّ السورة مدنيّة.

و قال أبو حمزة الثمالي في تفسيره: حدّثني الحسن بن الحسن أبو عبد اللّه بن الحسن أنّها مدنيّة، نزلت في عليّ عليه السّلام و فاطمة عليها السّلام السورة كلّها.

و حدّثنا السيّد أبو الحمد مهدي بن نزار الحسيني القائني، قال: أنبأنا الحاكم أبو القاسم عبيد اللّه بن عبد اللّه الحسكاني، قال: حدّثنا أبو نصر المفسّر، قال:

حدّثني عمّي أبو حامد إملاء، قال: حدّثنا الفزاري أبو يوسف يعقوب بن محمد المقري، قال: حدّثنا محمد بن يزيد السلمي، قال: حدّثنا يزيد بن موسى، قال:

أنبأنا عمرو بن هارون، عن عثمان بن عطاء، عن أبيه، عن ابن عبّاس قال:

أوّل ما أنزل بمكّة: اقرأ باسم ربّك، ثمّ ن و القلم، ثمّ المزّمّل، ثمّ المدّثّر، ثمّ تبّت، ثمّ إذا الشمس كوّرت، ثمّ سبّح اسم ربّك الأعلى، ثمّ و الليل إذا يغشى، ثمّ و الفجر، ثمّ و الضحى، ثمّ ألم نشرح، ثم و العصر، ثمّ و العاديات، ثمّ إنّا أعطيناك الكوثر، ثمّ ألهكم التكاثر، ثمّ أ رأيت، ثمّ الكافرون، ثمّ ألم تر كيف، ثمّ قل أعوذ بربّ الفلق، ثمّ قل أعوذ بربّ الناس، ثمّ قل هو اللّه أحد، ثمّ و النّجم، ثمّ عبس، ثمّ إنّا أنزلناه، ثمّ و الشمس، ثمّ البروج، ثمّ و التين، ثمّ لإيلاف، ثمّ القارعة، ثمّ القيامة، ثمّ الهمزة، ثمّ و المرسلات، ثمّ ق، ثمّ البلد، ثمّ الطّارق، ثمّ اقتربت السّاعة، ثمّ ص، ثمّ الأعراف، ثمّ قل أوحي، ثمّ يس، ثمّ الفرقان، ثمّ الملائكة، ثمّ كهيعص، ثمّ طه، ثمّ الواقعة، ثمّ الشعراء، ثمّ النمل، ثمّ القصص، ثمّ بني إسرائيل، ثمّ يونس، ثمّ هود، ثمّ يوسف، ثمّ الحجر، ثمّ الأنعام، ثمّ الصّافّات، ثمّ لقمان، ثمّ القمر، ثمّ

سبأ، ثمّ الزمر، ثمّ حم المؤمن، ثمّ حم السجدة، ثمّ حمعسق، ثمّ الزخرف، ثمّ الدخان، ثمّ الجاثية، ثمّ الأحقاف، ثمّ الذاريات، ثمّ الغاشية، ثمّ الكهف، ثمّ النحل، ثمّ نوح، ثمّ

______________________________

(1) تفسير القمّي 2: 398.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 277

إبراهيم، ثمّ الأنبياء، ثمّ المؤمنون، ثمّ ألم تنزيل، ثمّ الطور، ثمّ الملك، ثمّ الحاقّة، ثمّ ذو المعارج، ثمّ عمّ يتساءلون، ثمّ النازعات، ثمّ انفطرت، ثمّ انشقّت، ثمّ الروم، ثمّ العنكبوت، ثمّ المطفّفين. فهذه ما أنزلت بمكّة خمس «1» و ثمانون سورة.

ثمّ أنزلت بالمدينة: البقرة، ثمّ الأنفال، ثمّ آل عمران، ثمّ الأحزاب، ثمّ الممتحنة، ثمّ النساء، ثمّ إذا زلزلت، ثمّ الحديد، ثمّ سورة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثمّ الرعد، ثمّ الرحمن، ثمّ هل أتى، ثمّ الطلاق، ثمّ لم يكن، ثمّ الحشر، ثمّ إذا جاء نصر اللّه، ثمّ النور، ثمّ الحجّ، ثمّ المنافقون، ثمّ المجادلة، ثمّ الحجرات، ثمّ التحريم، ثمّ الجمعة، ثمّ التغابن، ثمّ سورة الصفّ، ثمّ سورة الفتح، ثمّ سورة المائدة، ثمّ التوبة. فهذه ثمان و عشرون سورة.

و قد رواه الأستاذ أحمد الزاهد بإسناده عن عثمان بن عطاء، عن أبيه، عن ابن عبّاس في كتاب الإيضاح. و زاد فيه: و كانت إذا نزلت فاتحة سورة بمكّة كتبت بمكّة، ثمّ يزيد اللّه ما يشاء بالمدينة.

و بإسناده عن عكرمة و الحسن بن أبي الحسن البصري: أنّ أوّل ما أنزل اللّه من القرآن بمكّة على الترتيب: اقرأ باسم ربّك، و ن، و المزّمّل. إلى قوله: و ما أنزل بالمدينة: ويل للمطفّفين، و البقرة، و الأنفال، و آل عمران، و الأحزاب، و المائدة، و الممتحنة، و النساء، و إذا زلزلت، و الحديد، و سورة محمد صلّى اللّه عليه

و آله و سلّم، و الرعد، و الرحمن، و هل أتى على الإنسان إلى آخره.

و

بإسناده عن سعيد بن المسيّب عن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام أنّه قال: «سألت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن ثواب القرآن، فأخبرني بثواب سورة سورة على نحو ما أنزلت من

______________________________

(1) كذا في شواهد التنزيل 2: 409- 410 ذيل ح 1062. و لكنّ السور المكّية المذكورة في الرواية ستّ و ثمانون. و هو الصحيح، إذ أنّها مع الثمان و العشرين المدنيّة تكون مائة و أربع عشرة سورة عدد سور القرآن الكريم. زبدة التفاسير، ج 7، ص: 278

السماء. فأوّل ما نزل عليه بمكّة: فاتحة الكتاب، ثمّ اقرأ باسم ربّك، ثمّ ن. إلى أن قال: و أوّل ما أنزل بالمدينة: سورة البقرة، ثمّ الأنفال، ثمّ آل عمران، ثمّ الأحزاب، ثمّ الممتحنة، ثمّ النساء، ثمّ إذا زلزلت، ثمّ الحديد، ثمّ سورة محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثمّ الرعد، ثمّ سورة الرحمن، ثمّ هل أتى إلى قوله: فهذا ما أنزل بالمدينة.

ثمّ قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: جميع سور القرآن مائة و أربع عشرة سورة، و جميع آيات القرآن ستّة آلاف آية و مائتا آية و ستّ و ثلاثون آية، و جميع حروف القرآن ثلاثمائة ألف حرف و واحد و عشرون ألف حرف و مائتان و خمسون حرفا، لا يرغب في تعلّم القرآن إلّا السعداء، و لا يتعهّد قراءته إلّا أولياء الرحمن».

أقول: قد اتّسع نطاق الكلام في هذا الباب حتّى كاد يخرج عن أسلوب الكتاب، و ربّما نسبنا به إلى الإطناب، و لكنّ الغرض فيه أنّ بعض أهل العصبيّة قد طعن في هذه القصّة، بأن

قال: هذه السورة مكّيّة، فكيف يتعلّق بها ما كان بالمدينة؟

و استدلّ بذلك على أنّها مخترعة، جرأة على اللّه، و عداوة لأهل بيت رسوله.

فأحببت إيضاح الحقّ في ذلك، و إيراد البرهان في معناه، و كشف القناع عن عناد هذا المعاند في دعواه. على أنّه كما ترى يحتوي على السرّ المخزون و الدرّ المكنون من هذا العلم الّذي يستضاء بنوره و يتلألأ بزهوره، و هو معرفة ترتيب السور في التنزيل، و حصر عددها على الجملة و التفصيل. اللّهمّ أمدّنا بتأييدك، و أيّدنا بتوفيقك، فأنت الرجاء و الأمل، و على فضلك المعوّل و المتّكل». انتهى كلام صاحب المجمع.

و

روى أيضا صاحب الكشّاف عن ابن عبّاس رضي اللّه عنه: «أنّ الحسن و الحسين مرضا، فعادهما رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في ناس معه، فقالوا: يا أبا الحسن لو نذرت على ولدك. فنذر عليّ و فاطمة و فضّة- جارية لهما- إن برءا ممّا بهما أن يصوموا ثلاثة أيّام. فشفيا و ما معهم شي ء، فاستقرض عليّ من شمعون الخيبري اليهودي ثلاث

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 279

أصوع من شعير. فطحنت فاطمة صاعا، و اختبزت خمسة أقراص على عددهم، فوضعوها بين أيديهم ليفطروا، فوقف عليهم سائل، فقال: السّلام عليكم أهل بيت محمّد، مسكين من مساكين المسلمين، أطعموني أطعمكم اللّه من موائد الجنّة.

فآثروه و باتوا لم يذوقوا إلّا الماء، و أصبحوا صياما. فلمّا أمسوا و وضعوا الطعام بين أيديهم وقف عليهم يتيم، فآثروه. و وقف عليهم أسير في الثالثة، ففعلوا مثل ذلك.

فلمّا أصبحوا أخذ عليّ عليه السّلام بيد الحسن و الحسين و أقبلوا إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فلمّا أبصرهم و هم يرتعشون كالفراخ من شدّة

الجوع قال: ما أشدّ ما يسوءني ما أرى بكم. و قام فانطلق معهم فرأى فاطمة في محرابها قد التصق ظهرها ببطنها و غارت عيناها، فساءه ذلك. فنزل جبرئيل عليه السّلام و قال: خذها يا محمّد هنّأك اللّه في أهل بيتك، فأقرأه السورة» «1».

و مثل ذلك روى البيضاوي في تفسيره «2». و نعم ما قيل:

إلى م ألام و حتّى متى أعاتب في حبّ هذا الفتى

فهل زوّجت فاطم غيره و في غيره هل أتى هل أتى؟

و قوله: يُوفُونَ بِالنَّذْرِ استئناف ببيان ما رزقوه لأجله، كأنّه سئل عنه فأجيب بذلك. و هو أبلغ في وصفهم بالتوفّر على أداء الواجبات، لأنّ من وفى بما أوجبه على نفسه للّه كان أوفى بما أوجبه اللّه عليه.

وَ يَخافُونَ يَوْماً كانَ شَرُّهُ شدائده مُسْتَطِيراً فاشيا منتشرا غاية الانتشار. من: استطار الحريق و الفجر. و هو أبلغ من: طار، كما أنّ استنفر أبلغ من: نفر. و فيه إشعار بحسن عقيدتهم و اجتنابهم عن المعاصي.

وَ يُطْعِمُونَ الطَّعامَ عَلى حُبِّهِ حبّ الطعام، أي: مع اشتهائه و الحاجة إليه.

______________________________

(1) الكشّاف 4: 670.

(2) أنوار التنزيل 5: 165.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 280

و نحوه قوله تعالى: وَ آتَى الْمالَ عَلى حُبِّهِ «1». لَنْ تَنالُوا الْبِرَّ حَتَّى تُنْفِقُوا مِمَّا تُحِبُّونَ «2». أو الإطعام للّه. و عن الفضيل بن عياض: على حبّ اللّه. مِسْكِيناً وَ يَتِيماً وَ أَسِيراً يعني: أسارى الكفّار.

عن الحسن: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يؤتى بالأسير فيدفعه إلى بعض المسلمين، فيقول: أحسن إليه، فيكون عنده اليومين و الثلاثة، فيؤثره على نفسه.

و عند عامّة العلماء: يجوز الإحسان إلى الكفّار في دار الإسلام، و لا يصرف إليهم الواجبات كالزكوات.

و عن أبي سعيد الخدري و عطاء و

سعيد بن جبير: هو الأسير المؤمن. و يدخل فيه المملوك و المسجون. و

في الحديث: «غريمك أسيرك، فأحسن إلى أسيرك».

و

عن أبي سعيد الخدري أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «ما من مسلم أطعم مسلما على جوع إلّا أطعمه اللّه من ثمار الجنّة، و ما من مسلم كسا أخاه على عري إلّا كساه اللّه من خضر الجنّة، و من سقى مسلما على ظمأ سقاه اللّه من الرحيق».

إِنَّما نُطْعِمُكُمْ لِوَجْهِ اللَّهِ على إرادة القول بلسان الحال، بيانا و كشفا عن اعتقادهم و صحّة نيّتهم و إن لم يقولوا شيئا. أو المقال، إزاحة لتوهّم المنّ، و منعا لهم عن المجازاة بمثله أو بالشكر، لأنّ ذلك منقّص للأجر. و الأوّل أقرب إلى الإخلاص، و أبعد من الرياء. و قد روي عن مجاهد: أما إنّهم ما تكلّموا به، و لكن علمه اللّه منهم فأثنى عليهم. لا نُرِيدُ مِنْكُمْ جَزاءً وَ لا شُكُوراً أي: شكرا، فإنّ الكفور و الشكور مصدران، كالكفر و الشكر.

إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا فلذلك نحسن إليكم، أو لا نطلب المكافأة منكم يَوْماً عذاب يوم عَبُوساً وصف اليوم بالعبوس مجاز على طريقين: أن

______________________________

(1) البقرة: 177.

(2) آل عمران: 92.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 281

يوصف بصفة أهله من الأشقياء، كقولهم: نهارك صائم، فكأنّه قيل: يعبس فيه وجوه الأشقياء. و روي: أنّ الكافر يعبس يومئذ حتّى يسيل من بين عينيه عرق مثل القطران. و أن يشبّه في شدّته و ضرره بالأسد العبوس، أو بالشجاع الباسل.

قَمْطَرِيراً شديد العبوس، كالّذي يجمع ما بين عينيه. من: اقمطرّت الناقة إذا رفعت ذنبها، و جمعت قطريها «1». مشتقّ من القطر، و الميم مزيدة.

فَوَقاهُمُ اللَّهُ شَرَّ ذلِكَ الْيَوْمِ بسبب خوفهم و تحفّظهم عنه وَ لَقَّاهُمْ

نَضْرَةً وَ سُرُوراً أي: أعطاهم بدل عبوس الفجّار و حزنهم نضرة في الوجوه و سرورا في القلوب. و هذا يدلّ على أنّ اليوم موصوف بعبوس أهله.

وَ جَزاهُمْ بِما صَبَرُوا بصبرهم على أداء الواجبات، و اجتناب المحرّمات، و إيثار الأموال، و ما يؤدّي إليه من الجوع و العري جَنَّةً بستانا يأكلون منه هنيئا وَ حَرِيراً يلبسونه بهيّا.

مُتَّكِئِينَ فِيها عَلَى الْأَرائِكِ حال من ضمير «جزاهم»، أو صفة ل «جنّة».

و الأرائك جمع الأريكة، و هي السرير. لا يَرَوْنَ فِيها شَمْساً وَ لا زَمْهَرِيراً يحتملهما، و أن يكون حالا من المستكن في «متّكئين». و المعنى: أنّه يمرّ عليهم فيها هواء معتدل، لا حرّ شمس يحمي، و لا شدّة برد تؤذي. و

في الحديث: «هواء الجنّة سجسج «2»، لا حرّ و لا قرّ».

و عن ثعلب: الزمهرير: القمر في لغة طي ء.

و أنشد:

و ليلة ظلامها قد اعتكرقطعتها و الزمهرير ما زهر «3»

______________________________

(1) القطر: الناحية و الجانب.

(2) يوم سجسج: إذا لم يكن فيه حرّ مؤذ و لا برد شديد.

(3) أي: و ربّ ليلة قد تراكم ظلامها و اختلط، قطعتها بالسير، و الحال أنّ الزمهرير ما ظهر و ما أضاء.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 282

و المعنى: أنّ الجنّة ضياء، فلا يحتاج فيها إلى شمس و لا قمر.

وَ دانِيَةً عَلَيْهِمْ ظِلالُها حال أيضا من ضمير «جزاهم». و دخلت الواو للدلالة على أنّ الأمرين مجتمعان لهم، كأنّه قيل: و جزاهم جنّة جامعين فيها بين البعد عن الحرّ و القرّ، و دنوّ الضلال عليهم. أو صفة اخرى ل «جنّة» معطوفة على ما قبلها. أو عطف على «جنّة» أي: و جنّة اخرى دانية، على أنّهم وعدوا جنّتين، كقوله: وَ لِمَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ جَنَّتانِ «1» لأنّهم وصفوا بالخوف في

قولهم: إِنَّا نَخافُ مِنْ رَبِّنا «2». و المعنى: أفياء أشجار الجنّة قريبة منهم.

وَ ذُلِّلَتْ قُطُوفُها تَذْلِيلًا معطوفة على «دانية». و المعنى: و دانية عليهم ظلالها، و مذلّلة قطوفها. أو حال من «دانية» أي: تدنو ظلالها عليهم في حال تذليل قطوفها لهم، بأن تجعل ذللا سهل التناول لا يمتنع على قطّافها كيف شاؤا. أو تجعل خاضعة متقاصرة، من قولهم: حائط ذليل إذا كان قصيرا.

وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ بِآنِيَةٍ مِنْ فِضَّةٍ وَ أَكْوابٍ و أباريق بلا عروة. جمع كوب.

كانَتْ قَوارِيرَا* قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ هو من «يكون» في قوله: كُنْ فَيَكُونُ «3» أي: تكوّنت قوارير بتكوين اللّه، تفخيما لتلك الخلقة العجيبة الشأن، الجامعة بين صفتي الجوهرين المتباينين، و هما: صفاء الزجاجة و شفيفها، و بياض الفضّة و لينها.

و المعنى: أنّ أصلها مخلوق من فضّة، و هي مع بياض الفضّة و حسنها في صفاء القوارير و شفيفها، فاجتمع لها بياض الفضّة و صفاء القارورة، فيرى من خارجها ما في داخلها.

و قيل: معنى «قَوارِيرَا مِنْ فِضَّةٍ» مع أنّها من زجاج: أنّ الشي ء إذا قاربه شي ء

______________________________

(1) الرحمن: 46.

(2) الإنسان: 10.

(3) البقرة: 117.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 283

و اشتدّت ملابسته له قيل: إنّه من كذا، و إن لم يكن منه في الحقيقة.

و «قوارير» الثانية بدل من الأولى. و قد نوّن «قوارير» من نوّن «سلاسلا».

و ابن كثير الأولى، لأنّها رأس الآية.

قَدَّرُوها تَقْدِيراً صفة ل «قوارير» أي: قدّروها في أنفسهم، فجاءت مقاديرها و أشكالها كما تمنّوه. أو قدّروها بأعمالهم الصالحة، فجاءت على حسبها.

أو قدّر الطائفون بها- المدلول عليهم بقوله: «وَ يُطافُ عَلَيْهِمْ»- شرابها على قدر اشتهائهم. و هو ألذّ للشارب، لكونه على قدر حاجته، لا يفضل عنها و لا ينقص.

و عن مجاهد: لا تفيض و لا

تغيض.

وَ يُسْقَوْنَ فِيها كَأْساً كانَ مِزاجُها زَنْجَبِيلًا ما يشبه الزنجبيل في الطعم.

و كانت العرب يستلذّون و يستطيبون الشراب الممزوج به.

عَيْناً فِيها نصبه إمّا على البدل من «زنجبيلا»، أو «كأسا» بتقدير المضاف، كأنّه قيل: و يسقون فيها كأسا كأس عين في الجنّة. أو على الاختصاص.

تُسَمَّى سَلْسَبِيلًا لسلاسة انحدارها في الحلق، و سهولة مساغها. يقال: شراب سلسل و سلسال و سلسبيل. و لذلك حكم بزيادة الباء حتّى صارت الكلمة خماسيّة.

و دلّت على غاية السلاسة، كما قال الزجّاج: السلسبيل في اللغة صفة لما كان في غاية السلاسة. و المعنى: أنّها في طعم الزنجبيل، و ليس فيه لذعه «1»، و لكن نقيض اللذع، و هو السلاسة.

و قيل: أصله: سل سبيلا، فسمّيت به، كتأبّط شرّا، لأنّه لا يشرب منها إلّا من سأل اللّه إليها سبيلا بالعمل الصالح.

وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ وِلْدانٌ مُخَلَّدُونَ دائمون إِذا رَأَيْتَهُمْ حَسِبْتَهُمْ لُؤْلُؤاً مَنْثُوراً من صفاء ألوانهم، و انبثاثهم في مجالسهم للخدمة، و انعكاس شعاع بعضهم

______________________________

(1) أي: حدّته.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 284

إلى بعض. و قيل: شبّهوا باللؤلؤ الرطب إذا نثر من صدفه، لأنّه أحسن و أكثر ماء.

وَ إِذا رَأَيْتَ ليس له مفعول ملفوظ و لا مقدّر، لأنّه عامّ. و المعنى: و إذا أوجدت الرؤية، و إذا رميت ببصرك أينما وقع. ثَمَ أي: في الجنّة رَأَيْتَ نَعِيماً وَ مُلْكاً كَبِيراً واسعا. و

في الحديث: «أدنى أهل الجنّة منزلة ينظر في ملكه مسيرة ألف عام، يرى أقصاه كما يرى أدناه».

و

عن الصادق عليه السّلام: «معناه: رأيت نعيما لا يزول و لا يفنى».

و قيل: الملك الكبير: استئذان الملائكة عليهم و تحيّتهم بالسلام. و قيل: هو أنّهم لا يريدون شيئا إلّا قدروا عليه. هذا، و للعارف أكبر من ذلك، و هو أن

تنتقش نفسه بجلايا الملك و خفايا الملكوت، فيستضي ء بأنوار قدس الجبروت.

عالِيَهُمْ ثِيابُ سُندُسٍ خُضْرٌ وَ إِسْتَبْرَقٌ أي: يعلوهم ثياب الحرير الخضر مارقّ منها و ما غلظ. و إستبرق معرّب، و أصله: استبره. و نصب «عاليهم» على الحال من «هم» في «عليهم» أو في «حسبتهم» أي: يطوف عليهم ولدان عاليا للمطوف عليهم ثياب، أو حسبتهم لؤلؤا عاليا لهم ثياب. أو من «ملكا كبيرا» على تقدير مضاف، أي: و أهل ملك كبير، أي: رأيت أهل نعيم و ملك عاليهم ثياب.

و قرأ حمزة و نافع: عاليهم بالرفع على أنّه خبر و «ثياب» مبتدأ، أي: ما يعلوهم من لباسهم ثياب سندس. و قرأ ابن عامر و أبو عمرو برفع «خضر» و جرّ «إستبرق». و قرأ ابن كثير و حفص بالعكس. و قرأ حمزة و الكسائي: خضر و إستبرق بالجرّ.

وَ حُلُّوا أَساوِرَ مِنْ فِضَّةٍ عطف على «وَ يَطُوفُ عَلَيْهِمْ». و لا يخالفه قوله:

أَساوِرَ مِنْ ذَهَبٍ «1» لإمكان أنّهم يسوّرون بالجنسين، إمّا على المعاقبة، و إمّا على الجمع، كما تزاوج نساء الدنيا بين أنواع الحليّ و تجمع بينها. و ما أحسن بالمعصم أن

______________________________

(1) الكهف: 31.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 285

يكون فيه سواران: سوار من ذهب، و سوار من فضّة. و يجوز أن يكون بالتبعيض، فإنّ حليّ أهل الجنّة تختلف باختلاف أعمالهم، فلعلّه تعالى يفيض عليهم جزاء لما عملوه بأيديهم حليّا و أنوارا تتفاوت تفاوت الذهب و الفضّة. و يمكن أن تكون الجملة حالا من الضمير في «عاليهم» بإضمار «قد». و على هذا يجوز أن يكون هذا للخدم، و ذلك للمخدومين.

وَ سَقاهُمْ رَبُّهُمْ شَراباً طَهُوراً نوعا آخر من الشراب يفوق على النوعين المتقدّمين، و لذلك أسند سقيه إلى اللّه عزّ و جلّ.

و وصفه بالطهور مبالغة، ليدلّ على أنّه ليس برجس كخمر الدنيا، لأنّ كونها رجسا بالشرع لا بالعقل، و ليست الدار دار تكليف. أو لأنّه لم يعصر فتمسّه الأيدي الوضرة «1»، و تدوسه الأقدام الدنسة، و لم يجعل في الدنان و الأباريق الّتي لم يعن بتنظيفها. أو لأنّه لا يئول إلى النجاسة، لأنّه يرشّح عرقا من أبدانهم له ريح كريح المسك.

و قيل: طهوريّته من حيث إنّه يطهّر شاربه عن الرذائل الخسيسة، و الميل إلى اللذّات الحسيّة، و الركون إلى ما سواه، فيتجرّد شاربه بالتوجّه التامّ إليه، ملتذّا به فارغا عن غيره. و هذا منتهى درجات الصدّيقين، و لأجل أنّ هذا أعظم نعم الجنّة ختم به ثواب الأبرار.

إِنَّ هذا كانَ لَكُمْ جَزاءً على إضمار القول، أي: يقال لأهل الجنّة: إنّ هذا.

و هذا إشارة إلى ما عدّ من ثوابهم. وَ كانَ سَعْيُكُمْ مَشْكُوراً أي: مجازى عليه غير مضيّع، فإنّ الشكر هاهنا مجاز عن الإثابة التامّة.

[سورة الإنسان (76): الآيات 23 الى 31]

إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلاً (23) فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً (24) وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً وَ أَصِيلاً (25) وَ مِنَ اللَّيْلِ فَاسْجُدْ لَهُ وَ سَبِّحْهُ لَيْلاً طَوِيلاً (26) إِنَّ هؤُلاءِ يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ وَ يَذَرُونَ وَراءَهُمْ يَوْماً ثَقِيلاً (27)

نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَ شَدَدْنا أَسْرَهُمْ وَ إِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلاً (28) إِنَّ هذِهِ تَذْكِرَةٌ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ سَبِيلاً (29) وَ ما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً حَكِيماً (30) يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ فِي رَحْمَتِهِ وَ الظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً (31)

______________________________

(1) أي: الوسخة. من: وضر وضرا، كان وسخا، فهو: وضر.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 286

ثمّ أمر سبحانه نبيّه بالصبر عن التأذّي من أقوال

الكفّار و أفعال الأشرار، فقال: إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ تَنْزِيلًا مفرّقا منجّما لحكمة اقتضته. و تكرير الضمير مع «أنّ» فيه تأكيد على تأكيد لمعنى اختصاص اللّه بالتنزيل، ليتقرّر في نفس رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه إذا كان هو المنزّل لم يكن تنزيله على أيّ وجه إلّا حكمة و صوابا. كأنّه قيل: ما نزّل عليك القرآن تنزيلا مفرّقا منجّما إلّا أنا لا غيري، و قد عرفتني حكيما فاعلا لكلّ ما أفعله بدواعي الحكمة. و لقد دعتني حكمة بالغة إلى أن أنزل عليك الأمر بالمكافّة و المصابرة، و سأنزل عليك الأمر بالانتقام و القتال بعد حين.

فَاصْبِرْ لِحُكْمِ رَبِّكَ الصادر عن الحكمة الّتي من جملتها تعليقه الأمور بالمصالح، و تأخير نصرك على كفّار مكّة و غيرهم وَ لا تُطِعْ مِنْهُمْ آثِماً أَوْ كَفُوراً أي: كلّ واحد من مرتكب الإثم الداعي لك إليه، و من الغالي في الكفر الداعي لك إليه، فإنّهم إمّا أن يدعوه إلى مساعدتهم على فعل هو إثم أو كفر، أو غير إثم و لا كفر، فنهي أن لا يساعدهم على الاثنين دون الثالث.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 287

و

روي: أنّهم مع إفراطهم في العداوة و الإيذاء له و لمن معه، يدعونه إلى أنّه يرجع عن أمره، و يبذلون له أموالهم، و تزويج أكرم بناتهم إن أجابهم. فأمر صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالصبر على الإيذاء، و نهي عن إطاعة الكفرة فيما يرتكبون من المآثم و يدعونه إليه.

و قيل: الآثم: عتبة، و الكفور: الوليد، لأنّ عتبة كان ركّابا للمآثم، متعاطيا لأنواع الفسوق. و كان الوليد غاليا في الكفر، شديد الشكيمة في العتوّ. و إنّما قال:

«أو» و لم يقل بالواو العاطفة،

ليكون نهيا عن إطاعتهما جميعا، لأنّه لو قال: و لا تطعهما، لجاز أن يطيع أحدهما، و إذا قيل: و لا تطع أحدهما، علم أنّ الناهي عن طاعة أحدهما عن طاعتهما جميعا أنهى، كما إذا نهي أن يقول لأبويه: أفّ، علم أنّه منهيّ عن ضربهما على طريق الأولى.

وَ اذْكُرِ اسْمَ رَبِّكَ بُكْرَةً أوّل النهار وَ أَصِيلًا و عشيّا، و هو أصل الليل.

و المعنى: أقبل على شأنك من ذكر اللّه و الدعاء إليه و تبليغ الرسالة صباحا و مساء، أي: دائما، فإنّ اللّه ناصرك و مؤيّدك و معينك. أو دم على صلاة الفجر و الظهر و العصر، فإنّ الأصيل يتناول وقتيهما.

وَ مِنَ اللَّيْلِ للتبعيض، لأنّه لم يأمره بقيام الليل كلّه. و المعنى: و بعض الليل فَاسْجُدْ لَهُ فصلّ له. يعني: صلاة المغرب و العشاء. و تقديم الظرف لما في صلاة الليل من مزيد الكلفة و الخلوص.

وَ سَبِّحْهُ لَيْلًا طَوِيلًا و تهجّد له طائفة طويلة من الليل: ثلثيه، و نصفه، و ثلثه. و قيل: يريد التطوّع بعد المكتوبة. و يؤيّد الأوّل ما

روي عن الرضا عليه السّلام أنّه سأله أحمد بن محمد عن هذه الآية و قال: «ما ذلك التسبيح؟ قال: صلاة الليل».

إِنَّ هؤُلاءِ الكفرة يُحِبُّونَ الْعاجِلَةَ يؤثرون اللذّات و المنافع العاجلة في دار الدنيا، كقوله: بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا «1» وَ يَذَرُونَ وَراءَهُمْ أمامهم، أو

______________________________

(1) الأعلى: 16.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 288

خلف ظهورهم، لا يعبئون به يَوْماً ثَقِيلًا عسيرا، و شديدا هوله. مستعار من الشي ء الثقيل الشاقّ الباهظ لحامله. و نحوه: ثَقُلَتْ فِي السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ «1». و هو كالتعليل لما أمر به و نهى عنه. و المعنى: أنّهم لا يؤمنون به و لا يعملون له.

نَحْنُ خَلَقْناهُمْ وَ شَدَدْنا

أَسْرَهُمْ و أحكمنا ربط مفاصلهم و عظامهم بالأعصاب الّتي توصل بعضها ببعض، فإنّ الأسر الربط و التوثيق. و منه: أسر الرجل إذا أوثق بالقدّ «2»، و هو الإسار. و فرس مأسور الخلق، و ترس مأسور بالعقب، أي:

مربوط. و لو لا إحكامه إيّاها على هذا النظام لما أمكن العمل بها و الانتفاع منها.

و قيل: معناه: كلّفناهم و شددناهم بالأمر و النهي كيلا يجاوزوا حدود اللّه، كما يشدّ الأسير بالقيد لئلّا يهرب.

وَ إِذا شِئْنا بَدَّلْنا أَمْثالَهُمْ تَبْدِيلًا و إذا أردنا أهلكناهم و بدّلنا أمثالهم في الخلقة و شدّة الأسر. يعني: النشأة الثانية، و لذلك جي ء ب «إذا». أو بدّلنا غيرهم ممّن يطيع، و لكن نبقيهم إتماما للحجّة. و على هذا؛ حقّه أن يجي ء ب «إن» لا ب «إذا» لأنّه غير محقّق، كقوله: وَ إِنْ تَتَوَلَّوْا يَسْتَبْدِلْ قَوْماً غَيْرَكُمْ «3» إِنْ يَشَأْ يُذْهِبْكُمْ «4»، لكن جي ء ب «إذا» لتحقّق القدرة و القوّة الداعية.

إِنَّ هذِهِ إشارة إلى السورة أو الآيات القريبة تَذْكِرَةٌ تذكير يتذكّر به أمر الآخرة فَمَنْ شاءَ فمن اختار الخير لنفسه اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ إلى رضا ربّه سَبِيلًا تقرّب إليه بالطاعة و التوسّل إليه بالعبادة.

وَ ما تَشاؤُنَ أيّها المعاندون المكذّبون اتّخاذ الطريق إلى مرضاة اللّه

______________________________

(1) الأعراف: 187.

(2) القدّ: السير يقدّ من جلد.

(3) محمد: 36.

(4) إبراهيم: 19.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 289

اختيارا إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ إلّا وقت مشيئة اللّه أن يقسركم و يجبركم، و لا ينفعكم ذلك حينئذ، لزوال التكليف الاختياري المنوط به الثواب و العقاب. و قرأ ابن كثير و ابن عامر: يشاؤن بالياء. و ليس المعنى: أنّه سبحانه يشاء كلّ ما يشاء العباد من المعاصي و المباحات و غيرها، لأنّ الدلائل الواضحة قد دلّت على

أنّه سبحانه لا يجوز أن يريد القبائح، و يتعالى عن ذلك، و قد قال سبحانه: وَ مَا اللَّهُ يُرِيدُ ظُلْماً لِلْعِبادِ «1».

إِنَّ اللَّهَ كانَ عَلِيماً بأحوالهم و ما يكون منهم حَكِيماً حيث خلقهم مع علمه بهم.

يُدْخِلُ مَنْ يَشاءُ من الطالبين سبيل الخير فِي رَحْمَتِهِ في جنّته بالهداية و التوفيق للطاعة وَ الظَّالِمِينَ أَعَدَّ لَهُمْ عَذاباً أَلِيماً نصب «الظالمين» بفعل يفسّره «أعدّ لهم» مثل: أوعد و كافأ، فيطابق الجملة المعطوف عليها. و هذه القراءة المتواترة أولى من قراءة ابن مسعود: و للظّالمين، و قراءة ابن الزبير: و الظّالمون بالابتداء، لذهاب الطباق بين الجملة المعطوفة و المعطوف عليها فيها، مع مخالفتها للمصحف.

______________________________

(1) غافر: 31.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 291

(77) سورة المرسلات

اشارة

مكّيّة. و هي خمسون آية بلا خلاف.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «و من قرأ سورة و المرسلات كتب أنّه ليس من المشركين».

و

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأها عرّف اللّه بينه و بين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

[سورة المرسلات (77): الآيات 1 الى 15]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الْمُرْسَلاتِ عُرْفاً (1) فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً (2) وَ النَّاشِراتِ نَشْراً (3) فَالْفارِقاتِ فَرْقاً (4)

فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً (5) عُذْراً أَوْ نُذْراً (6) إِنَّما تُوعَدُونَ لَواقِعٌ (7) فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ (8) وَ إِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ (9)

وَ إِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ (10) وَ إِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ (11) لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ (12) لِيَوْمِ الْفَصْلِ (13) وَ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ (14)

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (15)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 292

و لمّا ختم سبحانه سورة هل أتى بذكر القيامة و ما أعدّ فيها للظالمين، افتتح هذه السورة بمثل ذلك، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* وَ الْمُرْسَلاتِ أقسم سبحانه بطوائف من الملائكة أرسلهنّ عُرْفاً نصب على العلّة، أي: للأمر بالمعروف الحسن عقلا و شرعا. أو على الحال، بمعنى المتتابعة، من عرف الدابّة و الضبع. يقال: جاؤا عرفا واحدا. و هم عليه كعرف الضبع، إذا تألّبوا عليه، أي: اجتمعوا عليه. فَالْعاصِفاتِ عَصْفاً فعصفن في امتثال أمره عصف الرياح في الهبوب.

وَ النَّاشِراتِ نَشْراً و بطوائف منهنّ نشرن أجنحتهنّ في الجوّ عند انحطاطهنّ بالوحي. أو نشرن الشرائع في الأرض. أو نشرن النفوس الموتى بالكفر و الجهل بما أوحين من العلم. فَالْفارِقاتِ فَرْقاً ففرقن بين الحقّ و الباطل.

فَالْمُلْقِياتِ ذِكْراً فألقين إلى الأنبياء ذكر الأحكام الشرعيّة.

أو أقسم بآيات القرآن المرسلة بكلّ معروف إلى محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فعصفن سائر الكتب و

الأديان بالنسخ، و نشرن آثار الهدى و الحكم في المشرق و المغرب، ففرقن بين الحقّ و الباطل، فألقين ذكر الحقّ فيما بين العالمين.

أو بالنفوس الكاملة المرسلة إلى الأبدان لاستكمالها، فعصفن ما سوى الحقّ، و نشرن أثر ذلك الاستكمال في جميع الأعضاء، ففرقن بين الحقّ بذاته و الباطل في نفسه، فيرون كلّ شي ء هالكا إلّا وجهه، فألقين ذكرا بحيث لا يكون في القلوب و الألسنة إلّا ذكر اللّه.

أو برياح عذاب أرسلن متتابعة فعصفن، و رياح رحمة نشرن السحاب في الجوّ ففرقن بينه، كقوله: وَ يَجْعَلُهُ كِسَفاً «1». أو بسحائب أو أمطارها نشرن الموات، ففرقن بين من يشكر للّه و بين من يكفر، كقوله:

______________________________

(1) الروم: 48.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 293

لَأَسْقَيْناهُمْ ماءً غَدَقاً لِنَفْتِنَهُمْ فِيهِ «1». فألقين ذكرا، أي: تسبّبن له، فإنّ العاقل إذا شاهد هبوب الرياح و منافعها، أو السحائب و آثارها، ذكر اللّه تعالى و تذكّر كمال قدرته.

عُذْراً أَوْ نُذْراً مصدران ل: عذر إذا محا الإساءة، و أنذر إذا خوّف، كالكفر و الشكر. أو جمعان لعذير بمعنى المعذرة، و نذير بمعنى الإنذار. أو بمعنى العاذر و المنذر. و نصبهما على الأوّلين بالعلّيّة، أي: عذرا للمحقّين الّذين يعتذرون إلى اللّه بتوبتهم و استغفارهم، أو نذرا للمبطلين الّذين يغفلون عن شكر منعهم و يجحدونه.

أو بالبدل من «ذكرا» على أنّ المراد به الوحي، أو ما يعمّ التوحيد و الشرك و الإيمان و الكفر. و على الأخير بالحاليّة، بمعنى: عاذرين أو منذرين. و قرأهما حمزة و أبو عمرو و الكسائي و حفص بالتخفيف.

و جواب القسم إِنَّما تُوعَدُونَ أي: إنّ الّذي توعدونه من مجي ء القيامة لَواقِعٌ كائن لا محالة.

فَإِذَا النُّجُومُ طُمِسَتْ محيت و محقت ذواتها، أي: ذهب بنورها، ثمّ تنشر ممحوقة

النور.

وَ إِذَا السَّماءُ فُرِجَتْ صدعت و فتحت فكانت أبوابا.

وَ إِذَا الْجِبالُ نُسِفَتْ قلعت من أماكنها، كالحبّ ينسف بالمنسف. و نحوه قوله تعالى: وَ بُسَّتِ الْجِبالُ بَسًّا «2» وَ كانَتِ الْجِبالُ كَثِيباً مَهِيلًا «3». و قيل:

أخذت بسرعة من أماكنها. من: انتسفت الشي ء إذا اختطفته.

وَ إِذَا الرُّسُلُ أُقِّتَتْ عيّن وقت حضورهم فيه للشهادة على الأمم. أو بلغوا ميقاتهم الّذي كانوا ينتظرونه، و هو يوم القيامة. و قرأ أبو عمرو: وقّتت على الأصل.

______________________________

(1) الجنّ: 16- 17.

(2) الواقعة: 5.

(3) المزّمّل: 14.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 294

لِأَيِّ يَوْمٍ أُجِّلَتْ أي: يقال: لأيّ يوم أخّرت الرسل، و ضرب الأجل لجمعهم؟ و فيه تعظيم لليوم، و تعجيب من هوله. و يجوز أن يكون ثاني مفعولي «أقّتت» على أنّه بمعنى: أعلمت.

لِيَوْمِ الْفَصْلِ بيان ليوم التأجيل، أي: اليوم الّذي يفصل فيه بين الخلائق وَ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الْفَصْلِ و من أين تعلم كنهه و لم تر مثله؟

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ أي: بذلك اليوم. و «ويل» في الأصل مصدر منصوب بإضمار فعله، عدل به إلى الرفع للدلالة على إثبات الهلاك و دوامه للمدعوّ عليه. و نحوه: سَلامٌ عَلَيْكُمْ «1». و «يومئذ» ظرفه أو صفته. و إنّما خصّ الوعيد بمن جحد يوم القيامة و كذّب به، لأنّ التكذيب به يتبعه خصال المعاصي كلّها و إن لم تذكر معه.

[سورة المرسلات (77): الآيات 16 الى 40]

أَ لَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ (16) ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ (17) كَذلِكَ نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ (18) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (19) أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ (20)

فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ (21) إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ (22) فَقَدَرْنا فَنِعْمَ الْقادِرُونَ (23) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (24) أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً (25)

أَحْياءً وَ أَمْواتاً (26) وَ جَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ وَ أَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً (27)

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (28) انْطَلِقُوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (29) انْطَلِقُوا إِلى ظِلٍّ ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ (30)

لا ظَلِيلٍ وَ لا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ (31) إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ (32) كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ (33) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (34) هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ (35)

وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ (36) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (37) هذا يَوْمُ الْفَصْلِ جَمَعْناكُمْ وَ الْأَوَّلِينَ (38) فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ (39) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (40)

______________________________

(1) الأنعام: 54.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 295

ثمّ بيّن سبحانه ما فعله بالمكذّبين الأوّلين تهديدا لمشركي مكّة، فقال: أَ لَمْ نُهْلِكِ الْأَوَّلِينَ بالعذاب في الدنيا، كقوم نوح و عاد و ثمود حين كذّبوا رسلهم ثُمَّ نُتْبِعُهُمُ الْآخِرِينَ أي: ثمّ نحن نتبعهم نظراءهم، ككفّار مكّة كَذلِكَ مثل ذلك الفعل الشنيع نَفْعَلُ بِالْمُجْرِمِينَ بكلّ من أجرم. يعني: نفعل بأمثالهم من الآخرين مثل ما فعلنا بالأوّلين، و نسلك بهم سبيلهم، لأنّهم كذّبوا مثل تكذيبهم.

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بآيات اللّه و أنبيائه، فليس بتكرير. و كذا إن أطلق التكذيب، لأنّ الويل الأول لعذاب الآخرة، و هذا للإهلاك في الدنيا. مع أنّ التكرير للتوكيد حسن شائع في كلام العرب، كما مرّ في سورة الرحمن.

أَ لَمْ نَخْلُقْكُمْ مِنْ ماءٍ مَهِينٍ نطفة قذرة ذليلة فَجَعَلْناهُ فِي قَرارٍ مَكِينٍ هو الرحم إِلى قَدَرٍ مَعْلُومٍ إلى مقدار معلوم من الوقت قدّره اللّه للولادة و حكم به، و هو تسعة أشهر أو ما دونها أو ما فوقها فَقَدَرْنا على خلقته كيف يكون، قصيرا أم طويلا، ذكرا أم أنثى. أو فقدّرناه. و يدلّ عليه قراءة نافع و الكسائي بالتشديد،

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 296

و قوله: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ «1». فَنِعْمَ الْقادِرُونَ نحن عليه. و لا يخفى أنّ في خلق الإنسان

على هذا الكمال من الحواسّ الصحيحة و العقل الشريف و التمييز و النطق من ماء ضعيف، أعظم الاعتبار و أبين الحجّة على أنّ له صانعا قادرا مدبّرا حكيما، و الجاحد لذلك كالمكابر لبداهة العقول. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بقدرتنا على ذلك، أو على الإعادة.

أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ كِفاتاً كافتة. اسم لما يكفت، أي: يضمّ و يجمع، كالضمام و الجماع لما يضمّ و يجمع. يقال: هذا الباب جماع الأبواب. أو مصدر نعت به. أو جمع كافت، كصائم و صيام. أو جمع كفت، و هو الوعاء.

أَحْياءً وَ أَمْواتاً منتصبان على المفعوليّة، كأنّه قيل: كافتة أحياء و أمواتا، أي: جامعة إيّاهما. أو بفعل مضمر يدلّ عليه «كفاتا»، و هو: تكفت. و المعنى:

تكفت أحياء على ظهرها، و أمواتا في بطنها. و تنكيرهما للتفخيم، كأنّه قيل: تكفت أحياء لا يعدّون، و أمواتا لا يحصرون. أو لإفادة التبعيض، لأنّ أحياء الإنس و أمواتهم بعض الأحياء و الأموات. أو على الحاليّة من مفعول «كفاتا» المحذوف، و هو الإنس، لأنّه قد علم أنّها كفات الإنس. أو منتصبان ب «نجعل» على المفعوليّة، و «كفاتا» حال. و المعنى: نجعلها ما ينبت و ما لا ينبت حال كونها كافتة لهما.

وَ جَعَلْنا فِيها رَواسِيَ شامِخاتٍ جبالا ثوابت طوالا وَ أَسْقَيْناكُمْ ماءً فُراتاً بخلق الأنهار و المنابع فيها. و تنكير الثلاثة للتفخيم، و إشعارا بأنّ فيها ما لم يعرف و لم ير، لأنّ في السماء جبالا، قال اللّه تعالى: مِنَ السَّماءِ مِنْ جِبالٍ فِيها مِنْ بَرَدٍ «2». و فيها ماء فرات أيضا، بل هي معدنه و مصبّه. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بأمثال هذه النعم.

______________________________

(1) عبس: 19.

(2) النور: 43.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 297

انْطَلِقُوا أي: يقال لهم: انطلقوا إِلى ما كُنْتُمْ بِهِ

تُكَذِّبُونَ من العذاب انْطَلِقُوا خصوصا. و عن يعقوب: انطلقوا، على الإخبار من امتثالهم للأمر، لأنّهم مضطرّون إليه لا يستطيعون امتناعا منه. إِلى ظِلٍ أي: ظلّ دخان جهنّم، كقوله:

وَ ظِلٍّ مِنْ يَحْمُومٍ «1». ذِي ثَلاثِ شُعَبٍ يتشعّب لعظمه، كما ترى الدخان العظيم يتفرّق تفرّق الذوائب.

و قيل: يخرج لسان من النار فيحيط بالكفّار كالسّرادق، و يتشعّب من دخانها ثلاث شعب، فتظلّهم حتّى يفرغ من حسابهم، و المؤمنون في ظلّ العرش.

و خصوصيّة الثلاث إمّا لأنّ حجاب النفس عن أنوار القدس: الحسّ، و الخيال، و الوهم. أو لأنّ المؤدّي إلى العذاب هو القوّة الواهمة الحالّة في الدماغ، و الغضبيّة الّتي في يمين القلب، و الشهويّة الّتي في يساره. و لذلك قيل: شعبة تقف فوق الكافر، و شعبة عن يمينه، و شعبة عن يساره.

لا ظَلِيلٍ أي: غير مانع من الأذى بستره عنه. و مثله: الكنين. فالظليل من الظلّة، و هي السترة، و الكنين من الكنّ «2». و فيه تهكّم بهم و تعريض بأن ظلّهم غير ظلّ المؤمنين، و ردّ لما أوهم لفظ الظلّ. وَ لا يُغْنِي مِنَ اللَّهَبِ في محلّ الجوّ، أي: غير مغن عنهم من حرّ اللهب شيئا. و هو ما يعلو على النار إذا اضطرمت من أحمر و أصفر و أخضر. يعني: أنّهم إذا استظلّوا بذلك الظلّ لم يدفع عنهم حرّ اللهب.

ثمّ وصف النار بقوله: إِنَّها تَرْمِي بِشَرَرٍ كَالْقَصْرِ و هو ما يتطاير من النار في الجهات، أي: كلّ شرارة كالقصر من القصور في عظمها. و قيل: هو جمع قصرة، و هي الشجرة العظيمة الغليظة، نحو: جمرة و جمر. كَأَنَّهُ جِمالَتٌ صُفْرٌ جمع

______________________________

(1) الواقعة: 43.

(2) الكنّ: البيت، وقاء كلّ شي ء و ستره.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 298

جمال. أو

جمالة جمع جمل، فإنّ الشرار بما فيه من الناريّة يكون أصفر. و قيل:

سود، لأنّ سواد الإبل يضرب إلى الصفرة. و الأوّل تشبيه في العظم، و هذا في اللون و الكثرة و التتابع و الاختلاط و سرعة الحركة.

و قرأ حمزة و الكسائي و حفص: جمالة. و عن يعقوب: جمالات بالضمّ، جمع جمالة، و هي الحبل الغليظ من حبال السفينة، شبّهه بها في امتداده و التفافه.

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بأمثال هذه العقوبات.

هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ أي: بما يستحقّ، فإنّ النطق بما لا ينفع كلا نطق. أو بشي ء أصلا من فرط الدهشة و الحيرة. و هذا في بعض المواقف، فإنّ يوم القيامة طويل ذو مواطن و مواقيت، ينطقون في وقت و لا ينطقون في وقت، و لذلك ورد الأمران في القرآن.

و عن قتادة قال: جاء رجل إلى عكرمة فقال: أ رأيت قول اللّه تعالى: «هذا يَوْمُ لا يَنْطِقُونَ» و قوله: ثُمَّ إِنَّكُمْ يَوْمَ الْقِيامَةِ عِنْدَ رَبِّكُمْ تَخْتَصِمُونَ «1». فقال: إنّها مواقف، فأمّا موقف منها فتكلّموا و اختصموا، ثمّ ختم على أفواههم و تكلّمت أيديهم و أرجلهم، فحينئذ لا ينطقون.

وَ لا يُؤْذَنُ لَهُمْ فَيَعْتَذِرُونَ عطف على «يؤذن» منخرط في سلك النفي.

و المعنى: و لا يكون لهم إذن و اعتذار عقيبه. و لو نصب لكان مسبّبا عنه لا محالة.

و يدلّ هذا على أنّ عدم اعتذارهم لعدم الإذن. و أوهم ذلك أنّ لهم عذرا لكن لا يؤذن لهم فيه. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بهذا الخبر.

هذا يَوْمُ الْفَصْلِ بين المحقّ و المبطل جَمَعْناكُمْ وَ الْأَوَّلِينَ تقرير و بيان للفصل، لأنّه إذا كان يوم الفصل بين السعداء و الأشقياء و بين الأنبياء و أممهم، فلا بدّ

______________________________

(1) الزمر: 31.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 299

من جمع الأوّلين و

الآخرين حتّى يقع ذلك الفصل بينهم.

فَإِنْ كانَ لَكُمْ كَيْدٌ فَكِيدُونِ إن كانت لكم حيلة. و هذا تقريع على كيدهم لدين اللّه و للمؤمنين في الدنيا، و تسجيل عليهم بعجزهم و استكانتهم. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ إذ لا حيلة لهم في التخلّص من العذاب.

[سورة المرسلات (77): الآيات 41 الى 45]

إِنَّ الْمُتَّقِينَ فِي ظِلالٍ وَ عُيُونٍ (41) وَ فَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ (42) كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ (43) إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ (44) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (45)

ثمّ ذكر سبحانه أحوال المؤمنين، فقال: إِنَّ الْمُتَّقِينَ عن الشرك، لأنّهم في مقابلة المكذّبين فِي ظِلالٍ من أشجار الجنّة وَ عُيُونٍ جارية بين أيديهم في غير أخدود «1»، لأنّ ذلك أمتع لهم وَ فَواكِهَ مِمَّا يَشْتَهُونَ يتمنّون. يعني: مستقرّون في أنواع الترفّه.

كُلُوا وَ اشْرَبُوا هَنِيئاً خالصا من التكدّر و الأذى بِما كُنْتُمْ تَعْمَلُونَ و الأمر في موضع الحال من ضمير المتّقين، في الظرف الّذي هو «في ظلال» أي:

هم مستقرّون في ظلال، مقولا لهم ذلك. و هذا الأمر للإباحة.

إِنَّا كَذلِكَ نَجْزِي الْمُحْسِنِينَ في العقيدة. هذا ابتداء إخبار من اللّه تعالى. أو يقال لهم ذلك أيضا.

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بأنّه يمحّض لهم العذاب المخلّد، و لخصومهم الثواب المؤبّد.

______________________________

(1) الأخدود: الحفرة المستطيلة.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 300

[سورة المرسلات (77): الآيات 46 الى 50]

زبدة التفاسير ج 7 349

كُلُوا وَ تَمَتَّعُوا قَلِيلاً إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ (46) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (47) وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا لا يَرْكَعُونَ (48) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (49) فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ يُؤْمِنُونَ (50)

ثمّ عاد الكلام إلى ذكر المكذّبين، فقال: كُلُوا وَ تَمَتَّعُوا في الدنيا قَلِيلًا أي: تمتّعا قليلا، أو زمانا قليلا، فإنّ الموت كائن لا محالة إِنَّكُمْ مُجْرِمُونَ حال من المكذّبين، أي: الويل ثابت لهم في حال ما يقال لهم ذلك في الآخرة، إيذانا بأنّهم كانوا في الدنيا أحقّاء بأن يقال لهم ذلك، تذكيرا لهم بحالهم السمجة، و بما جنوا على أنفسهم من إيثار المتاع القليل على النعيم المقيم. و يجوز أن يكون ذلك كلاما مستأنفا خطابا للمكذّبين في الدنيا، دلالة على أنّ كلّ مجرم ما

له إلّا الأكل و التمتّع أيّاما قلائل، ثمّ البقاء في الهلاك أبدا. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بما ذكر.

وَ إِذا قِيلَ لَهُمُ ارْكَعُوا اخشعوا للّه و تواضعوا له و اخضعوا، بقبول وحيه و اتّباع دينه، و اطرحوا هذا الاستكبار و النخوة لا يَرْكَعُونَ لا يمتثلون ذلك، و يصرّون على استكبارهم.

و قيل: المراد الأمر بالصلاة أو بالركوع فيها، إذ

روي أنّها نزلت في ثقيف حين أمرهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالصلاة، فقالوا: لا ننحني، أي: لا نركع، فإنّها مسبّة علينا. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا خير في دين ليس فيه ركوع و لا سجود. و استدلّ به على أنّ الأمر للوجوب، و أنّ الكفّار مخاطبون بالفروع.

و قيل: هو يوم القيامة حين يدعون إلى السجود فلا يستطيعون. وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ بذلك.

فَبِأَيِّ حَدِيثٍ بَعْدَهُ بعد القرآن يُؤْمِنُونَ إذا لم يؤمنوا به. يعني: أنّ القرآن من بين الكتب المنزلة آية مبصرة و معجزة باهرة، مشتملة على الحجج الواضحة و المعاني الشريفة، فحين لم يؤمنوا به فبأيّ كتاب بعده يؤمنون؟!

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 301

(78) سورة النبأ

اشارة

مكّيّة. و هي إحدى و أربعون آية.

أبيّ بن كعب عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «و من قرأ عمّ يتساءلون سقاه اللّه برد الشراب يوم القيامة».

و

روي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام أنّه قال: «من قرأ عمّ يتساءلون لم يخرج سنته- إذا كان يدمنها في كلّ يوم- حتّى يزور البيت الحرام».

[سورة النبإ (78): الآيات 1 الى 16]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

عَمَّ يَتَساءَلُونَ (1) عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ (2) الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ (3) كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (4)

ثُمَّ كَلاَّ سَيَعْلَمُونَ (5) أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً (6) وَ الْجِبالَ أَوْتاداً (7) وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً (8) وَ جَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً (9)

وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً (10) وَ جَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً (11) وَ بَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً (12) وَ جَعَلْنا سِراجاً وَهَّاجاً (13) وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ ماءً ثَجَّاجاً (14)

لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا وَ نَباتاً (15) وَ جَنَّاتٍ أَلْفافاً (16)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 302

و اعلم أنّه سبحانه لمّا ختم سورة المرسلات بذكر القيامة و وعيد المكذّبين بها، افتتح هذه السورة بذكرها و ذكر دلائل القدرة على البعث و الإعادة، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* عَمَّ يَتَساءَلُونَ أصله: عن ما، على أنّه حرف جرّ دخل على «ما» الاستفهاميّة، فحذف الألف تخفيفا، لكثرة استعماله. و مثله:

فيم، و بم، و لم، و إلى م، و على م، و متى م، و في هذا الاستفهام تفخيم شأن ما يتساءلون عنه، كأنّه لفخامته خفي جنسه، فيسأل عنه. و المعنى: عن أيّ شي ء يتساءلون. و نحوه ما في قولك: زيد ما زيد؟ جعلته لانقطاع قرينه و عدم نظيره كأنّه شي ء خفي عليك جنسه، فتسأل عن جنسه و تفحص عن جوهره، كما تقول: ما العنقاء و ما الغول؟ تريد: أيّ

شي ء هو من الأشياء؟ هذا أصله، ثمّ جرّد عن التفخيم حتّى وقع في كلام من لا تخفى عليه خافية. و الضمير لأهل مكّة، كانوا يتساءلون عن البعث فيما بينهم، أو يسألون الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و المؤمنين عنه استهزاء، كقولهم:

يتداعونهم و يتراءونهم، أي: يدعونهم و يرونهم.

و قوله: عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ بيان للشأن المفخّم. أو صلة «يتساءلون» و «عمّ» متعلّق بمضمر مفسّر به، كشي ء يبهم ثمّ يفسّر، كأنّه قال: عمّ يتساءلون؟ يتساءلون عن النبأ العظيم. و يدلّ عليه قراءة ابن كثير و يعقوب: عمّه، بهاء السكت للوقف، ثمّ الابتداء بقوله: «يَتَساءَلُونَ عَنِ النَّبَإِ الْعَظِيمِ».

الَّذِي هُمْ فِيهِ مُخْتَلِفُونَ بجزم النفي و بالشكّ فيه، فإنّه كان فيهم من يقطع القول بإنكار البعث، و منهم من يشكّ.

و قيل: الضمير للمسلمين و الكافرين جميعا. و كانوا جميعا يسألون عنه، أمّا

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 303

المسلم فليزداد خشية و استعدادا، و أمّا الكافر فليزداد استهزاء.

و قيل: المتساءل عنه القرآن. و قيل: نبوّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

و

روي بالأسانيد الصحيحة في تفسير أهل البيت صلوات اللّه عليهم أنّ النبأ العظيم عليّ بن أبي طالب صلوات اللّه عليه. و قد روى علقمة: أنّ يوم صفّين لمّا التقى الصفّان برز رجل من عسكر الشام شاكي السلاح، و كأنّه من قرّاء الشام، و قرأ عمّ يتساءلون بدل الرجز، فوددت أن أبارزه. فقال أمير المؤمنين صلوات اللّه عليه:

مكانك. فتوجّه بنفسه الشريف نحوه، فلمّا قرب إليه قال عليه السّلام: أتعرف النبأ العظيم؟

فقال الشامي: لا. فقال عليه السّلام: و اللّه العظيم إنّي أنا النبأ العظيم الّذي فيّ اختلفتم، و على ولايتي تنازعتم، و عن ولايتي رجعتم بعد ما قبلتم، و ببغيكم هلكتم

بعد ما بسيفي عن الكفر نجوتم، و يوم الغدير قد علمتم علمتم علمتم، و يوم القيامة تعلمون ما عملتم.

ثمّ علا بسيفه و رمى برأسه.

كَلَّا ردع عن التساؤل إنكارا و استهزاء سَيَعْلَمُونَ وعيد لهم بأنّهم سيعلمون أنّ ما يتساءلون عنه و يضحكون منه حقّ واقع لا ريب فيه.

ثُمَّ كَلَّا سَيَعْلَمُونَ تكرير الردع مع الوعيد تشديد في ذلك مبالغة. و «ثمّ» للإشعار بأنّ الوعيد الثاني آكد. و قيل: الأوّل في الدنيا، و الثاني في القيامة. أو الأوّل للبعث، و الثاني للجزاء في جهنّم. و روى ابن عامر: ستعلمون بالتاء، على تقدير:

قل لهم: ستعلمون.

ثمّ ذكّرهم ببعض ما عاينوا من عجائب صنعه الدالّة على كمال قدرته، ليستدلّوا بذلك على صحّة البعث و الجزاء، و ما أخبروا به من أحوال المعاد، و ليعلموا بهذه الأفعال العجيبة الشأن أنّ الحكيم لا يفعل فعلا عبثا، كما يستلزم من إنكارهم البعث، أو من إنكارهم نزول القرآن المشتمل على مصالح الدارين، أو النبوّة المتضمّنة لإرشاد العباد، أو نصب الإمام المعصوم الحافظ لشريعة نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أنّه

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 304

عابث في كلّ ما فعل، فقال:

أَ لَمْ نَجْعَلِ الْأَرْضَ مِهاداً فراشا أو وطاء و قرارا مهيّئا للتصرّف فيه من غير تعب و أذيّة وَ الْجِبالَ أَوْتاداً أي: أرسيناها «1» بالجبال لئلّا تميد بأهلها، كما يرسى البيت بالأوتاد.

وَ خَلَقْناكُمْ أَزْواجاً ذكرا و أنثى حتّى يصحّ منكم التناسل، و يتمتّع بعضكم ببعض.

وَ جَعَلْنا نَوْمَكُمْ سُباتاً قطعا عن الإحساس و الحركة، استراحة للقوى الحيوانيّة، و إزاحة لكلالها. و قيل: موتا، لأنّ النوم أحد التوفّيين. و منه: المسبوت للميّت. و أصله القطع أيضا.

وَ جَعَلْنَا اللَّيْلَ لِباساً غطاء يستتر بظلمته من أراد الاختفاء، و

إخفاء ما لا يحبّ الاطّلاع عليه من كثير من الأمور.

وَ جَعَلْنَا النَّهارَ مَعاشاً وقت معاش تتقلّبون في حوائجكم لتحصيل ما تعيشون به. و قيل: حياة تنبعثون فيها عن نومكم.

وَ بَنَيْنا فَوْقَكُمْ سَبْعاً شِداداً سبع سماوات محكمة قويّة الخلق، لا يؤثّر فيها مرور الدهور و كرور الأزمان.

وَ جَعَلْنا للعالم سِراجاً وَهَّاجاً متلألئا وقّادا. يعني: الشمس. من:

توهّجت النار إذا أضاءت. أو بالغا في الحرارة. من الوهج، و هو الحرّ.

وَ أَنْزَلْنا مِنَ الْمُعْصِراتِ من السحائب إذا أعصرت، أي: قربت أن تعصرها الرياح فتمطر، كقولك: أحصد الزرع إذا حان له أن يحصد. و منه: أعصرت الجارية إذا قربت أن تحيض.

و عن مجاهد: من الرياح الّتي حان لها أن تعصر السحاب، أو من الرياح

______________________________

(1) أي: أثبتناها.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 305

ذوات الأعاصير. و إنّما جعلت مبدأ للإنزال، لأنّها تنشئ السحاب و تدرّ أخلافه.

و

قد جاء في الحديث: «أنّ اللّه تعالى يبعث الرياح، فتحمل الماء من السماء إلى السحاب».

فعلى هذا؛ الإنزال منها ظاهر.

و عن الحسن و قتادة: هي السماوات. و تأويله: أنّ الماء ينزل من السماء إلى السحاب، فكأنّ السماوات يعصرن، أي: يحملن على العصر.

ماءً ثَجَّاجاً منصبّا بكثرة. يقال: ثجّه و ثجّ بنفسه. و في الحديث: «أفضل الحجّ العجّ و الثجّ» أي: رفع الصوت بالتلبية، و صبّ دماء الهدي.

لِنُخْرِجَ بِهِ حَبًّا ما يقتات به من نحو الحنطة و الشعير وَ نَباتاً و ما يعتلف به من التبن و الحشيش، كما قال: كُلُوا وَ ارْعَوْا أَنْعامَكُمْ «1».

وَ جَنَّاتٍ أَلْفافاً و بساتين ملتفّة أشجارها بعضها ببعض. قال صاحب الكشّاف: «و لا واحد له، كالأوزاع و الأخياف «2». و قيل: الواحد لفّ. و قال صاحب الإقليد: أنشدني الحسن بن عليّ الطوسي:

جنّة لفّ و عيش مغدق و

ندامى كلّهم بيض زهر

و زعم ابن قتيبة أنّه: لفّاء، و لفّ، ثمّ ألفاف. و ما أظنّه واجدا له نظيرا من نحو:

خضر و أخضار، و حمر و أحمار. و لو قيل: هو جمع ملتفّة بتقدير حذف الزوائد لكان قولا وجيها» «3». انتهى كلامه. و أقول: يمكن أن يكون جمع لفيف، حملا على نحو: أشراف و شريف.

[سورة النبإ (78): الآيات 17 الى 30]

إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ مِيقاتاً (17) يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً (18) وَ فُتِحَتِ السَّماءُ فَكانَتْ أَبْواباً (19) وَ سُيِّرَتِ الْجِبالُ فَكانَتْ سَراباً (20) إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً (21)

لِلطَّاغِينَ مَآباً (22) لابِثِينَ فِيها أَحْقاباً (23) لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَ لا شَراباً (24) إِلاَّ حَمِيماً وَ غَسَّاقاً (25) جَزاءً وِفاقاً (26)

إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً (27) وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا كِذَّاباً (28) وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً (29) فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلاَّ عَذاباً (30)

______________________________

(1) طه: 54.

(2) الأوزاع: الجماعات. و الأخياف: المختلفون. يقال: هم إخوة أخياف، أي: أمّهم واحدة و الآباء شتّى.

(3) الكشّاف 4: 687.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 306

ثمّ ذكر سبحانه الإعادة و البعث تنبيها على أنّ الصنائع العجيبة تدلّ على صحّة البعث، فقال:

إِنَّ يَوْمَ الْفَصْلِ كانَ في علم اللّه، أو في حكمه مِيقاتاً حدّا تؤقّت به الدنيا و تنتهي عنده. أو حدّا للخلائق ينتهون إليه.

يَوْمَ يُنْفَخُ فِي الصُّورِ بدل، أو عطف بيان ليوم الفصل فَتَأْتُونَ من القبور إلى المحشر أَفْواجاً أمما كلّ أمّة مع إمامهم. و قيل: جماعات مختلفة.

و

في الحديث عن البراء بن عازب قال: كان معاذ بن جبل جالسا قريبا من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في منزل أبي أيّوب الأنصاري، فقال معاذ: يا رسول اللّه أ رأيت قول اللّه تعالى: «يَوْمَ يُنْفَخُ فِي

الصُّورِ فَتَأْتُونَ أَفْواجاً»؟ فقال: «يا معاذ سألت عن أمر عظيم من الأمور، ثمّ أرسل عينيه و قال: تحشر عشرة أصناف من أمّتي: بعضهم على صورة القردة، و بعضهم على صورة الخنازير، و بعضهم منكّسون: أرجلهم فوق وجوههم يسحبون عليها، و بعضهم عميا، و بعضهم صمّا بكما، و بعضهم يمضغون ألسنتهم، فهي مدلاة على صدورهم، يسيل القيح من أفواههم، يتقذّرهم أهل

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 307

الجمع، و بعضهم مقطّعة أيديهم و أرجلهم، و بعضهم مصلّبون على جذوع من نار، و بعضهم أشدّ نتنا من الجيف، و بعضهم ملبسون جبابا سابغة من قطران لازقة بجلودهم.

فأمّا الّذين على صورة القردة فالقتّات «1» من الناس. و أمّا الّذين على صورة الخنازير فأهل السحت. و أمّا المنكّسون على وجوههم فآكلة الربا. و أمّا العمي فالّذين يجورون في الحكم. و أمّا الصمّ البكم فالمعجبون بأعمالهم. و أمّا الّذين يمضغون ألسنتهم فالعلماء و القصّاص الّذين خالف قولهم أعمالهم. و أمّا الّذين قطعت أيديهم و أرجلهم فهم الّذين يؤذون الجيران. و أمّا المصلّبون على جذوع من النار فالسّعاة بالناس إلى السلطان. و أمّا الّذين هم أشدّ نتنا من الجيف فالّذين يتّبعون الشهوات و اللذّات، و منعوا حقّ اللّه في أموالهم. و أمّا الّذين يلبسون الجباب فأهل الكبر و الفخر و الخيلاء».

وَ فُتِحَتِ السَّماءُ و شقّت شقوقا كثيرة. و قرأ الكوفيّون بالتخفيف. فَكانَتْ أَبْواباً أي: كثرة أبوابها المفتّحة لنزول الملائكة، فصارت من كثرة الشقوق كأنّ الكلّ أبواب مفتّحة، كقوله: وَ فَجَّرْنَا الْأَرْضَ عُيُوناً «2» أي: كأنّ كلّها عيون تنفجر لكثرتها. و على قراءة التخفيف معناه: فصارت ذات أبواب. و قيل: الأبواب الطرق و المسالك، أي: تكشط «3» فينفتح مكانها، و تصير طرقا لا يسدّها

شي ء.

وَ سُيِّرَتِ الْجِبالُ في الهواء كالهباء فَكانَتْ سَراباً مثل سراب، أي:

تصير شيئا كلا شي ء، لتفتّت أجزائها و انبثاث جواهرها، فإذا ترى على صورة الجبال و لم تبق على حقيقتها.

______________________________

(1) القتّات: النمّام. و قيل: هو الّذي يستمع أحاديث الناس من حيث لا يعلمون.

(2) القمر: 12.

(3) كشط الشي ء: رفع عنه شيئا قد غطّاه.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 308

إِنَّ جَهَنَّمَ كانَتْ مِرْصاداً موضع رصد يرصد فيه خزنة النار الكفّار، أو خزنة الجنّة المؤمنين، ليحرسوهم من فيحها في مجازهم عليها. كالمضمار، فإنّه الموضع الّذي تضمّر «1» فيه الخيل. أو محدّة في ترصّد الكفرة لئلّا يشذّ منها واحد.

و قيل: الطريق المعلم الّذي يرتصدون فيه.

لِلطَّاغِينَ مَآباً مرجعا و مأوى لابِثِينَ فِيها و قرأ حمزة و روح: لبثين.

و هو أبلغ و أقوى، لأنّ اللابث من وجد منه اللبث، و لا يقال: لبث إلّا لمن شأنه اللبث، كالّذي يجثم «2» بالمكان لا يكاد ينفكّ منه. أَحْقاباً حقب بعد حقب، كلّما مضى حقب تبعه آخر إلى غير نهاية. و لا يكاد يستعمل الحقب و الحقبة إلّا حيث يراد تتابع الأزمنة و تواليها. و الاشتقاق يشهد لذلك. ألا ترى إلى حقيبة الراكب و الحقب الّذي وراء التصدير، فإنّ الحقيبة حبل يشدّ به الرحل إلى بطن البعير، و التصدير: الحزام، و هو في صدر البعير.

و ما قيل عن قتادة: أنّ الحقب ثمانون سنة من سنيّ الآخرة. و عن الحسن:

سبعون ألف سنة، كلّ يوم من تلك السنين ألف سنة ممّا تعدّون. و عن مجاهد: أنّ الحقب ثلاثة و أربعون حقبا، كلّ حقب سبعون خريفا، كلّ خريف سبعمائة سنة، كلّ سنة ثلاثمائة و ستّون يوما، و كلّ يوم ألف سنة. و

عن ابن عمر قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه

عليه و آله و سلّم: «لا يخرج من النار من دخلها حتّى يمكث فيها أحقابا، و الحقب بضع و ستّون سنة، و السنة ثلاثمائة و ستّون يوما، كلّ يوم ألف سنة ممّا تعدّون».

لا يدلّ «3» على تناهي تلك الأحقاب، لجواز أن يكون المراد أحقابا مترادفة

______________________________

(1) ضمّر الفرس: صيّره ضامرا، و ذلك بأن يربطه و يكثر ماءه و علفه حتّى يسمن، ثمّ يقلّل ماءه و علفه مدّة و يركضه في الميدان حتّى يهزل.

(2) جثم الرجل: تلبّد بالأرض، أي: لزمها و لزق بها و أقام فيها.

(3) خبر لقوله: و ما قيل ... في بداية الفقرة السابقة.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 309

كلّما مضى حقب لحقه آخر. و إن دلّ فمن قبيل المفهوم، فلا يعارض المنطوق الدالّ على خلود الكفّار.

و

عن حمران قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن هذه الآية، فقال: هذه في الّذين يخرجون من النار». و روي عن الأحول مثله.

و لو جعل قوله: لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَ لا شَراباً* إِلَّا حَمِيماً وَ غَسَّاقاً حالا من المستكن في «لابثين»، أو نصب «أحقابا» ب «لا يذوقون»، احتمل أن يلبثوا فيها أحقابا غير ذائقين إلّا حميما و غسّاقا، ثمّ يبدّلون بعد الأحقاب جنسا آخر من العذاب.

و يجوز أن يكون من: حقب عامنا، إذا قلّ مطره و خيره. و حقب فلان إذا أخطأه الرزق، فهو حقب، و جمعه أحقاب. فينتصب حالا عنهم. يعني: لابثين فيها حقبين. و قوله: «لا يَذُوقُونَ فِيها بَرْداً وَ لا شَراباً» تفسير له، و الاستثناء منقطع. يعني:

لا يذوقون فيها بردا و روحا ينفّس عنهم حرّ النار، و لا شرابا يسكّن من عطشهم، و لكن يذوقون فيها حميما و غسّاقا.

و قيل: البرد النوم. و المراد بالغسّاق ما يغسق،

أي: يسيل من صديدهم.

و قيل: الزمهرير. و هو مستثنى من البرد، إلّا أنّه أخّر ليتوافق رؤوس الآي. و قرأ حمزة و الكسائي و حفص بتشديد السين.

جَزاءً وِفاقاً أي: جوزوا بذلك جزاء ذا وفاق لأعمالهم، أو موافقا لها.

وصف بالمصدر. أو وافقها وفاقا.

ثمّ بيّن ما وافقه هذا الجزاء، فقال: إِنَّهُمْ كانُوا لا يَرْجُونَ حِساباً أي: فعلنا ذلك بهؤلاء الكفّار لأنّهم كانوا لا يخافون أن يحاسبوا. و المعنى: كانوا لا يؤمنون بالبعث و لا بأنّهم محاسبون.

وَ كَذَّبُوا بِآياتِنا بما جاءت به الأنبياء. و قيل: بالقرآن. كِذَّاباً تكذيبا.

و فعّال بمعنى التفعيل مطّرد شائع في كلام الفصحاء.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 310

وَ كُلَّ شَيْ ءٍ أَحْصَيْناهُ كِتاباً مصدر ل «أحصيناه» فإنّ الإحصاء و الكتبة يتشاركان في معنى الضبط و التحصيل. أو لفعل مقدّر. أو حال بمعنى: مكتوبا في اللوح، أو في صحف الحفظة. و المعنى: إحصاء معاصيهم، كقوله: أَحْصاهُ اللَّهُ وَ نَسُوهُ «1». و الجملة اعتراض.

و قوله: فَذُوقُوا فَلَنْ نَزِيدَكُمْ إِلَّا عَذاباً مسبّب عن كفرهم بالحساب و تكذيبهم بالآيات. و زيادته باعتبار أنّ كلّ عذاب يأتي بعد الوقت الأوّل فهو زائد عليه. و ناهيك ب «لن نزيدكم»، و بدلالته على أنّ ترك الزيادة كالمحال الّذي لا يدخل تحت الصحّة، و بمجيئها على طريقة الالتفات، شاهدا على أنّ الغضب قد بلغ غاية البلوغ. و

في الحديث: «هذه الآية أشدّ ما في القرآن على أهل النار».

[سورة النبإ (78): الآيات 31 الى 40]

إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً (31) حَدائِقَ وَ أَعْناباً (32) وَ كَواعِبَ أَتْراباً (33) وَ كَأْساً دِهاقاً (34) لا يَسْمَعُونَ فِيها لَغْواً وَ لا كِذَّاباً (35)

جَزاءً مِنْ رَبِّكَ عَطاءً حِساباً (36) رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا الرَّحْمنِ لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً (37) يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا لا

يَتَكَلَّمُونَ إِلاَّ مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ وَ قالَ صَواباً (38) ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُّ فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ مَآباً (39) إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ وَ يَقُولُ الْكافِرُ يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً (40)

______________________________

(1) المجادلة: 6.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 311

ثمّ عقّب سبحانه وعيد الكفّار بالوعد للمتّقين، فقال: إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ الّذين يتّقون باجتناب الشرك و المعاصي مَفازاً فوزا و ظفرا بالبغية. أو موضع فوز.

و قيل: نجاة ممّا فيه أولئك. أو موضع نجاة منه. و يؤيّد الأوّل تفسير المفاز بالبدليّة اشتمالا أو بعضا.

حَدائِقَ بساتين فيها أنواع الأشجار المثمرة وَ أَعْناباً تخصيص بعد تعميم، لمزيّتها على سائر الفواكه.

وَ كَواعِبَ نساء فلكت «1» و تكعّبت ثديهنّ. و هنّ النواهد. أَتْراباً لدات، أي: مستويات في السنّ و الخلقة و الصورة حتّى يكنّ متشاكلات. و عن الجبائي:

أترابا على مقدار أزواجهنّ في الحسن و الصورة و السنّ.

وَ كَأْساً دِهاقاً مترعة مملوءة. من: أدهق الحوض إذا ملأه. و عن سعيد بن جبير معناه: متتابعة على شاربيها.

لا يَسْمَعُونَ فِيها في الجنّة لَغْواً ما لا فائدة فيه وَ لا كِذَّاباً و لا تكذيب بعضهم لبعض. و قرأ الكسائي بالتخفيف، أي: كذبا أو مكاذبة.

جَزاءً مِنْ رَبِّكَ بمقتضى وعده. مصدر مؤكّد منصوب بمعنى قوله: «إِنَّ لِلْمُتَّقِينَ مَفازاً». كأنّه قال: جازى المتّقين بمفاز. عَطاءً بدل من «جزاء». و قيل:

منتصب به نصب المفعول به، أي: جزاهم عطاء حِساباً صفة بمعنى: كافيا. من:

أحسبه الشي ء إذا كفاه حتّى قال: حسبي. و قيل: على حسب أعمالهم.

رَبِّ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ ما بَيْنَهُمَا بدل من «ربّك». و قد رفعه الحجازيّان و أبو عمرو على الابتداء.

الرَّحْمنِ صفة له، أي: من ربّهما المنعم على خلقه مؤمنهم و كافرهم. إلّا

______________________________

(1) فلك ثدي

الجارية: استدار. و تكعّبت الجارية: نهد ثديها، أي: ارتفع مكانه و انتبر و أشرف.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 312

في قراءة ابن عامر و عاصم و يعقوب برفع «الرحمن» وحده، على أنّه خبر مبتدأ محذوف، أي: هو الرّحمن، أو مبتدأ خبره لا يَمْلِكُونَ مِنْهُ خِطاباً. و على قراءة الحجازيّين «لا يملكون» خبر «ربّ السموات». أو خبره «الرحمن» و «لا يملكون» خبر بعد خبر.

و ضمير الجمع لأهل السماوات و الأرض، أي: لا يملكون خطابه و الاعتراض عليه في أمر الثواب و العقاب، لأنّهم مملوكون له على الإطلاق، فلا يستحقّون عليه اعتراضا في الزيادة و النقص. أو لا يملكون أن يخاطبوه بشي ء من نقص العذاب أو زيادة في الثواب إلّا أن يأذن لهم فيه، كما قال تقريرا و توكيدا لذلك:

يَوْمَ يَقُومُ الرُّوحُ وَ الْمَلائِكَةُ صَفًّا لا يَتَكَلَّمُونَ ظرف ل «لا يملكون» أو ل «يتكلّمون».

و الروح: ملك موكّل على الأرواح، أو جنسها، أو جبرئيل. و عن ابن عبّاس:

ملك أعظم من الملائكة و أشرف منهم، و أقرب من ربّ العالمين، ما خلق اللّه بعد العرش خلقا أعظم منه، فإذا كان يوم القيامة قام هو وحده صفّا، و قامت الملائكة كلّهم صفّا، فيكون عظم خلقه مثل صفّهم.

و

عن وهب: أنّ جبرئيل واقف بين يدي اللّه عزّ و جلّ ترتعد فرائصه، يخلق اللّه عزّ و جلّ من كلّ رعدة مائة ألف ملك، فالملائكة صفوف بين يدي اللّه عزّ و جلّ منكّسوا رؤوسهم ساكتين، فإذا أذن اللّه لهم في الكلام قالوا: لا إله إلّا أنت.

و ذلك معنى قوله: إِلَّا مَنْ أَذِنَ لَهُ الرَّحْمنُ في الكلام وَ قالَ صَواباً أي: شهد بالتوحيد. أو إلّا لمن أذن له في الشفاعة، فيشفع لمن ارتضى لا لغيره، لقوله: وَ

لا يَشْفَعُونَ إِلَّا لِمَنِ ارْتَضى «1».

و ملخّص المعنى: أنّ هؤلاء الّذين هم أفضل الخلائق و أشرفهم و أقربهم من اللّه، إذا لم يقدروا أن يتكلّموا بين يديه بما يكون صوابا- كالشفاعة لمن ارتضى- إلّا

______________________________

(1) الأنبياء: 28.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 313

بإذنه، فكيف يملكه غيرهم بغير إذنه؟ و هذا ردّ لزعم المشركين أنّ آلهتهم شفعاؤهم، كما حكاه سبحانه عنهم أنّ: هؤُلاءِ شُفَعاؤُنا عِنْدَ اللَّهِ «1».

و

روى معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «سئل عن هذه الآية فقال:

نحن و اللّه المأذون لهم يوم القيامة و القائلون بالصواب. قال: جعلت فداك؛ ما تقولون؟ قال: نمجّد ربّنا، و نصلّي على نبيّنا، و نشفع لشيعتنا، فلا يردّنا ربّنا». رواه العيّاشي مرفوعا.

و على هذا؛ المراد بالروح أرواح الأنبياء و الأوصياء. و يؤيّده ما

ورد في الحديث: «أنّ الروح خلق من خلق اللّه ليسوا بالملائكة، بل على صورة بني آدم، و هم يأكلون».

ذلِكَ الْيَوْمُ الْحَقُ الكائن لا محالة فَمَنْ شاءَ اتَّخَذَ إِلى رَبِّهِ إلى ثوابه و قرب منزلته لديه مَآباً مرجعا بالإيمان و الطاعة، فقد أزيحت العلل، و أوضحت السبل، و بلّغت الرسل.

ثمّ هدّد سبحانه كفّار مكّة بقوله: إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ عَذاباً قَرِيباً يعني: عذاب الآخرة. و قربه لتحقّقه، فإنّ كلّ ما هو آت قريب، و لأنّ مبدأه الموت يَوْمَ يَنْظُرُ الْمَرْءُ ما قَدَّمَتْ يَداهُ يرى ما قدّمه من خير أو شرّ.

و قيل: ينتظر جزاء ما قدّمه، فإن قدّم الطاعة انتظر الثواب، و إن قدّم المعصية انتظر العذاب. و المرء عام.

و قيل: هو الكافر، لقوله: «إِنَّا أَنْذَرْناكُمْ». فمعنى «ما قَدَّمَتْ يَداهُ» هو الشرّ، كقوله: وَ ذُوقُوا عَذابَ الْحَرِيقِ «2». ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيكُمْ «3».

______________________________

(1) يونس: 18.

(2) الأنفال: 50- 51.

(3) الأنفال: 50- 51.

زبدة

التفاسير، ج 7، ص: 314

وَ نُذِيقُهُ يَوْمَ الْقِيامَةِ عَذابَ الْحَرِيقِ «1». ذلِكَ بِما قَدَّمَتْ يَداكَ «2». بِما قَدَّمَتْ أَيْدِيهِمْ وَ اللَّهُ عَلِيمٌ بِالظَّالِمِينَ «3».

و «ما» موصولة منصوبة ب «ينظر». يقال: نظرته بمعنى: نظرت إليه. و الراجع من الصلة محذوف. أو استفهاميّة منصوبة ب «قدّمت» أي: ينظر أيّ شي ء قدّمت يداه؟

و على القول بأنّ المراد بالمرء هو الكافر يكون قوله: وَ يَقُولُ الْكافِرُ وضع الظاهر موضع الضمير لزيادة الذمّ. و المعنى: إنّا أنذرناكم عذابا في يوم ينظر الكافر عقوبة عقيدته الفاسدة و أعماله القبيحة، و يقول تحسّرا في ذلك اليوم: يا لَيْتَنِي كُنْتُ تُراباً في الدنيا، فلم أخلق، و لم أكلّف، فلا أعاد، و لا أحاسب، و لا أعاقب.

أو في هذا اليوم، فلم أبعث. و قيل: يحشر سائر الحيوانات للاقتصاص ثمّ تردّ ترابا، فيودّ الكافر حالها.

و عن ابن عمر: إذا كان يوم القيامة مدّت الأرض مدّ الأديم، و حشر الدوابّ و البهائم و الوحوش، ثمّ يجعل القصاص بين الدّوابّ، حتّى يقتصّ للشاة الجمّاء «4» من الشاة القرناء الّتي نطحتها.

و قال مجاهد: يقاد يوم القيامة للمنطوحة من الناطحة.

و قال المقاتلان: إنّ اللّه يجمع الوحوش و الهوامّ و الطير و كلّ شي ء غير الثقلين، فيقول: من ربّكم؟ فيقولون: الرحمن الرحيم. فيقول لهم الربّ بعد ما يقضي بينهم حتّى يقتصّ للجمّاء من القرناء: إنّا خلقناكم و سخّرناكم لبني آدم، و كنتم مطيعين أيّام حياتكم، فارجعوا إلى الّذي كنتم فكونوا ترابا، فتكون ترابا. فإذا التفت

______________________________

(1) الحجّ: 9- 10.

(2) الحجّ: 9- 10.

(3) الجمعة: 7.

(4) أي: الّتي لا قرن لها.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 315

الكافر إلى شي ء صار ترابا يتمنّى، فيقول: يا ليتني كنت في الدنيا على صورة الخنزير أرزق كرزقه، و كنت

اليوم- أي: في الآخرة- ترابا.

و قيل: المراد بالكافر إبليس، لمّا يرى آدم و ولده و ثوابهم يتمنّى أن يكون الشي ء الّذي احتقره حين قال: خَلَقْتَنِي مِنْ نارٍ وَ خَلَقْتَهُ مِنْ طِينٍ «1».

______________________________

(1) الأعراف: 12.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 317

(79) سورة النازعات

اشارة

مكّيّة. و هي ستّ و أربعون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «و من قرأ سورة و النازعات لم يكن حبسه و حسابه يوم القيامة إلّا كقدر صلاة مكتوبة حتّى يدخل الجنّة».

و

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «من قرأها لم يمت إلّا ريّان، و لم يبعثه اللّه إلّا ريّان».

[سورة النازعات (79): الآيات 1 الى 14]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ النَّازِعاتِ غَرْقاً (1) وَ النَّاشِطاتِ نَشْطاً (2) وَ السَّابِحاتِ سَبْحاً (3) فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً (4)

فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً (5) يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ (6) تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ (7) قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ (8) أَبْصارُها خاشِعَةٌ (9)

يَقُولُونَ أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ (10) أَ إِذا كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً (11) قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ (12) فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ (13) فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ (14)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 318

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة النبأ بذكر أحوال القيامة و أهوالها، افتتح هذه السورة بمثله، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* وَ النَّازِعاتِ أقسم سبحانه بملائكة الموت حين ينزعون أرواح الكفّار من أبدانهم غَرْقاً أي: إغراقا في النزع، فإنّهم ينزعونها من أقاصي الأبدان، من أناملها و أظفارها و جلودها. أو نفوسا غرقة في الأجساد.

وَ النَّاشِطاتِ نَشْطاً ينشطون، أي: يخرجون أرواح المؤمنين برفق، كما ينشط العقال من يد البعير. من: نشط الدلو من البئر إذا أخرجها.

وَ السَّابِحاتِ سَبْحاً يسبحون في إخراجها سبح الغوّاص الّذي يخرج الشي ء من أعماق البحر.

فَالسَّابِقاتِ سَبْقاً فيسبقون بأرواح الكفّار إلى النار، و بأرواح المؤمنين إلى الجنّة.

فَالْمُدَبِّراتِ أَمْراً فيدبّرون أمر عقابهم و ثوابهم، بأن يهيّؤها لإدراك ما أعدّ لها من الآلام و اللذّات.

و قيل: النزع و النشط لملائكة الموت، و البواقي لطوائف من الملائكة يسبحون في مضيّها، أي: يسرعون فيه، فيسبقون إلى ما

أمروا به، فيدبّرون أمرا من أمور العباد ممّا يصلحهم في دنياهم أو دينهم كما رسم لهم.

و قد ورد أنّ جبرئيل و ميكائيل و ملك الموت و إسرافيل يدبّرون أمور الدنيا.

أمّا جبرئيل فموكّل بالرياح و الجنود. و أمّا ميكائيل فموكّل بالقطر و النبات. و أمّا ملك الموت فموكّل بقبض الأنفس. و أمّا إسرافيل فهو يتنزّل بالأمر.

أو الكلّ صفات أنفس الغزاة أو أيديهم، تنزع القسيّ بإغراق السهام، و ينشطون بالسهم للرمي، و يسبحون في البرّ و البحر، فيسبقون إلى حرب العدوّ بالعدو التمام، فيدبّرون أمرها.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 319

أو صفات خيلهم، فإنّها تنزع في أعنّتها نزعا، بأن تجذب العنان عن يد فارسها، و تغرق في نزع الأعنّة لطول أعناقها، لأنّها عراب. و الّتي تخرج في دار الإسلام إلى دار الكفر، من قولك: ثور ناشط إذا خرج من بلد إلى بلد، و تسبح في جريها فتسبق إلى العدوّ، فتدبّر أمر الظفر. و إسناد التدبير إليها لأنّها من أسبابه.

أو صفات النفوس الفاضلة حال المفارقة، فإنّها تنزع أنفسها عن الأبدان غرقا، أي: نزعا شديدا لتشوّق المفارقة، فتنشط إلى عالم الملكوت و تسبح فيه، فتسبق إلى حظائر القدس فتصير لشرفها و قوّتها من المدبّرات. أو حال سلوكها، فإنّها تنزع عن الشهوات، فتنشط إلى عالم القدس، فتسبح في مراتب الارتقاء، فتسبق إلى الكمالات حتّى تصير من المكمّلات.

و عن ابن عبّاس: أنّ نفس المؤمنين تنشط عند الموت للخروج. و ذلك أنّه ما من مؤمن يحضره الموت إلّا عرضت عليه الجنّة قبل أن يموت، فيرى موضعه فيها و أزواجه من الحور العين، فنفسه تنشط أن تخرج.

أو صفات النجوم، فإنّها تنزع من المشرق إلى المغرب. و إغراقها في النزع أن تقطع الفلك كلّه حتّى تنحطّ

في أقصى المغرب، و تنشط من برج إلى برج- أي:

تخرج- و يسجن في الفلك، فيسبق بعضها في السير، لكونه أسرع حركة، فتدبّر أمرا نيط بها، كاختلاف الفصول، و تقدير الأزمنة، و ظهور مواقيت العبادات، و علم الحساب. و لمّا كانت حركاتها من المشرق إلى المغرب قسريّة- أي: لغيرها- و حركاتها من برج إلى برج ملائمة- أي: لنفسها- سمّى الأولى نزعا و الثانية نشطا.

و القول الأوّل منقول عن عليّ عليه السّلام و مقاتل و سعيد بن جبير.

و على التقادير؛ المقسم عليه محذوف، و هو: لتبعثنّ أو لتقومنّ الساعة. و إنّما حذف ليدلّ عليه قوله: يَوْمَ تَرْجُفُ الرَّاجِفَةُ و هو منصوب بجواب القسم. و المراد بالراجفة الأجرام الساكنة الّتي تشتدّ حركتها حينئذ، كالأرض و الجبال، لقوله

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 320

تعالى: يَوْمَ تَرْجُفُ الْأَرْضُ وَ الْجِبالُ «1». أو الواقعة الّتي ترجف الأجرام و يشتدّ اضطرابها عندها.

تَتْبَعُهَا الرَّادِفَةُ الواقعة التابعة للأولى. و هي انشقاق السماء و انتثار الكواكب، فإنّهما أثر الراجفة. و يجوز أن تكون الرادفة من قوله تعالى: عَسى أَنْ يَكُونَ رَدِفَ لَكُمْ بَعْضُ الَّذِي تَسْتَعْجِلُونَ «2» أي: القيامة الّتي يستعجلها الكفرة استبعادا لها، فهي الرادفة لهم لاقترابها. و الجملة في موضع الحال، أي: ترجف تابعتها الرادفة.

و إنّما جعل «يوم ترجف» ظرفا للمضمر الّذي هو «لتبعثنّ»، و لا يبعثون عند النفخة الأولى، لأنّ المعنى: لتبعثنّ في الوقت الواسع الّذي يقع فيه النفختان، و هم يبعثون في بعض ذلك الوقت الواسع، و هو وقت النفخة الاخرى. و دلّ على أنّ اليوم هو الوقت الواسع، أنّ اليوم زمان الرجفة المقيّدة بكونها متبوعة بالرادفة، فيكون الزمان واسعا للأمرين. فهي لا تنافي قوله: وَ نُفِخَ فِي الصُّورِ فَصَعِقَ مَنْ فِي السَّماواتِ

وَ مَنْ فِي الْأَرْضِ إِلَّا مَنْ شاءَ اللَّهُ ثُمَّ نُفِخَ فِيهِ أُخْرى فَإِذا هُمْ قِيامٌ يَنْظُرُونَ «3».

قُلُوبٌ يَوْمَئِذٍ واجِفَةٌ شديدة الاضطراب. من الوجيف، بمعنى شديد السرعة. وصفت بما يحدث بحدوثها، و هي النفخة الأولى.

أَبْصارُها خاشِعَةٌ أي: أبصار أصحابها ذليلة من الخوف، و لذلك أضافها إلى القلوب، فإنّها قلقة غير هادئة و ساكنة، لما عاينت من أهوال يوم القيامة. و رفع «قلوب» بالابتداء، و «واجفة» صفتها، و خبرها قوله: «أَبْصارُها خاشِعَةٌ». فهو

______________________________

(1) المزّمّل: 14.

(2) النمل: 72.

(3) الزمر: 68.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 321

كقوله: وَ لَعَبْدٌ مُؤْمِنٌ خَيْرٌ مِنْ مُشْرِكٍ «1».

يَقُولُونَ يقول منكروا البعث أَ إِنَّا لَمَرْدُودُونَ فِي الْحافِرَةِ في الحالة الأولى. يعنون الحياة بعد الموت. من قولهم: رجع فلان في حافرته، أي: طريقه الّتي جاء فيها فحفرها، أي: أثّر فيها بمشيه فيها. جعل أثر قدميه حفرا، كما قيل:

حفرت أسنانه حفرا، إذا أثّر الأكال في أسناخها «2». و الخطّ المحفور في الصخر. أو على النسبة، أي: منسوبة إلى الحفر، كقوله: عِيشَةٍ راضِيَةٍ «3». أو تشبيه القابل بالفاعل، كقولهم: نهارك صائم، أي: وقع فيها الحفر.

أَ إِذا قرأ نافع و ابن عامر و الكسائي: إذا، على الخبر كُنَّا عِظاماً نَخِرَةً بالية، أي: البالي الأجوف جدّا بحيث إن تمرّ فيها الريح يسمع له نخير. و قرأ الحجازيّان و الشامي و حفص و روح: نخرة «4». و هي أبلغ. و نصب «إذا» بمحذوف تقديره: أ إذا كنّا عظاما نردّ و نبعث.

قالُوا تِلْكَ إِذاً كَرَّةٌ خاسِرَةٌ منسوبة إلى الخسران، أو خاسر أصحابها.

و المعنى: أنّها إن صحّت فنحن إذا خاسرون، لتكذيبنا بها. و هو استهزاء منهم.

فَإِنَّما هِيَ زَجْرَةٌ واحِدَةٌ متعلّق بمحذوف، أي: لا يستصعبوها، فما هي- أي: النفخة الثانية- إلّا صيحة واحدة. يعني: لا

تحسبوا تلك الكرّة صعبة على اللّه عزّ و جلّ، فإنّها سهلة هيّنة في قدرته جدّا، فتحدث في أسرع زمان.

فَإِذا هُمْ بِالسَّاهِرَةِ فإذا هم أحياء على وجه الأرض بعد ما كانوا أمواتا في بطنها. و الساهرة الأرض البيضاء المستوية. سمّيت بذلك لأنّ السراب يجري فيها.

______________________________

(1) البقرة: 221.

(2) أسناخ السنّ: منبتها و أصولها. و الواحدة: سنخ.

(3) القارعة: 7.

(4) و القراءة الاخرى: ناخرة.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 322

من قولهم: عين ساهرة للّتي يجري ماؤها. و في ضدّها نائمة. أو لأنّ سالكها يسهر فلا ينام خوف الهلكة. و عن قتادة: هي اسم جهنّم.

[سورة النازعات (79): الآيات 15 الى 26]

هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى (15) إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً (16) اذْهَبْ إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى (17) فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى (18) وَ أَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ فَتَخْشى (19)

فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى (20) فَكَذَّبَ وَ عَصى (21) ثُمَّ أَدْبَرَ يَسْعى (22) فَحَشَرَ فَنادى (23) فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى (24)

فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَ الْأُولى (25) إِنَّ فِي ذلِكَ لَعِبْرَةً لِمَنْ يَخْشى (26)

و لمّا تقدّم ذكر المكذّبين للأنبياء المنكرين للبعث، عقّبه بحديث موسى و تكذيب قومه إيّاه، و ما قاساه من الشدائد تسلية لنبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و وعدا له بالنصر، و حثّا إيّاه على الصبر اقتداء بموسى، و تحذيرا لقومه أن ينزل بهم ما نزل بأولئك، و عظة لهم، و تأكيدا للحجّة عليهم، فقال:

هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ مُوسى أي: أليس قد أتاك حديثه فيسلّيك على تكذيب قومك، و تهدّدهم عليه بأن يصيبهم مثل ما أصاب من هو أعظم منهم؟! و الهمزة للتقرير. إِذْ ناداهُ رَبُّهُ بِالْوادِ الْمُقَدَّسِ طُوىً اسم واد. و قد مرّ «1» بيانه مفصّلا في سورة طه.

______________________________

(1) راجع ج 4 ص

227، ذيل الآية (12) من سورة طه.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 323

اذْهَبْ على إرادة القول، أي: قال اللّه تعالى له: اذهب إِلى فِرْعَوْنَ إِنَّهُ طَغى تجاوز الحدّ في الاستعلاء و التمرّد.

فَقُلْ هَلْ لَكَ إِلى أَنْ تَزَكَّى هل لك الميل إلى أن تتطهّر من الكفر و الطغيان؟

يقال: هل لك في كذا؟ و هل لك إلى كذا؟ كما يقال: هل ترغب فيه؟ و هل ترغب إليه؟ و معناه: العرض، كما يقول الرجل لضيفه: هل لك أن تنزل بنا؟ أمره سبحانه أن يقول له الكلام الرقيق الليّن ليستدعيه بالتلطّف في القول، و يستنزله بالمداراة من عتوّه، كما أمر بذلك في قوله: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً «1». و قرأ الحجازيّان و يعقوب:

تزكّى بالتشديد.

وَ أَهْدِيَكَ إِلى رَبِّكَ و أرشدك إلى معرفة اللّه، و أنبّهك عليه فتعرفه فَتَخْشى بأداء واجباته المأمورة و ترك محرّماته المنهيّة، إذ الخشية بعد المعرفة، و قد قال اللّه تعالى: إِنَّما يَخْشَى اللَّهَ مِنْ عِبادِهِ الْعُلَماءُ «2» أي: العلماء العرفاء به.

و ذكر الخشية لأنّها ملاك الأمر، فإنّ من خشي اللّه أتى منه كلّ خير، و من أمن اجترأ على كلّ شرّ. و منه

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من خاف أدلج «3»، و من أدلج بلغ المنزل».

و هذا كالتفصيل، لقوله: فَقُولا لَهُ قَوْلًا لَيِّناً «4».

فَأَراهُ الْآيَةَ الْكُبْرى أي: فذهب فأراه المعجزة الكبرى، و هي قلب العصا حيّة، فإنّها كان المقدّم و الأصل، و الآيات الاخرى كالتبع لها. أو مجموع معجزاته، فإنّها باعتبار دلالتها كالآية الواحدة.

فَكَذَّبَ بموسى و الآية الكبرى، فسمّاهما ساحرا و سحرا وَ عَصى و عصى اللّه بعد ما علم صحّة الأمر، و أنّ الطاعة قد وجبت عليه.

______________________________

(1) طه: 44.

(2) فاطر: 28.

(3) أدلج القوم:

ساروا الليل كلّه أو في آخره.

(4) طه: 44.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 324

ثُمَّ أَدْبَرَ عن الطاعة يَسْعى ساعيا في إبطال أمره. أو أدبر بعد ما رأى الثعبان مرعوبا مسرعا في مشيه. عن الحسن: كان رجلا طيّاشا خفيفا.

فَحَشَرَ فجمع السحرة، كقوله: فَأَرْسَلَ فِرْعَوْنُ فِي الْمَدائِنِ حاشِرِينَ «1».

فَنادى بنفسه في المجمع الّذي اجتمعوا فيه معه، أو أمر مناديا فنادى من قبله.

و الأصحّ أنّه قام فيهم خطيبا.

فَقالَ أَنَا رَبُّكُمُ الْأَعْلى أي: لا ربّ فوقي، أو أعلى من كلّ من يلي أمركم.

و قيل: معناه: أنا الّذي أنال بالضرر من شئت، و لا ينالني غيري. و كذب اللعين، إنّما هذه صفة اللّه الّذي خلقه و خلق جميع الخلائق. و قيل: إنّه جعل الأصنام أربابا فقال: أنا ربّكم و ربّها.

فَأَخَذَهُ اللَّهُ نَكالَ الْآخِرَةِ وَ الْأُولى أخذا منكّلا لمن رآه أو سمعه، في الآخرة بالإحراق، و في الدنيا بالإغراق. أو مصدر مؤكّد، كوعد اللّه، و صبغة اللّه. تقديره:

نكّل اللّه به نكال الآخرة و الأولى. أو أخذه اللّه على نكال كلمته الآخرة، و هي هذه، و كلمته الأولى، و هي قوله: ما عَلِمْتُ لَكُمْ مِنْ إِلهٍ غَيْرِي «2». أو للتنكيل في الدارين للكلمتين.

و

عن أبي جعفر عليه السّلام: «أنّه كان بين الكلمتين أربعون سنة».

و

عن وهب، عن ابن عبّاس قال: قال موسى عليه السّلام: يا ربّ إنّك أمهلت فرعون أربعمائة سنة و هو يقول: أنا ربّكم الأعلى، و يجحد رسلك، و يكذّب بآياتك.

فأوحى اللّه تعالى إليه أنّه كان حسن الخلق سهل الحجاب، فأحببت أن أكافيه.

و

روى أبو بصير عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قال جبرئيل عليه السّلام: قلت: يا ربّ تدع فرعون و قد قال: أنا

ربّكم الأعلى؟ فقال: إنّما يقول

______________________________

(1) الشعراء: 53.

(2) القصص: 38. زبدة التفاسير، ج 7، ص: 325

هذا مثلك من يخاف الفوت».

إِنَّ فِي ذلِكَ الّذي فعل بفرعون حين كذّب و عصى لَعِبْرَةً لعظة لِمَنْ يَخْشى لمن كان من شأنه الخشية.

[سورة النازعات (79): الآيات 27 الى 33]

أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ خَلْقاً أَمِ السَّماءُ بَناها (27) رَفَعَ سَمْكَها فَسَوَّاها (28) وَ أَغْطَشَ لَيْلَها وَ أَخْرَجَ ضُحاها (29) وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ دَحاها (30) أَخْرَجَ مِنْها ماءَها وَ مَرْعاها (31)

وَ الْجِبالَ أَرْساها (32) مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ (33)

و لمّا قدم سبحانه ما أتى به موسى، و ما قابله به فرعون، و ما عوقب به في الدارين، عظة لمن كان على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و تحذيرا لهم من المثلات، خاطب عقيب ذلك منكري البعث، فقال:

أَ أَنْتُمْ أَشَدُّ أصعب خَلْقاً أَمِ السَّماءُ أي: أخلقكم بعد الموت أشدّ عندكم و في تقديركم أم السماء؟ و هما في قدرة اللّه على السواء. ثمّ بيّن كيف خلقها فقال: بَناها.

ثمّ فسّر البناء بقوله: رَفَعَ سَمْكَها أي: جعل مقدار ارتفاعها من الأرض، أو الذاهب في سمت العلوّ رفيعا مسيرة خمسمائة عام فَسَوَّاها فعدلها مستوية ملساء، ليس فيها تفاوت و لا فطور أصلا. أو فتمّمها بما علم أنّه صلاحها و كمالها، من الكواكب و التداوير الّتي ليست بشاملة على الأرض و غين ها. من قولهم: سوّى فلان أمره إذا أصلحه.

وَ أَغْطَشَ لَيْلَها أظلمه. من: غطش الليل إذا أظلم، كقولك: ظلم و أظلمه.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 326

و يقال أيضا: أغطش الليل، كما يقال: أظلم. فجاءا متعدّيين و لازمين. وَ أَخْرَجَ ضُحاها و أبرز ضوء شمسها، لقوله: وَ الشَّمْسِ وَ ضُحاها «1» يريد النهار.

و قولهم: وقت الضحى للوقت الّذي تشرق فيه

الشمس و يقوم سلطانها. و إنّما أضاف الليل و الضحى إلى السماء، لأنّهما يحدثان بحركتها، و لأنّ الليل ظلّها، و الضحى الشعاع المنبثّ في جوّها.

وَ الْأَرْضَ بَعْدَ ذلِكَ بعد خلق السماء دَحاها بسطها و مهّدها للسكنى.

قال ابن عبّاس: إنّ اللّه تعالى دحا الأرض بعد السماء و إن كانت الأرض خلقت قبل السماء، و كانت ربوة مجتمعة تحت الكعبة فبسطها. و قال مجاهد و السدّي: معناه:

و الأرض مع ذلك دحاها، كما قال: عُتُلٍّ بَعْدَ ذلِكَ زَنِيمٍ «2» أي: مع ذلك.

أَخْرَجَ مِنْها ماءَها بتفجير العيون وَ مَرْعاها و رعيها. و هو في الأصل موضع الرعي. و المراد ما يأكل الناس و الأنعام، من الثمار و الأشجار و الحبوب و سائر النباتات. و استعير الرعي للإنسان، كما استعير الرتع في قوله: يَرْتَعْ وَ يَلْعَبْ «3».

وَ الْجِبالَ أَرْساها أثبتها. و تجريد «أخرج» عن العاطف لوجهين:

أحدهما: أن يكون معنى «دحاها»: بسطها و مهّدها للسكنى. ثمّ فسّر التمهيد بما لا بدّ منه في تأتّي سكناها، من تسوية أمر المأكل و المشرب، و إمكان القرار عليها، و السكون بإخراج الماء و المرعى، و إرساء الجبال، و إثباتها أوتادا لها حتّى تستقرّ و يستقرّ عليها.

و الثاني: أن يكون «أخرج» حالا بإضمار «قد» كقوله:

______________________________

(1) الشمس: 1.

(2) القلم: 13.

(3) يوسف: 12.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 327

أَوْ جاؤُكُمْ حَصِرَتْ صُدُورُهُمْ «1».

مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ أي: خلق ما ذكر تمتيعا لكم. أو متّع اللّه بذلك تمتيعا لكم و لمواشيكم.

[سورة النازعات (79): الآيات 34 الى 41]

فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الْكُبْرى (34) يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى (35) وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ لِمَنْ يَرى (36) فَأَمَّا مَنْ طَغى (37) وَ آثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا (38)

فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى (39) وَ أَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ وَ نَهَى النَّفْسَ

عَنِ الْهَوى (40) فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى (41)

و لمّا دلّ سبحانه بهذه الأشياء على صحّة البعث، وصف يومه بقوله: فَإِذا جاءَتِ الطَّامَّةُ الداهية الّتي تطمّ، أي: تعلو و تغلب على سائر الدواهي الْكُبْرى الّتي هي أكبر الطامّات. و هي القيامة، لطمومها على كلّ هائلة، أي: ما من طامّة إلّا و فوقها طامّة، و القيامة فوق كلّ طامّة، فهي الداهية العظمى. و قيل: هي النفخة الثانية، أو الساعة الّتي يساق فيها أهل الجنّة إلى الجنّة، و أهل النار إلى النار.

و جواب «فإذا» محذوف، تقديره: فوقع ما لا يدخل تحت الوصف. و يدلّ عليه قوله: يَوْمَ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ ما سَعى ما عمله من خير و شرّ، بأن يراه مدوّنا في صحيفته، و كان قد نسيها من فرط الغفلة أو طول المدّة. و هو بدل من «إذا جاءت». و «ما» موصولة أو مصدريّة.

وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ و أظهرت لِمَنْ يَرى لكلّ راء بحيث لا تخفى على

______________________________

(1) النساء: 90.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 328

أحد. فَأَمَّا مَنْ طَغى تجاوز الحدّ الّذي حدّه اللّه له، و ارتكب المعاصي العظيمة حتّى كفر وَ آثَرَ الْحَياةَ الدُّنْيا انهمك فيها، و لم يستعدّ للآخرة بالعبادة و تهذيب النفس. و الإيثار إرادة الشي ء على طريقة التفضيل له على غيره. فَإِنَّ الْجَحِيمَ هِيَ الْمَأْوى مأواه. و اللام فيه سادّة مسدّ الإضافة، للعلم بأنّ صاحب المأوى هو الطاغي.

وَ أَمَّا مَنْ خافَ مَقامَ رَبِّهِ مقام مساءلة ربّه عمّا يجب عليه فعله أو تركه وَ نَهَى النَّفْسَ النفس الأمّارة بالسوء عَنِ الْهَوى عن اتّباع الشهوات و زجرها عنه، و ضبطها بالصبر و التوطين على إيثار الخير، لعلمه بأنّه مرد فَإِنَّ الْجَنَّةَ هِيَ الْمَأْوى ليس له سواها مأوى.

[سورة النازعات (79): الآيات 42 الى 46]

يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ

أَيَّانَ مُرْساها (42) فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها (43) إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها (44) إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها (45) كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا إِلاَّ عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها (46)

ثمّ خاطب نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بقوله: يَسْئَلُونَكَ عَنِ السَّاعَةِ استهزاء و إنكارا أَيَّانَ مُرْساها متى إرساؤها. أي: إقامتها و إثباتها، بأن يقيمها اللّه و يثبتها و يكوّنها. أو منتهاها و مستقرّها، كما أنّ مرسى السفينة مستقرّها حيث تنتهي إليه و تستقرّ فيه.

فِيمَ أَنْتَ مِنْ ذِكْراها في أيّ شي ء أنت من أن تذكر وقتها لهم، أي: ما أنت من ذكرها لهم و تبيين وقتها في شي ء، فإنّ ذكرها لا يزيدهم إلّا غيّا، و وقتها ممّا استأثره اللّه بعلمه. و روي: أنّه لم يزل رسول اللّه يذكر الساعة يسأل عنها حتّى نزلت. فهو على هذا تعجّب من كثرة ذكره لها، كأنّه قيل: في أيّ شغل و اهتمام أنت

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 329

من ذكرها و السؤال عنها. و المعنى: أنّهم يسألونك عنها، فلحرصك على جوابهم لا تزال تذكرها و تسأل عنها.

و قيل: «فيم» إنكار لسؤالهم. و «أَنْتَ مِنْ ذِكْراها» مستأنف، معناه: أنت ذكر من ذكراها، أي: علامة من أشراطها، فإنّ إرسالك خاتما للأنبياء أمارة من أماراتها.

فكفاهم بذلك دليلا على دنوّها و مشارفتها، و وجوب الاستعداد لها. و لا معنى لسؤالهم عنها.

ثمّ قال: إِلى رَبِّكَ مُنْتَهاها أي: منتهى علمها لم يؤت علمها أحدا من خلقه.

إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها أي: منتهى علمها لم يؤت علمها أحدا من خلقه.

إِنَّما أَنْتَ مُنْذِرُ مَنْ يَخْشاها أي: لم تبعث لتعلّمهم وقت الساعة الّذي لا فائدة لهم في علمه، و إنّما بعثت لتنذر من أهوالها من يخاف هولها، و يكون إنذارك

لطفا له في الخشية منها. و عن أبي عمرو: منذر بالتنوين، و الإعمال على الأصل.

و كلاهما يصلحان للحال و الاستقبال، فإذا أريد الماضي فليس إلّا الإضافة، كقولك:

هو منذر زيد أمس.

كَأَنَّهُمْ يَوْمَ يَرَوْنَها لَمْ يَلْبَثُوا أي: في الدنيا. و قيل: في القبور. إِلَّا عَشِيَّةً أَوْ ضُحاها أي: عشيّة يوم أوضحاه. و أضاف الضحى إلى العشيّة لما بينهما من الملابسة، لاجتماعهما في نهار واحد. و إنّما لم يقل: إلّا عشيّة أو ضحى، للدلالة على أنّ مدّة لبثهم كأنّها لم تبلغ يوما كاملا، و لكن ساعة منه: عشيّته أو ضحاه، فلمّا ترك اليوم أضافه إلى عشيّته، فهو كقوله تعالى: لَمْ يَلْبَثُوا إِلَّا ساعَةً مِنْ نَهارٍ «1».

______________________________

(1) الأحقاف: 35.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 331

(80) سورة عبس

اشارة

مكّيّة. و هي اثنان و أربعون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «و من قرأ سورة عبس جاء يوم القيامة و وجهه ضاحك مستبشر».

و

روى معاوية بن وهب عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة عبس و تولّى و إذا الشمس كوّرت كان تحت جناح اللّه في الجنان، و في ظلّ اللّه و كرامته في جنانه، و لا يعظم ذلك على ربّه عزّ و جلّ».

[سورة عبس (80): الآيات 1 الى 16]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

عَبَسَ وَ تَوَلَّى (1) أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى (2) وَ ما يُدْرِيكَ لَعَلَّهُ يَزَّكَّى (3) أَوْ يَذَّكَّرُ فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى (4)

أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى (5) فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى (6) وَ ما عَلَيْكَ أَلاَّ يَزَّكَّى (7) وَ أَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى (8) وَ هُوَ يَخْشى (9)

فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى (10) كَلاَّ إِنَّها تَذْكِرَةٌ (11) فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ (12) فِي صُحُفٍ مُكَرَّمَةٍ (13) مَرْفُوعَةٍ مُطَهَّرَةٍ (14)

بِأَيْدِي سَفَرَةٍ (15) كِرامٍ بَرَرَةٍ (16)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 332

و لمّا ختم اللّه عزّ و جلّ سورة النازعات بذكر إنذار من يخشى القيامة، افتتح هذه السورة بذكر إنذاره قوما يرجو إسلامهم و إعراضه عمّن يخشى.

و سبب نزول هذه السورة أنّه أتى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ابن أمّ مكتوم- و أمّ مكتوم أمّ أبيه لأمّه، و اسمه عبد اللّه بن شريح بن مالك بن ربيعة الفهري من بني عامر بن لؤيّ- و عند الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صناديد قريش: عتبة و شيبة ابنا ربيعة، و أبو جهل بن هشام، و العبّاس بن عبد المطّلب، و أميّة بن خلف، و الوليد بن المغيرة، يدعوهم إلى الإسلام رجاء أن يسلم بإسلامهم غيرهم.

فقال ابن أمّ مكتوم: يا رسول اللّه أقرئني و علّمني ممّا علمك اللّه. و كرّر ذلك و هو لا يعلم تشاغله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، بالقوم. فكره رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قطع ابن أمّ مكتوم كلامه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم،؟؟؟ الصناديد: إنّما أتباعه العميان و العبيد، و عبس و أعرض عنه على القوم الّذين يكلّمهم. فعاتبه اللّه سبحانه بنزول هذه السورة.

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* عَبَسَ و قبض وجهه وَ تَوَلَّى و أعرض بوجهه أَنْ جاءَهُ الْأَعْمى لأن جاءه هذا الأعمى. منصوب المحلّ ب «تولّى» أو ب «عبس» على اختلاف المذهبين. و ذكر الأعمى للإشعار بعذره في الإقدام على قطع كلام الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالقوم، و الدلالة على أنّه أحقّ بالرأفة و الرفق. أو لزياد العتاب و الإنكار، كأنّه قال: عبس و تولّى لكونه أعمى، و كان يجب أن يزيده لعما تعطّفا و ترأّفا و تقريبا و ترحيبا. و لأجل ذلك أيضا التفت عن الغيبة إلى الخطاب كمن يشكو إلى الناس جانيا جنى عليه، ثمّ يقبل على الجاني إذا حمي في الشكاية مواجها له بالعتاب و التوبيخ، فقال:

وَ ما يُدْرِيكَ أي: و أيّ شي ء يجعلك داريا، أي: عالما بحال هذا الأعمى لَعَلَّهُ يَزَّكَّى يتطهّر من الآثام بما يتلقّف منك. و فيه إيماء بأنّ إعراضه كان لتزكية؟

غيره.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 333

أَوْ يَذَّكَّرُ يتّعظ بما يعلّمه من مواعظ القرآن فَتَنْفَعَهُ الذِّكْرى فتنفعه موعظتك، و تكون له لطفا في بعض الطاعات. و المعنى: إنّك لا تدري ما هو مترقّب منه من تزكّ أو تذكّر، و لو دريت لما فرط منك ذلك. قالوا: و

في هذا لطف من اللّه عظيم لنبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، إذ لم يخاطبه في باب العبوس، فلم يقل: عبست، فلمّا جاوز العبوس عاد إلى الخطاب و قال: و ما يدريك.

و قيل: الضمير في «لعلّه» للكافر، أي: إنّك طمعت في أن يتزكّى بالإسلام، أو يتذكّر فتقرّبه الذكرى إلى قبول الحقّ، و لذلك أعرضت عن غيره، فما يدريك أنّ ما طمعت فيه كائن. و قرأ عاصم بالنصب جوابا ل «لعلّ»، كقوله: فَأَطَّلِعَ إِلى إِلهِ مُوسى «1».

أَمَّا مَنِ اسْتَغْنى بكثرة الأموال و الخدم و الحشم فَأَنْتَ لَهُ تَصَدَّى تتعرّض بالإقبال عليه. و المصاداة: المعارضة. و أصله: تتصدّى. و قرأ ابن كثير و نافع: تصدّى.

وَ ما عَلَيْكَ أَلَّا يَزَّكَّى و ليس عليك باس في أن لا يتزكّى بالإسلام، حتّى يبعثك الحرص على إسلامه إلى الإعراض. أو أيّ شي ء يلزمك إن لم يسلم، فإنّه ليس عليك إلّا البلاغ.

وَ أَمَّا مَنْ جاءَكَ يَسْعى يسرع طالبا للخير وَ هُوَ يَخْشى يخشى اللّه، أو يخشى أذيّة الكفّار في إتيانك، أو عثرة الطريق، لأنّه أعمى لا قائد له فَأَنْتَ عَنْهُ تَلَهَّى تتشاغل. يقال: لها عنه و التهى و تلهّى. و لعلّ ذكر التصدّي و التلهّي للإشعار بأنّ العتاب على اهتمام قلبه بالغنيّ و تلهّيه عن الفقير. و في تكرير ضمير الخطاب إفادة الاختصاص. و معناه: مثلك خصوصا لا ينبغي أن يتصدّى للغنيّ و يتلهّى عن الفقير.

______________________________

(1) غافر: 37.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 334

روي: أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان بعد نزول هذه الآيات يكرم ابن مكتوم، و يقول إذا رآه:

مرحبا بمن عاتبني فيه ربّي. و يقول له: هل لك من حاجة؟ و استخلفه على المدينة مرّتين.

و قال أنس:

رأيته يوم القادسيّة- و هو يوم فتح المدائن بعد وفاة رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم- و عليه درع، و له راية سوداء.

و

روي عن الصادق عليه السّلام أنّه قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا رأى عبد اللّه بن أمّ مكتوم قال: مرحبا مرحبا لا و اللّه لا يعاتبني اللّه فيك أبدا».

و

روي: أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ما عبس بعدها في وجه فقير قطّ، و لا تصدّى لغنيّ. و لقد تأدّب الناس بأدب اللّه و رسوله في هذا تأدّبا حسنا،

فقد روي عن سفيان الثوري:

أنّ الفقراء كانوا في مجلسه أمراء.

و اعلم أنّ علم الهدى قدّس اللّه روحه أنكر أن يكون المعاتب في هذه الآيات هو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قال في تنزيه الأنبياء: «ليس في ظاهر الآية دلالة على توجّهها إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، بل هو خبر محض لم يصرّح بالمخبر عنه. و فيها ما يدلّ على أن المعنيّ بها غيره، لأنّ العبوس ليس من صفات النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع الأعداء المباينين، فضلا عن المؤمنين المسترشدين. ثمّ الوصف بأنّه يتصدّى للأغنياء و يتلهّى عن الفقراء لا يشبه أخلاقه الكريمة.

و يؤيّد هذا القول قوله سبحانه في وصفه عليه السّلام: وَ إِنَّكَ لَعَلى خُلُقٍ عَظِيمٍ «1».

و قوله: وَ لَوْ كُنْتَ فَظًّا غَلِيظَ الْقَلْبِ لَانْفَضُّوا مِنْ حَوْلِكَ «2». فالظاهر أنّ قوله: «عبس و تولّى» المراد به غيره. و

قد روي عن الصادق عليه السّلام أنّها نزلت في رجل من بني أميّة كان عند النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فجاء ابن أمّ

مكتوم، فلمّا رآه تقذّر منه و جمع نفسه و عبس و أعرض بوجهه، فحكى اللّه سبحانه ذلك و أنكره عليه.

______________________________

(1) القلم: 4.

(2) آل عمران: 159.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 335

فإن قيل: فلو صحّ الخبر الأوّل هل يكون العبوس ذنبا أم لا؟

فالجواب: أنّ العبوس و الانبساط مع الأعمى سواء، إذ لا يشقّ عليه ذلك، فلا يكون ذنبا. فيجوز أن يكون عاتب اللّه سبحانه بذلك نبيّه ليأخذه بأوفر محاسن الأخلاق، و ينبّهه بذلك على عظم حال المؤمن المسترشد، و يعرّفه أنّ تأليف المؤمن ليقيم على إيمانه أولى من تأليف المشرك طمعا في إيمانه.

و قال الجبائي: في هذا دلالة على أنّ الفعل يكون معصية فيما بعد، لمكان النهي. فأمّا في الماضي فلا يدلّ على أنّه كان معصية قبل أن ينهى عنه، و اللّه سبحانه لم ينبّهه إلّا في هذا الوقت.

و قيل: إنّ ما فعله الأعمى كان نوعا من سوء الأدب، فحسن تأديبه بالإعراض عنه، إلّا أنّه كان يجوز أن يتوهّم أنّه إنّما أعرض عنه لفقره، و أقبل عليهم لرئاستهم تعظيما لهم، فعاتبه اللّه سبحانه على ذلك» «1» انتهى كلامه.

و أنا أقول: ما

روي عن الصادق عليه السّلام أنّه «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا رأى عبد اللّه بن أمّ مكتوم قال: مرحبا مرحبا لا و اللّه لا يعاتبني اللّه فيك أبدا»

لا يدلّ على أنّ العابس و المتولّي عن الأعمى هو النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لجواز أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا نزلت الآيات في معاتبة الرجل المذكور فيما فعل بالأعمى عرف حال الأعمى و مكانته عند اللّه، فقال ذلك إجلالا و تعظيما له، و زجرا لنفسه عن أن

يصدر منه ما صدر من الرجل المذكور.

كَلَّا ردع عن المعاتب عليه، أو عن معاودة مثله. و المعنى: انزجر عن مثل ذلك، و لا تعد لذلك. و في هذا الردع دلالة على أنّه ليس له أن يفعل ذلك في المستقبل، و أمّا الماضي فلمّا لم يتقدّم النهي عن ذلك فيه فلا يكون معصية. إِنَّها تَذْكِرَةٌ

______________________________

(1) تنزيه الأنبياء: 118- 119.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 336

موعظة يجب الاتّعاظ بها و العمل بموجبها.

فَمَنْ شاءَ ذَكَرَهُ حفظه، أو اتّعظ به. و الضميران للقرآن، أو للعتاب المذكور. و تأنيث الأوّل لتأنيث خبره. و يحتمل أن يكون الضمير الأوّل راجعا إلى المواعظ المذكورة، و الثاني إلى «تذكرة». و تذكيره لأنّ التذكرة في معنى الذكر. و في هذا دلالة على أنّ العبد قادر على الفعل مخيّر فيه.

فِي صُحُفٍ مثبتة فيها. صفة ل «تذكرة»، أو خبر ثان، أو خبر لمحذوف.

مُكَرَّمَةٍ عند اللّه مَرْفُوعَةٍ في السماء، أو مرفوعة المقدار مُطَهَّرَةٍ منزّهة عن أيدي الكفرة أو الشياطين، لا يمسّها إلّا أيدي ملائكة مطهّرين بِأَيْدِي سَفَرَةٍ أي: كتبة من الملائكة الّذين ينتسخون الكتب المنزلة على الأنبياء من اللوح. أو من الأنبياء الّذين ينتسخونها من الوحي.

و قيل: المراد بالصحف اللوح. و جمعها باعتبار أنواع الحكم و فنون الوقائع فيه.

و قيل: السفرة القرّاء من أمّة محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يكتبونها و يقرءونها. أو سفراء يسفرون بالوحي بين اللّه و رسله. من السفر على الأوّل، و السفارة على الثاني.

و التركيب للكشف. يقال: سفرت المرأة إذا كشفت وجهها.

و يؤيّد الأوّل قوله تعالى: إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى «1». و ما نقل عن مقاتل أنّ القرآن كان ينزل من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا ليلة القدر إلى الكتبة من

الملائكة، ثمّ ينزل به جبرئيل عليه السّلام إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

كِرامٍ أعزّاء على اللّه. أو متعطّفين على المؤمنين، يكلّمونهم و يستغفرون لهم. و قيل: كرام عن المعاصي، يرفعون أنفسهم عنها. بَرَرَةٍ أتقياء.

______________________________

(1) الأعلى: 18.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 337

[سورة عبس (80): الآيات 17 الى 23]

قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ (17) مِنْ أَيِّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ (18) مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ (19) ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ (20) ثُمَّ أَماتَهُ فَأَقْبَرَهُ (21)

ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ (22) كَلاَّ لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ (23)

ثمّ ذكر سبحانه المكذّبين بالقرآن، فقال: قُتِلَ الْإِنْسانُ أهلك و لعن. دعاء عليه بأشنع الدعوات، لأنّ القتل قصارى شدائد الدنيا و فظائعها. ما أَكْفَرَهُ تعجّب من إفراطه في كفران اللّه و نعمته. و هو مع قصره يدلّ على سخط عظيم و ذمّ بليغ.

قال صاحب الكشّاف: «و لا ترى أسلوبا أغلظ منه، و لا أخشن مسّا، و لا أدلّ على سخط، و لا أبعد شوطا في المذمّة، مع تقارب طرفيه، و لا أجمع للأئمّة على قصر متنه» «1».

و اللام إشارة إلى كلّ كافر. و عن الضحّاك: هو أميّة بن خلف. و قيل: عتبة بن أبي لهب، إذ قال: كفرت بربّ النجم إذا هوى.

ثمّ بيّن وصف حاله من ابتداء حدوثه إلى أن انتهى، و ما هو مغمور فيه من أصول النعم و فروعها، و ما هو غارز فيه رأسه من الكفران و الغمط و قلّة الالتفات، إلى ما يتقلّب فيه، و إلى ما يجب عليه من القيام بالشكر، فقال:

مِنْ أَيِّ شَيْ ءٍ خَلَقَهُ الاستفهام للتحقير، أي: أيّ شي ء حقير مهين خلقه؟

و لذلك أجاب عنه بقوله: مِنْ نُطْفَةٍ خَلَقَهُ فَقَدَّرَهُ فهيّأه لما يصلح له و يختصّ به من الأعضاء و الأشكال. أو فقدّره أطوارا

إلى أن تمّ خلقته.

ثُمَّ السَّبِيلَ يَسَّرَهُ ثمّ سهّل مخرجه من بطن أمّه، بأن فتح فوهة «2» الرحم،

______________________________

(1) الكشّاف 4: 703.

(2) فوهة الشي ء و فوّهته: فمه.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 338

و ألهمه أن ينتكس. أو ذلّل له سبيل الخير و الشرّ بإقداره و تمكينه، كقوله: إِنَّا هَدَيْناهُ السَّبِيلَ «1». و عن ابن عبّاس: بيّن له السبيلين. و نصب «السبيل» بفعل يفسّره الظاهر، للمبالغة في التيسير. و تعريفه باللام دون الإضافة للإشعار بأنّه سبيل عامّ. و فيه- على المعنى الأخير- إيماء بأنّ الدنيا طريق و المقصد غيرها. و لذلك عقّبه بقوله:

ثُمَّ أَماتَهُ عدّ الإماتة في النعم، لأنّ الإماتة وصلة في الجملة إلى الحياة الأبديّة و اللذّات الخالصة فَأَقْبَرَهُ فجعله ذا قبر يوارى فيه تكرمة له، و لم يجعله مطروحا على وجه الأرض جزرا للسباع و الطير كسائر الحيوان. يقال: قبر الميّت إذا دفنه، و أقبره إذا أمره أن يقبره و مكّنه منه.

ثُمَّ إِذا شاءَ أَنْشَرَهُ أنشأه النشأة الأخرى. و في «إذا شاء» إشعار بأنّ وقت النشور غير متعيّن في نفسه، و إنّما هو موكول إلى مشيئته.

كَلَّا ردع للإنسان عمّا هو عليه لَمَّا يَقْضِ ما أَمَرَهُ لم يقض بعد- مع تطاول الزمان و امتداده من لدن آدم إلى هذه الغاية- ما أمره اللّه بأسره حتّى يخرج من جميع أوامره، إذ لا يخلو أحد من تقصير مّا.

[سورة عبس (80): الآيات 24 الى 32]

فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ (24) أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا (25) ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا (26) فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا (27) وَ عِنَباً وَ قَضْباً (28)

وَ زَيْتُوناً وَ نَخْلاً (29) وَ حَدائِقَ غُلْباً (30) وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا (31) مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ (32)

______________________________

(1) الإنسان: 3.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 339

و لمّا عدّد النعم الذاتيّة أتبعه

ذكر النعم الخارجيّة، و هي ما يحتاج إليه في التعيّش، فقال: فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ إِلى طَعامِهِ مطعمه الّذي يعيش به، و يتفكّر كيف دبّرنا أمره من أسباب التعيّش.

ثمّ استأنف بيان كيفيّة إحداث الطعام بقوله: أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا يعني:

الغيث. و قرأ الكوفيّون بالفتح «1» على البدل من «طعامه» بدل الاشتمال.

ثُمَّ شَقَقْنَا الْأَرْضَ شَقًّا أي: بالنبات. أو بالكراب «2» على البقر. و حينئذ أسند الشقّ إلى نفسه إسناد الفعل إلى السبب.

فَأَنْبَتْنا فِيها حَبًّا جنس الحبوب الّتي يتقوّت بها، كالحنطة و الشعير وَ عِنَباً خصّه لكثرة منافعه وَ قَضْباً يعني: الرطبة. و المقضاب: أرضه.

سمّيت بمصدر: قضبه إذا قطعه، لأنّها تقضب مرّة بعد اخرى.

وَ زَيْتُوناً يعصر عنه الزيت وَ نَخْلًا جمع نخلة وَ حَدائِقَ غُلْباً يحتمل أن يجعل كلّ حديقة غلباء. فيريد تكاثفها و كثرة أشجارها و عظمها، كما تقول: حديقة ضخمة. و أن يجعل شجرها غلبا، أي: عظاما غلاظا. و الأصل في الوصف بالغلب: الرقاب، فاستعير.

وَ فاكِهَةً و سائر ألوان الفواكه وَ أَبًّا و مرعى. من: أبّ إذا أمّ، لأنّه يؤمّ و ينتجع «3». و الأبّ و الأمّ أخوان. أو من: أبّ لكذا إذا تهيّأ له، لأنّه متهيّئ للرعي. أو فاكهة يابسة تؤبّ للشتاء. و نقل في الكشّاف «4» عن أبي بكر أنّه سئل عن الأبّ، فقال: أيّ سماء تظلّني، و أيّ أرض تقلّني إذا قلت في كتاب اللّه ما لا علم لي به.

______________________________

(1) أي: بفتح همزة: أنّا.

(2) كرب الأرض كرابا: قلّبها و حرثها.

(3) في هامش الخطّية: «النجعة بالضمّ: طلب الكلأ في موضعه. منه».

(4) الكشّاف 4: 704.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 340

و عن عمر: أنّه قرأ هذه الآية فقال: كلّ هذا قد عرفنا، فما الأبّ؟ ثمّ رفض «1» عصا

كانت بيده و قال: هذا لعمر اللّه التكلّف. ثمّ قال: اتّبعوا ما تبيّن لكم من هذا الكتاب، و ما لا فدعوه.

مَتاعاً لَكُمْ وَ لِأَنْعامِكُمْ تمتيعا لكم و لمواشيكم، فإنّ الأنواع المذكورة بعضها طعام و بعضها علف.

[سورة عبس (80): الآيات 33 الى 42]

فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ (33) يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ (34) وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ (35) وَ صاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ (36) لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ (37)

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ (38) ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ (39) وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ (40) تَرْهَقُها قَتَرَةٌ (41) أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ (42)

و لمّا بيّن النشأة الأولى و توابعها ذكر أحوال النشأة الآخرة، فقال: فَإِذا جاءَتِ الصَّاخَّةُ أي: النفخة. يقال: صخّ لحديثه، مثل: أصاخ له. وصفت النفخة بها مجازا، لأنّ الناس يصخّون لها، أي: يصيحون. و عن ابن عبّاس: سمّيت بذلك، لأنّها تصخّ الآذان، أي: تبالغ في إسماعها حتّى تكاد تصمّها.

يَوْمَ يَفِرُّ الْمَرْءُ مِنْ أَخِيهِ وَ أُمِّهِ وَ أَبِيهِ وَ صاحِبَتِهِ وَ بَنِيهِ لاشتغاله بشأنه، و علمه بأنّهم لا ينفعونه. و قيل: للحذر من مطالبتهم بما قصّر في حقّهم. فيقول الأخ:

______________________________

(1) رفض الشي ء: رماه و تركه.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 341

لم تواسني بمالك. و الأبوان: قصّرت في برّنا. و الصاحبة: أطعمتني الحرام، و فعلت و صنعت كذا و كذا. و البنون: لم تعلّمنا و لم ترشدنا. و بدأ بالأخ ثمّ بالأبوين، لأنّهما أقرب منه، ثمّ بالصاحبة و البنين، لأنّهم أقرب و أحبّ. كأنّه قيل: يفرّ من أخيه، بل من أبويه، بل من صاحبته و بنيه.

لِكُلِّ امْرِئٍ مِنْهُمْ يَوْمَئِذٍ شَأْنٌ يُغْنِيهِ أمر عظيم يشغله عن الأقرباء، و يصرفه عنهم، و يكفيه في الاهتمام به، أي: ليس فيه فضل لغيره، لما هو فيه من الأمر الّذي قد اكتنفه

و ملأ صدره، فصار كالغنيّ عن الشي ء في أمر نفسه لا ينازع إليه.

و

روي عن عطاء بن يسار، عن سودة زوجة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قالت: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: يبعث الناس حفاة عراة غرلا «1»، يلجمهم العرق، و يبلغ شحمة الآذان.

قالت: قلت: يا رسول اللّه؛ وا سوأتاه ينظر بعضنا إلى بعض؟! قال: شغل الناس عن ذلك، و تلا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لكلّ امرئ يومئذ شأن يغنيه».

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ مُسْفِرَةٌ مضيئة. من: أسفر الصبح إذا أضاء. و عن ابن عبّاس: من قيام الليل، لما روي من الحديث: «من كثر صلاته بالليل حسن وجهه بالنهار». و عن الضحّاك: من آثار الوضوء. و قيل: من طول ما اغبرّت في سبيل اللّه.

ضاحِكَةٌ مُسْتَبْشِرَةٌ لما ترى من النعيم.

وَ وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ عَلَيْها غَبَرَةٌ غبار و كدورة، كالدخان يعلوها تَرْهَقُها قَتَرَةٌ يعلوها و يغشاها سواد و ظلمة. و لا ترى أوحش من اجتماع الغبرة و السواد في الوجه، كما ترى في وجوه الزنوج إذا اغبرّت.

أُولئِكَ هُمُ الْكَفَرَةُ الْفَجَرَةُ الّذين جمعوا إلى الكفر الفجور، فلذلك يجمع إلى سواد وجوههم الغبرة.

______________________________

(1) غرل الصبيّ: لم يختن. فهو أغرل. و الجمع: غرل.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 343

(81) سورة التكوير

اشارة

مكّيّة. و هي تسع و عشرون آية. و منهم من يقول: سورة التكوير.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «و من قرأ سورة «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ» أعاذه اللّه أن يفضحه حين تنشر صحيفته».

ابن عمر قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من أحبّ أن ينظر إليّ يوم القيامة فليقرأ «إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ»».

و

روى أبو بكر قال:

قلت: يا رسول اللّه أسرع إليك الشيب! قال: «شيّبتني سورة هود، و الواقعة، و المرسلات، و عمّ يتساءلون، و إذا الشمس كوّرت».

و

روي: أنّ عليّا عليه السّلام لمّا غسّل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم وجد في لحيته شعرات بيضا، و ما لا يظهر إلّا بعد التفتيش لا يكون شيبا.

فعلى هذا؛ فالمراد

بقوله: «شيّبتني هذه السورة»

أنّه لو كان أمر يشيب منه إنسان لشبت.

[سورة التكوير (81): الآيات 1 الى 21]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ (1) وَ إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ (2) وَ إِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ (3) وَ إِذَا الْعِشارُ عُطِّلَتْ (4)

وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ (5) وَ إِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ (6) وَ إِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ (7) وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ سُئِلَتْ (8) بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ (9)

وَ إِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ (10) وَ إِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ (11) وَ إِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ (12) وَ إِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ (13) عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ (14)

فَلا أُقْسِمُ بِالْخُنَّسِ (15) الْجَوارِ الْكُنَّسِ (16) وَ اللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ (17) وَ الصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ (18) إِنَّهُ لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ (19)

ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ (20) مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ (21)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 344

و لمّا ختم سبحانه سورة عبس بذكر القيامة و أهوالها، افتتح هذه السورة أيضا بذكر علاماتها و أحوالها، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* إِذَا الشَّمْسُ كُوِّرَتْ لفّت. من: كوّرت العمامة إذا لففتها. أو بمعنى: رفعت، لأنّ الثوب إذا أريد رفعه لفّ و طوي. و نحوه قوله تعالى:

يَوْمَ نَطْوِي السَّماءَ «1». و عن ابن عبّاس و مجاهد: لفّ ضوؤها فذهب انبساطه في الآفاق و زال أثره فأظلمت، ثمّ يحدث اللّه تعالى ضياء للعباد غيرها. و عن الربيع و أبي صالح: ألقيت و طرحت عن فلكها. من: طعنه فكوّره إذا

ألقاه مجتمعا.

و التركيب للإدارة و الجمع. و ارتفاع الشمس بفعل يفسّره ما بعدها أولى، لأنّ «إذا» الشرطيّة تطلب الفعل.

______________________________

(1) الأنبياء: 104.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 345

وَ إِذَا النُّجُومُ انْكَدَرَتْ انقضّت، أي: تساقطت و تناثرت. و هذا مثل قوله:

وَ إِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ «1». إلّا أنّ في الأوّل يذهب ضوؤها ثم تتناثر. و عن الجبائي: أظلمت، من: كدرت الماء فانكدر. و

يروى: أنّ الشمس و النجوم تطرح في جهنّم ليراها من عبدها

، كما قال: إِنَّكُمْ وَ ما تَعْبُدُونَ مِنْ دُونِ اللَّهِ حَصَبُ جَهَنَّمَ «2».

وَ إِذَا الْجِبالُ سُيِّرَتْ عن وجه الأرض و أبعدت. أو في الجوّ تسيير السحاب، كقوله: وَ هِيَ تَمُرُّ مَرَّ السَّحابِ «3».

وَ إِذَا الْعِشارُ النوق اللواتي أتى على حملهنّ عشرة أشهر، ثمّ هو اسمها إلى أن تضع لتمام السنة. جمع عشراء، كالنفاس في جمع نفساء. و هي أنفس ما تكون عند أهلها و أعزّها عليهم. عُطِّلَتْ تركت مهملة بلا راع، لاشتغالهم بأنفسهم. و قيل: العشار السحائب عطّلت من المطر. حكي ذلك عن الجبائي، و أبي عمرو. و قال الأزهري: لا أعرف هذا في اللغة.

وَ إِذَا الْوُحُوشُ حُشِرَتْ جمعت من كلّ جانب. أو بعثت للقصاص ثمّ ردّت ترابا، فلا يبقى منها إلّا ما فيه سرور لبني آدم و إعجاب بصورته، كالطاووس و نحوه. و قال قتادة: يحشر كلّ شي ء- حتّى الذباب- للقصاص. و عن ابن عبّاس:

حشرها موتها. من قولهم إذا أجحفت السنة بالناس: حشرتهم، أي: أماتتهم.

وَ إِذَا الْبِحارُ سُجِّرَتْ أحميت. أو ملئت بتفجير عذبها على مالحها، و مالحها على عذبها، فيرتفع البرزخ بينهما حتّى يعود بحرا واحدا. من: سجّر التنّور إذا ملأه بالحطب ليحميه. و عن ابن عبّاس: ملئت نيرانا تضطرم لتعذيب أهل النار.

و عن الحسن: يذهب ماؤها،

فلا تبقى فيها قطرة. و عن الجبائي: ملئت من القيح

______________________________

(1) الانفطار: 2.

(2) الأنبياء: 98.

(3) النمل: 88.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 346

و الصديد الّذي يسيل من أبدان أهل النار في النار. و قيل: أراد بحار جهنّم، لأنّ بحور الدنيا قد فنيت. و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و روح بالتخفيف.

وَ إِذَا النُّفُوسُ زُوِّجَتْ قرنت بالأجساد. أو كلّ منها قرنت بشكلها من أهل النار، و بشكلها من أهل الجنّة. أو بكتابها و عملها. أو نفوس المؤمنين بالحور، و نفوس الكافرين بالشياطين. و قيل: يقرن الغاوي بمن أغواه، من إنسان أو شيطان.

وَ إِذَا الْمَوْؤُدَةُ المدفونة حيّة. من: و أد يئد، مقلوب من: آد يؤد إذا أثقل.

قال اللّه تعالى: وَ لا يَؤُدُهُ حِفْظُهُما «1» لأنّه إثقال بالتراب سُئِلَتْ بِأَيِّ ذَنْبٍ قُتِلَتْ تبكيتا لوائدها، كتبكيت النصارى بقوله تعالى لعيسى عليه السّلام: أَ أَنْتَ قُلْتَ لِلنَّاسِ اتَّخِذُونِي وَ أُمِّي إِلهَيْنِ مِنْ دُونِ اللَّهِ «2». و إنّما قيل: «قتلت» بناء على أنّ الكلام إخبار عنها. و لو حكى ما خوطبت به حين سئلت لقيل: قتلت. و كانت العرب تئد البنات مخافة الإملاق أو لحوق العار بهم من أجلهنّ. و كانوا يقولون: إنّ الملائكة بنات اللّه، فنلحق البنات بهنّ، فيقولون: إنّهنّ أحقّ بهنّ.

و في الكشّاف: «كان الرجل في الجاهليّة إذا ولدت له بنت فأراد أن يستحييها ألبسها جبّة من صوف أو شعر، ترعى له الإبل و الغنم في البادية. و إن أراد قتلها تركها حتّى إذا كانت سداسيّة- أي: بلغت قامتها ستّة أشبار- فيقول لأمّها: طيّبيها و زيّنيها حتّى أذهب بها إلى أحمائها، و قد حفر لها بئرا في الصحراء، فيبلغ بها البئر فيقول لها: انظري فيها، ثمّ يدفعها من خلفها، و

يهيل عليها التراب حتّى تستوي البئر بالأرض» «3».

و عن ابن عبّاس: كانت الحامل إذا أقربت حفرت حفيرة فتمخّضت على

______________________________

(1) البقرة: 255.

(2) المائدة: 116.

(3) الكشّاف 4: 708.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 347

رأس الحفرة، فإذا ولدت بنتا رمت بها في الحفرة، و إن ولدت ابنا حبسته.

وَ إِذَا الصُّحُفُ نُشِرَتْ يعني: صحف الأعمال، فإنّها تطوى عند الموت ثمّ تنشر وقت الحساب. و عن قتادة: صحيفتك يا ابن آدم تطوى على عملك ثمّ تنشر يوم القيامة، فلينظر رجل ما يملى في صحيفته. و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «يحشر الناس حفاة عراة، كما مرّ في السورة السابقة. فقالت أمّ سلمة: كيف بالنساء؟ فقال:

شغل الناس يا أمّ سلمة. قالت: و ما شغلهم؟ قال: نشر الصحف فيها مثاقيل الذرّ و مثاقيل الخردل».

و قيل: «نشرت» بمعنى: فرّقت بين أصحابها. و قيل: إذا كان يوم القيامة تطايرت الصحف من تحت العرش، فتقع صحيفة المؤمن في يده في جنّة عالية، و تقع صحيفة الكافر في يده في سموم و حميم. و معناه: مكتوب فيهما ذلك. و هي صحف غير صحف الأعمال.

و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و حمزة و الكسائي بالتشديد، للمبالغة في النشر، أو لكثرة الصحف، أو لشدّة التطاير.

وَ إِذَا السَّماءُ كُشِطَتْ قلعت و أزيلت، كما يكشط الإهاب عن الذبيحة.

وَ إِذَا الْجَحِيمُ سُعِّرَتْ أوقدت إيقادا شديدا. و قرأ نافع و ابن عامر برواية ابن ذكوان و حفص و رويس بالتشديد. و قيل: سعّرها غضب اللّه و خطايا بني آدم.

وَ إِذَا الْجَنَّةُ أُزْلِفَتْ قربت من المتّقين، كقوله: وَ أُزْلِفَتِ الْجَنَّةُ لِلْمُتَّقِينَ غَيْرَ بَعِيدٍ «1» ليزدادوا سرورا، و يزداد أهل النار حسرة.

عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ جواب «إذا» و عاملها.

و المعنى: إذا كانت هذه الأشياء علمت في ذلك الوقت كلّ نفس ما وجدت حاضرا من عملها، كما قالوا:

أحمدته، أي: وجدته محمودا.

______________________________

(1) ق: 31.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 348

و قيل: علمت ما أحضرته من خير و شرّ. و إحضار الأعمال مجاز، لأنّها لا تبقى. و المعنى: أنّه لا يشذّ عنها شي ء، فكأنّ كلّها حاضرة.

و قيل: المراد صحائف الأعمال.

و إنّما صحّ ذلك و المذكور في سياق «إذ» اثنتا عشرة خصلة، ستّ منها في مبادئ قيام الساعة قبل فناء الدنيا، و ستّ بعده، لأنّ المراد زمان متّسع شامل لها و لمجازاة النفوس على أعمالها. و «نفس» في معنى العموم، كقولهم: تمرة خير من جرادة. كأنّه قيل: علمت كلّ نفس.

و عن ابن مسعود: أنّ قارئا قرأها عنده، فلمّا بلغ «عَلِمَتْ نَفْسٌ ما أَحْضَرَتْ» قال: و انقطاع ظهرياه.

فَلا أُقْسِمُ قد ذكرنا اختلاف العلماء فيه غير مرّة بِالْخُنَّسِ بالكواكب الرواجع. من: خنس إذا تأخّر. ألا ترى النجم في آخر البرج إذ كرّ راجعا إلى أوّله.

و هي ما سوى النيّرين من السيّارات. و لذلك وصفها بقوله: الْجَوارِ السيّارات في أفلاكها الْكُنَّسِ الغيّب تحت ضوء الشمس. من: كنس الوحشيّ إذا دخل كناسه، و هو بيته المتّخذ من أغصان الشجر.

و

عن عليّ عليه السّلام: «هي الدّراري الخمسة: زحل، و مشتري، و مرّيخ، و عطارد، و زهرة».

تجري مع الشمس و القمر، و ترجع حتّى تخفى تحت ضوء الشمس.

فخنوسها: رجوعها. و كنوسها: اختفاؤها تحت ضوء الشمس.

و قيل: هي جميع الكواكب، تخنس بالنهار فتغيب عن العيون، و تكنس بالليل، أي: تطلع في أماكنها، كالوحش في كنسها.

وَ اللَّيْلِ إِذا عَسْعَسَ أدبر ظلامه. يقال: عسعس الليل و سعسع إذا أدبر.

قال العجاج:

حتّى إذا الصبح لها تنفّساو انجاب عنها ليلها و عسعسا

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 349

و قيل: عسعس إذا أقبل ظلامه. فهو من الأضداد.

وَ الصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ أي: طلع و ظهرت إضاءته. و لمّا كان إقبال الصبح مع إقبال روح و نسيم، جعل ذلك نفسا له على المجاز، فقيل: تنفّس الصبح.

و جواب القسم قوله: إِنَّهُ أي: القرآن لَقَوْلُ رَسُولٍ كَرِيمٍ على ربّه.

يعني: جبرئيل عليه السّلام، فإنّه قاله عن اللّه تعالى. و قيل: إنّما أضافه إلى جبرئيل، لأنّ اللّه تعالى قال له: ائت محمّدا و قل له كذا.

ثمّ وصف جبرئيل عليه السّلام بقوله: ذِي قُوَّةٍ كقوله: شَدِيدُ الْقُوى «1». و لمّا كانت حال المكانة على حسب حال الممكّن قال: عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ أي: عند مالك العرش و خالقه و مدبّره مَكِينٍ ذي مكانة و رفعة، ليدلّ على عظم منزلته و مكانته و علوّ مرتبته.

مُطاعٍ في ملائكته ثَمَ إشارة إلى الظرف المذكور، أعني: عند ذي العرش. و يحتمل اتّصاله بما قبله و ما بعده، على معنى: أنّه عند اللّه مطاع في ملائكته المقرّبين، يصدرون عن أمره، و يرجعون إلى رأيه. قالوا: و من طاعة الملائكة لجبرئيل أنّه أمر خازن الجنّة ليلة المعراج حتّى فتح لمحمّد أبوابها، فدخلها و رأى ما فيها، و أمر خازن النار ففتح له عنها حتّى نظر إليها. أو عند اللّه.

أَمِينٍ على الوحي إلى أنبيائه.

و

في الحديث: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال لجبرئيل عليه السّلام: ما أحسن ما أثنى عليك ربّك «ذِي قُوَّةٍ عِنْدَ ذِي الْعَرْشِ مَكِينٍ مُطاعٍ ثَمَّ أَمِينٍ». فما كانت قوّتك؟ و ما كانت أمانتك؟ قال: أمّا قوّتي فإنّي بعثت إلى مدائن لوط، و هي أربع مدائن، في كلّ مدينة أربعمائة ألف مقاتل سوى الذراري، فحملتهم من الأرض

السفلى حتّى سمع أهل السماوات أصوات الدجاج و نباح الكلاب، ثمّ هويت بهنّ فقلبتهنّ. و أمّا أمانتي؛ فإنّي لم أومر بشي ء فعدوته إلى غيره».

______________________________

(1) النجم: 5.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 350

[سورة التكوير (81): الآيات 22 الى 29]

زبدة التفاسير ج 7 399

وَ ما صاحِبُكُمْ بِمَجْنُونٍ (22) وَ لَقَدْ رَآهُ بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ (23) وَ ما هُوَ عَلَى الْغَيْبِ بِضَنِينٍ (24) وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ (25) فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ (26)

إِنْ هُوَ إِلاَّ ذِكْرٌ لِلْعالَمِينَ (27) لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ (28) وَ ما تَشاؤُنَ إِلاَّ أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ الْعالَمِينَ (29)

ثمّ خاطب الكفّار، فقال: وَ ما صاحِبُكُمْ يعني: محمدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بِمَجْنُونٍ كما تبهته «1» الكفرة. و هذا أيضا من جواب القسم، أقسم اللّه عزّ اسمه أنّ القرآن نزل به جبرئيل، و أنّ محمّدا ليس على ما يرميه به أهل مكّة من الجنون. و الاستدلال بذلك على فضل جبرئيل على محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، حيث عدّ فضائل جبرئيل، و اقتصر في محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على نفي الجنون. ضعيف جدّا، إذ المقصود منه نفي قولهم: إِنَّما يُعَلِّمُهُ بَشَرٌ «2» أَفْتَرى عَلَى اللَّهِ كَذِباً أَمْ بِهِ جِنَّةٌ «3». لا تعداد فضلهما و الموازنة بينهما.

وَ لَقَدْ رَآهُ و لقد رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جبرئيل عليه السّلام على صورته الأصليّة الّتي خلقه اللّه عليها بِالْأُفُقِ الْمُبِينِ بمطلع الشمس الأعلى.

وَ ما هُوَ و ما محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عَلَى الْغَيْبِ على ما يخبر به، من رؤية جبرئيل و الوحي إليه، و غير ذلك من الغيوب. بِضَنِينٍ بمتّهم. من الظنّة، و هي التهمة. و قرأ

نافع و عاصم و حمزة و ابن عامر: بضنين. من الضنّ، و هو البخل، أي:

______________________________

(1) أي: تتّهمه بما ليس فيه.

(2) النحل: 103.

(3) سبأ: 8.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 351

لا يبخل بالتبليغ، فيزوي «1» بعضه غير مبلّغه، أو يسأل تعليمه فلا يعلّمه. و هو في مصحف عبد اللّه بالظاء، و في مصحف أبيّ بالضاد. و كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقرأ بهما.

و إتقان الفصل بين الضاد و الظاء واجب، و معرفة مخرجيهما ممّا لا بدّ منه للقارى ء، فإنّ أكثر العجم لا يفرّقون بين الحرفين، و إن فرّقوا ففرقا غير صواب. و بينهما بون بعيد، فإنّ مخرج الضاد من أصل حافّة اللسان، و ما يليها من الأضراس من يمين اللسان أو يساره. و أمّا الظاء فمخرجها من طرف اللسان و أصول الثنايا العليا. و لو استوى الحرفان لما ثبت في هذه الكلمة قراءتان، و لما اختلف المعنى و الاشتقاق و التركيب.

وَ ما هُوَ بِقَوْلِ شَيْطانٍ رَجِيمٍ بقول بعض المسترقة للسمع، و بوحيهم إلى أوليائهم من الكهنة. و هو نفي لقولهم: إنّه لكهانة و سحر.

ثمّ بكّتهم اللّه سبحانه، فقال: فَأَيْنَ تَذْهَبُونَ استضلال لهم فيما يسلكونه في أمر الرسول و القرآن، كقولك لتارك الجادّة اعتسافا: أين تذهب؟ فمثّلت حالهم بحاله في تركهم الحقّ، و عدولهم عنه إلى الباطل.

إِنْ هُوَ إِلَّا ذِكْرٌ تذكير لِلْعالَمِينَ لا مطلقا، بل لِمَنْ شاءَ مِنْكُمْ أَنْ يَسْتَقِيمَ بتحرّي الحقّ و ملازمة الصواب. فهذا بدل من «للعالمين». و إنّما أبدلوا منهم لأنّ الّذين شاؤا الاستقامة بالدخول في الإسلام هم المنتفعون بالذكر، فكأنّه لم يوعظ به غيرهم، و إن كانوا موعظين جميعا.

وَ ما تَشاؤُنَ الاستقامة يا من يشاؤها إِلَّا أَنْ يَشاءَ اللَّهُ رَبُّ

الْعالَمِينَ إلّا بتوفيق اللّه مالك الخلق كلّهم و بلطفه. أو و ما تشاؤنها أنتم يا من لا يشاؤها إلّا بقسر اللّه و إلجائه. و لكن لا يفعل، لأنّه إنّما يريد منكم أن تؤمنوا اختيارا لتستحقّوا الثواب، فلا يريد أن يحملكم عليه.

______________________________

(1) أي: يمنع.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 353

(82) سورة انفطرت

اشارة

و تسمّى سورة الانفطار أيضا. مكّيّة. و هي تسع عشرة آية.

أبيّ بن كعب قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: و من قرأها أعطاه اللّه من الأجر يعدد كلّ قبر حسنة، و بعدد كلّ قطرة مائة حسنة، و أصلح اللّه شأنه يوم القيامة».

و

روى الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «من قرأ هاتين السورتين: إذا السماء انفطرت و إذا السماء انشقّت، و جعلهما نصب عينيه في صلاة الفريضة و النافلة، لم يحجبه من اللّه حجاب، و لم يحجزه من اللّه حاجز، و لم يزل ينظر إلى اللّه و ينظر اللّه إليه حتّى يفرغ من حساب الناس».

[سورة الانفطار (82): الآيات 1 الى 19]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ (1) وَ إِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ (2) وَ إِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ (3) وَ إِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ (4)

عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَ أَخَّرَتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ (6) الَّذِي خَلَقَكَ فَسَوَّاكَ فَعَدَلَكَ (7) فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ (8) كَلاَّ بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ (9)

وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ (10) كِراماً كاتِبِينَ (11) يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ (12) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ (13) وَ إِنَّ الْفُجَّارَ لَفِي جَحِيمٍ (14)

يَصْلَوْنَها يَوْمَ الدِّينِ (15) وَ ما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ (16) وَ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (17) ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ (18) يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ (19)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 354

و لمّا كانت السورة المتقدّمة في ذكر أهوال القيامة، افتتح هذه السورة بمثل ذلك ليتّصل بها اتّصال النظير بالنظير، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* إِذَا السَّماءُ انْفَطَرَتْ انشقّت وَ إِذَا الْكَواكِبُ انْتَثَرَتْ تساقطت متفرّقة. قال ابن عبّاس: سقطت سودا

لا ضوء لها.

وَ إِذَا الْبِحارُ فُجِّرَتْ فتح بعضها إلى بعض، فزال البرزخ بينها، فاختلط العذب بالمالح، و صار الكلّ بحرا واحدا. و روي: أنّ الأرض تنشف الماء بعد امتلاء البحار، فتصير مستوية. و هو معنى التسجير عند الحسن.

وَ إِذَا الْقُبُورُ بُعْثِرَتْ بحثت و قلب ترابها و أخرج موتاها. و قيل: إنّه مركّب من «بعث» مع راء مضمومة إليه. و نظيره: بحثرت لفظا و معنى. و قيل لبراءة «1»:

المبعثرة، لأنّها بعثرت أسرار المنافقين.

عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ من حسنة أو سيّئة وَ أَخَّرَتْ من سنّة يستنّ بها

______________________________

(1) أي: لسورة البراءة.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 355

بعده. و هو جواب «إذا» و عاملها.

و

عن عبد اللّه بن مسعود أنّه قال: ما قدّمت من خير أو شرّ، و ما أخّرت من سنّة حسنة استنّ بها بعده، فله أجر من اتّبعه من غير أن ينقص من أجورهم شي ء، أو سنّة سيّئة عمل بها بعده، فعليه وزر من عمل بها، و لا ينقص من أوزارهم شي ء.

و يؤيّد هذا القول ما

جاء في الحديث: «أن سائلا قام على عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فسأل، فسكت القوم، ثمّ إنّ رجلا أعطاه، فأعطاه القوم أيضا. فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من استنّ خيرا فاستنّ به فله أجوره و مثل أجور من اتّبعه غير منتقص من أجورهم، و من استنّ شرّا فاستنّ به فعليه وزره و مثل أوزار من اتّبعه غير منتقص من أوزارهم».

قال: فتلا حذيفة بن اليمان: «عَلِمَتْ نَفْسٌ ما قَدَّمَتْ وَ أَخَّرَتْ». و تفصيل ذلك تقدّم «1» في قوله: يُنَبَّؤُا الْإِنْسانُ يَوْمَئِذٍ بِما قَدَّمَ وَ أَخَّرَ.

يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ أيّ شي ء خدعك و جرّأك على عصيانك

بربّك. و إنّما وصف ذاته بين الصفات بالكرم في بيان إنكار الاغترار به، و إنّما يغترّ بالكريم- كما

يروى عن عليّ عليه السّلام أنّه صاح بغلام له كرّات فلم يلبّه، فنظر فإذا هو بالباب، فقال له: مالك لم تجبني؟ قال: لثقتي بحلمك، و أمني من عقوبتك.

فاستحسن جوابه و أعتقه.

و قد قالوا: من كرم الرجل سوء أدب غلمانه- للمبالغة في المنع عن الاغترار، فإنّ محض الكرم لا يقتضي إهمال الظالم، و تسوية الموالي و المعادي و المطيع و العاصي، فكيف إذا انضمّ إليه صفة القهر و الانتقام. و للإشعار بما به يغرّه الشيطان، فإنّه يقول له: افعل ما شئت، فربّك كريم لا يعذّب أحدا، و لا يعاجل بالعقوبة. و للدلالة على أنّ كثرة كرمه تستدعي الجدّ في طاعته، لا الانهماك في عصيانه اغترارا بكرمه.

فملخّص المعنى: أنّ حقّ الإنسان أن لا يغترّ بتكرّم اللّه عليه، حيث خلقه

______________________________

(1) راجع ص 257، ذيل الآية (13) من سورة القيامة.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 356

حيّا لينفعه، و بتفضّله عليه بذلك، حتّى يطمع- بعد ما مكّنه و كلّفه، فعصى و كفر النعمة المتفضّل بها- أن يتفضّل عليه بالثواب و طرح العقاب، اغترارا بالتفضّل الأوّل، فإنّه منكر خارج من حدّ الحكمة. و لهذا

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا تلاها: «غرّه جهله».

و قال الحسن: غرّه و اللّه شيطانه الخبيث، أي: زيّن له المعاصي، و قال له:

افعل ما شئت، فربّك الكريم الّذي تفضّل عليك بما تفضّل به أوّلا، و هو متفضّل عليك آخرا، حتّى ورّطه.

و قيل للفضيل بن عياض: إن أقامك اللّه يوم القيامة و قال لك: «ما غَرَّكَ بِرَبِّكَ الْكَرِيمِ» ماذا تقول؟ قال: أقول: غرّتني ستورك المرخاة.

و

عن أمير المؤمنين عليه

السّلام: «كم مغرور بالستر عليه، و مستدرج بالإحسان إليه».

و قال يحيى بن معاذ: لو أقامني اللّه بين يديه فقال: ما غرّك بي؟ قلت: غرّني بك برّك بي سابقا و آنفا.

و عن بعضهم قال: غرّني حلمك.

و عن أبي بكر الورّاق: غرّني كرم الكريم.

و هذه الأقوال على سبيل الاعتراف بالخطإ في الاغترار بالستر. و ليس باعتذار كما يظنّه الطمّاع، و يظنّ به قصّاص الحشويّة، و يروون عن شيوخهم إنّما قال: «بربّك الكريم» دون سائر صفاته، ليلقّن عبده الجواب حتّى يقول: غرّني كرم الكريم.

ثمّ ذكر سبحانه صفة ثانية لذاته، مقرّرة لربوبيّته، مبيّنة لكرمه الّذي يقتضي امتثال أمره و نهيه، فقال:

الَّذِي خَلَقَكَ من نطفة، و لم تك شيئا فَسَوَّاكَ فجعلك سويّا سالم الأعضاء لتكون معدّة لمنافعها فَعَدَلَكَ فصيّرك معتدلا متناسب الأعضاء من غير

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 357

تفاوت فيه. فلم يجعل إحدى اليدين أطول، و لا إحدى العينين أوسع، و لا بعض الأعضاء أبيض، و لا بعضها أسود، و لا بعض الشعر فاحما، و بعضه أشقر. أو جعلك معتدل الخلق تمشي قائما لا كالبهائم.

و قرأ الكوفيّون: فعدلك بالتخفيف. و فيه وجهان:

أحدهما: أن يكون بمعنى: عدّل مشدّدا، أي: فعدّل بعض أعضائك ببعض حتّى اعتدلت.

و الثاني: فصرفك. من: عدله عن الطريق. يعني: فعدلك عن خلقة غيرك، و خلقك خلقة حسنة مفارقة لسائر الحيوانات. أو فعدلك إلى بعض الأشكال و الهيئات.

فِي أَيِّ صُورَةٍ ما شاءَ رَكَّبَكَ الجارّ متعلّق ب «ركّبك». و «ما» مزيدة.

و المعنى: وضعك في أيّ صورة اقتضتها مشيئته و حكمته، من الصور المختلفة في الحسن و القبح، و الطول و القصر، و الذكورة و الأنوثة، و الشبه ببعض الأقارب و خلاف الشبه. أو بمحذوف، أي: ركّبك حاصلا في أيّ صورة شاء.

و قيل: «ما» شرطيّة، و «ركّبك» جوابها، و الظرف صلة «عدلك». و يكون في «أيّ» معنى التعجّب، أي: فعدلك في صورة عجيبة. ثمّ قال: «ما شاءَ رَكَّبَكَ» أي: ركّبك ما شاء من التراكيب. يعني: تركيبا حسنا. و لمّا كانت الجملة بيانا لقوله «فعدلك» لم يعطف على ما قبلها.

كَلَّا ردع عن الاغترار بكرم اللّه. و المعنى: ارتدعوا عن الاغترار بكرم اللّه الّذي هو موجب للشكر و الطاعة، إلى عكسهما الّذي هو الكفر و المعصية. ثمّ قال:

بَلْ تُكَذِّبُونَ بِالدِّينِ إضراب إلى بيان ما هو السبب الأصلي في اغترارهم. و المراد بالدين الجزاء أو دين الإسلام، أي: لا يصدّقون بالثواب و العقاب، أو بالإسلام.

و هو شرّ من الطمع المنكر.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 358

ثمّ حقّق تكذيبهم بالجزاء، و ردّ ما يتوقّعون من التسامح و الإهمال، فقال:

وَ إِنَّ عَلَيْكُمْ لَحافِظِينَ* كِراماً كاتِبِينَ أي: إنّكم تكذّبون بالجزاء اغترارا بالتسامح، و قد وكّل عليكم الملائكة الحافظون أعمالكم المكرّمون عند اللّه يَعْلَمُونَ ما تَفْعَلُونَ فيكتبون أعمالكم لتجاوزوا بها. و في تعظيم الكتبة بالثناء عليهم تعظيم لأمر الجزاء، و أنّه عند اللّه من جلائل الأمور، و لو لا ذلك لما وكّل بضبط ما يحاسب عليه و يجازي به الملائكة الكرام الحفظة.

و فيه إنذار و تهويل و تشوير «1» للعصاة، و لطف للمؤمنين. و عن الفضيل: أنّه كان إذا قرأها قال: ما أشدّها من آية على الغافلين. و في الآية دلالة على أنّ أفعال العباد حادثة من جهتهم، و أنّهم المحدثون لها دونه تعالى، و إلّا فلا يصحّ قوله: «ما تفعلون».

ثمّ بيّن ما يكتبون لأجله بقوله: إِنَّ الْأَبْرارَ المحسنين المطيعين للّه في الدنيا لَفِي نَعِيمٍ و هو الجنّة وَ إِنَّ الْفُجَّارَ الكفّار المكذّبين لَفِي جَحِيمٍ

و هو العظيم من النار يَصْلَوْنَها يلزمونها و يقاسون حرّها يَوْمَ الدِّينِ يوم الجزاء وَ ما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ لخلودهم فيها.

و قيل: معناه: و ما يغيبون عنها قبل ذلك في قبورهم، إذ كانوا يجدون سموم جهنّم في القبور.

و قيل: أخبر اللّه تعالى في هذه السورة أنّ لابن آدم ثلاث حالات: حال الحياة الّتي يحفظ فيها عمله، و حال الآخرة الّتي يجازى فيها، و حال البرزخ، و هو قوله: «وَ ما هُمْ عَنْها بِغائِبِينَ».

ثمّ قال تعجّبا و تفخيما لشأن يوم الجزاء: وَ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ أي: أمر يوم القيامة، بحيث لا تدرك دراية كلّ دار كنهه في الهول و الشدّة، و كيفما تصوّرته

______________________________

(1) شوّر به: أخجله.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 359

فهو فوق ذلك و على أضعافه.

ثمّ كرّر ذلك القول بقوله: ثُمَّ ما أَدْراكَ ما يَوْمُ الدِّينِ لزيادة التهويل.

ثمّ قرّر شدّة هوله و فخامة أمره إجمالا، فقال: يَوْمَ لا تَمْلِكُ نَفْسٌ لِنَفْسٍ شَيْئاً أي: لا تستطيع دفعا عنها و لا نفعا لها بوجه مّا. و نصب الظرف بإضمار:

يدانون، لأنّ «الدين» يدلّ عليه. أو بإضمار: اذكر. و يجوز أن يفتح لإضافته إلى غير متمكّن، و هو في محلّ الرفع. و رفعه نافع و ابن كثير و البصريّان، على البدل من «يوم الدين» أو على الخبر لمحذوف. وَ الْأَمْرُ يَوْمَئِذٍ لِلَّهِ لا أمر يومئذ في الجزاء و العفو إلّا للّه وحده.

روى عمرو بن شمر، عن جابر، عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: «يا جابر إذا كان يوم القيامة بادت الحكّام، فلم يبق حاكم إلّا اللّه».

و المعنى: أنّ اللّه قد ملّك في الدنيا كثيرا من الناس أمورا و أحكاما، و في القيامة لا أمر لسواه و لا

حكم. و لا ينافي ذلك شفاعة النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، لأنّها لا تكون إلّا بأمره تعالى و بإذنه، فهي من تدابيره.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 361

(83) سورة المطفّفين

اشارة

و تسمّى سورة التطفيف. مكّيّة. و قال ابن عبّاس و قتادة: مدنيّة إلّا ثماني آيات منها، و هي: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا إلى آخر السورة. و هي ستّ و ثلاثون آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «و من قرأها سقاه اللّه من الرحيق المختوم يوم القيامة».

و

روى صفوان الجمّال عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من كانت قراءته في الفريضة ويل للمطفّفين، أعطاه اللّه الأمن يوم القيامة من النار، و لا تراه و لا يراها، و لا يمرّ على جسر جهنّم، و لا يحاسب يوم القيامة».

[سورة المطففين (83): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ (1) الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ يَسْتَوْفُونَ (2) وَ إِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ يُخْسِرُونَ (3) أَ لا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ (4)

لِيَوْمٍ عَظِيمٍ (5) يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ لِرَبِّ الْعالَمِينَ (6)

و لمّا ختم سبحانه سورة الانفطار بذكر القيامة و ما أعدّ فيها للأبرار و الفجّار،

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 362

بيّن في هذه السورة أيضا ذكر أحوال الناس في القيامة، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* وَيْلٌ لِلْمُطَفِّفِينَ التطفيف البخس في الكيل و الوزن، لأنّ ما يبخس شي ء طفيف، أي: حقير.

روي: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا قدم المدينة كانوا من أخبث الناس كيلا، فنزلت، فأحسنوه.

و

قيل: قدمها و بها رجل يعرف بأبي جهينة، و معه صاعان: يكيل بأحدهما لغيره، و يكتال بالآخر لنفسه.

و قيل: كان أهل المدينة تجّارا يطفّفون، و كانت بياعاتهم المنابذة «1» و الملامسة «2» و المخاطرة «3»، فنزلت فيهم. فخرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقرأها عليهم، و قال: «خمس بخمس. قيل: يا رسول اللّه و ما خمس بخمس؟

قال: ما نقض العهد قوم إلّا سلّط اللّه عليهم أعداءهم، و ما حكموا بغير ما أنزل اللّه إلّا فشا فيهم الفقر، و ما ظهرت فيهم الفاحشة إلّا فشا فيهم الموت، و ما طفّفوا الكيل إلّا منعوا النبات و أخذوا بالسنين، و لا منعوا الزكاة إلّا حبس عنهم القطر».

و

عن عليّ عليه السّلام أنّه مرّ برجل يزن الزعفران و قد أرجح، فقال له: «أقم الوزن بالقسط، ثمّ أرجح بعد ذلك ما شئت».

كأنّه أمره بالتسوية أوّلا ليعتادها، و يفصل الواجب من النفل.

و عن ابن عبّاس: إنّكم معشر الأعاجم و ليتم أمرين بهما هلك من كان قبلكم:

المكيال، و الميزان. و خصّ الأعاجم لأنّهم يجمعون الكيل و الوزن جميعا. و قيل:

كان أهل مكّة يزنون، و أهل المدينة يكيلون.

______________________________

(1) كان في الجاهليّة يحضر الرجل قطيع الغنم، فينبذ الحصاة و يقول لصاحب الغنم: إنّ ما أصاب الحجر فهو لي بكذا، و كانوا يدعون هذا البيع: بيع المنابذة.

(2) الملامسة في البيع أن تقول: إذا لمست ثوبك أو لمست ثوبي فقد وجب البيع بكذا.

(3) خاطره على كذا: راهنه.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 363

و عن ابن عمر: أنّه كان يمرّ بالبائع فيقول له: اتّق اللّه و أوف الكيل، فإنّ المطفّفين يوقفون يوم القيامة لعظمة الرحمن، حتّى إنّ العرق ليلجمهم.

و عن عكرمة: أشهد أنّ كلّ كيّال و وزّان في النار. فقيل له: إنّ ابنك كيّال أو وزّان. فقال: أشهد أنّه في النار.

و عن أبيّ: لا تلتمس الحوائج ممّن رزقه في رؤوس المكاييل و ألسن «1» الموازين.

الَّذِينَ إِذَا اكْتالُوا عَلَى النَّاسِ أي: اكتالوا لأنفسهم من الناس حقوقهم يَسْتَوْفُونَ يأخذونها وافية. و لمّا كان اكتيالهم من الناس اكتيالا يضرّهم و يتحامل فيه عليهم، أبدل «على» مكان «من» للدلالة على

ذلك. و يجوز أن يتعلّق «على» ب «يستوفون»، و يقدّم المفعول على الفعل لإفادة التخصيص، أي: يستوفون على الناس خاصّة، فأمّا أنفسهم فيستوفون لها. و إنّما لم يذكر: اتّزنوا، كما قال: «أَوْ وَزَنُوهُمْ» لأنّ المطفّفين كانوا لا يأخذون ما يكال و يوزن إلّا بالمكاييل دون الموازين، لتمكّنهم بالاكتيال من الاستيفاء و السرقة، لأنّهم يدعدعون «2» و يحتالون في المل ء، و إذا أعطوا كالوا و وزنوا، لتمكّنهم من البخس في النوعين جميعا.

وَ إِذا كالُوهُمْ أَوْ وَزَنُوهُمْ أي: إذا كالوا للناس أو وزنوا لهم يُخْسِرُونَ ينقصون. يقال: خسر الميزان و أخسره. فحذف الجارّ و أوصل الفعل، كقوله: و لقد جنيتك أكمؤا و عساقلا «3». بمعنى: جنيت لك. أو كالوا مكيلهم و موزونهم، فحذف

______________________________

(1) لسان الميزان: شي ء في قائمة الميزان- و هي الّتي تعلّق بها كفّتاه- يشبه اللسان.

(2) دعدع المكيال: هزّه ليسع الشي ء.

(3) أكمو جمع كم ء: جنس فطر من فصيلة الكمئيّات، يعيش تحت الأرض، لونه يميل إلى الغبرة، يهيّأ منه طعام لذيذ. و العسقل: جزء من ساق نباتيّة أو من جذر نباتي، يحتوي على موادّ غذائيّة مكتنزة. و الجمع: العساقل.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 364

المضاف و أقيم المضاف إليه مقامه.

و لا يحسن جعل الضمير المنفصل تأكيدا للمتّصل، و هو واو الضمير، لأنّه يخرج الكلام عن مقابلة ما قبله، إذ المقصود بيان اختلاف حالهم في الأخذ و الدفع، لا في المباشرة و عدمها، فإنّ معناه حينئذ: إذا أخذوا من الناس استوفوا، و إذا تولّوا الكيل أو الوزن هم على الخصوص أخسروا. و هو كلام متنافر غير ملائم لما قبله.

و المعنى الأوّل و إن كان يستدعي إثبات الألف بعد الواو، لكن رسم المصحف لم يراع في كثير منه حدّ المصطلح

عليه في علم الخطّ. و يمكن أن يقال: إنّ الواو وحدها هاهنا معطية معنى الجمع، و إنّما تكتب هذه الألف تفرقة بين واو الجمع و غيرها في نحو قولك: هم لم يدعوا، و هو يدعو. و لمّا كان المعنى هاهنا كافيا في التفرقة بينهما، لم يحتج إلى إثبات الألف.

أَ لا يَظُنُّ أُولئِكَ أَنَّهُمْ مَبْعُوثُونَ فإنّ من ظنّ ذلك لم يتجاسر على أمثال هذه القبائح، فكيف بمن تيقّنه! و فيه إنكار و تعجيب عظيم من حالهم في الاجتراء على التطفيف، كأنّهم لا يخطرون ببالهم و لا يخمّنون تخمينا أنّهم مبعوثون و محاسبون على مقدار الذرة و الخردلة. لِيَوْمٍ عَظِيمٍ عظمه لعظم ما يكون فيه.

يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ من قبورهم. نصب ب «مبعوثون»، أو بدل من الجارّ و المجرور. لِرَبِّ الْعالَمِينَ لحكمه. و لا شبهة أنّ في هذا الإنكار و التعجيب، و ذكر الظنّ، و وصف اليوم بالعظم، و قيام الناس فيه للّه خاضعين، و وصف ذاته بربّ العالمين، مبالغات في المنع عن التطفيف و تعظيم إثمه.

و عن قتادة: أوف يا ابن آدم كما تحبّ أن يوفى لك، و اعدل كما تحبّ أن يعدل لك.

و عن الفضيل: بخس الميزان سواد الوجه يوم القيامة.

و عن ابن عمر: أنّه قرأ هذه السورة، فلمّا بلغ قوله تعالى: «يَوْمَ يَقُومُ النَّاسُ

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 365

لِرَبِّ الْعالَمِينَ» بكى نحيبا، و امتنع من قراءة ما بعده.

و روي: أنّ أعرابيّا قال لعبد الملك بن مروان: لقد سمعت ما قال اللّه تعالى في المطفّفين. أراد بذلك: أنّ المطفّف قد توجّه عليه الوعيد العظيم الّذي سمعت به، فما ظنّك بنفسك و أنت تأخذ أموال المسلمين بلا كيل و لا وزن!!

[سورة المطففين (83): الآيات 7 الى 17]

كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ

(7) وَ ما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ (8) كِتابٌ مَرْقُومٌ (9) وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ (10) الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ (11)

وَ ما يُكَذِّبُ بِهِ إِلاَّ كُلُّ مُعْتَدٍ أَثِيمٍ (12) إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ (13) كَلاَّ بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ (14) كَلاَّ إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ (15) ثُمَّ إِنَّهُمْ لَصالُوا الْجَحِيمِ (16)

ثُمَّ يُقالُ هذَا الَّذِي كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ (17)

كَلَّا ردعهم عمّا كانوا عليه من التطفيف و الغفلة عن ذكر البعث و الحساب، و نبّههم على أنّه ممّا يجب أن يتاب عنه و يندم عليه. ثمّ أتبعه وعيد الفجّار على العموم، فقال: إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ ما يكتب من أعمالهم، أو كتابة أعمالهم لَفِي سِجِّينٍ علم لديوان الشرّ الّذي دوّن اللّه فيه جميع أعمال الفجرة من الشياطين و الثقلين، كما قال:

وَ ما أَدْراكَ ما سِجِّينٌ أي: ليس ذلك ممّا كنت تعلمه أنت و لا قومك كِتابٌ مَرْقُومٌ مسطور بيّن الكتابة. أو معلم يعلم من رآه أنّه لا خير فيه. و المعنى:

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 366

أنّ ما كتب من أعمال الفجّار مثبت في ذلك الديوان. فعّيل من السجن، و هو الحبس و التضييق. نقل من هذا الوصف و لقّب به الكتاب، لأنّه سبب الحبس في جهنّم، فهو من قبيل تسمية السبب باسم المسبّب. أو لأنّه مطروح تحت الأرض السابعة في مكان وحش «1» مظلم، و هو مسكن إبليس و ذرّيّته، استهانة به، و ليشهده الشياطين المدحورون، كما يشهد ديوان الخير الملائكة المقرّبون. تسمية للحالّ باسم المحلّ.

و قيل: اسم مكان على تقدير مضاف، تقديره: ما كتاب السجّين، أو محلّ كتاب مرقوم، فحذف المضاف.

و على التقديرين؛ فلا منافاة بين الآية و بين ما روي عن شمر

بن عطيّة أنّه جاء ابن عبّاس إلى كعب الأحبار فقال: أخبرني عن قول اللّه تعالى: «إِنَّ كِتابَ الفُجَّارِ لَفِي سِجِّينٍ». قال: إنّ روح الفاجر يصعد بها إلى السماء، فتأبى السماء أن تقبلها، ثمّ يهبط بها إلى الأرض، فتأبى الأرض أن تقبلها، فتدخل تحت سبع أرضين، حتّى ينتهى بها إلى سجّين، و هو موضع جند إبليس. و ما

روى أبو هريرة عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنّ سجّين جبّ في جهنّم مفتوح، و الفلق جبّ في جهنّم مغطّى».

وَيْلٌ يَوْمَئِذٍ لِلْمُكَذِّبِينَ لمن كذّب بالجزاء و البعث و لم يصدّقه الَّذِينَ يُكَذِّبُونَ بِيَوْمِ الدِّينِ صفة مخصّصة، أو موضحة، أو ذامّة، كقولك: فعل ذلك فلان الفاسق الخبيث.

وَ ما يُكَذِّبُ بِهِ إِلَّا كُلُّ مُعْتَدٍ متجاوز عن النظر، غال في التقليد، حتّى استقصر قدرة اللّه و علمه، فاستحال منه الإعادة أَثِيمٍ كثير الإثم، منهمك في الشهوات الرديّة المردية، بحيث أشغلته عمّا وراءها، و حملته على الإنكار.

إِذا تُتْلى عَلَيْهِ آياتُنا قالَ أَساطِيرُ الْأَوَّلِينَ أباطيلهم الّتي كتبوها و لا أصل لها. و ذلك من فرط جهله و إعراضه عن الحقّ، فلا تنفعه شواهد النقل، كما لا تنفعه

______________________________

(1) مكان وحش: أي: قفر.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 367

دلائل العقل.

كَلَّا ردع للمعتدي الأثيم عن هذا القول. ثمّ بيّن ما أدّى بهم إلى هذا القول، فقال: بَلْ رانَ من الرين، و هو ركوب الصدأ على شي ء. و قرأ حفص: بل ران، بإظهار اللام. و الإدغام أجود. و المعنى: بل ركب و غلب كما يركب الصدأ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ أي: حبّ ما كانوا يعملون من المعاصي و الانهماك فيها، فعمي عليهم معرفة الحقّ و الباطل، فإنّ كثرة الأفعال سبب لحصول الملكات، فإذا كان

العبد يصرّ على الكبائر، و يسوّف التوبة حتّى يطبع على قلبه، فلا يقبل الخير و لا يميل إليه، كما

قال عليه السّلام: «إنّ العبد كلّما أذنب ذنبا حصل في قلبه نكتة سوداء حتّى يسودّ قلبه».

و عن الحسن: الذنب بعد الذنب حتّى يسودّ القلب.

و

عن عبد اللّه بن مسعود قال: إنّ الرجل ليذنب الذنب فتنكت على قلبه نكتة سوداء، ثمّ يذنب الذنب فتنكت نكتة اخرى، حتّى يصير قلبه على لون الشاة السوداء.

و

روى العيّاشي بإسناده عن زرارة عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «ما من عبد مؤمن إلّا و في قلبه نكتة بيضاء، فإذا أذنب ذنبا خرج في تلك النكتة نكتة سوداء، فإذا تاب ذهب ذلك السواد، و إن تمادى في الذنوب زاد ذلك السواد حتّى يغطّي البياض، فإذا غطّى البياض لم يرجع إلى الخير أبدا، و هو قوله تعالى: «بَلْ رانَ عَلى قُلُوبِهِمْ ما كانُوا يَكْسِبُونَ».

كَلَّا ردع عن كسب العمل الرائن على قلوبهم إِنَّهُمْ عَنْ رَبِّهِمْ يَوْمَئِذٍ لَمَحْجُوبُونَ تمثيل للاستخفاف بهم و إهانتهم، لأنّه لا يؤذن على الملوك إلّا للوجهاء المكرّمين لديهم، و لا يحجب عنهم إلّا الأدنياء المهانون عندهم. و

عن عليّ عليه السّلام: «محرومون عن ثوابه و كرامته».

و عن ابن عبّاس و قتادة: محجوبون عن

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 368

رحمته و إحسانه.

ثُمَّ إِنَّهُمْ بعد أن منعوا من الثواب و الكرامة لَصالُوا الْجَحِيمِ يصلونها و يلزمونها أبدا، و لا يغيبون عنها أصلا.

ثُمَّ يُقالُ يقول لهم الزبانية توبيخا و تقريعا هذَا الَّذِي فعل بكم من العذاب الأليم و العقاب العظيم ما كُنْتُمْ بِهِ تُكَذِّبُونَ في دار التكليف.

[سورة المطففين (83): الآيات 18 الى 28]

كَلاَّ إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ لَفِي عِلِّيِّينَ (18) وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ (19) كِتابٌ مَرْقُومٌ (20) يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ (21) إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي

نَعِيمٍ (22)

عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (23) تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ (24) يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ مَخْتُومٍ (25) خِتامُهُ مِسْكٌ وَ فِي ذلِكَ فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ (26) وَ مِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ (27)

عَيْناً يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ (28)

كَلَّا ردع عن التكذيب. أو تكرير للأوّل، ليعقّب بوعد الأبرار كما عقّب الأوّل بوعد الفجّار، إشعارا بأنّ التطفيف فجور و الإيفاء برّ. و قيل: معناه: حقّا. إِنَّ كِتابَ الْأَبْرارِ ما كتب من أعمالهم. لَفِي عِلِّيِّينَ علم لديوان الخير الّذي دوّن فيه كلّ ما عملته الملائكة و صلحاء الثقلين. منقول من جمع علّيّ، فعّيل من العلوّ، كسجّين من السجن. سمّي به إمّا لأنّه سبب الارتفاع إلى أعالي الدرجات في الجنّة.

و إمّا لأنّه مرفوع في السماء السابعة تحت العرش حيث يسكن الكرّوبيّون، تكريما

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 369

له و تعظيما.

وَ ما أَدْراكَ ما عِلِّيُّونَ تعظيم لشأن هذا الكتاب. ثمّ قال: كِتابٌ مَرْقُومٌ مكتوب فيه طاعاتهم و ما تقرّ به أعينهم و يوجب سرورهم، بضدّ كتاب الفجّار يَشْهَدُهُ الْمُقَرَّبُونَ يحضرونه فيحفظونه، أو يشهدون على ما فيه يوم القيامة.

و عن ابن عبّاس: هو لوح من زبرجدة خضراء، معلّق تحت العرش، أعمالهم مكتوبة فيه.

و

روي: أنّ الملائكة لتصعد بعمل العبد فيستقلّونه، فإذا انتهوا به إلى ما شاء اللّه من سلطانه أوحى إليهم: إنّكم الحفظة على عبدي، و أنا الرقيب على ما في قلبه، و إنّه أخلص عمله، فاجعلوه في علّيّين، فقد غفرت له. و إنّها لتصعد بعمل العبد فيزكّونه، فإذا انتهوا به إلى ما شاء اللّه أوحى إليهم: أنتم الحفظة على عبدي، و أنا الرقيب على ما في قلبه، و إنّه لم يخلص لي عمله، فاجعلوه في سجّين.

إِنَّ الْأَبْرارَ لَفِي نَعِيمٍ يحصلون في ملاذّ و أنواع نعم الجنّة عَلَى الْأَرائِكِ

على الأسرّة «1» في الحجال. جمع الأريكة، و هي السرير. يَنْظُرُونَ إلى ما يسرّهم من مناظر الجنّة، و إلى ما أولاهم اللّه من النعمة و الكرامة، و إلى أعدائهم يعذّبون في النار.

تَعْرِفُ فِي وُجُوهِهِمْ نَضْرَةَ النَّعِيمِ بهجة التنعّم و بريقه، كما ترى في وجوه الأغنياء و أهل الثروة. قال عطاء: و ذلك لأنّ اللّه قد زاد في جمالهم و ألوانهم مالا يصفه واصف. و قرأ يعقوب: تعرف على بناء المفعول، و نضرة بالرفع.

يُسْقَوْنَ مِنْ رَحِيقٍ شراب خالص لا غشّ فيه مَخْتُومٍ* خِتامُهُ مِسْكٌ

______________________________

(1) الأسرّة جمع: السرير. و الحجال جمع الحجلة. و هي: بيت يزيّن بالثياب و الأسرّة و الستور.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 370

أي: يختم أوانيه من الأكواب و الأباريق بمسك مكان الطينة في الدنيا. و قيل: مختوم أي: ممنوع من أن يمسّه يد حتّى يفكّ ختمه للأبرار. و قرأ الكسائي: خاتمه بفتح التاء، أي: ما يختم به و يقطع.

و عن ابن عبّاس و الحسن و قتادة: معناه: مقطعه رائحة المسك إذا شرب.

يعني: إذا رفع الشارب فاه عن آخر شرابه وجد ريحه كريح المسك. و قيل: يمزج بالكافور، و يختم مزاجه بالمسك.

و عن أبي الدرداء قال: هو شراب أبيض مثل الفضّة يختمون به شرابهم. و لو أنّ رجلا من أهل الدنيا أدخل إصبعه فيه ثمّ أخرجها لم يبق ذو روح إلّا وجد طيبها.

ثمّ أمر سبحانه بالترغيب فيه بوسيلة الأعمال الصالحة، فقال: وَ فِي ذلِكَ يعني: الرحيق، أو النعيم فَلْيَتَنافَسِ الْمُتَنافِسُونَ فليرتغب المرتغبون، أي:

يرغب الراغبون بالمبادرة إلى طاعة اللّه. و عن مقاتل: فليتنازع المتنازعون. و في الحديث: «من صام للّه في يوم صائف سقاه اللّه على الظّمأ من الرحيق المختوم».

و

في وصيّة النبيّ صلّى اللّه عليه و

آله و سلّم لأمير المؤمنين عليه السّلام: «يا عليّ من ترك الخمر للّه سقاه اللّه من الرحيق المختوم».

وَ مِزاجُهُ مِنْ تَسْنِيمٍ علم لعين بعينها. سمّيت تسنيما- الّذي هو مصدر:

سنّمه إذا رفعه- إمّا لأنّها أرفع شراب في الجنّة، و إمّا لأنّها تأتيهم من فوق، على ما روي: أنّها تجري في الهواء متسنّمة فتنصبّ في أوانيهم. و هو أشرف شراب الجنّة.

عَيْناً نصب على المدح. و عند الزجّاج على الحال من «تسنيم».

يَشْرَبُ بِهَا الْمُقَرَّبُونَ فإنّهم يشربونها صرفا، لأنّهم لا يشتغلون بغير اللّه. و تمزج لسائر أهل الجنّة. و الكلام في الباء كما في يَشْرَبُ بِها عِبادُ اللَّهِ «1».

______________________________

(1) الإنسان: 6.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 371

[سورة المطففين (83): الآيات 29 الى 36]

إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ (29) وَ إِذا مَرُّوا بِهِمْ يَتَغامَزُونَ (30) وَ إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ (31) وَ إِذا رَأَوْهُمْ قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ (32) وَ ما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ حافِظِينَ (33)

فَالْيَوْمَ الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ (34) عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ (35) هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ ما كانُوا يَفْعَلُونَ (36)

و لمّا ذكر الوعد للأبرار بيّن الوعيد للفجّار، فقال: إِنَّ الَّذِينَ أَجْرَمُوا يعني:

رؤساء قريش و مترفيهم، كأبي جهل و الوليد بن المغيرة و العاص بن وائل و أشياعهم كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ استهزاء بفقراء المؤمنين، من عمّار و صهيب و خبّاب و بلال و نظرائهم.

و

عن مقاتل و الكلبي و أبي صالح عن ابن عبّاس: أنّه جاء عليّ بن أبي طالب عليهم السّلام في نفر من المسلمين، فسخر منهم المنافقون و ضحكوا و تغامزوا، ثمّ رجعوا إلى أصحابهم فقالوا: رأينا اليوم الأصلع- أرادوا به عليّا عليه السّلام- فضحكوا منه، فنزلت قبل أن يصل عليّ عليه السّلام إلى رسول اللّه: «إِنَّ الَّذِينَ

أَجْرَمُوا كانُوا مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا يَضْحَكُونَ».

وَ إِذا مَرُّوا بِهِمْ مرّ المؤمنون بهؤلاء الفجّار يَتَغامَزُونَ يغمز بعضهم بعضا، و يشيرون بأعينهم و حواجبهم.

وَ إِذَا انْقَلَبُوا إِلى أَهْلِهِمُ انْقَلَبُوا فَكِهِينَ متلذّذين بالسخريّة منهم. و قر حفص: فكهين «1» مبالغة.

______________________________

(1) و القراءة الاخرى: فاكهين.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 372

وَ إِذا رَأَوْهُمْ و إذا رأوا المؤمنين قالُوا إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ أي: نسبوهم إلى الضلال.

وَ ما أُرْسِلُوا عَلَيْهِمْ على المؤمنين حافِظِينَ يحفظون عليهم أعمالهم، و يشهدون برشدهم و ضلالهم، فكيف يطغون عليهم؟! و هذا تهكّم بهم، أو هو من جملة قول الكفّار. يعني: أنّهم إذا رأوا المسلمين قالوا: «إِنَّ هؤُلاءِ لَضالُّونَ»، و إنّهم لم يرسلوا عليهم حافظين، إنكارا لصدّهم إيّاهم عن الشرك و دعائهم إلى الإسلام، أو عن النفاق، و جدّهم في ذلك.

فَالْيَوْمَ أي: يوم القيامة الّذي يجازي اللّه فيه كلّ أحد وفق عمله الَّذِينَ آمَنُوا مِنَ الْكُفَّارِ يَضْحَكُونَ حين يرونهم أذلّاء مغلوبين في النار، كما ضحك الكفّار منهم في الدنيا.

و قيل: يفتح لهم باب إلى الجنّة فيقال لهم: أخرجوا إليها، فإذا وصلوا إليها أغلق دونهم، يفعل ذلك بهم مرارا، فيضحك المؤمنون منهم.

عَلَى الْأَرائِكِ يَنْظُرُونَ حال من «يضحكون» أي: يضحكون منهم ناظرين إليهم و إلى ما هم فيه من الهوان و الصغار بعد العزّة و الكبر، و من ألوان العذاب بعد النعيم و الترفّه، و هم على الأرائك آمنون.

هَلْ ثُوِّبَ الْكُفَّارُ هل أثيبوا؟ و الاستفهام للتقرير. ما كانُوا يَفْعَلُونَ من السخريّة بالمؤمنين في الدنيا. يقال: ثوّبه و أثابه إذا جازاه. فاستعمل لفظ الثواب في العقوبة، لأنّ الثواب في أصل اللغة الجزاء الّذي يرجع إلى العامل بعمله، و إن كان في العرف اختصّ بالجزاء بالنعيم على الأعمال الصالحة، فاستعمل هنا على أصله.

و

قيل: لأنّه جاء في مقابلة ما فعل بالمؤمنين، أي: هل ثوّب الكفّار كما ثوّب المؤمنون؟

و هذا القول يكون من قبل اللّه تعالى، أو تقوله الملائكة للمؤمنين، تنبيها لهم على أنّ الكفّار جوزوا على كفرهم و استهزائهم بالمؤمنين ما استحقّوه من العذاب، ليزدادوا بذلك سرورا إلى سرورهم.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 373

(84) سورة انشقّت

اشارة

و تسمّى سورة الانشقاق. مكّيّة. و هي خمس و عشرون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «و من قرأ سورة انشقّت أعاذه اللّه تعالى أن يعطيه كتابه وراء ظهره».

[سورة الانشقاق (84): الآيات 1 الى 15]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ (1) وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها وَ حُقَّتْ (2) وَ إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ (3) وَ أَلْقَتْ ما فِيها وَ تَخَلَّتْ (4)

وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها وَ حُقَّتْ (5) يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ إِنَّكَ كادِحٌ إِلى رَبِّكَ كَدْحاً فَمُلاقِيهِ (6) فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ (7) فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً (8) وَ يَنْقَلِبُ إِلى أَهْلِهِ مَسْرُوراً (9)

وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ (10) فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً (11) وَ يَصْلى سَعِيراً (12) إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ مَسْرُوراً (13) إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ (14)

بَلى إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً (15)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 374

و لمّا ختم اللّه سورة المطفّفين بذكر أحوال القيامة، افتتح هذه السورة بمثل ذلك، فاتّصلت بها اتّصال النظير بالنظير، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* إِذَا السَّماءُ انْشَقَّتْ تصدّعت و انفرجت بالغمام، كقوله تعالى: وَ يَوْمَ تَشَقَّقُ السَّماءُ بِالْغَمامِ «1». و

عن عليّ عليه السّلام: «تنشقّ من المجرّة».

و هي طريق ممتدّ في السماء. و انشقاقها من آيات القيامة.

وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها و استمعت له، أي: انقادت لتأثير قدرته حين أراد انشقاقها، انقياد المطواع الّذي إذا ورد عليه الأمر من جهة المطاع أنصت له و أذعن و لم يأب و لم يمتنع، كقوله: أَتَيْنا طائِعِينَ «2». وَ حُقَّتْ و جعلت حقيقة بالاستماع و الانقياد. يقال: حقّ بكذا، فهو محقوق و حقيق به. يعني: هي حقيقة بأن تنقاد و لا تمتنع. و معناه: الإيذان بأنّ القادر بالذات يجب أن يتأتّى له

كلّ مقدور، و يحقّ ذلك.

وَ إِذَا الْأَرْضُ مُدَّتْ بسطت. من: مدّ الشي ء فامتدّ. و هو أن تزال جبالها و آكامها و كلّ أمت «3» فيها، حتّى تمتدّ و تنبسط و يستوي ظهرها، كما قال تعالى:

قاعاً صَفْصَفاً لا تَرى فِيها عِوَجاً وَ لا أَمْتاً «4». و عن ابن عبّاس: مدّت مدّ الأديم العكاظي، لأنّ الأديم إذا مدّ زال كلّ انثناء فيه و أمت و استوى. أو من: مدّه بمعنى:

أمدّه، أي: زيدت سعة و بسطة.

وَ أَلْقَتْ و رمت ما فِيها ما في جوفها ممّا دفن فيها من الأموات و الكنوز، كقوله: وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها «5» وَ تَخَلَّتْ و خلت غاية الخلوّ،

______________________________

(1) الفرقان: 25.

(2) فصّلت: 11.

(3) الأمت: المكان المرتفع.

(4) طه: 106- 107.

(5) الزلزلة: 2.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 375

حتّى كأنّها تكلّفت في الخلوّ أقصى جهدها، فلم يبق شي ء في باطنها، كما يقال:

تكرّم الكريم و ترحّم الرحيم، إذا بلغا جهدهما في الكرم و الرحمة، و تكلّفا فوق ما في طبعهما.

وَ أَذِنَتْ لِرَبِّها في إلقاء ما في بطنها و تخلّيها وَ حُقَّتْ للإذن. و ليس هذا بتكرير، لأنّ الأوّل في صفة السماء، و الثاني في صفة الأرض. و هذا كلّه من أشراط الساعة و جلائل الأمور الّتي تكون فيها. و تكرير «إذا» لاستقلال كلّ من الجملتين بنوع من القدرة. و جوابه محذوف، للتهويل بالإبهام، أو الاكتفاء بما علم في مثلها من سورتي التكوير و الانفطار.

و قيل: الجواب: لاقى الإنسان كدحه، فإنّه مدلول قوله: يا أَيُّهَا الْإِنْسانُ خطاب لجميع المكلّفين إِنَّكَ كادِحٌ جاهد في أعمال الخير و الشرّ، و كادّ و ساع فيها بالمشقّة العظيمة إِلى رَبِّكَ و هو الموت و ما بعده من الأحوال الممثّلة باللقاء كَدْحاً جهدا يؤثّر فيك.

من: كدح جلده إذا خدشه. فَمُلاقِيهِ فملاق له لا محالة، و لا مفرّ لك منه. و قيل: الضمير للكدح.

فَأَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ بِيَمِينِهِ* فَسَوْفَ يُحاسَبُ حِساباً يَسِيراً سهلا هيّنا، و لا يعترض بما يسوءه و يشقّ عليه، و لا يناقش فيه كما يناقش أصحاب الشمال.

و عن عائشة: هو أن يعرّف ذنوبه ثمّ يتجاوز عنه. و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «من يحاسب يعذّب. فقيل: يا رسول اللّه فسوف يحاسب حسابا يسيرا. قال: ذلكم العرض، من نوقش في الحساب عذّب».

وَ يَنْقَلِبُ بعد الفراغ من الحساب إِلى أَهْلِهِ إلى عشيرته المؤمنين، أو فريق المؤمنين، أو أهله في الجنّة من الحور العين مَسْرُوراً ناعما لا يهمّه أمر الآخرة أصلا.

وَ أَمَّا مَنْ أُوتِيَ كِتابَهُ وَراءَ ظَهْرِهِ أي: يؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 376

قيل: تغلّ يمناه إلى عنقه، و تجعل يسراه وراء ظهره، فيؤتى كتابه بشماله من وراء ظهره. و قيل: تخلع يده اليسرى من وراء ظهره. فَسَوْفَ يَدْعُوا ثُبُوراً يتمنّى الثبور و يقول: يا ثبوراه، و هو الهلاك.

وَ يَصْلى سَعِيراً و يدخل النار و يعذّب بها. و قرأ الحجازيّان و الشامي و الكسائي: و يصلّى، كقوله: وَ تَصْلِيَةُ جَحِيمٍ «1».

إِنَّهُ كانَ فِي أَهْلِهِ فيما بين ظهرانيّهم، أو معهم، على أنّهم كانوا جميعا مسرورين. يعني: أنّه كان في الدنيا مَسْرُوراً مترفا، بطرا، مستبشرا بالمال و الجاه، فارغا عن الآخرة، كعادة الفجّار الّذين لا يهمّهم أمر الآخرة، و لا يفكّرون في العواقب، و لم يكن كئيبا حزينا متفكّرا، كعادة الصلحاء و المتّقين، و حكاية اللّه عنهم: إِنَّا كُنَّا قَبْلُ فِي أَهْلِنا مُشْفِقِينَ «2».

إِنَّهُ ظَنَّ أَنْ لَنْ يَحُورَ لن يرجع إلى اللّه تعالى

تكذيبا بالمعاد، فارتكب المآثم، و انهمك فيها. يقال: لا يحور و لا يحول، أي: لا يرجع و لا يتغيّر. قال لبيد:

يحور رمادا بعد إذ هو ساطع «3»، أي: يرجع. عن ابن عبّاس: ما كنت أدري ما معنى «يحور» حتّى سمعت أعرابيّة تقول لبنيّة لها: حوري، أي: ارجعي.

بَلى إيجاب لما بعد «لن» أي: بلى ليحورنّ إِنَّ رَبَّهُ كانَ بِهِ بَصِيراً عالما بأعماله، فلا يهمله، بل يرجعه و يجازيه عليها. قيل: نزلت الآيتان في أبي سلمة بن عبد الأشدّ و أخيه الأسود بن عبد الأشدّ.

______________________________

(1) الواقعة: 94.

(2) الطور: 26.

(3) و صدره: و ما المرء إلّا كالشّهاب وضوئه.

أي: ليس حال المرء و حياته و موته بعد ذلك، إلّا كحال الشهاب و ضوئه، يصير رمادا بعد إضاءته.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 377

[سورة الانشقاق (84): الآيات 16 الى 25]

فَلا أُقْسِمُ بِالشَّفَقِ (16) وَ اللَّيْلِ وَ ما وَسَقَ (17) وَ الْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ (18) لَتَرْكَبُنَّ طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ (19) فَما لَهُمْ لا يُؤْمِنُونَ (20)

وَ إِذا قُرِئَ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ (21) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ (22) وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ (23) فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ (24) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (25)

فَلا أُقْسِمُ سبق بيانه غير مرّة بِالشَّفَقِ بالحمرة الّتي ترى في أفق المغرب بعد غروب الشمس، و بسقوطه يخرج وقت المغرب و يدخل وقت العتمة.

و سمّيت به لرقّتها. و منه: الشفقة على الإنسان، أي: رقّة القلب عليه.

وَ اللَّيْلِ وَ ما وَسَقَ و ما جمعه و ستره و أوى إليه، من الدوابّ و غيرها.

و ذلك أنّ الليل إذا أقبل أوى كلّ شي ء إلى مأواه. يقال: وسقه فاتّسق و استوسق.

و نظيره في وقوع افتعل و استفعل مطاوعين: اتّسع و استوسع، فإنّهما مطاوعان ل

«وسع». أو طرده إلى أماكنه. من الوسيقة، و هي من الإبل كالرفقة من النّاس.

وَ الْقَمَرِ إِذَا اتَّسَقَ اجتمع و تمّ بدرا في أربع عشرة.

و جواب القسم لَتَرْكَبُنَ الخطاب لجنس الإنسان طَبَقاً عَنْ طَبَقٍ حالا بعد حال مطابقة لأختها في الشدّة و الهول. و روي مرفوعا: شدّة بعد شدّة: حياة، ثمّ موتا، ثمّ بعثا، ثمّ جزاء.

و «عن طبق» صفة ل «طبقا» أي: طبقا مجاوزا لطبق. أو حال من الضمير في «لتركبنّ» أي: لتركبنّ مجاوزين لطبق.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 378

و أصل الطبق ما طابق غيره. يقال: ما هذا بطبق كذا، أي: لا يطابقه. و منه قيل للغطاء: الطبق. و أطباق الثرى: ما تطابق منه. ثمّ قيل للحال المطابقة لغيرها:

طبق، كما في الآية.

و يجوز أن يكون جمع طبقة، و هي المرتبة، من قولهم: هو على طبقات.

و منه: طبق الظهر لفقاره، الواحدة: طبقة. فالمعنى: لتركبنّ أحوالا بعد أحوال، هي طبقات في الشدّة، بعضها فوق بعض. و هي: الموت، و مواطن القيامة و أهوالها. أو هي و ما قبلها من الدواهي.

و قيل: أمرا بعد أمر، و رخاء بعد شدّة، و فقرا بعد غنى، و غنى بعد فقر، و صحّة بعد سقم، و سقما بعد صحّة.

و قيل: نطفة، ثمّ علقة، ثمّ مضغة، ثمّ عظما، ثمّ خلقا آخر، ثمّ جنينا، ثمّ وليدا، ثمّ رضيعا، ثمّ فطيما «1»، ثمّ يافعا، ثمّ ناشئا، ثمّ مترعرعا، ثمّ حزوّرا «2»، ثمّ مراهقا، ثمّ محتلما، ثمّ بالغا، ثمّ أمرد، ثمّ طارا، ثمّ باقلا «3»، ثمّ مسيطرا، ثمّ مطرخما، ثمّ مختطّا «4»، ثمّ صملّا «5»، ثمّ ملتحيا، ثمّ مستويا، ثمّ مصعدا، ثمّ مجتمعا.

و الشابّ يجمع ذلك كلّه. ثمّ ملهوزا «6»، ثمّ كهلا، ثمّ أشمط «7»، ثمّ شيخا، ثمّ

أشيب، ثمّ حوقلا «8»، ثمّ صفتانا «9»، ثمّ همّا، ثمّ هرما، ثمّ ميّتا. فيشتمل الإنسان من كونه

______________________________

(1) الفطيم: الولد إذا فصل عن الرضاع.

(2) الحزور و الحزوّر: الغلام إذا اشتدّ و قوي.

(3) بقل وجه الغلام: خرج شعره. فهو: باقل.

(4) اختطّ الغلام: نبت عذاره.

(5) الصملّ: الشديد الخلق.

(6) لهزه الشيب: خالطه. فهو: ملهوز.

(7) شمط شمطا: خالط بياض رأسه سواد. فهو: أشمط.

(8) الحوقل: الشيخ المسنّ.

(9) الصفتّان: الجسيم الشديد.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 379

نطفة إلى أن يموت على سبعة و ثلاثين حالا.

و قيل: معناه: لتركبنّ منزلة عن منزلة، و طبقة عن طبقة. و ذلك أنّ من كان على صلاح دعاه ذلك إلى صلاح فوقه، و من كان على فساد دعاه إلى فساد فوقه، لأنّ كلّ شي ء يجرّ إلى شكله.

و قيل: لتركبنّ سنن من قبلكم من الأوّلين و أحوالهم. و روي ذلك عن الصادق عليه السّلام. و المعنى: أنّه يكون فيكم ما كان فيهم، و يجري عليكم ما جرى عليهم، حذو القذّة بالقذّة.

و قرأ ابن كثير و حمزة و الكسائي: لتركبنّ بالفتح، على أنّه خطاب الإنسان باعتبار اللفظ.

و عن مجاهد و الكلبي: الخطاب للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، على معنى: لتركبنّ حالا شريفة و مرتبة عالية بعد حال و مرتبة، في القرب من اللّه و رفعة المنزلة عنده. أو طبقا من أطباق السماء بعد طبق في ليلة المعراج. و المعنى: طبقا مجاوزا لطبق.

و روى البخاريّ «1» في الصحيح عن مجاهد، عن ابن عبّاس، أنّه كان يقرأ:

لتركبنّ بالياء. قال: يعني نبيّكم صلّى اللّه عليه و آله و سلّم حالا بعد حال.

فَما لَهُمْ لكفّار قريش لا يُؤْمِنُونَ بيوم القيامة وَ إِذا قُرِئَ عطف على «لا يؤمنون» أي: فما لهم إذا

قرئ عَلَيْهِمُ الْقُرْآنُ لا يَسْجُدُونَ لا يخضعون و لا يستكينون، أي: ما الّذي يصرفهم عن الخضوع و الاستكانة عند تلاوة القرآن، أو عن أن يسجدوا لتلاوة القرآن، لما

روي: أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قرأ وَ اسْجُدْ وَ اقْتَرِبْ «2»

فسجد هو و من معه من المؤمنين، و قريش تصفق فوق رؤوسهم و تصفر، فنزلت.

و

عن أبي هريرة: أنّه سجد فيها و قال: و اللّه ما سجدت فيها إلّا بعد أن رأيت رسول

______________________________

(1) صحيح البخاري 6: 208.

(2) العلق: 19. زبدة التفاسير، ج 7، ص: 380

اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يسجد فيها.

و باتّفاق أصحابنا السجدة هنا مستحبّة.

بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا يُكَذِّبُونَ أي: بالقرآن وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما يُوعُونَ بما يجمعون في صدورهم و يضمرون من الكفر و الحسد و العداوة. أو بما يجمعون في صحفهم من أعمال السوء، و يدّخرون لأنفسهم من أنواع العذاب. و أصل الإيعاء:

جعل الشي ء في وعاء. و القلوب أوعية لما يحصل فيها من علم أو جهل. و

في كلام أمير المؤمنين عليه السّلام: «هذه القلوب أوعية، فخيرها أوعاها».

فَبَشِّرْهُمْ بِعَذابٍ أَلِيمٍ استهزاء بهم إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ استثناء منقطع أو متّصل. و المراد: من تاب و آمن منهم. لَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ مقطوع عليهم، لأنّ نعيم الآخرة غير منقطع. أو ممنون به عليهم.

و اعلم أنّ في قوله: «لا يؤمنون» و «لا يسجدون» دلالة على أنّ الإيمان و السجود فعلهم، لأنّ الحكيم لا يقول: مالك لا تؤمن و لا تسجد لمن يعلم أنّه لا يقدر على الإيمان و السجود، و لو وجد ذلك لما كان من فعله. و يدلّ قوله: «لا يسجدون» على أنّ الكفّار مخاطبون بالعبادات.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 381

(85) سورة البروج

اشارة

مكّيّة. و هي اثنتان و عشرون آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «و من قرأها أعطاه اللّه من الأجر بعدد كلّ يوم جمعة و كلّ يوم عرفة يكون في دار الدنيا عشر حسنات».

يونس بن ظبيان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ و السماء ذات البروج في فرائضه- فإنّها سورة النبيّين- كان محشره و موقفه مع النبيّين و المرسلين».

[سورة البروج (85): الآيات 1 الى 9]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ السَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ (1) وَ الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ (2) وَ شاهِدٍ وَ مَشْهُودٍ (3) قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ (4)

النَّارِ ذاتِ الْوَقُودِ (5) إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ (6) وَ هُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ (7) وَ ما نَقَمُوا مِنْهُمْ إِلاَّ أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ (8) الَّذِي لَهُ مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ (9)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 382

و لمّا ختم سبحانه سورة الانشقاق بذكر المؤمنين، افتتح هذه السورة أيضا بذكر المؤمنين من أصحاب الأخدود، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* وَ السَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ البرج بمعنى القصر.

و أصل التركيب للظهور. و المراد: المنازل العالية، و هي منازل الشمس و القمر و الكواكب. و هي اثنا عشر برجا، يسير القمر في كلّ برج منها يومين و ثلاثا، و تسير الشمس في كلّ برج شهرا. أو منازل القمر، و هي ثمانية و عشرون، سمّيت بها على التشبيه بالقصور. أو عظام الكواكب، سمّيت بروجا لظهورها. أو أبواب السماء، فإنّ النوازل تخرج منها.

وَ الْيَوْمِ الْمَوْعُودِ لمجازاة الخلائق. و هو يوم القيامة باتّفاق جميع المفسّرين. وَ شاهِدٍ وَ مَشْهُودٍ أي: و شاهد في ذلك اليوم و مشهود فيه. و المراد:

من يشهد فيه من الخلائق كلّهم،

و ما أشهد و أحضر في ذلك اليوم من عجائبه.

و تنكيرهما للإبهام في الوصف، أي: و شاهد و مشهود لا يكتنه و صفهما. أو المبالغة في الكثرة، كأنّه قيل: ما أفرطت كثرته من شاهد و مشهود.

و قد اضطربت أقاويل المفسّرين فيهما. فعن ابن عبّاس:

الشاهد يوم الجمعة، و المشهود يوم عرفة. و روي ذلك عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.

و سمّي يوم الجمعة شاهدا، لأنّه يشهد على كلّ عامل بما عمل فيه. و

في الحديث: «ما طلعت الشمس على يوم و لا غربت أفضل منه، و فيه ساعة لا يوافقها من يدعو اللّه فيها بخير إلّا استجاب اللّه له، و لا استعاذ من شرّ إلّا أعاذه منه».

و يوم عرفة مشهود يشهد الناس فيه موسم الحجّ، و تشهده الملائكة.

و عن بعضهم: الشاهد يوم النحر، و المشهود يوم عرفة.

و عن سعيد بن المسيّب:

الشاهد محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و المشهود يوم القيامة. و هو المرويّ عن الحسن بن عليّ عليهما السّلام.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 383

و

روي: أنّ رجلا دخل مسجد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فإذا رجل يحدّث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قال: فسألته عن الشاهد و المشهود. فقال: نعم، الشاهد يوم الجمعة، و المشهود يوم عرفة. فجزته إلى آخر يحدّث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فسألته عن ذلك.

فقال: نعم، الشاهد يوم الجمعة، و المشهود يوم النحر. فجزتهما إلى غلام كأنّ وجهه الدينار، و هو يحدّث عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقلت: أخبرني عن

شاهد و مشهود.

فقال: نعم، أمّا الشاهد فمحمّد، و أمّا المشهود فيوم القيامة. أما سمعته سبحانه يقول:

يا أَيُّهَا النَّبِيُّ إِنَّا أَرْسَلْناكَ شاهِداً وَ مُبَشِّراً وَ نَذِيراً «1». و قال: ذلِكَ يَوْمٌ مَجْمُوعٌ لَهُ النَّاسُ وَ ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ «2». فسألت عن الأوّل، فقالوا: ابن عبّاس. و سألت عن الثاني، فقالوا: ابن عمر. و سألت عن الثالث، فقالوا: الحسن بن عليّ عليهما السّلام.

أو الشاهد يوم عرفة، و المشهود يوم القيامة. و

عن أبي الدرداء عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «أكثروا الصّلاة عليّ يوم الجمعة، فإنّه يوم مشهود تشهده الملائكة، و إنّ أحدا لا يصلّي عليّ إلّا عرضت عليّ صلاته حتّى يفرغ منها. قال: فقلت: و بعد الموت؟ قال: إنّ اللّه حرّم على الأرض أن تأكل أجساد الأنبياء، فنبيّ اللّه حيّ يرزق».

و عن عكرمة: الشاهد الملك يشهد على ابن آدم، و المشهود يوم القيامة. ثمّ تلا هاتين الآيتين: وَ جاءَتْ كُلُّ نَفْسٍ مَعَها سائِقٌ وَ شَهِيدٌ «3». وَ ذلِكَ يَوْمٌ مَشْهُودٌ «4».

و عن الجبائي: الشاهد الحفظة الّذين يشهدون على الناس، و المشهود هم

______________________________

(1) الأحزاب: 45.

(2) هود: 103.

(3) ق: 21.

(4) هود: 103.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 384

الّذين يشهدون عليهم.

و عن الحسين بن الفضل: الشاهد هذه الأمّة، و المشهود سائر الأمم، لقوله:

يَوْمَ تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ «1» الآية.

و قيل: الشاهد الحجر الأسود، و المشهود الحاجّ.

و قيل: الشاهد الأيّام و الليالي، و المشهود بنو آدم. و عن الحسن: ما من يوم إلّا و ينادي: إنّي يوم جديد، و إنّي على ما يعمل فيّ شهيد، فاغتنمني، فلو غابت شمسي لم تدركني إلى يوم القيامة.

و قيل: الشاهد محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و المشهود سائر الأمم.

و قيل:

الشاهد الأنبياء، و المشهود محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. بيانه: وَ إِذْ أَخَذَ اللَّهُ مِيثاقَ النَّبِيِّينَ إلى قوله: فَاشْهَدُوا وَ أَنَا مَعَكُمْ مِنَ الشَّاهِدِينَ «2».

و قيل: الشاهد هو اللّه، و المشهود لا إله إلّا اللّه. بيانه: قوله: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ «3».

و قيل: الشاهد الخلق، و المشهود الحقّ، كقوله:

و للّه في كلّ تحريكةو في كلّ تسكينة شاهد

و في كلّ شي ء له آيةتدلّ على أنّه واحد

و قيل: بالعكس، لقوله: وَ اللَّهُ شَهِيدٌ عَلى ما تَعْمَلُونَ «4».

و قيل: عيسى و أمّته، لقوله تعالى: وَ كُنْتُ عَلَيْهِمْ شَهِيداً ما دُمْتُ فِيهِمْ «5».

______________________________

(1) النور: 24.

(2) آل عمران: 81.

(3) آل عمران: 18.

(4) آل عمران: 98.

(5) المائدة: 117.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 385

و على التقادير؛ قوله: قُتِلَ أَصْحابُ الْأُخْدُودِ جواب القسم على تقدير: لقد قتل. و الأظهر أنّه دليل جواب محذوف، كأنّه قيل: إنّهم ملعونون- يعني: كفّار مكّة- كما لعن أصحاب الأخدود، فإنّ السورة وردت لتثبيت المؤمنين، و تصبيرهم على أذاهم، و تذكيرهم بما جرى على من قبلهم من التعذيب و إلحاق أنواع الأذى و صبرهم و ثباتهم، حتّى يأنسوا بهم، و يصبروا على ما كانوا يلقون من قومهم، و يعلموا أنّ كفّارهم عند اللّه بمنزلة أولئك المعذّبين المحرقين بالنار، ملعونون أحقّاء بأن يقال فيهم: قتلت قريش، كما قيل: قتل أصحاب الأخدود. و هو دعاء عليهم، كقوله: قُتِلَ الْإِنْسانُ ما أَكْفَرَهُ «1».

و الأخدود، الخدّ، و هو الشقّ في الأرض. و نحوه: الخقّ و الأخقوق بناء و معنى. و منه: فساخت قوائمه في أخاقيق جرذان «2».

و

روى مسلم في الصحيح عن هدّاب بن خالد، عن حمّاد بن مسلمة، عن ثابت، عن عبد الرحمن بن أبي ليلى،

عن صهيب، عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «كان ملك فيمن كان قبلكم له ساحر، فلمّا مرض الساحر قال: إنّي قد حضر أجلي، فادفع إليّ غلاما أعلّمه السحر، فدفع إليه غلاما. و كان يختلف إليه، و بين الساحر و الملك راهب، فمرّ الغلام بالراهب، فأعجبه كلامه و أمره. و كان يطيل عنده القعود، فإذا أبطأ عن الساحر ضربه، و إذا أبطأ عن أهله ضربوه. فشكا ذلك إلى الراهب، فقال: يا بنيّ إذا استبطأك الساحر فقل: حبسني أهلي، و إذا استبطأك أهلك فقل:

حبسني الساحر.

فبينما هو ذات يوم إذا بالناس قد حبستهم دابّة عظيمة فظيعة، فقال: اليوم أعلم أمر الساحر أفضل أم أمر الراهب. فأخذ حجرا فقال: اللّهمّ إن كان أمر الراهب

______________________________

(1) عبس: 17.

(2) الجرذ: نوع من الفار. و الجمع: الجرذان. زبدة التفاسير، ج 7، ص: 386

أحبّ إليك فاقتل هذه الدابّة. فرمى فقتلها، و مضى الناس. فأخبر بذلك الراهب، فقال: أي: بنيّ إنّك ستبتلى، فإذا ابتليت فلا تدلّ عليّ.

قال: و جعل يداوي الناس، فيبرئ الأكمه و الأبرص و يشفي من الأدواء.

فبينما هو كذلك إذ عمي جليس للملك، فأتاه و حمل إليه مالا كثيرا، فقال: اشفني و لك ما هاهنا.

فقال: إنّي لا أشفي أحدا، و لكنّ اللّه يشفي، فإن آمنت باللّه دعوت اللّه فشفاك.

قال: فآمن، فدعا اللّه له فشفاه. فذهب فجلس إلى الملك فقال: يا فلان من شفاك؟

قال: ربّي.

قال: أنا.

قال: لا، ربّي و ربّك اللّه.

قال: و لك ربّ غيري؟

قال: نعم، ربّي و ربّك اللّه. فأخذه فلم يزل به حتّى دلّه على الغلام. فبعث إلى الغلام فقال: لقد بلغ من أمرك أن تشفي الأكمه و الأبرص.

قال: ما أشفي أحدا، و لكنّ اللّه ربّي يشفي.

قال:

و لك ربّ غيري؟

قال: نعم، ربّي و ربّك اللّه. فأخذه فلم يزل به حتّى دلّه على الراهب. فوضع المنشار عليه فأنشره حتّى وقع شقّاه. و قال للغلام: ارجع عن دينك. فأبى، فأرسل معه نفرا و قال: اصعدوا به جبل كذا و كذا، فإن رجع عن دينه و إلّا فدهدهوه «1» من ذروته.

______________________________

(1) دهده الحجر: دحرجه. زبدة التفاسير، ج 7، ص: 387

قال: فعلوا به الجبل. فقال: اللّهمّ اكفنيهم بما شئت.

قال: فرجف بهم الجبل، فتدهدهوا أجمعون، و نجا الغلام و جاء إلى الملك.

فقال: ما صنع أصحابك؟

قال: كفانيهم اللّه.

فأرسل به مرّة اخرى، قال: انطلقوا به فلجّجوه «1» في البحر، فإن رجع و إلّا فغرّقوه. فانطلقوا به في قرقور «2»، فلمّا توسّطوا به البحر قال: اللّهمّ اكفنيهم بما شئت.

قال: فانكفأت بهم السفينة فغرقوا، و نجا و جاء حتّى قام بين يدي الملك.

فقال: ما صنع أصحابك؟

قال: كفانيهم اللّه.

ثمّ قال: إنّك لست بقاتلي حتّى تفعل ما آمرك به، اجمع الناس ثمّ اصلبني على جذع، ثمّ خذ سهما من كنانتي، ثمّ ضعه على كبد «3» القوس، ثمّ قل: بسم اللّه ربّ الغلام، فإنّك ستقتلني.

قال: فجمع الناس و صلبه، ثمّ أخذ سهما من كنانته، فوضعه على كبد القوس و قال: بسم اللّه ربّ الغلام و رمى، فوقع السهم في صدغه و مات.

فقال الناس: آمنّا بربّ الغلام.

فقيل له: أ رأيت نزل بك ما كنت تخاف من عبادة اللّه. فأمر بأخاديد فخدّدت على أفواه السكك، ثمّ أضرمها نارا، فقال: من رجع عن دينه فدعوه، و من أبى

______________________________

(1) أي: اذهبوا به إلى لجّة البحر. و هي: معظم الماء.

(2) القرقور: السفينة الطويلة أو الصغيرة.

(3) كبد القوس: ما بين طرفي علاقتها. زبدة التفاسير، ج 7، ص: 388

فأقحموه فيها. فجعلوا

يقتحمونها. و جاءت امرأة معها صبيّ، فتقاعست «1» أن تقع فيها. فقال لها الصبيّ يا أمّه اصبري، فإنّك على الحقّ، فاقتحمت. و قيل: قال لها:

قعي و لا تنافقي. و قيل: قال الصبيّ: ما هي إلّا غميضة «2»، فصبرت» «3».

و قال ابن المسيّب: كنّا عند عمر بن الخطّاب إذ ورد عليه أنّهم احتفروا فوجدوا ذلك الغلام و هو واضع يده على صدغه، فكلّما مدّت يده عادت إلى صدغه، فكتب عمر: واروه حيث وجدتموه.

و

روى سعيد بن جبير قال: لمّا انهزم أهل اسفندهان قال عمر بن الخطّاب: ما هم يهود و لا نصارى، و لا لهم كتاب، و كانوا مجوسا. فقال عليّ بن أبي طالب عليه السّلام:

بلى قد كان لهم كتاب، و لكنّه رفع. و ذلك أنّ ملكا لهم سكر فوقع على ابنته- أو قال: على أخته- فلمّا أفاق قال لها: كيف المخرج ممّا وقعت فيه؟ قالت له:

المخرج أن تجمع أهل مملكتك، و تخبرهم أنّك ترى نكاح البنات، و تأمرهم أن يحلّوه. فجمعهم فأخبرهم، فأبوا أن يتابعوه. فقالت له: ابسط فيهم السوط، فلم يقبلوا. فقالت له: ابسط فيهم السيف، فلم يقبلوا. فأمرته بالأخاديد و إيقاد النيران، و طرح من أبى فيها. فخدّ لهم أخدودا في الأرض، و أوقد فيه النيران، و عرّضهم عليها، فمن أبى قبول ذلك قذفه في النار، و من أجاب خلّى سبيله.

و قال الحسن: كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا ذكر عنده أصحاب الأخدود تعوّذ باللّه من جهد البلاء.

و

روى العيّاشي بإسناده عن جابر، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «أرسل عليّ عليه السّلام إلى أسقف نجران يسأله عن أصحاب الأخدود، فأخبره بشي ء، فقال عليّ عليه السّلام:

______________________________

(1) تقاعس عن الأمر: تأخّر.

(2) الغميضة

تصغير الغمضة، أي: انطباق الجفن.

(3) صحيح مسلم 4: 2299 ح 73. زبدة التفاسير، ج 7، ص: 389

ليس كما ذكرت، و لكن سأخبرك عنهم، إنّ اللّه بعث رجلا حبشيّا نبيّا- و هم حبشة- فكذّبوه، فقاتلهم فقتلوا أصحابه و أسروه و أسروا أصحابه، ثمّ بنوا له حيرا «1»، ثمّ ملؤه نارا، ثمّ جمعوا الناس، فقالوا: من كان على ديننا و أمرنا فليعتزل، و من كان على دين هؤلاء فليرم نفسه في النار. فجعل أصحابه يتهافتون في النار.

فجاءت امرأة معها صبيّ لها ابن شهر، فلمّا هجمت على النار هابت و رقّت على ابنها. فناداها الصبيّ: لا تهابي و ارمي بي و بنفسك في النار، فإنّ هذا في اللّه قليل.

فرمت بنفسها في النار و صبيّها، و كان ممّن يكلّم في المهد.

و قال مقاتل: كان أصحاب الأخدود ثلاثة: واحد بنجران، و الآخر بالشام، و الآخر بفارس، حرّقوا بالنار. أمّا الّذي بالشام فهو أنطياخوس الرومي. و أمّا الّذي بفارس فهو بخت نصّر. و أمّا الّذي بأرض العرب فهو يوسف بن ذي نواس. فأمّا من كان بفارس و الشام فلم ينزل اللّه تعالى فيهما قرآنا، و أنزل في الّذي كان بنجران.

و ذلك أنّ رجلين مسلمين ممّن يقرآن الإنجيل، أحدهما بأرض تهامة، و الآخر بنجران اليمن، آجر أحدهما نفسه في عمل يعمله، فجعل يقرأ الإنجيل، فرأت ابنة المستأجر النور يضي ء من قراءة الإنجيل، فذكرت ذلك لأبيها، فرمق «2» حتّى رآه، فسأله فلم يخبره، فلم يزل به حتّى أخبره بدين الإسلام، فتابعه مع سبعة و ثمانين إنسانا من رجل و امرأة. و هذا بعد ما رفع عيسى إلى السماء.

فسمع يوسف بن ذي نواس بن شراحيل بن تبّع الحميري، فخدّ لهم في الأرض و أوقد فيها،

فعرّضهم على اليهوديّة، فمن أبى قذفه في النار، و من رجع عن دين عيسى لم يقذفه فيها. و إنّ امرأة جاءت و معها ولد صغير لا يتكلّم، فلمّا قامت على شفير الخندق نظرت إلى ابنها فرجعت. فقال لها: يا أمّاه إنّي أرى

______________________________

(1) الحير: الحمى، أو شبه الحظيرة.

(2) رمقه: لحظه لحظا خفيفا، أطال النظر إليه.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 390

أمامك نارا لا تطفأ. فلمّا سمعت من ابنها ذلك قذفها في النار، فجعلها اللّه و ابنها في الجنّة.

و روي: أنّه أحرق منهم اثني عشر ألفا في الأخاديد. و قيل: سبعين ألفا.

و ذكر أنّ طول الأخدود أربعون ذراعا، و عرضه اثنا عشر ذراعا.

النَّارِ بدل اشتمال من الأخدود ذاتِ الْوَقُودِ وصف لها بأنّها نار عظيمة لها ما يرتفع به لهبها، من الحطب الكثير و أبدان الناس.

إِذْ هُمْ عَلَيْها قُعُودٌ أي: على ما يدنو منها من حافّات الأخدود قاعدون.

و عن مجاهد: كانوا قعودا على الكراسيّ عند الأخدود. و الظرف متعلّق ب «قتل» أي:

لعنوا حين أحدقوا بالنار قاعدين حولها.

وَ هُمْ عَلى ما يَفْعَلُونَ بِالْمُؤْمِنِينَ شُهُودٌ يشهد بعضهم لبعض عند الملك بأنّهم لم يقصروا فيما أمروا به من تعذيب المؤمنين. أو يشهدون على ما يفعلون يوم القيامة حين تَشْهَدُ عَلَيْهِمْ أَلْسِنَتُهُمْ وَ أَيْدِيهِمْ وَ أَرْجُلُهُمْ بِما كانُوا يَعْمَلُونَ «1».

وَ ما نَقَمُوا و ما عابوا و ما أنكروا مِنْهُمْ من المؤمنين إِلَّا أَنْ يُؤْمِنُوا بِاللَّهِ استثناء على طريقة قوله:

و لا عيب فيهم غير أنّ سيوفهم بهنّ فلول من قراع الكتائب

ثمّ ذكر سبحانه أوصافه الّتي يستحقّ بها أن يؤمن به و يعبد، و هو قوله:

الْعَزِيزِ الغالب القادر الّذي يخشى عقابه الْحَمِيدِ المنعم.

الَّذِي يجب الحمد على نعمته، و يرجى ثوابه. و قرّر ذلك بقوله: لَهُ

مُلْكُ السَّماواتِ وَ الْأَرْضِ له التصرّف فيهما و ما بينهما وَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ شَهِيدٌ وعيد لهم. يعني: أنّه عليم بما فعلوا، و هو مجازيهم عليه.

______________________________

(1) النور: 24.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 391

[سورة البروج (85): الآيات 10 الى 16]

إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ وَ لَهُمْ عَذابُ الْحَرِيقِ (10) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ (11) إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ (12) إِنَّهُ هُوَ يُبْدِئُ وَ يُعِيدُ (13) وَ هُوَ الْغَفُورُ الْوَدُودُ (14)

ذُو الْعَرْشِ الْمَجِيدُ (15) فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ (16)

و لمّا كان سبحانه متصرّفا في جميع ما سواه، و عالم بكلّه، فكلّ من فيهما يحقّ عليه أن يؤمن به و يعبده و يخشع له. فما نقموا منهم هو الحقّ الّذي لا ينقمه إلّا مبطل منهمك في الغيّ، مستحقّ لانتقام اللّه منه بعذاب لا يعدله عذاب، كما قال:

إِنَّ الَّذِينَ فَتَنُوا الْمُؤْمِنِينَ وَ الْمُؤْمِناتِ بلوهم، بأن أحرقوهم و عذّبوهم بالنار ثُمَّ لَمْ يَتُوبُوا من فعلهم ذلك، و من الشرك الّذي كانوا عليه فَلَهُمْ عَذابُ جَهَنَّمَ أنواع عذابه- كالزقّوم و الغسلين و المقامع- بكفرهم وَ لَهُمْ مع ذلك عَذابُ الْحَرِيقِ نار اخرى عظيمة زائدة في الإحراق. يعني: أنّ للفاتنين عذابين في الآخرة: لكفرهم، و لفتنتهم. أو المعنى: لهم عذاب جهنّم في الآخرة، و لهم عذاب الحريق في الدنيا، لما روي أنّ النار انقلبت عليهم فأحرقتهم.

و عن الربيع بن أنس: لمّا ألقوا في النار نجّى اللّه المؤمنين من النار، و أخرجت النار إلى من على شفير الأخدود من الكفّار فأحرقتهم.

و يجوز أن يريد الّذين فتنوا المؤمنين، أي: بلوهم بالأذى على العموم، و المؤمنين: المفتونين عموما.

ثمّ بشّر المؤمنين بقوله: إِنَّ الَّذِينَ

آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ لَهُمْ جَنَّاتٌ تَجْرِي

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 392

مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ ذلِكَ الْفَوْزُ الْكَبِيرُ النجاة العظيم و النفع الخالص، إذ الدنيا و ما فيها تصغر دونه. و قيل: إنّما وصفه بالكبير لأنّ نعيم العاملين كبير بالإضافة إلى نعيم من لا عمل له من داخلي الجنّة، لما في ذلك من الإجلال و الإكرام و التبجيل و التعظيم.

إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ مضاعف عنفه، فإنّ البطش أخذ بعنف، فإذا وصف بالشدّة فقد تضاعف و تفاقم. و هو بطشه بالجبابرة و الظلمة شديدا جدّا، و أخذهم بالعذاب الأليم انتقاما.

إِنَّهُ وعد الكفرة بأنّه يعيدهم كما أبدأهم ليبطش بهم، إذ لم يشكروا نعمة الإبداء هُوَ يُبْدِئُ وَ يُعِيدُ يبدئ الخلق ثمّ يعيده. دلّ باقتداره على الإبداء و الإعادة على شدّة بطشه. و عن ابن عبّاس معناه: يبدئ البطش بالكفرة في الدنيا، و يعيده في الآخرة. و ذلك لأنّ ما قبله يقتضيه.

وَ هُوَ الْغَفُورُ لمن تاب، أو تفضّلا الْوَدُودُ المحبّ لمن أطاع، أي:

الفاعل بأهل طاعته ما يفعله الودود، من إعطائهم ما أرادوا.

ذُو الْعَرْشِ مالكه و مدبّره الْمَجِيدُ العظيم في ذاته و صفاته، فإنّه واجب الوجود، تامّ القدرة و الحكمة. و قرأ حمزة بالجرّ صفة ل «ربّك» أو للعرش.

و مجده: علوّه و عظمته.

فَعَّالٌ لِما يُرِيدُ خبر مبتدأ محذوف. و إيراد صيغة المبالغة للدلالة على أنّ ما يريد و يفعل في غاية الكثرة.

[سورة البروج (85): الآيات 17 الى 22]

هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ (17) فِرْعَوْنَ وَ ثَمُودَ (18) بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا فِي تَكْذِيبٍ (19) وَ اللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ (20) بَلْ هُوَ قُرْآنٌ مَجِيدٌ (21)

فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ (22)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 393

ثمّ سلّى نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على التأذّي من قومه بذكر قصّة

فرعون و ثمود، فقال:

هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْجُنُودِ الّذين تجنّدوا على أنبياء اللّه فِرْعَوْنَ وَ ثَمُودَ أبدلهما من الجنود لأنّ المراد بفرعون هو و قومه، كما في قوله: مِنْ فِرْعَوْنَ وَ مَلَائِهِمْ «1» و المعنى: قد عرفت تكذيب تلك الجنود للرسل و ما حاق بهم، فتسلّ و اصبر على تكذيب قومك، و حذّرهم مثل ما أصابهم.

بَلِ الَّذِينَ كَفَرُوا من قومك فِي تَكْذِيبٍ أي: تكذيب لا يخلصون عنه أصلا. فمعنى الإضراب: أنّ حالهم أعجب من حال هؤلاء، لأنّهم سمعوا بقصصهم و بما جرى عليهم، و رأوا آثار هلاكهم، و لم يعتبروا و كذّبوا أشدّ من تكذيبهم.

وَ اللَّهُ مِنْ وَرائِهِمْ مُحِيطٌ أي: عالم بجميع أحوالهم، و قادر عليهم، و هم لا يعجزونه. و الإحاطة بهم من ورائهم مثل لعدم فوتهم، كما لا يفوت المحاط المحيط.

بَلْ هُوَ بل هذا الّذي كذّبوا به قُرْآنٌ مَجِيدٌ كتاب شريف، جليل القدر، وحيد في النظم و المعنى بين الكتب السماويّة فِي لَوْحٍ مَحْفُوظٍ من التحريف، و من وصول الشياطين إليه. و قرأ نافع بالرفع صفة للقرآن.

و عن ابن عبّاس و مجاهد: أنّ اللوح المحفوظ من درّة بيضاء، طوله ما بين السماء و الأرض، و عرضه ما بين المشرق و المغرب.

و عن مقاتل: اللوح عن يمين العرش. و عن أنس: في جبهة إسرافيل.

______________________________

(1) يونس: 83.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 395

(86) سورة الطارق

اشارة

مكّيّة. و هي سبع عشرة آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأها أعطاه اللّه بعدد كلّ نجم في السماء عشر حسنات».

المعلّى بن خنيس عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من كان قراءته في الفريضة بالسماء و الطارق، كان له يوم القيامة عند اللّه جاه و منزلة،

و كان من رفقاء النبيّين و أصحابهم في الجنّة».

[سورة الطارق (86): الآيات 1 الى 10]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ السَّماءِ وَ الطَّارِقِ (1) وَ ما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ (2) النَّجْمُ الثَّاقِبُ (3) إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ (4)

فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ (5) خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ (6) يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ (7) إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ (8) يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ (9)

فَما لَهُ مِنْ قُوَّةٍ وَ لا ناصِرٍ (10)

و لمّا ختم سبحانه سورة البروج بالوعيد، افتتح هذه السورة بمثله، و أكّد ذلك

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 396

بأنّ أعمال الخلق محفوظة، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* وَ السَّماءِ وَ الطَّارِقِ و الكوكب البادي بالليل.

و هو في الأصل لسالك الطريق. و اختصّ عرفا بالآتي ليلا، ثمّ استعمل للبادي فيه.

أو الكوكب الذي يطرق الجنّي، أي: يصكّه.

روي: أنّ أبا طالب كان عند رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فانحطّ نجم، فامتلأ ماثمّ نورا، فجزع أبو طالب و قال: أيّ شي ء هذا؟ فقال عليه السّلام: «هذا نجم رمي به، و هو آية من آيات اللّه». فعجب أبو طالب، فنزلت: «وَ السَّماءِ وَ الطَّارِقِ».

وَ ما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ* النَّجْمُ الثَّاقِبُ المضي ء، كأنّه يثقب الظلام بضوئه فينفذ فيه، كما قيل: درّيّ، لأنّه يدرأ الظلام، أي: يدفعه. و المراد جنس النجوم، أو جنس الشهب الّتي يرجم بها، أو كوكب معهود بالثقب، و هو زحل.

و اعلم أنّ اللّه سبحانه أراد أن يقسم بالنجم الثاقب تعظيما له، لما عرف فيه من عجيب القدرة و لطيف الحكمة، و أن ينبّه على ذلك، فجاء بما هو صفة مشتركة بينه و بين غيره، و هو الطارق. ثمّ قال: «وَ ما أَدْراكَ مَا الطَّارِقُ». ثمّ فسّره بقوله:

«النَّجْمُ الثَّاقِبُ». كلّ هذا

إظهارا لفخامة شأنه، كما قال: فَلا أُقْسِمُ بِمَواقِعِ النُّجُومِ وَ إِنَّهُ لَقَسَمٌ لَوْ تَعْلَمُونَ عَظِيمٌ «1».

و جواب القسم قوله: إِنْ كُلُّ نَفْسٍ لَمَّا عَلَيْها حافِظٌ «إن» هي المخفّفة، و اللام هي الفاصلة، و «ما» زائدة. و المعنى: أنّ الشأن كلّ نفس لعليها مهيمن رقيب، و هو اللّه تعالى، كقوله: وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ رَقِيباً «2». وَ كانَ اللَّهُ عَلى كُلِّ شَيْ ءٍ مُقِيتاً «3».

______________________________

(1) الواقعة: 75- 76.

(2) الأحزاب: 52.

(3) النساء: 85.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 397

و قيل: ملك يحفظ عملها، و يحصي عليها ما تكسب من خير و شرّ.

روي عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «و كلّ بالمؤمن مائة و ستّون ملكا يذبّون عنه، كما يذبّ عن قصعة العسل الذباب. و لو وكّل العبد إلى نفسه طرفة عين لاختطفته الشياطين».

و قرأ ابن عامر و حمزة: لمّا بالتشديد، على أنّها بمعنى «إلّا» و «إن» نافية.

و المعنى: ما كلّ نفس إلّا عليها حافظ.

و لمّا ذكر أنّ على كلّ نفس حافظا، أتبعه توصية الإنسان بالنظر في مبدئه و أوّل أمره و نشأته، ليعلم أنّ من أنشأه قادر على إعادته، فلا يملي على حافظه إلّا ما يسرّه في عاقبته، فقال:

فَلْيَنْظُرِ الْإِنْسانُ مِمَّ خُلِقَ من أيّ شي ء خلقه اللّه. فأجاب بقوله: خُلِقَ مِنْ ماءٍ دافِقٍ ذي دفق في الرحم، كاللّابن «1» و التامر. أو الإسناد مجازيّ، و الدفق في الحقيقة لصاحبه، أي: دافق صاحبه. قال الفرّاء: و أهل الحجاز يجعلون الفاعل بمعنى المفعول. و هذا وقع في كثير من كلامهم، نحو: سرّ كاتم، و همّ ناصب. و الدفق: صبّ فيه دفع. و المراد: الممتزج من الماءين في الرحم.

و اتّحادهما حين ابتدئ في خلقه، و لهذا لم يقل:

ماءين. و يدلّ على أنّ المراد ماءان قوله: يَخْرُجُ مِنْ بَيْنِ الصُّلْبِ وَ التَّرائِبِ صلب الرجل و ترائب المرأة، و هي عظام صدرها حيث تكون القلادة. و قيل: العظم و العصب من الرجل، و اللحم و الدم من المرأة.

و لو صحّ أنّ النطفة تتولّد من فضل الهضم الرابع، و تنفصل من جميع الأعضاء حتّى تستعدّ لأن يتولّد منها مثل تلك الأعضاء، و مقرّها عروق ملتفّ بعضها بالبعض عند البيضتين، فالدماغ أعظم الأعضاء معونة في توليدها، و لذلك تشبهه، و يسرع

______________________________

(1) أي: ذي اللبن و التمر.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 398

الإفراط في الجماع بالضعف فيه، و له خليفة، و هي النخاع، و هو في الصلب، و شعب كثيرة نازلة إلى الترائب، و هما أقرب إلى أوعية المنيّ، فلذلك خصّا بالذكر.

إِنَّهُ عَلى رَجْعِهِ لَقادِرٌ لبيّن القدرة. و تقديم الجارّ للتخصيص. و الضمير للخالق. و يدلّ عليه «خلق».

و عن الضحّاك: إنّه على ردّ الإنسان ماء كما كان قادر.

و قال مقاتل بن حيّان: يقول اللّه تعالى: إن شئت رددته من الكبر إلى الشباب، و من الشباب إلى الصبا، و من الصبا إلى النطفة.

و الأصحّ القول الأوّل. و يؤيّده أنّه حكى البعث بعده بقوله: يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ ظرف للرجع. و المعنى: هو القادر على الرجع في يوم تختبر تلك السرائر. و المراد لازم الاختبار، فكأنّه قيل: يتعرّف و يتميّز كلّ ما أسرّ في القلوب من العقائد و سائر الضمائر، و ما أخفي من الأعمال، حتّى يظهر ما طاب منها و ما خبث. يعني: خيرها من شرّها، و مقبولها من مردودها.

روي مرفوعا عن أبي الدرداء: قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «ضمن اللّه خلقه أربع خصال:

الصلاة، و الزكاة، و صوم رمضان، و الغسل من الجنابة. و هي السرائر الّتي قال اللّه تعالى: «يَوْمَ تُبْلَى السَّرائِرُ».

و قيل: يظهر اللّه أعمال كلّ أحد لأهل القيامة، حتّى يعلموا على أيّ شي ء أثابه، و يكون فيه زيادة سرور لهم، و إن يكن من أهل العقوبة يظهر عمله ليعلموا على أيّ شي ء عاقبه، و يكون في ذلك زيادة غمّ له.

و روي عن ابن عمر أنّه قال: يبدئ اللّه يوم القيامة كلّ سرّ، و يكون زينا في الوجوه، و شينا في الوجوه.

فَما لَهُ لهذا الإنسان المنكر للبعث مِنْ قُوَّةٍ من منعة في نفسه يمتنع بها وَ لا ناصِرٍ يمنعه.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 399

[سورة الطارق (86): الآيات 11 الى 17]

وَ السَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ (11) وَ الْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ (12) إِنَّهُ لَقَوْلٌ فَصْلٌ (13) وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ (14) إِنَّهُمْ يَكِيدُونَ كَيْداً (15)

وَ أَكِيدُ كَيْداً (16) فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً (17)

ثمّ ذكر قسما آخر تأكيدا لوقوع البعث، فقال: وَ السَّماءِ ذاتِ الرَّجْعِ ترجع في كلّ دورة إلى الموضع الّذي تتحرّك عنه. و أكثر المفسّرين على أنّ الرجع المطر، سمّي به كما سمّي أوبا، لأنّ اللّه يرجعه وقتا فوقتا، أو لأنّ العرب يزعمون أنّ السحاب يحمل الماء من البحار ثمّ يرجعه إلى الأرض. و على هذا يجوز أن يراد بالسماء السحاب. أو أرادوا التفاؤل، فسمّوه رجعا و أوبا، ليرجع و يؤب.

وَ الْأَرْضِ ذاتِ الصَّدْعِ ما تتصدّع عنه الأرض من النبات. أو الشقّ بالنبات و العيون.

إِنَّهُ إنّ القرآن، أو إنّ الوعد بالبعث لَقَوْلٌ فَصْلٌ فاصل بين الحقّ و الباطل، كما قيل له: إنّه الفرقان.

وَ ما هُوَ بِالْهَزْلِ فإنّه جدّ كلّه، و من حقّه أن يكون مهيبا في الصدور، معظّما في القلوب، يترفّع به قارئه و

سامعه أن يلمّ بهزل أو يتفكّه بمزاح، و أن يلقى ذهنه إلى أنّ جبّار السماوات يخاطبه فيأمره و ينهاه، و يعده و يوعده، حتّى إن لم يستفزّه الخوف و لم تتبالغ فيه الخشية، فأدنى أمره أن يكون جادّا غير هازل، فقد نعى اللّه على المشركين ذلك في قوله: وَ تَضْحَكُونَ وَ لا تَبْكُونَ وَ أَنْتُمْ سامِدُونَ «1».

إِنَّهُمْ يعني: أهل مكّة يَكِيدُونَ كَيْداً يعملون المكايد في إطفاء نوره

______________________________

(1) النجم: 60- 61.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 400

زبدة التفاسير ج 7 449

و إبطاله وَ أَكِيدُ كَيْداً و أقابلهم بكيدي، في استدراجي لهم، و انتقامي منهم من حيث لا يحتسبون، و تدبيري ما ينقص مكايدهم و تدابيرهم أمرهم من حيث لا يعلمون.

فَمَهِّلِ الْكافِرِينَ فلا تشتغل بالانتقام منهم، أو لا تستعجل بإهلاكهم أَمْهِلْهُمْ رُوَيْداً إمهالا يسيرا. و التكرير و تغيير البنية لزيادة التسكين منه و التصبير.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 401

(87) سورة الأعلى

اشارة

مكّيّة عند ابن عبّاس، و مدنيّة عند الضحّاك. و هي تسع عشرة آية بلا خلاف.

أبيّ بن كعب قال: قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأها أعطاه اللّه من الأجر عشر حسنات، بعدد كلّ حرف أنزله اللّه على إبراهيم و موسى و محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

و

عن عليّ بن أبي طالب عليه السّلام قال: «كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يحبّ هذه السورة «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى». و أوّل من قال: سبحان ربّي الأعلى، ميكائيل».

و

عن ابن عبّاس قال: كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا قرأ «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى» قال: «سبحان ربّي الأعلى». و كذلك روي عن عليّ عليه السّلام. و روى جرير عن الضحّاك

أنّه كان يقول ذلك. و كان يقول: من قرأها فليفعل ذلك.

و

عن أبي بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى» في فريضة أو نافلة، قيل له يوم القيامة: ادخل من أيّ أبواب الجنّة شئت».

و

روى العيّاشي بإسناده عن أبي حميصة، عن عليّ عليه السّلام، قال: «صلّيت خلفه عشرين ليلة، فليس يقرأ إلّا «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى». و قال: لو يعلمون ما فيها لقرأها الرجل كلّ يوم عشرين مرّة، و إنّ من قرأها فكأنّما قرأ صحف موسى و إبراهيم الّذي وفّى».

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 402

[سورة الأعلى (87): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى (1) الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى (2) وَ الَّذِي قَدَّرَ فَهَدى (3) وَ الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى (4)

فَجَعَلَهُ غُثاءً أَحْوى (5)

و لمّا ختم سبحانه سورة الطارق بذكر الوعيد و التهديد للكفّار، افتتح هذه السورة بذكر صفاته العلى و قدرته على ما يشاء، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى نزّه اسمه عمّا لا يصحّ فيه، من المعاني الّتي هي الإلحاد في أسمائه بالتأويلات الزائغة، مثل أن يفسّر الأعلى بمعنى العلوّ الّذي هو القهر و الاقتدار على كلّ شي ء، لا بمعنى العلوّ في المكان و الاستواء على العرش حقيقة، كما هو مذهب المشبّهة. و من إطلاقه على غيره راعما أنّهما فيه سواء، كعبدة الأصنام. و من أن يصان عن الابتذال و الذكر لا على وجه الخشوع و التعظيم. و يجوز أن يكون الأعلى صفة للربّ، و الاسم باعتبار المسمّى.

و

عن عقبة بن عامر الجهنيّ قال: «لمّا نزلت فَسَبِّحْ بِاسْمِ رَبِّكَ الْعَظِيمِ «1» قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اجعلوها في ركوعكم. فلمّا نزلت «سَبِّحِ اسْمَ رَبِّكَ الْأَعْلَى» قال:

اجعلوها في سجودكم.

و كانوا يقولون في الركوع: اللّهمّ لك ركعت، و في السجود:

اللّهمّ لك سجدت».

الَّذِي خَلَقَ فَسَوَّى خلق كلّ شي ء فسوّى خلقه، بأن جعل له ما به يتأتّى كماله من الإحكام و الاتّساق، على وجه يدلّ على أنّه صادر من قدير

______________________________

(1) الحاقّة: 52.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 403

عليم و صانع حكيم.

وَ الَّذِي قَدَّرَ قدّر أجناس الأشياء و أنواعها و أشخاصها و أفعالها و آجالها.

و قرأ الكسائي: قدر بالتخفيف. فَهَدى فوجّهه إلى أفعاله طبعا أو اختيارا، بخلق الميول و الإلهامات، فعرّفه وجه الانتفاع به. كما يحكى أنّ الأفعى إذا أتت عليها ألف سنة عميت، و قد ألهمها اللّه أنّ مسح العين بورق الرازيانج الغضّ يردّ إليها بصرها، فربما كانت في برّيّة بينها و بين الريف مسيرة أيّام، فتطوي تلك المسافة على طولها و على عماها، حتّى تهجم في بعض البساتين على شجرة الرازيانج لا تخطئها، فتحكّ بها عينيها، و ترجع باصرة بإذن اللّه تعالى.

و إلهامات البهائم و الطيور و هو امّ الأرض باب واسع لا يحيط به وصف واصف. و من ذلك أنّه سبحانه هدى الطفل إلى ثدي أمّه، و هدى الفرخ حتّى طلب الرزق من أبيه و أمّه، و سائر الدوابّ و الطيور حتّى فزع كلّ منهم إلى أمّه. و ما صدر من النحل من صنعة البيوت المسدّسة و المثمّنة و غيرهما من الأشكال، على وجه يعجز عنه المهندسون العالمون في صنائعهم المحسّنة اللطيفة البديعة العجيبة، كاف في تأمّل أولي الألباب و الأبصار ليهتدوا إلى اللّه العزيز الحكيم.

و هدايات اللّه للإنسان من نصب الدلائل و إنزال الآيات- إلى ما لا يحدّ من مصالحه، و ما لا يحصر من حوائجه، في أغذيته و أدويته، و في أبواب دنياه و

دينه، فسبحان ربّي الأعلى و بحمده.

وَ الَّذِي أَخْرَجَ الْمَرْعى أنبت ما ترعاه الحيوانات فَجَعَلَهُ بعد خضرته غُثاءً يابسا هشيما أَحْوى أسود. و قيل: هو حال من المرعى، أي: أخرجه حال كونه أحوى، أي: أسود من شدّة خضرته و ريّه، فجعله غثاء، أي: يابسا بعد حويّه، أي: شدّة خضرته. فسبحان من دبّر هذا التدبير، و قدّر هذا التقدير. و قيل:

إنّه مثل ضربه اللّه تعالى لذهاب الدنيا بعد نضارتها.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 404

[سورة الأعلى (87): الآيات 6 الى 19]

سَنُقْرِئُكَ فَلا تَنْسى (6) إِلاَّ ما شاءَ اللَّهُ إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى (7) وَ نُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى (8) فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى (9) سَيَذَّكَّرُ مَنْ يَخْشى (10)

وَ يَتَجَنَّبُهَا الْأَشْقَى (11) الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى (12) ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها وَ لا يَحْيى (13) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى (14) وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ فَصَلَّى (15)

بَلْ تُؤْثِرُونَ الْحَياةَ الدُّنْيا (16) وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ وَ أَبْقى (17) إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى (18) صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى (19)

ثمّ بشّر نبيّه بإعطاء آيات هادية بيّنة في الإعجاز بقوله: سَنُقْرِئُكَ على لسان جبرئيل، أو سنجعلك قارئا بإلهام القراءة. فَلا تَنْسى فلا تنساه أصلا من قوّة الحفظ، مع أنّك أمّيّ، ليكون ذلك آية اخرى لك. مع أنّ الإخبار به عمّا يستقبل و وقوعه كذلك أيضا من الآيات.

و قيل: نهي، و الألف للفاصلة، كقوله: السَّبِيلَا «1». و المعنى: فلا تغفل من قراءته و تكريره فتنساه.

إِلَّا ما شاءَ اللَّهُ نسيانه، بأن يذهب به عن حفظك برفع حكمه و تلاوته، كقوله: أَوْ نُنْسِها «2» فإنّ الإنساء نوع من النسخ.

و قيل: كان يعجل بالقراءة إذا لقّنه جبرئيل، فقال: لا تعجل، فإنّ جبرئيل

______________________________

(1) الأحزاب: 67.

(2) البقرة: 106.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 405

مأمور بأن يقرأه

عليك قراءة مكرّرة إلى أن تحفظه، ثمّ لا تنساه إلّا أن يشاء اللّه.

و قيل: الغرض نفي النسيان رأسا، كما يقول الرجل لصاحبه: أنت سهيمي فيما أملك إلّا فيما شاء اللّه. و لا يقصد استثناء شي ء. و هو من استعمال القلّة في معنى النفي.

إِنَّهُ يَعْلَمُ الْجَهْرَ وَ ما يَخْفى ما ظهر من أحوالكم و ما بطن، فيعلم ما هو مصلحة لكم في دينكم و مفسدة فيه. أو يعلم جهرك يا محمّد بالقراءة مع جبرئيل، و ما دعاك إليه من مخافة التفلّت و النسيان، فيعلم ما فيه صلاحك و أمّتك من إبقاء أو إنساء.

وَ نُيَسِّرُكَ لِلْيُسْرى معطوف على «سَنُقْرِئُكَ». و قوله: «إِنَّهُ يَعْلَمُ» اعتراض.

و المعنى: سنوفّقك للطريقة الّتي هي أيسر و أسهل في حفظ الوحي. و قيل: للشريعة السمحة الّتي هي أيسر الشرائع و أسهلها مأخذا. و قيل: نوفّقك لعمل الجنّة. و لمّا كان التيسير متضمّنا لمعنى التوفيق قال: «نيسّرك»، لا: نيسّر لك.

روي: أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قد استفرغ مجهوده في تذكيرهم، و ما كانوا يزيدون على زيادة الذكرى إلّا عتوّا و طغيانا. و كان النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يتلظّى حسرة و تلهّفا، و يزداد جدّا في تذكيرهم و حرصا عليه،

فقيل له: وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ فَذَكِّرْ بِالْقُرْآنِ مَنْ يَخافُ وَعِيدِ «1». فَاصْفَحْ عَنْهُمْ وَ قُلْ سَلامٌ «2». ثمّ قيل له: فَذَكِّرْ إِنْ نَفَعَتِ الذِّكْرى و ذلك بعد إلزام الحجّة بتكرير التذكير.

و قيل: ظاهر الآية شرط، و معناه ذمّ للمذكّرين، و إخبار عن حالهم، و استبعاد لتأثير الذكرى فيهم، و تسجيل عليهم بالطبع على قلوبهم، كما تقول للواعظ: عظ

______________________________

(1) ق: 45.

(2) الزخرف: 89.

زبدة التفاسير، ج 7، ص:

406

المكّاسين «1» إن سمعوا منك، قاصدا بهذا الشرط استبعاد ذلك، و أنّه لن يكون كذلك.

سَيَذَّكَّرُ سيتّعظ و ينتفع بها مَنْ يَخْشى يخشى اللّه و سوء العاقبة، بأن يتفكّر فيها فيعلم حقيقتها، فيقوده النظر إلى اتّباع الحقّ. فأمّا هؤلاء فغير خاشين و لا ناظرين، فلا تأمل أن يقبلوا منك.

وَ يَتَجَنَّبُهَا و يتجنّب الذكرى الْأَشْقَى الكافر، لأنّه أشقى من الفاسق.

أو الّذي هو أشقى من الكفرة، لتوغّله في جحوده و إنكاره، و حقده و شدّة غضبه على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قيل: نزلت في الوليد بن المغيرة و عتبة بن ربيعة.

الَّذِي يَصْلَى النَّارَ الْكُبْرى نار جهنّم. و الصغرى: نار الدنيا،

فإنّه عليه السّلام قال: «ناركم هذه جزء من سبعين جزءا من نار جهنّم».

أو ما في الدرك الأسفل من أطباق النار، فإنّ ناره أحرّ و أشدّ من نار أطباق أخر.

ثُمَّ لا يَمُوتُ فِيها فيستريح وَ لا يَحْيى حياة تنفعه، بل صارت حياته وبالا عليه، و مشقّة يتمنّى زوالها، لما فيها من فنون العقاب و ألوان العذاب. و لهذا ذكر «ثمّ» للدلالة على أنّ التردّد بين الحياة و الموت أفظع من الصلي، فهو متراخ عنه في مراتب الشدّة.

قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى تطهّر من الكفر و المعصية. و قيل: من الزكاء بمعنى النماء. و المعنى: من نشأ و نما في التقوى. و قيل: تطهّر للصلاة، أو أدّى الزكاة، كتصدّق من الصدقة.

وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ وحّده بقلبه و لسانه فَصَلَّى بذلك الاسم الصلوات الخمس، لقوله: وَ أَقِمِ الصَّلاةَ لِذِكْرِي «2». و عن ابن عبّاس: معناه: ذكر معاده

______________________________

(1) المكّاس: من يأخذ المكس. و المكس: دراهم كانت تؤخذ من بائعي السلع في أسواق الجاهليّة.

(2) طه: 14.

زبدة التفاسير، ج 7،

ص: 407

و موقفه بين يدي ربّه، فصلّى له. و عن الضحّاك: و ذكر اسم ربّه في طريق المصلّى، فصلّى صلاة العيد. و

عن عليّ عليه السّلام: تصدّق بالفطر، «وَ ذَكَرَ اسْمَ رَبِّهِ» كبّر يوم العيد، فصلّى صلاته.

و متى قيل: على هذا القول كيف يصحّ أن تكون السورة مكّيّة، و لم يكن هناك صلاة عيد و لا زكاة فطرة؟

قلنا: يحتمل أن يكون نزلت أوائلها بمكّة و ختمت بالمدينة.

و عند أكثر علمائنا أنّ المراد بالذكر هنا الأذان و الإقامة، استنادا إلى روايات واردة عن أئمّتنا صلوات اللّه عليهم.

ثمّ قال سبحانه مخاطبا للكفّار الأشقين على طريقة الالتفات، أو على إضمار قل:

بَلْ تُؤْثِرُونَ تختارون الْحَياةَ الدُّنْيا على الآخرة، فلا تفعلون ما تفلحون به. و قيل: هو عامّ في المؤمن و الكافر، بناء على الأعمّ الأغلب في أمر الناس.

قال عبد اللّه بن مسعود: إنّ الدنيا اخضرّت لنا، و عجّل لنا طعامها و شرابها و نساؤها و لذّتها و بهجتها، و إنّ الآخرة نعتت لنا و زويت عنّا، فأخذنا بالعاجل و تركنا الآجل.

وَ الْآخِرَةُ خَيْرٌ أفضل في نفسها وَ أَبْقى و أدوم، فإنّ نعيمها ملذّ بالذات، خالص عن الغوائل، لا انقطاع له.

إِنَّ هذا لَفِي الصُّحُفِ الْأُولى الإشارة إلى ما سبق من قوله: «قد أفلح» إلى قوله: «و أبقى»، فإنّه جامع أمر الديانة، و خلاصة الكتب المنزلة. و المعنى: أنّ معنى هذا الكلام وارد في تلك الصحف. صُحُفِ إِبْراهِيمَ وَ مُوسى بدل من الصحف الأولى.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 408

و

روي عن أبي ذرّ رضي اللّه عنه أنّه قال: «قلت: يا رسول اللّه كم الأنبياء؟

قال: مائة ألف نبيّ و أربعة و عشرون ألفا.

قلت: يا رسول اللّه كم المرسلون منهم؟

قال: ثلاثمائة و ثلاثة عشر، و بقيّتهم

أنبياء.

قلت: أ كان آدم نبيّا؟

قال: نعم، كلّمه اللّه و خلقه بيده. يا أبا ذرّ أربعة من الأنبياء عرب: هود، و صالح، و شعيب، و نبيّك.

قلت: يا رسول اللّه كم أنزل اللّه من كتاب؟

قال: مائة و أربعة كتب، منها: على آدم عشر صحف، و على شيث خمسين صحيفة، و على أخنوخ- و هو إدريس- ثلاثين صحيفة، و على إبراهيم عشر صحائف، و التوراة، و الإنجيل، و الزبور، و الفرقان».

و قيل: إنّ في صحف إبراهيم: ينبغي للعاقل أن يكون حافظا للسانه، عارفا بزمانه، مقبلا على شأنه.

و قيل: إنّ كتب اللّه سبحانه كلّها أنزلت في شهر رمضان.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 409

(88) سورة الغاشية

اشارة

مكّيّة. و هي ستّ و عشرون آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأها حاسبه اللّه حسابا يسيرا».

أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «من أدمن قراءة «هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ» في فريضة أو نافلة، غشّاه اللّه رحمته في الدنيا و الآخرة، و أعطاه الأمن يوم القيامة من عذاب النار».

[سورة الغاشية (88): الآيات 1 الى 7]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ (1) وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ خاشِعَةٌ (2) عامِلَةٌ ناصِبَةٌ (3) تَصْلى ناراً حامِيَةً (4)

تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ (5) لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلاَّ مِنْ ضَرِيعٍ (6) لا يُسْمِنُ وَ لا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ (7)

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة الأعلى بالترغيب في الآخرة، و أنّها خير من الدنيا، افتتح هذه السورة أيضا ببيان أحوال الآخرة، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* هَلْ أَتاكَ حَدِيثُ الْغاشِيَةِ الداهية الّتي تغشى الناس بشدائدها، و تلبسهم أهوالها. يعني: يوم القيامة، من قوله: يَوْمَ يَغْشاهُمُ

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 410

الْعَذابُ مِنْ فَوْقِهِمْ «1». أو النار من قوله: وَ تَغْشى وُجُوهَهُمُ النَّارُ «2» وَ مِنْ فَوْقِهِمْ غَواشٍ «3».

وُجُوهٌ أي: صواحبها يَوْمَئِذٍ يوم إذ غشيت خاشِعَةٌ ذليلة عامِلَةٌ ناصِبَةٌ تعمل في النار عملا تتعب فيه، كجرّ السلاسل و الأغلال، و خوضها في النار خوض الإبل في الوحل، و الصعود و الهبوط في تلالها و وهادها.

و قيل: عملت في الدنيا أعمال السوء، و التذّت بها و تنعّمت، و نصبت في أعمال لا ينفعها في الآخرة.

و قيل: عملت و نصبت في أعمال لا تجدي عليها في الآخرة، من قوله:

وَ قَدِمْنا إِلى ما عَمِلُوا مِنْ عَمَلٍ «4». وَ هُمْ يَحْسَبُونَ أَنَّهُمْ يُحْسِنُونَ صُنْعاً «5».

أُولئِكَ الَّذِينَ حَبِطَتْ أَعْمالُهُمْ «6».

و قيل: هم أصحاب الصوامع. و

معناه: أنّها خشعت للّه، و عملت و نصبت في أعمالها، من الصوم الدائب «7» و التهجّد الواصب.

و

قال أبو عبد اللّه عليه السّلام: «كلّ ناصب لنا و إن تعبّد و اجتهد يصير إلى هذه الآية «عامِلَةٌ ناصِبَةٌ».

تَصْلى ناراً تدخلها. قيل: المصلّي عند العرب أن يحفروا حفيرا، فيجمعوا فيه جمرا كثيرا، ثمّ يعمدوا إلى شاة فيدسّوها وسطه. فأمّا ما يشوى فوق

______________________________

(1) العنكبوت: 55.

(2) إبراهيم: 50.

(3) الأعراف: 41.

(4) الفرقان: 23.

(5) الكهف: 104.

(6) آل عمران: 22.

(7) الدائب: الدائم المستمرّ. و التهجّد الواصب: الدائم المواظب على القيام به.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 411

الجمر، أو على المقلى «1»، أو في التنّور، فلا يسمّى مصلّيا. و قرأ أبو عمرو و يعقوب و أبو بكر تصلى، من: أصلاه اللّه. حامِيَةً متناهية في الحرّ.

تُسْقى مِنْ عَيْنٍ آنِيَةٍ متناهية في الحرّ، كقوله: وَ بَيْنَ حَمِيمٍ آنٍ «2» قال الحسن: قد أوقدت عليها جهنّم مذ خلقت، فدفعوا إليها وردا عطاشا، هذا شرابهم.

و قال أبو الدرداء: إنّ اللّه يرسل على أهل النار الجوع حتّى يعدل عندهم ما هم فيه من العذاب، فيستغيثون فيغاثون بطعام ذي غصّة، فيذكرون أنّهم كانوا يجيزون الغصص في الدنيا بالماء، فيستسقون فيعطشهم اللّه ألف سنة، ثمّ يسقون من عين آنية شربة لا هنيئة و لا مريئة، كلّما أدنوه من وجوههم سلخ وجوههم و شواها، فإذا وصل إلى بطونهم قطعها، فذلك قوله: وَ سُقُوا ماءً حَمِيماً فَقَطَّعَ أَمْعاءَهُمْ «3».

لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ يبيس الشبرق. و هو جنس من الشوك ترعاه الإبل ما دام رطبا، فإذا يبس تحامته، و هو سمّ قاتل. و قيل: شجرة ناريّة تشبه الضريع، كما نقل.

و

عن الضحّاك عن ابن عبّاس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله

و سلّم: «الضريع شي ء يكون في النار يشبه الشوك، أمرّ من الصبر، و أنتن من الجيفة، و أشدّ حرّا من النار، سمّاه اللّه الضريع».

و إنّما قال: «لَيْسَ لَهُمْ طَعامٌ إِلَّا مِنْ ضَرِيعٍ». و في الحاقّة: وَ لا طَعامٌ إِلَّا مِنْ غِسْلِينٍ «4» و ظاهر الكلامين تناف، لأنّ العذاب ألوان، و المعذّبون طبقات، فمنهم أكلة الزقّوم، و منهم أكلة الغسلين، و منهم أكلة الضريع.

______________________________

(1) المقلى: وعاء يقلى- أي: ينضج- فيه الطعام.

(2) الرحمن: 44.

(3) محمد صلى الله عليه و آله و سلم: 15.

(4) الحاقة: 36.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 412

لِكُلِّ بابٍ مِنْهُمْ جُزْءٌ مَقْسُومٌ «1». أو المراد: إنّما طعامهم ممّا تتحاماه الإبل و تعافه، لضرّه و عدم نفعه.

و هذا إشارة إلى أنواع طعام جهنّم، من الضريع و الزقّوم و الغسلين.

روي: أنّ المشركين لمّا سمعوا هذه الآية قالوا: إن إبلنا لتسمن على الضريع.

و كذبوا في ذلك، لأنّ الإبل لا ترعاه كما علمت. فقال سبحانه تكذيبا لهم:

لا يُسْمِنُ وَ لا يُغْنِي مِنْ جُوعٍ أي: لا يسمن أحدا، و لا يدفع جوعا. و هذا مرفوع المحلّ أو مجروره على وصف: طعام أو ضريع. و المعنى: طعامهم من ضريع ليس من جنس ضريعكم، إنّما هو ضريع غير مسمن و لا مغن من جوع.

و قيل: أراد اللّه سبحانه بهذه الآية أن لا طعام لهم أصلا، لأنّ الضريع ليس بطعام للبهائم فضلا عن الإنس، لأنّ الطعام ما أشبع أو أسمن، و هو منهما بمعزل، كما تقول: ليس لفلان ظلّ إلّا الشمس، تريد: نفي الظلّ على التوكيد.

[سورة الغاشية (88): الآيات 8 الى 16]

وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ (8) لِسَعْيِها راضِيَةٌ (9) فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ (10) لا تَسْمَعُ فِيها لاغِيَةً (11) فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ (12)

فِيها سُرُرٌ مَرْفُوعَةٌ (13) وَ أَكْوابٌ مَوْضُوعَةٌ (14) وَ

نَمارِقُ مَصْفُوفَةٌ (15) وَ زَرابِيُّ مَبْثُوثَةٌ (16)

ثمّ وصف أهل الجنّة بقوله: وُجُوهٌ يَوْمَئِذٍ ناعِمَةٌ ذات بهجة و حسن، أو متنعّمة في أنواع اللذّات لِسَعْيِها في الدنيا راضِيَةٌ رضيت بعملها لمّا رأت ما أدّاهم إليه من الكرامة و الثواب لسعيها.

______________________________

(1) الحجر: 44.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 413

فِي جَنَّةٍ عالِيَةٍ عليّة المحلّ أو القدر لا تَسْمَعُ فِيها يا مخاطب، أو الوجوه. و قرأ على بناء المفعول بالياء ابن كثير و أبو عمرو و رويس. و بالتاء نافع.

لاغِيَةً لغوا، أو كلمة ذات لغو، أو نفسا تلغو، فإنّ أهل الجنّة لا يتكلّمون إلّا بالذكر و الحكم، و حمد اللّه على ما رزقهم من النعيم الدائم.

فِيها عَيْنٌ جارِيَةٌ يجري ماؤها و لا ينقطع. يريد عيونا في غاية الكثرة، كقوله: عَلِمَتْ نَفْسٌ «1». فهي اسم جنس. و التنوين للتعظيم. فلكلّ إنسان في قصره من الجنّة عين جارية من كلّ شراب يشتهيه.

فِيها سُرُرٌ ألواحها من ذهب مكلّلة بالزبرجد و الدرّ و الياقوت مَرْفُوعَةٌ رفيعة السمك، ليرى المؤمن بجلوسه عليه جميع ما خوّله ربّه من الملك و النعيم الدائم. أو رفيعة القدر.

وَ أَكْوابٌ جمع كوب. و هو إناء من ذهب و فضّة لا عروة له. مَوْضُوعَةٌ بين أيديهم لا يحتاجون إلى أن يدعوا بها. أو على حافّات العيون معدّة للشرب.

وَ نَمارِقُ جمع نمرقة بالفتح و الضمّ، و هي الوسادة مَصْفُوفَةٌ بعضها إلى جنب بعض، أينما أراد أن يجلس جلس على مسورة «2» و استند إلى اخرى.

وَ زَرابِيُ و بسط عراض فاخرة. و قيل: هي الطنافس «3» الّتي لها خمل رقيق.

جمع زربية. مَبْثُوثَةٌ مبسوطة، أو مفرّقة في المجالس.

[سورة الغاشية (88): الآيات 17 الى 26]

أَ فَلا يَنْظُرُونَ إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ (17) وَ إِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ (18) وَ إِلَى الْجِبالِ

كَيْفَ نُصِبَتْ (19) وَ إِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ (20) فَذَكِّرْ إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ (21)

لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ (22) إِلاَّ مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ (23) فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ (24) إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ (25) ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ (26)

______________________________

(1) التكوير: 14.

(2) المسورة: متّكأ من جلد.

(3) الطنافس جمع الطنفسة: البساط، الحصير.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 414

و لمّا نعت اللّه سبحانه الجنّة و ما فيها عجب من ذلك أهل الضلال، فبيّن سبحانه أفعاله العجيبة الغريبة الدالّة على كمال القدرة، الموجبة لفعل كلّ ما أراد من الصنائع العظيمة العجيبة، فقال:

أَ فَلا يَنْظُرُونَ نظر اعتبار إِلَى الْإِبِلِ كَيْفَ خُلِقَتْ خلقا عجيبا دالّا على كمال قدرته و حسن تدبيره، حيث خلقها لجرّ الأثقال إلى البلاد النائية، فجعلها عظيمة باركة للحمل، ناهضة بالحمل، منقادة لمن اقتادها، و لو كان قائدها غير إنسان، كما حكي أنّ فارة أخذت بزمام ناقة فأخذت تجرّها و هي تتبعها حتّى دخلت الجحر، فجرّت الزمام فقرّبت فمها من جحر الفار. طوال الأعناق لتنوء بالأوقار «1»، ترعى كلّ نابت في البراري و المفاوز ممّا لا يرعاه سائر البهائم، و تحتمل العطش إلى عشر فصاعدا ليتأتّى لها قطع البراري و المفاوز. مع ما لها من منافع أخر، و لذلك خصّت بالذكر لبيان الآيات المنبثّة في الحيوانات الّتي هي أشرف المركّبات و أكثرها صنعا، و لأنّها أعجب ما عند العرب من هذا النوع.

و قيل: المراد بها السحاب على طريق التشبيه و المجاز، لأنّ الإبل ليست من أسماء السحاب حقيقة، كالغمام و المزن و الرباب و الغيم و الغين و غير ذلك.

وَ إِلَى السَّماءِ كَيْفَ رُفِعَتْ بلا عمد، مع ما في خلقها من صنائع القدرة

______________________________

(1) الأوقار جمع الوقر: الحمل الثقيل.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 415

و

بدائع الفطرة، من الشمس و القمر و الكواكب، و علّق بها منافع الخلق و أسباب معايشهم.

وَ إِلَى الْجِبالِ كَيْفَ نُصِبَتْ فهي راسخة لا تميل و لا تزول، و لولاها لمادت الأرض بأهلها.

وَ إِلَى الْأَرْضِ كَيْفَ سُطِحَتْ بسطت حتّى صارت مهادا للمتقلّب عليها.

و وجه حسن ذكر الإبل مع السماء و الجبال و الأرض: أنّ هذه الأشياء غالبا في مناظر العرب و مطاع «1» نظرهم في أوديتهم و بواديهم، فانتظمها الذكر على حسب ما انتظمها نظرهم.

و ملخّص المعنى: أ فلا ينظرون إلى أنواع المخلوقات من البسائط و المركّبات، ليتحقّقوا كمال قدرة الخالق، فلا ينكروا اقتداره على البعث، فيسمعوا إنذار الرسول و يؤمنوا به، و يستعدّوا للقائه؟ و لذلك عقّب به أمر المعاد، و رتّب عليه الأمر بالتذكير، فقال: فَذَكِّرْ أي: لا ينظرون، فذكّرهم و لا تلحّ عليهم إِنَّما أَنْتَ مُذَكِّرٌ أي: فلا عليك إن لم ينظروا و لم يتذكّروا، إذ ما عليك إلّا البلاغ، كقوله: إِنْ عَلَيْكَ إِلَّا الْبَلاغُ «2».

لَسْتَ عَلَيْهِمْ بِمُصَيْطِرٍ بمتسلّط يمكنك أن تدخل الإيمان في قلوبهم و تجبرهم عليه، كقوله: وَ ما أَنْتَ عَلَيْهِمْ بِجَبَّارٍ «3». و عن الكسائي بالسين على الأصل، و حمزة بالإشمام.

إِلَّا مَنْ تَوَلَّى وَ كَفَرَ الاستثناء منقطع. و المعنى: لست بمستول عليهم، و لكن من تولّى عن الذكر و كفر باللّه فَيُعَذِّبُهُ اللَّهُ الْعَذابَ الْأَكْبَرَ الّذي هو عذاب جهنّم.

______________________________

(1) كذا في النسخة الخطّية، و لعلّ الصحيح: و مطمح.

(2) الشورى: 48.

(3) ق: 45.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 416

و قيل: متّصل، فإنّ جهاد الكفّار و قتلهم تسلّط. و كأنّه أوعدهم الجهاد في الدنيا و عذاب النار في الآخرة.

و قيل: هو استثناء من قوله: «فذكّر» أي: فذكّر إلّا من انقطع طمعك من إيمانه و

تولّى، فاستحقّ العذاب الأكبر. و ما بينهما اعتراض.

إِنَّ إِلَيْنا إِيابَهُمْ رجوعهم بعد الموت ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنا حِسابَهُمْ في المحشر.

و تقديم الخبر للتخصيص و المبالغة في الوعيد. كأنّه قال: إنّ إيابهم ليس إلّا إلى الجبّار المقتدر على الانتقام، و إنّ حسابهم ليس بواجب إلّا عليه، و هو الّذي يحاسب على النقير و القطمير. و معنى الوجوب الوجوب في الحكمة.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 417

(89) سورة الفجر

اشارة

مكّيّة. و هي ثلاثون آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأها في ليال عشر غفر اللّه له، و من قرأها سائر الأيّام كانت له نورا يوم القيامة».

و

روى داود بن فرقد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «اقرؤا سورة الفجر في فرائضكم و نوافلكم، فإنّها سورة الحسين بن عليّ عليه السّلام، من قرأها كان مع الحسين بن عليّ عليه السّلام يوم القيامة في درجته من الجنّة».

[سورة الفجر (89): الآيات 1 الى 14]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الْفَجْرِ (1) وَ لَيالٍ عَشْرٍ (2) وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ (3) وَ اللَّيْلِ إِذا يَسْرِ (4)

هَلْ فِي ذلِكَ قَسَمٌ لِذِي حِجْرٍ (5) أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ (6) إِرَمَ ذاتِ الْعِمادِ (7) الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ (8) وَ ثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ بِالْوادِ (9)

وَ فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ (10) الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ (11) فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ (12) فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ (13) إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ (14)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 418

و لمّا ختم سورة الغاشية بأنّ إياب الخلق إليه و حسابهم عليه، افتتح هذه السورة بتأكيد ذلك المعنى حين أقسم أنّه بالمرصاد، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* وَ الْفَجْرِ أقسم بمطلق الصبح في الأيّام، كما أقسم في قوله: وَ الصُّبْحِ إِذا أَسْفَرَ «1». أو بمطلق فلقه، كقوله: وَ الصُّبْحِ إِذا تَنَفَّسَ «2». أو بصلاة الفجر، أو بفجر يوم النحر، أو بفجر عرفة، أو فجر أوّل ذي الحجّة، أو فجر أوّل المحرّم. و الأوّل أشمل و أعمّ، و منقول عن عكرمة و الحسن و الجبائي، و رواه أبو صالح عن ابن عبّاس.

وَ لَيالٍ عَشْرٍ عشر ذي الحجّة، على ما نقل عن مجاهد و الضحّاك

و ابن عبّاس و الحسن و قتادة و السدّي. و لذلك فسّر الفجر بفجر عرفة أو النحر. و قيل:

عشر رمضان الأخير. و لأنّها ليال مخصوصة من بين جنس الليالي العشر، أو مخصوصة بفضيلة ليست لغيرها، وقعت منكّرة من بين ما أقسم به. و لو عرّفت بلام العهد، لأنّها ليال معلومة معهودة، لم تستقلّ بمعنى الفضيلة الّذي في التنكير، فإنّ التنكير للتعظيم و التفخيم. و لأنّ الأحسن أن تكون اللامات متجانسة، ليكون الكلام أبعد من الألغاز و التعمية، فيوهم أنّ المراد جنس العشرات لا العشرات المعيّنة المطلوبة.

وَ الشَّفْعِ وَ الْوَتْرِ أي: و الأشياء كلّها، شفعها و وترها. أو الخلق، لقوله:

وَ مِنْ كُلِّ شَيْ ءٍ خَلَقْنا زَوْجَيْنِ «3» و الخالق، لأنّه فرد.

و من فسّرهما بشفع هذه الليالي و وترها، و بالعناصر و الأفلاك و البروج و السيّارات. أو شفع الصلوات و وترها. أو

بيومي النحر و عرفة، لأنّها تاسع أيّامها

______________________________

(1) المدّثر: 34.

(2) التكوير: 18.

(3) الذاريات: 49. زبدة التفاسير، ج 7، ص: 419

و ذلك عاشرها، فقد روي مرفوعا إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و إلى أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.

أو الوتر آدم، شفّع بزوجته. أو الشفع الأيّام، و الوتر اليوم الّذي لا ليل بعده، و هو يوم القيامة. أو الشفع عليّ و فاطمة عليهما السّلام، و الوتر محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. أو الصفا و المروة، و الوتر البيت. فلعلّه «1» أفرد بالذكر من أنواع المدلول ما رآه أظهر دلالة على التوحيد، أو مدخلا في الدين، أو مناسبة لما قبلها، أو أكثر منفعة موجبة للشكر.

و قرأ حمزة و الكسائي: و الوتر، بفتح الواو. و هما لغتان، كالحبر و الحبر.

وَ اللَّيْلِ إِذا

يَسْرِ إذا يمضي، كقوله: وَ اللَّيْلِ إِذْ أَدْبَرَ «2». و أصله: يسري، حذف الياء اكتفاء بالكسرة تخفيفا. و قد خصّه نافع و أبو عمرو بالوقف. و التقييد بذلك لما في التعاقب من قوّة الدلالة على كمال القدرة و وفور النعم.

هَلْ فِي ذلِكَ الإقسام، أو المقسم به قَسَمٌ حلف، أو محلوف به لِذِي حِجْرٍ يعتبره و يعظم بالإقسام به، و يؤكّد به ما يريد تحقيقه. و الحجر: العقل. سمّي به لأنّه يحجر عمّا لا ينبغي، كما سمّي عقلا و نهية و حصاة من الإحصاء، و هو الضبط. و في هذا تعظيم و تأكيد لما وقع به القسم.

و المعنى: أنّ من كان ذا لبّ علم أنّ ما أقسم اللّه به من هذه الأشياء فيه عجائب و دلائل على توحيد اللّه، توضح عن عجائب صنعه و بدائع حكمته.

و المقسم عليه محذوف، و هو: ليعذّبنّ. يدلّ عليه قوله: أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِعادٍ. الخطاب للنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و فيه تنبيه للكفّار على ما فعله سبحانه بالأمم السابقة لمّا كفرت باللّه و بأنبيائه، و كانت أطول أعمارا و أشدّ قوّة. و عاد قوم ثمود، سمّوا باسم أبيهم، كما سمّي بنو هاشم باسمه. و هو عاد بن عوص بن إرم بن سام بن نوح.

______________________________

(1) خبر لقوله: و من فسّرهما ...، في بداية الفقرة.

(2) المدّثر: 33.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 420

إِرَمَ عطف بيان ل «عاد» إيذانا بأنّهم عاد الأولى القديمة. و هذا على تقدير مضاف، أي: سبط إرم، أو أهل إرم، إن صحّ أنّه اسم بلدتهم. و قيل: سمّي أوائلهم- و هم عاد الأولى- بإرم اسم جدّهم، و من بعدهم سمّوا عادا الأخيرة. و منع صرفه

للعلميّة و التأنيث، باعتبار القبيلة أو البلدة. ذاتِ الْعِمادِ ذات البناء الرفيع، أو القدود «1» الطوال. و منه قولهم: رجل معمد إذا كان طويلا. و رجل طويل العماد، أي:

القامة. أو ذات الرفعة و الثبات.

الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ صفة اخرى ل «إرم». و الضمير لها، سواء جعلت اسم القبيلة أو البلدة. و المعنى: لم يخلق مثل عاد في جميع بلاد الدنيا عظم أجرام و قوّة. فقد روي أنّ طول الرجل منهم كان أربعمائة ذراع، و كان يأتي الصخرة العظيمة فيحملها فيلقيها على الحيّ فيهلكهم. أو لم يخلق مثل مدينة إرم في جميع بلاد الدنيا.

و قيل: كان لعاد ابنان: شدّاد و شديد، فملكا و قهرا، ثمّ مات شديد فخلص الأمر لشداد، و ملك المعمورة، و دانت له ملوكها، فسمع بذكر الجنّة فبنى على مثالها في بعض صحاري عدن جنّة و سمّاها إرم، فلمّا تمّ سار إليها بأهله، فلمّا كان منها على مسيرة يوم و ليلة بعث اللّه عليهم صيحة من السماء فهلكوا.

و عن عبد اللّه بن قلابة: أنّه خرج في طلب إبله فوقع عليها. و قصّة ذلك مفصّلا على ما روى وهب بن منبّه: أنّ عبد اللّه بن قلابة خرج يوما في طلب إبل له شردت، فبينا هو في صحاري عدن إذ هو قد وقع على مدينة في تلك الفلوات عليها حصن، و حول الحصن قصور كثيرة و أعلام طوال.

فلمّا دنا منها ظنّ أنّ فيها أحدا يسأله عن إبله، فنزل عن دابّته و عقلها، و سلّ سيفه و دخل من باب الحصن. فلمّا دخل الحصن إذا هو ببابين عظيمين لم ير أعظم

______________________________

(1) القدود جمع القدّ: قدر الشي ء و تقطيعه.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 421

منهما، و

البابان مرصّعان بالياقوت الأبيض و الأحمر. فلمّا رأى ذلك دهش ففتح أحد البابين، فإذا هو بمدينة لم ير أحد مثلها، و إذا هو قصور، كلّ قصر فوقه غرف مبنيّة بالذهب و الفضّة و اللؤلؤ و الياقوت، و أساطينها من الزبرجد و الياقوت، و مصاريع تلك الغرف مثل مصراع المدينة يقابل بعضها بعضا، مفروشة كلّها باللآلئ و بنادق من مسك و زعفران.

فلمّا رأى الرجل ما رأى، و لم ير فيها أحدا هاله ذلك. ثمّ نظر إلى الأزقّة فإذا هو بشجر في كلّ زقاق منها قد أثمرت تلك الأشجار، و تحت الأشجار أنهار مطّردة، يجري ماؤها من قنوات من فضّة، كلّ قناة أشدّ بياضا من الشمس.

فقال الرجل: و الّذي بعث محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالحقّ ما خلق اللّه مثل هذه في الدنيا، و إنّ هذه هي الجنّة الّتي وصفها اللّه تعالى في كتابه. فحمل معه من لؤلؤها و من بنادق المسك و الزعفران، و لم يستطع أن يقلع من زبرجدها و لا من ياقوتها شيئا.

و خرج و رجع إلى اليمن، فأظهر ما كان معه، و علم الناس أمره. فلم يزل ينمو أمره حتّى بلغ معاوية خبره، فأرسل في طلبه حتّى قدم عليه، فقصّ عليه القصّة. فأرسل معاوية إلى كعب الأحبار، فلمّا أتاه قال له: يا أبا إسحاق هل في الدنيا مدينة من ذهب و فضّة؟

قال: نعم، أخبرك بها و بمن بناها، إنّما بناها شدّاد بن عاد. فأمّا المدينة فإرم ذات العماد الّتي وصفها اللّه تعالى في كتابه، و هي «الَّتِي لَمْ يُخْلَقْ مِثْلُها فِي الْبِلادِ».

قال معاوية: فحدّثني حديثها.

فقال: إنّ عادا الأولى ليس بعاد قوم هود، و إنّما هود و قوم هود ولد ذلك.

و

كان عاد له ابنان: شدّاد و شديد، فهلك عاد فبقيا و ملكا، و قهرا البلاد و أخذاها عنوة. ثمّ هلك شديد و بقي شدّاد، فملك وحده، و دانت له ملوك الأرض، فدعته نفسه إلى بناء مثل الجنّة عتوّا على اللّه سبحانه. فأمر بصنعة تلك المدينة إرم ذات

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 422

العماد، و أمر على صنعتها مائة قهرمان، مع كلّ قهرمان ألف من الأعوان. و كتب إلى كلّ ملك في الدنيا أن يجمع له ما في بلاده من الجواهر. و كان هؤلاء القهارمة أقاموا في بنيانها في ثلاثمائة سنة، و كان عمره تسعمائة سنة، فلمّا فرغوا منها جعلوا عليها حصنا، و جعلوا حول الحصن ألف قصر.

ثمّ سار الملك إليها في جنده و وزرائه، فلمّا كان منها على مسيرة يوم و ليلة بعث اللّه عزّ و جلّ عليه و على من معه صيحة من السماء فأهلكتهم جميعا، و لم يبق منهم أحد. و سيدخلها في زمانك رجل من المسلمين، أحمر أشقر قصير، على حاجبه خال، و على عنقه خال، يخرج في طلب إبل له في تلك الصحاري. و الرجل عند معاوية، فالتفت كعب إليه و قال: هذا و اللّه ذاك الرجل.

وَ ثَمُودَ الَّذِينَ جابُوا الصَّخْرَ قطعوا صخر الجبال و اتّخذوا فيها بيوتا و منازل، لقوله: وَ تَنْحِتُونَ مِنَ الْجِبالِ بُيُوتاً «1» بِالْوادِ وادي القرى. قيل: أوّل من نحت الجبال و الصخور و الرخام ثمود، و بنوا ألفا و سبعمائة مدينة كلّها من الحجارة.

وَ فِرْعَوْنَ ذِي الْأَوْتادِ لكثرة جنوده و مضاربهم الّتي كانوا يضربونها بالأوتاد إذا نزلوا. أو لتعذيبه بالأوتاد، كما روي عن ابن مسعود و مجاهد: كان يشدّ الرجل بأربعة أوتاد على الأرض إذا أراد تعذيبه،

و يتركه حتّى يموت. قال: وتّد امرأته آسية بأربعة أوتاد، ثمّ جعل على ظهرها رحى عظيمة حتّى ماتت. و كذا فعل بماشطة ابنته. و قد مرّ بيانه في سورة ص «2».

الَّذِينَ طَغَوْا فِي الْبِلادِ صفة للمذكورين: عاد و ثمود و فرعون. أو ذمّ منصوب أو مرفوع. فَأَكْثَرُوا فِيهَا الْفَسادَ بالكفر و الظلم على العباد.

______________________________

(1) الشعراء: 149.

(2) راجع ج 6 ص 11، ذيل الآية 12 من سورة ص.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 423

فَصَبَّ عَلَيْهِمْ رَبُّكَ سَوْطَ عَذابٍ ما خلط لهم من أنواع العذاب. و أصله:

الخلط. و إنّما سمّي به الجلد المضفور الّذي يضرب به، لكونه مخلوط الطاقات بعضها ببعض. و قيل: شبّه بالسوط ما أحلّ بهم من العذاب العظيم في الدنيا، إشعارا بأنّه القياس إلى ما أعدّ لهم في الآخرة من العذاب، كالسوط إذا قيس إلى السيف.

إِنَّ رَبَّكَ لَبِالْمِرْصادِ المكان الّذي يترقّب فيه الرصد. مفعال من: رصده، كالميقات من: وقته. و هو تمثيل لإرصاد اللّه تعالى العصاة بالعقاب بحيث إنّهم لا يفوتونه.

و

عن الصادق عليه السّلام: «أنّ المرصاد قنطرة على الصراط لا يجوزها عبد بمظلمة عبد».

و

روي عن ابن عبّاس في هذه الآية قال: إنّ على جسر جهنّم سبع مجالس يسأل العبد عنه، أوّلها عن شهادة أن لا إله إلّا اللّه، فإن جاء بها تامّة جاز إلى الثاني.

فيسأل عن الصلاة، فإن جاء بها تامّة جاز إلى الثالث. فيسأل عن الزكاة، فإن جاء بها تامّة جاز إلى الرابع. فيسأل عن الصوم، فإن جاء به تامّا جاز إلى الخامس.

فيسأل عن الحجّ، فإن جاء به تامّا جاز إلى السادس. فيسأل عن العمرة، فإن جاء بها تامّة جاز إلى السابع. فيسأل عن المظالم، فإن خرج منها، و إلّا يقال: انظروا فإن كان له

تطوّع أكمل به أعماله، فإذا فرغ انطلق به إلى الجنّة.

[سورة الفجر (89): الآيات 15 الى 26]

فَأَمَّا الْإِنْسانُ إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ (15) وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ (16) كَلاَّ بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ (17) وَ لا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (18) وَ تَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلاً لَمًّا (19)

وَ تُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا (20) كَلاَّ إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا (21) وَ جاءَ رَبُّكَ وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا (22) وَ جِي ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ يَوْمَئِذٍ يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ وَ أَنَّى لَهُ الذِّكْرى (23) يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي (24)

فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ (25) وَ لا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ (26)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 424

ثمّ وصل بقوله: «لَبِالْمِرْصادِ» قوله: فَأَمَّا الْإِنْسانُ كأنّه قيل: إنّ اللّه تعالى لا يريد من الإنسان إلّا الطاعة و السعي للعاقبة، و هو مرصد بالعقوبة للعاصي، فأمّا الإنسان فلا يريد ذلك، و لا يهمّه إلّا العاجلة و ما يلذّه و ينعمه فيها، لأنّه إِذا مَا ابْتَلاهُ رَبُّهُ اختبره بالغنا و اليسر فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ بالجاه و المال فَيَقُولُ رَبِّي أَكْرَمَنِ بما أعطاني، إترافا و التذاذا و مرحا و اختيالا بلا مقابلته بالشكر.

و هذا خبر المبتدأ الّذي هو الإنسان. و الفاء لما في «أمّا» من معنى الشرط.

و الظرف المتوسّط في تقدير التأخير. كأنّه قيل: فأمّا الإنسان فقائل: ربّي أكرمني وقت ابتلائه بالإنعام. و كذا قوله: وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ فَقَدَرَ عَلَيْهِ رِزْقَهُ إذ التقدير:

و أمّا الإنسان وقت ما ابتلاه بالفقر و التقتير، ليوازن قسيمه، فإنّ حقّ التوازن أن يقابل الواقعان بعد «أمّا» و «أمّا»، كما تقول: أمّا الإنسان فكفور، و أمّا الملك فشكور. أمّا إذا أحسنت إلى زيد فهو

محسن إليك، و أمّا إذا أسأت إليه فهو مسي ء إليك. فعلم أنّ قوله: «وَ أَمَّا إِذا مَا ابْتَلاهُ» في تقدير: و أمّا الإنسان إذا ابتلاه، أي:

وقت ابتلائه بالفقر.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 425

فَيَقُولُ رَبِّي أَهانَنِ لقصور نظره و سوء فكره، فإنّ التقتير قد يؤدّي إلى كرامة الدارين، إذ التوسعة قد تفضي إلى قصد الأعداء و الانهماك في حبّ الدنيا، و لذلك ذمّه على قوليه و ردعه عنه بقوله: كَلَّا مع أنّ ظاهر قوله الأوّل مطابق ل «فَأَكْرَمَهُ وَ نَعَّمَهُ» فإنّ كلّ واحد من التوسعة و التقتير اختبار للعبد، فإذا بسط له فقد اختبر حاله أ يشكر أم يكفر؟ فإذا قدر عليه رزقه فقد اختبر حاله أ يصبر أم يجزع؟

فالحكمة فيهما واحدة. و نحوه قوله تعالى: وَ نَبْلُوكُمْ بِالشَّرِّ وَ الْخَيْرِ فِتْنَةً «1».

و لمّا كان قوله: «ربّي أكرمن» على قصد خلاف ما صحّحه اللّه عليه، لأنّ قصده إلى أنّ اللّه أعطاه ما أعطاه إكراما له، مستحقّا مستوجبا على عادة افتخارهم و جلالة أقدارهم عندهم، كقوله: إِنَّما أُوتِيتُهُ عَلى عِلْمٍ «2». و إنّما أعطاه اللّه على وجه التفضّل من غير استيجاب منه له، و لا سابقة ممّا لا يعتدّ اللّه إلّا به، و هو التقوى، دون الأنساب و الأحساب الّتي كانوا يفتخرون بها، و يرون استحقاق الكرامة من أجلها. فأنكر قوله: «ربّي أكرمن» و ذمّه عليه.

و أيضا ينساق الإنكار و الذمّ من قوله: «ربّي أكرمن» إلى قوله: «ربّي أهانن».

يعني: أنّه إذا تفضّل اللّه عليه بالخير و أكرم به اعترف بتفضّل اللّه و إكرامه، و إذا لم يتفضّل اللّه عليه سمّى ترك التفضّل هوانا، و ليس بهوان. و لهذا لم يقل: فأهانه و قدر رزقه، كما قال: فأكرمه و

نعّمه.

و توضيحه: أنّ إكرام اللّه لعبده بإنعامه عليه متفضّلا من غير سابقة. و أمّا التقتير فليس بإهانة، لأنّ الإخلال بالتفضّل لا يكون إهانة، و لكن تركا للكرامة، و قد يكون المولى مكرما لعبده و مهينا، و غير مكرم و مهين. و إذا أهدى لك زيد هديّة قلت: أكرمني بالهديّة. و لا تقول: أهانني و لم يكرمني، إذا لم يهد لك.

______________________________

(1) الأنبياء: 35.

(2) القصص: 78.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 426

و قرأ ابن عامر و الكوفيّون «أكرمن» و «أهانن» بغير الياء في الوقف و الوصل. و عن أبي عمرو مثله. و وافقهم نافع في الوقف. و قرأ ابن عامر و الكوفيّون بالتشديد.

ثمّ بيّن سبحانه أسوأ فعله الّذي يستحقّ به الهوان، فقال: بَلْ لا تُكْرِمُونَ الْيَتِيمَ أي: بل فعلهم أسوأ من قولهم، و أدلّ على تهالكهم على المال، و هو أنّ اللّه يكرمهم بكثرة المال، و هم لا يكرمون اليتيم بالتفقّد و المبرّة. و خصّ اليتيم لأنّه لا كافل لهم يقوم بأمرهم، و

قد قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنا و كافل اليتيم كهاتين في الجنّة».

و أشار بالسبّابة و الوسط.

وَ لا تَحَاضُّونَ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ و لا يحثّون أهلهم على طعام المسكين فضلا عن غيرهم. و قرأ الكوفيّون: و لا تحاضّون، أي: لا يحثّ بعضهم بعضا على طعامه.

وَ تَأْكُلُونَ التُّراثَ أَكْلًا لَمًّا ذا لمّ، أي: جمع بين الحلال و الحرام، فإنّهم كانوا لا يورّثون النساء و الصبيان، و يأكلون أنصباءهم من الميراث. أو تأكلون ما جمعه المورّث من حلال و حرام عالمين بذلك، فتجمعون في الأكل بين حرامه و حلاله.

و يجوز أن يذمّ الوارث الّذي ظفر بالمال سهلا مهلا من غير أن يعرق جبينه، فيسرف في إنفاقه،

و يأكله أكلا واسعا، جامعا بين ألوان المشتهيات من الأطعمة و الأشربة و الفواكه، كما يفعل الورّاث البطّالون.

وَ تُحِبُّونَ الْمالَ حُبًّا جَمًّا كثيرا شديدا مع الحرص و الشره و منع الحقوق.

و قرأ أبو عمرو: «لا يكرمون» إلى قوله: «و يحبّون» بالياء.

كَلَّا ردع لهم عن ذلك و إنكار لفعلهم. ثمّ أتى بالوعيد و ذكر تحسّرهم على ما فرّطوا فيه حين لا تنفع الحسرة، فقال: إِذا دُكَّتِ الْأَرْضُ دَكًّا دَكًّا دكّا بعد دكّ، أي: كرّر عليها الدكّ، فكسر و دقّ كلّ شي ء على ظهرها، من جبال و تلال

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 427

و أبنية و أشجار و غير ذلك، فلم يبق عليها شي ء حتّى صارت هباء منبثّا.

وَ جاءَ رَبُّكَ أي: ظهرت آيات قدرته، و آثار قهره و هيبته. فمثّل ذلك بحال السلطان إذا حضر بنفسه، ظهر بحضوره من آثار الهيبة و السياسة ما لا يظهر بحضور وزرائه و خواصّه و جميع عساكره. و قيل: جاء أمر ربّك و قضاؤه و محاسبته. و قيل:

معناه: و زالت الشبهة و ارتفع الشكّ، كما يرتفع عند مجي ء الشي ء الّذي كان يشكّ فيه. و ليس المعنى على ظاهره، لقيام البراهين القاهرة و الدلائل الباهرة على أنّه سبحانه ليس بجسم، فجلّ و تقدّس عن المجي ء و الذهاب.

وَ الْمَلَكُ صَفًّا صَفًّا بحسب منازلهم و مراتبهم. يعني: تنزل ملائكة كلّ سماء، فيصطفّون صفّا بعد صفّ محدقين بالجنّ و الإنس.

و قال الضحّاك: أهل كلّ سماء إذا زلزلوا يوم القيامة كانوا صفّا محيطين بالأرض و بمن فيها، فيكونون سبع صفوف.

و قيل: معناه: مصطفّين كصفوف الناس في الصلاة، يأتي الصفّ الأوّل، ثمّ الصفّ الثاني، ثمّ الصفّ الثالث، ثمّ على هذا الترتيب، لأنّ ذلك أشبه بحال الاستواء من التشويش.

فالتعديل أولى في الأمور.

وَ جِي ءَ يَوْمَئِذٍ بِجَهَنَّمَ كقوله: وَ بُرِّزَتِ الْجَحِيمُ «1».

روي مرفوعا عن أبي سعيد الخدري: «أنّها لمّا نزلت تغيّر وجه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و عرف في وجهه، حتّى اشتدّ على أصحابه، فأخبروا عليّا عليه السّلام، فجاء فاحتضنه من خلفه، و قبّله بين عاتقيه. ثمّ قال: يا نبيّ اللّه بأبي أنت و أمّي ما الّذي حدث اليوم؟ و ما الّذي غيّرك؟

فتلا عليه الآية. فقال عليّ عليه السّلام: كيف يجاء بها؟ قال: يجي ء بها سبعون ألف ملك، يقودونها بسبعين ألف زمام، فتشرد شردة لو تركت لأحرقت أهل الجمع. ثمّ أتعرّض لجهنّم فتقول: مالي و مالك يا محمّد، فقد حرّم اللّه لحمك عليّ، فلا يبقى

______________________________

(1) النازعات: 36. زبدة التفاسير، ج 7، ص: 428

أحد إلّا قال: نفسي نفسي، و إنّ محمّدا يقول: ربّ أمّتي أمّتي».

يَوْمَئِذٍ بدل من «إذا دكّت». و العامل فيها يَتَذَكَّرُ الْإِنْسانُ أي: يتذكّر معاصيه. أو يتّعظ، لأنّه يعلم قبحها فيندم عليها. وَ أَنَّى لَهُ الذِّكْرى أي: و من أين له منفعة الذكرى؟ على تقدير مضاف، لئلّا يناقض ما قبله.

يَقُولُ يا لَيْتَنِي قَدَّمْتُ لِحَياتِي أي: لحياتي هذه، و هي حياة الآخرة. أو وقت حياتي في الدنيا أعمالا صالحة، كقوله: جئته لعشر ليال خلون من رجب.

و هذا أبين دليل على أنّ الاختيار كان في أيدي المكلّفين، و معلّقا بقصدهم و إرادتهم، و أنّهم لم يكونوا محجوبين عن الطاعات، مجبرين على المعاصي، كمذهب أهل الأهواء و البدع، و إلّا فما معنى التحسّر؟

فَيَوْمَئِذٍ لا يُعَذِّبُ عَذابَهُ أَحَدٌ* وَ لا يُوثِقُ وَثاقَهُ أَحَدٌ الضمير للّه، أي: لا يتولّى عذاب اللّه و وثاقه يوم القيامة سواه، إذ الأمر كلّه للّه في ذلك اليوم. أو

للإنسان، أي:

لا يعذّب أحد من الزبانية مثل ما يعذّبه الإنسان، و لا يوثق بالسلاسل و الأغلال وثاق أحد منهم، لتناهيه في كفره و عناده. و قرأهما الكسائي و يعقوب على بناء المفعول، و الضمير للإنسان. و قيل: هو أبيّ بن خلف، أي: لا يعذّب أحد مثل عذابه، و لا يوثق أحد مثل وثاقه. و المعنى: لا يحمّل عذاب الإنسان أحد، كقوله: وَ لا تَزِرُ وازِرَةٌ وِزْرَ أُخْرى «1».

[سورة الفجر (89): الآيات 27 الى 30]

يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ (27) ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ راضِيَةً مَرْضِيَّةً (28) فَادْخُلِي فِي عِبادِي (29) وَ ادْخُلِي جَنَّتِي (30)

و بعد ذكر الوعيد بيّن الوعد للأبرار، فقال: يا أَيَّتُهَا النَّفْسُ الْمُطْمَئِنَّةُ على

______________________________

(1) الأنعام: 164.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 429

إرادة القول، أي: قال اللّه لها، كما كلّم موسى عليه السّلام. أو قاله على لسان ملك. و هي الّتي اطمأنّت بذكر اللّه، فإنّ النفس تترقّى في سلسلة الأسباب و المسبّبات إلى الواجب لذاته، فتستقرّ دون معرفته، و تستغني به عن غيره. أو المطمئنّة إلى الحقّ الّتي سكّنها ثلج اليقين، فلا يخالجها شكّ. و هي النفس المؤمنة الموقنة المصدّقة بالبعث. أو الآمنة الّتي لا يستفزّها خوف و لا حزن. و يؤيّد هذا التفسير قراءة أبيّ بن كعب: يا أيّتها النفس الآمنة المطمئنّة.

ارْجِعِي إِلى رَبِّكِ إلى أمره، أو موعده بالموت. و هذا الخطاب إمّا عند الموت، أو عند البعث، أو عند دخول الجنّة. راضِيَةً بما أوتيت مَرْضِيَّةً عند اللّه.

فَادْخُلِي فِي عِبادِي في جملة عبادي الصالحين، و انتظمي في سلكهم وَ ادْخُلِي جَنَّتِي معهم، أو في زمرة المقرّبين، فتستضي ء بنورهم، فإنّ الجواهر القدسيّة كالمرايا المتقابلة. أو ادخلي في أجساد عبادي الّتي فارقت عنها، و ادخلي دار ثوابي الّتي أعدّت لك.

قيل: نزلت في حمزة

بن عبد المطّلب. و قيل: في خبيب بن عديّ الّذي صلبه أهل مكّة، و جعلوا وجهه إلى المدينة، فقال: اللّهمّ إن كان لي عندك خير فحوّل وجهي نحو قبلتك. فحوّل اللّه وجهه نحوها، فلم يستطع أحد أن يحوّلها. و الظاهر العموم.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 431

(90) سورة البلد

اشارة

مكّيّة. و هي عشرون آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأها أعطاه اللّه الأمن من غضبه يوم القيامة».

أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من كان قراءته في الفريضة «لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ» كان في الدنيا معروفا أنّه من الصالحين، و كان في الآخرة معروفا أنّ له من اللّه مكانا، و كان من رفقاء النبيّين و الشهداء و الصّالحين».

[سورة البلد (90): الآيات 1 الى 20]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ (1) وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ (2) وَ والِدٍ وَ ما وَلَدَ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ (4)

أَ يَحْسَبُ أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ (5) يَقُولُ أَهْلَكْتُ مالاً لُبَداً (6) أَ يَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ (7) أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ (8) وَ لِساناً وَ شَفَتَيْنِ (9)

وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ (10) فَلا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (11) وَ ما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ (12) فَكُّ رَقَبَةٍ (13) أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ (14)

يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ (15) أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ (16) ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ وَ تَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ (17) أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ (18) وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ (19)

عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ (20)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 432

و لمّا ختم اللّه سورة الفجر بذكر النفس المطمئنّة، بيّن في هذه السورة وجه الاطمينان، و أنّه النظر في طريق معرفة اللّه تعالى، و أكّد ذلك بالقسم، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ بمكّة وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ أقسم سبحانه بالبلد الحرام، و قد قيّده بحلول الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيه، إظهارا لمزيد فضله، و إشعارا بأنّ شرف المكان

بشرف أهله.

و قيل: «حلّ» أي: مستحلّ تعرّضك فيه، كما يستحلّ تعرّض الصيد في غير الحرم. كما روي عن شرحبيل معناه: يحرّمون أن يقتلوا بها صيدا، و يعضدوا بها شجرة، و يستحلّون إخراجك و قتلك.

و فيه تثبيت من رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و بعث على احتمال ما كان يكابد من أهل مكّة، و تعجيب من حالهم في عداوته.

و مثل ذلك

مرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، فإنّه قال: «كانت قريش تعظّم البلد، و تستحلّ محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فيه، فقال سبحانه: «لا أُقْسِمُ بِهذَا الْبَلَدِ وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ». يريد: أنّهم استحلّوك فيه، فكذّبوك و شتموك، و كانوا لا يأخذ الرجل منهم فيه قاتل أبيه، و يتقلّدون لحاء «1» شجر الحرم، فيأمنون بتقليدهم إيّاه، فاستحلّوا

______________________________

(1) اللحاء: قشر العود أو الشجرة. زبدة التفاسير، ج 7، ص: 433

من رسول اللّه ما لم يستحلّوا من غيره، فعاب اللّه ذلك عليهم بقوله: «وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ».

أو سلّى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالقسم ببلده، على أنّ الإنسان لا يخلو من مقاساة الشدائد. و اعترض بين القسم و المقسم عليه بقوله: «و أنت حل بهذا البلد». يعني:

و من المكابدة أنّ مثلك على عظم حرمتك يستحلّ بهذا البلد الحرام، كما يستحلّ الصيد في غير الحرم.

أو اعترض بينهما، بأن وعده فتح مكّة تتميما للتسلية و التنفيس عنه، فقال:

«وَ أَنْتَ حِلٌّ بِهذَا الْبَلَدِ». يعني: و أنت حلّ به في المستقبل، تصنع فيه ما تريد من القتل و الأسر.

و ذلك أنّ اللّه فتح عليه مكّة و أحلّها له، و ما فتحت على أحد قبله و لا أحلّت له، فأحلّ ما

شاء و حرّم ما شاء. و من ذلك قتل ابن خطل و هو متعلّق بأستار الكعبة، و مقيس بن صبابة، و غيرهما. و حرّم دار أبي سفيان. ثمّ

قال: «إنّ اللّه حرّم مكّة يوم خلق السماوات و الأرض، فهي حرام إلى أن تقوم الساعة، لم تحلّ لأحد قبلي، و لن تحلّ لأحد بعدي، و لم تحلّ لي إلّا ساعة من نهار. فلا يعضد شجرها، و لا يختلى «1» خلاها، و لا ينفر صيدها، و لا تحلّ لقطتها إلّا لمنشد، أي: معرّف».

فقال العبّاس: يا رسول اللّه إلّا الإذخر، فإنّه لقيوننا «2» و قبورنا و بيوتنا. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

إلّا الإذخر».

و نظير قوله: «و أنت حلّ» في معنى الاستقبال قوله تعالى: إِنَّكَ مَيِّتٌ وَ إِنَّهُمْ مَيِّتُونَ «3». و مثله واسع في كلام العباد، تقول لمن تعده الإكرام و العطاء: أنت مكرم

______________________________

(1) اختلى العشب: جزّه و قطعه. و الخلى: العشب.

(2) القيون جمع القين: الحدّاد.

(3) الزمر: 30.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 434

محبوّ. و هو في كلام اللّه أوسع، لأنّ الأحوال المستقبلة عنده كالحاضرة المشاهدة.

و كفاك دليلا قاطعا على أنّه للاستقبال، و أنّ تفسيره بالحال محال، أنّ السورة بالاتّفاق مكّيّة، و أين الهجرة عن وقت نزولها؟ فما بال الفتح؟

وَ والِدٍ عطف على «هذا البلد». و الوالد آدم، أو إبراهيم، أو محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

وَ ما وَلَدَ ذرّيته، أو محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، أو ذرّيّته الطاهرة. قيل: أقسم اللّه عزّ اسمه ببلد رسوله الّذي هو مسقط رأسه، و حرم أبيه إبراهيم، و منشأ أبيه إسماعيل، و بمن ولده و به. و التنكير للتعظيم. و إيثار «ما» على «من» لمعنى

التعجّب، كما في قوله: وَ اللَّهُ أَعْلَمُ بِما وَضَعَتْ «1» أي: أيّ شي ء وضعت. يعني: موضوعا عجيب الشأن. و قيل:

المراد كلّ والد و ولده. و التنكير للتكثير.

لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي كَبَدٍ تعب و مشقّة. من: كبد الرجل كبدا فهو أكبد، إذا وجعت كبده و انتفخت، فاتّسع فيه حتّى استعمل في كلّ تعب و مشقّة. و منه اشتقّت المكابدة. و الإنسان لا يزال في شدائد، مبدؤها ظلمة الرحم و ضيقه، و منتهاها الموت و ما بعده. و هو تسلية لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ممّا كان يكابده من قريش، كما عرفت.

و الضمير في أَ يَحْسَبُ لبعضهم الّذي كان النبيّ يكابد منه أكثر، أو يغترّ بقوّته، كأبي الأشدّ بن كلدة، فإنّه كان يبسط تحت قدميه أديم عكاظيّ، فيقوم عليه و يقول: من أزالني عنه فله كذا، فلا ينزع إلّا قطعا و يبقى موضع قدميه. و قيل: الوليد بن المغيرة، أو كلّ أحد منهم. و المعنى: أ يظنّ هذا الصنديد القويّ في قومه المستضعف للمؤمنين أَنْ لَنْ يَقْدِرَ عَلَيْهِ أَحَدٌ أن لن تقوم قيامة، و لن يقدر أحد على الانتقام منه، و على مكافأته بما هو عليه. و الهمزة للإنكار، أي: لا يظنّنّ ذلك.

ثمّ ذكر ما يقوله في ذلك الوقت، فقال عزّ اسمه: يَقُولُ في وقت الانتقام

______________________________

(1) آل عمران: 36.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 435

منه أَهْلَكْتُ مالًا لُبَداً كثيرا. من: تلبّد الشي ء إذا اجتمع. و المراد: ما أنفقه رياء و سمعة و مفاخرة، أو معاداة للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و عن مقاتل: قائله: الحرث بن عامر بن نوفل بن عبد مناف. و ذلك أنّه أذنب ذنبا فاستفتى رسول اللّه صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم، فأمره أن يكفّر.

فقال: لقد ذهب مالي في الكفّارات و النفقات منذ دخلت في دين محمّد.

أَ يَحْسَبُ أَنْ لَمْ يَرَهُ أَحَدٌ حين كان ينفق رئاء الناس و افتخارا بينهم، أو بعد ذلك فيسأله عنه. يعني: أنّ اللّه يراه فيجازيه، أو يجده فيحاسبه عليه.

ثمّ قرّر ذلك بقوله: أَ لَمْ نَجْعَلْ لَهُ عَيْنَيْنِ يبصر بهما وَ لِساناً يترجم به عن ضمائره وَ شَفَتَيْنِ يستر بهما فاه، و يستعين بهما على النطق و الأكل و الشرب و النفخ و غيرها.

وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ طريقي الخير و الشرّ. و عن ابن المسيّب و الضحّاك:

أنّهما الثديان. و أصله: المكان المرتفع. و

روي: أنّه قيل لأمير المؤمنين عليه السّلام: «إنّ ناسا يقولون في قوله: «وَ هَدَيْناهُ النَّجْدَيْنِ» إنّهما الثديان. فقال: لا، هما الخير و الشرّ».

و ارتفاعهما باعتبار ظهورهما و بروزهما في الحسن و القبح، كبروز المكان المرتفع.

فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ أي: فلم يشكر تلك الأيادي و النعم باقتحام العقبة، و هو الدخول تكلّفا في أمر شديد. من القحمة بمعنى الشدّة. و العقبة: الطريق في الجبل.

و لمّا كان في فكّ الرقبة و إطعام الأقارب و المساكين مجاهدة النفس و معاناتها، فسّر بها استعارة في قوله: وَ ما أَدْراكَ مَا الْعَقَبَةُ أي: إنّك لم تدر كنه صعوبتها و كنه ثوابها عند اللّه. و هذا اعتراض بين المفسّر و المفسّر.

فَكُّ رَقَبَةٍ تخليصها من رقّ أو غيره. و

في الحديث: «إنّ رجلا قال لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: دلّني على عمل يدخلني الجنّة. فقال: تعتق النسمة، و تفكّ الرقبة. قال:

أو ليسا سواء؟ قال: لا، اعتقاقها: أن تنفرد بعتقها، و فكّها: أن تعين في تخليصها من

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 436

قود

أو غرم».

و

عن الشعبي: في رجل عنده فضل نفقة، أ يضعه في ذي قرابة، أو يعتق رقبة؟ قال: الرقبة أفضل، لأنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من فكّ رقبة فكّ اللّه بكلّ عضو منها عضوا منه من النار».

و أيضا يدلّ على أفضليّته تقديمه على قوله: أَوْ إِطْعامٌ فِي يَوْمٍ ذِي مَسْغَبَةٍ ذي مجاعة. من: سغب إذا جاع. و وصف اليوم بذي مسغبة نحو ما يقول النحويّون في قولهم: همّ ناصب، أي: ذو نصب.

يَتِيماً ذا مَقْرَبَةٍ ذا قربى. من: قرب في النسب. يقال: فلان ذو قرابتي و ذو مقربتي. و فيه حثّ على تفضيل ذوي القربى المحتاجين على الأجانب في الإطعام.

أَوْ مِسْكِيناً ذا مَتْرَبَةٍ من: ترب إذا افتقر. و معناه: التصق بالتراب لغاية احتياجه و افتقاره. و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «في قوله: «ذا متربة» الّذي مأواه المزابل».

و

في الحديث عن معاذ بن جبل قال: «قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من أشبع جائعا في يوم سغب أدخله اللّه يوم القيامة من باب من أبواب الجنّة، لا يدخلها إلّا من فعل مثل ما فعل».

و

عن جابر بن عبد اللّه قال: «قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من موجبات المغفرة إطعام المسلم السغبان».

و

روى محمد بن عمر بن يزيد قال: «قلت لأبي الحسن الرضا عليه السّلام: إنّ لي ابنا شديد العلّة. قال: مره يتصدّق بالقبضة من الطعام بعد القبضة، فإنّ اللّه يقول: «فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ». و قرأ الآيات».

و معنى الآية: أنّ الإنفاق على هذا الوجه هو الإنفاق المرضيّ النافع عند اللّه، لا أن يهلك مالا لبدا في الرياء و الفخار، فيكون مثله كَمَثَلِ رِيحٍ فِيها صِرٌّ أَصابَتْ حَرْثَ قَوْمٍ

«1» الآية.

______________________________

(1) آل عمران: 117.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 437

و قرأ ابن كثير و أبو عمرو و الكسائي: فكّ رقبة أو أطعم، على الإبدال من «اقتحم».

و اعلم أنّ «لا» الداخلة على «اقتحم» و إن كانت غير متكرّرة لفظا، لكن متكرّرة معنى، لأنّ معنى «فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ»: فلا فكّ رقبة، و لا أطعم مسكينا. ألا ترى أنّه فسّر اقتحام العقبة بذلك. فلا يقال: إنّه قلّ ما تقع «لا» على الماضي إلّا مكرّرة، فما لها لم تكرّر في الكلام الأفصح؟

ثُمَّ كانَ مِنَ الَّذِينَ آمَنُوا عطفه على «اقتحم» أو «فكّ» ب «ثمّ» لتباعد الإيمان عن العتق و الإطعام في الرتبة و الفضيلة، لا في الوقت، لاستقلاله، و اشتراط سائر الطاعات به، فلا يثبت عمل صالح إلّا به، فهو السابق المقدّم على غيره، و الأصل في كلّ طاعة، و الأساس في كلّ خير.

وَ تَواصَوْا أوصى بعضهم بعضا بِالصَّبْرِ على الإيمان و الثبات عليه.

أو بالصبر عن المعاصي، و على الطاعات و المحن الّتي يبتلي بها المؤمن وَ تَواصَوْا بِالْمَرْحَمَةِ بالرحمة، بأن يكونوا متراحمين متعاطفين. أو بما يؤدّي إلى رحمة اللّه تعالى.

أُولئِكَ أَصْحابُ الْمَيْمَنَةِ اليمين، أو اليمن، بمعنى: الميامين على أنفسهم.

وَ الَّذِينَ كَفَرُوا بِآياتِنا هُمْ أَصْحابُ الْمَشْأَمَةِ الشمال، أو الشؤم، بمعنى:

المشائيم عليهم. و لتكرير ذكر المؤمنين باسم الإشارة، و الكفّار بالضمير، شأن لا يخفى.

عَلَيْهِمْ نارٌ مُؤْصَدَةٌ مطبقة، فلا يفتح لهم باب، و لا يخرج عنها غمّ، و لا يدخل فيها روح آخر الأبد. من: أوصدت الباب إذا أطبقته و أغلقته. و قرأ أبو عمرو و حمزة و حفص بالهمزة، من: آصدته بمعناه.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 439

(91) سورة الشمس

اشارة

مكّيّة. و هي ستّ عشرة آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و

سلّم قال: «من قرأها فكأنّما تصدّق بكلّ شي ء طلعت عليه الشمس و القمر».

معاوية بن عمّار عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من أكثر قراءة و الشمس و ضحاها، و الليل إذا يغشى، و الضحى، و ألم نشرح، في يومه أو ليلته، لم يبق شي ء بحضرته إلّا شهد له يوم القيامة، حتّى شعره و بشرته و لحمه و دمه و عروقه و عصبه و عظامه، و جميع ما أقلّت الأرض منه. و يقول الربّ تبارك و تعالى: قبلت شهادتكم لعبدي، و أجزتها له، انطلقوا به إلى جناني حتّى يتخيّر منها حيث ما أحبّ، فأعطوه إيّاها من غير منّ منّي، و لكن رحمة و فضلا منّي، فهنيئا هنيئا لعبدي».

[سورة الشمس (91): الآيات 1 الى 15]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الشَّمْسِ وَ ضُحاها (1) وَ الْقَمَرِ إِذا تَلاها (2) وَ النَّهارِ إِذا جَلاَّها (3) وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشاها (4)

وَ السَّماءِ وَ ما بَناها (5) وَ الْأَرْضِ وَ ما طَحاها (6) وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها (7) فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها (8) قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها (9)

وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها (10) كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها (11) إِذِ انْبَعَثَ أَشْقاها (12) فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ وَ سُقْياها (13) فَكَذَّبُوهُ فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ بِذَنْبِهِمْ فَسَوَّاها (14)

وَ لا يَخافُ عُقْباها (15)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 440

و لمّا ختم اللّه سبحانه سورة البلد بذكر النار المؤصدة، بيّن في هذه السورة أنّ النجاة منها لمن زكّى نفسه، و أكّده بأن أقسم عليه، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* وَ الشَّمْسِ وَ ضُحاها قد تقدّم أنّ اللّه سبحانه له أن يقسم بماء شاء من خلقه، تنبيها على عظيم قدرته و كثرة الانتفاع بخلقه. و لمّا كان قوام العالم من

الحيوان و النبات بطلوع الشمس و غروبها، أقسم بها و بضحاها، و هو امتداد ضوئها، و انبساط إشراقها، و قيام سلطانها. و لذلك قيل: وقت الضحى، و كأنّ وجهه شمس الضحى. و قيل: الضحوة ارتفاع النهار، و الضحى فوق ذلك.

و الضحاء- بالفتح و المدّ- إذا امتدّ النهار و قرب أن ينتصف.

وَ الْقَمَرِ إِذا تَلاها تبعها فأخذ من ضوئها، و سار خلفها. أو تلا طلوعه طلوعها أوّل الشهر. أو تلا طلوعه عند غروبها ليلة البدر، آخذا من نورها. و قيل:

إذا استدار فتلاها في الضياء و النور.

وَ النَّهارِ إِذا جَلَّاها جلّى الشمس، فإنّها تتجلّى تمام الانجلاء إذا انبسط النهار، فكأنّه مجلّيها. و قيل: إذا جلّى الظلمة، أو الدنيا، أو الأرض، و إن لم يجر ذكرها، كقولهم: أصبحت باردة، يردون: الغداة، و أرسلت المطر، يريدون: السماء.

وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشاها يغشى الشمس فيغطّي ضوءها، أو الآفاق، أو الأرض.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 441

و اعلم أنّ واو القسم مطّرح معها إبراز الفعل إطّراحا كلّيّا، فكان لها شأن خلاف شأن الباء، حيث أبرز معها الفعل و أضمر. فكانت الواو قائمة مقام الفعل، و الباء سادّة مسدّهما معا، و الواوات العواطف نوائب عن هذه الواو. فهنّ عوامل عمل الفعل و الجارّ جميعا، كما تقول: ضرب زيد عمرا و بكر خالدا، فترفع بالواو و تنصب، لقيامها مقام «ضرب» الّذي هو عاملهما، من غير لزوم عطف على عاملين مختلفين، و هما: واو القسم و فعله، كما في قولك: مررت أمس بزيد، و اليوم عمرو. و إمّا أن تجعلهنّ للقسم، فتقع فيما اتّفق الخليل و سيبويه على استكراهه، لأنّه محتاج إلى حرف العطف.

وَ السَّماءِ وَ ما بَناها أي: من رفعها على وجه الاتّساق و الانتظام. و

إنّما أوثرت على «من» لإرادة معنى الوصفيّة. كأنّه قيل: و السماء، و القادر العظيم القدرة الّذي بناها. و لذلك أفرد ذكره. و كذا الكلام في قوله: وَ الْأَرْضِ وَ ما طَحاها وَ نَفْسٍ وَ ما سَوَّاها أي: و الحكيم الباهر الحكمة الّذي بسط الأرض، و سوّى أعضاء النفس على أعدل وجه.

و جعل الماءات مصدريّة يجرّد الفعل عن الفاعل، و يخلّ بنظم قوله: فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها.

و تنكير «نفس» للتكثير، كما في قوله: عَلِمَتْ نَفْسٌ «1». أو للتعظيم.

و المراد: نفس آدم. و الإلهام بالفجور و التقوى إفهامهما، و تعريف حالهما بأنّ أحدهما حسن و الآخر قبيح، ليفعل الطاعة و يذر المعصية. أو التمكين من اختيار ما شاء منهما، بدليل قوله: قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها أنماها بالعلم بالمعارف الإلهيّة و الأعمال الصالحة، فإنّ التزكية الإنماء و الإعلاء بالتقوى. و هو جواب القسم.

و حذف اللام للطول. و لعلّه لمّا أراد به الحثّ على تكميل النفس و المبالغة فيه، أقسم

______________________________

(1) التكوير: 14.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 442

عليه بما يدلّهم على العلم بوجود الصانع، و وجوب ذاته، و كمال صفاته، الّذي هو أقصى درجات القوّة النظريّة، و يذكّرهم عظائم آلائه، ليحملهم على الاستغراق في شكر نعمائه، الّذي هو منتهى كمالات القوّة العمليّة.

وَ قَدْ خابَ مَنْ دَسَّاها نقصها و أخفاها بالجهالة و الفسوق. من التدسية، و هي النقص و الإخفاء بالفجور. و أصل دسّى: دسّس، كتقضّى و تقضّض. و سئل ابن عبّاس عنه فقال: أ تقرأ قَدْ أَفْلَحَ مَنْ تَزَكَّى «1» وَ قَدْ خابَ مَنْ حَمَلَ ظُلْماً «2».

و

جاءت الرواية عن سعيد بن أبي هلال قال: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا قرأ هذه الآية «قَدْ أَفْلَحَ

مَنْ زَكَّاها». وقف ثمّ قال: اللّهمّ آت نفسي تقواها، أنت وليّها و مولاها، و زكّها أنت خير من زكّاها».

و

روى زرارة و حمران و محمّد بن مسلم عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام في قوله: «فَأَلْهَمَها فُجُورَها وَ تَقْواها» قال: «بيّن لها ما تأتي و ما تترك». و في قوله: «قَدْ أَفْلَحَ مَنْ زَكَّاها» قال: «قد أفلح من أطاع، و قد خاب من عصى».

و أمّا قول من زعم أنّ الضمير في «زكّى» و «دسّى» للّه تعالى، و ضمير التأنيث راجع إلى «من» لأنّه في معنى النفس، فمن تعكيس القدريّة الّذين يورّكون «3» على اللّه قدرا هو بري ء منه و متعال عنه، و يحيون لياليهم في تمحّل «4» فاحشة ينسبونها إليه.

و قيل: قوله: «قد أفلح» استطراد بذكر أحوال النفس.

و جواب القسم محذوف، تقديره: ليدمدمنّ اللّه على كفّار مكّة لتكذيبهم رسوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، كما دمدم على ثمود لتكذيبهم صالحا عليه السّلام، حيث قال:

______________________________

(1) الأعلى: 14.

(2) طه: 111.

(3) ورّك الذنب عليه: حمله عليه، و اتّهمه به.

(4) تمحّل الشي ء: احتال في طلبه.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 443

كَذَّبَتْ ثَمُودُ بِطَغْواها بسبب طغيانها، كما تقول: ظلمني بجرأته على اللّه.

أو بما أوعدت به من عذابها ذي الطغوى، كقوله: فَأُهْلِكُوا بِالطَّاغِيَةِ «1». و أصله:

طغيا، من الطغيان. فصلوا بين الاسم و الصفة في فعلى من بنات الياء، بأن قلبوا الياء واوا في الاسم، و تركوا القلب في الصفة، فقالوا: امرأة خزيي.

إِذِ انْبَعَثَ حين قام. ظرف ل «كذّبت» أو طغوى. أَشْقاها أشقى ثمود.

و هو قدار بن سالف. أو هو و من عاونه على قتل الناقة، فإن أفعل التفضيل إذا أضفته صلح للواحد و الجمع. و فضل شقاوتهم لتولّيهم العقر

و قد صحّت الرواية بالإسناد

عن عثمان بن صهيب، عن أبيه قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لعليّ بن أبي طالب عليه السّلام: من أشقى الأوّلين؟ قال: عاقر الناقة. قال: صدقت. فمن أشقى الآخرين؟ قال:

قلت: لا أعلم يا رسول اللّه. قال: الّذي يضربك على هذه، و أشار إلى يافوخه» «2».

و

عن عمّار بن ياسر قال: «كنت أنا و عليّ بن أبي طالب عليه السّلام في غزوة العسرة نائمين في صور «3» من النخل، و دقعاء «4» من التراب، فو اللّه ما أنبهنا إلّا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يحرّكنا برجله، و قد تترّبنا من تلك الدقعاء. فقال: ألا أحدّثكما بأشقى الناس؟ قلنا: بلى يا رسول اللّه. قال: أحيمر ثمود الّذي عقر الناقة، و الّذي يضربك بالسيف يا عليّ على هذه- و وضع يده على قرنه «5»- حتّى تبلّ منها هذه، و أخذ بلحيته».

فَقالَ لَهُمْ رَسُولُ اللَّهِ ناقَةَ اللَّهِ أي: ذروا ناقة اللّه، و احذروا عقرها

______________________________

(1) الحاقّة: 5.

(2) اليافوخ: فراغ بين عظام الجمجمة في مقدّمتها و أعلاها، لا يلبث أن تلتقي فيه العظام.

(3) الصور: النخل الصغير.

(4) الدقعاء: التراب، الأرض لانبات بها.

(5) أي: رأسه.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 444

وَ سُقْياها فلا تزووها «1» عنها. و هي شربها من الماء. فنصب على التحذير، كقوله: الأسد الأسد، و الصبيّ الصبيّ.

فَكَذَّبُوهُ فيما حذّرهم منه من حلول العذاب إن فعلوا فَعَقَرُوها فَدَمْدَمَ عَلَيْهِمْ رَبُّهُمْ فأطبق عليهم العذاب. و هو من تكرير قولهم: ناقة مدمومة، إذا ألبسها الشحم. بِذَنْبِهِمْ بسببه. و فيه إنذار عظيم بعاقبة الذنب، فعلى كلّ مذنب أن يعتبر و يحذر. فَسَوَّاها فسوّى الدمدمة بينهم أو عليهم، فلم يفلت منهم صغير و لا كبير.

أو سوّى ثمود بالأرض، أو في الإهلاك.

وَ لا يَخافُ عُقْباها الواو للحال. و المعنى: فسوّى اللّه الدمدمة بينهم حال كونه لا يخاف عاقبة الدمدمة، أي: عاقبة ما فعله بهم من إطباق العذاب عليهم. أو عاقبة إهلاك ثمود و تبعتها، فيبقي بعض الإبقاء، لأنّ أحدا لا يقدر على معارضته و الانتقام منه. و هذا كقوله: لا يُسْئَلُ عَمَّا يَفْعَلُ وَ هُمْ يُسْئَلُونَ «2».

و قرأ نافع و ابن عامر: فلا يخاف، على العاطفة التعقيبيّة.

______________________________

(1) زوى الشي ء: نحّاه و منعه.

(2) الأنبياء: 23.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 445

(92) سورة الليل

اشارة

مكّيّة. و هي إحدى و عشرون آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأها أعطاه اللّه حتّى يرضى، و عافاه من العسر، و يسّر له اليسر».

[سورة الليل (92): الآيات 1 الى 21]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى (1) وَ النَّهارِ إِذا تَجَلَّى (2) وَ ما خَلَقَ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى (3) إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى (4)

فَأَمَّا مَنْ أَعْطى وَ اتَّقى (5) وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى (6) فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى (7) وَ أَمَّا مَنْ بَخِلَ وَ اسْتَغْنى (8) وَ كَذَّبَ بِالْحُسْنى (9)

فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى (10) وَ ما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ إِذا تَرَدَّى (11) إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى (12) وَ إِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَ الْأُولى (13) فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى (14)

لا يَصْلاها إِلاَّ الْأَشْقَى (15) الَّذِي كَذَّبَ وَ تَوَلَّى (16) وَ سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى (17) الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يَتَزَكَّى (18) وَ ما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى (19)

إِلاَّ ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى (20) وَ لَسَوْفَ يَرْضى (21)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 446

و لمّا قدّم في سورة الشمس بيان حال المؤمن و الكافر، أتبعه سبحانه بمثل ذلك في هذه السورة، فاتّصلت بها اتّصال النظير بالنظير، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشى أي: يغشى الشمس، كقوله:

وَ اللَّيْلِ إِذا يَغْشاها «1». أو النهار، كقوله: يُغْشِي اللَّيْلَ النَّهارَ «2». أو كلّ ما يواريه بظلامه، كقوله: إِذا وَقَبَ «3».

وَ النَّهارِ إِذا تَجَلَّى ظهر بزوال ظلمة الليل، أو تبيّن و انكشف بطلوع الشمس. و هما أعظم النعم، إذ لو كان الدهر كلّه ظلاما لما أمكن الخلق طلب معايشهم، و لو كان كلّه ضياء لما انتفعوا بسكونهم و راحتهم، فلذلك كرّر سبحانه ذكر الليل و النهار في السورتين.

وَ ما خَلَقَ الذَّكَرَ وَ الْأُنْثى و القادر العظيم

القدرة الّذي خلق من ماء واحد صنفي الذكر و الأنثى، من كلّ نوع له توالد. أو آدم و حوّاء. و قيل: «ما» مصدريّة، أي: و خلقهما. و جاز إضمار اسم اللّه، لأنّه معلوم لانفراده بالخلق، إذ لا خالق سواه.

قيل: إنّ اللّه لم يخلق خلقا من ذوي الأرواح ليس بذكر و لا أنثى. و الخنثى و إن أشكل أمره عندنا، فهو عند اللّه غير مشكل، بل معلوم بالذكورة أو الأنوثة.

إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى إنّ مساعيكم لأشتات مختلفة. جمع شتيت. يعني:

أعمالكم مختلفة، فعمل للجنّة، و عمل للنار.

______________________________

(1) الشمس: 4.

(2) الأعراف: 54.

(3) الفلق: 3.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 447

روى الواحدي بالإسناد المتّصل المرفوع عن عكرمة، عن ابن عبّاس: أنّ رجلا كانت له نخلة فرعها في دار رجل فقير ذي عيال، و كان الرجل إذا جاء فيدخل الدار فيصعد النخلة ليأخذ منها التمر، فربما سقطت التمرة فيأخذها صبيان الفقير، فينزل الرجل من النخلة حتّى يأخذ التمرة من أيديهم، فإن وجدها في فم أحدهم أدخل إصبعه حتّى يخرج التمرة من فيه.

فشكا ذلك الرجل إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و أخبره بما يلقى من صاحب النخلة. فقال له النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: اذهب. و لقي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صاحب النخلة. فقال: تعطيني نخلتك المائلة الّتي فرعها في دار فلان و لك بها نخلة في الجنّة؟ فقال له الرجل: لي نخل كثير، و ما فيه نخلة أعجب إليّ تمرة منها.

قال: ثمّ ذهب الرجل، فقال رجل كان يسمع الكلام من رسول اللّه: يا رسول اللّه أ تعطيني ما أعطيت الرجل نخلة في الجنّة إن أنا أخذتها؟

قال: نعم.

فذهب الرجل و لقي صاحب

النخلة فساومها منه. فقال له: أشعرت أنّ محمدا أعطاني بها نخلة في الجنّة، فقلت له: يعجبني تمرتها، و إنّ لي نخلا كثيرا فما فيه نخلة أعجب إليّ تمرة منها؟

فقال له الآخر: أ تريد بيعها؟

قال: لا إلّا أن أعطى بها ما لا أظنّه أعطى.

قال: فما مناك؟

قال: أربعون نخلة.

فقال الرجل: جئت بعظيم، تطلب بنخلتك المائلة أربعين نخلة. ثمّ سكت عنه. فقال له: أنا أعطيك أربعين نخلة.

فقال له: أشهد إن كنت صادقا. فمرّ إلى أناس فدعاهم، فأشهد له بأربعين

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 448

نخلة. ثمّ ذهب إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا رسول اللّه إنّ النخلة قد صارت في ملكي، فهي لك. فذهب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى صاحب الدار، فقال له: النخلة لك و لعيالك» «1».

و عن عطاء قال: اسم الرجل أبو الدحداح. فأنزل اللّه تعالى هذه السورة في شأنه، و أقسم بعظم نعمه «إِنَّ سَعْيَكُمْ لَشَتَّى».

ثمّ فصّل تشتّت المساعي بقوله: فَأَمَّا مَنْ أَعْطى أي: أعطى ماله للّه تعالى.

يعني: أبا الدحداح. وَ اتَّقى اللّه و لم يعصه وَ صَدَّقَ بِالْحُسْنى بالكلمة الحسنى، و هي ما دلّت على حقّ، ككلمة التوحيد. أو بالملّة الحسنى، و هي ملّة الإسلام. أو بالمثوبة الحسنى، و هي الجنّة. فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْيُسْرى فسنهيّئه للخلّة الّتي تؤدّي إلى يسر و راحة، كدخول الجنّة. من: يسّر الفرس إذا هيّأه للركوب بالسرج و اللجام. و منه

قوله عليه السّلام: «كلّ ميسّر لما خلق له».

و المعنى: فسنلطف به و نوفّقه، حتّى تكون الطاعة أيسر الأمور عليه و أهونها. من قوله: فَمَنْ يُرِدِ اللَّهُ أَنْ يَهْدِيَهُ يَشْرَحْ صَدْرَهُ لِلْإِسْلامِ «2».

وَ أَمَّا مَنْ بَخِلَ بما أمر به. يعني: صاحب النخلة.

وَ اسْتَغْنى و زهد فيما عند اللّه، حتّى كأنّه مستغن عنه فلم يتّقه. أو استغنى بشهوات الدنيا عن نعيم العقبى. فهو في مقابلة «و اتّقى». وَ كَذَّبَ بِالْحُسْنى بإنكار مدلولها فَسَنُيَسِّرُهُ لِلْعُسْرى للخلّة المؤدّية إلى العسر و الشدّة، كدخول النار. يعني: فسنخذله و نمنعه الألطاف، حتّى تكون الطاعة أعسر شي ء عليه و أشدّه. من قوله: يَجْعَلْ صَدْرَهُ ضَيِّقاً حَرَجاً كَأَنَّما يَصَّعَّدُ فِي السَّماءِ «3».

و قيل: سمّي طريقة الخير باليسرى، لأنّ عاقبتها اليسر، و طريقة الشرّ بالعسرى، لأنّ عاقبتها العسر. و المعنى: فسنهديهما للطريقين في الآخرة.

______________________________

(1) الوسيط 4: 502.

(2) الأنعام: 125.

(3) الأنعام: 125.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 449

وَ ما يُغْنِي عَنْهُ مالُهُ نفي، أو استفهام إنكار إِذا تَرَدَّى هلك. تفعّل من الردى. أو تردّى في حفرة القبر، أو قعر جهنّم.

إِنَّ عَلَيْنا لَلْهُدى إنّ الإرشاد إلى الحقّ واجب علينا بنصب الدلائل و بيان الشرائع، كقوله: وَ عَلَى اللَّهِ قَصْدُ السَّبِيلِ «1». فأمّا الاهتداء فإليكم.

وَ إِنَّ لَنا لَلْآخِرَةَ وَ الْأُولى فنعطي في الدارين ما نشاء لمن نشاء. أو ثواب الاهتداء للمهتدين في الدارين، كقوله: وَ آتَيْناهُ أَجْرَهُ فِي الدُّنْيا وَ إِنَّهُ فِي الْآخِرَةِ لَمِنَ الصَّالِحِينَ «2». أو نستغني عن اهتدائكم، لأنّ لنا الآخرة و الأولى، فلا يضرّنا ترككم الاهتداء.

فَأَنْذَرْتُكُمْ ناراً تَلَظَّى تتلهّب لا يَصْلاها لا يلزمها مقاسيا شدّتها إِلَّا الْأَشْقَى إلّا الكافر، و هو صاحب النخلة، فإنّ الفاسق و إن دخلها لا يلزمها، بل يخرج عنها بالآخرة لإيمانه. و لذلك سمّاه أشقى، فكأنّ النار لم تخلق إلّا له، و وصفه بقوله:

الَّذِي كَذَّبَ وَ تَوَلَّى أي: كذّب الحقّ، و أعرض عن الطاعة. و قيل: المراد ب «ناراً تَلَظَّى» طبقة مخصوصة بعينها للأشقى، لا كلّ طبقات النار. و يدلّ عليه التنكير

الّذي يدلّ على عظمها و انفرادها من بين طبقاتها.

إن قلت: هذا لا يناسب قوله: «وَ سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى» لأنّه قد علم أنّ أفسق المسلمين يجنّب تلك النار المخصوصة، لا الأتقى منهم خاصّة.

قلت: هذا المعنى من حيث المفهوم، و المفهوم عندنا ليس بحجّة.

وَ سَيُجَنَّبُهَا الْأَتْقَى الّذي اتّقى الشرك و المعاصي. و هو أبو الدحداح، فإنّه لا يدخلها، فضلا عن أن يدخلها و يصلاها.

______________________________

(1) النحل: 9.

(2) العنكبوت: 27.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 450

زبدة التفاسير ج 7 511

الَّذِي يُؤْتِي مالَهُ يصرفه في مصارف الخير، لقوله: يَتَزَكَّى فإنّه بدل من «يؤتي» أو حال من فاعله. من الزكاء، أي: يطلب أن يكون عند اللّه زاكيا، لا يريد به رياء و لا سمعة.

وَ ما لِأَحَدٍ عِنْدَهُ مِنْ نِعْمَةٍ تُجْزى فيقصد بإيتائه مجازاتها إِلَّا ابْتِغاءَ وَجْهِ رَبِّهِ الْأَعْلى استثناء منقطع، لأنّه مستثنى من غير جنسه، و هو النعمة، أي: ما لأحد عنده نعمة لكن ابتغاء وجه ربّه. أو متّصل عن محذوف، مثل: لا يؤتي ماله إلّا ابتغاء وجه ربّه، لا لمكافأة نعمة. و نصبه بالعلّيّة.

وَ لَسَوْفَ يَرْضى وعد بالثواب الّذي يرضيه و يقرّ عينه.

روى العيّاشي عن سعد الإسكاف عن أبي جعفر عليه السّلام أنّه قال: الآيات محمولة على عمومها في كلّ من يعطي حقّ اللّه من ماله، و كلّ من يمنع حقّه.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 451

(93) سورة الضحى

اشارة

مكّيّة. و هي إحدى عشرة آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأها كان ممّن يرضاه اللّه، و لمحمّد أن يشفع له، و له عشر حسنات بعدد كلّ يتيم و سائل».

[سورة الضحى (93): الآيات 1 الى 11]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الضُّحى (1) وَ اللَّيْلِ إِذا سَجى (2) ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى (3) وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى (4)

وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى (5) أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى (6) وَ وَجَدَكَ ضَالاًّ فَهَدى (7) وَ وَجَدَكَ عائِلاً فَأَغْنى (8) فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ (9)

وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ (10) وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ (11)

و لمّا ختم سبحانه سورة الليل بأنّ الأتقى يعطيه من الثواب ما به يرضى، افتتح هذه السورة بأنّه يرضي نبيّه بما يؤتيه يوم القيامة من الكرامة و الزلفى، فقال:

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 452

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* وَ الضُّحى و وقت ارتفاع الشمس. و تخصيصه لأنّ النهار يقوى فيه. أو لأنّ فيه كلّم موسى ربّه، و القي السحرة سجّدا، لقوله: وَ أَنْ يُحْشَرَ النَّاسُ ضُحًى «1». أو النهار كلّه. و يؤيّده قوله: أَنْ يَأْتِيَهُمْ بَأْسُنا ضُحًى «2» في مقابلة بَياتاً «3».

وَ اللَّيْلِ إِذا سَجى سكن أهله فيه، و سكتوا عن أصواتهم. أو ركد و استقرّ ظلامه. من: سجا البحر إذا سكنت أمواجه. و تقديم الليل في السورة المتقدّمة باعتبار الأصل، و تقديم النهار هاهنا باعتبار الشرف.

و جواب القسم ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ ما قطعك قطع المودّع. و التوديع مبالغة في الودع، لأنّ من ودّعك مفارقا فقد بالغ في تركك. وَ ما قَلى و ما أبغضك. و حذف المفعول استغناء بذكره من قبل، و مراعاة للفواصل.

و عن

ابن عبّاس: أنّ الوحي تأخّر عنه خمسة عشر يوما. و عن ابن جريج:

اثني عشر. و عن مقاتل: أربعين، لتركه الاستثناء كما مرّ في سورة الكهف «4»، من

أنّ اليهود سألت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن ذي القرنين و أصحاب الكهف، فقال: سأخبركم غدا، و لم يقل: إن شاء اللّه، فقال المشركون: إنّ محمّدا ودّعه ربّه و قلاه.

و قيل: إنّ أمّ جميل امرأة أبي لهب قالت له: يا محمّد إنّ شيطانك قد تركك.

فقال سبحانه ردّا عليهم- بعد أن أقسم بأعظم آياته على ذاته-: «ما وَدَّعَكَ رَبُّكَ وَ ما قَلى .

و لمّا بيّن أنّه تعالى لا يزال يواصله بالوحي و الكرامة في الدنيا، و عدّ له ما هو أعلى و أجلّ من ذلك في الآخرة، فقال:

______________________________

(1) طه: 59.

(2) الأعراف: 97- 98.

(3) الأعراف: 97- 98.

(4) راجع ج 4 ص 100، ذيل الآية 24 من سورة الكهف.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 453

وَ لَلْآخِرَةُ خَيْرٌ لَكَ مِنَ الْأُولى فإنّها باقية خالصة عن الشوائب، و هذه فانية مشوبة بالمضارّ. و قيل: المعنى: و لنهاية أمرك خير من بدايته، فإنّك لا تزال تتصاعد في الرفعة و الكمال، من الفتوح و النصرة و العزّة.

ثمّ وعد وعدا شاملا لما أعطاه في الدارين، من كمال النفس، و ظهور الأمر، و إعلاء الدين، و لما ادّخر له ممّا لا يعرف كنهه سواه، فقال:

وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى هذا موعد شامل لما أعطاه اللّه في الدنيا، من الظفر و النصرة على أعدائه يوم بدر، و يوم فتح مكّة، و دخول الناس في الدين أفواجا، و الغلبة على قريظة و النضير و إجلائهم، و بثّ عساكره و سراياه في بلاد العرب، و استيلاء المسلمين

على بلاد الشرك، و إظهار دينه على جميع الأديان، و رفعة صيته في المشرق و المغرب، و قذف الرعب في قلوب أهل الشرق و الغرب، و فشوّ الدعوة. و في الآخرة؛ من السبق و التقدّم على جميع أنبياء اللّه و رسله، و شهادة أمّته على سائر الأمم، و رفع درجات المؤمنين من أمّته، و إعلاء مراتبهم بشفاعته، و غير ذلك من الكرامات السنيّة الّتي لا يعلمها إلّا اللّه.

قال ابن عبّاس: له في الجنّة ألف قصر من لؤلؤ أبيض ترابه المسك، في كلّ قصر ما ينبغي من الأزواج و الخدم، و ما يشتهي على أتمّ الوصف.

و روى حرث بن شريح، عن محمّد بن عليّ ابن الحنفيّة أنّه قال: يا أهل العراق تزعمون أنّ أرجى آية في كتاب اللّه عزّ و جلّ: يا عِبادِيَ الَّذِينَ أَسْرَفُوا عَلى أَنْفُسِهِمْ «1» الآية، و إنّا أهل البيت نقول: إنّ أرجى آية في كتاب اللّه: «وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى . و هي و اللّه الشفاعة ليعطينّها في أهل لا إله إلّا اللّه حتّى يقول:

ربّ رضيت.

و

عن الصادق عليه السّلام قال: «دخل رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على عليّ و فاطمة و عليهما

______________________________

(1) الزمر: 53. زبدة التفاسير، ج 7، ص: 454

كساء من ثلّة «1» الإبل، و هي تطحن بيدها، و ترضع ولدها، فدمعت عينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لمّا أبصرها، فقال: يا بنتاه تعجّلي مرارة الدنيا بحلاوة الآخرة، فقد أنزل اللّه عليّ: «وَ لَسَوْفَ يُعْطِيكَ رَبُّكَ فَتَرْضى ».

و عن زيد بن عليّ: إنّ من رضا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أن يدخل أهل بيته الجنّة.

و

عن الصادق عليه السّلام: «رضا جدّي

أن لا يبقى في النار موحّد».

و اعلم أنّ اللام للابتداء، دخل على الخبر بعد حذف المبتدأ. و التقدير:

و لأنت سوف يعطيك. لا للقسم، فإنّها لا تدخل على المضارع إلّا مع النون المؤكّدة.

و الجمع بين حرفي التوكيد و التأخير، للدلالة على أنّ العطاء كائن لا محالة و إن تأخّر لحكمة.

ثمّ عدّد ما أنعم عليه في الماضي، تنبيها على أنّه كما أحسن إليه فيما مضى يحسن إليه فيما يستقبل، فقال:

أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً من الوجود الّذي بمعنى العلم، و «يتيما» مفعوله الثاني، أي: ألم يعلمك يتيما؟ و ذلك أنّ أباه مات و هو جنين قد أتت عليه ستّة أشهر، و ماتت أمّه و هو ابن ثماني سنين. فَآوى بأن كفلك عمّك أبو طالب، و عطفه اللّه عليك، فأحسن تربيتك. و

سئل الصادق عليه السّلام: لم أوتم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عن أبويه؟ فقال:

«لئلّا يكون لمخلوق عليه حقّ».

و قيل: معناه: ألم يجدك واحدا لا مثل لك في شرفك و فضلك، فآواك إلى نفسه، و اختصّك برسالته؟ من قولهم: درّة يتيمة، إذا لم يكن لها مثل.

و قال الماوردي: «فآواك أي: جعلك مأوى للأيتام بعد أن كنت يتيما، و كفيل الأنام بعد أن كنت مكفولا» «2».

______________________________

(1) الثلّة: الصوف و الشعر و الوبر.

(2) النكت و العيون 6: 294.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 455

وَ وَجَدَكَ ضَالًّا غير مهتد إلى علم الحكم و الأحكام، كقوله: ما كُنْتَ تَدْرِي مَا الْكِتابُ وَ لَا الْإِيمانُ «1» وَ إِنْ كُنْتَ مِنْ قَبْلِهِ لَمِنَ الْغافِلِينَ «2» فَهَدى فعلّمك بالوحي و الإلهام، و التوفيق للنظر.

و قيل: وجدك ضالّا في الطريق فهدى، فأزال ضلالك عن جدّك أو عمّك، لما

روي: أنّه ضلّ في صباه في بعض شعاب مكّة،

فردّه أبو جهل إلى عبد المطّلب.

و

قيل: حين فطمته حليمة بنت أبي ذؤيب، لمّا أرضعته و فطمته ثمّ أرادت ردّه على جدّه جاءت به حتّى قربت من مكّة، فضلّ في الطريق، فطلبته جزعة، و كانت تقول: إن لم أره لأرمينّ نفسي من شاهق، و جعلت تصيح: وا محمّداه.

قالت: فدخلت مكّة على تلك الحال فرأيت شيخا متوكّئا على عصاه، فسألني عن حالي، فأخبرته. فقال: لا تبكينّ فأنا أدلّك على من يردّه عليك. و أشار إلى هبل صنمهم الأعظم، و دخل البيت، و طاف بهبل، و قبّل رأسه، و قال: يا سيّداه لم تزل منّتك جسيمة، ردّ محمّدا على هذه السعديّة.

قالت: فتساقطت الأصنام لمّا تفوّه باسم محمّد، و سمع صوت: إنّ هلاكنا على يدي محمّد، فخرج و أسنانه تصطكّ. و خرجت إلى عبد المطّلب و أخبرته بالحال، فخرج و طاف بالبيت و دعا اللّه سبحانه، فنودي و أشعر بمكانه. فأقبل عبد المطّلب و تلقّاه ورقة بن نوفل في الطريق، فبينما هما يسيران إذ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قائم تحت شجرة يجذب الأغصان و يلعب بالورق، فقال عبد المطّلب: فداك نفسي، و حمله و ردّه إلى مكّة. و هذه الرواية مرويّة عن كعب.

و

روي عن سعيد بن المسيّب: أنّه خرج مع عمّه أبي طالب في قافلة ميسرة غلام خديجة، فبينما هو راكب ذات ليلة ظلماء جاء إبليس فأخذ بزمام ناقته فعدل

______________________________

(1) الشورى: 52.

(2) يوسف: 3. زبدة التفاسير، ج 7، ص: 456

به عن الطريق، فجاء جبرئيل فنفخ إبليس نفخة رفع بها إلى الحبشة، و ردّه إلى القافلة، فمنّ اللّه عليه بذلك.

وَ وَجَدَكَ عائِلًا فقيرا ذا عيال فَأَغْنى بما حصل لك من الربح في التجارة بمال خديجة، أو

بما أفاء عليك من الغنائم.

قال عليه الصلاة و السّلام: «جعل رزقي تحت ظلّ رمحي».

و قيل: قنّعك و أغنى قلبك.

و

روى العيّاشي بإسناده عن أبي الحسن الرضا عليه السّلام في قوله: «أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى قال: «فردا لا مثل لك في المخلوقين، فآوى الناس إليك. و وجدك ضالّا، أي: ضالّة في قوم لا يعرفون فضلك فهداهم إليك. و وجدك عائلا تعول أقواما بالعلم فأغناهم بك».

و تعداد هذه النعم على النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لتذكيره لشكر منعمه، و ترغيبه فيه، ليستحقّ الشاكر المزيد.

ثمّ أوصاه سبحانه باليتامى و الفقراء، فقال: فَأَمَّا الْيَتِيمَ فَلا تَقْهَرْ فلا تغلبه على ماله و حقّه لضعفه، كما كانت تفعل العرب في أمر اليتامى. و عن مجاهد: لا تحتقر اليتيم فقد كنت يتيما.

و

عن عبد اللّه بن مسعود قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من مسح على رأس يتيم كان له بكلّ شعر يمرّ على يده نور».

و

في الحديث: «لا يلي أحد منكم يتيما فيحسن ولايته، و يضع يده على رأسه، إلّا كتب اللّه له بكلّ شعرة حسنة، و محا عنه بكلّ شعرة سيّئة، و رفع له بكلّ شعرة درجة».

و

قال عليه السّلام: «أنا و كافل اليتيم كهاتين في الجنّة، إذا اتّقى اللّه عزّ و جلّ». و أشار بالسبابة و الوسطى.

و

عنه عليه السّلام قال: «إنّ اليتيم إذا بكى اهتزّ لبكائه عرش الرحمن، فيقول اللّه

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 457

لملائكة: يا ملائكتي من أبكى هذا اليتيم الّذي غيّب أبوه في التراب؟ فتقول الملائكة: أنت أعلم. فيقول اللّه تعالى: يا ملائكتي فإنّي أشهدكم أنّ لمن أسكنه و أرضاه أن أرضيه يوم القيامة».

وَ أَمَّا السَّائِلَ فَلا تَنْهَرْ فلا تزجره و لا

تردّه. و

في الحديث عن أنس بن مالك قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا أتاك سائل على فرس باسط كفّيه فقد أوجب الحقّ و لو بشقّ تمرة».

و قيل: المراد بالسائل طالب العلم. و المعنى: علّم من يسألك كما علّمك اللّه الشرائع، و كنت غير عالم بها. و الأصحّ الأعمّ.

وَ أَمَّا بِنِعْمَةِ رَبِّكَ فَحَدِّثْ فإنّ التحدّث بها شكرها. و قيل: المراد بالنعمة النبوّة، و التحدّث بها تبليغها. و

عن الصادق عليه السّلام: «فحدّث بما أعطاك اللّه و فضّلك و رزقك؛ و أحسن إليك، و قرّبك إليه».

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 459

(94) سورة الشرح

اشارة

مكّيّة. و هي ثمان آيات بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأها أعطي من الأجر كمن لقي محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مغتمّا ففرّج عنه».

[سورة الشرح (94): الآيات 1 الى 8]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ (1) وَ وَضَعْنا عَنْكَ وِزْرَكَ (2) الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ (3) وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ (4)

فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (5) إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً (6) فَإِذا فَرَغْتَ فَانْصَبْ (7) وَ إِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ (8)

و

روى أصحابنا عن أئمّتنا صلوات اللّه عليهم أنّ «الضحى» و «ألم نشرح» سورة واحدة، لتعلّق إحداهما بالأخرى، و جمعوا بينهما في الركعة الواحدة في الفريضة.

و كذلك القول في سورة «ألم تر كيف» و «لإيلاف قريش». و السياق يدلّ على ذلك، لأنّه قال: «أَ لَمْ يَجِدْكَ يَتِيماً فَآوى إلى آخرها، ثمّ قال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* أَ لَمْ نَشْرَحْ لَكَ صَدْرَكَ ألم نفسحه حتّى وسع مناجاة الحقّ، و أعباء النبوّة، و تبليغ الرسالة، و دعوة الثقلين جميعا، و حفظ القرآن

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 460

و شرائع الإسلام. أو حتّى احتمل المكاره الّتي يتعرّض لك بها كفّار قومك و غيرهم.

أو فسحناه بما أودعنا فيه من العلوم و الحكم، و أزلنا عنه ضيق الجهل. أو بما يسّرنا لك تلقّي الوحي بعد ما كان يشقّ عليك.

و

عن ابن عبّاس قال: «سئل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقيل: يا رسول اللّه أ ينشرح الصدر؟

قال: نعم. فقالوا: يا رسول اللّه و هل لذلك علامة يعرف بها؟ قال: نعم، التجافي عن دار الغرور، و الإنابة إلى دار الخلود، و الإعداد للموت قبل نزول الموت».

و معنى الاستفهام إنكار نفي الشرح، فأفاد إثبات الشرح. فكأنّه قيل:

شرحنا لك صدرك. و لذلك عطف عليه وَ وَضَعْنا و حططنا عَنْكَ وِزْرَكَ عبأك الثقيل.

الَّذِي أَنْقَضَ ظَهْرَكَ الّذي حمله على النقيض، و هو صوت الانتقاض و الانفكاك لثقله. و هذا مثل لما كان يثقل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و يغمّه، من ترك الأولى قبل النبوّة، أو من جهله بالأحكام و الشرائع، أو من تهالكه على إسلام أولي العناد من قومه، أو العجز عن إرشادهم، أو من إصرارهم و تعدّيهم في إيذائه حين دعاهم إلى الإسلام، أو ثقله على أعباء النبوّة. و معنى وضعه عنه: أن أعطي الثواب على الندم على ترك الأولى، أو علّم الشرائع، أو مهّد عذره بعد ما بلغ و بلغ، أو خفّف عنه أعباء النبوّة.

إن قيل: إنّ السورة مكّيّة نزلت قبل أن يعلي اللّه كلمة أهل الإسلام.

قلنا: إنّه سبحانه لمّا بشّره بأن يعلي دينه على الدين كلّه و يظهره على أعدائه، كان بذلك واضعا عنه ثقل غمّه بما كان يلحقه من أذى قومه، و مبدّلا عسره يسرا، فإنّه يثق بأنّ وعد اللّه حقّ.

وَ رَفَعْنا لَكَ ذِكْرَكَ بالنبوّة و غيرها، و أيّ رفع! مثل أن قرن اسمه باسمه تعالى في كلمتي الشهادة، خصوصا في الأذان و الإقامة و التشهّد و على المنابر،

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 461

و جعل طاعته طاعته في قوله: وَ مَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَ رَسُولَهُ «1». وَ أَطِيعُوا اللَّهَ وَ أَطِيعُوا الرَّسُولَ «2». و صلّى عليه في ملائكته، و أمر المؤمنين بالصلاة عليه، و خاطبه بالألقاب، كرسول اللّه و نبيّ اللّه. و منه: ذكره في كتب الأوّلين، و الأخذ على الأنبياء و أممهم أن يؤمنوا به.

و

في الحديث عن أبي سعيد الخدري عن النبيّ صلّى اللّه

عليه و آله و سلّم في هذه الآية قال: «قال لي جبرئيل: قال اللّه تعالى: إذا ذكرت ذكرت معي».

و في هذا يقول حسّان بن ثابت يمدح النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

أغرّ عليه للنبوّة خاتم من اللّه مشهور يلوح و يشهد

و ضمّ الإله اسم النبيّ إلى اسمه إذا قال في الخمس المؤذّن أشهد

و شقّ له من اسمه ليجلّه فذو العرش محمود و هذا محمّد

و إنّما زاد ذلك ليكون إبهاما قبل إيضاح، فيفيد المبالغة، فإنّه لمّا قيل: «ألم نشرح لك» فهم أنّ ثم مشروحا، ثمّ قيل: «صدرك» فأوضح ما علم مبهما. و كذلك «لك ذكرك» و «عنك وزرك».

فَإِنَّ مَعَ الْعُسْرِ كضيق الصدر، و الوزر المنقض للظهر، و ضلال القوم و إيذائهم يُسْراً كالشرح، و الوضع، و التوفيق للاهتداء و الطاعة. فلا تيأس من روح اللّه إذا عراك ما يغمّك. و تنكيره للتعظيم، كأنّه قيل: إنّ مع العسر يسرا عظيما و أيّ يسر. و معنى المصاحبة المفهومة من «مع» المبالغة في معاقبة اليسر للعسر.

و المعنى: إنّ اللّه يصيبهم بيسر بعد العسر الّذي كانوا فيه بزمان قريب جدّا. فقرّب اليسر المترقّب حتّى جعله كالمقارن للعسر، زيادة في التسلية، و تقوية للقلوب.

فاتّصاله به اتّصال المتقاربين.

______________________________

(1) النساء: 13.

(2) المائدة: 92.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 462

إِنَّ مَعَ الْعُسْرِ يُسْراً تكرير للتأكيد، لتقرير معناه في النفوس، و تمكينه في القلوب. أو استئناف وعدة بأنّ العسر متبوع بيسر آخر كثواب الآخرة،

كقوله عليه السّلام: «إنّ للصائم فرحتين: فرحة عند الإفطار، و فرحة عند لقاء الربّ».

و عليه

قوله عليه السّلام: «لن يغلب عسر يسرين».

و

قوله عليه السّلام: «و الّذي نفسي بيده، لو كان العسر في جحر لطلبه اليسر».

و ما رواه عطاء عن ابن عبّاس: قال

اللّه تعالى: خلقت عسرا واحدا، و خلقت يسرين، فإنّ مع العسر يسرا و إنّ مع العسر يسرا. فإنّ العسر معرّف فلا يتعدّد، سواء كان للعهد- و هو العسر الّذي كانوا فيه- فهو هو، أو للجنس الّذي يعلمه كلّ أحد فهو هو أيضا. و «يسرا» منكر، فيحتمل أن يراد بالثاني فرد يغاير ما أريد بالأوّل.

و لمّا عدّد سبحانه عليه نعمه السالفة، و وعده الآنفة، بعثه على الشكر و الاجتهاد في العبادة و النصب فيها، و أن يواصل بين بعضها و بعض، و يتابع و يحرص على أن لا يخلّي وقتا من أوقاته منها، فقال:

فَإِذا فَرَغْتَ من التبليغ فَانْصَبْ في العبادة شكرا لما عددنا عليك من النعم السالفة، و وعدناك من النعم الآتية. و عن الحسن: فإذا فرغت من الغزو فانصب في العبادة. و عن ابن عبّاس:

فإذا فرغت من الصلاة فاجتهد بالدعاء في دبرها.

و هذا مرويّ عن الصادق عليه السّلام.

و عن مجاهد: فإذا فرغت من دنياك فانصب في صلاتك.

وَ إِلى رَبِّكَ فَارْغَبْ بالسؤال، و لا تسأل غيره، فإنّه القادر وحده على الإعانة و الإغاثة.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 463

(95) سورة التين

اشارة

مختلف فيها. و هي ثماني آيات بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأها أعطاه اللّه خصلتين: العافية و اليقين، ما دام في دار الدنيا، فإذا مات أعطاه اللّه من الأجر بعدد من قرأ هذه السورة صيام يوم».

و

عن البراء بن عازب قال: «سمعت النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقرأ في المغرب التين و الزيتون، فما رأيت إنسانا أحسن قراءة منه». رواه مسلم في الصحيح «1».

و

روى شعيب العقرقوفي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ و التين في فرائضه

و نوافله أعطي من الجنّة حيث يرضى».

[سورة التين (95): الآيات 1 الى 8]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ التِّينِ وَ الزَّيْتُونِ (1) وَ طُورِ سِينِينَ (2) وَ هذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ (3) لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ (4)

ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ (5) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ (6) فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ بِالدِّينِ (7) أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ (8)

______________________________

(1) صحيح مسلم 1: 339 ح 177. و فيه: أحسن صوتا منه.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 464

و لمّا أمر اللّه سبحانه بالرغبة إليه في خاتمة سورة الانشراح، افتتح هذه السورة بذكر أنّه الخالق المستحقّ للعبادة، بعد أن أقسم عليه، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* وَ التِّينِ وَ الزَّيْتُونِ خصّهما من بين الثمار بالقسم، لأنّ التين فاكهة طيّبة لا فضل له إلّا القليل جدّا، و غذاء لطيف سريع الهضم، و دواء كثير النفع، فإنّه يليّن الطبع، و يحلّل البلغم، و يطهّر الكليتين، و يزيل رمل المثانة، و يفتح سدد الكبد و الطحال، و يسمّن البدن. و

روي: أنّه أهدي لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم طبق من تين، فأكل منه و قال لأصحابه: «كلوه، فلو قلت: إنّ فاكهة نزلت من الجنّة لقلت: هذه، لأنّ فاكهة الجنّة بلا عجم، فكلوها، فإنّها تقطع البواسير، و تنفع من النقرس».

و الزيتون فاكهة و إدام و دواء، و له دهن لطيف كثير المنافع، مع أنّه قد ينبت حيث لا دهنيّة فيه، كالجبال. و مرّ معاذ بن جبل بشجرة الزيتون، فأخذ منها قضيبا و استاك به و

قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «نعم السواك الزيتون من الشجرة المباركة، يطيب الفم، و يذهب بالحفرة». و سمعته يقول: «هي سواكي و

سواك الأنبياء قبلي».

و قيل: المراد بهما جبلان من الأرض المقدّسة يقال لهما بالسريانيّة: طور تينا و طور زيتا، لأنّهما منبتا التين و الزيتون.

و قيل: التين الجبل الّذي عليه دمشق، و الزيتون الجبل الّذي عليه بيت المقدس.

و قيل: التين مسجد دمشق، و الزيتون بيت المقدس.

و عن ابن عبّاس: التين مسجد نوح الّذي بني على الجوديّ، و الزيتون بيت المقدس.

و قيل: التين المسجد الحرام، و الزيتون المسجد الأقصى.

و قيل: التين جبال ما بين حلوان و همدان، و الزيتون جبال الشام، لأنّها

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 465

منابتهما، كأنّه قيل: و منابت التين و الزيتون.

وَ طُورِ سِينِينَ يعني: الجبل الّذي ناجى عليه موسى عليه السّلام ربّه. و سينين و سيناء اسمان للموضع الّذي هو فيه. و أضيف الطور- و هو الجبل- إلى سينين، و هي البقعة. و هو سينون أيضا. و مثله: يبرون، في جواز الإعراب بالواو و الياء، و الإقرار على الياء، و تحريك النون بحركات الإعراب.

وَ هذَا الْبَلَدِ الْأَمِينِ أي: الآمن. من: أمن الرجل أمانة فهو أمين. و أمانته أن يحفظ من دخله، كما يحفظ الأمين ما يؤتمن عليه. و يجوز أن يكون فعيلا بمعنى مفعول، من: أمنه، لأنّه مأمون الغوائل، كما وصف بالأمين في قوله: حَرَماً آمِناً «1» بمعنى: ذي أمن.

و لمّا كان منبت التين و الزيتون مهاجر إبراهيم و مولد عيسى و منشأه، و الطور المكان الّذي نودي منه موسى، و مكّة مكان البيت الّذي هو هدى للعالمين، و مولد رسول اللّه و مبعثه، و كلّها مواضع خير و بركة و سكنى الأنبياء، أقسم اللّه تعالى بها على أنّه لَقَدْ خَلَقْنَا الْإِنْسانَ يريد به الجنس فِي أَحْسَنِ تَقْوِيمٍ تعديل، بأن خصّ بانتصاب القامة، و حسن الصورة،

و تسوية الأعضاء، و استجماع خواصّ الكائنات و سائر الممكنات.

ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ أي: ثمّ كان عاقبة أمره حين لم يشكر نعمة تلك الخلقة الحسنة القويّة السويّة، أن رددناه أسفل من سفل خلقا و تركيبا، يعني: أقبح من قبح صورة و أشوهه خلقة، و هم أصحاب النار. أو أسفل من سفل من أهل الدركات. أو ثمّ رددناه بعد ذلك التقويم و التحسين أسفل من سفل في حسن الصورة و الشكل، حيث نكسناه في خلقه، فقوّس ظهره بعد اعتداله، و ابيضّ شعره بعد

______________________________

(1) القصص: 57.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 466

سواده، و تشنّن «1» جلده، و كلّ سمعه و بصره، و تغيّر كلّ شي ء منه. فمشيه دليف «2»، و صوته خفات، و قوّته ضعف، و شهامته خرف، و هو أرذل العمر. و على هذا؛ السافلون هم الضعفاء و الزمنى و الأطفال و الشيخ الكبير، و هو أسفل هؤلاء جميعا.

و على التفسير الأوّل إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ استثناء متّصل ظاهر الاتّصال. و على الثاني منقطع. يعني: و لكنّ الّذين كانوا صالحين من الهرمى.

فَلَهُمْ أَجْرٌ غَيْرُ مَمْنُونٍ فلهم ثواب دائم غير منقطع على طاعتهم في هذه الحالة، و صبرهم على ابتلاء اللّه بالشيخوخة و الهرم، و على مقاساة المشاقّ، و القيام بالعبادة، على تخاذل نهوضهم. و

روي: «أنّ المؤمن لا يردّ إلى الخرافة و إن عمّر عمرا طويلا».

و عن عكرمة: إذا ردّ من المؤمنين إلى أرذل العمر، كتب له كصالح ما كان يعمل في شبابه، و ذلك أجر غير ممنون.

و عن ابن عبّاس: من قرأ القرآن لم يردّ إلى أرذل العمر. و ذلك قوله: «ثُمَّ رَدَدْناهُ أَسْفَلَ سافِلِينَ إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ». قال: إلّا الّذين قرءوا القرآن.

و

في

الحديث عن أنس قال: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «المولود حتّى يبلغ الحنث ما عمل من حسنة كتب لوالديه، فإن عمل سيّئة لم يكتب عليه، و لا على والديه.

فإذا بلغ الحنث، و جرى عليه القلم، أمر اللّه الملكين اللّذين معه يحفظانه و يسدّدانه.

فإذا بلغ أربعين سنة في الإسلام آمنه اللّه من البلايا الثلاث: الجنون، و الجذام، و البرص. و إذا بلغ خمسين سنة خفّف اللّه حسابه. فإذا بلغ ستّين رزقه اللّه الإنابة إليه فيما يجب. فإذا بلغ سبعين أحبّه أهل السماء. فإذا بلغ ثمانين كتب اللّه حسناته،

______________________________

(1) تشنّن الجلد: يبس و تشنّج.

(2) أي: متقارب الخطوة في المشي. زبدة التفاسير، ج 7، ص: 467

و تجاوز عن سيّئاته. فإذا بلغ تسعين غفر اللّه له ما تقدّم من ذنبه و ما تأخّر، و شفّعه في أهل بيته، و كان اسمه أسير اللّه في الأرض. فإذا بلغ أرذل العمر لكيلا يعلم بعد علم شيئا، كتب اللّه له بمثل ما كان يعمل في صحّته من الخير، و إن عمل سيّئة لم تكتب عليه».

و أقول: إنّما لا تكتب عليه السيّئة لزوال عقله، و نقصان تمييزه في ذلك الوقت.

فَما يُكَذِّبُكَ بَعْدُ فأيّ شي ء يكذّبك يا محمّد دلالة أو نطقا بعد ظهور هذه الدلائل بِالدِّينِ بالجزاء. و قيل: «ما» بمعنى «من». و قيل: الخطاب للإنسان على الالتفات. و المعنى: أنّ خلق الإنسان من نطفة، و تقويمه بشرا سويّا، و تدريجه في مراتب الزيادة إلى أن يكمل و يستوي، ثمّ تنكيسه إلى أن يبلغ أرذل العمر، لا ترى دليلا أوضح منه على قدرة الخالق، و أنّ من قدر من الإنسان على هذا كلّه لم يعجز عن إعادته، فما سبب تكذيبك

أيّها الإنسان بالجزاء بعد هذا الدليل القاطع؟

ثمّ حقّق ما سبق بقوله: أَ لَيْسَ اللَّهُ بِأَحْكَمِ الْحاكِمِينَ أليس الّذي فعل ذلك من الخلق و الردّ بأحكم الحاكمين صنعا و تدبيرا؟ و من كان كذلك كان قادرا على الإعادة و الجزاء، على ما مرّ مرارا. و هذا وعيد للكفّار بأنّه يحكم عليهم بما هم أهله.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 469

(96) سورة العلق

اشارة

مكّيّة. و هي تسع عشرة آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأها فكأنّما قرأ المفصّل كلّه».

محمد بن حسّان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ في يومه أو ليلته «اقرأ باسم ربّك» ثمّ مات في يومه أو في ليلته مات شهيدا، و بعثه اللّه شهيدا و أحياه، و كان كمن ضرب بسيفه في سبيل اللّه مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم».

[سورة العلق (96): الآيات 1 الى 8]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ الَّذِي خَلَقَ (1) خَلَقَ الْإِنْسانَ مِنْ عَلَقٍ (2) اقْرَأْ وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ (3) الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ (4)

عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ (5) كَلاَّ إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى (6) أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى (7) إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى (8)

و لمّا ختم سبحانه سورة التين بذكر اسمه، افتتح هذه السورة بذكر اسمه أيضا، فقال:

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 470

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ أي: اقرأ القرآن مفتتحا باسمه تعالى، أو مستعينا به الَّذِي خَلَقَ أي: الّذي منه الخلق، لا خالق سواه. و على هذا لا يقدّر للخلق مفعول. و يجوز أن يقدّر و يراد: الّذي خلق كلّ شي ء، فيتناول كلّ مخلوق، لأنّه مطلق، فليس بعض المخلوقات أولى بتقديره من بعض.

ثمّ أفرد ما هو أشرف و أظهر صنعا و تدبيرا، و أدلّ على وجوب العبادة المقصودة من القراءة، فقال:

خَلَقَ الْإِنْسانَ أي: الّذي خلق الإنسان. فأبهم أوّلا، ثمّ فسّر تفخيما لخلقه، و دلالة على عجيب فطرته. مِنْ عَلَقٍ جمعه لأنّ الإنسان في معنى الجمع، كقوله: إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ «1». و لمّا كان أوّل الواجبات معرفة اللّه تعالى نزّل أوّلا ما يدلّ على وجوده و كمال قدرته و حكمته.

اقْرَأْ

تكرير للمبالغة. أو الأوّل مطلق، و الثاني للتبليغ، أو في الصّلاة.

و لعلّه

لمّا قيل له: «اقْرَأْ بِاسْمِ رَبِّكَ». فقال: ما أنا بقارئ.

فقيل له: اقرأ. فإنّ أكثر المفسّرين على أنّ هذه السورة أوّل ما نزل من القرآن، في أوّل يوم نزل جبرئيل على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو قائم على حراء، علّمه خمس آيات من أوّل هذه السورة. و قيل: أوّل سورة نزلت على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فاتحة الكتاب.

وَ رَبُّكَ الْأَكْرَمُ الزائد الكرم على كلّ كريم، فإنّه ينعم على عباده النعم الّتي لا تحصى، و يحلم عنهم، فلا يعاجلهم بالعقوبة، مع كفرهم و جحودهم لنعمه، و ركوبهم المناهي، و اطّراحهم الأوامر. و يقبل توبتهم، و يتجاوز عنهم بعد اقتراف العظائم. فما لكرمه غاية و لا أمد، فكأنّه ليس وراء التكرّم بإفادة الفوائد العلميّة تكرّم حيث قال: الأكرم.

الَّذِي عَلَّمَ بِالْقَلَمِ أي: علّم الخطّ بالقلم عَلَّمَ الْإِنْسانَ ما لَمْ يَعْلَمْ من نصب الدلائل، و إنزال الآيات، و سائر أمور الدين و الشرائع و الأحكام. فدلّ على

______________________________

(1) العصر: 2.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 471

كمال كرمه بأنّه علّم عباده ما لم يعلموا، و نقلهم من ظلمة الجهل إلى نور العلم. و نبّه على فضل علم الكتابة، لما فيه من المنافع العظيمة الّتي لا يحيط بها إلّا هو، فإنّه ما دوّنت العلوم، و لا قيّدت الحكم، و لا ضبطت أخبار الأوّلين و مقالاتهم، و لا كتب اللّه المنزلة إلّا بالكتابة، و لو لا هي لما استقامت أمور الدين و الدنيا. و لو لم يكن على دقيق حكمة اللّه و لطيف تدبيره دليل إلّا أمر القلم و الخطّ لكفى به.

فعدّد سبحانه في هذه الآيات الشريفة مبدأ أمر الإنسان و منتهاه، إظهارا لما أنعم عليه، من أن نقله من أخسّ المراتب إلى أعلاها، تقريرا لربوبيّته، و تحقيقا لأكرميّته.

كَلَّا ردع لمن كفر بنعمة اللّه بطغيانه و إن لم يذكر، لدلالة الكلام عليه إِنَّ الْإِنْسانَ لَيَطْغى أَنْ رَآهُ اسْتَغْنى بكثرة عشيرته و أمواله و قوّته. و هذا مفعوله الثاني، لأنّه بمعنى: علم، أي: علم نفسه مستغنيا. و من خصائص أفعال القلوب أن يكون فاعله و مفعوله الأوّل ضميرين لواحد. و لو كان الرؤية بمعنى الإبصار لامتنع في فعلها الجمع بين الضميرين لواحد.

ثمّ خاطب الإنسان على الالتفات تهديدا و تحذيرا من عاقبة الطغيان، فقال:

إِنَّ إِلى رَبِّكَ الرُّجْعى أي: إلى حكمه و جزائه الرجوع، فإنّه مصدر كالبشرى.

[سورة العلق (96): الآيات 9 الى 19]

أَ رَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى (9) عَبْداً إِذا صَلَّى (10) أَ رَأَيْتَ إِنْ كانَ عَلَى الْهُدى (11) أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى (12) أَ رَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ وَ تَوَلَّى (13)

أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى (14) كَلاَّ لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ (15) ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ (16) فَلْيَدْعُ نادِيَهُ (17) سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ (18)

كَلاَّ لا تُطِعْهُ وَ اسْجُدْ وَ اقْتَرِبْ (19)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 472

روي: أنّ أبا جهل لفرط جهله و عتوّه قال: هل يعفّر محمّد وجهه بين أظهركم؟ قالوا: نعم. قال: فبالّذي يحلف به لو رأيت محمّدا ساجدا لأطأنّ على رقبته. فقيل له: ها هو ذلك يصلّي. فانطلق ليطأ على رقبته، فنكص على عقبيه.

فقيل له: مالك يا أبا الحكم؟ فقال: إنّ بيني و بينه لخندقا من نار و هولا و أجنحة، و هي أجنحة الملائكة. و قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «و الّذي نفسي بيده لو دنا منّي لاختطفته الملائكة

عضوا عضوا». فأنزل اللّه سبحانه:

أَ رَأَيْتَ الَّذِي يَنْهى عَبْداً

يعني: محمّدا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إِذا صَلَّى لفظ العبد و التنكير للمبالغة في تقبيح النهي، و الدلالة على كمال عبوديّة المنهيّ. و معنى «أ رأيت» هاهنا تعجيب للمخاطب.

ثمّ كرّر هذه اللفظة مرّتين للتأكيد في التعجيب، فقال: أَ رَأَيْتَ إِنْ كانَ العبد المنهيّ عَلَى الْهُدى أَوْ أَمَرَ بِالتَّقْوى بالإخلاص و التوحيد و الاتّقاء عن الشرك.

و الشرطيّة المفعول الثاني ل «رأيت» الأوّل. و الثاني تكرير للمبالغة، و ليس له عمل.

و جواب الشرط محذوف، تقديره: إن كان على الهدى، أو أمر بالتقوى، ألم يعلم بأنّ اللّه يرى؟ و إنّما حذف لدلالة ذكره في جواب الشرط الثاني، و هو قوله:

أَ رَأَيْتَ إِنْ كَذَّبَ أبو جهل وَ تَوَلَّى عن الإيمان أَ لَمْ يَعْلَمْ بِأَنَّ اللَّهَ يَرى يراه و يطّلع على هداه و ضلاله، فيجازيه على حسب ذلك. و هذا وعيد له.

و قيل: المعنى: أخبرني عمّن ينهى عبدا من عبادنا عن الصلاة، إن كان ذلك الناهي على هدى فيما ينهى عنه من عبادة اللّه، أو كان آمرا بالتقوى كما يعتقده، و كذلك إن كان على التكذيب للحقّ، و التولّي عن الدين الصحيح كما نحن نقول، ألم يعلم بأنّ اللّه يرى أحواله فيجازيه؟

و قيل: الخطاب في الثانية مع الكافر، فإنّه تعالى كالحاكم الّذي حضره الخصمان يخاطب هذا مرّة و الآخر اخرى. و كأنّه قال: يا كافر أخبرني إن كان

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 473

صلاته هدى، و دعاؤه إلى اللّه أمرا بالتقوى، أ تنهاه؟ و لعلّه ذكر الأمر بالتقوى في التعجيب و التوبيخ، و لم يتعرّض له في النهي، لأنّ النهي كان عن الصّلاة و الأمر بالتقوى، فاقتصر على ذكر الصّلاة،

لأنّه دعوة بالفعل. أو لأنّ نهي العبد إذا صلّى يحتمل أن يكون لها و لغيرها، و عامّة أحوالها محصورة في تكميل نفسه بالعبادة و غيره بالدعوة.

كَلَّا ردع للناهي لَئِنْ لَمْ يَنْتَهِ عمّا هو فيه لَنَسْفَعاً بِالنَّاصِيَةِ لنأخذنّ بناصيته، و لنسحبنّه بها إلى النار. و السفح: القبض على الشي ء و جذبه بشدّة. و كتبتها في المصحف بالألف على حكم الوقف، و الاكتفاء باللام عن الإضافة، للعلم بأنّ المراد بالناصية ناصية المذكور. و في الأخذ بالناصية إهانة و استخفاف كما لا يخفى.

ناصِيَةٍ كاذِبَةٍ خاطِئَةٍ بدل من الناصية. و إنّما جاز وصفها بالكذب و الخطأ، و هما لصاحبها، على الإسناد المجازي للمبالغة.

روي: أنّ أبا جهل مرّ برسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و هو يصلّي فقال: ألم أنهك؟ فأغلظ له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال: أ تهدّدني و أنا أكثر أهل الوادي ناديا، فنزلت:

فَلْيَدْعُ نادِيَهُ

أي: أهل ناديه ليعينوه. و هو المجلس الّذي ينتدي فيه القوم، أي: يجتمعون.

سَنَدْعُ الزَّبانِيَةَ ليجرّوه إلى النار. و هو في كلام العرب: الشرط. واحدها:

زبنية، كعفرية. من الزبن، و هو الدفع. يقال: زبنت الناقة إذا ضربت بثفنات «1» رجلها عند الحلب. فالزبن بالثفنات، و الركض بالرجل، و الخبط باليد. و ناقة زبون: تضرب حالبها و تدفعه. و حرب زبون: تزبن الناس، أي: تصدمهم و تدفعهم.

______________________________

(1) الثفنة من البعير: ما يقع على الأرض من أعضائه إذا استناخ و غلظ، كالركبتين. و جمعها:

ثفنات.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 474

و قيل: زبنيّ على النسب، كأنّه نسب إلى الزبن، ثمّ غيّر للنسب، كقولهم:

أمسيّ. و أصلها: زبانيّ، فقيل: زبانية على تعويض التاء عن الياء. و المراد: ملائكة العذاب، سمّوا بذلك لدفعهم أهل النار

إليها. و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لو دعا أبا جهل ناديه لأخذته الزبانية».

كَلَّا ردع لأبي جهل لا تُطِعْهُ و اثبت على ما أنت عليه من عصيانه، كقوله: فَلا تُطِعِ الْمُكَذِّبِينَ «1» وَ اسْجُدْ و دم على سجودك. يريد: الصلاة.

وَ اقْتَرِبْ و تقرّب إلى ربّك. و

في الحديث: «أقرب ما يكون العبد من ربّه إذا سجد».

و السجود هنا فرض، و هو من العزائم.

روى عبد اللّه بن سنان عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «العزائم: ألم تنزيل، و حم السجدة، و النجم إذا هوى، و اقرأ باسم ربّك. و ما عداها في جميع القرآن مسنون، و ليس بمفروض».

______________________________

(1) القلم: 8.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 475

(97) سورة القدر

اشارة

مختلف فيها. و هي خمس آيات.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأها اعطي من الأجر كمن صام رمضان، و أحيا ليلة القدر».

الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال: «من قرأ «إنّا أنزلناه» في فريضة من الفرائض نادى مناد: يا عبد اللّه قد غفر لك ما مضى فاستأنف العمل».

سيف بن عميرة عن رجل، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من قرأ «إنّا أنزلناه» يجهر بها كان كشاهر سيفه في سبيل اللّه، و من قرأها سرّا كان كالمتشحّط بدمه في سبيل اللّه، و من قرأها عشر مرّات مرّت على محو ألف ذنب من ذنوبه».

[سورة القدر (97): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ (1) وَ ما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ (2) لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ (3) تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها بِإِذْنِ رَبِّهِمْ مِنْ كُلِّ أَمْرٍ (4)

سَلامٌ هِيَ حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ (5)

و لمّا أمر سبحانه بالسجود و التقرّب إليه في خاتمة سورة العلق، افتتح هذه

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 476

السورة بذكر ليلة القدر، و أنّ التقرّب فيها إلى اللّه يزيد على التقرّب إليه في سائر الليالي و الأيّام، فكأنّه قال: اقترب إليه في سائر الأوقات، خصوصا في ليلة القدر.

و قال أبو مسلم: لمّا أمره بقراءة القرآن في سورة العلق، بيّن في هذه السورة أنّ إنزاله في ليلة القدر، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* إِنَّا أَنْزَلْناهُ فِي لَيْلَةِ الْقَدْرِ الضمير للقرآن. فخّمه من ثلاثة أوجه:

أحدها: أن أسند إنزاله إليه، و جعله مختصّا به دون غيره، كجبرئيل.

و الثاني: إضماره من غير ذكر اسمه الظاهر، شهادة له بالنباهة المغنية عن التصريح.

و الثالث: إنزاله في أشرف الزمان و أفضل

الأوان، و هو ليلة القدر.

ثمّ فخّم شأن هذه الليلة، و نبّه على عظيم قدرها و شرف محلّها بقوله: وَ ما أَدْراكَ ما لَيْلَةُ الْقَدْرِ أي: لم تبلغ درايتك غاية فضلها و منتهى علوّ قدرها. و هذا حثّ على العبادة فيها.

ثمّ فسّر تعظيمها بقوله: لَيْلَةُ الْقَدْرِ خَيْرٌ مِنْ أَلْفِ شَهْرٍ أي: قيام ليلة القدر و العمل فيها خير من قيام ألف شهر. و لمّا جعل الخير الكثير في ليلة القدر، كانت خيرا من ألف شهر لا يكون فيها من الخير و البركة ما يكون في هذه الليلة. و إنزاله فيها بأن ابتدأ بإنزاله فيها. أو أنزله جملة من اللوح المحفوظ إلى السماء الدنيا على السفرة، ثمّ كان جبرئيل ينزله على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم نجوما في ثلاث و عشرين سنة.

و قيل: معناه: أنزلناه في فضل ليلة القدر. و تسميتها بذلك لشرف قدرها، أو لتقدير الأمور فيها، لقوله تعالى: فِيها يُفْرَقُ كُلُّ أَمْرٍ حَكِيمٍ «1». و عن أبي بكر الورّاق: لأنّ من لم يكن ذا قدر إذا أحياها صار ذا قدر. و قال بعضهم: لأنّ للطاعات

______________________________

(1) الدخان: 4.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 477

فيها قدرا عظيما و ثوابا جزيلا. و قيل: لأنّه أنزل فيها ملك ذو قدر، كتابا ذا قدر، من عند ملك ذي قدر، إلى رسول ذي قدر، لأجل أمّة ذات قدر.

و ذكر «ألف» إمّا للتكثير، أو لما

روي: أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ذكر إسرائيليّا لبس السلاح في سبيل اللّه ألف شهر، فعجب المؤمنون من ذلك، و تقاصرت إليهم أعمالهم، فأعطوا ليلة القدر، هي خير من مدّة غزوة هذا الغازي.

و قيل: إنّ الرجل فيما مضى ما كان يقال له

عابد حتّى يعبد اللّه ألف شهر، فأعطوا ليلة إن أحيوها كانوا أحقّ بأن يسمّوا عابدين من أولئك العبّاد.

و اختلفوا في أنّها أيّة ليلة؟ فذهب قوم إلى أنّها إنّما كانت على عهد النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم ثمّ رفعت. و

جاءت الرواية عن أبي ذرّ أنّه قال: «قلت: يا رسول اللّه ليلة القدر هي شي ء يكون على عهد الأنبياء، ينزّل اللّه فيها الملائكة، فإذا قبضوا رفعت؟

قال: لا بل هي إلى يوم القيامة».

و قيل: إنّها في ليالي السنة كلّها. و من علّق طلاق امرأته على ليلة القدر لم يقع إلى مضيّ السنة. و هو مذهب أبي حنيفة. و في بعض الروايات عن ابن مسعود: أنّه قال: من يقم الحول كلّه يصبها. فبلغ ذلك عبد اللّه بن عمر فقال:

رحم اللّه أبا عبد الرحمن، أما إنّه علم أنّها في شهر رمضان، و لكنّه أراد أن لا يتّكل الناس.

و جمهور العلماء على أنّها في شهر رمضان في كلّ سنة. ثم اختلفوا في أيّ ليلة هي منه؟ فقيل: هي أوّل ليلة منه. عن ابن زيد العقيلي. و قيل: هي ليلة سبع عشرة منه. عن الحسن. و

روي: أنّها ليلة الفرقان

، و في صبيحتها التقى الجمعان.

و الصحيح أنّها في العشر الأواخر من شهر رمضان. و هو مذهب الشافعي.

و

روي مرفوعا: أنّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «التمسوها في العشر الأواخر من شهر رمضان».

و

عن عليّ عليه السّلام: «أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يوقظ أهله في العشر الأواخر من رمضان».

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 478

قال: «و كان إذا دخل العشر الأواخر دأب «1» و أدأب أهله».

و

روى أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «كان

رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إذا دخل العشر الأواخر شدّ المئزر، و اجتنب النساء، و أحيا الليل، و تفرّغ للعبادة».

ثمّ اختلفوا في أنّها أيّة ليلة منه؟ فقيل: إنّها ليلة إحدى و عشرين. و هو مذهب أبي سعيد الخدري، و اختيار الشافعي.

قال أبو سعيد الخدري: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «رأيت هذه الليلة ثمّ أنسيتها، و رأيتني أسجد في ماء و طين، فالتمسوها في العشر الأواخر، و التمسوها في كلّ وتر». قال: فأبصرت عيناي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم انصرف و على جبهته و أنفه أثر الماء و الطين من صبيحة إحدى و عشرين. أورده البخاري في الصحيح «2».

و قيل: هي ليلة ثلاث و عشرين منه.

عن عبد اللّه بن عمر قال: جاء رجل إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: يا رسول اللّه إنّي رأيت في النوم كأنّ ليلة القدر هي ليلة سابعة تبقى. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أرى رؤياكم قد تواطأت على ثلاث و عشرين، فمن كان منكم يريد أن يقوم من الشهر شيئا فليقم ليلة ثلاث و عشرين».

قال معمّر: و كان أيّوب يغتسل ليلة ثلاث و عشرين، و يمسّ طيبا.

و

سأل عمر بن الخطّاب أصحاب رسول اللّه فقال: قد علمتم أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال في ليلة القدر: «اطلبوها في العشر الأواخر وترا».

ففي أيّ الوتر ترون؟ فأكثر القوم في الوتر.

قال ابن عبّاس: فقال لي: ما لك لا تتكلّم يا بن عبّاس؟! فقلت: رأيت اللّه أكثر ذكر السبع في القرآن، فذكر السماوات سبعا، و الأرضين سبعا، و الطواف سبعا، و

الجمار سبعا، و ما شاء اللّه من ذلك، خلق الإنسان من سبعة، و جعل رزقه في سبعة.

______________________________

(1) أي: جدّ و تعب.

(2) صحيح البخاري 3: 60 و 62.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 479

فقال: كلّ ما ذكرت عرفت، فما قولك: خلق الإنسان من سبعة، و جعل رزقه في سبعة؟

فقلت: خلق: الْإِنْسانَ مِنْ سُلالَةٍ مِنْ طِينٍ إلى قوله: خَلْقاً آخَرَ «1». ثمّ قرأت: أَنَّا صَبَبْنَا الْماءَ صَبًّا إلى قوله: وَ فاكِهَةً وَ أَبًّا «2». فما أراها إلّا ليلة ثلاث و عشرين لسبع بقين.

فقال عمر: عجزتم أن تأتوا بما جاء به هذا الغلام الّذي لم يجتمع شؤون «3» رأسه.

قال: و قال عمر: وافق رأيي رأيك. ثمّ ضرب منكبي فقال: ما أنت بأقلّ القوم علما.

و

روى العيّاشي بإسناده عن زرارة، و عن عبد الواحد بن المختار الأنصاري قال: «سألت أبا جعفر عليه السّلام عن ليلة القدر. قال: في ليلتين: ليلة ثلاث و عشرين، و إحدى و عشرين. فقلت: أفرد لي إحداهما. فقال: و ما عليك أن تعمل في ليلتين هي إحداهما.

و

عن شهاب بن عبد ربّه قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام: أخبرني بليلة القدر.

قال: ليلة إحدى و عشرين، و ليلة ثلاث و عشرين».

و

عن حمّاد بن عثمان، عن حسّان بن أبي علي قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن ليلة القدر. قال: اطلبها في تسع عشرة، و إحدى و عشرين، و ثلاث و عشرين».

و

في كتاب من لا يحضره الفقيه عن عليّ بن أبي حمزة قال: «كنت عند أبي عبد اللّه عليه السّلام فقال له أبو بصير: جعلت فداك الليلة الّتي يرجى فيها ما يرجى

______________________________

(1) المؤمنون: 12- 14.

(2) عبس: 25- 31.

(3) شؤون الرأس: موصل أو ملتقى قبائل الرأس. و قبائل الرأس:

قطعه المشعوب بعضها إلى بعض. زبدة التفاسير، ج 7، ص: 480

أيّ ليلة هي؟

فقال: هي ليلة إحدى و عشرين، و ثلاث و عشرين.

قال: فإن لم أقو على كلتيهما؟

فقال: ما أيسر ليلتين فيما تطلب.

قال: فقلت: فربما رأينا الهلال عندنا، و جاءنا من يخبرنا بخلاف ذلك في أرض اخرى.

فقال: ما أيسر أربع ليال فيما تطلب فيها.

قلت: جعلت فداك؛ ليلة ثلاث و عشرين ليلة الجهني «1»؟

قال: إنّ ذلك ليقال.

قلت: جعلت فداك؛ إنّ سليمان بن خالد روى أنّ في تسع عشرة يكتب وفد الحاجّ.

فقال: يا أبا محمّد يكتب وفد الحاجّ في ليلة القدر، و المنايا و البلايا و الأرزاق و ما يكون إلى مثلها في قابل، فاطلبها في إحدى و ثلاث، و صلّ في كلّ واحدة منهما مائة ركعة، و أحيهما إلى النور- أي: الصبح- و اغتسل فيهما.

قال: قلت: فإن لم أقدر على ذلك و أنا قائم؟

قال: فصلّ و أنت جالس.

قلت: فإن لم أستطع.

قال: فعلى فراشك.

قلت: فإن لم أستطع.

فقال: لا عليك أن تكتحل أوّل الليل بشي ء من النوم، إنّ أبواب السماء تفتح في شهر رمضان، و تصفد «2» الشياطين، و تقبل أعمال المؤمنين. نعم الشهر شهر

______________________________

(1) يأتي في الصفحة التالية توضيحه نقلا عن الشيخ الصدوق رحمه اللّه.

(2) صفد الأسير: أوثقه و قيّده بالحديد و غيره. زبدة التفاسير، ج 7، ص: 481

رمضان، كان يسمّى على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم المرزوق» «1».

و

في رواية عبد اللّه بن بكير عن زرارة عن أحدهما قال: «سألته عن الليالي الّتي يستحبّ فيها الغسل في شهر رمضان. قال: ليلة تسع عشرة، و ليلة إحدى و عشرين، و ليلة ثلاث و عشرين، و هي ليلة الجهني. و حديثه: أنّه قال لرسول اللّه صلّى اللّه

عليه و آله و سلّم: إنّ منزلي ناء عن المدينة، فمرني بليلة أدخل فيها، فأمره بليلة ثلاث و عشرين».

قال الشيخ أبو جعفر رحمه اللّه «2»: و اسم الجهني عبد اللّه بن أنيس الأنصاري.

و قيل: إنّها ليلة سبع و عشرين. عن أبيّ بن كعب و عائشة.

و

روي عن ابن عبّاس و ابن عمر قالا: قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: تحرّوها ليلة سبع و عشرين.

و

عن زرّ بن حبيش قال: قلت لأبي: يا أبا المنذر من أين علمت أنّها ليلة سبع و عشرين؟ قال: بالآية الّتي أنبأنا بها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، قال: تطلع الشمس غداتئذ، كأنّها طست ليس لها شعاع.

و قال بعضهم: إنّ اللّه قسّم كلمات هذه السورة على ليالي شهر رمضان، فلمّا بلغ السابعة و العشرين أشار إليها فقال: هي.

و قيل: إنّها ليلة تسع و عشرين. و

روي عن أبي بكر قال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «التمسوها في العشر الأواخر، في تسع بقين، أو سبع بقين، أو خمس بقين، أو ثلاث بقين، أو آخر ليلة».

و الفائدة في إخفاء هذه الليلة أن يجتهد الناس في العبادة، و يحيوا جميع ليالي رمضان طمعا في إدراكها، كما أنّ اللّه سبحانه أخفى الصلاة الوسطى في الصلوات الخمس، و اسمه الأعظم في الأسماء، و ساعة الإجابة في ساعات الجمعة.

و ورد في فضل هذه الليلة روايات كثيرة. منها: ما

روي عن ابن عبّاس، عن

______________________________

(1) الفقيه 2: 102 ح 459.

(2) الفقيه 2: 104 ذيل ح 461. زبدة التفاسير، ج 7، ص: 482

النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «إذا كان ليلة القدر تنزّل الملائكة الّذين هم

سكّان سدرة المنتهى، و منهم جبرئيل. فينزل جبرئيل و معه ألوية، ينصب لواء منها على قبري، و لواء على بيت المقدس، و لواء في المسجد الحرام، و لواء على طور سيناء. و لا يدع فيها مؤمنا و لا مؤمنة إلّا سلّم عليه، إلّا مدمن الخمر، و آكل لحم الخنزير، و المتضمّخ «1» بالزعفران».

و

عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قام ليلة القدر إيمانا و احتسابا غفر له ما تقدّم من ذنبه».

و

عنه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «إنّ الشيطان لا يخرج في هذه الليلة حتّى يضي ء فجرها، و لا يستطيع فيها على أحد بخبل أو داء أو ضرب من ضروب الفساد، و لا ينفذ فيه سحر ساحر».

و

روى الحسن عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال في ليلة القدر: «إنّها ليلة سمحة، لا حارّة و لا باردة، تطلع الشمس في صبيحتها ليس لها شعاع».

تَنَزَّلُ الْمَلائِكَةُ وَ الرُّوحُ فِيها و هو جبرئيل. أفرد بالذكر لمزيّة شرفه و فضله بينهم. و قيل: خلق من الملائكة لا تراهم الملائكة إلّا تلك الليلة. بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إلى الأرض، أو إلى السماء الدنيا مِنْ كُلِّ أَمْرٍ من أجل كلّ أمر قدّر في تلك الليلة من المصالح الدينيّة و الدنيويّة.

سَلامٌ هِيَ ما هي إلّا سلامة، أي: لا يقدّر اللّه فيها إلّا السلامة و الخير، و يقضي في غيرها السلامة و البلاء. أو ما هي إلّا سلام، لكثرة ما يسلّمون فيها على المؤمنين، لما روي: «أنّه لا يلقون مؤمنا و لا مؤمنة إلّا سلّموا عليه في تلك الليلة».

حَتَّى مَطْلَعِ الْفَجْرِ أي: وقت مطلعه، أي: طلوعه. و قرأ الكسائي بالكسر، على أنّه كالمرجع، أو اسم زمان على

غير قياس، كالمشرق.

______________________________

(1) تضمّخ بالطيب: تلطّخ به.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 483

(98) سورة البيّنة

اشارة

و تسمّى سورة البريّة، و سورة القيامة. مختلف فيها. و هي ثمان آيات.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأها كان يوم القيامة مع خير البريّة مسافرا و مقيما».

و

عن أبي الدرداء قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لو يعلم الناس ما في «لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا» لعطّلوا الأهل و المال و تعلّموها. فقال رجل من خزاعة: ما فيها من الأجر يا رسول اللّه؟ فقال: لا يقرؤها منافق أبدا، و لا عبد في قلبه شكّ في اللّه عزّ و جلّ.

و اللّه إنّ الملائكة المقرّبين ليقرؤنها منذ خلق اللّه السماوات و الأرض، لا يفترون عن قراءتها. و ما من عبد يقرؤها بليل إلّا بعث اللّه ملائكة يحفظونه في دينه و دنياه، و يدعون له بالمغفرة و الرحمة. فإن قرأها نهارا، أعطي عليها من الثواب مثل ما أضاء عليه النهار، و أظلم عليه الليل».

فقال رجل من قيس غيلان: زدنا يا رسول اللّه من هذا الحديث، فداك أبي و أمّي.

فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «تعلّموا «عَمَّ يَتَساءَلُونَ». و تعلّموا «ق وَ الْقُرْآنِ الْمَجِيدِ». و تعلّموا «وَ السَّماءِ ذاتِ الْبُرُوجِ». و تعلّموا «وَ السَّماءِ وَ الطَّارِقِ». فإنّكم لو تعلمون ما فيهنّ لعطّلتم ما أنتم فيه و تعلّمتموهنّ، و تقرّبتم إلى اللّه بهنّ، فإنّ اللّه يغفر بهنّ كلّ ذنب إلّا الشرك باللّه. و اعلموا أنّ «تَبارَكَ الَّذِي بِيَدِهِ الْمُلْكُ» تجادل عن صاحبها يوم القيامة،

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 484

و تستغفر له من الذنوب».

أبو بكر الحضرمي عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من قرأ سورة «لم يكن»

كان بريئا من الشرك، و أدخل في دين محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و بعثه اللّه تعالى مؤمنا، و حاسبه حسابا يسيرا».

[سورة البينة (98): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ مُنْفَكِّينَ حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ (1) رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً (2) فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ (3) وَ ما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ إِلاَّ مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ (4)

وَ ما أُمِرُوا إِلاَّ لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ حُنَفاءَ وَ يُقِيمُوا الصَّلاةَ وَ يُؤْتُوا الزَّكاةَ وَ ذلِكَ دِينُ الْقَيِّمَةِ (5)

و روي: أنّ الكفّار من أهل الكتاب و عبدة الأصنام كانوا يقولون قبل مبعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لا ننفكّ ممّا نحن عليه من ديننا، و لا نتركه حتّى يبعث النبيّ الموعود الّذي هو مكتوب في التوراة و الإنجيل و الزبور، و هو محمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. فلمّا بيّن سبحانه في سورة القدر أنّ القرآن حجّة، حكى اللّه في هذه السورة ما كانوا يقولون حجّة عليهم، و توبيخا و إلزاما لهم، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* لَمْ يَكُنِ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ اليهود و النصارى، فإنّهم كفروا بالإلحاد في صفات اللّه تعالى. و «من» للتبيين.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 485

وَ الْمُشْرِكِينَ و عبدة الأصنام مُنْفَكِّينَ عمّا كانوا عليه من دينهم. أو الوعد باتّباع الحقّ إذا جاءهم الرسول. و معنى انفكاك الشي ء من الشي ء أن يزايله بعد التحامه به، كالعظم إذا انفكّ من مفصله. و المعنى: أنّهم متشبّثون بدينهم لا يتركونه حَتَّى تَأْتِيَهُمُ الْبَيِّنَةُ إلّا عند مجي ء المبيّن للحقّ. و التاء للمبالغة. أو مجي ء المعجزة البيّنة، و هي القرآن الّذي هو المعجزة.

و قوله:

رَسُولٌ مِنَ اللَّهِ بدل من البيّنة بنفسه أو بتقدير مضاف، و هو الوحي، و تقديره: وحي رسول من اللّه. أو مبتدأ يَتْلُوا صُحُفاً مُطَهَّرَةً خبره.

و على البدليّة صفته. و الرسول و إن كان أمّيّا، لكنّه لمّا تلا مثل المسطور في الصحف كان كالتالي لها. و قيل: المراد جبرئيل، فإنّه التالي للصحف المطهّرة المنتسخة في اللوح. و كون الصحف مطهّرة أنّ الباطل لا يأتيها، أو أنّها لا يمسّها إلّا المطهّرون.

فِيها كُتُبٌ قَيِّمَةٌ مكتوبات مستقيمة ناطقة بالحقّ.

وَ ما تَفَرَّقَ الَّذِينَ أُوتُوا الْكِتابَ عمّا كانوا عليه، بأن تفرّقوا فرقا مختلفة:

كافرة، و مؤمنة، و متردّدة بين الكفر و الإيمان إِلَّا مِنْ بَعْدِ ما جاءَتْهُمُ الْبَيِّنَةُ إلّا وقت مجي ء البيّنة. فتفرّقوا، فمنهم من آمن، و منهم من أنكر، و منهم من عرف و عاند و أصرّ على الكفر، و منهم من تردّد في دينه. و المعنى: و ما تفرّقوا عن الحقّ إلّا بعد مجيئه، فنقضوا ما يعدّون من اجتماع الكلمة و الاتّفاق على الحقّ إذا جاءهم الرسول. فيكون كقوله: وَ كانُوا مِنْ قَبْلُ يَسْتَفْتِحُونَ عَلَى الَّذِينَ كَفَرُوا فَلَمَّا جاءَهُمْ ما عَرَفُوا كَفَرُوا بِهِ «1». و إفراد أهل الكتاب بعد الجمع بينهم و بين المشركين للدلالة على شناعة حالهم، و أنّهم لمّا تفرّقوا مع علمهم كان غيرهم أولى بذلك.

وَ ما أُمِرُوا أي: في كتبهم بما فيها إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ أي: إلّا لأجل أن يعبدوا اللّه مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ لا يشركون به حُنَفاءَ مائلين عن العقائد الزائغة

______________________________

(1) البقرة: 89.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 486

وَ يُقِيمُوا الصَّلاةَ على طريقة الإسلام وَ يُؤْتُوا الزَّكاةَ على وجه تعيّن في الإسلام وَ ذلِكَ الّذي تقدّم ذكره دِينُ الْقَيِّمَةِ دين الملّة القيامة.

دلّت هذه الآية على بطلان مذهب أهل

الجبر، لأنّ فيها تصريحا بأنّه سبحانه إنّما خلق الخلق ليعبدوه مخلصا عن الشرك. و على وجوب النيّة في الطهارة، إذ أمر اللّه بالعبادة على وجه الإخلاص، و لا يمكن الإخلاص إلّا بالنيّة و القربة. و الطهارة عبادة، فلا تجزي بغير نيّة، خلافا لبعض العامّة.

[سورة البينة (98): الآيات 6 الى 8]

إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ (6) إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ (7) جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ وَ رَضُوا عَنْهُ ذلِكَ لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ (8)

ثمّ ذكر سبحانه حال الفريقين بقوله: إِنَّ الَّذِينَ كَفَرُوا مِنْ أَهْلِ الْكِتابِ وَ الْمُشْرِكِينَ فِي نارِ جَهَنَّمَ خالِدِينَ فِيها أي: يوم القيامة، أو في الحال، لملابستهم ما يوجب ذلك. و اشتراك الفريقين في جنس العذاب لا يوجب اشتراكهما في نوعه، فيمكن أن يختلف، لتفاوت كفرهما. أُولئِكَ هُمْ شَرُّ الْبَرِيَّةِ الخليقة. و قرأ نافع:

البريئة بالهمزة، على الأصل.

إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ* جَزاؤُهُمْ عِنْدَ رَبِّهِمْ جَنَّاتُ عَدْنٍ تَجْرِي مِنْ تَحْتِهَا الْأَنْهارُ خالِدِينَ فِيها أَبَداً فيها مبالغات: تقديم المدح، و ذكر الجزاء المؤذن بأنّ ما منحوا في مقابلة ما وصفوا به، و الحكم عليه بأنّه من «عند ربّهم»، و جمع جنّات، و تقييدها إضافة و وصفا بما يزداد لها نعيما، و تأكيد

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 487

الخلود بالتأبيد.

رَضِيَ اللَّهُ عَنْهُمْ بما قدّموا من الطاعات المخلصة. استئناف بما يكون لهم زيادة على جزائهم. وَ رَضُوا عَنْهُ لأنّه بلّغهم أقصى أمانيّهم ذلِكَ أي:

المذكور من الجزاء و الرضوان لِمَنْ خَشِيَ رَبَّهُ فإنّ الخشية ملاك الأمر، و الباعث على كلّ خير.

و

في كتاب شواهد

التنزيل للحاكم أبي القاسم الحسكاني رحمه اللّه قال: أخبرنا الحاكم أبو عبد اللّه الحافظ بالإسناد المرفوع إلى يزيد بن شراحيل الأنصاري كاتب عليّ عليه السّلام، قال: سمعت عليّا عليه السّلام يقول: «قبض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أنا مسنده إلى صدري، فقال: يا عليّ ألم تسمع قول اللّه تعالى: إِنَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ هم أنت و شيعتك. و موعدي و موعدكم الحوض، إذا اجتمعت الأمم للحساب تدعون غرّا محجّلين». «1»

و فيه عن مقاتل بن سليمان، عن الضحّاك، عن ابن عبّاس: في قوله: «أُولئِكَ هُمْ خَيْرُ الْبَرِيَّةِ» قال: نزلت في عليّ و أهل بيته عليهم السّلام. «2»

______________________________

(1) شواهد التنزيل 2: 459 ح 1125.

(2) شواهد التنزيل 2: 473 ح 1146.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 489

(99) سورة الزلزال

اشارة

مدنيّة. و هي ثمان آيات.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأها فكأنّما قرأ البقرة، و أعطي من الأجر كمن قرأ ربع القرآن».

و

عن أنس بن مالك: «سأل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم رجلا من أصحابه فقال: يا فلان هل تزوّجت؟ قال: لا، و ليس عندي ما أتزوّج به. قال: أليس معك «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ»؟

قال: بلى. قال: ربع القرآن. قال: أليس معك «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ»؟ قال: بلى.

قال: ربع القرآن. قال: أليس معك «إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ»؟ قال: بلى. قال: ربع القرن.

ثمّ قال: تزوّج تزوّج تزوّج».

و

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «لا تملّوا من قراءة إذا زلزلت، فإنّ من كانت قراءته في نوافله لم يصبه اللّه بزلزلة أبدا، و لم يمت بها و لا بصاعقة و لا بآفة من آفات الدنيا، فإذا

مات أمر به إلى الجنّة، فيقول اللّه سبحانه: عبدي أبحتك جنّتي، فاسكن منها حيث شئت و هويت، لا ممنوع و لا مدفوع عنه».

[سورة الزلزلة (99): الآيات 1 الى 8]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها (1) وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها (2) وَ قالَ الْإِنْسانُ ما لَها (3) يَوْمَئِذٍ تُحَدِّثُ أَخْبارَها (4)

بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها (5) يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ أَشْتاتاً لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ (6) فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ (7) وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ (8)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 490

و لمّا ختم سبحانه سورة البيّنة ببيان حال المؤمنين و الكافرين، افتتح هذه السورة ببيان وقت ذلك، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* إِذا زُلْزِلَتِ الْأَرْضُ زِلْزالَها إضافة الزلزال إلى الأرض لإفادة أنّ المراد زلزالها الّذي تستوجبه في حكمة اللّه و مشيئته، و هو الزلزال الشديد الّذي ليس بعده. و نحوه: قولك: أكرم التقيّ إكرامه، و أهن الفاسق إهانته.

تريد: ما يستوجبانه من الإكرام و الإهانة. أو زلزالها كلّه، و جميع ما هو ممكن منه، بخلاف الزلازل المعهودة الّتي تختصّ ببعض الأرض. فتكون الإضافة للتنبيه على شدّتها. و ذلك عند النفخة الأولى أو الثانية.

وَ أَخْرَجَتِ الْأَرْضُ أَثْقالَها ما في جوفها من الدفائن أو الأموات. جمع ثقل، و هو متاع البيت.

وَ قالَ الْإِنْسانُ ما لَها أي: ما للأرض زلزلت هذه الزلزلة الشديدة، و لفظت ما في بطنها من الدفائن و الأموات أحياء؟! فيقولون ذلك لما يبهرهم من الأمر الفظيع، كما يقولون: مَنْ بَعَثَنا مِنْ مَرْقَدِنا «1». و قيل: هذا قول الكافر، لأنّه كان لا يؤمن بالبعث، فأمّا المؤمن فيقول: هذا ما وَعَدَ الرَّحْمنُ وَ صَدَقَ الْمُرْسَلُونَ «2».

يَوْمَئِذٍ منصوب بمثل: اذكر. أو بدل من «إذا»، و ناصبها قوله:

______________________________

(1) يس: 52.

(2) يس: 52.

زبدة التفاسير، ج 7،

ص: 491

تُحَدِّثُ أَخْبارَها أي: تحدّث الخلق أخبارها. فحذف المفعول الأوّل، لأنّ المقصود ذكر تحديثها الأخبار، لا ذكر الخلق، تعظيما لليوم. و تحديث الأرض مجاز عن إحداث اللّه فيها من الأحوال ما يقوم مقام التحديث باللسان، حتّى ينظر من يقول: ما لها؟

إلى تلك الأحوال، فيعلم لم زلزلت؟ و لم لفظت الأموات؟ و أنّ هذا ما كانت الأنبياء ينذرونه و يحذّرون منه.

و قيل: ينطقها اللّه على الحقيقة، و تخبر بما عمل عليها من خير و شرّ، كما

في الحديث أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «أ تدرون ما أخبارها؟ قالوا: اللّه و رسوله أعلم. قال:

أخبارها أن تشهد على كلّ عبد و أمة بما عمل على ظهرها، و تقول: عمل كذا و كذا يوم كذا و كذا. فهذا أخبارها».

و على هذا؛ يجوز أن يكون اللّه تعالى أحدث الكلام فيها.

بِأَنَّ رَبَّكَ أَوْحى لَها أي: تحدّث بسبب إيحاء ربّك لها، بأن أحدث فيها ما دلّت على الأخبار، أو أنطقها بها. و يجوز أن يكون بدلا من «أخبارها» إذ يقال:

حدّثته كذا و بكذا. و اللام بمعنى «إلى»، أو على أصلها، إذ لها في ذلك تشفّ من العصاة. و عن أبي سعيد الخدري: إذا كنت في البوادي فارفع صوتك بالأذان،

فإنّي سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: «لا يسمعه جنّ و لا إنس و لا حجر إلّا يشهد له».

يَوْمَئِذٍ يَصْدُرُ النَّاسُ من مخارجهم، من القبور إلى الموقف أَشْتاتاً متفرّقين بحسب مراتبهم، بيض الوجوه آمنين، و سود الوجوه فزعين. أو يصدرون عن الموقف أشتاتا، يتفرّق بهم طريقا الجنّة و النار. لِيُرَوْا أَعْمالَهُمْ جزاء أعمالهم.

ثمّ فصّل إراءة الأعمال بقوله: فَمَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ خَيْراً يَرَهُ أي: ير

ما يستحقّ عليه من الثواب.

وَ مَنْ يَعْمَلْ مِثْقالَ ذَرَّةٍ شَرًّا يَرَهُ و قرأ هشام بإسكان الهاء. و «من» الأولى

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 492

مخصوصة بالسعداء، و الثانية بالأشقياء، لقوله: «أشتاتا». و الذرّة: النملة الصغيرة، أو الهباء «1».

و يمكن أن يستدلّ بها على بطلان الإحباط، لأنّ الظاهر يدلّ على أنّه لا يفعل أحد شيئا من طاعة اللّه أو معصيته إلّا و يجازى عليها، و ما يقع محبطا لا يجازى عليه. و ليس لهم أن يقولوا: إنّ الظاهر بخلاف ما تذهبون إليه في جواز العفو عن مرتكب الكبيرة. و ذلك لأنّ الآية مخصوصة بالإجماع، فإنّ التائب معفوّ عنه بلا خلاف. و عندهم أنّ من شرط المعصية الّتي يؤاخذ بها أن لا تكون صغيرة، فجاز لنا أيضا أن نشترط فيها أن لا تكون ممّا يعفو اللّه عنه.

______________________________

(1) الهباء: الغبار، دقائق التراب منثورة على وجه الأرض.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 493

(100) سورة العاديات

اشارة

مدنيّة. و قيل: مكّيّة. و هي إحدى عشرة آية بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأها اعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد من بات بالمزدلفة و شهد جمعا».

سليمان بن خالد عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ و العاديات و أدمن قراءتها، بعثه اللّه مع أمير المؤمنين عليه السّلام يوم القيامة خاصّة، و كان في حجره و رفقائه».

و اعلم أنّ هذه السورة اتّصلت بما قبلها، لما فيها من ذكر القيامة و الجزاء، اتّصال النظير بالنظير.

[سورة العاديات (100): الآيات 1 الى 11]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الْعادِياتِ ضَبْحاً (1) فَالْمُورِياتِ قَدْحاً (2) فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً (3) فَأَثَرْنَ بِهِ نَقْعاً (4)

فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً (5) إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ (6) وَ إِنَّهُ عَلى ذلِكَ لَشَهِيدٌ (7) وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لَشَدِيدٌ (8) أَ فَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ ما فِي الْقُبُورِ (9)

وَ حُصِّلَ ما فِي الصُّدُورِ (10) إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ لَخَبِيرٌ (11)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 494

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* وَ الْعادِياتِ ضَبْحاً أقسم بخيل الغزاة تعدو فتضبح ضبحا. و هو صوت أنفاسها و أجوافها عند العدو. و نصبه بفعله المحذوف، أي: يضبحن أو تضبح ضبحا. أو بالعاديات، لأنّها تدلّ بالالتزام على الضابحات. أو حال بمعنى: ضابحات.

فَالْمُورِياتِ فالّتي توري النار، أي: تنقدح من حوافرها قَدْحاً قدحن قدحا. أو قادحات صاكّات بحوافرها الحجارة، فإنّ الإيراء إخراج النّار. و القدح:

الصكّ. يقال: قدح الزند فأورى. و انتصب «قدحا» بما انتصب به «ضبحا».

فَالْمُغِيراتِ يغير أهلها على العدو صُبْحاً أي: وقته ذكر الصبح، لأنّهم كانوا يسيرون إلى العدوّ ليلا، فيأتونهم صبحا.

فَأَثَرْنَ بِهِ عطف على الفعل الّذي وضع اسم الفاعل موضعه، لأنّ المعنى:

و اللاتي عدون، فأورين، فأغرن، فأثرن به، أي: فهيّجن

بذلك الوقت، أي: وقت العدو نَقْعاً غبارا.

فَوَسَطْنَ بِهِ فتوسّطن بذلك الوقت، أو بالعدو، أو بالنقع، أي: ملتبسات به. يقال: وسطه بمعنى: توسّطه. جَمْعاً من جموع الأعداء.

عن مقاتل: بعث رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم سريّة إلى حيّ من كنانة، فاستعمل عليهم المنذر بن عمرو الأنصاري أحد النقباء، فتأخّر رجوعهم، فقال المنافقون: قتلوا جميعا، فأخبر اللّه تعالى عنها بقوله: وَ الْعادِياتِ ضَبْحاً.

و

قيل: نزلت السورة لمّا بعث النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عليّا عليه السّلام إلى ذات السلاسل، فأوقع بهم. و ذلك بعد أن بعث إليهم مرارا غيره من الصحابة، فرجع كلّ منهم إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 495

و هو المرويّ عن أبي عبد اللّه عليه السّلام في حديث طويل، قال: «و سمّيت هذه الغزوة ذات السلاسل، لأنّه أسر منهم و قتل و سبى، و شدّ أسراهم في الحبال مكتّفين كأنّهم في السلاسل. و لمّا نزلت السورة خرج رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى الناس فصلّى بهم الغداة، و قرأ فيها و العاديات، فلمّا فرغ من صلاته قال أصحابه: هذه سورة لم نعرفها. فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: نعم، إنّ عليّا قد ظفر بأعداء اللّه، و بشّرني بذلك جبرئيل في هذه الليلة. فقدم عليّ عليه السّلام بعد أيّام بالأسارى و الغنائم».

و

في رواية عن سعيد بن جبير، عن ابن عبّاس قال: بينما أنا في الحجرة جالس إذ أتاني رجل فسأل عن العاديات ضبحا، فقلت له: الخيل حين تغير في سبيل اللّه، ثمّ تأوي إلى الليل، فيصنعون طعامهم و يورون نارهم. فانفتل «1» عنّي و ذهب

إلى عليّ بن أبي طالب عليه السّلام، و هو تحت سقاية زمزم، فسأله عن العاديات ضبحا.

فقال: سألت عنها أحدا قبلي؟ قال: نعم، سألت عنها ابن عبّاس، فقال: إنّها الخيل حين تغير في سبيل اللّه. قال: اذهب فادعه لي. فلمّا وقفت على رأسه قال: تفتي الناس بما لا علم لك به، و اللّه إن كانت لأوّل غزوة في الإسلام بدر، و ما كان معنا إلّا فرسان: فرس للزبير، و فرس للمقداد بن الأسود، فكيف تكون العاديات الخيل؟ بل «الْعادِياتِ ضَبْحاً» الإبل، من عرفة إلى مزدلفة، و من مزدلفة إلى منى. قال ابن عبّاس: فرغبت عن قولي، و رجعت إلى الّذي قاله عليّ عليه السّلام.

و على هذا؛ فالمراد بالضبح الضبع. قال في الصحاح: «عن أبي عبيدة:

ضبحت الخيل ضبحا، مثل: ضبعت، و هو السير» «2». ثمّ قال: «ضبعت الإبل تضبع ضبعا، إذا مدّت أضباعها في سيرها، و هي أعضادها. و الناقة ضابع. و الضبع: أن يهوي بحافره إلى عضده» «3».

و المراد بالموريات أنّ أصحابها يورون نارهم في عرفة و جمع و منى.

______________________________

(1) أي: انصرف. من: فتل وجهه عنهم، أي: صرفه.

(2) الصحاح 1: 385، و 3: 1247.

(3) الصحاح 1: 385، و 3: 1247.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 496

و قال عكرمة: هي ألسنة الرجال توري النار من عظيم ما تتكلّم به.

و عن محمد بن كعب: هي النيران بجمع. و عنه أيضا: يريد بقوله: «فَالْمُغِيراتِ صُبْحاً» الإبل ترتفع بركبانها يوم النحر من جمع إلى منى. و السنّة أن لا ترتفع بركبانها حتّى تصيح. و الإغارة سرعة السير. و منه قولهم: أشرق «1» ثبير كيما نغير.

و عنه أيضا المراد بقوله: «فَوَسَطْنَ بِهِ جَمْعاً» يريد جمع منى.

و التفسير الأوّل قول أكثر المفسّرين. و يحتمل

أن يكون القسم بالنفوس العادية أثر كمالهنّ، الموريات بأفكارهنّ أنوار المعارف، و المغيرات على الهوى و العادات إذا ظهر لهنّ مثل أنوار القدس، فأثرن به شوقا، فوسطن به جمعا من جموع العلّيّين.

و على التقادير جواب القسم إِنَّ الْإِنْسانَ لِرَبِّهِ لَكَنُودٌ لكفور. من: كند النعمة كنودا. و منه سمّي كندة، لأنّه كند أباه ففارقه. أو لعاص، بلغة كندة. أو لبخيل، بلغة بني مالك.

وَ إِنَّهُ عَلى ذلِكَ إنّ الإنسان على كنوده لَشَهِيدٌ يشهد على نفسه، و لا يقدر أن يجحده، لظهور أمره عليه. و قيل: إنّ اللّه على كنوده لشهيد. فيكون وعيدا.

وَ إِنَّهُ لِحُبِّ الْخَيْرِ لأجل حبّ المال، من قوله: إِنْ تَرَكَ خَيْراً «2».

لَشَدِيدٌ لبخيل. يقال: فلان شديد و متشدّد. أو لقويّ مبالغ فيه.

أَ فَلا يَعْلَمُ إِذا بُعْثِرَ بعث ما فِي الْقُبُورِ من الموتى وَ حُصِّلَ جمع محصّلا في الصحف، أو ميّز ما فِي الصُّدُورِ من خير أو شرّ. و تخصيصه لأنّه الأصل. إِنَّ رَبَّهُمْ بِهِمْ يَوْمَئِذٍ و هو يوم القيامة لَخَبِيرٌ عالم بما أعلنوا و ما أسرّوا، فيجازيهم عليه. و إنّما قال «ما» ثمّ «بهم» لاختلاف شأنهم في الحالين.

______________________________

(1) تبير: جبل بمكّة. و المعنى: ليشرق شعاع الشمس على ثبير حتّى نغير على الأعداء.

(2) البقرة: 180.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 497

(101) سورة القارعة

اشارة

مكّيّة. و هي إحدى عشرة آية.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «و من قرأها ثقّل اللّه بها ميزانه يوم القيامة».

عمرو بن ثابت عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من قرأ القارعة آمنه اللّه من فتنة الدجّال أن يؤمن به، و من قيح جهنّم يوم القيامة».

و اعلم أنّ هذه السورة اتّصلت بما قبلها اتّصال النظير بالنظير، لأنّ كلتيهما في ذكر القيامة.

[سورة القارعة (101): الآيات 1 الى 11]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

الْقارِعَةُ (1) مَا الْقارِعَةُ (2) وَ ما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ (3) يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ (4)

وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ الْمَنْفُوشِ (5) فَأَمَّا مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ (6) فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ (7) وَ أَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ (8) فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ (9)

وَ ما أَدْراكَ ما هِيَهْ (10) نارٌ حامِيَةٌ (11)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 498

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* الْقارِعَةُ اسم من أسماء القيامة، لأنّها تقرع القلوب بالفزع، و تقرع أعداء اللّه بالعذاب.

ثمّ عظّم شأنها و هوّل أمرها بقوله: مَا الْقارِعَةُ أيّ شي ء القارعة وَ ما أَدْراكَ مَا الْقارِعَةُ أي: لا تعلم حقيقة أمرها و كنه وصفها على التفصيل، و إنّما تعلمها على الإجمال. و قد سبق مزيد البحث فيها في الحاقّة «1».

ثمّ بيّن سبحانه أنّها متى تكون، فقال: يَوْمَ يَكُونُ النَّاسُ نصب بمضمر دلّت عليه القارعة، أي: تقرع يوم يكون الناس كَالْفَراشِ الْمَبْثُوثِ في كثرتهم و ذلّتهم و حقارتهم و انتشارهم و اضطرابهم، لفزعهم عند البعث، فيختلفون في المقاصد على جهات مختلفة. و هذا مثل قوله: كَأَنَّهُمْ جَرادٌ مُنْتَشِرٌ «2». و سمّي الفراش فراشا لتفرّشه و انتشاره على أنحاء مختلفة.

وَ تَكُونُ الْجِبالُ كَالْعِهْنِ كالصوف المصبغ ألوانا، لأنّها ألوان الْمَنْفُوشِ المندوف، لتفرّق أجزائها و تطايرها في الجوّ.

فَأَمَّا

مَنْ ثَقُلَتْ مَوازِينُهُ بأن ترجّحت مقادير أنواع حسناته. جمع موزون، و هو العمل الّذي له وزن و خطر عند اللّه. أو جمع ميزان. و ثقلها: رجحانها. فَهُوَ فِي عِيشَةٍ راضِيَةٍ ذات رضا، أي: مرضيّة.

وَ أَمَّا مَنْ خَفَّتْ مَوازِينُهُ بأن لم يكن له حسنة يعبأ بها، أو ترجّحت سيّئاته على حسناته. و القول في تحقيق الوزن و الميزان و الاختلاف في ذلك قد مرّ في الأعراف «3». فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ فمأواه النار. و هي مأخوذة من قولهم إذا دعوا على الرجل بالهلكة: هوت أمّه، لأنّه إذا هوى- أي: سقط و هلك- فقد هوت أمّه ثكلا

______________________________

(1) راجع ص 158.

(2) القمر: 7.

(3) راجع ج 2 ص 496، ذيل الآية 9 من سورة الأعراف.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 499

و حزنا. فكأنّه قيل: و أمّا من خفّت موازينه فقد هلك.

و قيل: هي من أسماء طبقة النار العميقة، لهويّ أهل النار فيها مهوى بعيدا، كما

روي: «يهوى فيها سبعين خريفا»

أي: فمأواه النار البعيدة العمق جدّا. و قيل للمأوى أمّ على التشبيه، لأنّ الأمّ مأوى الولد و مفزعه.

و عن قتادة: «فَأُمُّهُ هاوِيَةٌ» فأمّ رأسه هاوية في قعر جهنّم، لأنّه يطرح فيها منكوسا.

ثمّ قال تفخيما لأمرها: وَ ما أَدْراكَ ما هِيَهْ الضمير للهاوية. و الهاء للسكت.

و قد أجيز إثباتها مع الوصل، لأنّها ثابتة في المصحف. و قرأ حمزة بغير الهاء حين الوصل. نارٌ حامِيَةٌ ذات حمى شديدة الحرارة.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 501

(102) سورة التكاثر

اشارة

مختلف فيها. و هي ثمان آيات بالإجماع.

أبيّ بن كعب عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قال: «من قرأها لم يحاسبه اللّه بالنعيم الّذي أنعم عليه في دار الدنيا، و أعطي من الأجر كأنّما قرأ ألف آية».

شعيب العقرقوفي عن أبي عبد

اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ سورة «ألهاكم التكاثر» في فريضة كتب له ثواب و أجر مائة شهيد، و من قرأها في نافلة كان له ثواب خمسين شهيدا، و صلّى معه في فريضته أربعون صفّا من الملائكة».

و

عن درست عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: من قرأ «أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ» عند النوم وقي فتنة القبر».

[سورة التكاثر (102): الآيات 1 الى 8]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ (1) حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ (2) كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (3) ثُمَّ كَلاَّ سَوْفَ تَعْلَمُونَ (4)

كَلاَّ لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ (5) لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ (6) ثُمَّ لَتَرَوُنَّها عَيْنَ الْيَقِينِ (7) ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ (8)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 502

و لمّا أخبر سبحانه في سورة القارعة عن صفة القيامة، ذكر في هذه السورة من شغلته عنها زخارف الدنيا و التفاخر بها، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* أَلْهاكُمُ شغلكم عن طاعة اللّه و عن ذكر الآخرة.

و أصله الصرف إلى اللهو. منقول من: لهى إذا غفل. التَّكاثُرُ التباهي بكثرة الأموال و الأولاد و التفاخر. زبدة التفاسير ج 7 559

حَتَّى زُرْتُمُ الْمَقابِرَ أي: إذا استوعبتم عدد الأحياء صرتم إلى المقابر فتكاثرتم بالأموات. عبّر عن انتقالهم إلى ذكر الموتى بزيارة المقابر تهكّما، فإنّ الزيارة الحقيقيّة لم تكن موجودة.

روي: أنّ بني عبد مناف و بني سهم تفاخروا بكثرة عدد الأقارب و العشائر، فكثّرهم بنو عبد مناف. فقال بنو سهم: إنّ البغي أهلكنا في الجاهليّة، فعادّونا بالأحياء و الأموات، فكثّرهم بنو سهم.

و قيل: كانوا يزورون المقابر فيقولون: هذا قبر فلان و هذا قبر فلان عند تفاخرهم. و المعنى: ألهاكم ذلك التكاثر- و هو ممّا لا يعنيكم، و لا يجدي عليكم في دنياكم و آخرتكم- عمّا

يعنيكم من أمر الدين الّذي هو أهمّ و أعنى من كلّ مهمّ.

و إنّما حذف الملهيّ عنه- و هو ما يعنيهم من أمر الدين- للتعظيم و المبالغة.

و قيل: معناه: ألهاكم التكاثر بالأموال و الأولاد إلى أن متّم و قبرتم، مضيّعين أعماركم في طلب الدنيا عمّا هو أهمّ لكم، و هو السعي لأخراكم. فيكون زيارة القبر عبارة عن الموت.

كَلَّا ردع و تنبيه على أنّ العاقل ينبغي له أن لا يكون جميع همّه و معظم سعيه للدنيا، فإنّ عاقبة ذلك و بال و حسرة و سَوْفَ تَعْلَمُونَ خطأ رأيكم إذا عاينتم ما قدّامكم من أهوال الآخرة. و هو إنذار ليخافوا و ينتبهوا من غفلتهم.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 503

ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ تكرير لتأكيد الردع و الإنذار عليهم. و في «ثمّ» دلالة على أنّ الإنذار الثاني أبلغ من الأوّل و أشدّ، كما تقول للمنصوح:

أقول لك ثمّ أقول لك لا تفعل. أو الأوّل عند الموت أو في القبر، و الثاني عند النشور.

عن زرّ بن حبيش عن عليّ عليه السّلام قال: «ما زلنا نشكّ في عذاب القبر حتّى نزلت «أَلْهاكُمُ التَّكاثُرُ» إلى قوله: «كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ» يريد في القبر «ثُمَّ كَلَّا سَوْفَ تَعْلَمُونَ» بعد البعث».

ثمّ كرّر التنبيه لمزيد الإيقاظ عن رقدة الجهل و الغفلة، فقال: كَلَّا لَوْ تَعْلَمُونَ عِلْمَ الْيَقِينِ لو تعلمون ما بين أيديكم علم الأمر اليقين- أي: كعلمكم ما تستيقنونه من الأمور الّتي وكلتم بعلمها هممكم- لشغلكم علم ذلك عن غيره، أو لفعلتم ما يوجب فوزكم ممّا لا يوصف و لا يكتنه، و لكنّكم ضلّال جهلة. فحذف الجواب للتفخيم. و لا يجوز أن يكون قوله: لَتَرَوُنَّ الْجَحِيمَ جوابا، لأنّه محقّق الوقوع.

فهو جواب قسم محذوف، أكّد به الوعيد، و أوضح

به ما أنذرهم منه بعد إبهامه، و قد مرّ ما في إيضاح الشي ء بعد إبهامه من تفخيمه و تعظيمه. و قرأ ابن كثير و الكسائي بضمّ التاء.

ثُمَّ لَتَرَوُنَّها كرّره معطوفا ب «ثمّ» تغليظا في التهديد و زيادة في التهويل. أو الأولى إذا رأتهم من مكان بعيد، و الثانية إذا وردوها. عَيْنَ الْيَقِينِ أي: الرؤية الّتي هي نفس اليقين، فإنّ علم المشاهدة أعلى مراتب اليقين.

ثُمَّ لَتُسْئَلُنَّ يَوْمَئِذٍ عَنِ النَّعِيمِ الّذي ألهاكم. قيل: الخطاب مخصوص بالكفّار. و قيل: بكلّ من ألهاه دنياه عن دينه. و المراد بالنعيم ما يشغله عن العلوم المفروضة الدينيّة و الأعمال الواجبة الشرعيّة، للقرينة، فإنّ من تمتّع بنعمة اللّه و أرزاقه الّتي لم يخلقها إلّا لعباده- لقوله: قُلْ مَنْ حَرَّمَ زِينَةَ اللَّهِ الَّتِي أَخْرَجَ

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 504

لِعِبادِهِ «1» كُلُوا مِنْ طَيِّباتِ ما رَزَقْناكُمْ «2»- و تقوّى بها على دراسة العلم و القيام بالعمل، و كان ناهضا بالشكر، فهو من ذاك بمعزل. و قيل: يعمّ كلّ متنعّم، إذ كلّ يسأل عن شكره.

و عن قتادة: إنّ اللّه سائل كلّ ذي نعمة عمّا أنعم عليه.

و عن عكرمة: النعيم: الصحّة و الفراغ. و يعضده ما

رواه ابن عبّاس عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «نعمتان مغبون فيهما كثير من الناس: الصحّة، و الفراغ».

و عن عبد اللّه بن مسعود و مجاهد:

هو الأمن و الصحّة. و روي ذلك عن أبي جعفر و أبي عبد اللّه عليهما السّلام.

و قيل: يسأل عن كلّ نعيم إلّا ما خصّه الحديث، و هو

قوله: «ثلاث لا يسأل عنها العبد: خرقة يواري بها عورته، أو كسرة يسدّ بها جوعته، أو بيت يكنّه من الحرّ و البرد».

و

روي: أنّ بعض الصحابة أضاف النبيّ

صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مع جماعة من أصحابه، فوجدوا عنده تمرا و ماء باردا فأكلوا، فلمّا خرجوا قال: «هذا من النعيم الّذي تسألون عنه».

و

روى العيّاشي بإسناده في حديث طويل قال: «سأل أبو حنيفة أبا عبد اللّه عليه السّلام عن هذه الآية، فقال له: ما النعيم عندك؟

قال: القوت من الطعام، و الماء البارد.

فقال: لئن أوقفك اللّه يوم القيامة بين يديه حتّى يسألك عن كلّ أكلة أكلتها و شربة شربتها، ليطولنّ وقوفك بين يديه.

قال: فما النعيم؟

______________________________

(1) الأعراف: 32.

(2) البقرة: 57. زبدة التفاسير، ج 7، ص: 505

قال: نحن أهل البيت النعيم الّذي أنعم اللّه بنا على العباد، و بنا ائتلفوا بعد أن كانوا مختلفين، و بنا ألّف اللّه بين قلوبهم و جعلهم إخوانا بعد أن كانوا أعداء، و بنا هداهم اللّه للإسلام، و هي النعمة الّتي لا تنقطع، و اللّه سائلهم عن حقّ النعيم الّذي أنعم به عليهم، و هو النبيّ و عترته عليهم السّلام».

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 507

(103) سورة العصر

اشارة

مكّيّة. و هي ثلاث آيات بالإجماع.

في حديث أبيّ: «و من قرأها ختم اللّه له بالصبر، و كان مع أصحاب الحقّ يوم القيامة».

الحسين بن أبي العلاء عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ و العصر في نوافله بعثه اللّه يوم القيامة مشرقا وجهه، ضاحكا سنّه، قريرة عينه، حتّى يدخل الجنّة».

[سورة العصر (103): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَ الْعَصْرِ (1) إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ (2) إِلاَّ الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ وَ تَواصَوْا بِالْحَقِّ وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ (3)

و لمّا ختم اللّه السورة المتقدّمة بوعيد من ألهاه التكاثر، افتتح هذه السورة بمثل ذلك، و هو أنّ الإنسان لفي خسر إلّا المؤمن الصالح، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* وَ الْعَصْرِ أقسم بصلاة العصر لفضلها بدليل قوله: وَ الصَّلاةِ الْوُسْطى «1». و هي صلاة العصر،

لقوله عليه السّلام: «من فاتته صلاة العصر فكأنّما وتر أهله و ماله».

و لأنّ التكليف في أدائها أشقّ، لتهافت الناس في تجاراتهم

______________________________

(1) البقرة: 238.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 508

و مكاسبهم آخر النهار. و

قال عليه السّلام: «أفضل الأعمال أحمزها».

أو بوقت العشيّ، و هو الطرف الأخير من النهار، لما في ذلك من الدلالة على وحدانيّة اللّه تعالى بإدبار النهار و إقبال الليل، و ذهاب سلطان الشمس، كما أقسم بالضحى، و هو الطرف الأوّل من النهار، لما فيه من حدوث سلطان الشمس و إقبال النهار، و أهل الملّتين يعظّمون هذين الوقتين.

أو بعصر النبوّة، أو بالدهر، لاشتماله على أصناف الأعاجيب، و للتعريض بنفي ما يضاف إليه من الخسران.

إِنَّ الْإِنْسانَ لَفِي خُسْرٍ إنّ الناس لفي خسران في مساعيهم، و صرف أعمارهم في معايشهم. و التعريف للجنس. و التنكير للتعظيم و التكثير.

إِلَّا الَّذِينَ آمَنُوا وَ عَمِلُوا الصَّالِحاتِ فإنّهم اشتروا الآخرة بالدنيا، فربحوا و فازوا

بالحياة الأبديّة و السعادة السرمديّة، بخلاف من عداهم، فإنّهم بالتجارة الدنيويّة الفانية وقعوا في الخسارة و الشقاوة.

وَ تَواصَوْا بِالْحَقِ بالأمر الثابت الّذي لا يصحّ إنكاره، من اعتقاد أو عمل عقلا و نقلا. و هو كتوحيد اللّه و طاعته، و اتّباع كتبه و رسله، و الزهد في الدنيا، و الرغبة في الآخرة.

وَ تَواصَوْا بِالصَّبْرِ عن المعاصي، أو على الحقّ، أو على ما يبلو اللّه به عباده. و هذا من عطف الخاصّ على العامّ للمبالغة، إلّا أن يخصّ العمل بما يكون مقصورا على كماله. و لعلّه سبحانه إنّما ذكر سبب الربح دون الخسران اكتفاء ببيان المقصود، و إشعارا بأنّ ما عدا ما عدّ يؤدّي إلى خسر و خفض حظّ، أو تكرّما، فإنّ الإبهام في جانب الخسر كرم.

و في هذه السورة أعظم دلالة على إعجاز القرآن. ألا ترى أنّها مع قلّة حروفها تدلّ على جميع ما يحتاج الناس إليه في الدين علما و عملا. و في وجوب التواصي بالحقّ و الصبر إشارة إلى الأمر بالمعروف و النهي عن المنكر، و الدعاء إلى التوحيد و العدل، و أداء الواجبات، و الاجتناب عن المقبّحات.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 509

(104) سورة الهمزة

اشارة

مكّيّة. و هي تسع آيات بالإجماع.

و

في حديث أبيّ عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «من قرأها أعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد من استهزأ بمحمّد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و أصحابه».

أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ «وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ» في فرائضه نفت عنه الفقر، و جلبت عليه الرزق، و تدفع عنه ميتة السوء».

[سورة الهمزة (104): الآيات 1 الى 9]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ (1) الَّذِي جَمَعَ مالاً وَ عَدَّدَهُ (2) يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ (3) كَلاَّ لَيُنْبَذَنَّ فِي الْحُطَمَةِ (4)

وَ ما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ (5) نارُ اللَّهِ الْمُوقَدَةُ (6) الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ (7) إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ (8) فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ (9)

و لمّا أجمل سبحانه في سورة العصر أنّ الإنسان لفي خسر، فصّل في هذه السورة تلك الجملة، فقال:

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 510

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* وَيْلٌ لِكُلِّ هُمَزَةٍ لُمَزَةٍ الهمز: الكسر، كالهزم.

و منه: الهزيمة. و اللمز: الطعن، كاللهز. يقال: لمزه و لهزه: طعنه. فشاعا في الكسر من أعراض الناس و الطعن فيهم. و عن سعيد بن جبير و قتادة: الهمزة: المغتاب، و اللمزة: الطعّان. و عن ابن زيد: الهمزة: الّذي يهمز الناس بيده و يضربهم، و اللمزة:

الّذي يلمزهم بلسانه و بعينه. و عن الحسن و عطاء: الهمزة: الّذي يطعن في الوجه بالعيب، و اللمزة: الّذي يغتاب عند الغيبة. و بناء فعلة على الاعتياد، فلا يقال:

ضحكة و لعنة إلّا للمكثر المتعوّد.

و نزولها في الأخنس بن شريق، فإنّه كان مغتابا، و له أربعة آلاف دينار.

و قيل: عشرة آلاف. و قيل: في الوليد بن المغيرة و اغتيابه لرسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قيل:

في

اميّة بن خلف. و يجوز أن يكون السبب خاصّا و الوعيد عامّا، ليتناول كلّ من باشر ذلك القبيح.

الَّذِي جَمَعَ مالًا من غير حلّه. بدل من «كلّ». أو ذمّ منصوب أو مرفوع.

و قرأ ابن عامر و حمزة و الكسائي بالتشديد، للتكثير. و هو مطابق لقوله: وَ عَدَّدَهُ و عدّه مرّة بعد اخرى، و أحصاه مرارا لكثرة حبّه له. أو جعله عدّة للنوازل. أو جمع و عدّد ماله و قومه الّذين ينصرونه. من قولك: فلان ذو عدد و عدد، إذا كان له عدد وافر من الأنصار و ما يصلحهم. فطوّل حبّ المال و الأهل أمله، و منّاه الأماني البعيدة، حتّى أصبح لفرط غفلته و طول أمله يَحْسَبُ أَنَّ مالَهُ أَخْلَدَهُ تركه خالدا في الدنيا لا يموت أبدا، فأحبّه كما يحبّ الخلود. فعمل عمل من لا يظنّ الموت، من تشييد البنيان الموثق بالصخر و الآجرّ، و غرس الأشجار، و عمارة الأرض و غيرها. و فيه تعريض بأنّ المخلّد هو السعي للآخرة.

كَلَّا ردع له عن حسبانه لَيُنْبَذَنَ ليطرحنّ. من: النبذ بمعنى الطرح.

فِي الْحُطَمَةِ في النار الّتي من شأنها أن تحطم كلّ ما يطرح فيها. و يقال للرجل

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 511

الأكول: إنّه لحطمة، لكسره المأكولات. و عن مقاتل: و هي تحطم العظام، و تأكل اللحوم، حتّى تهجم على القلوب.

ثمّ قال تفخيما لأمرها: وَ ما أَدْراكَ مَا الْحُطَمَةُ ما النار الّتي لها هذه الخاصّية نارُ اللَّهِ تفسير لها الْمُوقَدَةُ أي: النار الّتي أوقدها اللّه، و ما أوقده لا يقدر غيره أن يطفئه الَّتِي تَطَّلِعُ عَلَى الْأَفْئِدَةِ أي: تعلو أوساط القلوب، و تشتمل عليها. و تخصيصها بالذكر لأنّ الفؤاد ألطف ما في البدن، و أشدّه تألّما بأدنى أذى يمسّه، فكيف

إذا أطلعت عليه نار جهنّم و استولت عليه؟! أو لأنّها محلّ العقائد الزائغة، و النيّات الخبيثة، و منشأ الأعمال القبيحة.

إِنَّها عَلَيْهِمْ مُؤْصَدَةٌ مطبقة. من: أوصدت الباب إذا أطبقته.

قال:

تحنّ إلى أجبال مكّة ناقتي و من دونها أبواب صنعاء مؤصدة

فِي عَمَدٍ مُمَدَّدَةٍ أي: موثّقين في أعمدة ممدودة مثل المقاطر «1» الّتي تقطر فيها اللصوص. أو المعنى: توصد عليهم الأبواب، و تمدّد على الأبواب العمد، استيثاقا في استيثاق. و ذلك لتأكيد يأسهم من الخروج، و تيقّنهم بحبس الأبد. و قرأ الكوفيّون غير حفص بضمّتين.

روى العيّاشي بإسناده عن محمد بن النعمان الأحول، عن حمران بن أعين، عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «إنّ الكفّار و المشركين يعيّرون أهل التوحيد في النار، و يقولون: ما نرى توحيدكم أغنى عنكم شيئا، و ما نحن و أنتم إلّا سواء. قال: فيأنف لهم الربّ تعالى، فيقول للملائكة: اشفعوا، فيشفعون لمن شاء اللّه. ثمّ يقول للنبيّين:

اشفعوا، فيشفعون لمن شاء اللّه. ثمّ يقول للمؤمنين: اشفعوا، فيشفعون لمن شاء اللّه.

و يقول اللّه: أنا أرحم الراحمين اخرجوا برحمتي، فيخرجون كما يخرج الفراش.

قال: ثمّ قال أبو جعفر عليه السّلام: ثمّ مدّت العمد، فأوصدت عليهم، و كان و اللّه الخلود».

______________________________

(1) المقاطر جمع المقطرة: الفلق. و هي: خشبة فيها خروق تدخل فيها أرجل المسجونين.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 513

(105) سورة الفيل

اشارة

مكّيّة. و هي خمس آيات بالإجماع.

في حديث أبيّ: «من قرأها عافاه اللّه أيّام حياته من القذف و المسخ».

أبو بصير عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ في فرائضه «أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ» شهد له يوم القيامة كلّ سهل و جبل و مدر بأنّه كان من المصلّين، و ينادي يوم القيامة مناد: صدقتم على عبدي، قبلت شهادتكم

له أو عليه، أدخلوا عبدي الجنّة و لا تحاسبوه، فإنّه ممّن أحبّه و أحبّ عمله. و من أكثر قراءة «لإيلاف قريش» بعثه اللّه يوم القيامة على مركب من مراكب الجنّة، حتّى يقعد على موائد النور يوم القيامة».

[سورة الفيل (105): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ (1) أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ فِي تَضْلِيلٍ (2) وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ (3) تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ (4)

فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ (5)

و لمّا ذكر سبحانه في سورة الهمزة ما أعدّ من العذاب لمن عاب الناس

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 514

و اغتابهم و ركن إلى الدنيا، بيّن في هذه السورة ما فعله بأصحاب الفيل من عذاب الاستئصال، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* أَ لَمْ تَرَ كَيْفَ فَعَلَ رَبُّكَ بِأَصْحابِ الْفِيلِ الخطاب للرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و هو و إن لم يشهد تلك الواقعة لكن شاهد آثارها، و سمع بالتواتر أخبارها، فكأنّه رآها. و إنّما قال: «كيف» و لم يقل: «ما» لأنّ المراد تذكير ما فيها من وجوه الدلالة على كمال علم اللّه و قدرته، و عزّة نبيّه، و شرف رسوله، فإنّها من الإرهاصات «1»، إذ روي عن أكثر العلماء أنّها وقعت في السنة الّتي ولد فيها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و عن عائشة: رأيت قائد الفيل و سائسه بمكّة أعميين مقعدين يستطعمان.

و قصّتها: أنّ ملك اليمن قصد هدم الكعبة، و هو أبرهة بن الصباح الأشرم.

و قيل: كنيته أبو يكسوم. قال الواقدي: هو صاحب أصحمة النجاشي، جدّ النجاشي الّذي كان على عهد رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

قال محمّد بن إسحاق بن يسار: أقبل تبّع «2» حتّى

نزل على المدينة، فنزل بوادي قبا، فحفر بها بئرا تدعى اليوم بئر الملك. قال: و بالمدينة إذ ذاك يهود و الأوس و الخزرج، فقاتلوه، و جعلوا يقاتلونه بالنهار فإذا أمسى أرسلوا إليه بالضيافة. فاستحيا و أراد صلحهم، فخرج إليه رجل من الأوس يقال له: أحيحة بن الجلاح، و خرج إليه من اليهود بنيامين القرظي.

فقال له احيحة: أيّها الملك نحن قومك.

و قال بنيامين: هذه بلدة لا تقدر على أن تدخلها و لو جهدت.

قال: و لم؟

قال: لأنّها منزل نبيّ من الأنبياء يبعثه اللّه من قريش.

______________________________

(1) أي: من المبشّرات و المنبئات بمجي ء النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم.

(2) التبّع: لقب ملوك اليمن.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 515

قال: ثمّ خرج يسير حتّى إذا كان من مكّة على ليلتين بعث اللّه عليه ريحا قصفت يديه و رجليه، و شنجت جسده، فأرسل إلى من معه من اليهود فقال: ويحكم ما هذا الّذي أصابني؟

قالوا: حدّثت نفسك بشي ء؟

قال: نعم. و ذكر ما أجمع عليه من هدم البيت و إصابة ما فيه.

قالوا: ذلك بيت اللّه الحرام، و من أراده هلك.

قال: ويحكم و ما المخرج ممّا دخلت فيه؟

قالوا: تحدّث نفسك بأن تطوف به، و تكسوه، و تهدي له. فحدّث نفسه بذلك، فأطلقه اللّه. ثمّ سار حتّى دخل مكّة، فطاف بالبيت، و سعى بين الصفا و المروة، و كسا البيت.

و ذكر الحديث في نحره بمكّة، و إطعامه الناس، ثمّ رجوعه إلى اليمن، و قتله، و خروج ابنه إلى قيصر، و استغاثته به فيما فعل قومه بأبيه، و أنّ قيصر كتب له إلى النجاشيّ، و أنّ النجاشي بعث له ستّين ألفا، و استعمل عليهم روزبه حتّى قاتلوا حمير قتلة أبيه، و دخلوا صنعاء فملكوها و ملكوا

اليمن.

و كان في أصحاب روزبه رجل يقال له: أبرهة، و هو أبو يكسوم. فقال لروزبه: أنا أولى بهذا الأمر منك، و قتله مكرا، و أرضى النجاشيّ.

ثمّ إنّه بنى كنيسة بصنعاء، و سمّاه القلّيس، و جعل فيها قبابا من ذهب، و أمر أهل مملكته بالحجّ إليها، يضاهي «1» بذلك البيت الحرام، و أراد أن يصرف إليها الحاجّ. و إنّ رجلا من بني كنانة خرج حتّى قدم اليمن، فنظر إليها ثمّ قعد فيها ليلا، يعني: لحاجة الإنسان. فدخلها أبرهة فوجد تلك العذرة فيها، فقال: من اجترأ عليّ بهذا، و نصرانيّتي لأهدمنّ ذلك البيت حتّى لا يحجّه حاجّ أبدا. و قيل: أجّجت رفقة

______________________________

(1) أي: يشابه و يشاكل.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 516

من العرب نارا، فحملتها الريح فأحرقتها. فحلف: ليهدمنّ الكعبة. فخرج و معه فيل اسمه: محمود، و كان قويّا عظيما، و اثنا عشر فيلا غيره. و قيل: ثمانية. و قيل: كان معه ألف فيل. و كان وحده، و أذّن في قومه بالخروج و من اتّبعه من أهل اليمن، و كان أكثر من اتّبعه منهم عكّ و الأشعرون و خثعم.

قال: ثمّ خرج يسير حتّى إذا كان ببعض طريقه بعث رجلا من بني سليم ليدعو الناس إلى حجّ بيته الّذي بناه، فتلقّاه رجل من الحمس «1» من بني كنانة فقتله.

فازداد بذلك حنقا، و حثّ السير و الانطلاق، و طلب من أهل الطائف دليلا، فبعثوا معه رجلا من هذيل يقال له: نفيل، فخرج بهم يهديهم حتّى إذا كانوا بالمغمس نزلوه، و هو من مكّة على ستّة أميال، فبعثوا مقدّماتهم إلى مكّة. فخرجت قريش عباديد «2» في رؤوس الجبال، و قالوا: لا طاقة لنا بقتال هؤلاء القوم. و لم يبق بمكّة غير عبد

المطّلب بن هاشم، أقام على سقايته، و غير شيبة بن عثمان بن عبد الدار، أقام على حجابة البيت. فجعل عبد المطّلب يأخذ بعضادتي الباب ثمّ يقول:

لا همّ إنّ المرءيمنع رحله فامنع حلالك «3»

لا يغلبنّ صليبهم و محالهم «4» عدوا محالك

إن كنت تاركهم و كعبتنافأمر ما بدا لك

يا ربّ لا أرجو لهم سواكايا ربّ فامنع منهم حماكا

ثمّ إنّ مقدّمات أبرهة أصابت نعما لقريش، فأصابت فيها مائتي بعير لعبد المطّلب بن هاشم. فلمّا بلغه ذلك خرج حتّى انتهى إلى القوم، و كان حاجب

______________________________

(1) الحمس جمع الأحمس، و هو المشتدّ الصلب في القتال، و الشجاع.

(2) أي: خرجوا متفرّقين. و العباديد الفرق من الناس.

(3) أي: سكّان حرمك الّذين حلّوا فيه.

(4) المحال: الكيد، المكر، الشدّة و القوّة.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 517

أبرهة رجلا من الأشعرين، و كانت له بعبد المطّلب معرفة، فاستأذن له على الملك، و قال له: أيّها الملك جاءك سيّد قريش الّذي يطعم إنسها في الحيّ، و وحوشها في الجبل. فقال: ائذن له. و كان عبد المطّلب رجلا جسيما جميلا، فلمّا رآه أبو يكسوم أعظمه أن يجلسه تحته، و كره أن يجلسه معه على سريره، فنزل من سريره فجلس على الأرض، و أجلس عبد المطّلب معه. ثمّ قال: ما حاجتك؟

قال: حاجتي مائتا بعير لي أصابتها مقدّمتك.

فقال أبو يكسوم: و اللّه لقد رأيتك فأعجبتني، ثمّ تكلّمت فزهدت فيك.

فقال: و لم أيّها الملك؟

قال: لأنّي جئت إلى بيت عزّكم و منعتكم من العرب، و فضلكم في الناس، و عصمتكم و شرفكم عليهم، و دينكم الّذي تعبدون، فجئت لأكسره، و أصيبت لك مائتا بعير، فسألتك عن حاجتك، فكلّمتني في إبلك، و لم تطلب إليّ في بيتكم.

فقال له عبد المطّلب:

أيّها الملك أنا أكلّمك في مالي، و لهذا البيت ربّ هو يمنعه، لست أنا منه في شي ء.

فراع ذلك أبا يكسوم، و أمر بردّ إبل عبد المطّلب عليه. ثمّ رجع، و أمست ليلتهم تلك ليلة كالحة «1» نجومها، كأنّها تكلمهم «2»، لاقترابها منهم، فأحسّت نفوسهم بالعذاب. و خرج دليلهم حتّى دخل الحرم و تركهم. و قام الأشعرون و خثعم فكسروا رماحهم و سيوفهم، و برئوا إلى اللّه أن يعينوا على هدم البيت، فباتوا كذلك أخبث ليلة. ثمّ أدلجوا «3» بسحر، فبعثوا فيلهم و قدّموه يريدون أن يصبحوا بمكّة،

______________________________

(1) أي: مستترة في الغمامة، مطموسا ضوءها. و هو استعارة تمثيليّة مركّبة، يصف ليلتهم تلك و بؤسها بوجه كالح، أي عبوس، كأنّ نجوم الليل من شدّة الدواهي كالحة.

(2) أي: تجرحهم. من: كلم الرجل: جرحه.

(3) أدلج القوم: ساروا الليل كلّه، أو في آخره.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 518

فوجّهوه إلى مكّة، فكانوا كلّما وجّهوه إلى الحرم برك «1»، فضربوه فتمرّغ و لم يبرح.

ثمّ إنّهم أقبلوا على الفيل فقالوا: لك اللّه أن لا نوجّهك إلى مكّة. فانبعث، فوجّهوه إلى اليمن راجعا، فتوجّه يهرول، فعطفوه حين رأوه منطلقا حتّى إذا ردّوه إلى مكانه الأوّل ربض «2»، فلمّا رأوا ذلك عادوا إلى القسم. فلم يزالوا كذلك يعالجونه حتّى إذا كان مع طلوع الشمس طلعت عليهم الطير معها الحجارة من جانب اليمن. فالتفت إليها عبد المطّلب و هو يدعو عليهم، فقال: و اللّه إنّها لطير غريبة، ما هي بنجديّة و لا تهاميّة. فجعلت ترميهم، و كلّ طائر في منقاره حجر، و في رجليه حجران، و إذا رمت بذلك مضت و طلعت اخرى، فلا يقع حجر من حجارتهم تلك على بطن إلّا خرقه، و لا عظم إلّا

أوهاه و ثقبه.

و ثاب «3» أبو يكسوم راجعا قد أصابته بعض الحجارة، فجعل كلّما قدم أرضا انقطع له فيها إرب «4»، حتّى إذا انتهى إلى اليمن لم يبق شي ء إلّا أباده. فلمّا قدمها تصدّع صدره و انشقّ بطنه، فهلك. و لم يصب من خثعم و الأشعرين أحد.

قال: و كان عبد المطّلب يرتجز و يدعو على الحبشة، يقول:

يا ربّ لا أرجو لهم سواكايا ربّ فامنع منهم حماكا

إنّ عدوّ البيت من عاداكاإنّهم لن يقهروا قواكا

قال: و لم تصب تلك الحجارة أحدا إلّا هلك.

و

روى العيّاشي بإسناده عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «أرسل

______________________________

(1) برك البعير استناخ، و هو: أن يلصق صدره بالأرض. تمرّغ الحيوان: رشّ اللعاب من فيه.

و تمرّغ في التراب: تقلّب.

(2) ربضت الدابّة: بمعنى: بركت الإبل.

(3) ثاب ثوبا: عاد.

(4) الإرب: العضو. و جمعه: آراب. زبدة التفاسير، ج 7، ص: 519

اللّه على أصحاب الفيل طيرا مثل الخطّاف أو نحوه، في منقاره حجر مثل العدسة».

مخطّطة بحمرة كالجزع «1» الظفاري. و قيل: كانت أكبر من العدسة، و أصغر من الحمّصة.

و قال عبد اللّه بن مسعود: صاحت الطير فرمتهم بالحجارة، فبعث اللّه ريحا فضربت الحجارة فزادتها شدّة، فما وقع منها حجر على رجل إلّا خرج من الجانب الآخر، و إن وقع على رأسه خرج من دبره، فلم يزل بهم حتّى أتت عليهم. قال:

فأفلت الرجل منهم، فجعل يخبر الناس بالقصّة، فبينا هو يخبرهم إذ أبصر طيرا منها، فقال: هذا هو منها. قال: فحاذى فطرحه على رأسه فخرج من دبره.

و قال عبيد بن عمير الليثي: لمّا أراد اللّه أن يهلك أصحاب الفيل، بعث عليهم طيرا نشأت من البحر كأنّها الخطاطيف «2»، كلّ طير منها معه ثلاثة

أحجار، ثمّ جاءت حتّى صفّت على رؤوسهم، ثمّ صاحت و ألقت ما في أرجلها و مناقيرها، فما من حجر وقع منها على رجل إلّا خرج من الجانب الآخر، و إن وقع على رأسه خرج من دبره، و إن وقع على شي ء من جسده خرج من الجانب الآخر.

و عن عكرمة عن ابن عبّاس، قال: دعا اللّه الطير الأبابيل فأعطاها حجارة سودا عليها الطين، فلمّا حاذت بهم رمتهم، فما بقي أحد منهم إلّا أخذته الحكّة، فكان لا يحكّ إنسان منه جلده إلّا تساقط لحمه. قال: و كانت الطير نشأت من قبل البحر، لها خراطيم الطيور و رؤوس السباع، لم تر قبل ذلك و لا بعده.

و عن ابن عبّاس: لها خراطيم كخراطيم الطير، و أكفّ كأكفّ الكلاب. و عن الربيع: لها أنياب كأنياب السباع. و قيل: طير خضر لها مناقير صفر. و قيل: طير سود

______________________________

(1) الجزع: خرز فيه سواد و بياض. و ظفار مدينة ببلاد عمان.

(2) الخطاطيف جمع الخطّاف: طائر يشبه السنونو، طويل الجناحين، قصير الرجلين، أسود اللون.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 520

بحريّة، تحمل في مناقيرها و أكفّها الحجارة.

و روي: أنّ عبد المطّلب قبل ظهور الطيور عرض على أبرهة ثلث أموال تهامة ليرجع، فأبى، فلمّا استأصلوا بحجارة الطيور احتوت أهل مكّة على أموالهم، و جمع عبد المطّلب من جواهرهم و ذهبهم الجورّ «1»- أي: المال الكثير استعارة- و كان سبب يساره.

و عن أبي سعيد الخدري أنّه سئل عن الطير، فقال: حمام مكّة منها. و قيل:

جاءت عشيّة ثمّ صبّحتهم.

و عن عكرمة: من أصابته جدّرته. و هو أوّل جدريّ ظهر.

و حكى اللّه سبحانه هذه القصّة إجمالا، تنبيها لقريش، و تهديدا لهم، فقال:

أَ لَمْ يَجْعَلْ كَيْدَهُمْ في تعطيل الكعبة و تخريبها فِي

تَضْلِيلٍ في تضييع و إبطال.

يقال: ضلّل كيده إذا جعله ضالّا ضائعا. و نحوه قوله تعالى: وَ ما كَيْدُ الْكافِرِينَ إِلَّا فِي ضَلالٍ «2». و قيل لامرئ القيس: الملك الضليل، لأنّه ضلّل ملك أبيه، أي: ضيّعه.

يعني: أنّهم كادوا البيت أوّلا ببناء القلّيس، و أرادوا أن ينسخوا أمره بصرف وجوه الحاجّ إليه، فضلّل كيدهم بإيقاع الحريق فيه، و كادوه ثانيا بإرادة هدمه، فضلّل بإرسال الطير عليهم، كما قال:

وَ أَرْسَلَ عَلَيْهِمْ طَيْراً أَبابِيلَ جماعات. جمع إبالة، و هي الحزمة الكبيرة.

شبّهت بها الجماعة من الطير في تضامّها. و قيل: لا واحد لها، كعباديد «3» و شماطيط.

تَرْمِيهِمْ بِحِجارَةٍ مِنْ سِجِّيلٍ من طين مطبوخ متحجّر، كما يطبخ الآجرّ.

معرّب سنك كل. و قيل: من السّجل، و هو الدلو الكبير. أو الإسجال، و هو الإرسال.

______________________________

(1) الجورّ: الكثير الّذي جاوز الحدّ و العادة.

(2) غافر: 25.

(3) العباديد و الشماطيط: الفرق من الناس.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 521

أو من السجلّ. و معناه: من جملة العذاب المكتوب المدوّن. كأنّه علم للديوان الّذي كتب فيه عذاب الكفّار، كما أنّ سجّينا علم لديوان أعمالهم.

فَجَعَلَهُمْ كَعَصْفٍ مَأْكُولٍ كورق زرع وقع فيه الأكال، و هو أن يأكله الدود.

أو كتبن أكلته الدوابّ وراثته «1». أو أكل حبّه فبقي صفرا منه.

______________________________

(1) راث الفرس: مثل: تغوّط الرجل.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 523

(106) سورة قريش

اشارة

مكّيّة. و هي أربع آيات.

و

في حديث أبيّ: «من قرأها أعطي من الأجر عشر حسنات، بعدد من طاف بالكعبة و اعتكف بها».

و

روى العيّاشي بإسناده عن المفضّل بن صالح، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام، قال:

سمعته يقول: «لا تجمع بين سورتين في ركعة واحدة، إلّا الضحى و ألم نشرح، و ألم تر كيف و لإيلاف قريش».

و

عن أبي العبّاس عن أحدهما عليهما السّلام قال: «ألم تر كيف

فعل ربّك، و لإيلاف قريش سورة واحدة».

و

روي: أنّ أبيّ بن كعب لم يفصل بينهما في مصحفه.

و قال عمرو بن ميمون الأزدي: صلّيت المغرب خلف عمر بن الخطّاب، فقرأ في الأولى و التين و الزيتون، و في الثانية ألم تر كيف و لإيلاف قريش.

[سورة قريش (106): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

لِإِيلافِ قُرَيْشٍ (1) إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَ الصَّيْفِ (2) فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ (3) الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ (4)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 524

و لمّا ذكر سبحانه عظيم نعمته على أهل مكّة بما صنعه بأصحاب الفيل، قال عقيب ذلك:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* لِإِيلافِ قُرَيْشٍ متعلّق بقوله: «فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ». و الفاء لما في الكلام من معنى الشرط، إذ المعنى: أنّ نعم اللّه عليهم لا تحصى، فإن لم يعبدوه لسائر نعمه فليعبدوه لأجل إِيلافِهِمْ رِحْلَةَ الشِّتاءِ وَ الصَّيْفِ أي: الرحلة في الشتاء إلى اليمن- لأنّها بلدة حارّة- و في الصيف إلى الشام، لأنّها بلدة باردة، فيمتارون و يتّجرون. و كانوا في رحلتيهم آمنين، لأنّهم أهل حرم اللّه و ولاة بيته، فلا يتعرّض لهم، و غيرهم يتخطّفون و يغار عليهم.

أو بمحذوف «1»، مثل: اعجبوا. أو بما قبله، كالتضمين في الشعر، و هو أن يتعلّق معنى البيت بالّذي قبله تعلّقا لا يصحّ إلّا به. و المعنى: فجعلهم كعصف مأكول لإيلاف قريش. و يؤيّده أنّهما في مصحف أبيّ سورة واحدة.

و المعنى: أنّه أهلك الحبشة الّذين قصدوهم ليتسامع الناس بذلك، فيتهيّبوهم زيادة تهيّب، و يحترموهم فضل احترام، حتّى ينتظم لهم الأمن في رحلتيهم، فلا يجترئ أحد عليهم.

و الإيلاف من قولهم: آلفت المكان أولفه إيلافا إذا ألفته، فأنا مؤلف.

و قريش ولد النضر بن كنانة. منقول من تصغير قرش، و هو

دابّة عظيمة في البحر تعبث بالسفن، فلا تطاق إلّا بالنار. فشبّهوا بها، لأنّها تأكل و لا تؤكل، و تعلو و لا تعلى.

و عن معاوية: أنّه سأل ابن عبّاس لم سمّيت قريش؟ قال: لدابّة تكون في البحر من أعظم دوابّه، يقال لها: قريش، لا تمرّ بشي ء من الغثّ و السمين إلّا أكلته.

و صغّر الاسم للتعظيم.

______________________________

(1) عطف على قوله: متعلّق بقوله ...، في بداية الفقرة السابقة.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 525

و قيل: من القرش، و هو الكسب، لأنّهم كانوا كسّابين بتجاراتهم و ضربهم في البلاد، و لم يكونوا أصحاب ضرع و لا زرع.

و أطلق الإيلاف ثمّ أبدل المقيّد عنه، تفخيما لأمر الإيلاف، و تذكيرا بعظيم النعمة فيه. و قرأ ابن عامر: لإلاف، بغير ياء بعد الهمزة. و نصب «رحلة» بأنّه مفعول به ل «إيلافهم»، كما نصب «يتيما» ب «إطعام» «1».

و روي: أنّ أوّل من حمل الميرة «2» من الشام، و رحّل إليها الإبل، هاشم بن عبد مناف.

فَلْيَعْبُدُوا رَبَّ هذَا الْبَيْتِ الَّذِي أَطْعَمَهُمْ مِنْ جُوعٍ بالرحلتين. و التنكير للتعظيم، أي: أطعمهم بالرحلتين: من جوع شديد كانوا فيه قبلهما، حتّى كانوا يأكلون فيه الجيف و العظام المحرقة و الأرواث وَ آمَنَهُمْ مِنْ خَوْفٍ خوف أصحاب الفيل. أو خوف التخطّف في بلدهم و مسايرهم. و قيل: خوف الجذام، فلا يصيبهم ببلدهم. و قيل: كلّ ذلك بدعاء إبراهيم على نبيّنا و عليه السّلام.

______________________________

(1) البلد: 14- 15.

(2) الميرة: الطعام الّذي يدّخره الإنسان.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 527

(107) سورة أ رأيت

اشارة

و تسمّى سورة الماعون. مكّيّة، مختلف فيها. و هي سبع آيات.

و

في حديث أبيّ: «من قرأ هذه السورة غفر اللّه له إن كان للزكاة مؤدّيا».

عمرو بن ثابت عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من قرأ «أ رأيت الّذي

يكذّب بالدين» في فرائضه و نوافله قبل اللّه صلاته و صيامه، و لم يحاسبه بما كان منه في الحياة الدنيا».

[سورة الماعون (107): الآيات 1 الى 7]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

أَ رَأَيْتَ الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ (1) فَذلِكَ الَّذِي يَدُعُّ الْيَتِيمَ (2) وَ لا يَحُضُّ عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ (3) فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ (4)

الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ (5) الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ (6) وَ يَمْنَعُونَ الْماعُونَ (7)

و لمّا ذكر سبحانه نعمته على قريش، عجّب في هذه السورة من تكذيبهم مع عظيم النعمة عليهم، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* أَ رَأَيْتَ استفهام في معنى التعجّب، أي: هل عرفت الَّذِي يُكَذِّبُ بِالدِّينِ بالجزاء أو الإسلام من هو؟ إن لم تعرفه فَذلِكَ الَّذِي

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 528

يَدُعُّ الْيَتِيمَ يدفعه دفعا عنيفا بجفوة و أذى، و يردّه ردّا قبيحا بزجر و خشونة. و هو أبو جهل، كان وصيّا ليتيم فجاءه عريانا يسأله من مال نفسه فدفعه. أو أبو سفيان، نحر جزورا فسأله يتيم لحما فقرعه بعصاه. أو الوليد بن المغيرة. أو منافق بخيل.

وَ لا يَحُضُ و لا يبعث أهله و غيرهم عَلى طَعامِ الْمِسْكِينِ على بذله، لعدم اعتقاده بالجزاء، و لذلك رتّب الجملة على تكذيب الجزاء بالفاء. يعني: أنّه لو آمن بالجزاء و أيقن بالوعيد لخشى اللّه و عقابه، و لم يقدم على ذلك، فحين أقدم عليه علم أنّه مكذّب.

ثمّ وصل به قوله: فَوَيْلٌ لِلْمُصَلِّينَ كأنّه قال: إذا كان الأمر كذلك فويل للمصلّين الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ أي: تاركوها مع أنّها عماد الدين، لقلّة مبالاتهم بها حتّى تفوتهم. أو لا يصلّونها كما صلّاها رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، بل ينقرونها نقرا من غير حفظ أركانها و شرائطها و آدابها، من خشوع و إخبات.

و

قيل: يريد المنافقين الّذين لا يرجون لها ثوابا إن صلّوا، و لا يخافون عليها عقابا إن تركوا، فهم عنها غافلون حتّى يذهب وقتها، فإذا كانوا مع المؤمنين صلّوها رياء، و إذا لم يكونوا معهم لم يصلّوا.

و

عن أبي أسامة، عن زيد الشحّام قال: سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام عن قول اللّه تعالى: «الَّذِينَ هُمْ عَنْ صَلاتِهِمْ ساهُونَ». قال: «هو الترك لها، و التواني عنها».

و

عن محمد بن الفضيل عن أبي الحسن عليه السّلام قال: «هو التضييع لها».

الَّذِينَ هُمْ يُراؤُنَ الناس أعمالهم ليروهم الثناء عليها، فإنّ المراآة مفاعلة من الإراءة، و المرائي يري الناس عمله، و هم يرونه الثناء عليه و الإعجاب به. و عن بعضهم: أنّه رأى رجلا في المسجد قد سجد سجدة الشكر و أطالها، فقال: ما أحسن هذا لو كان في بيتك. و إنّما قال هذا لأنّه توسّم فيه الرياء و السمعة. على أنّ اجتناب الرياء صعب إلّا على المرتاضين بالإخلاص. و من ثمّ

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «الرياء

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 529

أخفى من دبيب النملة السوداء في الليلة المظلمة على المسح «1» الأسود».

وَ يَمْنَعُونَ الْماعُونَ الزكاة. أو ما يتعاوره الناس بينهم في العادة، من الفأس و القدر و الدلو و المقدحة، و نحوها من ماء و نار و ملح. و روي ذلك مرفوعا.

و قد يكون منع هذه الأشياء محظورا في الشريعة إذا استعيرت عن اضطرار، و قبيحا في المروءة في غير حال الضرورة. و الحاصل أنّ الفاء جزائيّة.

و المعنى: إذا كان عدم المبالاة باليتيم من ضعف الدين، و الموجب للذمّ و التوبيخ، فالسهو عن الصلاة الّتي هي عماد الدين، و الرياء الّذي هو شعبة من الكفر، و

منع الزكاة الّتي هي قنطرة الإسلام، أحقّ بذلك. و لذلك رتّب عليها الويل.

و قيل: المعنى: فويل لهم. فوضع صفتهم موضع ضميرهم، لأنّهم كانوا مع التكذيب و ما أضيف إليهم ساهين عن الصلاة مرائين، غير مزكّين أموالهم. و على هذا؛ إنّما جمع الضمير لأنّ المراد بالموصول الجنس.

و الفرق بين «عن صلاتهم» و «في صلاتهم»: أنّ معنى «عن» أنّهم ساهون عنها سهو ترك لها و قلّة التفات إليها، و ذلك فعل الكفّار و المنافقين أو الفسقة من المسلمين. و معنى «في» أنّ السهو يعتريهم فيها بوسوسة الشيطان، و ذلك لا يكاد يخلو منه مسلم، و من ثمّ أثبت الفقهاء باب سجود السهو في كتبهم. و عن أنس:

الحمد للّه على أن لم يقل: في صلاتهم.

و اعلم أنّ المكلّف لا يكون مرائيا بإظهار العمل الصالح إن كان فريضة. فمن حقّ الفرائض الإعلان بها و تشهيرها،

لقوله عليه السّلام: «و لا غمّة «2» في فرائض اللّه»

لأنّها إعلام الإسلام و شعائر الدين، و لأنّ تاركها يستحقّ الذمّ و المقت، فوجب إماطة التهمة بالإظهار. و إن كان تطوّعا فحقّه أن يخفى، لأنّه ممّا لا يلام بتركه و لا تهمة فيه، فإن أظهره قاصدا للاقتداء به كان جميلا، و إنّما الرياء أن يقصد بالإظهار أن تراه الأعين فيثنى عليه بالصلاح. و كذلك البحث في الزكاة.

______________________________

(1) المسح: البلاس يقعد عليه، و الكساء من شعر.

(2) أي: لا ستر و لا و إخفاء.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 531

(108) سورة الكوثر

اشارة

مختلف فيها. و هي ثلاث آيات بالإجماع.

في حديث أبيّ: «من قرأها سقاه اللّه من أنهار الجنّة، و أعطي من الأجر بعدد كلّ قربان قرّبه العباد في يوم عيد و يقرّبون، من أهل الكتاب و المشركين».

أبو بصير عن أبي عبد اللّه

عليه السّلام قال: «من قرأ «إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ» في فرائضه و نوافله، سقاه اللّه يوم القيامة من الكوثر، و كان محدّثه عند محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في أصل طوبى».

[سورة الكوثر (108): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ (1) فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ (2) إِنَّ شانِئَكَ هُوَ الْأَبْتَرُ (3)

و لمّا ذكر سبحانه في سورة الماعون تاركي الصلاة و مانعي الزكاة، ذكر في هذه السورة الحافظين على الصلاة بشرائطها، و المعطين للزكاة، فتكون مقابلة للسورة المتقدّمة، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* إِنَّا أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ الخير المفرط الكثرة بحيث

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 532

لا غاية لكثرته، من خير الدارين الّذي لم يعطه أحد غيرك. فاجتمعت لك الغبطتان السنيّتان على الوجه الأكمل الأتمّ، فإنّ زنة فوعل موضوعة للمبالغة جدّا.

و قيل: الكوثر نهر في الجنّة. و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه قرأها حين أنزلت عليه فقال: «أ تدرون ما الكوثر؟ إنّه نهر في الجنّة و وعدنيه ربّي، فيه خير كثير». ثمّ قال في صفته: «أحلى من العسل، و أشدّ بياضا من اللبن، و أبرد من الثلج، و ألين من الزبد، حافّتاه الزبرجد، و أوانيه من فضّة، عدد نجوم السماء. لا يظمأ من شرب منه أبدا. أوّل وارديه فقراء المهاجرين، الدنسوا الثياب، الشعث الرؤوس، الّذين لا يزوّجون المنعّمات، و لا تفتح لهم أبواب السدد، يموت أحدهم و حاجته تتلجلج في صدره، لو أقسم على اللّه لأبّره». أي: لو سأل اللّه أجابه.

و

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «نهر في الجنّة أعطاه اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عوضا من ابنه».

و

روى مسلم في الصحيح عن أنس: «بينا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و

آله و سلّم ذات يوم بين أظهرنا إذ أغفى «1» إغفاء، ثمّ رفع رأسه متبسّما. فقلت: ما أضحكك يا رسول اللّه؟

قال: أنزلت عليّ آنفا سورة. فقرأ الكوثر، ثمّ قال: أ تدرون ما الكوثر؟ قلنا: اللّه و رسوله أعلم. قال: فإنّه نهر و وعدنيه عليه ربّي خيرا كثيرا، هو حوضي ترد عليه أمّتي يوم القيامة، آنيته عدد نجوم السماء. فيختلج «2» القرن منهم، فأقول: يا ربّ إنّهم من أمّتي. فقال: إنّك لا تدري ما أحدثوا بعدك» «3».

و عن عكرمة: الكوثر النبوّة و القرآن. و قيل: كثرة الأصحاب و الأشياع.

و قيل: هو الشفاعة.

______________________________

(1) أي: نعس و نام نومة خفيفة.

(2) أي: يجتذب و ينتزع. و القرن: الجماعة و الأمّة.

(3) صحيح مسلم 1: 300 ح 53.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 533

و عن ابن عبّاس: أنّه فسّر الكوثر بالخير الكثير. فقال له سعيد بن جبير: إنّ ناسا يقولون: هو نهر في الجنّة. فقال: هو من الخير الكثير.

و قيل: كثرة ذرّيّته من ولد فاطمة عليها السّلام حتّى لا يحصى عددهم. و يؤيّده ما روي عن ابن عبّاس: أنّها نزلت في العاص بن وائل السهمي. و ذلك أنّه رأى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يخرج من المسجد، فالتقيا عند باب بني سهم و تحدّثا، و أناس من صناديد قريش جلوس في المسجد، فلمّا دخل العاص قالوا من الّذي كنت تحدّث؟ قال:

ذلك الأبتر. و كان قد توفّي قبل ذلك عبد اللّه ابن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و هو من خديجة، و كانوا يسمّون من ليس له ابن ابتر، فسمّته قريش عند موت ابنه أبتر و صنبورا، و هو الّذي لا عقب له. و اللفظ محتمل

للكلّ، فيجب أن يحمل على جميع ما ذكر من الأقوال.

فَصَلِّ لِرَبِّكَ فدم على الصلاة خالصا لوجه اللّه الّذي أعزّك بإعطائه إيّاك الخير الكثير في الدارين، و صانك من منن الخلق، خلاف الساهي عنها المرائي فيها، شكرا لإنعامه، فإنّ الصلاة جامعة لأقسام الشكر وَ انْحَرْ البدن الّتي هي خيار الأموال، و تصدّق على المحاويج للّه تعالى، خلافا لهم في النحر للأوثان، و لمن يدعهم و يمنع عنهم الماعون.

و عن عطيّة: صلاة الفجر بجمع، و النحر بمنى. عن عطاء و عكرمة و قتادة:

صلاة العيد و النحر بمنى. و الأولى أن يكون جنس الصلاة و النحر.

و قيل: معناه: صلّ لربّك الصلاة المكتوبة، و استقبل القبلة بنحرك. و تقول العرب: منازلنا تتناحر، أي: هذا ينحر هذا، يعني: يستقبله.

و ما

روى العامّة عن عليّ عليه السّلام أنّ معناه: ضع يدك اليمنى على اليسرى حذاء النحر في الصلاة.

فممّا لا يصحّ عنه، لأنّ جميع عترته الطاهرة قد رووه عنه بخلاف ذلك، و هو أنّ معناه: ارفع يديك إلى النحر في الصلاة.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 534

و

عن عمر بن يزيد قال: «سمعت أبا عبد اللّه عليه السّلام يقول في قوله: «فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ» هو رفع يديك حذاء وجهك». و روى عنه عبد اللّه بن سنان مثله.

و

عن جميل قال: «قلت لأبي عبد اللّه عليه السّلام «فَصَلِّ لِرَبِّكَ وَ انْحَرْ». فقال: أشار بيده هكذا، يعني: استقبل بيديه حذو وجهه القبلة في افتتاح الصلاة».

و

عن حمّاد بن عثمان قال: «سألت أبا عبد اللّه عليه السّلام: ما النحر؟ فرفع يده إلى صدره فقال: هكذا، ثمّ رفعها فوق ذلك فقال: هكذا. يعني: استقبل بيديه القبلة في افتتاح الصلاة».

و

روي عن مقاتل بن حيّان، عن الأصبغ بن نباتة، عن أمير المؤمنين عليه

السّلام أنّه قال: «لمّا نزلت هذه السورة قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم لجبرئيل: ما هذه النحيرة الّتي أمرني بها ربّي؟ قال: ليست بنحيرة، و لكنّه يأمرك إذا تحرّمت للصلاة أن ترفع يديك إذا كبّرت، و إذا ركعت، و إذا رفعت رأسك من الركوع، و إذا سجدت، فإنّ صلاتنا و صلاة الملائكة في السماوات السبع هكذا، و إنّ لكلّ شي ء زينة، و إنّ زينة الصلاة رفع الأيدي عند كلّ تكبيرة».

و

قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «رفع الأيدي من الاستكانة. قلت: و ما الاستكانة؟ قال:

ألا تقرأ هذه الآية فَمَا اسْتَكانُوا لِرَبِّهِمْ وَ ما يَتَضَرَّعُونَ «1». أورده الثعلبي و الواحدي «2» في تفسيريهما.

إِنَّ شانِئَكَ إنّ من أبغضك من قومك لمخالفتك لهم هُوَ الْأَبْتَرُ الّذي لا عقب له و لا له عاقبة خير، إذ لا يبقى له نسل و لا حسن ذكر، و أمّا أنت فتبقى ذرّيّتك الطيّبة، و حسن صيتك على المنائر و المنابر، و على لسان كلّ عالم و ذاكر إلى آخر الدهر، يبدأ بذكر اللّه و يثنّى بذكرك، و لك في الآخرة ما لا يدخل تحت

______________________________

(1) المؤمنون: 76.

(2) الوسيط 4: 562.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 535

الوصف، فمثلك لا يقال له: أبتر، إنّما الأبتر هو شانئك المنسيّ في الدنيا و الآخرة، و إن ذكر ذكر باللعن.

و في هذه السورة دلالات على صدق نبيّنا صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و صحّة نبوّته:

أحدها: أنّه أخبر عمّا في نفوس أعدائه من أنّ محمّدا ليس له عقب، فيموت عن قريب، و نستريح منه، و يدرس دينه، و ينقطع أمره. و لم يكن بلغه ذلك، فكان مطابقا لما أخبر.

و ثانيها: أنّه قال: «أَعْطَيْناكَ الْكَوْثَرَ».

فانظر كيف انتشر دينه، و علا أمره، و كثرت ذرّيّته، حتّى صار نسبه أكثر من كلّ نسب، و لم يكن شي ء من ذلك في تلك الحال.

و ثالثها: أنّ جميع فصحاء العرب و العجم قد عجزوا عن الإتيان بمثل هذه السورة على وجازة ألفاظها، مع تحدّيه إيّاهم بذلك، و حرصهم على بطلان أمره منذ بعث صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى يوم الناس هذا، و هذا غاية الإعجاز.

و رابعها: أنّه سبحانه وعده بالنصر على أعدائه، و أخبره بسقوط أمرهم، و انقطاع دينهم و أعقابهم، فكان المخبر على ما أخبر به.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 537

(109) سورة الكافرون

اشارة

مختلف فيها. و هي ستّ آيات بالإجماع.

في حديث أبيّ: «و من قرأ «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» فكأنّما قرأ ربع القرآن، و تباعدت عنه مردة الشياطين، و برى ء من الشرك، و يعافى من الفزع الأكبر».

و

عن جبير بن مطعم قال: «قال لي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: أ تحبّ يا جبير أن تكون إذا خرجت سفرا من أمثل أصحابك هيئة و أكثرهم زادا؟ قلت: نعم، بأبي أنت و أمّي يا رسول اللّه. قال: فاقرأ هذه السور الخمس: «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» و «إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ» و «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» و «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ»، و «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ».

فافتتح قراءتك ب «بسم الله الرحمن الرحيم». قال جبير: و كنت غير كثير المال، و كنت أخرج مع من شاء اللّه أن أخرج، فأكون أكبرهم همّة و أمثلهم زادا حتّى أرجع من سفري ذلك.

و

عن فروة بن نوفل الأشجعيّ، عن أبيه، أنّه أتى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: «جئت يا رسول اللّه لتعلّمني شيئا أقوله

عند منامي. قال: إذا أخذت مضجعك فاقرأ «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» ثمّ نم على خاتمتها، فإنّها براءة من الشرك».

شعيب الحدّاد، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «كان أبي يقول: «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» ربع القرآن. و كان إذا فرغ منها قال: أعبد اللّه وحده، أعبد اللّه وحده».

و

عن هشام بن سالم، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا قلت: «لا أَعْبُدُ ما

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 538

تَعْبُدُونَ»» فقل: و لكنّي أعبد اللّه مخلصا له ديني. فإذا فرغت منها فقل: ديني الإسلام، ثلاث مرّات».

و

عن الحسين بن أبي العلاء قال: من «قرأ قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» و «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» في فريضة من الفرائض غفر اللّه له و لوالديه و ما ولدا، و إن كان شقيّا محي من ديوان الأشقياء، و كتب في ديوان السعداء، و أحياه اللّه سعيدا، و أماته شهيدا، و بعثه شهيدا».

[سورة الكافرون (109): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ (1) لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ (2) وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (3) وَ لا أَنا عابِدٌ ما عَبَدْتُّمْ (4)

وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ ما أَعْبُدُ (5) لَكُمْ دِينُكُمْ وَ لِيَ دِينِ (6)

و لمّا ذكر سبحانه في سورة الكوثر أنّ أعداءه عابوه بأنّه أبتر، فردّ عليهم ذلك، و ذكر في هذه السورة أنّهم سألوه المداهنة، فأمره بالبراءة منهم، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ يعني: كفرة مخصوصين، قد علم اللّه منهم أنّهم لا يؤمنون. فاللام للعهد. روي: أنّ رهطا من قريش قالوا: يا محمّد هلمّ فاتّبع ديننا و نتّبع دينك، تعبد آلهتنا سنة، و نعبد إلهك سنة. فقال: معاذ اللّه أن أشرك باللّه غيره. فقالوا: فاستلم بعض آلهتنا نصدّقك و نعبد إلهك.

فنزلت: «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ».

لا أَعْبُدُ ما تَعْبُدُونَ أي: فيما يستقبل، فإنّ «لا» لا تدخل إلّا على مضارع بمعنى الاستقبال، كما أنّ «ما» لا تدخل إلّا على مضارع بمعنى الحال. ألا ترى أنّ

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 539

«لن» تأكيد فيما ينفيه «لا». و قال الخليل في «لن» إنّ أصله: لا أن. فالمعنى: لا أفعل في المستقبل ما تطلبونه منّي من عبادة آلهتكم.

وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ فاعلون العبادة ما أَعْبُدُ ما أطلب منكم من عبادة إلهي، أي: فيما يستقبل، لأنّه في قران «لا أعبد».

وَ لا أَنا عابِدٌ و ما كنت قطّ عابدا فيما سلف ما عَبَدْتُّمْ يعني: لم تعهد منّي عبادة صنم في الجاهليّة، فكيف ترجى منّي عند فشوّ الإسلام؟! وَ لا أَنْتُمْ عابِدُونَ و ما أنتم عبدتم في وقت مّا ما أَعْبُدُ ما أنا على عبادته. و يجوز أن تكونا تأكيدين على طريقة أبلغ. و إنّما لم يقل: ما عبدت، ليطابق «ما عبدتم» لأنّهم كانوا موسومين قبل المبعث بعبادة الأصنام، و هو لم يكن حينئذ موسوما بعبادة اللّه. و إنّما قال «ما» دون «من» لأنّ المراد الصفة، كأنّه قال: لا أعبد الباطل، و لا تعبدون الحقّ. أو للمطابقة، فإنّ معبودهم من غير ذوي العقول.

و قيل: إنّها مصدريّة، أي: لا أعبد عبادتكم، و لا تعبدون عبادتي. و قيل: الأوليان بمعنى الّذي، و الأخريان مصدريّتان.

لَكُمْ دِينُكُمْ الّذي أنتم عليه لا تتركونه، من الإشراك وَ لِيَ دِينِ الّذي أنا عليه من التوحيد، لا أرفضه. يعني: أنّي نبيّ مبعوث إليكم لأدعوكم إلى الحقّ و النجاة، فإن لم تقبلوا منّي و لم تتّبعوني فاتركوني على ما أنا فيه من التوحيد، و لا تدعوني إلى الشرك. فليس فيه إذن في الكفر،

و لا منع عن الجهاد، ليكون منسوخا بآية «1» القتال. اللّهمّ إلّا إذا فسّر بالمتاركة و تقرير كلّ من الفريقين الآخر على دينه.

و قد فسّر الدين بالحساب و الجزاء و الدعاء و العبادة. و قرأ نافع و حفص و هشام بفتح الياء.

روي: أنّه لمّا نزلت هذه السورة غدا رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى المسجد الحرام، و فيه الملأ من قريش، فقام على رؤوسهم فقرأها عليهم، فأيسوا.

______________________________

(1) التوبة: 5 و 29.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 541

(110) سورة النصر

اشارة

مدنيّة. و هي ثلاث آيات بالإجماع.

في حديث أبيّ: «و من قرأها فكأنّما شهد مع محمد صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فتح مكّة».

و

روى كرام الخثعمي عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من قرأ «إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ» في نافلة أو فريضة نصره اللّه على جميع أعدائه، و جاء يوم القيامة و معه كتاب ينطق، قد أخرجه اللّه من جوف قبره، فيه أمان من حرّ جهنّم، و من النار، و من زفير جهنّم، يسمعه بأذنيه، فلا يمرّ على شي ء يوم القيامة إلّا بشّره، و أخبره بكلّ خير حتّى يدخل الجنّة».

[سورة النصر (110): الآيات 1 الى 3]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ وَ الْفَتْحُ (1) وَ رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ فِي دِينِ اللَّهِ أَفْواجاً (2) فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ وَ اسْتَغْفِرْهُ إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً (3)

و لمّا ختم اللّه سبحانه السورة المتقدّمة بذكر الدين، افتتح هذه السورة بظهور الدين، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ و إغاثته، أي: إظهاره إيّاك على

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 542

أعدائك. و منه: نصر اللّه الأرض، أغاثها. وَ الْفَتْحُ و فتح مكّة. و قيل: المراد جنس نصر اللّه المؤمنين، و فتح سائر بلاد الشرك عليهم. و إنّما عبّر عن الحصول بالمجي ء تجوّزا، للإشعار بأنّ المقدّرات متوجّهة من الأزل إلى أوقاتها المعيّنة لها، فيقرب المقدّر من الوقت شيئا فشيئا، و قد قرب النصر من وقته، فكن مترقّبا لوروده، مستعدّا لشكره. و الأكثر على القول الأوّل.

و

كان فتح مكّة لعشر مضين من شهر رمضان سنة ثمان، و مع رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم عشرة آلاف من المهاجرين و الأنصار و طوائف العرب، و أقام بها خمس عشرة ليلة.

ثمّ خرج إلى هوازن،

و هم أهل حنين، و حين دخلها وقف على باب الكعبة، ثمّ قال: لا إله إلّا اللّه، وحده لا شريك له، صدق وعده، و نصر عبده، و هزم الأحزاب وحده. ثمّ قال: يا أهل مكّة ما ترون أنّي فاعل بكم؟ قالوا: خيرا، أخ كريم و ابن أخ كريم. قال: اذهبوا فأنتم الطلقاء. فأعتقهم رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثمّ بايعوه على الإسلام.

و

عن ابن مسعود قال: دخل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يوم الفتح و حول البيت ثلاثمائة و ستّون صنما، فجعل يطعنها بعود في يده و يقول: جاء الحقّ و ما يبدئ الباطل و ما يعيد، جاء الحقّ و زهق الباطل إنّ الباطل كان زهوقا.

و

عن ابن عبّاس قال: لمّا قدم النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم إلى مكّة أبى أن يدخل البيت و فيه الآلهة، فأمر بها فأخرجت صورة إبراهيم و إسماعيل عليهما السّلام و في أيديهما الأزلام، فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: قاتلهم اللّه أما و اللّه لقد علموا أنّهما لم يستقسما بها قطّ.

وَ رَأَيْتَ النَّاسَ يَدْخُلُونَ حال على أنّ «رأيت» بمعنى: أبصرت. أو مفعول ثان على أنّه بمعنى: علمت. فِي دِينِ اللَّهِ في ملّة الإسلام الّتي لا دين له يضاف إليه غيرها، لقوله: وَ مَنْ يَبْتَغِ غَيْرَ الْإِسْلامِ دِيناً فَلَنْ يُقْبَلَ مِنْهُ «1» أَفْواجاً جماعات كثيفة، أي: كانت تدخل في الإسلام قبيلة بعد قبيلة، كأهل مكّة و الطائف

______________________________

(1) آل عمران: 85.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 543

و هوازن و سائر قبائل العرب، بعد ما كانوا يدخلون فيه واحدا واحدا و اثنين اثنين.

و

عن جابر بن عبد اللّه رضي اللّه عنه: أنّه بكى ذات

يوم، فقيل له. فقال: سمعت رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول: دخل الناس في دين اللّه أفواجا، و سيخرجون منه أفواجا.

و قيل: أراد بالناس أهل اليمن.

قال أبو هريرة: لمّا نزلت قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم:

«اللّه أكبر جاء نصر اللّه و الفتح، و جاء أهل اليمن، قوم رقيقة قلوبهم، الإيمان يمان، و الفقه يمان، و الحكمة يمانيّة». و قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أجد نفير ربّكم من قبل اليمن».

و

عن الحسن: لمّا فتح رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم مكّة أقبلت العرب بعضها على بعض فقالوا: أما إذ ظفر صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بأهل الحرم فليس به يدان، و قد كان اللّه أجارهم من أصحاب الفيل و عن كلّ من أرادهم، فكانوا يدخلون في الإسلام أفواجا من غير قتال.

و تفصيل قصّة فتح مكّة مذكور في سورة الفتح «1»، فلتطلب هناك.

فَسَبِّحْ بِحَمْدِ رَبِّكَ فتعجّب لتيسير اللّه ما لم يخطر ببالك و بال أحد من أن يغلب أحد على أهل الحرم، حامدا له عليه زيادة في عبادته و الثناء عليه، لزيادة إنعامه عليك. أو فصلّ له حامدا على نعمه.

روي: أنّه لمّا دخل مكّة بدأ بالمسجد، فدخل الكعبة و صلّى ثمان ركعات. أو فنزّهه عمّا كانت الظلمة يقولون فيه، حامدا له على أن صدق وعده. أو فأثن على اللّه بصفات الجلال، حامدا له على صفات الإكرام.

وَ اسْتَغْفِرْهُ هضما لنفسك، و استقصارا لعملك، و استدراكا لما فرط منك من الالتفات إلى غيره. و

عنه عليه السّلام: «إنّي لأستغفر اللّه في اليوم و الليلة مائة مرّة».

و قيل: استغفره لأمّتك. و تقديم التسبيح على الحمد، ثمّ

الحمد على الاستنفار، على طريقة النزول من الخالق إلى الخلق، كما قيل: ما رأيت شيئا إلّا و رأيت اللّه قبله.

إِنَّهُ كانَ تَوَّاباً لمن استغفره مذ خلق المكلّفين. و

روي: أنّه كان يكثر قبل

______________________________

(1) راجع ج 6 ص 371. زبدة التفاسير، ج 7، ص: 544

موته أن يقول: «سبحانك اللّهمّ و بحمدك، أستغفرك و أتوب إليك».

و قيل: الأمر بالاستغفار مع التسبيح تكميل للأمر بما هو قوام أمر الدين، من الجمع بين الطاعة و الاحتراس من ترك الأولى، و ليكون أمره بذلك مع عصمته لطفا لأمّته. و لأنّ الاستغفار من التواضع للّه و هضم النفس، فهو عبادة في نفسه.

و

عن أمّ سلمة قالت: «كان رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بالآخرة لا يقوم و لا يقعد و لا يجي ء و لا يذهب إلّا قال: سبحان اللّه و بحمده، أستغفر اللّه و أتوب إليه. فسألناه عن ذلك. فقال: إنّي أمرت بها، ثمّ قرأ «إِذا جاءَ نَصْرُ اللَّهِ».

و

روي: أنّه لمّا قرأها على أصحابه استبشروا، و بكى العبّاس. فقال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما يبكيك يا عمّ. قال: نعيت إليك نفسك. فقال: إنّه لكما تقول. فعاش بعدها سنتين لم ير فيهما ضاحكا مستبشرا.

و

قيل: إنّ ابن عبّاس هو الّذي قال ذلك، فقال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «لقد أوتي هذا الغلام علما كثيرا».

و

روي: أنّه لمّا نزلت خطب رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: «إنّ عبدا خيّره اللّه بين الدنيا و بين لقاء ربّه، فاختار لقاء اللّه».

و

عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم أنّه دعا فاطمة عليهما السّلام فقال: «يا بنتاه، إنّه نعيت إليّ نفسي.

فبكت. فقال: لا تبكي، فإنّك

أوّل أهلي لحوقا بي».

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 545

(111) سورة أبي لهب

اشارة

و تسمّى سورة المسد. مكّيّة. و هي خمس آيات بالإجماع.

في حديث أبيّ: «و من قرأها رجوت أن لا يجمع اللّه بينه و بين أبي لهب في دار واحدة».

و

عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «إذا قرأتم «تبّت» فادعوا على أبي لهب، فإنّه كان من المكذّبين بالنبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و بما جاء به من عند اللّه».

[سورة المسد (111): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

تَبَّتْ يَدا أَبِي لَهَبٍ وَ تَبَّ (1) ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ وَ ما كَسَبَ (2) سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ (3) وَ امْرَأَتُهُ حَمَّالَةَ الْحَطَبِ (4)

فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ (5)

و لمّا ذكر سبحانه في سورة النصر وعده بالنصر و الفتح، بيّن في هذه السورة ما كفاه اللّه من أمر أبي لهب، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* تَبَّتْ هلكت، أو خسرت. من التباب، و هو خسران يؤدّي إلى الهلاك. و منه قولهم: أ شابّة أم تابّة؟ أي: هالكة من الهرم. يَدا

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 546

أَبِي لَهَبٍ بن عبد المطّلب عمّ النبيّ. و المراد نفسه، كقوله: وَ لا تُلْقُوا بِأَيْدِيكُمْ إِلَى التَّهْلُكَةِ «1». و قيل: معناه: صفرت يداه من كلّ خير.

و إنّما خصّتا لما

روي أنّه عليه السّلام لمّا نزل عليه وَ أَنْذِرْ عَشِيرَتَكَ الْأَقْرَبِينَ «2» رقى الصفا و قال: «يا صباحاه، فاجتمع إليه الناس من كلّ أوب. فقال: يا بني عبد المطّلب، يا بني فهر، إن أخبرتكم أنّ بسفح هذا الجبل خيلا أ كنتم مصدّقيّ؟

قالوا: نعم. قال: فإنّي نذير بين يدي الساعة».

فقال أبو لهب: تبّا لك أ لهذا دعوتنا؟

و أخذ حجرا ليرميه، فنزلت. و قيل: المراد بهما دنياه و أخراه.

و إنّما كنّاه و التكنية تكرمة، لاشتهاره بكنيته دون اسمه، لحسنه و إشراق وجهه، و

كانت وجنتاه كأنّهما تلتهبان. أو لأنّ اسمه عبد العزّى، فاستكره ذكره. أو لأنّه لمّا كان من أصحاب النار كانت الكنية أوفق بحاله. أو ليجانس قوله: «ذات لهب». أو ليتهكّم به و بافتخاره بذلك. و قرأ ابن كثير بإسكان الهاء.

وَ تَبَ إخبار بعد إخبار. و التعبير بالماضي لتحقّق وقوعه، كقوله:

جزاني جزاه اللّه شرّ جزائه جزاء الكلاب العاويات و قد فعل

أو الأوّل إخبار عمّا كسبت يداه، و الثاني عن عمل نفسه.

روي: أنّه كان يقول: إن كان ما يقول ابن أخي حقّا فأنا أفتدي منه نفسي بمالي و ولدي. فردّ اللّه تعالى عليه ذلك القول بقوله: ما أَغْنى عَنْهُ مالُهُ إمّا نفي لإغناء المال عنه حين نزل به التباب، أو استفهام إنكار، و محلّها النصب وَ ما كَسَبَ موصولة أو مصدريّة، أي: و ما كسبه. يعني: مكسوبه أو و كسبه بماله، من النتائج و الأرباح، و الوجاهة و الأتباع و الخدم. أو عمله الّذي ظنّ أنّه ينفعه. أو ولده عتبة.

______________________________

(1) البقرة: 195.

(2) الشعراء: 214.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 547

و حكي: أنّ بني أبي لهب احتكموا إلى ابن عبّاس فاقتتلوا، فقام يحجز بينهم، فدفعه بعضهم فوقع، فغضب ابن عبّاس فقال: أخرجوا عنّي الكسب الخبيث. و منه:

قوله صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ أطيب ما يأكل الرجل من كسبه، و إنّ ولده من كسبه».

و قد افترس أسد عتبة في طريق الشام و قد أحدق به العير. و مات أبو لهب بالعدسة- و هي بثرة «1» تخرج بالإنسان- بعد وقعة بدر بأيّام معدودة، و ترك ثلاثا حتّى أنتن، ثمّ استأجروا بعض السودان حتّى دفنوه. فهو إخبار عن الغيب طابقه وقوعه.

سَيَصْلى ناراً ذاتَ لَهَبٍ اشتعال. يريد نار جهنّم. و في هذا

دلالة على صدق النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و صحّة نبوّته، لأنّه أخبر بأنّ أبا لهب يموت على كفره، و كان كما قال.

و قال صاحب المجمع: «و إذا قيل: هل كان يلزم أبا لهب الإيمان بعد هذه السورة؟ و هل كان يقدر على الإيمان؟ و لو آمن لكان فيه تكذيب خبر اللّه سبحانه بأنّه سيصلى نارا ذات لهب.

فالجواب: أنّ الإيمان يلزمه، لأنّ تكليف الإيمان ثابت عليه، و إنّما توعّده اللّه بشرط أن لا يؤمن. ألا ترى إلى قوله سبحانه في قصّة فرعون آلْآنَ وَ قَدْ عَصَيْتَ قَبْلُ «2». و في هذا دلالة على أنّه لو تاب قبل وقت اليأس لكان يقبل منه، و لهذا خصّ ردّ التوبة عليه بذلك الوقت. و أيضا فلو قدّرنا

أنّ أبا لهب سأل النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم فقال: لو آمنت هل أدخل النار؟ لكان عليه السّلام يقول له: لا، و ذلك لعدم الشرط» «3».

وَ امْرَأَتُهُ عطف على المستكن في «سيصلى» أي: سيصلاها هو و امرأته، و هي أمّ جميل بنت حرب أخت أبي سفيان حَمَّالَةَ الْحَطَبِ صفتها. و المراد

______________________________

(1) البثرة: خراج صغير، كالدمّلة.

(2) يونس: 91.

(3) مجمع البيان 10: 560.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 548

حطب جهنّم، فإنّها كانت تحمل الأوزار بمعاداة الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، و تحمل زوجها على إيذائه. أو حزمة الشوك، لما روي أنّها كانت تحمل حزمة من الشوك و الحسك «1» فتنثرها بالليل في طريق رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و قيل: كانت تمشي بالنميمة. و يقال للمشّاء بالنمائم المفسد بين الناس: يحمل الحطب بينهم، أي: يوقد بينهم نائرة الخصومة، و يورّث الشرّ.

و قرأ عاصم

بالنصب على الشتم. و هذه القراءة أحسن، لأنّها قد توسّل بها إلى رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بجميل: من أحبّ شتم أمّ جميل.

و يجوز أن يكون قوله: «امرأته» مرفوعا بالابتداء، و خبره فِي جِيدِها حَبْلٌ مِنْ مَسَدٍ أي: ممّا مسد، أي: فتل من الحبال فتلا شديدا، من ليف كان أو جلد، أو غيرهما. و منه: رجل ممسود الخلق، أي: مجدوله «2». و على الأوّل فالظرف موضع الحال. و هو تصوير لها بصورة الحطّابة الّتي تحمل الحزمة و تربطها في جيدها، تحقيرا لشأنها، أو بيانا لحالها في نار جهنّم، حيث يكون على ظهرها حزمة من حطب جهنّم من شجر الزقّوم و الضريع، و في جيدها سلسلة من النار، كما يعذّب كلّ مجرم بما يجانس حاله في جرمه.

و عن ابن عبّاس: في عنقها سلسلة من حديد طولها سبعون ذراعا، تدخل من فيها، و تخرج من دبرها، و تدار على عنقها في النار.

و

يروى عن أسماء بنت أبي بكر قالت: لمّا نزلت هذه السورة أقبلت العوراء أمّ جميل بنت حرب و لها ولولة، و في يدها فهر «3»، و النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم جالس في المسجد

______________________________

(1) الحسك: نبات شائك.

(2) يقال: رجل مجدول، أي: لطيف القصب محكم الفتل. و القصب جمع القصبة: الخصلة الملتوية من الشعر.

(3) الفهر: حجر رقيق تسحق به الأدوية. زبدة التفاسير، ج 7، ص: 549

و معه أبو بكر. فلمّا رآها أبو بكر قال: يا رسول اللّه قد أقبلت، و أنا أخاف أن تراك.

قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إنّها لن تراني، و قرأ قرآنا فاعتصم به، كما قال: وَ إِذا قَرَأْتَ الْقُرْآنَ جَعَلْنا بَيْنَكَ وَ بَيْنَ

الَّذِينَ لا يُؤْمِنُونَ بِالْآخِرَةِ حِجاباً مَسْتُوراً «1». فوقفت على أبي بكر، و لم تر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقالت: يا أبا بكر أخبرت أنّ صاحبك هجاني.

فقال: لا و ربّ الكعبة ما هجاك. قال: فولّت و هي تقول: قريش تعلم أنّي بنت سيّدها.

و

يروى أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «ما زال ملك يسترني عنها».

______________________________

(1) الإسراء: 45.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 551

(112) سورة الإخلاص

اشارة

مكّيّة. و قيل: مدنيّة. و سمّيت سورة الإخلاص، لأنّه ليس فيها إلّا التوحيد، و كلمة التوحيد تسمّى كلمة الإخلاص.

و قيل: إنّما سمّيت بذلك، لأنّ من تمسّك بما فيها اعتقادا و إقرارا كان مؤمنا مخلصا.

و قيل: لأنّ من قرأها على سبيل التعظيم أخلصه اللّه من النار، أي: أنجاه منها.

و تسمّى أيضا سورة الصّمد. و تسمّى أيضا بفاتحتها. و تسمّى أيضا نسبة الربّ. و

روي في الحديث: «لكلّ شي ء نسبة، و نسبة اللّه سورة الإخلاص».

و

في الحديث أيضا: «أنّه كان يقول لسورتي «قُلْ يا أَيُّهَا الْكافِرُونَ» و «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» المقشقشتان». سمّيتا بذلك لأنّهما تبرّئان من الشرك و النفاق.

يقال:

تقشقش المريض من مرضه إذا أفاق و برى ء. و قشقشه: أبرأه، كما يقشقش الهناء «1» الجرب.

و عدد آيها أربع.

في حديث أبيّ: «من قرأها فكأنّما قرأ ثلث القرآن، و اعطي من الأجر عشر

______________________________

(1) الهناء: القطران. و هو: سيّال دهني يتّخذ من بعض الأشجار، كالصنوبر. و الجرب: داء يحدث في الجلد بثورا صغارا لها حكّة شديدة. زبدة التفاسير، ج 7، ص: 552

حسنات، بعدد من آمن باللّه و ملائكته و كتبه و رسله و اليوم الآخر».

و

عن أبي الدرداء، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «أ يعجز أحدكم أن يقرأ ثلث القرآن في

كلّ ليلة؟ قلت: يا رسول اللّه من يطيق ذلك؟ قال: اقرؤا «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ»».

و

عن أنس، عن النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من قرأ «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» مرّة بورك عليه.

و من قرأها مرّتين بورك عليه، و على أهله. فإن قرأها ثلاث مرّات بورك عليه، و على أهله، و على جميع جيرانه. فإن قرأها اثنتي عشرة مرّة بني له اثنا عشر قصرا في الجنّة. فتقول الحفظة: انطلقوا بنا ننظر إلى قصر أخينا. فإن قرأ مائة مرّة كفّر عنه ذنوب خمس و عشرين سنة، ما خلا الدماء و الأموال. فإن قرأها أربعمائة مرّة كفّر عنه ذنوب أربعمائة سنة. فإن قرأها ألف مرّة لم يمت حتّى يرى مكانه في الجنّة، أو يرى له».

و

عن سهل بن سعد الساعدي قال: «جاء رجل إلى النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فشكا إليه الفقر و ضيق المعاش. فقال له رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: إذا دخلت بيتك فسلّم إن كان فيه أحد، و إن لم يكن فيه أحد فسلّم و اقرأ «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» مرّة واحدة. ففعل الرجل، فأدرّ اللّه عليه رزقا حتّى أفاض على جيرانه».

السكوني، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام: «أنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم صلّى على سعد بن معاذ، فلمّا صلّى عليه قال صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: لقد وافى من الملائكة سبعون ألف ملك- و فيهم جبرئيل- يصلّون عليه. فقلت: يا جبرئيل بم استحقّ صلاتكم عليه؟ فقال: بقراءة «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» قائما، و قاعدا، و راكبا، و ماشيا، و ذاهبا، و جائيا».

منصور بن حازم، عن أبي عبد اللّه

عليه السّلام قال: «من مضى به يوم واحد، فصلّى فيه بخمس صلوات، و لم يقرأ فيها ب «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ»، قيل: يا عبد اللّه لست من المصلّين».

إسحاق بن عمّار، عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «من مضت له جمعة و لم يقرأ

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 553

فيها ب «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» ثمّ مات مات على دين أبي لهب».

هارون بن خارجة، عنه عليه السّلام قال: «من أصابه مرض أو شدّة، فلم يقرأ في مرضه أو شدّته ب «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» ثمّ مات في مرضه أو في تلك الشدّة الّتي نزلت به، فهو من أهل النار».

أبو بكر الحضرمي، عنه عليه السّلام قال: «من كان يؤمن باللّه و اليوم الآخر، فلا يدع أن يقرأ في دبر الفريضة ب «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» فإنّ من قرأها جمع له خير الدنيا و الآخرة، و غفر له و لوالديه و ما ولدا».

عبد اللّه بن حجر قال: «سمعت أمير المؤمنين عليه السّلام يقول: من قرأ «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» إحدى عشرة مرّة في دبر الفجر، لم يتبعه في ذلك اليوم ذنب، و أرغم أنف الشيطان».

إبراهيم بن مهزم، عمّن سمع أبا الحسن عليه السّلام يقول: «من قدّم «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» بينه و بين كلّ جبّار منعه اللّه منه. و من يقرؤها بين يديه و من خلفه و عن يمينه و عن شماله، رزقه اللّه خيره و منعه شرّه». و قال: «إذا خفت أمرا فاقرأ مائة آية من القرآن حيث شئت، ثمّ قل: اللّهمّ اكشف عنّي البلاء، ثلاث مرّات».

عيسى بن عبد اللّه، عن أبيه، عن جدّه، عن عليّ عليه السّلام قال: «قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و

سلّم: من قرأ «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» مائة مرّة حين يأخذ مضجعه، غفر اللّه له ذنوب خمسين سنة».

[سورة الإخلاص (112): الآيات 1 الى 4]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ (1) اللَّهُ الصَّمَدُ (2) لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ (3) وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ (4)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 554

و اعلم أنّه سبحانه لمّا ذمّ أعداء أهل التوحيد في السورة المتقدّمة، ذكر في هذه السورة بيان التوحيد، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ الضمير للشأن، كقولك: هو زيد منطلق. و ارتفاعه بالابتداء، و خبره الجملة. و لا حاجة إلى العائد، لأنّها هي هو، فحكم هذه الجملة حكم المفرد. أو لما سئل عنه، أي: الّذي سألتم عنه هو اللّه، إذ روي أنّ قريشا قالوا: يا محمّد صف لنا ربّك الّذي تدعونا إليه. يعني: الّذي سألتموني وصفه هو اللّه المستجمع لجميع صفات الكمال. و على هذا قوله: «أحد» بدل، أو خبر ثان. و أصله: وحد. يدلّ على مجامع صفات الجلال، كما دلّ لفظ اللّه على مجامع صفات الكمال، إذ الواحد الحقيقي ما يكون منزّها بالذات عن أنحاء التركيب و التعدّد، و ما يستلزم أحدهما، كالجسميّة و التحيّز و المشاركة في الحقيقة و خواصّها، كوجوب الوجود، و القدرة الذاتيّة، و الحكمة التامّة المقتضية للألوهيّة.

و قيل: إنّما قال «أحد»، و لم يقل: واحد، لأنّ الواحد يدخل في الحساب، و يضمّ إليه آخر. و أمّا الأحد فهو الّذي لا يتجزّأ، و لا ينقسم في ذاته، و لا في معنى صفاته بحسب الاعتبار. و يجوز أن يجعل للواحد ثانيا، و لا يجوز أن يجعل للأحد ثانيا. ألا ترى إنّك لو قلت: فلان لا يقاومه واحد، جاز أن يقاومه اثنان. و لو قلت:

لا

يقاومه أحد، لم يجز أن يقاومه اثنان و لا أكثر. فهو أبلغ.

و

قال أبو جعفر الباقر عليه السّلام في معنى «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ»: «أي: قل: أظهر ما أوحينا إليك و ما أنبأناك به، بتأليف الحروف الّتي قرأناها عليك، ليهتدي بها من ألقى السمع و هو شهيد».

«و «هو» اسم مكنيّ مشار إلى غائب. فالهاء تنبيه عن معنى ثابت، و الواو إشارة إلى الغائب عن الحواسّ، كما أنّ «هذا» إشارة إلى الشاهد عند الحواسّ.

و ذلك أنّ الكفّار نبّهوا عن آلهتهم بحرف إشارة إلى المشاهد المدرك، فقالوا: هذه

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 555

آلهتنا المحسوسة المدركة بالأبصار، فأشر أنت يا محمد إلى إلهك الّذي تدعو إليه حتّى ندركه، فأنزل اللّه سبحانه «قُلْ هُوَ». فالهاء تثبيت للثابت، و الواو إشارة إلى الغائب عن درك الأبصار و لمس الحواسّ، و أنّه يتعالى عن ذلك، بل هو مدرك الأبصار و مبدع الحواسّ».

و

حدّثني أبي عن أبيه، عن أمير المؤمنين عليه السّلام أنّه قال: «رأيت الخضر عليه السّلام في المنام قبل بدر بليلة، فقلت له: علّمني شيئا أنتصر به على الأعداء. فقال: قل: يا هو، يا من لا هو إلّا هو. فلمّا أصبحت قصصتها على رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فقال لي: يا عليّ علّمت الاسم الأعظم، فكان على لساني يوم بدر».

قال: «و قرأ عليه السّلام يوم بدر «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» فلمّا فرغ قال: يا هو، يا من لا هو إلّا هو، اغفر لي و انصرني على القوم الكافرين. و كان يقول ذلك يوم صفّين و هو يطارد. فقال له عمّار بن ياسر: يا أمير المؤمنين ما هذه الكنايات؟ قال: اسم اللّه الأعظم و عماد التوحيد: اللّه لا إله

إلّا هو. ثمّ قرأ: شَهِدَ اللَّهُ أَنَّهُ لا إِلهَ إِلَّا هُوَ «1» و آخر الحشر. ثمّ نزل فصلّى أربع ركعات قبل الزوال».

قال: «و قال أمير المؤمنين عليه السّلام: اللّه معناه: المعبود الّذي يأله فيه الخلق، و يؤله إليه اللّه، المستور عن إدراك الأبصار، المحجوب عن الأوهام و الخطرات».

قال الباقر عليه السّلام: «اللّه معناه: المعبود الّذي أله الخلق عن إدراك ماهيّته و الإحاطة بكيفيّته.

و يقول العرب: أله الرجل إذا تحيّر في الشي ء فلم يحط به علما.

و وله إذا فزع إلى شي ء. قال: و الأحد: الفرد المتفرّد. و الأحد و الواحد بمعنى المتفرّد الّذي لا نظير له. و التوحيد: الإقرار بالوحدة، و هو الانفراد. و الواحد: المباين الّذي لا ينبعث من شي ء، و لا يتّحد بشي ء. و من ثمّ قالوا: إنّ بناء العدد من الواحد، و ليس الواحد من العدد، لأنّ العدد لا يقع على الواحد، بل يقع على الاثنين. فمعنى قوله

______________________________

(1) آل عمران: 18.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 556

«اللَّهُ أَحَدٌ» أي: المعبود الّذي يأله الخلق عن إدراكه و الإحاطة بكيفيّته، فرد بإلهيّته، متعال عن صفات خلقه».

اللَّهُ الصَّمَدُ فعل بمعنى المفعول، أي: السيّد المصمود إليه في الحوائج.

من: صمد إليه إذا قصد. و هو الموصوف به على الإطلاق، فإنّه يستغني عن غيره مطلقا، و كلّ ما عداه محتاج إليه في جميع جهاته.

و

قال الباقر عليه السّلام: «حدّثني أبي زين العابدين، عن أبيه الحسين بن عليّ عليه السّلام أنّه قال: الصمد: الّذي قد انتهى سؤدده. و الصمد: الدائم الّذي لم يزل و لا يزال.

و الصمد: الّذي لا يأكل و لا يشرب».

أراد بذلك أنّه الحيّ الّذي لا يحتاج إلى شي ء أصلا.

و تعريفه لعلمهم بصمديّته، بخلاف أحديّته. و تكرير لفظ «اللّه» للإشعار

بأنّ من لم يتّصف به لم يستحقّ الألوهيّة. و إخلاء الجملة عن العاطف، لأنّها كالنتيجة للأولى، أو الدليل عليها.

و

قال أبو البختري وهب بن وهب: حدّثني الصادق جعفر بن محمد، عن الباقر، عن أبيه عليهم السّلام: «أنّ أهل البصرة كتبوا إلى الحسين بن عليّ عليهما السّلام يسألونه عن الصمد. فكتب إليهم: بسم اللّه الرّحمن الرّحيم. أمّا بعد؛ فلا تخوضوا في القرآن، و لا تجادلوا فيه، و لا تتكلّموا فيه بغير علم، فقد سمعت جدّي رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم يقول:

من قال في القرآن بغير علم فليتبوّأ مقعده من النار، و إنّ اللّه سبحانه قد فسّر الصمد بقوله: «لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ».

لَمْ يَلِدْ لأنّه لم يجانس حتّى تكون من جنسه صاحبة فيتوالدا، كما قال:

أَنَّى يَكُونُ لَهُ وَلَدٌ وَ لَمْ تَكُنْ لَهُ صاحِبَةٌ «1». و لم يفتقر إلى ما يعينه أو يخلف عنه، لامتناع الحاجة و الفناء عليه. و لعلّ الاقتصار على لفظ الماضي لوروده ردّا على من

______________________________

(1) الأنعام: 101.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 557

قال: الملائكة بنات اللّه أو المسيح ابن اللّه، أو ليطابق قوله: وَ لَمْ يُولَدْ لأنّ كلّ مولود محدث و جسم، و هو قديم لا أوّل لوجوده، و ليس بجسم.

وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ أي: و لم يكن أحد يكافئه- أي: يماثله- من صاحبة أو غيرها. و يجوز أن يكون من الكفاءة في النكاح، نفيا للصاحبة. و كان الأصل أن يؤخّر الظرف الّذي هو لغو غير مستقرّ، و قد نصّ سيبويه على امتناع تقديمه، لكن لمّا كان المقصود نفي المكافأة عن ذاته تعالى قدّم، تقديما للأهمّ.

و يجوز أن يكون حالا من «أحد». و

لعلّ ربط الجمل الثلاث بالعطف لأنّ المراد منها نفي أقسام المكافأة، فهي كجملة واحدة منبّهة عليها بالجمل.

و قرأ حمزة و يعقوب و نافع في رواية: كفؤا بالتخفيف. و حفص كفوا، بالحركة و قلب الهمزة واوا.

و لاشتمال هذه السورة- مع قصرها- على جميع المعارف الإلهيّة، و الردّ على من ألحد فيها، جاء في الحديث أنّها تعدل ثلث القرآن، فإنّ مقاصده محصورة في بيان العقائد و الأحكام و القصص. و من عدلها بكلّه اعتبر المقصود بالذات من ذلك، فإنّ هذه السورة إنّما هي في بيان الأوّل، لأنّها مشتملة على صفاته الجلال و الكمال، فإنّ قوله: «هُوَ اللَّهُ» إشارة لهم إلى من هو خالق الأشياء و فاطرها. و في طيّ ذلك وصفه بأنّه قادر عالم، لأنّ الخلق يستدعي القدرة و العلم، لكونه واقعا على غاية إحكام و اتّساق و انتظام. و في ذلك وصفه بأنّه حيّ سميع بصير. و قوله: «أحد» وصف بالوحدانيّة و نفي الشركاء. و قوله: «الصمد» وصف بأنّه ليس إلّا محتاجا إليه، و إذا لم يكن إلّا محتاجا إليه فهو غنيّ. و في كونه غنيّا مع كونه عالما أنّه عدل غير فاعل للقبائح، لعلمه بقبح القبيح، و علمه بغناه عنه. و قوله: «وَ لَمْ يُولَدْ» وصف بالقدم و الأوّليّة. و قوله: «لَمْ يَلِدْ» نفي للشبه و المجانسة. و قوله: «وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ» تقرير لذلك، و بتّ للحكم به.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 558

و

عن عبد خير قال: سأل رجل عليّا عليه السّلام عن تفسير هذه السورة فقال: «قل هو اللّه أحد بلا تأويل عدد، الصمد بلا تبعيض بدد، لم يلد فيكون والدا، و لم يولد فيكون إلها مشاركا، و لم يكن له من خلقه

كفوا أحد».

و قال بعض العرفاء المحقّقين: إنّا وجدنا أنواع الشرك ثمانية: النقص، و التقلّب، و الكثرة، و العدد، و كونه علّة، أو معلولا، و الأشكال، و الأضداد. فنفى اللّه سبحانه عن صفته نوع الكثرة و العدد بقوله: «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ». و نفى التقلّب و النقص بقوله: «اللَّهُ الصَّمَدُ». و نفى العلّة و المعلول بقوله: «لَمْ يَلِدْ وَ لَمْ يُولَدْ». و نفى الأشكال و الأضداد بقوله: «وَ لَمْ يَكُنْ لَهُ كُفُواً أَحَدٌ». فحصلت الوحدانيّة البحت.

و

روى عمران بن الحصين: «أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم بعث سريّة و استعمل عليها عليّا عليه السّلام، فلمّا رجعوا سألهم عن عليّ عليه السّلام. فقالوا كلّ خير، غير أنّه كان يقرأ بنا في صلاته «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ». فقال: يا عليّ لم فعلت هذا؟ قال: لحبّي «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ». فقال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما أحببتها حتّى أحبّك اللّه عزّ و جلّ».

و

يروى: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان يقف عند كلّ آية من هذه السورة.

و زبدة التفاسير ج 7 568

روى الفضيل بن يسار قال: «أمرني أبو جعفر عليه السّلام أن أقرأ «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ».

و أقول إذا فرغت منها: كذلك اللّه ربّي، ثلاثا».

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 559

(113) سورة الفلق

اشارة

مدنيّة في أكثر الأقوال. و قيل: مكّيّة. و هي خمس آيات بالإجماع.

في حديث أبيّ: «و من قرأ «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ» و «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ» فكأنّما قرأ جميع الكتب الّتي أنزلها اللّه على الأنبياء».

و

عن عقبة بن عامر، قال النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «أنزلت عليّ آيات لم ينزل مثلهنّ:

المعوّذتان». أورده مسلم في الصحيح «1».

و

عنه، عن النبيّ صلّى

اللّه عليه و آله و سلّم قال: «يا عقبة ألا أعلّمك سورتين هما أفضل القرآن، أو من أفضل القرآن؟ قلت: بلى يا رسول اللّه. فعلّمني المعوذّتين، ثم قرأ بهما في صلاة الغداة. و قال لي: اقرأهما كلّما قمت و نمت».

أبو عبيدة الحذّاء عن أبي جعفر عليه السّلام قال: «من أوتر بالمعوذّتين و «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» قيل له: يا عبد اللّه أبشر فقد قبل اللّه و ترك».

[سورة الفلق (113): الآيات 1 الى 5]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ (1) مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ (2) وَ مِنْ شَرِّ غاسِقٍ إِذا وَقَبَ (3) وَ مِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ (4)

وَ مِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ (5)

______________________________

(1) صحيح مسلم 1: 558 ح 265.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 560

و لمّا ذمّ اللّه سبحانه أعداء الرسول صلّى اللّه عليه و آله و سلّم في سورة تبّت، ثمّ ذكر التوحيد في سورة «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ» رغما عليهم، ذكر الاستعاذة منهم في هاتين السورتين، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ ما يفلق عنه، أي: يفرّق عنه، كالفرق. فعل بمعنى مفعول. و هو في الأصل يعمّ جميع الممكنات، فإنّه تعالى فلق ظلمة العدم بنور الإيجاد عنها، سيّما ما يخرج من أصل، كالعيون من الجبال، و الأمطار من السحاب، و النبات من الأرض، و الأولاد من الأرحام، و الحبّ من النوى، و غير ذلك. و يختصّ عرفا بالصبح، فإنّ الليل يفرق عنه. يقال في المثل: هو أبين من فلق الصبح، و من فرق الصبح. و لذلك فسّر به. و تخصيصه لما فيه من تغيّر الحال، و تبدّل وحشته بالليل بسرور النور، و محاكاة فاتحة يوم القيامة، و الإشعار بأنّ من قدر أن يزيل به ظلمة

الليل عن هذا العالم، قدر أن يزيل عن العائذ به ما يخافه. و لفظ الربّ هنا أوقع من سائر أسمائه، لأنّ الإعاذة من مصالح الربوبيّة.

و قيل: هو واد في جهنّم، أوجبّ فيها. و عن بعض الصحابة: أنّه قدم الشام فرأى دور أهل الذمّة، و ما هم فيه من خفض العيش، و ما وسع عليهم من دنياهم، فقال: لا أبالي، أ ليس من ورائهم الفلق؟ فقيل: و ما الفلق؟ قال: بيت في جهنّم إذا فتح صاح جميع أهل النار من شدّة حرّه.

مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ من شرّ خلقه. و شرّهم: ما يفعله المكلّفون، من المعاصي و المآثم. و مضارّة بعضهم بعضا، من ظلم و بغي و قتل و ضرب و شتم، و غير ذلك. و ما يفعله غير المكلّفين منه، من الأكل و النهش «1» و اللدغ و العضّ الصادرة من السباع و الحشرات. و غير ذلك من أنواع الضرر، كالإحراق بالنار، و الإغراق بالماء، و القتل بالسمّ، و الهدم، و السقوط من المواضع المرتفعة. و خصّ عالم الخلق بالاستعاذة عنه

______________________________

(1) نهشه: تناوله بفمه ليعضّه، فيؤثّر فيه و لا يجرحه.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 561

لانحصار الشرور فيه، فإنّ عالم الأمر خير كلّه.

وَ مِنْ شَرِّ غاسِقٍ ليل إذا اعتكر «1» و اختلط ظلامه. من قوله: إِلى غَسَقِ اللَّيْلِ «2». و أصله: الامتلاء. يقال: غسقت العين، إذا امتلأت دمعا. و غسقت الجراحة: امتلأت دما. و قيل: السيلان. و غسق الليل انصباب ظلامه. و غسق العين سيلان دمعها. إِذا وَقَبَ دخل ظلامه في كلّ شي ء. و تخصيصه مع دخوله تحت قوله: «مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ» لأنّ انبثاث المضارّ فيه أكثر، و التحرّز منه أصعب. و لذلك قيل: الليل أخفى

للويل. و قولهم: أغدر الليل، لأنّه إذا أظلم كثر فيه الغدر.

و قيل: المراد به القمر، فإنّه يكسف فيغسق. و وقوبه: دخوله في الكسوف.

و يجوز أن يراد بالغاسق الأسود من الحيّات. و وقبه: ضربه و نقبه.

وَ مِنْ شَرِّ النَّفَّاثاتِ فِي الْعُقَدِ و من شرّ النفوس، أو الجماعات، أو النساء السواحر اللاتي يعقدن عقدا في خيوط و ينفثن عليها و يرقين. و النفث: النفخ مع ريق.

و تخصيصه لما

روي أنّ لبيد بن أعصم اليهودي سحر رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثمّ دسّ ذلك في بئر ذروان لبني زريق. و في رواية أنّ بناته سحرن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، ثمّ دسسن ذلك في البئر المذكور. فمرض رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم، فبينا هو نائم إذ أتاه ملكان، فقعد أحدهما عند رأسه، و الآخر عند رجليه، فأخبراه بذلك، و أنّه في بئر ذروان في جفّ طلعة تحت راعوفة. و الجفّ: قشر الطلع «3». و الراعوفة: حجر في أسفل البئر يقوم عليها الماتح «4». فانتبه رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم و بعث عليّا عليه السّلام و الزبير و عمّار فنزحوا

______________________________

(1) اعتكر الليل: اشتدّ سواده.

(2) الإسراء: 78.

(3) الطلع من النخل: شي ء يخرج كأنّه نعلان مطبقان و الحمل بينهما منضود.

(4) أي: ما يستخرج به الماء. من: متح الماء: نزعه. زبدة التفاسير، ج 7، ص: 562

ماء تلك البئر، ثمّ رفعوا الصخرة و أخرجوا الجفّ، فإذا فيه مشاطة «1» رأس و أسنان من مشطة، و إذا فيه معقد فيه إحدى عشرة عقدة مغروزة بالإبر. فنزلت هاتان السورتان. فجعل كلّما يقرأ آية انحلّت عقدة، و وجد رسول اللّه صلّى اللّه

عليه و آله و سلّم خفّة فقام، فكأنّما أنشط من عقال. و جعل جبرئيل عليه السّلام يقول: بسم اللّه أرقيك، من شرّ كلّ شي ء يؤذيك، من حاسد و عين، و اللّه تعالى يشفيك. و رووا ذلك عن عائشة و ابن عبّاس.

و هذا لا يجوز، لأنّ من وصف بأنّه مسحور فقد خبل عقله، و قد أبى اللّه سبحانه ذلك في قوله: وَ قالَ الظَّالِمُونَ إِنْ تَتَّبِعُونَ إِلَّا رَجُلًا مَسْحُوراً انْظُرْ كَيْفَ ضَرَبُوا لَكَ الْأَمْثالَ فَضَلُّوا «2». و لكن يمكن أن يكون اليهوديّ أو بناته- على ما روي- اجتهدوا في ذلك فلم يقدروا عليه، فأطلع اللّه نبيّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم على ما فعلوه من التمويه حتّى استخرج، و كان ذلك دلالة على صدقه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم. و كيف يجوز أن يكون المرض من فعلهم؟ و لو قدروا على ذلك لقتلوه و قتلوا كثيرا من المؤمنين، مع شدّة عداوتهم لهم.

فمعنى الاستعاذة من شرّهنّ: إمّا بأن يستعاذ من عملهنّ الّذي هو صنعة السحر، و من إثمهنّ في ذلك. أو يستعاذ من فتنتهنّ الناس بسحرهنّ، و ما يخدعنهم به من باطلهنّ. أو يستعاذ ممّا يصيب اللّه به من الشرّ عند نفثهنّ.

و يجوز أن يراد بهنّ النساء الكيّادات، من قوله: إِنَّ كَيْدَكُنَّ عَظِيمٌ «3» تشبيها لكيدهنّ بالسحر و النفث في العقد. أو اللاتي يفتنّ الرجال بتعرّضهنّ لهم و عرضهنّ محاسنهنّ، كأنّهنّ يسحرنهم بذلك.

و قيل: المراد بالنفث في العقد إبطال عزائم الرجال بالحيل. مستعار من تليين

______________________________

(1) المشاطة: ما يسقط من الشعر عند مشطه.

(2) الفرقان: 8- 9.

(3) يوسف: 28.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 563

العقد بنفث الريق ليسهل حلّها. و إفرادها بالتعريف، لأنّ كلّ نفّاثة شرّيرة،

بخلاف كلّ غاسق و حاسد.

وَ مِنْ شَرِّ حاسِدٍ إِذا حَسَدَ إذا أظهر حسده و عمل بمقتضاه، فإنّه لا يعود ضرر منه قبل ذلك. إلى المحسود، بل يخصّ به لاغتمامه بسروره. و تخصيصه مع دخوله في قوله: «مِنْ شَرِّ ما خَلَقَ» لأنّه العمدة في إضرار الإنسان بل الحيوان غيره.

و يجوز أن يراد بالغاسق ما يخلو عن النور كالجمادات، و ما يضاهيه كالقوى.

و بالنفّاثات النباتات، فإنّ قواها النباتيّة من حيث إنّها تزيد في طولها و عرضها و عمقها، كأنّها تنفث في العقد الثلاث. و بالحاسد الحيوان، فإنّه إنّما يقصد غيره غالبا طمعا فيما عنده. و لعلّ إفرادها من عالم الخلق لأنّها الأسباب القريبة للمضرّة.

قال بعضهم: إنّ اللّه سبحانه جمع الشرور في هذه السورة و ختمها بالحسد ليعلم أنّه أخسّ الطبائع. نعوذ باللّه منه.

و

روى أنس أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم قال: «من رأى شيئا يعجبه فقال: اللّه اللّه ما شاء اللّه لا قوّة إلّا باللّه، لم يضرّ شيئا».

و

روي: أنّ النبيّ صلّى اللّه عليه و آله و سلّم كان كثيرا مّا يعوّذ الحسن و الحسين عليهما السّلام بهاتين السورتين.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 565

(114) سورة الناس

اشارة

مدنيّة. و قيل: مكّيّة. و هي مثل سورة الفلق، لأنّها إحدى المعوّذتين. و هي ستّ آيات.

الفضيل بن يسار قال: سمعت أبا جعفر عليه السّلام يقول: «إنّ رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم اشتكى شكوى شديدة، و وجع وجعا شديدا، فأتاه جبرئيل و ميكائيل، فقعد جبرئيل عند رأسه، و ميكائيل عند رجليه، فعوّذه جبرئيل ب «قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ الْفَلَقِ»، و عوّذه ميكائيل ب «أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ»».

أبو خديجة عن أبي عبد اللّه عليه السّلام قال: «جاء جبرئيل إلى النبيّ صلّى اللّه

عليه و آله و سلّم و هو شاك، فرقاه بالمعوّذتين و «قُلْ هُوَ اللَّهُ أَحَدٌ». و قال: بسم اللّه أرقيك، و اللّه يشفيك، من كلّ داء يؤذيك، خذها فلتهنيك».

[سورة الناس (114): الآيات 1 الى 6]

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ

قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ (1) مَلِكِ النَّاسِ (2) إِلهِ النَّاسِ (3) مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ الْخَنَّاسِ (4)

الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ (5) مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ (6)

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 566

و لمّا كانت الاستعاذة في السورة المتقدّمة من المضارّ البدنيّة، و هي تعمّ الإنسان و غيره، و الاستعاذة في هذه السورة من الأضرار الّتي تعرض للنفوس البشريّة، عمّم الإضافة ثمّ، و خصّصها بالناس هاهنا، فقال:

بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ* قُلْ أَعُوذُ بِرَبِّ النَّاسِ و لمّا كانت الاستعاذة وقعت من شرّ الموسوس في صدور الناس، فكأنّه قيل: أعوذ من شرّ الموسوس إلى الناس بربّهم الّذي يملك أمورهم و يستحقّ عبادتهم، كما يستغيث بعض الموالي إذا اعتراهم خطب بسيّدهم و مخدومهم و والي أمرهم.

مَلِكِ النَّاسِ* إِلهِ النَّاسِ عطف بيان له، فإنّ الربّ قد لا يكون ملكا، و الملك قد لا يكون إلها. و الإله خاصّ لا شركة فيه، فجعل غاية للبيان.

و قيل: ليس في «الناس» تكرار، لأنّ المراد بالأوّل: الأجنّة، و لهذا قال:

«بِرَبِّ النَّاسِ»، لأنّه يربّيهم. و بالثاني: الأطفال، و لذلك قال: «مَلِكِ النَّاسِ» لأنّه يملكهم. و بالثالث: البالغون المكلّفون، و لذلك قال: «إِلهِ النَّاسِ»، لأنّهم يعبدونه.

و بالرابع: العلماء، لأنّ الشيطان يوسوس إليهم. و لا يريد الجهّال، لأنّ الجاهل يضلّ بجهله، و إنّما يوقع الوسوسة في قلب العالم، كما قال: فَوَسْوَسَ إِلَيْهِ الشَّيْطانُ «1».

و قيل: في هذا النظم دلالة على أنّه حقيق بالإعادة، قادر عليها، غير ممنوع عنها. و إشعار على مراتب الناظر في المعارف، فإنّه

يعلم أوّلا بما يرى عليه من النعم الظاهرة و الباطنة أنّ له ربّا. ثمّ يتغلغل في النظر حتّى يتحقّق أنّه غنيّ عن الكلّ، و ذات كلّ شي ء له، و مصارف أمره منه، فهو الملك الحقّ. ثمّ يستدلّ به على أنّه المستحقّ للعبادة لا غير. و تدرّج في وجوه الاستعاذة كما يتدرّج في الاستعاذة المعتادة، تنزيلا لاختلاف الصفات منزلة اختلاف الذات، إشعارا بعظم الآفة

______________________________

(1) طه: 120.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 567

المستعاذ منها. و تكرير «الناس» لما في الإظهار من مزيد البيان، و الإشعار بشرف الإنسان.

مِنْ شَرِّ الْوَسْواسِ أي: الوسوسة، كالزلزال بمعنى الزلزلة. و أمّا المصدر فبالكسر، كالزلزال. و المراد به الموسوس، و هو الشيطان، سمّي بفعله مبالغة. أو المراد ذو الوسواس. و الوسوسة هي الصوت الخفيّ. و منه: وسواس الحليّ.

الْخَنَّاسِ الّذي عادته أن يخنس، أي: يتأخّر إذا ذكر الإنسان ربّه.

روي عن سعيد بن جبير: إذا ذكر الإنسان ربّه خنس الشيطان و ولّى، فإذا غفل وسوس إليه.

و

عن رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: «إنّ الشيطان واضع خطمه «1» على قلب ابن آدم، فإذا ذكر اللّه خنس، و إذا نسي التقم قلبه».

و

روى العيّاشي بإسناده عن أبان بن تغلب، عن جعفر بن محمّد عليه السّلام قال:

«قال رسول اللّه صلّى اللّه عليه و آله و سلّم: ما من مؤمن إلّا و لقلبه في صدره أذنان: أذن ينفث فيها الملك، و أذن ينفث فيها الوسواس الخنّاس، فيؤيّد اللّه المؤمن بالملك. و هو قول اللّه تعالى: وَ أَيَّدَهُمْ بِرُوحٍ مِنْهُ «2».

الَّذِي يُوَسْوِسُ فِي صُدُورِ النَّاسِ إذا غفلوا عن ذكر ربّهم. و ذلك كالقوّة الوهميّة، فإنّها تساعد العقل في المقدّمات، فإذا آل الأمر إلى النتيجة خنست و أخذت توسوسه و تشكّكه.

و محلّ «الّذي» الجرّ على الصفة، أو النصب، أو الرفع على الذمّ.

مِنَ الْجِنَّةِ وَ النَّاسِ بيان للوسواس، أو ل «الّذي» على أنّ الشيطان ضربان:

______________________________

(1) الخطم: الأنف.

(2) المجادلة: 22.

زبدة التفاسير، ج 7، ص: 568

جنّيّ و إنسيّ، كما قال: شَياطِينَ الْإِنْسِ وَ الْجِنِ «1». و يجوز أن يكون متعلّقا ب «يوسوس». و معناه: ابتداء الغاية، أي: يوسوس في صدورهم من جهة الجنّة و الناس.

و الحمد للّه ربّ العالمين، أوّلا و آخرا، و باطنا و ظاهرا، على توفيقي و تيسيري في تتميم زبدة التفاسير، مع وجازة ألفاظه، و غزارة معانيه، و نكات دقيقة، و أسرار لطيفة، على وفق الطريقة الحنيفيّة الإماميّة، و الملّة البيضاء الاثني عشريّة.

اللّهمّ اجعل جدّي و اجتهادي في جميع الزبدة و الخلاصة من تفاسير كتابك العزيز، و كدّي و سعيي في ضمّ ما انتشر من معانيه، على وفق مذهب الحقّ و طريق الصدق، باللفظ الوجيز، ذريعة إلى درك رضوانك، و وصلة إلى الاتّصال بأوليائك و أصفيائك في جنانك، و توسّلا إلى شفاعة سيّد الأخيار، و عترته الأبرار.

اللّهمّ اغفر لنا ذنوبنا، و إسرافنا في أمرنا، و ثبّت أقدامنا يوم التناد، بحقّ نبيّك النبيه المصطفى، و وليّك الوليه المرتضى، و أولادهما المعصومين الأمجاد.

و وقع الفراغ من تسويده في منتصف شهر ذي القعدة الحرام، سنة سبع و سبعين و تسعمائة، على يد مؤلّفه و مسوّده أفقر عباد اللّه الملك اللطيف، ابن شكر اللّه فتح اللّه الشريف، كساهما اللّه الملك المنّان جلابيب الرضوان، و سقاهما شآبيب الغفران، بحقّ النبيّ المنيف، و الوليّ العريف.

______________________________

(1) الأنعام: 112.

تعريف مرکز

بسم الله الرحمن الرحیم
جَاهِدُواْ بِأَمْوَالِكُمْ وَأَنفُسِكُمْ فِي سَبِيلِ اللّهِ ذَلِكُمْ خَيْرٌ لَّكُمْ إِن كُنتُمْ تَعْلَمُونَ
(التوبه : 41)
منذ عدة سنوات حتى الآن ، يقوم مركز القائمية لأبحاث الكمبيوتر بإنتاج برامج الهاتف المحمول والمكتبات الرقمية وتقديمها مجانًا. يحظى هذا المركز بشعبية كبيرة ويدعمه الهدايا والنذور والأوقاف وتخصيص النصيب المبارك للإمام علیه السلام. لمزيد من الخدمة ، يمكنك أيضًا الانضمام إلى الأشخاص الخيريين في المركز أينما كنت.
هل تعلم أن ليس كل مال يستحق أن ينفق على طريق أهل البيت عليهم السلام؟
ولن ينال كل شخص هذا النجاح؟
تهانينا لكم.
رقم البطاقة :
6104-3388-0008-7732
رقم حساب بنك ميلات:
9586839652
رقم حساب شيبا:
IR390120020000009586839652
المسمى: (معهد الغيمية لبحوث الحاسوب).
قم بإيداع مبالغ الهدية الخاصة بك.

عنوان المکتب المرکزي :
أصفهان، شارع عبد الرزاق، سوق حاج محمد جعفر آباده ای، زقاق الشهید محمد حسن التوکلی، الرقم 129، الطبقة الأولی.

عنوان الموقع : : www.ghbook.ir
البرید الالکتروني : Info@ghbook.ir
هاتف المکتب المرکزي 03134490125
هاتف المکتب في طهران 88318722 ـ 021
قسم البیع 09132000109شؤون المستخدمین 09132000109.